خطبه19 شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

اللغة

أقول: الوهل بالتحريك الفزع يقال و هل يوهل وهلا: فزع،

المعنى

و اعلم أنّ الإنسان ما دام ملتحفا بجلباب البدن فإنّه محجوب بظلمة الهيئات البدنيّة و المعارضات الوهميّة و الخياليّة عن مشاهدة أنوار عالم الغيب و الملكوت و ذلك الحجاب أمر قابل للزيادة و النقصان و القوّة و الضعف، و الناس فيها على مراتب فأعظمهم حجبا و أكثفهم حجابا الكفّار كما أشار إليه القرآن الكريم مثلا في حجبهم «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ»«» الآية فمثل الكافر كرجل وقع في بحر لجّيّ صفته كذلك فأشار بالبحر اللجّيّ إلى الدنيا بما فيها من الأخطار المهلكة، و الموج الأوّل موج الشهوات الداعية إلى الصفات البهيميّة، و بالحريّ أن يكون هذا الموج مظلما إذ حبّك الشي‏ء يعمي و يضمّ، و الموج الثاني موج الصفات السبعيّة الباعثة على الغضب و العداوة و الحقد و الحسد و المباهات فبالحريّ أن يكون مظلما لأنّ الغضب غول العقل و بالحريّ أن يكون هو الموج الأعلى لأنّ الغضب في الأكثر مستول على الشهوات حتّى إذا هاج أذهل عنها، و السحاب هو الاعتقادات الباطلة و الخيالات الفاسدة الّتي صارت حجابا لبصيرة الكافر عن إدراك نور الحقّ إذ خاصيّة الحجاب أن يحجب نور الشمس عن الأبصار الظاهرة و إذا كانت هذه كلّها مظلمة فبالحريّ أن يكون ظلمات بعضها فوق بعض، و أمّا أخفّهم حجبا و أرّقهم حجابا فهم الّذين بذلوا جهدهم في لزوم أوامر اللّه و نواهيه و بالغوا في تصفية بواطنهم و صقال ألواح نفوسهم و إلقاء حجب الغفلة و أستار الهيئات البدنيّة فأشرقت عليهم شموس المعارف الإلهيّة و سالت إلى أودية قلوبهم مياه الجود الربانيّ المعطي لكلّ قابل ما يقبله، فهؤلاء و إن كانوا قد بلغوا الغاية من الجهد في رفع الحجب و غسل دون الباطل عن نفوسهم إلّا أنّهم ما داموا في هذه الأبدان فهم في أغطية من هيئاتها و حجب من أستارها و إن ضعفت تلك الحجب و رقّت تلك الأغشية، و ما بين هاتين المرتبتين درجات من الحجب متفاوتة و مراتب متصاعدة متنازلة و بحسب تفاوتها يكون تفاوت النفوس في الاستضاءة بأنوار العلوم و قبول الانتقاش بالمعارف الإلهيّة و الوقوف على أسرار الدين، و بحسب تفاوت هذه الحجب تكون تفاوت ورود النار كما قال تعالى «وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها»«» و لن يخلص الإنسان من شوائب هذه الحجب و ظلمتها إلّا بالخلاص عن هذا البدن، و طرحه، و حينئذ «تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً»«» فتكون مشاهدة بعين اليقين ما أعدّ لها من خير و ماهيّى‏ء لها من شرّ بحسب استعدادها بما كسبت من قبل، فأمّا قبل المفارقة فإنّ حجاب البدن مانع لها عن مشاهدة تلك الامور كما هي و إن حصلت على اعتقاد جازم برهانيّ أو نوع من المكاشفة الممكنة كما في حقّ كثير من أولياء اللّه إلّا أنّ ذلك الوقوف و الاطّلاع يكون كالمشاهدة لا أنّها مشاهدة حقيقيّة خالصة إذ لا تنفّك عن شائبة الوهم و الخيال،

و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله حاكيا عن ربّه: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر بل ما اطّلعتهم عليه أي وراء ما اطّلعتهم عليه، و هو إشارة إلى طور المشاهدة الخالصة عن الشوائب الّتي هي عين اليقين بعد الموت، و قد يسمّى ما أدركه أهل المكاشفات بمكاشفاتهم في حياتهم الدنيا عين اليقين، فأمّا إدراك من دون هؤلاء لتلك الامور فما كان منها مؤكّدا بالشعور بعدم إمكان النقيض فهو علم اليقين، و قد يختصّ علم اليقين في عرف الصوفيّة بما تميل النفس إلى التصديق به و يغلب عليها و يستولى حتّى يصير هو المتحكّم المتصرّف فيها بالتحريص و المنع فيقال فلان ضعيف اليقين بالموت إذا لم يهتمّ بالاستعداد له فكأنّه غير موقن به مع أنّه لا يتطرّق إليه فيه شكّ، و قويّ اليقين به إذا غلب ذلك على قلبه حتّى استغرق همّته بالتهيّؤ له. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ قوله عليه السّلام فإنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم و وهلتم. شرطيّة متّصلة نبّه فيها على أنّ ورائهم من أهوال الآخرة و عذابها ممّا شاهده من سبق منهم إلى الآخرة ما لا يشاهدونه الآن بعين و إن علموه يقينا، و بيّن فيها لزوم جزعهم و فزعهم و سمعهم و طاعتهم لداعي اللّه على تقدير مشاهدتهم بعين اليقين لتلك الامور، و هذه الملازمة ممّا شهد البرهان بصحّتها و أشار التنزيل الإلهيّ إلى حقيقتها، و ذلك قوله تعالى «رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ»«» و ذلك مقتضى شهادتهم لأهوال الآخرة، و جزعهم من تلك المشاهدة فيجيبهم لسان العزّة «أو لم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر و جائكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير»«» قوله و لكن محجوب عنكم ما قد عاينوا.

استثناء لملزوم نقيض تالي هذه المتّصلة إذ حجب تلك الأحوال عن بصائرهم مستلزم لعدم فزعهم و جزعهم و هو في صورة اعتذار منهم نطق به لسان حالهم. قوله و قريب ما يطرح الحجاب. ما مصدريّة في موضع رفع بالابتداء و قريب خبره، و هو إشارة إلى نحو تزييف لذلك العذر في صورة التهديد لهم إن جعلوا ذلك الخيال عمدة في التقصير عن العمل فإنّه عمّا قليل يرفع حجب الأبدان عن أحوالهم القيامة و أهوال يوم الطامّة، و تكشط سماء أغطيتها من بصائر النفوس فتشاهد الجحيم قد سعّرت و الجنّة قد ازلفت «و إذا السماء كشطت و إذا الجحيم سعّرت و إذا الجنّة ازلفت علمت نفس ما أحضرت»«» و كما قال تعالى «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»«» قوله و لقد بصّرتم إن أبصرتم و اسمعتم إن سمعتم و هديتم إن اهتديتم.

إشارة إلى ما يشبه جوابا ثانيا عن صورة العذر السابق لحالهم و هو وجود الحجاب المانع عن مشاهدة ما يوجب الجزع و الفزع، و ذلك أنّ الحجاب و إن كان قائما الآن و سائرا لتلك الامور عنكم فقد نصّرتم بها و أوضحت لكم بالعبر و الأمثال على ألسنة الرسل عليهم السّلام، و اسمعتم إيّاها في الكتب الإلهيّة و السنن النبويّة، و هديتم عليها بالدلائل الواضحة و الحجج القاطعة بحيث صارت كالمشاهدة لكم و المعلومة عيانا لا شكّ فيها، فلا عذر إذن بالحجاب، و تخصيص السمع و البصر بالذكر لأنّهما الآلتان اللتان عليهما مدار الاعتبار بامور الآخرة، و أشار بالهداية إلى حظّ العقل من غير نظر إلى آلة، و نبّه بإيراد إن الشرطيّة في المواضع الثلاثة على أنّه يجد الشكّ في إبصارهم لما بصّروا به و سماعهم لما اسمعوا و اهتدائهم بما هدوا به، و كلّ ذلك تنفير لهم على القرار على الغفلة و تنبيه على الفرار إلى اللّه في طرق الاعتبار. قوله بحقّ أقول لكم لقد جاهرتكم العبر و زجرتم بما فيه مزدجر. لمّا قدّم أنّهم بصّروا و اسمعوا أردف ذلك ببيان ما بصّروا به و اسمعوا إلى ما بصّروا به بمجاهرة العبر بالمصائب الواقعة بهم و بمن خلا قبلهم من القرون، و إلى ما اسمعوا به بالزجر بما فيه مزدجر، و هي النواهي المؤكّدة المردفة بالوعيدات الهائلة و العقوبات الحاضرة الّتي في أقلّها ازدجار لذوي الألباب كما قال تعالى «وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ»«» و قوله و ما يبلغ عن اللّه بعد رسل السماء إلّا البشر. إشارة إلى أنّه ليس في الإمكان‏ وراء ما جذبتم به إلى اللّه تعالى على ألسنة رسله طريقة اخرى تدعون بها، إذ ما يمكن دعوتكم إلّا بالوعد و الوعيد و الأمثال و التذكير بالعبر اللاحقة لقوم حقّت عليهم كلمة العذاب، و نحو ذلك لا يمكن إيضاحه لكم مشاهدة إلّا على ألسنة الرسل البشريّة عليهم السّلام فلا يمكن أن يبلغ إليكم رسالات ربّكم بعد رسل السماء الّتي هي الملائكة إلّا هم فينبغي أن يكون ذلك أمرا كافيا لكم في الالتفات إلى اللّه.

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن ميثم)، ج 1 ، صفحه‏ى 327

خطبه18 شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

قاله للأشعث بن قيس و هو على منبر الكوفة يخطب، فمضى في بعض كلامه شي‏ء اعتراضه الأشعث فقال: يا أمير

المؤمنين هذه عليك لا لك فخفض عليه السّلام إليه بصره ثم قال: مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي- عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ لَعْنَةُ

اللَّاعِنِينَ- حَائِكٌ ابْنُ حَائِكٍ مُنَافِقٌ ابْنُ كَافِرٍ- وَ اللَّهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الْكُفْرُ مَرَّةً وَ الْإِسْلَامُ أُخْرَى- فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا

مَالُكَ وَ لَا حَسَبُكَ- وَ إِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ- وَ سَاقَ إِلَيْهِمُ الْحَتْفَ- لَحَرِيٌّ أَنْ يَمْقُتَهُ الْأَقْرَبُ وَ لَا يَأْمَنَهُ الْأَبْعَدُ [قال

السيد الشريف: أراد بقوله: دل على قومه السيف: ما جرى‏ له مع خالد بن الوليد باليمامة، فانه غرّ قومه و مكر بهم

حتى أوقع بهم خالد و كان قومه بعد ذلك يسمونه عرف النار و هو اسم للغادر عندهم.

المعنى

أقول: الكلام الّذي اعترضه الأشعث أنّه عليه السّلام كان في خطبة يذكر أمر الحكمين فقام إليه رجل من أصحابه و قال له: نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فما ندري أيّ الأمرين أرشد فصفق عليه السّلام بإحدى يديه على الاخرى، و قال:

هذا جزاء من ترك العقدة أي جزائي حيث وافقتكم على ما ألزمتموني به من التحكيم، و تركت الحزم. فوجد الأشعث بذلك شبهة في تركه عليه السّلام وجه المصلحة و اتّباع الآراء الباطلة، و أراد إفهامه فقال: هذه عليك لا لك، و جهل أو تجاهل أنّ وجه المصلحة قد يترك محافظة على أمر أعظم منه و مصلحة أهمّ فإنّه عليه السّلام لم يترك العقدة إلّا خوفا من أصحابه أن يقتلوه كما سنذكره في قصّتهم، و قيل: كان مراده عليه السّلام هذا جزاؤكم حيث تركتم الحزم فظنّ الأشعث هذا جزائي فقال الكلمة، و الحتف بالتاء الهلاك، و روي بالباء و هو الميل، و المقت البغض، قوله و ما يدريك ما علي ممّا لي إشارة إلى أنّه جاهل و ليس للجاهل أن يعترض عليه و هو استاد العلماء بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أمّا استحقاقه اللعن فليس بمجرّد اعتراضه و لا لكونه ابن كافر بل لكونه مع ذلك من المنافقين بشهادته عليه السّلام و المنافق مستحقّ للّعن و الإبعاد عن رحمة اللّه بشهادة قوله تعالى «أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ»«». قوله حائك بن حائك. استعارة أشار بها إلى نقصان عقله و قلّة استعداده لوضع الأشياء في مواضعها، و تأكيد لعدم أهليّته للاعتراض عليه إذ الحياكة مظنّة نقصان العقل، و ذلك لأنّ ذهن الحائك عامّة وقته متوجّه إلى جهة صنعته مصبوب الفكر إلى أوضاع الخيوط المتفرّقة، و ترتيبها و نظامها يحتاج إلى حركة رجليه و يديه، و بالجملة فالشاهد له بعلم من حاله أنّه مشغول الفكر عمّا وراء ما هو فيه، فهو أبله فيما عداه، و قيل لأنّ معاملة الحائك و مخالطته لضعفاء العقول من النساء و الصبيان، و من كانت معاملته لهؤلاء فلا شكّ في في ضعف رأيه و قلّة عقله للأمور.

روى عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: عقل أربعين معلّما عقل حائك و عقل حائك عقل امراة و المرأة لا عقل لها، و عن موسى بن جعفر عليه السّلام أنّه قال: لا تستشيروا المعلّمين و لا الحوكة فإنّ اللّه تعالى قد سلبهم عقولهم، و ذلك محمول على المبالغة في نقصان عقولهم، و قيل: إنّما عيّره بهذه الصنعة لأنّها صنعة دنيّة تستلزم صغر الهمّة و خسّتها و تشتمل على رذائل الأخلاق فإنّها مظنّة الكذب و الخيانة. روى أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله دفع إلى حائك من بنى النجّار غزلا لينسج له صوفا فكان يماطله و يأتيه صلى اللّه عليه و آله متقاضيا و يقف على بابه فيقول ردّوا علينا ثوبنا لنتجمّل به في الناس و لم يزل يماطله حتّى توفّى صلى اللّه عليه و آله، و قد علمت أنّ الكذب رأس النفاق و من كانت لوازم هذه الصنعة أخلاقه فليس له أن يعترض في مثل ذلك المقام، و قد اختلف في أنّ الأشعث هل كان حائكا أو ليس فروى قوم أنّه كان هو و أبوه ينسجان برود اليمن، و قال آخرون: إنّ الأشعث لم يكن حائكا فإنّه كان من أبناء ملوك كندة و أكابرها و إنّما عيّره بذلك لأنّه كان إذا مشى يحرّك منكبيه و يفحج بين رجليه، و هذه المشية، تعرف بالحياكة يقال: حاك يحيك و حيكانا و حياكة فهو حائك إذا مشى تلك المشية، و امراة حائكة إذا تبخترت في مشيها و الأقرب أنّ ذلك له على سبيل الاستعارة كنّى بها نقصان عقله كما سبق أوّلا فأمّا قوله و اللّه لقد أسرك الكفر مرّة و الإسلام اخرى فما فداك من واحدة منهما مالك و لا حسبك فتأكيد لنقصان عقله و إشارة إلى أنّه لو كان له عقل لما حصل فيما حصل فيه من الأسر مرّتين، ما فداه أي ما نجاه من الوقوع في واحدة منهما ماله و لا حسبه و لم يرد الفداء بعد الأسر فإنّ الأشعث فدى في الجاهليّة و ذلك أنّ مرادا لمّا قتل أباه خرج ثائرا طالبا بدمه فاسر ففدى نفسه بثلاثة آلاف بعير، و وفد على النبيّ صلى اللّه عليه و آله في سبعين رجلا من كندة فأسلم على بديه و ذلك الأسر هو مراده عليه السّلام بأسر الكفر له، و أمّا أسره في الإسلام فإنّه لمّا قبض رسول اللّه ارتدّ بحضر موت و منع أهلها تسليم الصدقة و أبى أن يبايع لأبي بكر فبعث إليه زياد بن لبيد بعد رجوعه عنهم و قد كان عاملا قبل ذلك على حضرموت ثمّ أردفه بعكرمة بن أبي جهل في جمع عظيم من المسلمين فقاتلهم الأشعث بقبائل كندة قتالا شديدا في وقائع كثيرة، و كانت الدائرة عليه فالتجأ قومه إلى حصنهم فحصرهم زياد حصرا شديدا و بلغ بهم جهد العطش فبعث الأشعث إلى زياد و يطلب منه الأمان لأهله و لبعض قومه و كان من غفلته أنّه لم يطلب لنفسه بالتعيين فلمّا نزل أسره و بعث به مقيّدا إلى أبي بكر بالمدينة فسأل أبا بكر أن يستبقيه لحربه و يزوجه أمّ فروه ففعل ذلك أبو بكر، و ممّا يدلّ على عدم مراعاته لقواعد الدين أنّه بعد خروجه من مجلس عقده بأمّ فروه أصلت سيفه في أزّقة المدينة، و عقر كلّ بعير رآه و ذبح كلّ شاة استقبلها للناس و التجأ إلى دار من دور الأنصار فصاح به الناس من كلّ جانب و قالوا: قد ارتدّ الأشعث مرّة ثانية فأشرف عليهم من السطح و قال: يا أهل المدينة إنّي غريب ببلدكم و قد أو لمت بما نحرت و ذبحت فليأكل كلّ إنسان منكم ما وجد و ليغد إليّ من كان له عليّ حقّ حتّى ارضيه و فعل ذلك فلم يبق دار من دور المدينة إلّا و قد أوقد فيها بسبب تلك الجهلة فضرب أهل المدينة به المثل، و قالوا: أو لم من الأشعث، و فيه قال الشاعر:
لقد أولم الكنديّ يوم ملاكه وليمة حمّال لثقل العظائم‏

قوله و إنّ امرأ دلّ على قومه السيف و قاد إليهم الحتف لحريّ أن يمقته الأقرب و لا يأمنه الأبعد. إشارة إلى غدره بقومه، و ذلك أنّه لمّا طلب الأمان من زياد بن لبيد طلبه لنفر يسير من وجوه قومه فظنّ الباقون أنّه أخذ الأمان لجميعهم فسكتوا و نزلوا من الحصن على ذلك الظنّ فلمّا خرج الأشعث و من طلب الأمان له من قومه دخل زياد إلى الحصن فقتل المقاتلة صبرا فذكروه الأمان فقال لهم: إنّ الأشعث لم يطلب الأمان إلّا لعشرة من قومه فقتل من قتلهم منهم ثمّ وافاه كتاب أبي بكر بالكفّ عنهم و حملهم إليه فحملهم،

و ذلك معنى قوله عليه السّلام دلّ على قومه السيف و قاد إليهم الحتف إذ قادهم إلى الحرب و أسلمهم للقتل، و لا شكّ أنّ من كان كذلك فحقيق أن يمقته قومه و لا يأمنه غيرهم فأمّا ما حكاه السيّد- رحمه اللّه- من أنّه أراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة و أنّه غرّ قومه و مكّر بهم حتّى أوقع بهم خالد فلم أقف على شي‏ء من ذلك في وقائع خالد باليمامة، و حسن الظنّ بالسيّد يقتضي تصحيح نقله و لعلّ ذلك في وقعه لم أقف على أصلها.
و أعلم أنّه عليه السّلام ذمّه في هذا الفصل بجميع الرذائل النفسانيّة و نسبه إلى الجهل و الغباوة الّذي هو طرف التفريط من الحكمة بالحياكة الّتي هي مظنّة لقلّة العقل، و أشار إلى‏ الفجور الّذي هو طرف الإفراط من فضيلة العفّة بكونه منافقا، و كونه ابن كافر تأكيد لنسبة النفاق إليه، و أشار إلى الفشل و قلّة التثبّت الّتي هي طرف التفريط و الإفراط من فضيلة الشجاعة بكونه قد اسر مرّتين، و كما أنّ فيه إشارة إلى ذلك ففيه أيضا إشارة إلى نقصان عقله كما قلناه، و أشار إلى الظلم و الغدر الّذي هو رذيلة مقابلة لفضيلة الوفاء بقوله و إنّ امرأ دلّ على قومه السيف و ساق إليهم الحتف، و باستجماعه لهذه الرذائل كان مستحقّا للّعن و أمّا استعارتهم له عرف النار فلأنّ العرف عبارة عن كلّ عال مرتفع، و الأعراف في القرآن الكريم سور بين الجنّة و النار، و لمّا كان من شأن كلّ مرتفع عال أن يستر ما ورائه و كان الغادر يستر بمكره و حيلته امورا كثيرة و كان هو قد غرّ قومه بالباطل و غدر بهم صدق عليه بوجه الاستعارة لفظ عرف النار لستره عليهم لما ورائه من نار الحرب أو نار الآخرة إذ حملهم على الباطل و اللّه أعلم.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم)، ج 1 ، صفحه‏ى 323

خطبه17 شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام فى ذم اختلاف العلماء في الفتيا

تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ- فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ- ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ- فَيَحْكُمُ فِيهَا

بِخِلَافِ قَوْلِهِ- ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ- فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً وَ إِلَهُهُمْ وَاحِدٌ- وَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وَ

كِتَابُهُمْ وَاحِدٌ- أَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاخْتِلَافِ فَأَطَاعُوهُ- أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً- فَاسْتَعَانَ

بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ- أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى- أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً- فَقَصَّرَ الرَّسُولُ ص

عَنْ تَبْلِيغِهِ وَ أَدَائِهِ- وَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ- وَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ- وَ ذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ

يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً- وَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ- لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً- وَ إِنَّ الْقُرْآنَ

ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَ بَاطِنُهُ عَمِيقٌ- لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَ لَا تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ- وَ لَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِه‏

 

اللغة

أقول: الأنيق الحسن المعجب،

المعنى

و في هذا الكلام تصريح بأنّه عليه السّلام كان يرى أنّ الحقّ في جهة و أن ليس كلّ مجتهد مصيبا، و هذه المسألة ممّا انتشر الخلاف فيها بين علماء أصول الفقه فمنهم من يرى أنّ كلّ مجتهد مصيب إذا راعى شرائط الاجتهاد و أنّ الحقّ بالنسبة إلى كلّ واحد من المجتهدين ما أدّى إليه اجتهاده و غلب في ظنّه فجاز أن يكون في جهتين أو جهات و عليه الإمام الغزّاليّ- رحمه اللّه- و جماعة من الاصوليّين، و منهم من ينكر ذلك و يرى أنّ الحقّ في جهة و المصيب له واحد و عليه اتّفاق الشيعة و جماعة من غيرهم، و ربّما فصّل بعضهم. و المسألة مستقصاة في اصول الفقه. و اعلم أنّ قوله ترد على أحدهم القضيّة إلى قوله فيصوّب آرائهم جميعا بيان لصورة حالهم الّتي ينكرها، و قوله و إلههم واحد و كتابهم واحد و نبيّهم واحد شروع في دليل بطلان ما يرونه، و هذه هي المقدّمة الصغرى من قياس الضمير، و تقدير كبراه و كلّ قوم كانوا كذلك فلا يجوز لهم أن يختلفوا في حكم شرعيّ، و قوله أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه إلى آخره حجّة في تقدير المقدّمة الكبرى إذ الصغرى مسلّمة، و تقريرها أنّ ذلك الاختلاف إمّا أن يكون بأمر من اللّه أطاعوه فيه، أو بنهي منه عصى فيه، أو بسكوت منه عن الأمرين، و على التقدير الثالث فجواز اختلافهم في دينه و الحاجة إلى ذلك إمّا أن يكون مع نقصانه أو مع تمامه و تقصير الرسول في أدائه، و على الوجه الأوّل فذلك الاختلاف إنّما يجوز على أحد وجهين: أحدهما أن يكون إتماما لذلك النقصان أو على وجه أعمّ من ذلك و هو كونهم شركاؤه في الدين فعليه أن يرضى بما يقولون و لهم أن يقولوا إذ شأن الشريك ذلك فهذه وجوه خمسة، و حصر الأقسام الثلاثة الأخير ثابت بحسب استقراء وجوه الحاجة إلى الاختلاف و الأقسام كلّها باطلة و أشار إلى بطلانها ببقيّة الكلام: أمّا بطلان الأوّل فلأنّ مستند الدين هو كتاب اللّه تعالى و معلوم أنّه يصدّق بعضه بعضا و أنّه لا اختلاف فيه و لا يتشعّب عنه من الأقوال و الأحكام إلّا ما يكون كذلك و لا شي‏ء من أقوالهم المختلفة كذلك فينتج أنّه لا شي‏ء ممّا استند إلى كتاب اللّه تعالى بقول لهم فلا يكون أقوالهم من الدين، و أمّا بطلان القسم الثاني فلأنّ عدم جواز المعصية للّه بالاختلاف مستلزم لعدم جواز الاختلاف و هو غنيّ عن الدليل، و أمّا بطلان الثالث و هو نقصان دين اللّه فلقوله‏تعالى «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ»«» و قوله «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ»«» و أمّا الرابع و الخامس فطاهر البطلان فلا يمكنهم دعواهما فلذلك لم يورد في بطلانهما حجّة ثمّ أردف بتنبيههم على أنّ الكتاب واف بجميع المطالب إذا تدبّروا معناه و لاحظوا أسراره و تطّلعوا على غوامضه فيحرم عليهم أن يتسرّعوا إلى قول ما لم يستند إليه و ذلك في قوله ظاهره أنيق حسن معجب بأنواع البيان و أصنافه و باطنه عميق لا ينتهى إلى جواهر أسراره إلّا اولو الألباب، و من ايّد من اللّه بالحكمة و فصل الخطاب و لا تفني الامور المعجبة منه و لا تنقضي النكت الغريبة فيه على توارد صوارم الأذهان و خواطف الأبصار و لا تكشف ظلمات الشبه الناشئة من ظلمة الجهل إلّا بسواطع أنواره و لوامع أسراره و قد راعى في هذه القرائن الأربع السجع المتوازي و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم)، ج 1 ، صفحه‏ى 321

خطبه16 شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی

 و من كلام له عليه السّلام فى صفة من يتصدى للحكم بين الأمة و ليس لذلك بأهل

اللغة

أقول: وكلّه إلى نفسه جعل توكّله عليها، و الجائر العادل عن الطريق و فلان مشغوف بكذا بالغين المعجمة إذا بلغ حبّه إلى شغاف قلبه و هو غلافه، و بغير المعجمة إذا بلغ إلى شعفة قلبه و هي عند معلّق النيّات، و القمش جمع الشي‏ء المتفرّق و المجموع قماش، و الموضع بفتح الضاد المطرح و بكسرها المسرع، و الغارّ الغافل، و أغباش الليل ظلمته، و قال ابو زيد: الغبش البقيّة من الليل و روى أغطاش الفتنة و الغطش الظلمة، و الهدنة الصلح، و المبهمات المشكلات و أمر مبهم إذا لم يعرف، و الرثّ الضعيف البالي، و عشوت الطريق بضوء النار إذا تبيّنته على ضعف، و الهشيم اليابس من نبت الأرض المتكسّر، و العجّ رفع الصوت، و البائر الفاسد.

المعنى

و اعلم أنّه أخذ أوّلا في التنفير على الرجلين المشار إليهما بذكر أنّهما من أبغض الخلائق إلى اللّه تعالى و لمّا كانت إرادة اللّه للشي‏ء و محبّته له عائدة إلى علمه بكونه على وفق النظام الكليّ التامّ للعالم كانت كراهيّته و بغضه له عائدة إلى علمه بكونه على ضدّ مصلحة العالم و خارجا عن نظامه فبغضه إذن لهذين الرجلين علمه بكون أفعالهما و أقوالهما خارجة عن المصلحة. قوله رجل وكلّه اللّه إلى نفسه فهو و جائر عن قصد السبيل إلى قوله بخطيئته. بيان لأحد رجلين و تمييز له، و ذكر له أوصافا: الأوّل أنّه و كلّه اللّه إلى نفسه أي جعله متوكّلا عليها دونه، و اعلم أنّ التوكيل مأخوذ من الوكالة يقال: وكلّ فلان أمره إلى فلان إذا فوضّه إليه و اعتمد عليه فالتوكّل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده. إذا عرفت ذلك فنقول: من اعتقد جزما و ظنّا بأنّ نفسه أو أحدا غير اللّه تعالى ممّن ينسب إليه التأثير و القدرة هو المتمكّن من الفعل و أنّه تامّ القدرة على تحصيل مراده و الوفاء به فإنّ ذلك من أقوى الأسباب المعدّة لأن يفيض اللّه على قلبه صورة الاعتماد على المعتقد فيه و التوكّل عليه فيما يريده، و ذلك معنى قوله وكّله اللّه إلى نفسه، و كذلك معنى الوكول إلى الدنيا و ذلك بحسب اعتقاد الإنسان أنّ المال و القينات الدنيويّة وافية بمطالبه و تحصيلها مغنية له عمّا وراءها، و بحسب قوّة ذلك التوكّل و ضعفه يكون تفاوت بغض اللّه تعالى للعبد و محبّته له، و بعده و قربه منه فلن يخلص إذن العبد من بغض اللّه إلّا بالتوكّل عليه حقّ توكّله.

قال اللّه تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» و هو أعظم مقام وسم صاحبه بمحبّة اللّه فمن كان اللّه حسبه و كافيه و محبّه و مراعيه فقد فاز الفوز العظيم، فإنّ المحبوب لا يبغض و لا يعذّب و لا يبعّد و لا يحجب. و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من انقطع إلى اللّه كفاه كلّ مؤنه و رزقه من حيث لا يحتسب، و من انقطع إلى الدنيا وكّله اللّه تعالى إليها، و صورة المتوكّل عليه أن تثبت في نفسك بكشف أو اعتقاد جازم أنّ استناد جميع الأسباب و المسبّبات إليه سبحانه و أنّه الفاعل المطلق تامّ العلم و القدرة على كفاية العباد تامّ العفو و الرحمة و العناية بخلقه حيث لا يكون وراء قدرته و علمه و عنايته رحمة و عناية، و لم يقع في نفسك التفات إلى غيره بوجه حتّى نفسك و حولك و قوّتك فإنّك و الحال هذه تجد من نفسك تسليم امورها بالكلّيّة إليه و البراءة من التوكّل على أحد إلّا عليه، فإن لم تجد من نفسك هذه الحال فسبب ذلك ضعف الأسباب المذكورة أو بعضها و غلبة الوهم على النفس في معارضته لذلك اليقين، و بحسب ضعف تلك الأسباب و شدّتها و زيادتها و نقصانها يكون تفاوت درجات التوكّل على اللّه تعالى.

الثاني كونه جائرا عن قصد السبيل أي قصد سبيل اللّه العدل و صراطه المستقيم، و علمت أنّ الجور هو طرف الإفراط من فضيلة العدل،

الثالث كونه مشعوفا بكلام بدعة أي معجب بما يخطر له و يبتدعه من الكلام الّذي لا أصل له في الدين و يدعو به الناس إلى الضلالة و الجور عن القصد، و هذا الوصف لازم عمّا قبله فإنّ من جار عن قصد السبيل بجهله فهو يعتقد أنّه على سواء السبيل فكان ما يتخيّله من ذلك الكمال الّذي هو نقصان في الحقيقة مستلزما لمحبّة قول الباطل و ابتداع المحال فهو من الأخسرين أعمالا «الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا»«»

الرابع كونه فتنة لمن افتتن به و هو أيضا لازم عن الوصف الثالث فإنّ محبّة قول الباطل و الدعوة إلى الضلالة سبب لكونه فتنة لمن اتّبعه.

الخامس كونه ضالّا عن هدى من كان قبله و هذا الوصف كالثاني فإنّ الضالّ عن الهدى جائر عن قصد السبيل إلّا أنّ هاهنا زيادة إذ الجائر عن القصد قد يجور و يضلّ حيث لا هدى يتبعه و الموصوف هاهنا جائر و ضالّ مع وجود هدى قبله مأمور باتّباعه و هو كتاب اللّه و سنّة رسوله و إعلام هداة الحاملون لدينه الناطقون عن مشكاة النبوّة و ذلك أبلغ في لائمته و آكد في وجوب عقوبته.

السادس كونه مضلّا لمن اهتدى به في حياته و بعد وفاته و هذا الوصف مسبّب عمّا قبله إذ ضلال الإنسان في نفسه سبب لإضلاله غيره و يفهم منه ما يفهم من الرابع مع زيادة فإنّ كونه فتنة لغيره و هو كونه مضلّا لمن اهتدى به و أمّا الزيادة فكون ذلك الإضلال في حياته و هو ظاهر و بعد موته لبقاء العقائد الباطلة المكتسبة عنه فهي سبب ضلال الضالّين بعده.

السابع كونه حمّالا لخطايا غيره و هو لازم عن السادس فإنّ حمله لأوزار من يضلّه إنّما هو بسبب إضلاله له. الثامن كونه رهنا بخطيئته أي موثوق بها عن الصعود إلى حضرة جلال اللّه و إلى هذين الوصفين أشار القرآن الكريم بقوله «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ»«» و قول الرسول صلى اللّه عليه و آله: أيّما داع دعا إلى الهدى فاتّبع كان له مثل أجر من تبعه لا ينقص من أجرهم شي‏ء و أيّما داع دعا إلى الضلالة فاتّبع كان عليه مثل وزر من تبعه و لا ينقص منه شي‏ء، و اعلم أنّه ليس المراد من ذلك أنّه تعالى يوصل العقاب الّذي يستحقّه الأتباع إلى القادة و الرؤساء لقوله تعالى «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏» «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏»«» و لما دخل أحد من الناس النار أبدا بل كانت مقصورة على إبليس وحده بل المعنى أنّ الرئيس المضلّ إذا وضع سيّئة تكون فتنة للناس و ضلالا لهم لم تصدر تلك السيّئة إلّا عن نفس قد استولى عليها الجهل المركب المضادّ لليقين و صار ملكة من ملكاتها فيسود لوحها به عن قبول الأنوار الإلهيّة و صار ذلك حجابا بينها و بين الرحمة بحيث يكون ذلك الحجاب في القوّة و الشدّة أضعاف حجب التابعين له و المقتدين به الناشئة عن فتنته فإنّ تلك الحجب الطارية على قلوب التابعين مستندة إلى ذلك الحجاب و هو أصلها فلا جرم يكون وزره و سيّئته في قوّة أوزار أتباعه و سيّئاتهم الّتي حصلت بسبب إضلاله لا كلّ سيّئاتهم من كلّ جهة و لذلك قال تعالى «وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ» أي بعض أوزارهم و هي الحاصلة بسبب المضلّين.

و قال الواحدي: إنّ من في هذه الآية ليست للتبعيض بل لبيان الجنس و إلّا لخفّ عن الأتباع بعض أوزارهم و ذلك يناقض قوله صلى اللّه عليه و آله من غير أن ينقص من أوزارهم شي‏ء. قلت: هذا و إن كان حسنا إلّا أنّ الإلزام الّذي ذكره غير لازم على كونها للتبعيض لأنّ القائل بكونها كذلك يقول إنّ المراد و ليحملوا بعض أمثال أوزار التابعين لا بعض أعيان أوزارهم، و إذا فهمت ذلك في جانب السيّئات فافهم مثله في جانب الحسنات و هو أنّ الواضع لحسنة و هدى يهتدى به إنّما تصدر عن نفس ذات صفاء و إشراق فأشرق على غيرها من النفوس التابعة لها فاستضائت به و تلك السنّة المأخوذة من جملة أنوارها الفائضة عنها على نفس اقتبسها فكان للنفس المتبوعة من الاستكمال بنور اللّه الّذي هو رأس كلّ هدى ما هو في قوّة جميع الأنوار المقتبسة عن تلك السنّة و مثل لها فكان لها من الأجر و الثواب مثل ما للتابعين لها من غير نقصان في أجر التابعين و هداهم الحاصل لهم، و إلى هذا المعنى الإشارة الواردة في الخبر إنّ حسنات الظالم تنقل إلى ديوان المظلوم، و سيّئات المظلوم تنقل إلى ديوان الظالم فإنّك إن علمت أنّ السيّئة و الحسنة أعراض لا يمكن نقلها من محلّ إلى محلّ فليس ذلك نقلا حقيقيّا بل على وجه الاستعارة كما يقال: انتقلت الخلافة من فلان إلى غيره، و إنّما المقصود عن نقل سيّئات المظلوم إلى الظالم حصول أمثالها في قلب الظالم و نقل حسنات الظالم إلى المظلوم حصول أمثالها في قلبه، و ذلك لأنّ للطاعة تأثيرا في النفس بالتنوير، و للمعاصي تأثيرا بالقسوة و الظلمة و بأنوار الطاعه تستحكم مناسبة النفس من استعدادها لقبول المعارف الإلهيّة و مشاهدة حضرة الربوبيّة، و بالقسوة و الظلمة تستعدّ للبعد و الحجاب عن مشاهدة الجمال الإلهيّ فالطاعة مولّدة لذّة المشاهدة بواسطة الصفاء و النور الّذي يحدث في النفس، و المعصية مولّدة للحجاب بواسطة القسوة و الظلمة الّتي تحدث فيها، و بين الحسنات و السيّئات تضادّ و تعاقب على النفس كما قال تعالى «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» و قال «لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ»

و قال صلى اللّه عليه و آله: أتبع السيّئة بالحسنة تمحها و الآلام ممحّصات للذنوب، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله: إنّ الرجل يثاب حتى بالشوكة الّتي تصيب رجله، و قال: الحدود كفّارات لأهلها فالظالم يتبع شهوته بالظلم، و فيه ما يقسى القلب و يسوّد لوح النفس فيمحو أثر النور الّذي فيه من طاعته فكأنّه أحبط طاعته، و المظلوم يتألّم و تنكسر شهوته و يستكن قلبه، و يرجع إلى اللّه تعالى فتفارقه الظلمة و القسوة الّتي حصلت له من اتّباع الشهوات، فكأنّ النور انتقل من قلب الظالم إلى قلب المظلوم و انتقل السواد و الظلمة من قلب المظلوم إلى قلب الظالم، و ذلك انتقال على سبيل الاستعارة كما علمت و كما يقال انتقل ضوء الشمس من مكان إلى مكان، و قد تلخّص من هذا التقرير أن الحسنات المنقولة إلى المظلوم من ديوان الظالم هي استعداداته لقبول الرحمة و التنوير الحاصل له بسبب ظلم الظالم، و السيّئات المنقولة من ديوان المظلوم إلى الظالم هي استعداداته بالحجب و القسوة عن قبول أنوار اللّه، و الثواب و العقاب الحاصلان لهما هو ما استعدّ له من تلك الأنوار و الظلمات، و اعلم أنّ ذلك النقل و حمل الظالم أوزار المظلوم و إن كان أمرا حاصلا في الدنيا إلّا أنّه لمّا لم ينكشف للبصائر إلّا في يوم القيامة لا جرم خصّص بيوم القيامة، و إنّما قال حمّال وزن فعّال للمبالغة و التكثير أي أنّه كثيرا ما يحمل خطايا غيره.

و أمّا الرجل الثاني فميّزه بعشرين وصفا أ كونه قمش جهلا، و هي استعارة لفظ الجمع المحسوس للجمع المنقول (ب) كونه موضعا في جهّال الامّة مطرحا ليس من أشراف الناس، و يفهم من هذا الكلام أنّه خرج في حقّ شخص معيّن و إن عمّه و غيره (ج) كونه غاديا في اغباض الفتنة أي سائرا في أوائل ظلماتها، و روى غارّا أي غافل في ظلمات الخصومات لا يهتدي لوجه تخليصها (د) كونه أعمى البصيرة بما في عقد الصلح و المسالمة بين الناس من نظام امورهم و مصالح العالم فهو جاهل بوجوه المصالح مشير للفتن بينهم (ه) كونه قد سمّاه أشباه الناس عالما و ليس بعالم، و الواو للحال و أشباه الناس الجهّال و أهل الضلال و هم الّذين يشبهون الناس الكاملين في الصورة الحسيّة دون الصور التماميّة الّتي هي كمال العلوم و الأخلاق (و) كونه بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر. روى من جمع منوّنا و غير منوّن‏ أمّا بالتنوين فالجملة بعده صفة له و استعمال المصدر و هي جمع في موضع اسم المفعول أي من مجموع، و يحتمل أن يكون المقصود هي المصدر نفسه، و أمّا مع الإضافة فقيل: إنّ ما هاهنا يحتاج في تمام الكلام إلى تقدير مثلها معها حتّى يكون ما الأوّل هي المضاف و الثانية هي المبتدأ، و التقدير من جمع ما الذي قلّ منه خير ممّا كثر لكنّه لمّا كان إظهار ما الثانية يشبه التكرار و يوجب هجنه في الكلام و كانت ما الواحدة تعطى المعنى عن المقدّرة كان حذفها أولى، و قيل: إنّ المقدّر المحذوف أن على طريقة تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي من جمع ما أن قلّ منه خير ممّا كثر، و عنى بالتكسير إلى الاستكثار من ذلك السبق في أوّل العمر إلى جمع الشبهات و الآراء الّتي قليلها خير من كثيرها و باطلها أكثر من حقّها (ز) كونه إذا ارتوى من ماء آجن و أكثر من غير طائل جلس بين الناس قاضيا، و لمّا كان الاجون صفة للماء و الكمالات النفسانيّة الّتي هي العلوم كثيرا ما يعبّر عنها بالماء الصافي و الزلال و كان الجهل و الآراء الّتي حصل عليها يجمعها مع العلم جامع الاعتقاد فهي و العلم داخلان تحت جنس الاعتقاد كان الماء الآجن أشبه ما يستعار لتلك الآراء الّتي ليست بنصيحة و لا متينة فهي تشبه الماء الآجن الّذي لا غناء فيه للشارب، و رشّح، تلك الاستعارة بذكر الارتواء و جعل غايته المشار إليها من ذلك الاستكثار جلوسه بين الناس قاضيا (ح) كونه ضامنا لتلخيص ما التبس على غيره أي واثق من نفسه بفصل ما يعرض بين الناس من القضايا المشكلة، و ضامنا حال ثان أو صفة للأوّل (ط) كونه إذا نزلت به إحدى القضايا المبهمة الملتبس وجه فصلها هيّألها حشوا ضعيفا من رأيه ثمّ جزم به و الحشو الكلام الكثير الّذي لا طائل تحته و ليس حلا لتلك المبهمة (ى) كونه من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوب. نسج العنكبوت مثل للامور الواهية،

و وجه هذا التمثيل أنّ الشبهات الّتي تقع على ذهن مثل هذا الموصوف إذا قصد حلّ قضيّة مبهمة تكثر فيلبس على ذهنه وجه الحقّ منها فلا يهتدي له لضعف ذهنه، فتلك الشبهات في الوها يشبه نسج العنكبوت و ذهنه فيها يشبه الذباب الواقع فيه فكما لا يتمكّن الذباب من خلاص نفسه من شبّاك العنكبوت لضعفه كذلك ذهن هذا الرجل إذا وقع في الشبهات لا يخلص وجه الحقّ منها لقلّة عقله و ضعفه عن إدراك وجوه الخلاص (يا) أنّه لا يدري أصاب فيما حكم به أم أخطأ فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ و إن أخطأ رجأ أن يكون قد أصاب، و خوف الخطأ و رجاء الإصابة من لوازم الحكم مع عدم الدراية (يب) كونه جاهلا خبّاط جهالات، و الجهالات جمع جهلة فعلة من الجهل، و قد تقدم أنّ وزن فعّال يبنى للفاعل من الامور المعتادة الّتي يكثر فعلها، و ذكر الجهل هاهنا بزيادة و هي كثرة الخبط فيه و كنّى بذلك عن كثرة الأغلاط الّتي يقع فيها في القضايا و الأحكام فيمشي فيها على غير طريق حقّ من القوانين الشرعيّة و ذلك معنى خبطه (يج) كونه عاشيا ركّاب عشوات، و هي إشارة إلى أنّه لا يستليح نور الحقّ في ظلمات الشبهات إلّا على ضعف لنقصان ضوء بصيرته فهو يمشي فيها على ما يتخيّله دون ما يتحقّقه و كثيرا ما يكون حاله كذلك، و لمّا كان من شأن العاشي إلى الضوء في الطرق المظلمة تارة يلوح له فيمشي عليه و تارة يخفى عنه فيضلّ عن القصد و يمشي على الوهم و الخيال كذلك حال السالك في طرق الدين من غير أن يستكمل نور بصيرته بقواعد الدين و يعلم كيفيّة سلوك طرقه فإنّه تارة يكون نور الحقّ في المسألة ظاهرا فيدركه و تارة يغلب عليه ظلمات الشبهات فتعمى عليه الموارد و المصادر فيبقى في الظلمة خابطا و عن القصد جائرا (يد) كونه لم يعضّ على العلم بضرس قاطع كناية عن عدم إتقانه للقوانين الشرعيّة و إحاطته بها يقال فلان لم يعضّ على الأمر الفلاني بضرس إذا لم يحكمه، و أصله أنّ الإنسان يمضغ الشي‏ء ثمّ لا يجيد مضغه فمثّل به من لم يحكم ما يدخل فيه من الامور (يه) كونه يذرى الروايات إذ راء الريح الهشيم، و وجه التشبيه أنّ الريح لمّا كانت تذرى الهشيم و هو ما تكسّر من نبت الأرض و يبس فتخرجه عن حدّ الانتفاع به كذلك المتصفّح للروايات لمّا لم يهتد إلى وجه العمل بها و لم يقف على الفائدة منها فهو يقف على رواية اخرى و يمشي عليها من غير فائدة (يو) أنّه غير مليّ بإصداره ما يرد عليه إشارة إلى أنّه ليس له قوّة على إصدار الأجوبة عمّا يرد عليه من المسائل فهو فقير منها (يز) كونه لا يحسب العلم في شي‏ء ممّا أنكره يقال فلان لا يحسب فلانا في شي‏ء بالضمّ من الحساب أي لا يعدّه شيئا و يعتبره خاليا من الكمال و الفضيلة، و المراد أنّه ينكر العلم كسائر ما أنكره فهو لا يعدّه شيئا و لا يفرده بالحساب و الاعتبار و عنى بالعلم الحقيقيّ الّذي ينبغي أن يطلب و يجتهد في تحصيله لا ما يعتقده الموصوف علما ممّا قمشه و جمعة فإنّ كثيرا من الجهّال ممّن يدعى العلم بفنّ من الفنون قد ينكر غيره من سائر الفنون و يشنّع على معلّميه كأكثر الناقلين للأحكام الفقهيّة و المتصدّرين للفتوى و القضاء بين الخلق في زماننا و ما قبله فإنّهم يبالغون في إنكار العلوم العقليّة و يفتون بتحريم الخوض فيها و تكفير من يتعلّمها و هم غافلون عن أنّ أحدهم لا يستحقّ أن يسمّى فقيها إلّا أن يكون له مادّة من العلم العقليّ المتكفّل ببيان صدق الرسول صلى اللّه عليه و آله و إثبات النبوّة الّذي لا يقوم شي‏ء من الأحكام الفقهيّة الّتي يدّعون أنّها كلّ العلم إلّا بعد ثبوتها، و روى يحسب بكسر السين من الحسبان و هو الظنّ أي لا يظنّ العلم ذا فضيلة يجب اعتقادها و اعتباره بها فهو ممّا أنكره (يح) كونه لا يرى أنّ من وراء ما بلغ منه مذهبا لغيره أي أنّه إذا غلب على ظنّه حكما في القضيّة جزم به، و ربّما كان لغيره في المسألة قول أظهر من قوله يعضده دليل فلا يعتبره و يمضي على ما بلغ فهمه إليه (يط) كونه إن أظلم عليه أمرا اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه و كثيرا ما يراعي قضاة السوء و علماؤه اكتتام ما يشكل عليهم أمره من المسائل و التغافل عن سماعها إذا اوردت عليهم لئلّا يظهر جهلهم بين أهل الفضل مراعاة لحفظ المناصب (ك) كونه تصرخ من جور قضائه الدماء و تعجّ منه المواريث نسبت الصراخ إلى الدماء و العجيج إلى المواريث إمّا على سبيل حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه أي أهل الدماء و أولياء المواريث فيكون حقيقة، أو على سبيل استعارة لفظ الصراخ و العجّ لنطق الدماء و المواريث بلسان حالها المفصح عن مقالها، و وجه الاستعارة عن الصراخ و العجيج لمّا كانا إنّما يصدر عن تظلّم و شكاية و كانت الدماء المهراقة بغير حقّ و المواريث المستباحة بالأحكام الباطلة ناطقة بلسان حالها مفصحة بالشكاية و التظلّم لا جرم حسنت استعارة اللفظين هاهنا، ثمّ بعد أن خصّ الرجلين المذكورين بما ذكر فيها من الأوصاف المنفره على سبيل التفصيل أردف ذلك بالتنفير عنهما على سبيل الجملة ما يعمّها و غيرهما من الجهّال من التشكّي و البراءة و ذلك قوله إلى اللّه من معشر أي إلى اللّه أشكو كما في بعض النسخ أو إلى اللّه أبرء، و ذكر أوصافا مبدءها البقاء على الجهل و العيش فيه و كنّى بالعيش عن الحياة و قابله بذكر الموت، و قوله يموتون ضلّالا وصف لازم عن الوصف الأوّل فإنّ من عاش جاهلا مات ضالّا.

قوله ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته إلى آخره. أي إذا فسرّ الكتاب و حمل على الوجه الّذي انزل اعتقدوه فاسدا و أطرحوه بجهلهم عن درجة الاعتبار على ذلك الوجه، و إذا حرّف عن مواضعه و مقاصده و نزّل على حسب أغراضهم و مقاصدهم شروه على ذلك الوجه بأغلى ثمن و كان من أنفق السلع بينهم، و استعار له لفظ السلعة، و وجه المشابهة ظاهر و منشأ كلّ ذلك هو الجهل، و كذلك ليس عندهم أنكر من المعروف، و ذلك أنّه لمّا خالف أغراضهم و مقاصدهم أطرحوه حتّى صار بينهم منكرا يستقبحون فعله، و لا أعرف من المنكر لموافقة أغراضهم و محبّتهم له لذلك، و أعلم أنّه عليه السّلام قسّم الناس في موضع آخر إلى ثلاثة أقسام عالم و متعلّم و همج رعاع أتباع كلّ ناعق، و الرجلان المشار إليهما بالأوصاف المذكورة هاهنا ليسا من القسم الأوّل لكونهما على طرف الجهل المضادّ للعلم، و لا من القسم الثالث لكونهما متبوعين داعيين إلى اتّباعهما و كون الهمج تابعين كما صرّح به فتعيّن أن يكونا من القسم الثاني و هم المتعلّمون، و إذا عرفت ذلك فنقول: المراد بالمتعلّم هو من ترفّع عن درجة الهمج من الناس بطلب العلم و اكتسب ذهنه شيئا من الاعتقادات عن مخالطة من اشتهر بسمة العلم و مطالعة الكتب و نحو ذلك و لم ينته إلى درجة العلماء الّذين يقتدرون على التصرّف و القيام بالحجّة فاعتقاداته حينئذ إمّا أن يكون مطابقة كلّها أو بعضها أو غير مطابقة أصلا و على التقديرات فإمّا أن لا ينصب نفسه لشي‏ء من المناصب الدينيّة كالفتوى و القضاء و نحوهما أو يتصدّر لذلك فهذه أقسام ستّة: أحدها من اعتقد اعتقادا مطابقا و لم يعرض نفسه لشي‏ء من المناصب الدينيّة. الثاني من كان اعتقاده كذلك لكنّه نصب نفسه للإفاضة. الثالث من اعتقد جهلا و لم ينصب نفسه لها الرابع من اعتقد جهلا و عرض نفسه لها. الخامس من اعتقد جهلا و غير جهل و لم ينصب نفسه للإفادة. السادس من كان اعتقاده كذلك و نصب نفسه لها. و القسم الأوّل وحده هو الخارج عن هذين الرجلين بأوصافهما، و الثاني و الرابع و السادس منهم يكون الرجلان المذكوران فالأوّل منهما في ترتيبه هو من نصب نفسه لسائر مناصب الإفادة دون منصب القضاء، و الثاني هو من نصب نفسه له. و إنّما بالغ في ذمّهما و نسبتهما إلى الجهل و الضلال و إن كان بعض اعتقاداتهما حقّا لكون القدر الّذي حصلا عليه مغمورا في ظلمة الجهل فضلا لهما و إضلالهما أغلب و انتشار الباطل فيهما أكثر، و أمّا القسم الثالث‏ و الخامس فداخلان فيمن برء إلى اللّه منهم و ذمّهم أخيرا بالعيش في الجهل و الموت على الضلال و ما بعده، و اللّه أعلم بالصواب.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم)، ج 1 ، صفحه‏ى 310

خطبه15شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام لما بويع بالمدينة

القسم الأول

ذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ- إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلَاتِ- حَجَزَتْهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ- أَلَا وَ إِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ- ص وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً- وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ- حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلَاكُمْ وَ أَعْلَاكُمْ أَسْفَلَكُمْ- وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا- وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا- وَ اللَّهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً وَ لَا كَذَبْتُ كِذْبَةً- وَ لَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ وَ هَذَا الْيَوْمِ- أَلَا وَ إِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا- وَ خُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النَّارِ- أَلَا وَ إِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا- وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ- حَقٌّ وَ بَاطِلٌ وَ لِكُلٍّ أَهْلٌ- فَلَئِنْ أَمِرَ الْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ- وَ لَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ فَلَرُبَّمَا وَ لَعَلَّ وَ لَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيْ‏ءٌ فَأَقْبَلَ

قال السيد الشريف و أقول- إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان- ما لا تبلغه مواقع‏ الاستحسان- و إن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به- و فيه مع الحال التي وصفنا زوائد من الفصاحة- لا يقوم بها لسان و لا يطلع فجها إنسان- و لا يعرف ما أقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق- و جرى فيها على عرق- وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أقول: في هذا الفصل فصول من الخطبة الّتي أشرنا إليها في الكلام الّذي قبله، و كذلك في الفصل الّذي بعده، و نحن نوردها بتمامها ليتّضح ذلك، و هي الحمد للّه أحقّ محمود بالحمد و أولاه بالمجد إلها واحدا صمدا أقام أركان العرش فأشرق لضوء شعاع الشمس خلق فأتقن و أقام فذلّت له وطاه المستمكن، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله أرسله بالنور الساطع و الضياء المنير أكرم خلق اللّه حسبا و أشرفهم نسبا لم يتعلّق عليه مسلم و لا معاهد بمظلمة بل كان يظلم.

أمّا بعد فإنّ أوّل من بغى على الأرض عناق ابنة آدم كان مجلسها من الأرض جريبا و كان لها عشرون إصبعا، و كان لها ظفران كالمخلبين فسلّط اللّه عليها أسدا كالفيل و ذئبا كالبعير و نسرا كالحمار، و كان ذلك في الخلق الأوّل فقتلها و قد قتل اللّه الجبابرة على أسوء أحوالهم، و إنّ اللّه أهلك فرعون و هامان و قتل هارون بذنوبهم ألا و إنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّكم صلى اللّه عليه و آله و الّذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة و لتغربلنّ غربلة و لتساطنّ سوط القدر حتّى يعود أسفلكم أعلاكم و أعلاكم أسفلكم و ليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا و ليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا و اللّه ما كتمت و شمة و لا كذبت كذبة و لقد نبّئت بهذا اليوم و هذا المقام ألا و إنّ الخطا يا خيل شمس حمل عليها أهلها و خلعت لجمها فتقحّمت بهم في النار فهم فيها كالحون ألا و إنّ التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها فسارت بهم تأوّدا حتّى إذا جاءوا ظلّا ظليلا فتحت أبوابها و فال لهم خزنتها «سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين»«» ألا و قد سبقني هذا الأمر من لم اشركه‏ فيه و من ليست له منه توبة إلّا بنبيّ مبعث و لا نبيّ بعد محمّد صلى اللّه عليه و آله أشفى منه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم أيّها الناس كتاب اللّه و سنّة نبيّة لا يرعى مرع إلّا على نفسه شغل من الجنّة و النار أمامه ساع نجا و طالب يرجو و مقصّر في النار و لكلّ أهل، و لعمري لئن أمر الباطل لقد يما فعل و لئن قلّ الحقّ لربّما و لعلّ، و لقلّما أدبر شي‏ء فأقبل و لئن ردّ أمركم عليكم إنّكم السعداء و ما علينا إلّا الجهد قد كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة كنتم عندي فيها غير محمودي الرأي و لو أشاء أن أقول لقلت عفى اللّه عمّا سلف سبق الرجلان و قام الثالث كالغراب همّه بطنه ويله لو قصّ جناحاه و قطع رأسه كان خيرا له شغل من الجنّة و النار أمامه ساعي مجتهد و طالب يرجو و مقصّر في النار ثلاثة و إثنان خمسة، و ليس فيهم سادس ملك طائر بجناحيه و نبى آخذ بضبعيه هلك من ادّعى و خاب من افترى اليمين و الشمال مضلّة و وسط الطريق المنهج عليه باقي الكتاب و آثار النبوّة ألا و إنّ اللّه قد جعل أدب هذه الامّة السوط و السيف ليس عند إمام فيهما هوادة فاستتروا بيوتكم و أصلحوا ذات بينكم، و التوبة من ورائكم من أبدأ صفحته للحقّ هلك ألا و إنّ كلّ قطعية أقطعها عثمان و ما أخذه من بيت مال المسلمين فهو مردود عليهم في بيت مالهم و لو وجدته قد تزوّج به النساء و فرّق في البلدان فإنّه إن لم يسعه الحقّ فالباطل أضيق عنه أقول قولي هذا و استغفر اللّه لي و لكم«». و لقد ذكرنا هذا الفصل فيما قبل و لنرجع إلى التفسير فنقول:

اللغة

الذّمة الحرمة و الذمّة أيضا العهد، و الرهينة المرهونة، و الزعيم الكفيل، و في الحديث الزعيم غارم، و المثلات العقوبات، و الحجز المنع، و قحّم في الأمر و تقحّمه رمى بنفسه فيه، و الهيئة الصفة، و البلبلة الاختلاط، و الغربلة نخل الدقيق و غيره و الغربلة القتل أيضا، و ساط القدر إذا قلّب ما فيها من طعام بالمحراك، و أداره، و الوشمة بالشين المعجمة الكلمة و بغير المعجمة العلامة و الأثر، و الشمس جمع شموس و هي الدابّة تمنع ظهرها، و التأوّد السير الثقيل بالثبات، و الذلول الساكنة، و الكلوح تكسّر في عبوس، و أمر الباطل بكسر الميم كثر و فلان يرعى على نفسه إذا كان يتفقّد أحوالها

المعنى

و اعلم أنّه أشار أوّلا في هذا الفصل إلى وجوب الاعتبار لوجوب التقوى و نبّه على أنّه وسيلة إليه و مستلزم له في صورة شرطيّة متّصلة و هي قوله‏ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن تقحّم الشبهات، و بيان الملازمة أنّ من أخذت العناية بزمام عقله فأعدّت نور بصيرته لمشاهدة ما صرّحت به آفات الدنيا، و كشفت عبرها من تبدّل حالاتها و تغيّراتها على من أوقف عليها همّه و أتخذها دار الإقامة فشاهد أنّ كلّ ذلك امور باطلة و أطلال زائلة، فلا بدّ أن يفيض اللّه على قلبه صورة خشيته و تقواه فتستلزم تلك الخشية توقّفه و امتناعه عن أن يلقى نفسه في تلك الامور الزائلة و الشبهات الباطلة لإشراق نور الحقّ الواضح على لوح نفسه بالاعتبار، فالتقوى اللازم له هو الحاجز عن ذلك التقحّم، و أشار بالشبهات إلى ما يتوهّم كونه حقّا ثابتا باقيا من الامور الفانية الزائلة و اللذّات الدنيويّة الباطلة فالوهم يصوّرها و يشبّهها بالحقّ فلذلك سمّيتشبهات،

و العقل الخارج من أسر الهوى قوّى على نقد الحقّ و تمييزه عن الشبهة، و أكّد هذه الملازمة برهن ذمّته على صحّتها و كفالته بصدقها، و ذلك قوله ذمّتي بما أقول رهينة و أنا به زعيم و استعمال الرهن استعارة كقوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ و اعلم أنّه ربّما التبس عليك حقيقة التقوى،

فنقول: التقوى بحسب العرف الشرعيّ يعود إلى خشية الحقّ سبحانه المستلزم للإعراض عن كلّ ما يوجب الالتفات عنه من متاع الدنيا و زينتها و تنحية مادون وجهه عن جهة القصد، و لمّا كان الترك و الإعراض المذكور هو الزهد الحقّقي كما علمت، و كان التقوى وسيلة إليه علمت أنّه من أقوى الجواذب إلى اللّه الرادعة عن الالتفات إلى ما سواه و قد ورد التقوى بمعنى الخشية من اللّه تعالى في أوّل النساء يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ و مثله في أوّل الحجّ، و في الشعراء إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ و كذلك قول هود و صالح و لوط و شعيب لقومهم، و في العنكبوت و إبراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ و قوله اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ و قوله وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ و كذلك في سائر آيات القرآن و إن كان قد حمله بعض المفسّرين تارة على الإيمان كما في قوله تعالى وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ و تارة على التوبة كما في قوله وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا و تارة على ترك المعصية كما في قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ و إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لمّا نبّههم على لزوم التقوى و أنّه مخلص من تقحّم الشبهات نبّههم بعده على أنّهم في الشبهات مغمورون بقوله ألا و إنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّه، و أشار ببليّتهم إلى ما هم عليه من اختلاف الأهواء و تشتّت الآراء و عدم الالفة و الاجتماع في نصرة اللّه عن شبهات يلقيها الشيطان على الأذهان القابلة لوسوسته المقهورة في يده. و ذلك من أعظم الفتن الّتي بها يبتلى اللّه عباده وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ و هي امور تشبه ما كان الناس عليه حال بعثة الرسول صلى اللّه عليه و آله و في ذلك تنبيه لهم على أنّهم ليسوا من تقوى اللّه في شي‏ء إذ عرفت أنّ مجانبة الشبهة من لوازم التقوى فكان وقوعهم فيها مستلزما لسلب التقوى عنهم ثمّ لمّا بيّن وقوعهم في البليّة كما كانت أقسم بالقسم البارّ لينزلنّ بهم ثمرة ما هم فيه من عدم التناصر و اتّباع الأهواء الباطلة و ذكر امورا ثلاثة:

أحدها البلبلة و كنّى بها عمّا يوقع بنو اميّة و غيرهم من امراء الجور من الهموم المزعجة و خلط بعضهم ببعض و رفع أراذلهم و حطّ أكابرهم عمّا يستحقّ كلّ من المراتب.

الثاني الغربلة و كأنّها كناية عن التقاط آحادهم و قصدهم بالأذى و القتل كما فعل بكثير من الصحابة و التابعين و في ذلك تشبيه لفعلهم ذلك بغربلة الدقيق و نحوه لتمييز شي‏ء منه عن شي‏ء و لذلك استعير له لفظها و في هذين القرينتين السجع المتوازي.

الثالث أن تساطوا كما تساط القدر إلى أن يعود أسفلهم أعلاهم و بالعكس و استعار لفظ السوط هاهنا مع غايته المذكورة لتصريف أئمّة الجور لهم ممّن يأتي بعده بسائر أسباب الإهانة و تغيير القواعد عليها في ذلك الوقت و هو قريب من الأوّل.

قوله و ليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا و ليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا إشارة إلى بعض نتائج تقلّب الزمان بهم قال بعض الشارحين: إنّه أشار بالمقصّرين الّذين يسبقون إلى قوم قصّروا عن نصرته في مبدء الأمر حين وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ثمّ نصروه في ولايته و قاتلوا معه في سائر حروبه و بالسابقين الّذين يقصّرون إلى من كانت له في الإسلام سابقة ثمّ يخذله و ينحرف عنه و يقاتله و يشبه أن يكون مراده أعمّ من ذلك فالمقصّرون الّذين يسبقون كلّ من أخذت العناية الإلهيّة بيده و قاده زمام التوفيق إلى الجدّ في طاعة اللّه و اتّباع سائر أوامره و الوقوف عند نواهيه و زواجره بعد تقصيره في ذلك، و عكس هؤلاء من كان في مبدء الأمر مشمرا في سلوك سبيل اللّه ثمّ جذبه هواه إلى غير ما كان عليه و سلك به الشيطان مسالكه فاستبدل بسبقه في الدين تقصيرا و انحرافا عنه.

قوله و اللّه ما كتمت و شمة و لا كذبت كذبة أقسم أنّه لم يكتم أثرا سمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في هذا المعنى و كلمة ممّا يتعيّن عليه أن يبوح به و أنّه لم يكذب قط، و هذا القسم شهادة لما قبله من الإخبار بما سيكرن أنّه كان قال، و توطية لما بعده أنّه كما هو ذلك قوله، و لقد نبّئت بهذا المقام أي مقام بيعة الخلق له و هذا اليوم أي يوم اجتماعهم عليه و كلّ ذلك تنفير لهم عن الباطل إلى الحقّ و تثبيت لهم على اتّباعه ثمّ لمّا أمرهم بالتقوى و أنبأهم بما سيكون عاقبة أمرهم في لزومهم لبلّيتهم و تورّطهم في الشبهات أردف ذلك بالتنفير عن الخطايا و الترغيب في التقوى بالتنبيه على ما يقود إليه كلّ منهما.

قوله ألا و إنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها و خلعت لجمها فتقحّمت بهم في النار. استعمال لفظ الخيل للخطايا ثمّ وصفها بالوصف المنفر و هو الشموس و الهيئة المانعة لذي العقل من ركوبها و هي كونها مع شموسها مخلوعة اللجم، و وجه الاستعارة ظاهر فإنّ الفرس الشموس الّتي خلع لجامها لمّا كانت تتقحّم براكبها المهالك و تجري به على غير نظام فكذلك راكب الخطيئة لمّا جرى به ركوبها على غير نظام الشريعة و خلع بذلك لجام الأوامر الشرعية و حدود الدين لا جرم كانت غايته من ركوبه لها أن يتقحّم أعظم موارد الهلاك و هي نار جهنّم و ذلك من لطيف الاستعارة، قوله ألا و إنّ التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها و اعطوا أزمّتها فأوردتهم الجنّة استعار أيضا لفظ المطايا بالوصف الحسن الموجب للميل إليها و هو كونها ذللا، و بالهيئة الّتي ينبغي للراكب و هو أخذ الزمام و أشار بالأزمّة إلى حدود الشريعة الّتي يلزمها صاحب التقوى و لا يتجاوزها، و لمّا كانت المطيّة الذلول من شأنها أن تتحرّك براكبها على وفق النظام الّذي ينبغي و لا يتجاوز الطريق المستقيم بل يصرفها بزمامها و تسير به على تؤودة فيصل بها إلى المقاصد كذلك التقوى فسهولة طريق السالك إلى اللّه بالتقوى و راحته عن جموح الهوى به في موارد الهلكة يشبه ذلّه المطيّة، و حدود اللّه الّتي بها يملك التقوى و يستقر عليه يشبه أزمّة المطايا الّتي بها تملك و كون التقوى موصلا لصاحبه بسلامة إلى السعادة الأبديّة الّتي هي أسنى المطالب يشبهه غاية سير المطيّ الذلول براكبها، و الاستعارة في الموضعين استعارة لفظ المحسوس للمعقول ثمّ لمّا بيّن أنّ هاهنا طريقين مركوبين مسلوكين طريق الخطايا و طريق التقوى ذكر بعده أنّهما حقّ و باطل فكأنّه قال و هما حقّ و هو التقوى و باطل و هو الخطايا، ثمّ قال و لكلّ أهل‏ أي و لكلّ من طريقي الحقّ و الباطل قوم أعدّهم القدر لسلوكها بحسب ما جرى في اللوح المحفوظ بقلم القضاء الإلهيّ

كما قال الرسول صلى اللّه عليه و آله: كلّ ميسّر لما خلق له قوله فلئن أمر الباطل لقديما فعل و لئن قلّ الحقّ فلربّما و لعلّ، أردف لذلك بما يشبه الاعتذار لنفسه و لأهل الحقّ في قلّته، و ذمّ و توبيخ لأهل الباطل على كثرة الباطل، و قلّة الحقّ في ذلك الوقت ليس بديعا حتّى أجهد نفسي في الإنكار على أهله ثمّ لا يسمعون و لا ينتهون، و في قوله لربّما و لعلّ تنبيه على أنّ الحقّ و إن قلّ فربّما يعود يسيرا ثمّ أردف حرف التقليل و هو ربّما بحرف التمنّي، و كان في هذه الأحرف الوجيزة إخبار بقلّه الحقّ و وعد بقوّته مع نوع تشكيك في ذلك و تمنّى لكثرته. قوله و لقلّما أدبر شي‏ء فأقبل استبعاد لرجوع الحقّ إلى الكثرة و القوّة بعد قلّته و ضعفه على وجه كلّي فإنّ زوال الاستعداد للأمر مستلزم لزوال صورته و صورة الحقّ إنّما افيضت على قلوب صفت و استعدّت لقبوله فإذا أخذ ذلك الاستعداد في النقصان بموت أهله أو بموت قلوبهم و تسوّد ألواح نفوسهم بشبه الباطل فلا بدّ أن ينقض نور الحقّ و تكثر ظلمة الباطل بسبب قوّة الاستعداد لها و ظاهر أنّ عود الحقّ و إصاءة نوره بعد إدباره و إقبال ظلمة الباطل أمر بعيد و قلّ ما يعود مثل ذلك الاستعداد لقبول مثل تلك الصورة للحقّ و لعلّه يعود بقوّة فيصبح ألواح النفوس و أرضها مشرقة بأنوار الحقّ و يكرّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، و ما ذلك على اللّه بعزيز، و في ذلك تنبيه لهم على لزوم الحقّ و بعث على القيام به كيلا يضمحلّ بتخاذلهم عنه فلا يمكنهم تداركه، و باللّه التوفيق.

القسم الثاني

شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَ النَّارُ أَمَامَهُ- سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا وَ طَالِبٌ بَطِي‏ءٌ رَجَا- وَ مُقَصِّرٌ فِي النَّارِ هَوَى- الْيَمِينُ وَ الشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَ الطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ- عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ وَ آثَارُ النُّبُوَّةِ- وَ مِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ وَ إِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ- هَلَكَ مَنِ ادَّعَى وَ خابَ مَنِ افْتَرى‏- مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ- لَا يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ- وَ لَا يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ- فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ- وَ التَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ- وَ لَا يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلَّا رَبَّهُ وَ لَا يَلُمْ لَائِمٌ إِلَّا نَفْسَهُ أقول: قد عرفت كون هذا الفصل من الخطبة الّتي ذكرناها،

اللغة

و الجادّة معظم الطريق، و الصفحة الجانب، و السنخ الأصل، و ذات البين حقيقته، و الخيبة عدم حصول المطلوب.

المعنى

و اعلم أنّ تقدير القضيّة الاولى أنّ من كانت النار و الجنّة أمامه فقد جعل له بهما شغل يكفيه عن كلّ ما عداه فيجب عليه أن لا يشتغل إلّا به، و أشار بذلك الشغل إلى ما يكون وسيلة إلي الفوز بالجنّة و النجاة من النار ممّا نطقت به الكتب المنزلة و حثّ على لزومه الرسل، و أشار بكون الجنّة و النار أمامه إلى أحد أمرين:

أحدهما أن يكون المراد كون الجنّة و النار ملاحظتين له متذكّرا لهما مدّة وقته فهما أمامه و نصب خياله و من كان كذلك فهو في شغل بهما عن غيرهما.

الثاني أن يكون كونهما أمامه أي أنّه لمّا كان الإنسان من مبدء عمره إلى منتهاه مسافرا إلى اللّه تعالى فهو في انقطاع سفره لا بدّ و أن ينتهى إمّا إلى الجنّة أو إلى النار فكانتا أمامه في ذلك السفر و غايتين يؤمّهما الإنسان و ينتهي إليهما و من كان أبدا في السفر إلى غاية معيّنة فكيف يليق به أن يشتغل بغير مهمّات تلك الغاية و الوسيلة إليهما،

و إنّما قال شغل بالبناء للمفعول لأنّ المقصود هاهنا ليس إلّا ذكر الشغل أو لأنّه لمّا كان الشاغل هو اللّه تعالى بإيجاد الجنّة و النار و الترغيب في إحداهما و الترهيب من الاخرى كان ترك ذكره للتعظيم و الإجلال أو لظهوره ثمّ أنّه لمّا نبّه على وجوب الاشتغال بالجنّة و النار عن غيرهما قسّم الناس بالنسبة إلى ذلك الاشتغال إلى ثلاثة أقسام و ذلك قوله ساع سريع نجا، و طالب بطى‏ء رجا، و مقصّر في النار هوى، و وجه الحصر في هذه القسمة أنّ الناس بعد الأنبياء عليهم السّلام إما طالبون للّه أو تاركون و الطالبون إمّا بغاية جدّهم و اجتهادهم و بذل وسعهم و طاقتهم في الوصول إلى رضوانه أو بالبطؤ و التأنّي فهذه ثلاثةأقسام لا مزيد عليها و إن كان قسما الطالبين على مراتب و درجات متفاوتة،

و القسم الأوّل هم الفائزون بقصب السبق و الناجون من عذاب النار كما قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» و هذا القسم يشمل الأنبياء لولا إفرازه لهم في قسم رابع إذ قسّم الخلق في الخطبة إلى خمسة أقسام، و الثالث المقصّر الّذي وقف به الشيطان حيث أراد آخذا بحجزته عن سلوك سبيل اللّه قاذفا به في موارد الهلاك و منازل الشقاء، و ظاهر أنّه في النار «فأمّا الّذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلّا ما شاء ربّك إن ربّك فعّال لما يريد»

أمّا القسم الثاني فذو وصفين يتجاذبانه من جهتي السفالة و العلوّ فطلب الجنّة إلى جهة بحركته و سلوكه إلى اللّه و إن ضعف جاذب له إلى جهة العلوّ، و يد الشيطان جاذبة إلى جهة السفالة إلّا أنّ رجاه لعفو اللّه و نظره إليه بعين رحمته إذا انضاف إلى حركته البطيئة كانت السلامة عليه أغلب وجهة العلوّ منه أقرب، و ينبغي أن نشير إلى حقيقة الرجاء ليتّضح ما قلناه، فنقول: الرجاء هو ارتياح النفس لانتظار ما هو محبوب عندها فهو حالة لها تصدر عن علم، و تقتضي عملا بيان ذلك أنّ ما يتصوره النفس من محبوب أو مكروه فإمّا أن يكون موجودا في الماضي أو في الحال أو يوجد في الاستقبال، و الأوّل يسمّى ذكرا و تذكيرا، و الثاني يسمّى وجدا لوجدان النفس له في الحال، و الثالث و هو أن يغلب على ظنّك وجود شي‏ء في الاستقبال لنفسك به تعلّق فسمّى ذلك انتظارا و توقّعا فإن كان مكروها حدث منه في القلب تألّم يسمّى خوفا و إن كان محبوبا حصل من انتظاره و تعلّق القلب به لذّة للنفس و ارتياح بإخطار وجوده بالبال يسمّى ذلك الارتياح رجاء و لكن ذلك المتوقّع لا بدّ و أن يكون لسبب فإن كان توقّعه لأجل حصول أكثر أسبابه فاسم الرجاء صادق عليه، و إن كان انتظاره مع العلم بانتفاء أسبابه فاسم الغرور و الحمق عليه أصدق، و إن كانت أسبابه غير معلومة الوجود و لا الانتفاء فاسم التمنّى أصدق على انتظاره.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ أرباب العرفان قد علموا أنّ الدنيا مزرعة الآخرة فالنفس هي الأرض و بذرها حبّ المعارف الإلهيّة، و سائر أنواع الطاعات جارية مجرى إصلاح هذه الأرض من تقليبها و إعدادها للزراعة، و سياقة الماء إليها، و النفس المستغرقة بحبّ الدنيا و الميل إليها كالأرض السبخة الّتي لا تقبل الزرع و الإنبات لمخالطة الأجزاء الملحيّة، و يوم القيامة يوم الحصاد إلّا من زرع. و لا زرع إلّا من بذر، و كما لا ينفع الزرع في أرض سبخة كذلك لا ينفع إيمان مع خبث النفس و سوء الأخلاق، فينبغي أن يقاس رجاء العبد لرضوان اللّه برجاء صاحب الزرع، و كما أنّ من طلب أرضا طيّبة، و بذرها في وقت الزراعة بذرا غير متعفّن و لا يتكاهل ثمّ أمدّه بالماء العذب و سائر ما يحتاج إليه في أوقاته ثمّ طهّره عن مخالفة ما يمنع نباته من شوك و نحوه ثم انتظر من فضل اللّه رفع الصواعق و الآفات المفسدة إلى تمام زرعه و بلوغ زرعه غايته، كان ذلك رجاء في موضعه و استحقّ اسم الرجاء إذ كان في مظنّة أن يفوز بمقاصده من ذلك الزرع، و من بذر في أرض كذلك إلّا أنّه بذر في اخريات الناس و لم يبادر إليه في أوّل وقته أو قصّر في بعض أسبابه ثمّ أخذ ينتظر ثمرة ذلك الزرع و يرجو اللّه في سلامته له فهو من جملة الراجين أيضا، و من لم يحصل على بذر أو بذر في أرض سبخة أو ذات شاغل من الإنبات ثمّ أخذ ينتظر الحصاد فذلك الانتظار حمق. فكان اسم الرجاء إنّما يصدق على انتظار ما حصل جميع أسبابه أو أكثرها الداخلة تحت اختيار العبد و لم يبق إلّا ما لا يدخل تحت اختياره و هو فضل اللّه تعالى بصرف القواطع و المفسدات، كذلك حال العبد إن بذر المعارف الإلهيّة في أرض نفسه في وقته و هو مقتبل العمر و مبتدأ التكليف، و دام على سقيه بالطاعات و اجتهد في طهارة نفسه عن شوك الأخلاق الرديئة الّتي تمنع نماء العلم و زيادة الإيمان و انتظر من فضل اللّه تعالى أن يثبته على ذلك إلى زمان وصوله و حصاد عمله فذلك الانتظار هو الرجاء المحمود و هو درجة السابقين، و إن ألقى بذر الايمان في نفسه لكنّه قصّر في بعض أسبابه إمّا ببطؤه في البذر أو في السقي إلى غير ذلك ممّا يوجب ضعفه ثمّ أخذ ينتظر وقت الحصاد و يتوقّع من فضل اللّه تعالى أن يبارك له فيه و يعتمد على أنّه هو الرزّاق ذو القوّة المتين فيصدق عليه أيضا أنّه راج إذ أكثر أسباب المطلوب الّتي من جهته حاصلة و هذه درجة القسم الثاني و هو الطالب الراجى البطى‏ء، و إن لم يزرع من قواعد الإيمان في نفسه شيئا أصلا أو زرع و لم يسقه بماء الطاعة أو ترك نفسه مشغولة بشوك الأخلاق الرديئة و انهمك في طلب آفات الدنيا ثمّ انتظر المغفرة و الفضل من اللّه فذلك الانتظار غرور و ليس برجاء في الحقيقة و ذلك هو القسم الثالث و هو المقصّر في أسباب الزراعة و تحصيل‏ زاد الآخرة الهالك أسفا يوم الحسرة و الندامة يقول «يا ليتني قدّمت لحياتي فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد و لا يوثق وثاقة أحد»«» و في المعنى ما قيل:

إذا أنت لم تزرع و عاينت حاصدا ندمت على التفريط في زمن البذر.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: الأحمق من اتّبع نفسه هواها و تمنّى على اللّه. و قال «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى‏ وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا» و إنّما خصّص عليه السّلام القسم الثاني بالرجاء إذ كان كما علمت عمدته لضعف عمله و قلّة الأسباب من جهته، و إلى هذه الأقسام الثلاثة أشار القرآن الكريم بقوله «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»«» و إن اختلفت مبدء الرتبتين.

قوله اليمين و الشمال مضلّة و الطريق الوسطى هي الجادّة. لمّا قسّم الناس إلى سابقين و لا حقين و مقصّرين أشار لهم إلى الطريق الّتي أخذ اللّه عليهم سلوكها و نصب لهم عليها أعلام الهدى ليصلوا بها إلى جناب عزّته سالمين عن تخطّفات الشياطين، و ميّزها عن طريق الضلال.

و لمّا علمت أنّ طريق السالكين إلى اللّه إمّا العلم أو العمل، فالعلم طريق القوّة النظريّة، و العمل طريق القوّة العمليّة و كلّ منهما محتو برذيلتين هما طرفا التفريط و الإفراط كما علمته و الوسط منهما هو العدل و الطريق الوسطى و هي الجادّة الواضحة لمن اهتدى و هي الّتي عليها ما في الكتاب الإلهيّ من المقاصد الحكميّة عليها آثار النبوّة و منفذ السنّة أي طريقها و مبدءها الّذي منه تخرج و إليها مصير عاقبة الخلق في الدنيا و الآخرة فإنّ من العدل بدأت السنّة و انتشرت في الخلق، و إليه مرجع امورهم أمّا في الدنيا فلأنّ نظام امورهم في حركاتهم و سكناتهم مبنّى عليه في القوانين الشرعيّة و إلى تلك القوانين و القواعد ترد عواقب امورهم و عليها يحملون، و أمّا في الآخرة فبالنسبة إليه يتبيّن خسران الخاسرين و فوز الفائزين فتحكم لمن سلك و تمسّك به أوقات سفره إلى اللّه بجنّات النعيم و لمن انحرف عنه و تجاوزه بالعذاب الأليم في نار الجحيم و كلّ واحد من طرفي الإفراط و التفريط بالنسبة إليه هو المراد باليمين و الشمال من ذلك الوسط و هما طريقا المضلّة لمن عدل إليهما، و مورد الهلاك لمن سلكهما.

قوله هلك من ادّعى و خاب من افترى يحتمل أن يكون القضيّتان دعاء، و يحتمل أن يكون إخبارا أي هلك من ادّعى ما ليس له أهلا و عنى الهلاك الاخروى، و خاب من كذب أي لن يحصل مطلوبه إذا جعل الكذب وسيلة إليه، و أعلم أنّ الدعوى إمّا أن يكون مطابقة لما في نفس الأمر أو ليس كذلك، و الثانية محرّمة مطلقا، و أمّا الاولى فإمّا أن يدعو إليها حاجة أو ليس، و القسم الأوّل هو المباح فقط دون الثاني، و إنّما حرم هذان القسمان أمّا الأوّل و هي الدعوى غير المطابقة فلأنّها تصدر عن ملكة الكذب تارة و عن الجهل المركّب تارة كالجهل بالأمر المدّعى لحصوله عن شبهه رسخت في ذهنه و كلاهما من أكبر الرذائل و أعظم المهلكات في الآخرة، و أمّا الثانية و هي المطابقة لا عن حاجة فلأنّها تكاد لا تصدر عن الإنسان إلّا عن رذيلة العجب و ستعلم أنّه من المهلكات.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، و هوى متّبع، و إعجاب المرء بنفسه. و أمّا خيبة المفترى فلأنّ الفرية اختلاف ما ليس بحقّ و ظاهر أنّ الكذب لا ثمرة له أمّا في الآخرة فظاهر و أمّا في الدنيا فقد يكون و قد لا يكون و إن كانت ففي معرض الزوال و مستلزمة لسخط اللّه فهي بمنزلة ما لم يكن و صاحبها أشدّ خيبة من عادمها و طالب الأمر بالفرية على كلّ تقدير خاسر خائب.

قال بعض الشارحين: أراد هلك من ادّعى الإمامة من غير استحقاق، و خاب عن افترى في دعواه لها لأنّ كلامه في هذه الخطبة كثيرا ما يعرض فيه بأمر الإمامة. قوله من أبدى صفحته للحقّ هلك [عند جملة (جهلة خ) الناس‏] و كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره. تنبيه على أنّ المتجرّد لإظهار الحقّ في مقابلة كلّ باطل ورد من الجهال، و حملهم على مرّ الحقّ و صعبه في كلّ وقت يكون في معرض الهلاك بأيديهم و ألسنتهم إذ لا يعدّ منهم من بوليه المكروه و يسعى في دمه، ثمّ أراد التنبيه على الجهل فذكر أدنى مراتبه و نبّه بها على أنّ أقلّ الجهل كاف في الرذيلة فكيف بكثيره و ذلك قوله و كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره و أراد مرتبته في الناس و عدم تصوّره لدرجة نفسه و منزلتها بالنسبة إلى آحادهم و كفى بهذا القدر مهلكا فإنّه منشأ كثير من الرذائل المهلكة كالكبر و العجب و قول الباطل و ادّعاء الكمال للناقصين و تعدّى الطور في أكثر الأحوال كما قال عليه السّلام في موضع آخر، رحم اللّه امرء عرف قدره و لم يتعدّ طوره، و في هذه الكلمة تنفير للسامعين عن الجهل بقدر ما يتصوّرونه من وجوب التجرّد للحقّ و نصرته، و ربّما يستفهم منها تعليم كيفيّة استجلاب طباع الجهّال و تأنيسهم و هو أنّهم لا ينبغي أن يقابلوا بالحقّ دفعة و يتجرّد في مقابلتهم به على كلّ وجه فإنّ ذلك ممّا يوحب نفارهم و عدم نظام أحوالهم بل ينبغي أن يؤنسوا به على التدريج قليلا قليلا. و ربّما لم يكن تأنيسهم بالحقّ في بعض الامور إمّا لغموض الحقّ بالنسبة إلى أفهامهم أو لقوّة اعتقادهم الباطل في مقابلته فينخدعوا عن ذلك بالحقّ في صورة الباطل و ظاهره و ذلك كما ورد في القرآن الكريم و السنن النبويّة من صفات التجسيم و ما لا يجوز أن يحمل على ظاهره في حقّ الصانع الحكيم فإنّ حمله على ظاهره كما يتصوّره جهّال الناس أمر باطل لكنّه لمّا كان سبب إيناسهم و جمع قلوبهم على اعتقاد الصانع و به نظام امورهم ورد الشرع به. قوله لا يهلك على التقوى سنخ أصل و لا يظمأ عليها زرع قوم. تنبيه على لزوم التقوى باعتبارين: أحدهما أنّ كلّ أصلل بنى على التقوى فمحال أن يهلك و يلحق بانيه خسران كما قال تعالى «أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ تَقْوى‏ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ شَفا جُرُفٍ هارٍ»«» الثاني أنّ من زرع زرعا اخرويّا كالمعارف الإلهيّة في أرض نفسه مثلا أو دنيويّا كالأعمال الّتي بها تقوم مصالح الإنسان في الدنيا و سقاها ماء التقوى و جعله مادّتها فإنّه لا يلحق ذلك الزرع ظمأ بل عليه ينشأ بأقوى ساق و أزكى ثمرة، و استعمال الزرع و الأصل كناية عمّا ذكرناه. قوله فاستتروا ببيوتكم و أصلحوا ذات بينكم و التوبة من ورائكم. قد عرفت أنّ هذا الفصل مقدّم في الخطبة على قوله من أبدى صفحته للحقّ هلك، و هو مسبوق بالتهديد و وارد في معرضه و هو قوله ألا و إنّ اللّه قد جعل أدب هذه الامّة السوط و السيف ليس عند إمام فيهما هوادة أي مصالحة و سكون فاستتروا ببيوتكم و هو حسم لمادّة الفتنة بينهم بلزوم البيوت عن الاجتماع للمنافرات و المفاخرات و المشاجرات، و لذلك أردفه بقوله و أصلحوا ذات بينكم فإنّ قطع مادّة الفتنة سبب لإصلاح ذات البين قوله و التوبة من ورائكم تنبيه للعصاة على الرجوع إلى التوبة عن الجري في ميدان المعصية و اقتفاء أثر الشيطان و كونها وراء لأنّ الجواذب الإلهيّة إذا أخذت بقلب العبد فجذبته عن المعصية حتّى أعرض عنها و التفت بوجه نفسه. إلى ما كان معرضا عنه من الندم على المعصية و التوجّه إلى القبلة الحقيقيّة فإنّه يصدق عليه إذن أنّ التوبة ورائه أي وراء عقليّا و هو أولى من قول من قال من المفسّرين إنّ ورائكم بمعنى أمامكم. قوله و لا يحمد حامد إلّا ربّه و لا يعلم لائم إلّا نفسه.

تأديب لهم بالتنبيه على قصر الحمد و الثناء على اللّه دون غيره و أنّه مبدء كلّ نعمة يستحقّ بها الحمد كما سبقت إليه الإشارة، و على قصر اللائمة على النفس عند انحرافها عن جهة القبلة الحقيقيّة إلى متابعة إبليس و قبولها لدعوته من غير سلطان، و إلى أصل هاتين الكلمتين أشار القرآن الكريم «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»«» فكلّ حسنة أصابت العبد من ربّه فهي مبدء لحمده و شكره، و كلّ سيّئة أصابته من نفسه فهو مبدء للائمّة نفسه، فأمّا قول السيّد- رحمه اللّه- إنّ في الكلام من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان إلى آخره، فالإحسان مصدر قولك أحسن الرجل إحسانا إذا فعل فعلا حسنا و مواقع الإحسان محاسن الكلام الّتي أجاد فيها و أحسن و مواقع الاستحسان إمّا سائر محاسن كلام العرب أي أنّ شيئا من محاسن كلام العرب و ما يقع عليه الاستحسان منها لا يوازي هذا الكلام و لا يبلغه، أو يشير بمواقع الاستحسان إلى الفكر من الناس فإنّها محالّ الاستحسان أيضا إذ الاستحسان من صفات المستحسن أي أنّ الفكر لا يصل إلى محاسن هذا الكلام، و قوله و إنّ حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به يريد أنّ تعجّب الفصحاء من حسنه و بدائعه أكثر من عجبهم باستخراج محاسنه و ذلك لأنّ فيه من المحاسن وراء ما يمكنهم التعبير عنها امور كثيرة فهم يجدونها من أنفسهم و إن لم يمكنهم التعبير عنها فيكون تعجبّهم من محاسنه أكثر من إعجابهم من أنفسهم بما يقدرون على استخراجه منها. أو اريد بأكثر من عجبهم به أي أكثر من محبّتهم له و ميلهم إليه، و باقي كلامه ظاهر و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 297

خطبه14شرح ابن میثم بحرانی

– و من كلام له عليه السّلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان

وَ اللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَ مُلِكَ بِهِ الْإِمَاءُ- لَرَدَدْتُهُ- فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً- وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ

أقول: هذا الفصل مع فصول بعده من خطبة خطبها بالمدينة لمّا قتل عثمان و بويع له، و قد ورد هنا بزيادة و نقصان، و أوّل هذا الفصل من الخطبة ألا و إنّ كلّ قطيعة قطعها عثمان أو مال أخذه من بيت مال المسلمين فمردود عليهم في بيت مالهم، و لو وجدته قد تزوّج به النساء و فرّق في البلدان فإنّه إن لم يسعه الحقّ فالباطل أضيق عنه. و سنورد الخطبة بتمامها في أحد الفصول الّتي يجي‏ء منها إنشاء اللّه تعالى، و أعلم أنّه أشار إلى العزم الجازم المؤكّد بالقسم على ردّ القطائع الّتي كان عثمان أقطعها أقاربه ثمّ نبّه المقتطعين بقوله فإنّ في العدل سعة ألا إنّ عدل اللّه يسعهم في ردّ ما اقتطعوه، و كنّى بسعته عن اقتضاء أمر العدل ردّ ذلك و غيره من المظالم فعليهم أن يدخلوا في مقتضى أوامر اللّه و عدله، فإنّ فيه سعة لهم إذ به نظام العالم بأسره و هو محلّ لرضا المظلوم بإيصال حقّه إليه و لرضا الظالم لعلمه بأنّه عند الانتزاع منه أخذ لما ليس له، و تأكّد ذلك العلم بالوعيد الصادق فهو و إن قام شيطانه حال انتزاع الظلامة و ضاق عليه العدل فهو في محلّ الرضا فإن لم يرض لضيق العدل عليه فالجور عليه أضيق في الدنيا و الآخرة لأنّه ربّما انتزعت منه قهرا و كان جوره سببا للتضييق عليه في ذلك، و لأنّ الأوامر و النواهي الإلهيّة محيطة به سادّة عليه وجوه التصرّف الباطل، و لأنّه إذا نزل عليه عدل اعتقد أنّه قد اخذ منه ما ينبغي أخذه منه و إذا نزل عليه جور اعتقد أنّه اخد منه ما لا ينبغي أخذه، و لا شكّ أنّ أخذ ما لا ينبغي أخذه أصعب على النفس و أضيق من أخذ ما ينبغي و هو أمر وجدانيّ، و المعنى في الألفاظ الّتي أوردناها من الخطبة قريب ممّا ذكرناه هاهنا غير أنّ الضمائر في قوله فإنّه‏ إن لم يسعه تعود إلى المال، و اعلم أنّه قد كان عثمان أقطع جماعة من بني اميّة و غيرهم من أصحابه كثيرا من أرض بيت المال، و كذلك فعل عمر ذلك مع قوم لهم وقائع مشهور، في الجهاد في سبيل اللّه و ترغيبا في الجهاد، لكن لمّا اختلف غرضا الإمامين لم يردّ عليّ عليه السّلام إلّا ما أقطعه عثمان، و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 295

خطبه13شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام في ذم أهل البصرة

القسم الأول

كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ وَ أَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ- رَغَا فَأَجَبْتُمْ وَ عُقِرَ فَهَرَبْتُمْ- أَخْلَاقُكُمْ دِقَاقٌ وَ عَهْدُكُمْ شِقَاقٌ- وَ دِينُكُمْ نِفَاقٌ وَ مَاؤُكُمْ زُعَاقٌ- وَ الْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ- وَ الشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ- كَأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ- قَدْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا وَ مِنْ تَحْتِهَا- وَ غَرِقَ مَنْ فِي ضِمْنِهَا وَ فِي رِوَايَةٍ وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ- حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ- أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ وَ فِي رِوَايَةٍ كَجُؤْجُؤِ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ-

كأنّي أنظر إلى قريتكم هذه و قد طبّقها الماء حتّى ما يرى منها إلّا شرف المسجد كأنّه جؤجؤ طير في لجّة بحر فقام إليه الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين متى ذاك فقال إذا صارت أجمتكم قصورا، و اعلم أنّ بعد هذا الفصل من الخطبة فصول لا تعلّق لها بهذا الموضع و ربّما تعلّقت بفصول أوردها السيّد بعد هذا الفصل و سنذكرها معها إنشاء اللّه.

اللغة

أصل البصرة الحجارة البيض الرخوة، و صارت علما للبلدة لوجدان تلك الحجارة بها. قيل إنّها بالمربد كثيرة، و ائتفكت البلدة بأهلها انقلبت بهم، و المؤتفكة من الأسماء القديمة للبصرة كما سنذكره في تمام هذه الخطبة، و الرغا صوت الإبل خاصّة، و العقر الجرح، و الدّق من كلّ شي‏ء حقيره و صغيره، و الشقاق الخلاف و الافتراق، و النفاق الخروج من الإيمان بالقلب و أصله أنّ اليربوع يرقق موضعا من الأرض من داخل جحره فإذا اوتى من قبل بابه و هو القاصعاء ضرب ذلك الموضع برأسه فاتفق أي خرج، و يسمّى ذلك النافقاء فاشتقّ لفظ النفاق منه و الرغاق المالح، و طبّقها الماء أي عمّا و أتى على جميعها و جؤجؤ السفينة صدرها و كذلك الطائر،

المعنى

و اعلم أنّه عليه السّلام ذكر في معرض ذمّهم امورا نبّه فيها على وجوه ارتكابهم الزلل،

أوّلها كونهم أهل المؤتفكة ائتفكت أهلها ثلاثا و معلوم أنّه ائتفاك البلد بأهلها و خسفها بهم إنّما يكون لفسادهم و استحقاقهم بذلك عذاب اللّه، و قوله و على اللّه تمام الرابعة دعاء عليهم بايقاع الخسف بهم.

الثاني كونهم جند المرأة و أراد عايشة فإنّهم جعلوها عقد نظامهم، و لمّا كانت قول النساء و آراؤهنّ امورا مذمومة بين العرب و سائر العقلاء لضعف آرائهنّ و نقصان عقولهنّ كما قال الرسول صلى اللّه عليه و آله: إنّهنّ ناقصات العقول ناقصات الدين ناقصات الحظّ أمّا نقصان عقولهنّ فلأنّ شهادة ثنتين منهنّ بشهادة رجل واحد لتذكّر إحداهما الاخرى، و أمّا نقصان دينهنّ فلأنّ إحديهنّ تقعد في بيتها شطرد هرها أي في أيّام حيضها لا تصوم و لا تصلّى، و أمّا نقصان حظّهنّ فلأنّ ميراثهنّ على النصف من ميراث الرجال، و كان مع ذلك مستشيرهنّ و بايعهنّ أضعف رأيا منهنّ كما هو شأن التابع بالنسبة إلى متبوعه لا جرم حسن توبيخه لهم بكونهم جندا و أعوانا.

الثالث كونهم اتباع البهيمة و أراد بالبهيمة الجمل الّذي كان تحت عايشة فإنّ حالهم شاهدة باتّباعه مجيبين لرغائه و هاربين لعقره، و هو أشنع من الأوّل و أدخل في الذمّ، و كنّى برغائه عن دعوتها لهم إلى القتال إذ قدمت‏ عليهم راكبة له.

الرابع دقّة أخلاقهم و أشار بها إلى كونهم على رذائل الأخلاق دون حاقّ الوسط، و لمّا كانت اصول الفضائل الخلقيّة كما علمت ثلاثة: الحكمة و العفّة و الشجاعة و كانوا على طرف الجهل بوجوه الأراء المصلحيّة و هو طرف التفريط من الحكمة العمليّة و على طرف الجبن و هو طرف التفريط من الشجاعة، و على طرف الفجور و هو طرف الإفراط من ملكة العفّة و العدالة لا جرم صدق أنّهم على رذائل الأخلاق و دقاقها.

الخامس الشقاق في العهود و النكث لها و مصداق ذلك نكثهم لعهده و خلافهم لبيعته و ذلك من الغدر الّذي هو رذيلة بإزاء ملكة الوفاء.

السادس النفاق في الدين، و لمّا كانوا خارجين على الإمام العادل محاربين له لا جرم كانوا خارجين عن الدين، و ربّما كان ذلك خطابا خاصّا لبعضهم إذا المنافق العرفي هو الخارج من الإسلام بقلبه المظهر له بلسانه فيكون ذلك خطابا لمن كان منهم بهذه الصفة.

السابع ما يتعلّق بذمّ بلدهم و هو كون مائهم مالحا و سبب ملوحته قربه من البحر و امتزاجه به، و دخول ذلك في معرض ذمّهم ربّما يكون لسوء اختيارهم ذلك المكان و الإقامة به مع كون مائهم بهذه الحال المستلزمة لأمراض كثيرة في استعماله كسوء المزاج و البلادة و فساد الطحال و الحكّة و غير ذلك ممّا يذكره الأطبّاء، و لأنّ ذلك من أسباب التنفير عن المقام معهم و تكثير سوادهم.

الثامن كونها أنتن البلاد تربة و ذلك لكثرة ركوب الماء لها و تعفّنها به.

التاسع كونها أبعد البلاد عن السماء و سيجي‏ء بيانه.

العاشر كونها بها تسعة أعشار الشرّ و يحتمل أن يريد به المبالغة في ذمّها دون الحصر و ذلك أنّه لمّا عدّد بها شرورا لا يكاد تجتمع في غيرها حكم بأنّ فيها تسعة أعشار الشرّ مبالغة كنّى به عن معظم الشرّ، و يحتمل أن يريد بالشرّ مجموع الرذائل الخلقيّة المقابلة لاصول الفضائل النفسانيّة الّتي هي العلم و الشجاعة و العفّة و السخاء و العدل و كلّ منها مقابل برذيلتين كما علمت فتلك عشر رذائل، و أشبه ما يخرج عنهم ما لا يناسب غرضه هاهنا ذمّهم به كالتبذير أو نحوه و هذا الاحتمال و إن كان لطيفا إلّا أنّ فيه بعدا.

الحادي عشر كون المقيم بين أظهرهم مرتهنا بذنبه و ذلك أنّ المقيم بينهم لا بدّ و أن ينخرط في سلكهم و يستعدّ لقبول مثل طباعهم و ينفعل عن رذائل أخلافهم و حينئذ يكون موثوقا بذنوبه.

الثاني عشر كون الشاخص عنهم متداركا برحمة من ربّه و ذلك لإعانة اللّه له‏ بالخروج ليسلم من الذنوب الّتي يكتسبها المقيم بينهم و تلك رحمة من اللّه و أيّة رحمة، و كلّ ذلك في معرض التنفير عنهم، و المفهوم من الرواية الثانية و هي قوله المحتبس فيها بذنبه و الخارج منها بعفو اللّه غير ما ذكرناه إذ يفهم من قوله المحتبس فيها بذنبه أنّ احتباسة بينهم يجري مجرى العقوبة له بدنب سبق، منه و الخارج منها قد عفا اللّه عنه بخروجه، و قد راعى في هاتين القرينتين السجع المتوازي و كذلك في القرائن الأربع قبلهما. ثمّ أشار بعد ذلك إلى أنّ بلدتهم سيخربها الماء، و شبّه يقينه بذلك مشاهدته بنور بصيرته القدسيّة لمسجدهم مغمورا بالماء و قد طبّق أرضهم بمشاهدته الحسيّة في الجلاء و الظهور. و قد حكى توقيف الرسول صلى اللّه عليه و آله على أحوالهم في فصل آخر من هذه الخطبة و ذلك أنّه عقيب ذمّه لأهل البصرة و جوابه للأحنف في الفصل الّذي ذكرناه قال مادحا لهم يا أهل البصرة إنّ اللّه لم يجعل لأحد من أمصار المسلمين خطّة شرف و لا كرم إلّا و قد جعل فيكم أفضل ذلك و زادكم من فضله بمنّه ما ليس لهم أنتم أقوم الناس قبلة قبلتكم عن المقام حيث يقوم الإمام بمكّة، و قاريكم أقرء الناس، و زاهدكم أزهد الناس، و عابدكم أعبد الناس، و تاجركم أتجر الناس و أصدقهم في تجارته، و مصدّقكم أكرم الناس صدقه، و غنيّكم أشدّ الناس بدلا و تواضعا، و شريفكم أحسن الناس خلقا، و أنتم أكرم الناس جوارا و أقلّهم تكلّفا لما لا يعنيه و أحرصهم على الصلاة في جماعة، ثمرتكم أكثر الثمار و أموالكم أكثر الأموال و صغاركم أكيس الأولاد و نساؤكم أقنع النساء و أحسنهنّ تبعّلا، سخّر لكم الماء يغدو عليكم و يروح صلاحا لمعاشكم و البحر سببا لكثرة أموالكم فلو صبرتم و استقمتم لكانت شجرة طوبى لكم مقيلا و ظلّا ظليلا غير أنّ حكم اللّه فيكم ماض و قضائه نافذ لا معقّب لحكمه و هو سريع الحساب يقول اللّه «وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً»«»

و اقسم لكم يا أهل البصرة ما الّذي ابتدأتكم به من التوبيخ إلّا تذكيرا و موعظة لما بعد لكيلا تسرعوا إلى الوثوب في مثل الّذي و ثبتم و قد قال اللّه تعالى لنبيّه صلى اللّه عليه و آله «وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى‏ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ»«» و لا الّذي ذكرت فيكم من المدح و النظرية بعد التذكير و الموعظة رهبة منّي لكم و لا رغبة في شي‏ء ممّا قبلكم فإنّي لا اريد المقام بين أظهركم إنشاء اللّه لامور تحضرني قد يلزمني القيام بها فيما بيني و بين اللّه لا عذر لي في تركها و لا علم لكم بشي‏ء منها حتّى بقع ممّا اريد أن أخوضها مقبلا و مدبرا فمن أراد أن يأخذ بنصيبه منها فليفعل فلعمري إنّه للجهاد الصافي صفّاه لنا كتاب اللّه، و لا الّذي أردت به من ذكر بلادكم موجدة منّي عليكم لما شافهتموني غير أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال لي يوما و ليس معه غيري: يا عليّ إنّ جبرئيل الروح الأمين حملني على منكبه الأيمن حتّى أراني الأرض و من عليها و أعطاني أقاليدها و علّمني ما فيها و ما قد كان على ظهيرها و ما يكون إلى يوم القيامة و لم يكبّر ذلك عليّ كما لم يكبّر على أبي آدم علّمه الأسماء و لم يعلّمه الملائكة المقرّبون و إنّي رأيت بقعة على شاطى‏ء البحر تسمّى البصرة فإذن هي أبعد الأرض من السماء و أقربها من الماء و أنّها لأسرع الأرض خرابا و أخبثها ترابا و أشدّها عذابا، و لقد خسف بها في القرون الخالية مرارا و ليأتين عليها زمان، و إنّ لكم يا أهل البصرة و ما حولكم من القرى من الماء ليوما عظيما بلاؤه، و إنّي لأعرف موضع منفجره من قريتكم هذه ثمّ امور قبل ذلك تدهمكم عظيمة أخفيت عنكم و علمناها فمن خرج عنها عند دنوّ غرقها فبرحمة من اللّه سبقت له و من بقى فيها غير مرابط بها فبذنبه «و ما اللّه بظلّام للعبيد»، و أمّا تشبيه ما يخرج من الماء من شرفات المسجد بصدر السفينة و في الرواية الاخرى بالنعامة الجاثمة و في الرواية الثالثة بالطائر في لجّة البحر فتشبيهات ظاهرة، و أمّا وقوع ذلك الغرق المخبر فالمنقول أنّها غرقت مرّة في أيّام القادر باللّه، و مرّة في أيّام القائم بأمر اللّه غرقت بأجمعها و غرق من في ضمنها و خربت مع دورها و لم يبق منها إلّا علوّ مسجدها الجامع حسب ما أخبر به عليه السّلام و كان غرقها من قبل بحر فارس و من ناحية الجبل المعروف بجبل الشام، فكان ذلك مصداق كلامه عليه السّلام، و في ذلك نظر و ذلك لأنّه أشار إلى أنّ ذلك الماء ينفجر من أرضهم بقوله: و إنّي لأعرف موضع منفجره من قريتكم هذه، و ظاهر ذلك يقتضي أنّه لا يكون من ناحية اخرى و اللّه أعلم.

القسم الثاني

أَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَاءِ بَعِيدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ- خَفَّتْ عُقُولُكُمْ وَ سَفِهَتْ حُلُومُكُمْ- فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ وَ أُكْلَةٌ لِآكِلٍ وَ فَرِيسَةٌ لِصَائِلٍ

اللغة

أقول: السفه رذيلة تقابل الحلم و تعود إلى الطيش و عدم الثبات، و الاكلة اسم للمأكول،

المعنى

و قد علمت أنّ قوله أرضكم قريبة من الماء بعيدة من السماء ممّا حكاه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في الفصل المتقدّم أمّا قرب أرضهم من الماء فإشارة إلى أنّها موضع‏ها بط مستقل من الأرض و قريب من البحر فهو بصدد أن يعلوها بملاقاه دجلة و ذلك مشاهد في دخول الماء حدائقهم و سقيه بساتينهم في كلّ يوم مرّة أو مرّتين، أمّا كونها بعيدة من السماء فبحسب استفالها عن غيرها من الأرض، و قيل إنّ من أبعد موضع في الأرض عن السماء الابلّة، و أنّ ذلك مما دلّت عليه الأرصاد و برهن عليه أصحاب علم الهيئة، و قال بعضهم: إنّ كون ذلك في معرض الذّم يصرفه عن مظاهره و إنّما الإشارة إلى أنّهم لمّا كانوا بالأوصاف المذمومة الّتي عددها فيهم كانوا بعداء عن نزول الرحمة عليهم من سماء الجود الإلهيّ مستعدّين لنزول العذاب، و يصدق في العرف أن يقال فلان بعيد من السماء إذا كان كما ذكرناه، قوله خفّت عقولكم إشارة إلى قلّة استعدادهم لدرك وجوه المصالح و ضعف عقولهم عن تدبير أحوالهم و تسرّعهم إلى مالا ينبغي لغفلتهم عمّا ينبغي و هو وصف لهم برذيلة الغباوة، قوله و سفهت حلومكم إشارة إلى وصفهم برذيلة السفه و الخفّة المقابلة للحلم،

قوله فأنتم غرض لنابل و اكلة لآكل و فريسة لصائل هذه الأوصاف الثلاثة لازمة عن خفّة عقولهم و سفه حلومهم و لذلك عقّبها بها لأنّ طمع القاصد لهم بأنواع الأذى إنّما ينشأ من العلم بقلّة عقليّتهم لوجوه المصالح و سفههم فيقصدهم بحسن تدبيره، و الأوّل من هذه الأوصاف كناية عن كونهم مقصدا لمن يريد أذاهم، و الثاني كناية عن كونهم في معرض أن يطمع في أموالهم و نعمتهم و يأكلها من يقصد أكلها، و الثالث عن كونهم بصدد أن يفترسهم من يقصد قتلهم و إهلاكهم، و استعار لفظ الغرض و الاكلة و الفريسة لهم، و وجوه المشابهة فيها ظاهرة. و قد راعى في هذه القرائن السجع ففي الاوليين السجع المطرّف و في الاخريين بعدهما و الثلاث السجع المتوازي.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 290

خطبه12شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

لما أظفره اللّه بأصحاب الجمل، و قد قال له بعض أصحابه: وددت أن أخى فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك فَقَالَ لَهُ ع

أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا فَقَالَ نَعَمْ- قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا- وَ لَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ- وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ- سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ وَ يَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ ب‏ئ

المعنى

ب‏ئ‏أقول: أهوى أخيك معنا أي محبّته و ميله. قوله فقد شهدنا. حكم بالحضور بالقوّة أو بحضور نفسه و همّته على تقدير محبّته للحضور و كم إنسان يحضر بحضور همّته و إن لم يحضر ببدنه كثير نفع إمّا باستجلاب الرجال أو بتأثير الهمّة في تفريق أعداء اللّه كما تفعله همم أولياء اللّه بحيث لا يحصل مثل ذلك النفع من أبدان كثيرة حاضرة و إن قويت و عظمت. قوله و لقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال و أرحام النساء. تأكيد لحضور أخ القائل بالإشارة إلى من سيوجد من أنصار الحقّ الذابّين عنه و عباد اللّه الصالحين الشاهدين معه عليه السّلام أيضا، و الشهادة شهادة بالقوّة أي أنّهم موجودون في أكمام الموادّ بالقوّة، و من كان في قوّة أن يحضر من أنصار اللّه فهو بمنزلة الحاضر الموجود بالفعل في نصرته إذا وجد. قوله سيرعف بهم الزمان. استعار لفظ الرعاف و هو الدم الخارج من أنف الإنسان لوجودهم و فيه تشبيه للزمان بالإنسان و إنّما نسب وجودهم إلى الزمان لأنّه من الأسباب المعدّة لقوابل وجودهم، و نحوه قول الشاعر:
و ما رعف الزمان بمثل عمرو و لا تلد النساء له ضريبا

قوله و يقوى بهم الإيمان ظاهر. و باللّه التوفيق.

أقول: هذا الفصل مع فصول بعده من خطبة خطبها عليه السّلام بالبصرة بعد ما فتحها روى أنّه لمّا فرغ من حرب أهل الجمل أمر مناديا ينادي في أهل البصرة أنّ الصلاة الجامعة لثلاثة أيّام من غد إنشاء اللّه و لا عذر لمن تخلّف إلّا من حجّة أو علّة فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا فلمّا كان في اليوم الّذي اجتمعوا فيه خرج فصلّى في الناس الغداة في المسجد الجامع فلمّا قضى صلوته قام فأسند ظهره إلى حائط القبلة عن يمين المصلّى فخطب الناس فحمد اللّه و أثنى عليه بما هو أهله و صلّى على النبيّ صلى اللّه عليه و آله و استغفر للمؤمنين و المؤمنات و المسلمين و المسلمات ثمّ قال يا أهل المؤتفكة ائتكفت بأهلها ثلاثا و على اللّه تمام الرابعة يا جند المرأة و أعوان البهيمة رغا فأجبتم و عقر فانهزمتم أخلاقكم دقاق و ماؤكم زعاق بلادكم أنتن بلاد اللّه تربة و أبعد من السماء، بها تسعة أعشار الشرّ، المحتبس فيها بذنبه، و الخارج منها بعفو اللّه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 289

خطبه11شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل  

تَزُولُ الْجِبَالُ وَ لَا تَزُلْ- عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَكَ- تِدْ فِي الْأَرْضِ قَدَمَكَ- ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ وَ غُضَّ بَصَرَكَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ب‏ئ‏

اللغة

أقول: الناجذ السن بين الناب و الضرس، و قال الجوهري: هو أقصى الأضراس، و قيل الأضراس كلّها نواجذ،

المعنى

و اعلم أنّه عليه السّلام أشار في هذا الفصل إلى أنواع آداب الحرب و كيفيّة القتال، فنهاه أوّلا عن الزوال و أكّد عليه ذلك بقوله تزول الجبال و لا تزل، و الكلام في صورة شرطيّة متّصلة محرّفة تقديرها لو زالت الجبال لا تزل و هو نهي عن الزوال مطلقا لأنّ النهى عنه على تقدير زوال الجبال مستلزم للنهي عنه على تقدير آخر بطريق الأولى إذ القصد به المبالغة في النهي، ثمّ أردف ذلك بخمسة أوامر:

أحدها أن يعضّ على ناجذه و ذلك لاستلزامه أمرين: أحدهما ربط الجأش عن الفشل و الخوف، و الإنسان يشاهد ذلك في حال البرد و الخوف الموجبين للرعدة فإنّه إذ عضّ على أضراسه تسكن رعدته و يتمالك بدنه. الثاني أنّ الضرب مع ذلك في الرأس لا يؤثّر كثير ضرر كما قاله عليه السّلام في مواضع اخر و عضوّ للنواجذ فإنّه أبنا للسيوف عن الهام، و كان ذلك لما فيه من جمع القوّة و التصلّب.

الثاني أن يعير اللّه جمجمته و هي استعارة لطيفة و تشبيه لجمجمته بالآلة التي تستعار للانتفاع بها ثمّ ترّد، فانتفاع دين اللّه و حزبه بمحمّد- رضى اللّه عنه- على هذا الوجه يشبه للانتفاع بالعارية.

قال بعض الشارحين: و في ذلك تنبيه لمحمّد- رضى اللّه عنه- على أنّه لا يقتل في ذلك الحرب إذ ما اعير اللّه لابد من رده بكمال السلامة، و فيه تثبيت لجأشه و ربط لقلبه- الثالث أن يلزم قدمه الأرض. و يجعلها كالوتد و ذلك لاستلزام أمرين: أحدهما ربط الجأش و استصحاب العزم على القتال. الثاني أنّ ذلك مظنّة الشجاعة و الصبر على المكاره فيكون من موجبات انفعال العدوّ و انقهاره. الرابع أن يرمى ببصره أقصى القوم و ذلك ليعلم على ما ذا يقدم و لينظر مخاتل المخاتل و مقاتل المقاتل. الخامس أن يغضّ بصره بعد مدّة و ذلك لكونه علامة السكينة و الثبات و عدم الطيش، و لأنّ مدّ النظر إلى بريق السيوف مظنّة الرهبة، و ربما خيف على البصر أيضا، و النظر المحمود في الحرب أن يلحظ شزرا فعل الحنق المترصّد للفرصة كما قال عليه السّلام في غير هذا الموضع و لاحظوا الشزر. ثمّ لمّا نبّه بهذه الأوامر الخمسة أمره أن يعلم أنّ النصر من عند اللّه كما قال «وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ»«» ليتأكّد ثباته بثقته باللّه عنه ملاحظة قوله تعالى إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ»

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 288

خطبه10شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَلَا وَ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ- وَ اسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ وَ رَجِلَهُ- وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي وَ لَا لُبِّسَ عَلَيَّ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ- لَا يَصْدُرُونَ عَنْهُ وَ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ ب‏ئ

أقول: هذا الفصل ملتقط ملفّق من خطبة له عليه السّلام لمّا بلغه أنّ طلحة و الزبير خلعا بيعته و هو غير منتظم، و قد أورد السيّد منها فصلا آخر و سنذكرها بتمامها إذا انتهينا إليه إنشاء اللّه تعالى.

اللغة

الاستجلاب في معنى الجمع، و البصيرة العقل، و أفرطت الحوض افرطه بضم الهمزة ملأته و الماتح بالتاء المستقي، و ربّما يلتبس بالمائح و هو الّذي ينزل البئر فيملأ الدلو، و الفرق بينهما أنّ نقطتي الفوق للفوقانيّ، و الصدور الرجوع عن الماء و غيره و يقابله الورود و هو العود إليه،

المعنى

و مدار هذا الفصل على ثلاثة امور:

أوّلها الذمّ لأصحاب الجمل و التنفير عنهم، و الثاني التنبيه على فضيلة نفسه، و الثالث الوعيد لهم، و أشار إلى الأوّل بقوله الا و إنّ الشيطان قد جمع حزبه و استجلب خيله و رجله و أراد أنّ الباعث لهم و الجامع على مخالفة الحقّ إنّما هو الشيطان بوسوسة لهم و تزيينه الباطل في قلوبهم، و قد عرفت كيفيّة وسوسته و إضلاله فكلّ من خالف الحقّ و نابذه فهو من حزب الشيطان و جنده خيلا و رجلا، و أمّا الثاني فأشار أوّلا إلى كمال عقله و تمام استعداده لاستجلابه الحقّ و استيضاحه بقوله و إنّ معي لبصيرتي ثمّ أكّد ذلك بالإشارة إلى عدم انخداع نفسه القدسيّة للشيطان‏ فيما يلبس به من الحقّ من الشبه الباطلة على البصائر الضعيفة فيعميها بذلك عن إدراكه و تمييزه من الباطل سواء كانت مخادعة الشيطان و تلبيسه بغير واسطة، و هو المشار إليه بقوله و ما لبّست على نفسي أي لا يلتبس على نفسى المطمئنّة ما يلقيه إليها نفسي الأمّارة أو بواسطة و هو المشار إليها بقوله و لا لبّس عليّ أي إنّ أحدا ممّن تبع إبليس و تلقف عنه الشبه و صار في قوّة أن يلبّس الحقّ صورة الباطل لا يمكنه أن يلبّس علىّ، و أمّا الثالث فأشار إليه بقوله و أيم اللّه لا افرطنّ لهم حوضا أنا ماتحه إلى آخره، و استعار إفراط الحوض لجمعه الجند و تهيّئه أسباب الحرب، و كنّى بقوله أنا ماتحه أنّه هو المتولّي لذلك، و لمّا كانت الحرب قد يشبه بالبحر و بالماء الجمّ فيستعار لها أوصافه فيقال فلان خوّاص غمرات و فلان منغمس في الحرب جاز أن يستعار هاهنا لفظ الحوض و ترشح تلك الاستعارة بالمتح و الفرط و الإصدار و الإيراد، و في تخصيص نفسه بالمتح تأكيد تهديد لعلمهم بداسه (ببأسه خ م) و شجاعته و قد حذف المضاف إليه ماتح في الحقيقة، و تقديره أنّه ماتح ماؤه إذ الحوض لا يوصف بالمتح ثمّ أردف ذلك بوصف استعداد لهم بالشدّة و الصعوبة عليهم فكنّى بقوله لا يصدرون عنه عن أنّ الوارد منهم إليه لا ينجو منه فهو بمنزلة من يغرق منه فلا يصدر عنه و يقول و لا يعودون إليه أي إنّ من نجا منهم لا يطمع في الحرب مرّة اخرى فلا يردّون إلى ما أعدّ لهم مرّة ثانية و أكّد ذلك الوعيد بالقسم البارّ، و أصل أيم أيمن جمع يمين حذف النون تخفيفا كما حذفت في لم يك، و قيل هو اسم برأسه وضع للقسم و تحقيقه في مسائل النحو.

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 1 ، صفحه‏ى 287

خطبه9شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

وَ قَدْ أَرْعَدُوا وَ أَبْرَقُوا- وَ مَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْفَشَلُ- وَ لَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى ب‏ئ‏نُوقِعَ وَ لَا نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ ب‏ئ

اللغة

ب‏ئ الفشل الجبن و الضعف،

المعنى

و الإشارة إلى طلحة و الزبير و أتباعهما، و الكلام في معرض الذّم، و استعار لفظ الإرعاد و الإبراق لوعيدهم و تهديدهم له بالحرب. يقال أرعد الرجل و أبرق إذا تهدّد و توعّد.

قال الكميت: أرعد و أبرق يا يزيد فما و عيدك لي بضائر و وجه الاستعارة كون الوعيد من الامور المزعجة كما أنّ الرعد و البرق كذلك. قوله و مع هذين الأمرين الفشل إشارة إلى وجه الرذيلة و ذلك أنّ التهديد و التوعد قبل إيقاع الحرب و الضوضاء، و الجلبة أمارة للجبن و العجز، و الصمت و السكون أمارة الشجاعة كما أشار إليه عليه السّلام في تعليم كيفيّة الحرب مخاطبا لأصحابه و أميتوا أصواتكم فإنّه أطرد للفشل، و روى أنّ أبا طاهر الجبائيّ سمع جلبة عسكر المقتدر و هو في ألف و خمسمائة فارس و المقتدر في عشرين ألفا فقال لبعض أصحابه ما هذا الرجل قال: فشل. قال أجل و كانت الغلبة له فاستدلّ عليه السّلام بتلك الأمارة على الفشل.

قوله و لسنا نرعد حتّى نوقع و لا نسيل حتّى نمطر. إشارة إلى نفي تلك الرذيلة عن‏ نفسه و أصحابه و إثبات الفضيلة لهم، و كما أنّ فضيلة السحاب أن يقترن وقوع المطر منه برعده و برقه و إسالته بإمطاره كذلك أقواله مقرونة بأفعاله لا خلف فيها و إسالة عذابه مقرونة بإمطاره و مفهوم ذلك أنّ خصمه يهدّده بالحرب من غير قوّة نفس و لا إيقاع لها فأشبه ذلك الرعد من غير إيقاع للمطر، و السيل من غير مطر. فكأنّه قال: كما لا يجوز سيل بلا مطر فكذلك ما يوعّدونه و يهدّدون به من إيقاع الحرب بلا شجاعة و لا قوّة عليها، و في ذلك شميمة التحدّي.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 285

خطبه8شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام يعنى به الزبير فى حال اقتضت ذلك

يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ وَ لَمْ يُبَايِعْ بِقَلْبِهِ- فَقَدْ أَقَرَّ بِالْبَيْعَةِ وَ ادَّعَى الْوَلِيجَةَ- فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ يُعْرَفُ- وَ إِلَّا فَلْيَدْخُلْ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ

اللغة

أقول: الوليجة الدخيلة في الأمر،

المعنى

و هذا الفصل صورة مناظرة له مع الزبير و هو مشتمل على تقرير حجّة سابقة له عليه، و صورة نقض لتلك الحجّة من الزبير، و صورة جواب له عليه السّلام عن ذلك، أمّا الحجّة فكأنّه عليه السّلام لمّا نكث الزبير بيعته و خرج لقتاله احتجّ عليه بلزوم البيعة له أوّلا فكان جواب الزبير ما حكاه عنه بقوله إنّه بايع بقلبه إشارة إلى‏ التورية و التعريض في العهود و الأيمان و نحوهما و هما من الزبير أنّ ذلك أمر يقبله الشريعة فأجابه عليه السّلام بقياس حذف كبراه كما علمت من قياس الضمير، و هو ما أشار إليه بقوله فقد أقرّ بالبيعة و ادّعى الوليجة أي أفرّ بما هو مقبول و محكوم بلزومه له شرعا و ادّعى أنّه ادّخر في باطنه ما يفسده من الوليجة فهذه صغرى القياس، و تقدير الكبرى و كلّ من فعل ذلك احتاج في بيان دعواه إلى بيّنة تعرف صحّتها فينتج أنّه محتاج إلى بيّنة كذلك، و أشار إلى هذه النتيجة بقوله فليأت عليها بأمر يعرف أي على دعواه الوليجة، و هيهات له ذلك إذ التورية أمر باطن لا يمكن الاحتجاج و لا إقامة البرهان عليه، ثمّ أشار بقوله و إلّا فليدخل فيما خرج منه أمر بالدخول في طاعته و حكم بيعته الّتي خرج منها على تقدير عدم قدرته على برهان دعواه. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 284

خطبه7شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلَاكاً- وَ اتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً- فَبَاضَ وَ فَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ- وَ دَبَّ وَ دَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ- فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَ نَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ-

فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ- فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ- ب‏ئ‏وَ نَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ

اللغة

أقول: ملاك الأمر ما يقوم به و منه القلب ملاك الجسد، و الأشراك يجوز أن يكون جمع شريك كشريف و أشراف، و يجوز أن يكون جمع شرك و هو حبائل الصيد كحبل و أحبال، و الدبيب المشي الضعيف و المدرج أقوى منه، و الخطل من الفاسد من القول، و شركه بفتح الشين و كسر الراء شاركه،

المعنى

و هذا الفصل من باب المنافرة و هو ذمّ للمنابذين له و المخالفين له و المخالفين عليه فأشار أوّلا إلى انقياد نفوسهم لشياطينهم إلى حدّ جعلوها مدبّرة لامور فيها قوام أحوالهم و عزلوا عقولهم عن تلك المرتبة فهم أولياؤهم كما قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ»«» ثمّ أردف ذلك بالإشارة إلى بعض لوازم تمليك الشيطان لأمورهم بقوله و اتّخذهم له أشراكا، و ذلك أنّه إذا ملك امورهم و كان قيامه بتدبيرها صرفهم كيف شاء، و استعمال الأشراك هاهنا على تقدير كونها جمع شرك استعارة حسنة، فإنّه لمّا كانت فائدة الشرك اصطياد ما يراد صيده و كان هؤلاء القوم بحسب ملك الشيطان لآرائهم و تصرّف فيهم على حسب حكمه أسبابا لدعوة الخلق إلى مخالفة الحقّ و منابذة إمام الوقت و خليفه اللّه في أرضه أشبهوا الأشراك لاصطيادهم الخلق بألسنتهم و أموالهم و جذبهم إلى الباطل بالأسباب الباطلة الّتي ألقاها إليهم الشيطان و نطق بها على ألسنتهم فاستعار لهم لفظ الأشراك و أمّا على التقدير الثاني فظاهر، ثمّ أردف ذلك ببيان ملازمته لهم فشبّهه بالطائر الّذي بنى عشّه في قلوبهم و صدورهم، و استعار لفظ البيض و الأفراخ، و وجه المشابهة أنّ الطائر لمّا كان يلازم عشّه فيبيض و يفرخ فيه أشبهه الشيطان في إقامته في صدورهم و ملازمته لهم، كذلك قوله و دبّ و درج في حجورهم استعارة كنّى بها أيضا عن تربيتهم للباطل و ملازما إبليس و عدم مفارقته لهم و نشوه معهم كما يتربّى الولد في حجر والديه، و راعى في هذا القرائن الأربع السجع ففي الاوليين السجع المسمّى مطرّفا و في الأخيرين المسمّى‏ متوازيا، قوله فنظر بأعينهم و نطق بألسنتهم إشارة إلى وجود تصرّفه في أجزاء أبدانهم بعد إلقائهم مقاليد امورهم إليه و عزل عقولهم عن التصرّف فيها بدون مشاركته و متابعته. قوله فركب بهم الزلل و زيّن لهم الخطل. إشارة إلى ثمرة متابعته و هي إصابة مقاصده منهم من الخروج عن أوامر اللّه في الأفعال و هو المراد بارتكابه بهم الزلل، و في الأقوال و هو المشار إليه بتزيينه لهم الخطل. قوله فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه و نطق بالباطل على لسانه. إشارة إلى أنّ الأفعال و الأقوال الصادرة عنهم على خلاف أو امر اللّه إنّما تصدر عن مشاركة الشيطان و متابعته، و الضمير في سلطانه يعود إلى من قد شاركه الشيطان في سلطانه الّذي جعله اللّه له على الأعمال و الأقوال، و انتصاب فعل على المصدر إمّا عن فعل محذوف تقديره فعلوا ذلك فعل، أو عن قوله اتّخذوا لأنّه في معنى فعلوا فهو مصدر له من غير لفظه، و راعى في هاتين القرينتين أيضا السجع المطرّ، و اللّه أعلم بالصواب،

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 283

خطبه6شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة و الزبير و لا يرصد لهما القتال وَ اللَّهِ لَا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ- حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا وَ يَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا- وَ لَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ- وَ بِالسَّامِعِ الْمُطِيعِ الْعَاصِيَ الْمُرِيبَ أَبَداً- حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي- فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي- مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ- حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ ب‏ئ‏هَذَا

أقول: روى أبو عبيد قال: أقبل أمير المؤمنين عليه السّلام الطواف و قد عزم على اتّباع طلحة و الزبير و قتالهما فأشار إليه ابنه الحسن عليه السّلام أن لا يتبعهما و لا يرصد لهما القتال فقال في جوابه هذا الكلام، و روى في سبب نقضهما لبيعته أنّهما دخلا عليه بعد أن بايعاه بأيّام و قالا: قد علمت جفوة عثمان لنا و ميله إلى بني اميّة مدّة خلافته، و طلبا منه أن يولّيهما المصرين، الكوفة و البصرة، فقال لهما حتّى أنظر ثمّ استشار عبد اللّه بن عبّاس فمنعه من ذلك فعاوداه فمنعهما فسخطا و فعلا ما فعلا،

اللغة

قال الأصمعي: اللدم بسكون الدال ضرب الحجر أو غيره على الأرض. و ليس بالقوىّ، و يحكى أنّ الضبع تستغفل في حجرها بمثل ذلك فتسكن حتّى تصاد، و يحكى في كيفيّة صيدها أنّهم يصنعون في حجرها حجرا و يضربون بأيديهم بابه فتحسب الحجر شيئا تصيده فتخرج فتصاد، و يقال إنّها من أحمق الحيوان و يبلغ من حمقها أن يدخل عليها فيقال هذه ليست امّ عامر أو يقال خامر امّ عامر فتسكن حتّى توثق رجلها بحبل معد لصيدها، و الختل الخديعة، و استأثرت بالشي‏ء انفردت به،

المعنى

و أشار أوّلا إلى ردّما اشير عليه به من تأخّر القتال، و مفهوم التشبيه أنّه لو تأخّر لكان ذلك سببا لتمكّن الخصم ممّا قصده فيكون هو في ذلك شبيها بالضبع الّتي تنام و تسكن على طول حيلة راصدها فأقسم عليه السّلام أنّه لا يكون كذلك أي لا يسكن على كثرة الظلم و البغي و طول دفاعه عن حقّه ثمّ أردف ذلك بما هو الصواب عنده و هو المقاومة و القتال بمن أطاعه لمن عصاه فقال لكنّي أضرب بالمقبل إلى الحقّ وجه المدبر عنه و بالسامع المطيع وجه العاصي المريب أبدا، و راعى المقابلة هاهنا فالعاصي في مقابلة المطيع و المريب في مقابلة السامع لأنّ المرتاب في الحقّ مقابل للقابل له ثمّ فسّر الأبد بغاية عمره لأنّه الأبد الممكن له، و ذلك قوله حتّى يأتي علىّ يومي، و أشار بيومه إلى وقت ضرورة الموت كناية، ثمّ أردف ذلك بالتظلّم و الشكاية في دفاعه عن هذا الأمر و الاستيثار عليه المحوج له إلى هذه المقاومات و الشكايات و أشار إلى مبدء ذلك الدفاع و منتهاه و أكّد ذلك بالقسم البارّ و الإشارة بالحقّ المدفوع عنه إلى أمر الخلافة و هي شكاية مؤكّدة للشكايات السابقة، و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 282

خطبه5شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

لما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و خاطبه العباس و أبو سفيان ابن حرب فى أن يبايعا له بالخلافة

أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ- وَ عَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ- وَضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ- أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ- هَذَا مَاءٌ آجِنٌ وَ لُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا- وَ مُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا- كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ. فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ- وَ إِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ- هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ الَّتِي- وَ اللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ- مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ- بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ- اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ

أقول: سبب هذا الكلام ما روى أنّه لمّا تمّ في سقيفة بني ساعدة لأبي بكر أمر البيعة أراد أبو سفيان بن حرب أن يوقع الحرب بين المسلمين ليقتل بعضهم بعضا فيكون ذلك دمارا للدين فمضى إلى العبّاس، فقال له: يا أبا الفضل إنّ هؤلاء القوم قد ذهبوا بهذا الأمر من بني هاشم و جعلوه في بني تيم و أنّه ليحكم فيناغدا هذا الفظّ الغليظ من بني عدي فقم بنا حتّى ندخل على عليّ و نبايعه بالخلافة و أنت عمّ رسول اللّه و أنا رجل مقبول القول في قريش فإن دافعونا عن ذلك قاتلناهم و قتلناهم فأتيا أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له أبو سفيان: يا أبا الحسن لا تغافل عن هذا الأمر متى كنّا تبعا لتيم الأرذال، و كان عليه السّلام يعلم من حاله أنه لا يقول ذلك غضبا للدين بل للفساد الّذي رآه في نفسه فأجابه عليه السّلام بهذا الكلام

اللغة

عرّجوا أي ميلوا و انحرفوا، و الفلاح الفوز و النجاة، و الأجون تغيّر الماء و فساده، و غصّ باللقمة يغصّ بفتح الغين إذا وقفت في حلقه فلم يسغها، و إيناع الثمرة إدراكها، و اندمجت على كذا انطويت عليه و سترته في باطني، و باح بالشي‏ء أظهره، و الطوىّ البرء، و الرشا حبلها. قوله شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة.

المعنى

شبّه عليه السّلام الفتنة بالبحر المتلاطم فلذلك استعار له لفظ الأمواج و كنّى بها عن حركة الفتنة و قيامها، و وجه المشابهة ظاهر لاشتراك البحر و الفتنة عندهيا جهما في كونهما سببا لهلاك الخائضين فيهما، و استعار بسفن النجاة لكلّ ما يكون وسيلة إلى الخلاص من الفتنة من مهادنة أو حيلة مخلّصة أو صبر، و وجه المشابهة كون كلّ منهما وسيلة إلى السلامة إذ آحاد الطرق المذكورة طرق إلى السلامة من ثوران الفتنة و الهلاك فيها كما أنّ السفينة سبب للخلاص من أمواج البحر،

قوله و عرّجوا عن طريق المنافرة أمر لهم بالعدول عن طريق المنافرة إلى السكون و السلامة و ما يوجب سكون الفتنة، و كذلك قوله وضعوا تيجان المفاخرة أمر بطريق آخر من طرق النجاة و هي ترك المفاخرة، فإنّ المفاخرة ممّا يهيّج الأضغان و تثير الأحقاد و توجب قيام الفتنة، و لمّا كان أكبر ما ينتهي إليه أرباب الدنيا من المفاخرة هو لبس التيجان و كانت الاصول الشريفة و الأبوات الكريمة و القنيات السنة هي أسباب الافتخار الدنيويّ و منشاءه كانت المشابهة بينها و بين التيجان حاصلة فاستعار عليه السّلام لفظها لها و أمرهم بوضعها.

قوله أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح. لمّا نهى عليه السّلام عن الفتنة و بيّن أنّ المفاخرة و المنافرة ليسا طريقين محمودين أردف ذلك بالإشارة إلى أنّه كيف ينبغي أن يكون حال المتصدّي لهذا الأمر، و كيف يكون طريق فوزه بمقاصده أو النجاة له، فحكم بالفوز لمن نهض بجناح، و استعار لفظ الجناح للأعوان و الأنصار، و وجه المشابهة ظاهر فإنّ الجناح لمّا كان محلّ القدرة على الطيران و التصرّف و كانت الأعوان و الأنصار بهم القوة على النهوض إلى الحرب و الطيران في ميدانها لا جرم حصلت المشابهة فاستعير لهم لفظ الجناح، و حكم بالنجاة للمستسلم عند عدم الجناح و كلاهما يشملهما اسم الفلاح، و في هذا الكلام تنبيه على قلّة ناصره في هذا الأمر. تقدير الكلام أنّه ليس الطريق ما ذكرتم بل الصواب فيما يفعل ذو الرأي في هذا الأمر أنّه إمّا أن يكون ذا جناح فينهض به فيفوز بمطلوبه أو لا يكون فيستسلم و ينقاد فينجو و يريح نفسه من تعب الطالب. قوله ماء آجن و لقمة يغصّ بها آكلها. تنبيه إلى أنّ المطالب الدنيويّة و إن عظمت فهي مشوبة بالكدر و التغيّر و النقص، و أشار إلى أمر الخلافة في ذلك الوقت، و تشبّهها بالماء و اللقمة ظاهر إذ عليهما مدار الحياة الدنيا، و أمر الخلافة أعظم أسباب الدنيا فتشابها فاستعار لفظهما لما يطلب منها و كنّى بهما عنه، و لمّا كان أجون الماء و الغصص باللقمة ينقضهما و يوجب نفار النفس عن قبولهما، و كانت المنافسة في أمر الخلافة و التجاذب و المنافرة بين المسلمين فيها و كونها في معرض الزوال ممّا يوجب التنفير عنها و تنقيصها و عدم الالتذاذ بها نبّه عليه السّلام بالأجون و الغصص باللقمة على تلك الامور، و كنّى بهما عنها ليسكن بذلك فورة من استنهضه في هذا الأمر من بني هاشم فكأنّه قال إنّها لقمة منغصّة و جرعة لا يسيغها شاربها.

قوله و مجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه. تنبيه على أنّ ذلك الوقت ليس وقت الطلب لهذا الأمر إما لعدم الناصر أو لغير ذلك، و كنّى لمجتني الثمرة عن طالبها فاستلزم ذلك تشبيهها بالثمرة أيضا لاشتراكهما في كونهما محلّا للالتذاذ أو نحوه، ثمّ شبّه مجتني الثمرة لغير وقتها بالزارع بغير أرضه و وجه الشبه عدم الانتفاع في الموضعين إذ كان الزارع بغير أرضه في محلّ أن يمنع من ذلك التصرّف فيبطل سعيه و لا ينتفع بزرعه فكذلك مجتني الثمرة لغير وقتها لا ينتفع بها فكذلك طلبه للخلافة في ذلك الوقت.

قوله فإن أقل يقولوا: حرص على الملك و إن أسكت يقولوا: جزع من الموت. شكاية من الألسنة و الأوهام الفاسدة في حقّه وردت في معرض الكلام، و إشارة إلى أنّه سواء طلب الأمر و سكت عنه فلا بدّ من أن يقال في حقّه و ينسب إلى أمر، ففي القيام و الطلب ينسب إلي الحرص و الاهتمام بأمر الدنيا، و في السكوت ينسب إلى الذلّة و العجز و خوف الموت.

و أوهام الخلق و ألسنتهم لا تزال مولعة بأمثال ذلك بعضهم في حقّ بعض في المنافسات. قوله هيهات بعد اللتيّا و الّتي و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه. ورد مورد التكذيب للأوهام الحاكمة في سكوته بجزعه أي بعد ما يقولون، و اللتيّا و الّتي كنايتان عن الشدائد و المصائب العظيمة و الحقيرة، و أصل المثل أنّ رجلا تزوّج امرأة قصيرة صغيرة سيّئة الخلق فقاسى منها شدائد فطلّقها و تزوّج طويلة فقاسى منها أضعاف ما قاسى من الصغيرة فطلّقها و قال بعد اللتيّا و الّتي لا أتزوّج أبدا، فصار ذلك مثلا للداهية الكبيرة و الصغيرة، و تقدير مراده بعد ملاقاة كبار الشدائد و صغارها انسب إلى الجزع من الموت.

بعد ما يقولون ثمّ أكّد تكذيبهم في دعوى جزعه من الموت بالقسم البارّ أنّه آنس بالموت من الطفل بثدي امّه و ذلك أمر بيّن من حاله عليه السّلام إذ كان سيّد العارفين بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و رئيس الأوليّاء، و قد عرفت أنّ محبّة الموت و الإنس به متمكّن من نفوس أولياء اللّه لكونه وسيلة لهم إلى لقاء أعظم محبوب و الوصول إلى أكمل مطلوب،و إنّما كان آنس به من الطفل بثدي امّه لأنّ محبّة الطفل للثدي و انسه به و ميله إليه طبيعيّ حيوانيّ في معرض الزوال، و ميله إلى لقاء ربّه و الوسيلة إليه ميل عقليّ باق فأين أحدهما من الآخر.

قوله بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىّ البعيدة. إشارة إلى سبب جمليّ لتوقفه عن الطلب و القيام غير ما نسبوه إليه من الجزع و الخوف من الموت و هو العلم الّذي انطوى عليه فإنّ علمه بعواقب الامور و أدبارها و تطلّعه إلى نتائج الحركات بعين بصيرته الّتي هي كمرآة صافية حوذى بها صور الأشياء في المرآة العالية فارتسمت فيها كما هي. ممّا يوجب توقّفه عمّا يعلم أنّ فيه فسادا، و تسرّعه إلى ما يعلم فيه مصلحة بخلاف الجاهل الّذي يقدم على عظائم الامور بقصر الرأي لا عن بصيرة قادته إلى ذلك ثمّ نبّه على عظيم قدر العلم الّذي اندمج عليه بقوله لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىّ البعيدة، و الجملة الشرطيّة في موضع الجرّ صفة لعلم، و أشار باضطرابهم على ذلك التقدير إلى تشتّت آرائهم عند أن يكشف لهم ما يكون من أمر الخلافة و إلى من ينتهي و إلى ما يؤول إليه حال الناس إذ كان ذلك ممّا وقّفه عليه الرسول صلى اللّه عليه و آله و أعدّه لفهمه فإنّ كثيرا منهم في ذلك الوقت كان نافرا عن عمر و آخرون عن عثمان فضلا عن معاوية، و منهم من كان يؤهّل نفسه للخلافة في ذلك الوقت و يطلبها لنفسه و بعد عقدها لأبي بكر كان يرجوا أن يؤول إليه بعده، و إذا كان الأمر كذلك فظاهر أنّه عليه السّلام لو باح لهم بما علمه من عاقبة هذا الأمر لم يكن لهم ذلك النظام الحاصل في ذلك الوقت ليأس بعضهم من وصول هذا الأمر إليه و خوف بعضهم من غلظة عمر و نفرتهم منه و نفار آخرين من بني اميّة و ما يكون منهم، و شبّه اضطراب آرائهم على ذلك التقدير باضطراب الأرشية في الطوىّ البعيدة مبالغة، و هو تشبيه للمعقول بالمحسوس، و ذلك أنّ الطوىّ كلّما كانت أعمق كان اضطراب الحبل فيها أشدّ لطوله فكذلك حالهم حينئذ أي يكون لكم اضطراب قوىّ و اختلاف شديد، و قيل: أراد أنّ الّذي يمنعني من المنافسة في هذا الأمر و القتال عليه شغلي بما انطويت عليه من العلم بأحوال الآخرة و ما شاهدته من نعيمها و بؤسها ممّا لو كشفته لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىّ البعيدة خوفا من اللّه و وجلا من عتابه و شوقا إلى ثوابه و لذهلتم عمّا أنتم فيه من المنافسة في أمر الدنيا، و هذا الوجه محتمل الإرادة من هذا الكلام، و لعلّ في تمام هذا الكلام لو وجد ما يوضح المقصود منه و لم أقف عليه.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 280-270

خطبه4شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السلام  

بِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمُ ذُرْوَةَ الْعَلْيَاءَ- وَ بِنَا انْفَجَرْتُمْ عَنِ السِّرَارِ- وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ- وَ كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ- رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ- مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ- وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الْمُغْتَرِّينَ- سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ- وَ بَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ- أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الْحَقِّ فِي جَوَادِّ الْمَضَلَّةِ- حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَ لَا دَلِيلَ- وَ تَحْتَفِرُونَ وَ لَا تُمِيهُونَ- الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ- عَزَبَ رَأْيُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي- مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ- لَمْ يُوجِسْ مُوسَى ع خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ- أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجُهَّالِ وَ دُوَلِ الضَّلَالِ- الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ- مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ أقول: روي أنّ هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السّلام بعد قتل طلحة و الزبير

اللغة

تسنّمتم أي ركبتم سنامها، و سنام كلّ شي‏ء أعلاه، و السرار الليلة أو الليلتان يكون في آخر الشهر يستتر فيها القمر و يخفى، و الوقر الثقل في السمع، و فقهت الأمر فهمته، و الواعية الصارخة، و النبأ الصوت الخفيّ، و السمة العلامة، و سنن الحقّ وجهه و طريقه، و ماهت البئر خرج ماؤها، و غرب أى غاب، و أوجس هجس و أهسّ، و الظماء العطش،

المعنى

و اعلم أنّ هذه الخطبة من أفصح كلامه عليه السّلام و هي مع اشتمالها على كثرة المقاصد الواعظة المحرّكة للنفس في غاية و جازة اللفظ، ثمّ من عجيب فصاحتها و بلاغتها أنّ كلّ كلمة منها تصلح لأن تفيد على سبيل الاستقلال و هي على ما نذكره من حسن النظم و تركيب بعضها مع بعض. قوله بنا اهتديتم في الظلماء الضمير المجرور راجع إلى آل الرسول صلى اللّه عليه و آله و الخطاب لحاضري الوقت من قريش المخالفين له مع طلحة و الزبير و إن صدق في حقّ غيرهم، و المراد أنّا سبب هدايتكم بأنوار الدين و ما أنزل اللّه من الكتاب و الحكمة هدى للناس و بيّنات من الهدى و الفرقان حيث كنتم في ظلمات الجهل و تلك الهداية هي الدعوة إلى اللّه و تعليم الخلق كيفيّة السلوك إلى حضرة قدسه. و قوله تسنمّتم العلياء. أي بتلك الهداية و شرف الإسلام علا قدركم و شرّف ذكركم، و لمّا استعار وصف السنام للعلياء ملاحظة لشبهها بالناقة رشّح تلك الاستعارة بذكر التسنّم و هي ركوب السنام و كنّى به عن علوّهم.
قوله و بنا انفجرتم عن السرار. استعار لفظ السرار لما كانوا فيه من ليل الجهل في الجاهلية و خمول الذكر، و لفظ الانفجار عنه لخروجهم من ذلك إلى نور الإسلام و اشتهارهم في الناس و ذلك لتشبيهم بالفجر الطالع من ظلمة السرار في الضياء و الاشتهار، قوله وقر سمع لم يفقه الواعية كالتفات إلى الدعاء بالوقر على سمع لا يفقه صاحبه بواسطته علما و لا يستفيد من السماع به مقاصد الكتب الإلهيّة و كلام الأنبياء عليهم السّلام و الدعاة إلى اللّه، و حقّ لذلك السمع أن يكون أصمّ إذ كانت الفائدة منه المقصودة إلى الحكمة الإلهيّة اكتساب النفس من جهته ما يكون سببا لكمالها و قوّتها على الوصول إلى جناب اللّه و ساحل عزّته، فإذا كانت النفس معرضة عمّا يحصل من جهته من الفائدة و ربّما كانت مع ذلك متلقّية منه ما يؤدّيه من الشرور الجاذبة لها إلى الجهة السافلة فحقيق به أن يكون موقورا، و من روى وقر على ما لم يسمّ فاعله فالمراد و قره اللّه و هو كلام على سبيل التمثيل أورده في معرض التوبيخ لهم و التبكيت بالإعراض عن أوامر اللّه و طاعته، و كنّى بالواعية عن نفسه إذ صاح فيهم بالموعظة الحسنة و الحثّ على الألفة و أن لا يشقوا عصى الإسلام فلم يقلبوا، و وجه نظام هذه الكلمة مع ما قبلها أنّه لمّا أشار أوّلا إلى وجه شرفه عليهم و أنّه ممّن اكتسب عنه الشرف و الفضيلة و كان ذلك في مقابلة نفارهم و استكبارهم عن طاعته أردف ذلك بهذه الكلمة المستلزمة للدعاء عليهم كيف لم يفقهوا بيانه للوجوه الموجبة لاتّباعه و يقبلوه بعد أن سمعوه، و هذا كما يقول أحد العلماء لبعض تلاميذه المعاند له المدّعي لمثله فضيلته: إنّك بي اهتديت من الجهل و علا قدرك في الناس و أنا سبب لشرفك أفتكبّر علىّ وقر سمعك لم لا تفقه قولي و تقبّله، و قوله كيف يراعي النبأة من أصمّته.

الصيحة استعار لفظ النبأة لدعائه لهم و ندائه إلى سبيل الحقّ و الصيحة لخطاب اللّه و رسوله و هي استعارة على سبيل الكناية عن ضعف دعائه بالنسبة إلى قوّة دعاء اللّه و رسوله لهم، و تقرير ذلك أنّ الصوت الخفيّ لمّا كان لا يسمع عند الصوت القويّ إذ من شأن الحواس أن لا يدرك الأضعف مع وجود الأقوى المماثل في الكيفيّة لاشتغالها به و كان كلامه عليه السّلام أضعف في جذب الخلق و في قبولهم له من كلام اللّه و كلام رسوله و كلامهما مجرى الصوت القويّ في حقّهم، و كلامه مجرى الصوت الخفيّ بالنسبة إليه، و إسناد الإصمام إلى الصيحة من ترشيح الاستعارة و كنّى به عن بلوغ تكرار كلام اللّه على أسماعهم إلى حدّ أنّها محلّة و ملّت سماعه بحيث لا تسمع بعد ما هو في معناه خصوصا ما هو أضعف كما لا يسمع الصوت الخفيّ من أصمّته الصيحة، و قد وردت هذه الكلمة مورد الاعتذار لنفسه في عدم فائدة وعظه لهم، و الاعتذار لهم في ذلك أيضا على سبيل التهكّم و الذّم، وجه نظامها مع ما قبلها أنّه لمّا كان تقدير الكلمة الاولى و قرت أسماعكم كيف لا تقبلون قولي التفت عنه و قال كيف يسمع قولى من لم يسمع كلام اللّه و رسوله على كثرة تكراره على أسماعهم و قوّة اعتقادهم وجوب قبوله، و كيف يؤاخذون بسماعه و قد أصمّهم نداء اللّه.

قوله ربط جنان لم يفارقه الخفقان الخفقان دعاء للقلوب الخائفة الوجلة الّتي لا تزال تخفق من خشية اللّه و الإشفاق من عذابه بالثبات و السكينة و الاطمينان، و التقيّة ربط جنان نفسه، و من روى بضمّ الراء على ما لم يسمّ فاعله فالتقدير رابط اللّه جنانا كذلك، و هو جذب لهم إلى درجة الخائفين و تنبيه على ملاحظة نواهي اللّه فيفيئوا على طاعته، و وجه اتّصاله بما قبله أنّ ذكر الشريف و صاحب الفضيلة في معرض التوبيخ لمن يراد منه أن يسلك مسلكه و يكون بصفاته من أعظم الجواذب له إلى التشبّه به، و من أحسن الاستدراجات له فكأنّه قال و كيف يلتفت إلى قولي من لا يلتفت إلى كلام اللّه لله درّ الخائفين من اللّه المراعين لأوامره الوجلين من وعيده ما ضرّكم لو تشبّهتم فرجعتم إلى الحقّ و قمتم به قيام رجل واحد.

قوله ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر و أتوسّمكم بحلية المغترّين. إشارة إلى أنّه عليه السّلام كان يعلم عاقبة أمرهم إمّا باطّلاع الرسول صلى اللّه عليه و آله على أنّهم بعد بيعتهم له يغدرون به، أو لأنّه كان يلوح له من حركاتهم و أحوالهم بحسب فراسته الصائبة فيهم كما أشار إليه بقوله و أتوسّمكم بحلية المغترّين، و ذلك لأنّه فهم أنّهم من أهل الغرّة و قبول الباطل عن أدنى شبهة بما لاح له من صفاتهم الدالّة على ذلك، و كان علمه بذلك منهم مستلزما لعلمه بغدرهم بعهده و نقضهم لبيعته فكان ينتظر ذلك منهم. قوله سترني عنكم جلباب الدين. وارد مورد الوعيد للقوم في قتالهم و مخالفتهم لأمره و المعنى أنّ الدين حال بيني و بينكم و سترني عن أعين بصائركم أن تعرفوني بما أقوي عليه من العنف بكم و الغلظة عليكم و سائر وجوه تقويمكم و ردعكم عن الباطل وراء ما وفّقني عليه الدين من الرفق و الشفقّة و شهب ذيل العفو عن الجرائم فكان الدين غطاء حال بينهم و بين معرفته فاستعار له لفظ الجلباب، و روى ستركم عنّي أي عصم الإسلام منّي دمائكم و اتّباع مدبركم و أن أجهز على جريحكم و غير ذلك ممّا يفعل من الأحكام في حقّ الكفّار و قوله و بصّرنيكم صدق النيّة أراد بصدق النيّة إخلاصه للّه تعالى و صفاء مرآة نفسه و أنّه بحسب ذلك افيض على بصر بصيرته نور معرفة أحوالهم و ما تؤول إليه عاقبة أمرهم كما قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: المؤمن ينظر بنور اللّه،

و قوله أقمت لكم على سنن الحقّ في جوادّ المضلّة تنبيه لهم على وجوب اقتفاء أثره و الرجوع إلى لزوم أشعّة أنواره في سلوك سبيل اللّه و إعلام لهم على سواء السبيل الحقّ و في الطريق الّتي هي مزالّ الأقدام ليردّهم عنها، و لنبيّن ذلك في المثل المشهور عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله روى أنّه قال: ضرب اللّه مثلا صراطا مستقيما و على جنبتي الصراط سور فيه أبواب مفتّحة و على تلك الأبواب ستور مرخاة و على رأس الصراط داع يقول: ادخلوا الصراط و لا تعرجوا، قال: فالصراط هو الإسلام و الستور حدود اللّه و الأبواب المفتّحة محارم اللّه و ذلك الداعي هو القرآن.
فنقول: لمّا كان عليّ عليه السّلام هو الواقف على أسرار الكتاب و المليّ بجوامع علمه و حكمته و المطّلع على اصول الدين‏ و فروعه كان هو الناطق بالكتاب و الداعي به الواقف على رأس سبيل اللّه و المقيم عليها، و لمّا كان سبيل اللّه و صراطه المستقيم في غاية الوضوح و البيان له و كان مستبينا مالها من الحدود و المقدّمات مستجلبا لمزالّ الأقدام فيها و ما ينشأ عليها من الشكوك و الشبهات كان بحسب قوّته المدبرة لهذا العالم بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله هو الواقف على تلك الأبواب المفتّحة الّتي هي موارد الهلاك و أبواب جهنّم و جوادّ المضلّة و السائر لها بحدود اللّه و بيان نواهيه و التذكير بعظيم وعيده و القائد لأذهان السالكين للصراط عنها، و ذلك حيث يلتفت أذهانهم في ظلمات الجهل فلا تبصر دليلا هناك سواه و يطلبون ماء الحياة بالبحث و الفحص من أودية القلوب فلا يجدون بها ماء إلّا معه، و استعار لفظ الاحتفار للبحث من مظانّ العلم و لفظ الماء للعلم كما سبق بيان وجه المشابهة.

قوله اليوم انطق لكم العجماء ذات البيان. كنّى بالعجماء ذات البيان على الحال الّتي يشاهدونها من العبر الواضحة و المثلات الّتي حلّت بقوم فسقوا أمر ربّهم و عمّا هو واضح من كمال فضله عليه السّلام بالنسبة إليهم و ما ينبغي لهم أن يعتبرون من حال الدين، و مقتضى أوامر اللّه الّتي يحثّهم على اتّباعها، فإنّ كلّ هذه الأحوال امور لانطق لها مقالي فشبّهها لذلك بالعجماء من الحيوان، و استعار لها لفظها و وصفها بكونها ذات البيان لأنّ لسانها الحال مخبر بمثل مقاله عليه السّلام ناطق بوجوب اتّباعه شاهد لهم، و دليل على ما ينبغي أن يفعلوه في كلّ باب و ذلك هو البيان فكأنّه عليه السّلام انطق العجماء إذ عبّر هو بلسان مقاله عنها ما كانت تقتضيه، و يشاهده من نظر إليها بعين بصيرته و هو كقولهم سل الأرض من شقّ أنهارك و أخرج ثمارك فإن لم تجبك لسانا إجابتك اعتبارا، و كقولهم قال الحائط للوتد، لم تشقّني قال سل من يدقّني، و قال بعضهم العجماء صفة لمحذوف تقديره الكلمات العجماء و أراد بها ما ذكر في هذه الخطبة من الرموز و شبّهها بالحيوان إذ لا نطق لها في الحقيقة و مع ذلك يستفيد الناظر فيها أعظم الفوائد فهي ذات بيان عند اعتبارها.

قوله غرب رأى امرى‏ء تخلّف عنّي. إشارة إلى ذمّ من تخلّف عنه و حكم عليه بالسفه و عدم إصابة الرأي حال تخلّفه عنه و ذلك أنّ المتخلّف لمّا فكّر في أيّ الامور أنفع له إن يكون متابعيه أو المتخلّفين عنه ثمّ رأى أنّ التخلّف عنه أوفق له كان ذلك أسوء الآراء و أقبحها، فهو في الحقيقة كمن أقدم على ذلك بغير رأي يحضره أو لأنّ الرأى الحقّ كان غاربا عنه، و هو ذم في معرض التوبيخ للقوم على طريقة قولهم إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.

قوله ما شككت في الحقّ مذ اريته. بيان لبعض أسباب وجوب اتّباعه و عدم التخلّف عنه، و اعلم أنّ التمدح بعد الشكّ ممّا أراه اللّه من الحقّ و ما أفاضه على نفسه القدسيّة من الكمال مستلزم للإخبار بكمال قوّته على استثبات الحقّ الّذي رآه و شدّة جلائه له بحيث لا يعرض له شبهة فيه، و الإماميّة تستدلّ بذلك على وجوب عصمته و طهارته عن الأرجاس الّتي منشأوها ضعف اليقين.

قوله لم يوجس موسى خيفة على نفسه أشفق من غلبة الجهّال و دول الضلّال. أشفق أفعل التفضيل منصوب على الصفة لخيفة لأنّ الإشفاق خوف، و التقدير و لم يوجس موسى إشفاقا على نفسه أشدّ من غلبة الجهّال، و المقصود التنبيه على أنّ الخوف الّذي يخافه عليه السّلام منهم ليس على مجرّد نفسه بل كان أشدّ خوفه من غلبة أهل الجهل على الدين و فتنة الخلق بهم و قيام دول الضلّال، فتعمى طريق الهدى و تنسدّ مسالك الحقّ كما خاف موسى عليه السّلام من غلبة جهّال السحرة حيث ألقوا حبالهم و عصيّهم «و قالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون» و قيل إنّ أشفق فعل ماض و المعنى أنّ خوف موسى عليه السّلام من السحرة لم يكن على نفسه، و إنّما خاف من غلبة الجهّال فكأنّه قال لكن أشفق و إنّما الشفق، و دول الضلّال كدولة فرعون و أتباعه الضالّين عن سبيل اللّه،

و قوله اليوم توافقنا على سبيل الحقّ و الباطل الموافقة مفاعلة من الطرفين و الخطاب لمقابليه في القتال، و المراد أنّي واقف على سبيل الحقّ و أنتم واقفون على سبيل الباطل داعون إليه و هو تنفير لهم عمّا هم عليه إلى ما هو عليه. قوله من وثق بماء لم يظمأ. مثل نبّه به على وجوب الثقة بما عنده أي إنّكم إن سكنتم إلى قولي و وثقتم به كنتم أقرب إلى اليقين و الهدى و أبعد عن الضلال و الردى كما أنّ الواثق بالماء في أداوته آمن من العطش و خوف الهلاك و بعيد عنهما بخلاف من لم يثق بذلك و كنّى بالماء عمّا اشتمل عليه من العلم بكيفيّة الهداية إلى اللّه فإنّه الماء الّذي لا ظمأ معه،

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 276-270

خطبه3شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام و هي المعروفة بالشّقشقية

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى- يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ- فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً- وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ- أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ- يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ- وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ- فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى- فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ- فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ- ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

– فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ- إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا- فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا- وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا- فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ- إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ- فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ- فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ- جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى- مَتَى‏ اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ- حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ- لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا- فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ- وَ مَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ- بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ- وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ- خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ- إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ- وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ- إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ- حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ- فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ- وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ- كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ حَيْثُ يَقُولُ- تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ- لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً- وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ- بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا- وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ- وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ- أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ- لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا- وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا- وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ

قالوا: و قام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع‏

من خطبته فناوله كتابا، فأقبل ينظر فيه، قال له ابن عباس رضى اللّه عنهما: يا أمير المؤمنين، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت قال ابن عباس: فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفى على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السّلام بلغ منه حيث أراد ب‏ئ‏أقول: اعلم أنّ هذه الخطبة و ما في معناها ممّا يشتمل على شكايته عليه السّلام و تظلّمه في أمر الإمامة هو محلّ الخلاف بين الشيعة و جماعة من مخالفيهم فإنّ جماعة من الشبعة ادّعوا أنّ هذه الخطبة و ما في حكمها ممّا اشتمل عليه هذا الكتاب منقول على سبيل التواتر و جماعة من السنة بالغوا في إنكار ذلك حتّى قالوا: إنّه لم يصدر عن عليّ عليه السّلام شكاية في هذا الأمر و لا تظلّم أصلا، و منهم من أنكر هذه الخطبة خاصّة و نسبها إلى السيّد الرضيّ و التصدّر للحكم في هذا الموضع هو محلّ التهمة للشارحين، و أنا مجدّد لعهد اللّه على أنّي لا أحكم في هذا الكلام إلّا بما أجزم به أو يغلب على ظنّي أنّه من كلامه أو هو مقصوده عليه السّلام، فأقول: إنّ كلّ واحد من الفريقين المذكورين خارج عن العدل أمّا المدّعون لتواتر هذه الألفاظ من الشيعة فإنّهم في طرف الإفراط و أمّا المنكرون لوقوعها أصلا فهم في طرف التفريط، أمّا ضعف كلام الأوّلين فلأنّ المعتبرين من الشيعة لم يدّعوا ذلك و لو كان كلّ واحد من هذه الألفاظ منقولا بالتواتر لما اختصّ به بعض الشيعة دون بعض، و أمّا المنكرون لوقوع هذا الكلام منه عليه السّلام فيحتمل إنكارهم وجهين: أحدهما أن يقصدوا بذلك توطية العوامّ، و تسكين خواطرهم عن إثارة الفتن و التعصّبات الفاسدة ليستقيم أمر الدين و يكون الكلّ على نهج واحد فيظهروا لهم أنّه لم يكن بين الصحابة الّذين هم أشراف المسلمين و ساداتهم خلاف و لا نزاع ليقتدي بحالهم من سمع ذلك، و هذا مقصد حسن و نظر لطيف لو قصد، و الثاني أن ينكروا ذلك عن اعتقاد أنّه لم يكن هناك خلاف من الصحابة و لا منافسة في أمر الخلافة و الإنكار على هذا الوجه ظاهر البطلان لا يعتقده إلّا جاهل بسماع الأخبار لم يعاشر أحدا من العلماء فإنّ أمر السقيفة و ما جرى بين الصحابة من الاختلاف و تخلّف عليّ عليه السّلام عن البيعة أمر ظاهر لا يدفع و مكشوف لا يتقنّع حتّى قال أكثر الشيعة إنّه لم يبايع أصلا، و منهم من قال إنّه بايع بعد ستّة أشهر كرها، و قال مخالفهم إنّه بايع بعد أن تخلّف في بيته مدّة و دافع طويلا، و كلّ ذلك ممّا تقضي الضرورة معه بوقوع الخلاف و المنافسة بينهم و الحقّ أنّ المنافسة كانت ثابتة بين علي عليه السّلام و بين من تولّى أمر الخلافة في زمانه، و الشكاية و التظلّم الصادر عنه في ذلك أمر معلوم بالتواتر المعنويّ فإنّا نعلم بالضرورة أنّ الألفاظ المنقولة عنه المتضمّنة للتظلّم و الشكاية في أمر الخلافة قد بلغت في الكثرة و الشهرة بحيث لا يكون بأسرها كذبا بل لا بدّ و أن يصدق واحد منها، و أيّها صدق ثبتت فيه الشكاية أمّا خصوصيّات الشكايات بألفاظها المعيّنة فغير متواترة و إن كان بعضها أشهر من بعض، فهذا ما عندي في هذا الباب بعد التحريّ و الاجتهاد، و على هذا التقرير لا يبقى لإنكار كون هذه الخطبة صادرة عنه عليه السّلام و نسبتها إلى الرضيّ معنى فإنّ مستند هذا الإنكار هو ما يشتمل عليه من التصريح بالتظلّم و الشكاية، و مستند إنكار ذلك منه عليه السّلام هو اعتقاد أنّه لم تكن له منافسة في هذا الأمر، و أنت تعلم أنّ ذلك اعتقاد فاسد على أنّ هذه الخطبة خاصّة قد اشتهرت بين العلماء قبل وجود الرضيّ روى عن مصدّق بن شبيب النحويّ قال: لمّا قرأت هذه الخطبة على شيخي أبي محمّد بن الخشّاب و وصلت إلى قول ابن عبّاس ما أسفت على شي‏ء قط كأسفي على هذا الكلام قال: لو كنت حاضر القلت لابن عبّاس و هل ترك ابن عمّك في نفسه شيئا لم يقله في هذه الخطبة فإنّه ما ترك لا الأوّلين و لا الآخرين. قال مصدّق: و كانت فيه دعابة، فقلت له يا سيّدي فلعلّها منحولة إليه فقال: لا و اللّه إنّي أعرف أنّها من كلامه كما أعرف أنّك مصدّق قال: فقلت: إنّ الناس ينسبونها إلى الشريف الرضيّ فقال: لا و اللّه و من أين للرضيّ هذا الكلام، و هذا الاسلوف فقد رأيناه كلامه في نظمه و نثره لا يقرب من هذا الكلام و لا ينتظم في سلكه على أنّي قد رأيت هذه الخطبة بخطوط العلماء الموثوق بنقلهم من قبل أن يخلق أبو الرضيّ فضلا عنه، و أقول: و قد وجدتها في موضعين تاريخها قبل مولد الرضيّ بمدّة: أحدهما أنّها مضمّنة كتاب الإنصاف لأبي جعفر بن قبه تلميذ أبي القسم الكعبي أحد شيوخ المعتزلة و كانت وفاته قبل مولد الرضيّ، الثاني أنّي وجدتها بنسخة عليها خطّ الوزير أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات و كان وزير المقتدر باللّه و ذلك قبل مولد الرضيّ بنيّف و ستّين سنة، و الّذي يغلب على ظنّي أنّ تلك النسخة كانت كتبت قبل وجود ابن الفرات بمدّة. إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى المتن فنقول:

اللغة

قوله تقمصّها. أي لبسها كالقميص، و قطب الرحا مسمارها الّذي عليه تدور، و سدلت الثوب أرخيته، و الكشح بفتح الكاف الخاصرة، و طفقت أخذت و جعلت، و ارتئي في الأمر إذا فكّر طلبا للرأى الأصلي، وصال حمل نفسه على الأمر بقوّة، و يد جدّاء بالدال المهملة و المعجمة مقطوعة أو مكسورة، و الطخية الظلمة كقولهم ليلة طخياء أي مظلمة، و تركيب هذه الكلمة يدلّ على ظلمة الامور و انغلاقها، و منه كلمة طخياء أي أعجميّة لا تفهم، و الهرم شدّة كبر السنّ، و الكدح السعي و العمل، و هاتا لغة في هاتي و هي لغة في هذي و هذه، و أحجى أولى بالحجى أو خلق و هو العقل، و القذى هو ما تتأذىّ به العين من غبار و نحوه، و الشجى ما نشب في الخلق من غصّة غبن أو غمّ، و التراث كالميراث و هو اسم ما يورث، و أدلى فلان بكذا تقرّب به و ألقاه، و شتّان ما هما أي بعد، و شتّان ما عمرو و زيد أي بعد ما بينهما، و كور الناقة رحلها، و الإقالة فكّ عقد البيع و نحوه و الاستقالة طلب ذلك، و شدّ الأمر صعب و عظم، و تشطّرا أي أخذ كلّ شطرا و هو البعض، و الحوزة الطبيعة و الحوزة الناحية، و الكلم بفتح الكاف الجرح، و عثر يعثر عثورا و عثارا إذا أصابت رجله في المشي حجرا و نحوه، و الصعبة الناقة لم تذلّل بالمحمل و لا بالركوب، و شنق الناقة بالزمام و أشنق لها إذا جذبه إلى نفسه و هو راكب ليمسكها عن الحركة العنيفة، و الخرم الشقّ، و أسلس لها أي أرخى، و تقحّم في الأمر إذا ألقى نفسه فيه بقوّة، و منى الناس أي ابتلوا، و الخبط الحركة على غير استقامة، و الشماس بكسر الشين كثرة النقار و الاضطراب، و التلوّن اختلاف الأحوال، و الاعتراض ضرب من التلوّن، و أصله المشي في عرض الطريق خابطا عن فرح و نشاط، و الشورى مصدر كالنجوى مرادف للمشاورة، و أسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه، و الصغو الميل بكسر الصاد، و الضغن بكسر الضاد و سكون الغين و فتحها أيضا الحقد، و الأصهار عن ابن الأعرابي المتحرمون بجوار أو نسب أو تزوّج، و بعض العرب لا يطلقه إلّا على أهل بيت الزوجين، و عن الخليل أنّه لا يطلق إلّا على من كان من أهل المرأة، و هن على‏ وزن أخ كلمة كناية من شي‏ء قبيح و أصله هنو تقول هذا هنك أي شينك، و الحضن الجانب ما بين الإبط و الخاصرة، و النفج قريب من النفخ، و النثيل الروث، و المعتلف موضع الاعتلاف، و الخضم الأكل بجميع الفم، و قيل: المضغ بأقصى الأضراس يقول خضم بكسر الضاد يخضم، و النبتة بكسر النون النبات، و انتكث انتقض، و أجهز على الجريح قتله و أسرع، و كبا الفرس سقط لوجهه، و البطنة شدّة الامتلاء من الطعام، و الروع الخلد و الذهن و راعني أفزعني، و انثال الشي‏ء إذا وقع يتلو بعضه بعضا، و العطاف الرداء و روى عطفاى و عطفا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى ركبته، و الربيض و الربيضة الغنم برعاتها المجتمعة و مرابضها، و مروق السهم خروجه من الرمية و راقه الأمر أعجبه، و الزبرج بكسر الزاء و الراء الزينة، و النسمة الإنسان، و قد يستعمل فيما عداه من الحيوان، و المقارّة إقرار كلّ واحد صاحبه على الأمر و تراضيهما به، و الكظّة البطنة، و الغارب أعلى كتف الناقة، و العفطة من الشاة كالعطاس من الإنسان، و قيل: هي الجيفة، و الشقشقة لها البعير، و يقال: للخطيب شقشقة إذا كان صاحب و ربة و بضاعة من الكلام،

المعنى

و اعلم أنّ المشار إليه بقوله فلان هو ابو بكر كما هو مصرّح به في بعض النسخ، و لمّا بلغ عليه السّلام في تلبّس أبي بكر بالخلافة استعار لها وصف القميص و كنّى عن تلبّسه بها بالتقمّص، و الضمير المنصوب راجع إلى الخلافة، و لم يذكرها لظهورها كقوله تعالى «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» و يحتمل أن يكون ذكرها فيما قبل ذلك، و الواو في قوله و إنّه ليعلم أنّ محليّ منها واو الحال، و لمّا كان قطب الرحى هو الّذي به نظام حركاتها و به يحصل الغرض منها و كان هو عليه السّلام الناظم لأمور المسلمين على وفق الحكمة الإلهيّة و العالم بكيفيّة السياسة الشرعيّة لا جرم شبّه محلّه من الخلافة بمحلّ القطب من الرحى، و قد جمع هذا التشبيه أنواع التشبيه الموجودة في الكلام العرب و هي ثلاثة: أحدها تشبيه محلّه بمحلّ القطب من الرحى و هو تشبيه للمعقول بالمعقول فإنّ محلّ القطب هو كونه نظام أحوال الرحى و ذلك أمر معقول، و ثانيها تشبيه نفسه بالقطب و هو تشبيه للمحسوس بالمحسوس، و ثالثها تشبيه الخلافة بالرحى و هو تشبيه المعقول بالمحسوس، و لمّا كانت حاجة الرحى إلى القطب ضروريّة و لا يظهر نفعها إلّا به فهم من تشبيه محلّه بمحلّه أنّه قصد أنّ غيره لا يقوم مقامه في أمر الإمامة، و لا يتأهّل لها مع وجوده كما لا يقوم غير القطب‏ مقامه في موضعه ثمّ أكّد ذلك بقوله ينحد رعنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير فاستعار لنفسه و صفين: أحدهما كونه ينحدر عنه السيل و هو من أوصاف الجبل و الأماكن المرتفعة، و كنّى به عن علوّه و شرفه مع فيضان العلوم و التدبيرات السياسيّة عنه، و استعار لتلك الكمالات لفظ السيل، و الثاني أنّه لا يرقي إليه الطير و هو كناية عن غاية اخرى من العلوّ إذ ليس كلّ مكان علا بحيث ينحدر عنه السيل وجب أن لا يرقى إليه الطير فكان ذلك علوّا أزيد كما قال أبو تمام:
مكارم لجتّ في علوّ كأنّما تحاول ثارا عند بعض الكواكب.

قوله فسدلت دونها ثوبا. كناية عن احتجابه عن طلبها، و المبالغة فيها بحجاب الإعراض عنها، و استعار لذلك الحجاب لفظ الثوب استعارة لفظ المحسوس للمعقول، و كذلك قوله و طويت عنها كشحا تنزيل لها منزلة المأكول الّذي منع نفسه من أكله فلم يشتمل عليه كشحه، و قيل: أراد بطيّ الكشح التفاته عنها كما يفعل المعرض عمّن إلى جانبه قال: طوى كشحه عنّي و أعرض جانبا. قوله و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخيه عمياء يريد أنّي جعلت اجيل الفكر في تدبير أمر الخلافة و أردّه بين طرفي نقيض إمّا أن أصول على من حازها دوني أو أن أترك، و في كلّ واحد من هذين القسمين خطر أمّا القيام فبيد جذّاء و هو غير جائز لما فيه من التغرير بالنفس و تشويش نظام المسلمين من غير فائدة، و استعار وصف الجذّاء لعدم الناصر، و وجه المشابهة أنّ قطع اليد لمّا كان مستلزما لعدم القدرة على التصرّف بها و الصولة و كان عدم الناصر بها و المؤيّد مستلزما لذلك لا جرم حسنت الاستعارة، و أمّا الترك ففيه الصبر على مشاهد التباس الامور و اختلاطها و عدم تمييز الحقّ و تجريده عن الباطل و ذلك في غاية الشدّة و البلاء أيضا، و استعار لذلك الالتباس لفظ الطخية و هو استعارة لفظ المحسوس للمعقول، و وجه المشابهة أنّ الظلمة كما لا يهتدى فيها للمطلوب كذلك اختلاط الامور هاهنا لا يهتدى معها لتمييز الحقّ و كيفيّة السلوك إلى اللّه، و وصف الطخية بالمعنى أيضا على وجه الاستعارة فإنّ الأعمى لمّا لم يكن ليهتدي لمطالبه كذلك هذه الظلمة لا يهتدى فيها للحقّ و لزومه، ثمّ كنّى عن شدّة ذلك الاختلاط و مقاساة الخلق بسبب عدم انتظام الأحوال و طول مدّة ذلك بأوصاف:

أحدها أنّه يهرم فيها الكبير، و الثاني أنّه يشيب فيها الصغير. و الثالث أنّ المؤمن المجتهد في لزوم الحقّ و الذبّ عنه يقاسي من ذلك الاختلاط شدائد و يكدح فيها حتّى يلقى ربّه، و قيل: يد أب و يجتهد في الوصول إلى حقّه فلا يصل حتّى يموت، ثمّ أشار بعد ذلك إلى ترجّح رأيه في اختيار القسم الثاني و هو الصبر و ترك القيام في هذا الأمر بقوله: فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى و أليق بنظام الإسلام، و وجه الترجيح ظاهر فإنّه لمّا كان مقصود عليّ عليه السّلام من هذه المنافسة إنّما هو إقامة الدين و إجراء قواعده على القانون المستقيم و نظام امور الخلق كما هو المقصود من مقالات الشارعين صلوات اللّه عليهم أجمعين، و كانت صولته و محاربته لمنا فسيه في الإمامة بغير ناصر لا تثمر القيام به و مع ذلك ففيه انشعاب امور المسلمين و تفرّق كلمتهم و ثوران الفتن بينهم خصوصا، و الإسلام غضّ لم ترسخ محبّته في قلوب كثير الخلق و لم يطعموا حلاوته و فيهم منافقون و الأعداء المشركون في غاية القوّة من كلّ الأقطار لا جرم لم يمكنه مع ملاحظة هذه الأحوال إثارة الحرب و المنازعة لأداء ذلك إلى ضدّ ما هو مقصود له بحركته و محاربته، و أمّا الصبر و ترك المقاومة و إن كان فيه بحسب رأيه ما ذكره من اختلال الدين و أنّه لو كان هو القائم لهذا الأمر لكان انتظامه به أتمّ و قوامه أكمل إلّا أنّه أقليّ بالنسبة إلى الاختلال الّذي كان يحصل لو نازع في هذا الأمر و قام في طلبه و بعض الشرّ أهون من بعض. قوله فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجى. الواو للحال و الجملتان كنايتان عن شدّة ما أضمره من التأذّي و الغبن بسبب سلبه ما يرى أنّه أولى به من غيره و ما يعتقده من الخبط في الدين بيد غيره. قوله أرى تراثي نهبا قيل أراد بتراثه ما خلّفه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لابنته كفدك فإنّه يصدق عليها أنّه ميراثه لأنّ مال الزوجة في حكم مال الزوج، و النهب إشارة إلى منع الخلفاء الثلاثة لها بالخبر الّذي رواه أبو بكر نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه فهو صدقة، و قيل: أراد منصب الخلافة و يصدق عليه لفظ الإرث كما صدق في قوله تعالى حكاية عن زكريّا عليه السّلام «يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» فإنّه أراد يرث علمي و منصبي في نبوّته فكان اسم الميراث صادقا على ذلك.

قوله حتّى مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده. أراد بالأوّل ابا بكر و بفلان عمر، و أشار بالإدلاء إلى نصّ أبي بكر على أن يكون عمر هو الخليفة بعده و مضيّه لسبيله انتقاله إلى دار الآخرة و سلوكه السبيل الّذي لا بدّ منه لكلّ إنسان، و أمّا البيت فهو لأعشى قيس، و اسمه ميمون بن جندل من بني قيس من قصيدة أوّلها.

علقم ما أنت إلى عامر الناقص الأوتار و الواتر و حيّان و جابر ابنا السمين بن عمرو من بني حنيفة، و كان حيّان صاحب الحصن باليمامة و كان سيّدا مطاعا يصله كسرى في كلّ سنة و كان في نعمه و رفاهيّته مصونا من و عثاء السفر لأنّه ما كان يسافر أبدا، و كان الأعشى ينادمه و أراد ما أبعد ما بين يومىّ يومى على كور المطيّة أداب و أنصب في الهواجر و بين يومي منادما حيّان أخي جابر، و ادعا فارانى نعمة و خفض، و يروى أنّ حيّان عاتب الأعشى في تعريفه بنسبته إلى أخيه فاعتذر إليه الأعشى بأنّ القافية قادته إلى ذلك فلم يقبل عذره، و اليوم الأوّل في موضع رفع باسم الفعل، و الثاني بالعطف عليه، و أمّا غرض التمثيل بالبيت فأفاد السيّد المرتضى أراد بذلك أنّ القوم لمّا فازوا بمقاصدهم و رجعوا بمطالبهم فظفروا بها و هو في أثناء ذلك كلّه محقّق في حقّه مكذّب في نصيبه كما أشار إليه بقوله: و في العين قذى و في الحلق شجى كان بين حالهم و حاله بعد بعيد و افتراق شديد فاستشهد عليه السّلام بهذا البيت و استعار لفظ اليومين، و كنّى بهما عن حاله و حالهم، و وجه المشابهة في هذا المثل أنّ حالهم استلزم حصول المطالب و الرفاهيّة كيوم حيّان و حاله عليه السّلام استلزم المتاعب كيومه على كور الناقة مسافرا قلت: و يحتمل أن يكون قد استعار يوم حيّان لعهده مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و ما كان يحصل له في مدّة صحبته من الفوائد الجسميّة و الكمالات من العلوم و الأخلاق، و يوم كونه على كور الناقة لزمانه بعد الرسول صلى اللّه عليه و آله و ما لحقه فيه من مقاساة المحن و متاعب الصبر على الأذى، و وجه المشابهة ما يشتمل عليه يوم حيّان و عهد الرسول من المسارّ و ما يشترك فيه يوم كونه على كور الناقة و أوقاته بعد الرسول من المضارّ.

قوله فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته. إشارة إلى أبى بكر، و طلبه الإقالة هو قوله: أقيلونى فلست بخيركم، و وجه التعجّب هاهنا أنّ طلب أبي بكر للإقالة من هذا الأمر إنّما هو لثقله و كثرة شرائطه و شدّة مراعاة إجراء أحوال الخلق مع اختلاف طباعهم و أهوائهم على قانون واحد و خوفه أن تعثر به مطايا الهوى فترديه في موارد الهلاك، و على هذا التقدير فكلّما كانت مدّة ولاية الإنسان لهذا الأمر أقصر كان خوفه أقلّ و كانت متاعبه أيسر و أسهل، و سبيل طالب الإقاله من هذا الأمر و أمثاله و مقتضى طلبه لذلك أن يتحرّى قلّة متاعب هذا الأمر و يجتهد في الخلاص منه مهما أمكنه ذلك فإذا رأيناه متمسّكا بهذا الأمر مدّة حياته و عند وفاته يعقده لآخر بعده فيتحملّ مضارّ هذا الأمر في حال الحياة و بعد الوفاة فلا بدّ و أن يغلب على الظنّ أنّ طلبه للإقالة لم يكن عن قصد صحيح فيصير ذلك الظنّ مقابلا لما اشتهر عنه من العدالة و ذلك محلّ التعجّب، و هذا بخلاف ما اشتهر بالفسق و النفاق فإنّه لا يتعجّب من فعله لو خالف قوله.

قوله لشدّ ما تشطّرا ضرعيها. اللام للتأكيد و ما مع الفعل بعدها في تقدير المصدر و هو فاعل شدّ و الجملة من تمام التعجّب، و قد استعار عليه السّلام لفظ الضرع هاهنا للخلافة، و هي استعارة مستلزمة لتشبيهها بالناقة، و وجه المشاركة المشابهة في الانتفاع الحاصل منها، و المقصود وصف اقتسامهما لهذا الأمر المشبّه لاقتسام الحالبين أخلاف الناقة بالشدّة على من يعتقد أنّه أحقّ بها منهما أو على المسلمين الّذين يشبهون

الأولادلها، و قوله فصيّرها في حوزة خشناء كنّى بالحوزة عن طباع عمر فإنّها كانت توصف بالجفاوة و الغلظ في الكلام و التسرّع إلى الغضب و ذلك معنى خشونتها.

قوله يغلظ كلامها و يخشن مسّها. استعار لتلك الطبيعة وصفين: أحدهما غلظ الكلم و هو كناية عن غلظ المواجهة بالكلام و الجرح به فإنّ الضرب باللسان أعظم من و خز و السنان، و الثاني جفاوة المسّ و هي كناية عن خشونة طباعه المانعة من ميل الطباع إليه المستلزمة للأذى كما يستلزم مسّ الأجسام الخشنة. قوله و يكثر العثار و الاعتذار منها. إشارة إلى ما كان يتسرّع إليه عمر من الأحكام ثمّ يعاود النظر فيها فيجدها غير صائبة فيحتاج إلى الاعتذار، و الضمير في منها يعود إلى الطبيعة المعبّر عنها بالحوزة فمن ذلك ما روى أنّه أمر برجم امراة زنت و هي حامل فعلم عليّ عليه السّلام بذلك فجاء إليه و قال له: إن كان لك سلطان عليها فما سلطانك على ما في بطنها، دعها حتّى تضع ما في بطنها ثمّ ترضع ولدها فعندها قال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر و تركها، و كذلك ما روى أنّه أمر أن يؤتى بامراة لحال اقتضت ذلك و كانت حاملا فانزعجت من هيبته فاجهزت جنينا فجمع جمعا من الصحابة و سألهم ما ذا يجب عليهم فقالوا: أنت مجتهد و لا ترى أنّه يجب عليك شي‏ء فراجع عليّا عليه السّلام في ذلك و أعلمه بما قال بعض الصحابة فأنكر ذلك و قال: إن كان ذلك عن اجتهاد منهم فقد أخطئوا و إن لم يكن عن اجتهاد فقد غشّوك. أرى عليك العزّة فعندها قال لا عشت لمعضلة لا تكون لها يا أبا الحسن، و منشأ ذلك و أمثاله غلبة القوّة الغضبيّة و غلظ الطبيعة. قوله فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحّم قيل الضمير في صاحبها يعود إلى الحوزة المكنّى بها عن طبيعة عمر و أخلاقه، و المراد على هذا الوجه أنّ للصاحب لتلك الأخلاق في حاجة إلى المداراة في صعوبة حاله كراكب الصعبة، و وجه المشابهة أنّ راكب الصعبة كما يحتاج إلى الكلفة الشاقّة في مداراة أحوالها فهو معها بين خطرين إن والى الجذبات في وجهها بالزمام خرم أنفها، و إن أسلس لها في القياد تقحّمت به المهالك كذلك مصاحب أخلاق الرجل و المبتلى بها إن أكثر عليه إنكار ما يتسرّع إليه أدّى ذلك إلى مشاقّته و فساد الحال بينهما، و إن سكت عنه و تركه و ما يصنع أدّى ذلك إلى الإخلال بالواجب و ذلك من موارد الهلكة، و قيل الضمير في صاحبها للخلافة و صاحبها هو كلّ من تولّى أمرها إذا كان عادلا مراعيا لحقّ اللّه، و وجه شبهه براكب الصعبة أنّ المتولّي لأمر الخلافة يضطرّ إلى الكلفة الشاقّة في مداراة أحوال الخلق و نظام امورهم على القانون الحقّ و أن يسلك بهم طريق العدل المحفوشة (المحسوسة) بطرف التفريط و التقصير المشبّه لإسلاس قياد الصعبة، و بطرف الإفراط في طلب الحقّ و استقصاء فيه الّذي يشبه شنقها فإنّ المتولّي لأمر الخلافة إن فرّط في المحافظة على شرائطها و أهمل أمرها ألقاه التفريط في موارد الهلكة كما نسبه الصحابة إلى عثمان حتّى فعل به ما فعل، فكان في ذلك كراكب صعبة أسلس قيادها، و إن أفرط في حمل الخلق على أشدّ مراتب الحقّ و بالغ في الاستقصاء عليهم في طلبه أوجب ذلك تضجّرهم منه و نفار طباعهم و تفرّقهم عنه و فساد الأمر عليه لميل أكثرهم إلى حبّ الباطل و غفلتهم عن فضيلة الحقّ، و إن صعب، فيكون في ذلك كمن أشنق المصعبة الّتي هو راكبها حتّى خرم أنفها، و هو من التشبيهات اللطيفة، و قيل: أراد بصاحبها نفسه و تشبّه براكب الصعبة لأنّه أيضا بين خطرين إمّا أن يبقى ساكتا عن طلب هذا الأمر و القيام فيتقحّم بذلك في موارد الذلّ و الصغار كما يتقحّم راكب الصعبة المسلس لها قيادها، و إمّا أن يقوم فيه و يتشدّد في طلبه فينشعب أمر المسلمين بذلك و ينشقّ عصاهم فيكون في ذلك كمن أشنق لها فخرم أنفها، و الأوّل أليق بسياق الكلام و نظامه، و الثاني أظهر، و الثالث محتمل. قوله فمنى الناس لعمر اللّه بخبط و شماس و تلوّن و اعتراض إشارة إلى ما ابتلوا به من اضطراب الرجل و حركاته الّتي كان ينقمها عليه فكنّى بالخبط عنها و بالشماس عن جفاوة طباعه و خشونتها و بالتلوّن و الاعتراض عن انتقاله من حالة إلى اخرى في أخلاقه، و هي استعارات، و وجه المشابهة فيها أنّ خبط البعير و شماس الفرس و اعتراضها في الطريق حركات غير منظومة فأشبهها ما لم يكن منظوما من حركات الرجل الّتي ابتلى الناس بها، و لا شكّ أنّه كان صعبا عظيم السطوة و الهيبة و كان أكابر الصحابة يتحامونه، و قيل لابن عبّاس لمّا أظهر قوله في مسئلة العقول بعد موت عمر: هلّا قلت ذلك و عمر حيّ قال هيبته، و كان رجلا مهيبا، و قيل: إنّ ذلك إشارة إلى ما ابتلى به الناس من اضطراب الأمر و تفرّق الكلمة و جرى امورهم على غير نظام بسبب تفرّق كلمتهم، ثمّ أردف ذلك بتكرير ذكر صبره على ما صبر عليه مع الثاني كما صبر مع الأوّل، و ذكر أمرين: أحدهما طول مدّة تخلّف الأمر عنه، و الثاني شدّة المحنة بسبب فوات حقّه و ما يعتقد من لوازم ذلك الفوت و هو عدم انتظام أحوال الدين و إجرائه على قوانينه الصحيحة، و لكلّ واحد من هذين الأمرين حصّة في استلزام الأذى الّذي يحسن في مقابلته الصبر.

قوله حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم. أقول: حتّى هنا لانتهاء الغاية، و الغاية لزوم تالي الشرطيّة لمقدّمها أعنى جعله لها في جماعة لمضيّه لسبيله، و أشار بالجماعة إلي أهل الشورى، و خلاصة حديث الشورى أنّ عمر لمّا طعن دخل عليه وجوه الصحابة، و قالوا له: ينبغي لك أن تعهّد عهدك أيّها الرجل و يستخلف رجلا ترضاه، فقال: لا احبّ أن أتحمّلها حيّا و ميّتا، فقالوا: أفلا تشير علينا فقال: أمّا أن اشير فإن أجبتم قلت فقالوا: نعم فقال: الصالحون لهذا الأمر سبعة نفرسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول: إنّهم من أهل الجنّة أحدهم سعيد بن زيد و أنا مخرجه منهم لأنّه من أهل بيتي، و سعد بن أبي وقّاص و عبد الرحمن بن عوف و طلحة و زبير و عثمان و عليّ، فأمّا سعد فلا يمنعني منه إلّا عنفه و فظاظته، و أمّا من عبد الرحمن بن عوف فلأنّه قارون هذه الأمّة، و أمّا من طلحة فتكبّره و نخوته، و أمّا من الزبير فشحّه و لقد رأيته بالبقيع يقاتل على صاع من شعير و لا يصلح لهذا الأمر إلّا رجل واسع الصدر، و أمّا من عثمان فحبّة لقومه و عصبيّته لهم و أمّا من عليّ فحرصه على هذا الأمر و دعابته فئته، ثمّ قال: يصلّى صهيب بالناس ثلاثة أيّام و تخلو الستّة نفر في البيت ثلاثة أيّام ليتّفقوا على رجل منهم فإن استقام أمر خمسة و أبي رجل فاقتلوه و إن استقرّ أمر ثلاثة و أبى ثلاثة فكونوا مع الثلاثة الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، و يروى فاقتلوا الثلاثة الّذين ليس فيهم عبد الرحمن بن عوف، و يروى فتحاكموا إلى عبد اللّه بن عمر فأيّ الفريقين قضى له فاقتلوا الفريق الآخر، فلمّا خرجوا عنه و اجتمعوا لهذا الأمر قال عبد الرحمن: إنّ لي و لابن عمي من هذا الأمر الثلث فنحن نخرج أنفسنا منه على أن نختار رجلا هو خيركم للأمّة فقال القوم: رضينا، غير عليّ فإنّه أتّهمه في ذلك، و قال: أرى و أنظر، فلمّا آيس من رضى علىّ رجع إلى سعد فقال: هلّم نعيّن رجلا و نبايعه، فالناس يبايعون من بايعته فقال سعد: إن بايعك عثمان فأنا لكم ثالث، و إن أردت أن تولّى عثمان فعليّ أحبّ إلىّ، فلمّا آيس من مطاوعة سعد كفّ عنهم و جاءهم أبو طلحة في خمسين رجلا من الأنصار يحثّهم على التعيين فأقبل عبد الرحمن إلى عليّ عليه السّلام و أخذ بيده، و قال: ابايعك على أن تعمل بكتاب اللّه و سنّة رسوله و سيرة الخليفتين أبي بكر و عمر فقال عليّ عليه السّلام: تبايعني على أن أعمل بكتاب اللّه و سنّة رسوله و أجتهد رأيي فترك يده، ثمّ أقبل على عثمان فأخذ بيده و قال له مثل مقاله لعليّ عليه السّلام فقال: نعم فكرّر القول على كلّ منهما ثلاثا فأجاب كلّ بما أجاب به أوّلا فبعدها قال عبد الرحمن: هي لك يا عثمان و بايعه ثمّ بايعه الناس، و في النسخ زعم أنّي سادسهم، ثمّ أردف حكاية الحال بالاستغاثة باللّه للشورى، و الواو إمّا زائدة أو للعطف على محذوف مستغاث له أيضا كأنّه قال: فياللّه لعمر و للشورى، أولى و للشورى و نحوه، و الاستفهام عن وقت عروض الشكّ لأذهان الخلق في أنّ الأوّل هل يساويه في الفضل أو لا يساويه استفهاما على سبيل الإنكار و التعجّب من عروضه لأذهانهم إلى غاية أن قاسوه بالخمسة المذكورين و جعلوهم نظراء و أمثالا له في المنزلة و استحقاق هذا الأمر. قوله لكنّي أسففت إذ أسفّوا و طرت إذ طاروا. استعارة لأحوال الطائر من الإسفاف و الطيران لأحواله من مقارنته لمراده و تصرّفه على قدر اختيارهم أوّلا و آخرا.

قوله فصغار رجل منهم لضغنه. إشارة إلى سعد بن أبي وقّاص فإنّه كان منحرفا عنه عليه السّلام و هو أحد المتخلّفين عن بيعته بعد قتل عثمان، و قوله و مال الآخر لصهره. إشارة إلى عبد الرحمن بن عوف فإنّه مال إلى عثمان لمصاهرة كانت بينهما و هي أنّ عبد الرحمن كان زوجا لامّ كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط و هي اخت عثمان لامّة أروى بنت كريز. قوله مع هن و هن يريد أنّ ميله إليه لم يكن لمجرّد المصاهرة بل لأشياء اخرى يحتمل أن يكون نفاسة عليه و غبطة له بوصول هذه الأمر إليه أو غير ذلك، و قوله إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله و متعلفه. أراد به عثمان و كنّي بقيامه عن حركته في ولايته أمر الخلافة و أثبت له حالا يستلزم تشبيهه بالبعير، و استعارة وصفه و هو نفج الحضين، و كنّى بذلك عن استعداده للتوسّع ببيت مال المسلمين و حركته في ذلك كما نسب إليه تشبيها له بالبعير ينتفج جنباه بكثرة الأكل، كذلك المتوسّع في الأكل و الشرب، و ربّما قيل ذلك لمتكبّر المنتفج كبرا، و كذلك قوله بين نثيله و معتلفه و هو متعلّق بقام أي قام بين معتلفه و روثه و هو من أوصاف البهائم، و وجه الاستعارة أنّ البعير و الفرس كما لا اهتمام له أكثر من أن يكون بين أكل و روث، كذلك نسبه إلى أنّه لم يكن أكبر همّه إلّا الترفّة و التوفّر في المطعم و المشرب و سائر مصالح نفسه و أقاربه دون ملاحظة امور المسلمين و مراعات مصالحهم كما نقم عليه. قوله و قام معه بنو اميّه يخضمون مال اللّه تعالى خضم الإبل نبتة الربيع.
يخضمون في موضع الحال، و عنى بمال اللّه بيت المال، و أراد ببني أبيه بني اميّة بن عبد شمس، و يحتمل أن يريد أقرباه مطلقا و خصّ بني أبيه تغليبا للذكورة، و كنّي بالخضم عن كثرة توسّعهم بمال المسلمين من يد عثمان، و قد نقلت عنه من ذلك صور: أحدها أنّه رفع إلى أربعة نفر من قريش زوّجهم ببناته أربع مائة ألف دينار، و ثانيها أنّه لمّا فتح إفريقيّة أعطى مروان بن‏ الحكم مائة ألف دينار و يروي خمس إفريقيّة، و ثالثها روي من عدّة طرق أن أبا موسى الأشعريّ بعث إليه بمال عظيم من البصرة فجعل يفرّقه في ولده و أهله و كان ذلك بحضرة زياد بن عبيد مولى حرث بن كلاة الثقفيّ فبكى زياد لما رأى فقال له: لا تبك فإنّ عمر كان يمنع قرابته ابتغاء وجه اللّه و أنا أعطي أهلي و قرابتي ابتغاء وجه اللّه، و رابعها روي أنّه ولّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاث مائة ألف فوهبها له حين أتاه بها، و خامسها روى أبو مخنف أنّ عبد اللّه بن خالد بن اسيد قدم على عثمان من مكّة و معه ناس فأمر لعبد اللّه بثلاث مائة ألف و لكلّ واحد منهم بمائة ألف و صكّ بذلك على عبد اللّه بن الأرقم و كان حينئذ خازن بيت المال فاستكثر ذلك و ردّ الصكّ فقال له عثمان: ما حملك على ردّه و إنّما أنت خازن قال: كنت أرابي بيت مال المسلمين و إنّما خازنك غلامك و أنّه لا ألي لك بيت المال أبدا، و جاء بالمفاتيح فعلّقها على المنبر فدفعها عثمان إلى مولاه نائل، و روى الواقدي أنّ عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت المال إلى عبد اللّه بن أرقم عقيب ما فعل ثلاث مائة ألف درهم فلمّا دخل عليه بها قال له: يا أبا محمّد إنّ أمير المؤمنين أرسل إليك يقول إنّا شغلناك عن التجارة و لك ذوو رحم أهل حاجة ففرّق هذا المال فيهم و استغن به على عيالك، فقال عبد اللّه: ما لى إليك حاجة، و ما عملت لأن يثيبني عثمان فإن كان هذا من بيت المال لما بلغ قدر عملي أن اعطى ثلاث مأئة ألف درهم، و إن كان من ماله فلا حاجة لي به، و بالجملة فمواهبه لأهله و ذويه مشهورة، و قد شبّه عليه السّلام خضمهم لمال اللّه بخضم الإبل نبت الربيع، و وجه التشبيه أنّ الإبل لمّا كانت تستلذّ نبت الربيع بشهوة صادقة و تملاء منه أحناكها، و ذلك لمجيئه عقيب يبس الأرض و طول مدّة الشتاء، و مع ذلك طيبه و نضارته، كان ما أكله أقارب عثمان من بيت المال مشبّها لذلك من جهة كثرته و طيبه لهم عقيب ضرّهم و فقرهم، و كلّ ذلك في معرض الذّم و التوبيخ المستلزم لارتكاب مناهي اللّه المستلزم لعدم التأهّل لأمر الخلافة.

قوله إلى انتكث عليه فتله و أجهز عليه عمله و كبت به بطنته. إشارة إلى غايات من قيامه في الحال المذكورة و استعار لفظ الفتل و هو برم الحبل لما كان يبرمه من الرأي و التدبير و يستبدّ به دون الصحابة و كنّى به عنه، و كذلك لفظ الانتكاث لانتقاض ذلك التدابير و رجوعها عليه بالفساد و الهلاك، و قوله و أجهز عليه عمله يشتمل على مجاز في الإفراد و التركيب أمّا في الإفراد فلأنّ استعمال الإجهاز إنّما يكون حقيقة في قتل تقدّمه جرح المقتول و إثخان بضرب و نحوه، و لمّا كان قتل عثمان مسبوقا بطعن أسنّة الألسنة و الجرح بحدّ أو سيوفها لا جرم أشبه قتله الإجهاز فأطلق عليه لفظه، و أمّا في التركيب فلأنّ إسناد الإجهاز إلى العمل ليس حقيقة لصدور القتل عن القاتلين لكن لمّا كان عمله هو السبب الحاصل لهم على قتله صحّ إسناد الإجهاز إليه إسناد الفعل إلى السبب الفاعليّ أي إلى السبب الحامل و هو من وجوه المجاز، و كذلك قوله و كبت به بطنته مجاز أيضا في الإسناد و التركيب، و ذلك لأنّ الكبو إنّما هو حقيقة في الإسناد إلى الحيوان و لمّا كان ارتكابه للامور الّتي نقمت عليه و توسّعه ببيت المال المكنّى عن ذلك بالبطنة و استمراره على ذلك مدّة خلافته سليما يشبه ركوب الفرس و استمرار مشيه سليما من العثار و الكبو كانت البطنة مشبّهة للمركوب من هذه الجهة فلذلك صحّ إسناد الكبو إليها مجازا. قوله فما راعني إلّا و الناس كعرف الضبع إلىّ ينثالون عليّ من كل جانب. إلىّ متعلّق بمحذوف تقديره مقبلون إلىّ و فاعل راعني إمّا الجملة الإسميّة و هو مقتضى قول الكوفيّين إذ جوّز و اكون الجملة فاعلا أو ما دلّت عليه هذه الجملة و كانت مفسّرة له من المصدر أي فما راعني إلّا إقبال الناس إلىّ و هو فرع مذهب البصريين إذ منعوا كون الجملة فاعلا، و نظيره قوله تعالى «ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ»«» و ينثالون إمّا خبر ثان للمبتدأ أو حال عن راعني أو العامل في إلىّ و الإشارة إلى وصف ازدحام الناس عليه للبيعة بعد قتل عثمان، و قد شبّههم في إقبالهم إليه، و ازدحامهم عليه بعرف الضبع، و وجه ذلك أنّ الضبع ذات عرف كثير قائم الشعر و العرب يسمّى الضبع عرفا لعظم عرفها فكان حال الناس في إقبالهم عليه متتابعين يتلو بعضهم بعضا قياما يشبه عرف الضبع.

قوله حتّى لقد وطى‏ء الحسنان و شقّ عطفاى. إشارة إلى غاية ازدحامهم عليه، و هي وطى ولديه الحسن و الحسين عليهما السّلام و شقّ ردائه بالجذب عند خطابه و الجلوس على جانبيه.
و أمّا على الرواية الاخرى فالمراد بالشقّ إمّا الأذى الحاصل للصدر و المنكبين، أو شقّ‏ قميصه بالجلوس على جانبيه، و إطلاق لفظ العطفين على جانبي القميص مجاز إطلاقا لاسم المجاور على مجاوره أو المتعلّق على متعلّقه، و من عادة العرب أن يكون أمراؤهم كسائرهم في قلّة التوقير و التعظيم في المخاطبات، و فعلهم ذلك إمّا فرح به عليه السّلام، أو لجلاقة طباع رعاعهم.

و حكى السيّد المرتضى- رضوان اللّه عليه- أنّ أبا عمر محمّد بن عبد الواحد غلام ثعلب روى في قوله عليه السّلام وطى‏ء الحسنان إنّهما الإبهامان، و أنشد المشنفريّ مهضومة الكشحين خرماء الحسن، و روى أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام إنّما كان يومئذ جالسا محتبيا و هي جلسة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله المسمّاة بالقرفصاء و هي جمع الركبتين و جمع الذيل فلمّا اجتمعوا ليبايعوه زاحموه حتّى وطئوا إبهاميه و شقّوا ذيله بالوطى و لم يعن الحسن و الحسين عليهما السّلام و هما رجلان كسائر الحاضرين، و هذا القول يؤيّد الرواية الاولى، و اعلم أنّ إرادته للحسن و الحسين أظهر. قوله مجتمعين حولي كربيضة الغنم. مجتمعين منصوب على الحال كالّذي قبله و العامل واحد أو بقوله وطى‏ء و شقّ، و قد شبّه اجتماعهم حوله بربيضة الغنم و وجه التشبيه ظاهر، و يحتمل أن يلاحظ في وجه التشبيه مع الهيئة زيادة و هي أنّه شبّهم بالغنم لغفلتهم عن وضع الأشياء في مواضعها، و قلّة فطانتهم و عدم استعمالهم للأدب معه أو مطلقا و العرب تصف الغنم بالغباوة و قلّة الفطانة. قوله فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة و مرقت اخرى و فسق آخرون. أراد بالناكثين طلحة و الزبير لأنّهما بايعاه و نقضا بيعته بخروجهما عليه و كذلك من تبعهما ممّن بايعه، و بالمارقين الخوارج، و بالقاسطين أو الفاسقين أصحاب معاوية، و هذه الأسماء سبقت من الرسول صلى اللّه عليه و آله إذ حكى في موضع آخر أنّه أخبره بأنّه سيقاتل الناكثين و المارقين و القاسطين بعده، و إنّما خصّ الخوارج بالمروق لأنّ المروق و هو مجاوزة السهم للرمية و خروجه منها، و لمّا

كانت الخوارج أوّلا منتظمون في سلك الحقّ إلّا أنّهم بالغوابز عمهم في طلبه إلى أن تعدّوه و تجاوزوه لا جرم حسن أن يستعار لهم لفظ المروق لمكان المشابهة و قد أخبر الرسول صلى اللّه عليه و آله عنهم بهذا اللفظ إذ قال: يمرقون من الدّين كما يمرق السهم من الرميّة و أمّا تخصيص أهل الشام بالفاسقين فلأنّ مفهوم الفسق أو القسط هو الخروج عن سنن الحقّ و قد كانوا كذلك بمخالفته عليه السّلام و الخروج عن طاعته فكان إطلاق أحد اللفظين عليهم لذلك. قوله كأنّهم لم يسمعو اللّه يقول «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»«». تنبيه لأذهان الطوائف الثلاث المذكورة و من عساه يتخيّل أنّ الحقّ في سلوك مسالكهم على أنّ ما فعلوه من المخالفة عليه و القتال له إنّما هو طلب للعلوّ و المفاخرة في الدنيا المستلزم للسعي في الأرض بالفساد و إعراض عن الدار الآخرة و حسم لمادّة إعذارهم أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين فيقولوا عند لقاء ربهم لو سمعنا هذه الآية و وعيناها لما ارتكبنا هذه الأفعال، و يزعمون أنّ الحقّ في هذه المتّصلة هو استثناء نقيض تاليها لينتج لهم نقيض مقدّمها، و تقديره عليه السّلام لهذا العذر لهم، على سبيل التهكّم بهم و أنّه لا عذر لهم في الحقيقة ممّا فعلوه ثمّ أراد عليه السّلام تكذيبهم في ذلك العذر على تقدير اعتذارهم به فأشار إلى مكذّب النتيجة بوضع نقيضها مؤكّدا بالقسم البارّ، و إلى منع لزوم هذه المتّصلة بقوله بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها و لكنّه حليت الدنيا في أعينهم، و نبّه على أنّ وضع المقدّم المذكورة في المتّصلة لا يستلزم تاليها مطلقا بل استلزامه له موقوف على زوال مانع هو حاصل لهم الآن و ذلك المانع هو غرور الدنيا لهم بزينتها و إعجابهم بها و على تقدير حصول المانع المذكور جاز أن يجتمع هذا المقدّم مع نقيض التالي المذكور و هو ارتكاب ما ارتكبوه من الأفعال. قوله أما و الّذي فلق الحبّة و برء النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء إلى آخره.

أقول: لمّا ذكر من حال القوم و حاله معهم ما ذكر من الشكاية و التظلّم في أمر الخلافة و ذمّ الشورى و ما انتهى إليه من الحال الّتي أوجبت نزوله عن مرتبته إلى أن قرن بالجماعة المذكورين أردف ذلك ببيان الأعذار الحاملة على قبول هذا الأمر و القيام به بعد تخلّفه عنه إلى هذه الغاية، و قدّم على ذلك شاهدا هذا القسم العظيم بهاتين الإضافتين و هما فالق الحبّة و بارى‏ء النسمة، و اعلم أنّ الوصف الأوّل قد ورد في القرآن الكريم و هو قوله «فالِقُ‏ الْحَبِّ وَ النَّوى‏» و إنّما خصّ الحبّة و النسمة بالتعظيم بالنسبة إلى اللّه تعالى لما يشتملان عليه من لطف الخلقة و صغر الحجم من أسرار الحكمة و بدائع الصنع الدالّة على وجود الصانع الحكيم، أمّا فالق الحبّ ففيه قولان: أحدهما قال ابن عبّاس و الضحاك: فالق الحبّ أي خالقه فعلى هذا يكون معنى قوله عليه السّلام فلق الحبّة كقوله فطر الخلائق بقدرته، الثاني و هو الّذي عليه جمهور المفسّرين أنّ فلق الحبّة هو الشقّ الّذي في وسطها، و تقرير هذا القول أنّ الحبّة من الحنطة مثلا لمّا كانت من غايتها أن تكون شجرة مثمرة تنتفع بها الحيوان جعل اللّه سبحانه في وسطها ذلك الشقّ حتّى إذا وقعت في الأرض الرطبة ثمّ مرّت بها مدّة من الزمان جعل سبحانه الطرف الأعلى من ذلك الشقّ مبدء لخروج الشجرة الصاعدة إلى الهواء و الطرف الأسفل مبدء للعروق الهابطة إلى الأرض الّتي منها مادّة تلك الشجرة، و في ذلك بدائع من الحكمة شاهدة بوجود المدبّر الحكيم: أحدها أن تكون طبيعة تلك الحبّة إن كانت تقتضى الهوى في عمق الأرض فكيف تولّدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء و على العكس، فلمّا تولّد منها أمران متضادّان علمنا أنّ ذلك ليس لمجرّد الطبيعة بل بمقتضى الحكمة الإلهيّة، و ثانيها أنّا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقّة و اللطافة بحيث لو دلكها الإنسان بأدنى قوّة دلكا لصارت كالماء ثمّ إنّها مع غاية تلك اللطافة تقوى على خرق الأرض الصلبة و تنفذ في مسام الأحجار فحصول هذه القوّة الشديدة لهذه الأجرام اللطيفة الضعيفة لا بدّ و أن يكون بتقدير العزيز الحكيم، و ثالثها أنّك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة كالاترج فإنّ قشره حارّ يابس، و لحمه بارد رطب، و حماضه بارد يابس، و برزه حار يابس.

فتولّد هذه الطبائع المتضادّة من الحبّة الواحدة لابدّ و أن يكون بتقدير الفاعل الحكيم، و رابعها أنّك إذا نظرت إلى ورقة من أوراق الشجره المبدعة عن الحبّة وجدت في وسطه خطّا مستقيما كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان ثمّ لا يزال ينفصل عنه شعب و عن الشعب شعب اخرى إلى أن يستدقّ، و يخرج تلك الخطوط عن إدراك البصر، و الحكمة الإلهيّة إنّما اقتضت ذلك لتقوى القوّة الجاذبة المركوزه في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفه الأرضيّة في تلك المجارى الضيّقة، و إذا وقفت على عناية اللّه سبحانه في تكوّن تلك الورقة الواحدة الواقعة علمت أنّ عنايته في جمله الشجرة أكمل، و أنّ عنايته في جملة النبات أكمل، ثمّ إذا علمت أنّه إنّما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوانات علمت أنّ عنايته في خلق الحيوان أكمل، و إذا علمت أنّ المقصود من خلق الحيوان إنّما هو الإنسان علمت أنّ الإنسان هو أعزّ مخلوقات هذا العالم عند اللّه و أكرمه عليه و أنّه قد أكرمه بأنواع الإكرام كما قال تعالى «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» الآية «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و أمّا النسمة فعليك في مطالعة عجائب صنع اللّه ببدن الإنسان بكتب التشريح، و قد أشرنا إلى طرف من ذلك في الخطبة الاولى. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه عليه السّلام ذكر من تلك الأعذار ثلاثة: أحدها حضور الحاضرين لمبايعته، و الثاني قيام الحجّة عليه بوجود الناصر له في طلب الحقّ لو ترك القيام، الثالث ما أخذ اللّه على العلماء من العهد على إنكار المنكرات و قمع الظالمين و دفع الظلامات عند التمكّن و العذران الأوّلان هما شرطان في الثالث إذ لا ينعقد و لا يجب إنكار المنكر بدونهما و كنّى بكظّة الظالم عن قوّة ظلمه و بسغب المظلوم عن قوّة ظلامته.

قوله لألقيت حبلها على غاربها. استعارة وصف من أوصاف الناقة للخلافة أو للامّة كنّى بها عن تركه لها و إهماله لأمرها ثانيا كإهماله أوّلا، و لمّا استعار لها لفظ الغارب جعل لها حبلا تلقى عليه و هو من ترشيح الاستعارة و أصله أنّ الناقة يلقى زمامها على غاربها و تترك لترعى. قوله و لسقيت آخرها بكأس أوّلها، استعار لفظ السقى للترك المذكور أيضا و رشّح تلك الاستعارة بذكر الكأس، و وجه تلك الاستعارة أنّ السقى بالكأس لمّا كان مستلزما لوجود السكر غالبا و كان إعراضه أوّلا مستلزما لوقوع الناس فيما ذكر من الطخية العمياء المستلزمة لحيرة كثير من الخلق و ضلالهم الّذي يشبه السكر و أشدّ منه لا جرم حسن أن يعبّر عن ذلك الترك بالسقي بالكأس. قوله و لألفيتم دنياكم هذه أهون عندى من عطفة عنز عطف على ما قبله و يفهم منه أنّه عليه السّلام طالب للدنيا و لها عنده قيمة إلّا أنّ طلبه لها و الحرص على الإمرة فيها ليس لأنّها هي، بل لما ذكرنا من نظام الخلق و إجراء امورهم على القانون العدل المأخوذ على العلماء كما أشار إليه، و نظم هذا الكلام في صورة متّصلة هكذا: لو لم يحضر الحاضر، و لم يقم الناصر، و ما أخذ اللّه على العلماء ما أخذ عليهم من إنكار المنكر إذا تمكّن لتركت آخرا كما تركت أوّلا و لو جدتم دنياكم هذه أهون عندى مما لا قيمة له و هو عفطة العنز، و أمّا الحكاية المتعلّقة بهذه الخطبة فأراد بأهل السواد سواد العراق. قال أبو الحسن الكيدري- رحمه اللّه- وجدت في الكتب القديمة أنّ الكتاب الّذي دفعه الرجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام كان فيه عدّة مسائل: أحدها ما الحيوان الّذي خرج من بطن حيوان آخر و ليس بينهما نسب فأجاب عليه السّلام بأنّه يونس بن متى عليه السّلام خرج من بطن الحوت، الثانية ما الشي‏ء الّذي قليله مباح و كثيره حرام فقال عليه السّلام هو نهر طالوت لقوله تعالى «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» الثالثة ما العبادة الّذي لو فعلها واحد استحقّ العقوبة و إن لم يفعلها استحقّ أيضا العقوبة فأجاب بأنّها صلاة السكارى. الرابعة ما الطائر الّذى لا فرخ له و لا فرع و لا أصل فقال: هو طائر عيسى عليه السّلام في قوله «وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي»«» الخامسة رجل عليه من الدين ألف درهم و له في كيسة ألف درهم فضمنه ضامن بألف درهم فحال عليه الحول فالزكاة على أي المالين تجب. فقال: إن ضمن الضامن بإجازة من عليه الدين فلا يكون عليه، و إن ضمنه من غير إذنه فالزكاة مفروضة في ماله، السادسه حجّ جماعة و نزلوا في دار من دور مكّة و أغلق واحد منهم باب الدار و فيها حمام فمتن من العطش قبل عودهم إلى الدار فالجزاء على أيّهم يجب فقال عليه السّلام: على الّذي أغلق الباب و لم يخرجهّن و لم يضع لهنّ ماء، السابعة شهد شهداء أربعة على محضر بالزنا فأمرهم الإمام برجمه فرجمه واحد منهم دون الثلاثة الباقين و وافقهم قوم أجانب في الرجم فرجع من رجمه عن شهادته و المرجوم لم يمت ثمّ مات فرجع الآخرون عن شهادتهم عليه بعد موته فعلى من يجب ديته فقال: يجب على من رجمه من الشهود و من وافقه. الثامنة شهد شاهدان من اليهود على يهوديّ أنّه أسلم فهل يقبل شهادتهما أم لا فقال: لا تقبل شهادتهما لأنّهما يجوّز ان تغيير كلام اللّه و شهادة الزور. التاسعة شهد شاهدان من النصارى على نصرانيّ أو مجوسيّ أو يهوديّ أنّه أسلم فقال: تقبل شهادتهما لقول اللّه سبحانه «وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى‏»«» الآية، و من لا يستكبر عن عبادة اللّه لا يشهد شهادة الزور. العاشرة قطع إنسان يد آخر فحضر أربعة شهود عند الإمام و شهدوا على قطع يده، و أنّه زنا و هو محصن فأراد الإمام أن يرجمه فمات قبل الرجم فقال عليّ من قطع يده دية يد حسب و لو شهدوا أنّه سرق نصابا لم يجب دية يده على قاطعها، و اللّه أعلم.
شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 270-201

خطبه2شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام بعد انصرافه من صفين

القسم الأول

أَحْمَدُهُ اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِهِ وَ اسْتِسْلَاماً لِعِزَّتِهِ- وَ اسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ- وَ أَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلَى كِفَايَتِهِ- إِنَّهُ لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ وَ لَا يَئِلُ مَنْ عَادَاهُ- وَ لَا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ- فَإِنَّهُ أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وَ أَفْضَلُ مَا خُزِنَ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلَاصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا- نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا- وَ نَدَّخِرُهَا لِأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا- فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ الْإِيمَانِ وَ فَاتِحَةُ الْإِحْسَانِ- وَ مَرْضَاةُ الرَّحْمَنِ وَ مَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ وَ الْعَلَمِ الْمَأْثُورِ- وَ الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ وَ النُّورِ السَّاطِعِ- وَ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ وَ الْأَمْرِ الصَّادِعِ- إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ وَ احْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ- وَ تَحْذِيراً بِالْآيَاتِ وَ تَخْوِيفاً بِالْمَثُلَاتِ- وَ النَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ- وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ- وَ اخْتَلَفَ النَّجْرُ وَ تَشَتَّتَ الْأَمْرُ- وَ ضَاقَ الْمَخْرَجُ وَ عَمِيَ الْمَصْدَرُ- فَالْهُدَى‏ خَامِلٌ وَ الْعَمَى شَامِلٌ- عُصِيَ الرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ الشَّيْطَانُ وَ خُذِلَ الْإِيمَانُ- فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَ تَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ- وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ وَ عَفَتْ شُرُكُهُ- أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ- بِهِمْ سَارَتْ أَعْلَامُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ- فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلَافِهَا- وَ قَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا- فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ- فِي خَيْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِيرَانٍ- نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وَ كُحْلُهُمْ دُمُوعٌ- بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُكْرَمٌ

اللغة

أقول: صفين اسم موضع بالشام و الاستسلام الانقياد و وال فلان يئل والا و على فعول إذا لجأ فنجا و منه الموئل الملجأ، و الفاقة الفقر و لا فعل لها، و مصاص كلّ شي‏ء خالصه و الذخيرة الجنيئة، و الأهاويل الامور المخوّفة الّتي يعظم اعتبار النفس لها، و عزيمة الإيمان عقد القلب عليه، و المدحرة محلّ الدحر و هو الطرد و الإبعاد، و المأثور المقدّم على غيره، و المأثور أيضا المنقول، و المثلات جمع مثلة بفتح الميم و ضمّ الثاء و هي العقوبة، و الفتن جمع فتنه هي كلّ أمر صرف عن قصد اللّه و اشتغل عنه من بلاء و محنة و هوى متّبع، و انجذم انقطع، و الزعزعة الاهتزاز و الاضطراب، و السوارى الأساطين، و النجر الطبع و الأصل، و الخامل الساقط، و انهارت انهدمت، و المعالم الآثار لأنّ بها يعلم الشي‏ء و يستدلّ عليه، و الشرك جمع شركة بفتح الشين و الراء و هي معظم الطريق و وسطها، و المناهل المشارب، و السنابك أطراف مقدّم الحوافر. الواحد سنبكة، و السهود مصدر كالجمود مرادف للسهاد و الأرق

المعنى

و اعلم أنّ المراد بالحمد هاهنا الشكر، و استتماما و ما بعدها من المنصوبات منصوبات على المفعول له، و قد جعل عليه السّلام لحمده هاهنا غايتين، الاولى منهما الاستتمام لنعمة اللّه و ذلك لأنّ العبد يستعدّ بمزيد الشكر لمزيد النعمة و هو في ذلك ناظرا إلى قوله تعالى «وَ لَئِنِ‏ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» لما يشتمل عليه الآية من البعث على رجاء المزيد، و الثانية الاستسلام لعزّته فإنّ العبد أيضا يستعدّ بكمال الشكر لمعرفة المشكور و هو اللّه سبحانه و هي مستلزمة للانقياد لعزّته و الخشوع لعظمته و هو في ذلك ناظر إلى قوله «وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» لما يشتمل عليه الآية من التخويف المانع من مقابلة نعم اللّه تعالى بالكفر، ثمّ لمّا كان الاستعداد لتمام النعم و التأهّل لكمال الخضوع و الانقياد لعزّة اللّه سبحانه إنّما يتمّ بعد أن يكون العناية الإلهيّة آخذة بضبعي العبد و جاذبة له عن ورطات المعاصي مبّعدة له عن أسباب التورّط فيها بكفاية المؤن و الأسباب الداعية إلى ارتكاب أحد طرفي الإفراط و التفريط جعل عليه السّلام للحمد غاية اخرى هي الوسيلة إلى الغايتين المذكورتين و هي الاستعصام باللّه سبحانه من معصيته، و عقّب ذلك الشكر بطلب المعونة منه على تمام الاستعداد لما سأل و شكر لأجله، و جعل لتلك الاستعانة علّة حاملة و هي الفاقة نحو غاية هي كفاية دواعي التفريط و الإفراط بالجذبات الإلهيّة و لا شكّ أنّ الغايتين المذكورتين لا يتمّ بدون عصمته و المعونة بكفايته و ذلك قوله و استعصاما من معصيته و أستعينه فاقة إلى كفايته. قوله إنّه لا يضلّ من هداه و لا يئل من عاداه و لا يفتقر من كفاه تعليل لطلبه المعونة على تحصيل الكفاية فإنّه لمّا كان حصول الكفاية مانعا من دواعي طرفي التفريط و الإفراط كان العبد مستقيم الحركات على سواء الصراط و ذلك هدى اللّه يهدي به من يشاء فكأنّه قال: و أستعينه على أن يرزقني الكفاية المستلزمة للهداية الّتي هي الغنى الحقيقي و الملك الأبديّ فإنّه لا يضلّ من هداه و لا ينجو من عذابه من عاداه و أعرض عن شكره و الاستعانة به و قد أطلق عليه السّلام هاهنا لفظ المعاداة اللّه كما أطلقها القرآن الكريم على ما هو من لوازمها و هو الإعراض عن عبادته و البغض لها و لمن تلبّس بها من عباده مجازا.

قوله فإنّه أرجح ما وزن و أفضل ما خزن الضمير يعود إلى اللّه سبحانه و لمّا كانت ذاته مقدّسة عن الوزن و الخزن اللّذين هما من صفات الأجسام فبالحريّ أن يكون المقصود رجحان عرفانه في ميزان العقل إذ لا يوازنه عرفان ما عداه بل لا يخطر ببال العارف عند الإخلاص سواه حتّى يصدق هناك موازنة يقال فيها أرجح، و يكون المراد بالخزن خزن‏ ذلك العرفان في أسرار النفوس القدسيّة، و قيل: الضمير يرجع إلى ما دلّ عليه قوله أحمده من الحمد على طريقة قولهم من كذب كان شرّا له. قوله و أشهد أن لا إله إلّا اللّه هذه الكلمة أشرف كلمة وحّد بها الخالق عزّ اسمه و قد أشرنا في الخطبة الاولى إلى ما تضمّنه تركيبها من حسن الوضع المؤدىّ للمقصود التامّ منها، و بالجملة هي منطبقة على جميع مراتب التوحيد، و قد زعم النحويّون أنّ فيها شيئا مقدّرا يكون خبرا للا. قالوا: و تقديره لا إله لنا إلّا اللّه أولا إله موجود إلّا اللّه، و اعلم أنّ كلّ تقدير يقدّر هاهنا فهو مخرج لهذه الكلمة عمّا يفيد إطلاقها و يفيدها تخصيصا لم يكن و هو ممّا يجده الإنسان من نفسه عند الاعتبار فالأولى أن يكون خبر لا قولنا إلّا اللّه و لا حاجة إلى تقدير أمر زائد، و قد وردت لهذه الكلمة فضائل: الاولى قوله صلى اللّه عليه و آله: أفضل الذكر لا إله إلّا اللّه و أفضل الدعاء الحمد للّه. الثانية عن ابن عمر قال: قال صلى اللّه عليه و آله: ليس على أهل لا إله إلّا اللّه وحشة في الموت و لا عند النشر و كأنّي أنظر إلى أهل لا إله إلّا اللّه عند الصيحة ينفضون شعورهم من التراب و يقولون: الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحزن.

الثالثة يروى أنّ المأمون لمّا انصرف من مرو يريد العراق و احتاز بنيسابور و كان على مقدّمته عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام فقام إليه قوم من المشايخ، و قالوا: نسألك بحقّ قرابتك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أن تحدّثنا بحديث ينفعنا فروى عن أبيه عن آبائه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن ربّه أنّه قال: لا إله إلّا اللّه حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي. الرابعة قال صلى اللّه عليه و آله: أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على اللّه. قال بعض العلماء: إنّ اللّه تعالى جعل العذاب عذابين: أحدهما السيف في يد المسلمين، و الثاني عذاب الآخرة، و السيف في غلاف يرى و النار في غلاف لا يرى فقال تعالى لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من أخرج لسانه من الغلاف المرئيّ و هو الفم فقال: لا إله إلّا اللّه أدخلنا السيف في الغمد المرئيّ، و من أخرج لسان قلبه من الغلاف الّذي لا يرى و هو غلاف الشرك فقال: لا إله إلّا اللّه أدخلنا سيف عذاب الآخرة في غمد الرحمة واحدة بواحدة جزاء، و لا ظلم اليوم. قوله شهادة ممتحنا إخلاصها معتقدا مصاصها. مصدر وصف بوصفين جريا على غير من‏ هماله، و الممتحن المختبر أراد أنّه مختبر نفسه في إخلاص هذه الشهادة واجد لها عريّة عن شبهات الباطل، معرضة عن كلّ خاطر سوى الحقّ سبحانه متمثّلة فيها حلية التوحيد و خالصة مبرّاة عن شوائب الشرك الخفيّ كما عرفت من التوحيد المطلق و الإخلاص المحقّق.

قوله نتمسّك بها أبدا ما أبقانا و ندّخرها لأهاويل ما يلقانا فإنّها عزيمة الإيمان إلى قوله و مدحرة الشيطان. إشارة إلى أنّه يجب التمسّك بها مدّة البقاء في دار الدنيا لعزائم الامور و الاستعداد بها لأحوال الآخرة و شدائدها ثمّ عقّبها بذكر علّة التمسّك بها و ادّخارها، و ذكر أربعة أوصاف يوجب ذلك: أوّلها أنّها عقيدة الإيمان و عزيمته المطلوبة للّه سبحانه من خلقه و كلّ ما عداها ممّا وردت به الشريعة من قواعد الدين و فروعه فهي حقوق لها و توابع و متممّات و معيّنات على الوقوف على سرّها و الوصول إلى إخلاصها. و ثانيها أنّها فاتحة الإحسان فإنّها أوّل كلمة افتتحت به الشريعة و استعدّ العبد بالسلوك في طريق إخلاصها لإفاضة إحسان اللّه و نعمه شيئا فشيئا، و كما أنّها أوّل مطلوب للّه من خلقه في فطرتهم الأصليّة و على ألسنة رسله عليهم السّلام فهي أيضا غايتهم الّتي ينالون بإخلاصها و استصحاب مصاصها السعادة الباقية. و ثالثها أنّها مرضاة الرحمن، و ذلك ظاهر إذ هي محلّ رضوان اللّه و السبب المستنزل لتمام رحمته و مزيد نعمته على محلّ تنور بها و رفع السخط عنه كما قال: امرت أن اقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه الخبر. و رابعها أنّها مدحرة الشيطان و ذلك أيضا ظاهر فإنّ غاية دعوة الشيطان هو الشرك الظاهر أو الخفيّ، و هذه الكلمة إنّما وضعت في مقابلة دعوته فظاهرها دافع لظاهر ما يدعو إليه، و باطنها قامع لباطن ما يدعو إليه، و كما أنّ الشرك على مراتب لا تتناهى فكذلك الإخلاص في هذه الكلمة فبقدر كلّ مرتبة من السلوك في إخلاصها يسقط في مقابلته مرتبة من الشرك، و يبطل سعى الشيطان في بناء تلك المرتبه إلى أن يتمّ الإخلاص بقدر الإمكان، و قد انهدمت قواعد الشيطان بكلّيّتها و صار أبعد مطرود عن قبول ما يقول «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»«».

قوله و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من قال أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه فجرى بها لسانه و أطمأنّ بها قلبه حرمت النار عليه، و إنّما قرنت هذه الكلمة بكلمة التوحيد لأنّك عرفت أنّ غرض الشريعة إنّما هو إخلاص تلك الكلمة، و لن يحصل إخلاصها إلّا بسلوك مراتبها، و لن يحصل ذلك إلّا بمعرفة كيفيّة السلوك، و علمت أنّ مدار إرسال الرسل و وضع الشرائع كيفيّة السلوك في درجات الإخلاص فكانت الشهادة و الإقرار بصدق المبلّغ لهذه الرسالة و المبيّن لطريق الإخلاص أجلّ كلمة بعد كلمة الإخلاص لأنّها بمنزلة الباب لها فلأجل ذلك قرنت بها. قوله أرسله بالدين المشهور إلى قوله و الأمر الصادع. إشارة إلى تعظيم الرسول صلى اللّه عليه و آله بما جاء به، و أشار بالدين المشهور إلى دينه المشتمل على تعريف كيفيّة سلوك الصراط المستقيم، و بالعلم المأثور إلى اعتبار كون ذلك الدين هاديا قائدا للخلق يهتدون به إلى حضرة القدس الّتي هي مقصد جميع الشرائع إذ ذلك هو شأن العلم، و كونه مأثورا إشارة إمّا إلى كونه مقدّما على سائر الأديان كما يقدّم العلم و يهتدى به قوم بعد قوم أو إلى نقله من قرن إلى قرن، و بالكتاب المسطور إلى القرآن المسطورة حقائقه في ألواح النفوس، و بالنور الساطع و الضياء اللامع إلى السرّ الّذي جاء به الرسول صلى اللّه عليه و آله يحبّ هذه الطريقة و أمر بقصده منها و هو نور يستشرفه مرأى النفوس الصافيه عن صداء الشبهات و كدورات الشرك بخصوصيّة الأمر، و وصفه بكونه صادعا إلى اعتبار قهره بأوامر اللّه و ردعه لمن لم يسلك الطريق المأمور بسلوكها عن رغبة و اختيار حتّى شقّ بالأمر الإلهيّ وجه باطله و صدع ما كان ملتئما من بناء فساده كما قال تعالى «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ»«»

قوله إزاحة للشبهات إلى قوله و تخويفا بالمثلات إشارة إلى الوجوه القريبة لمقاصد البعثة، و ذكر عليه السّلام منها ثلاث مقاصد: أوّلها إزاحة الشبهات و هو أهمّها فإنّ حذف شواغل الدنيا و شبهات الباطل عن قلوب الخلق أهمّ مقاصد الشارع.
الثاني سبب تلك الإزاحة و هو الاحتجاج على الخلق بالحجج الواضحة لهم و الخطابات الواصلة إلى أقصى أذهانهم كما قال تعالى «وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ». الثالث التحذير بالآيات النازعة بالعصاة، و التخويف بالعقوبات الواقعة بأهل الجنايات كما قال تعالى «أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى‏»«» و هذا الإنذار مؤيّد للحجج و الخطابات الشرعيّة في حقّ من لم يرزق‏

صفاء ذهن يؤثّر فيه مجرّد الخطابات فيحتاج إلى التحذير و الإنذار. قوله و الناس في فتن انجذم فيها حبل الدين إلى قوله و قام لواؤه. أقول: يحتمل أن يكون الواو في قوله و الناس للابتداء، و يكون ذلك منه عليه السّلام شروعا في ذمّ أحوال زمانه و ما هم فيه من البلاء و المحنة و المخاوف و الحروب بسبب تشتّت أهوائهم و اختلاف آرائهم، و غرضه عليه السّلام تنبيه السامعين على ما عساهم غافلين عنه ممّا فيه من الفتن المشتملة على المذامّ الّتي عدّدها لينّبهوا من رقدة الغفلة، و يشمّروا في سلوك سبيل الحقّ عن ساق الجدّ و الاجتهاد، و ذكر من المذامّ الّتي حصل الناس عليها بسبب ما هم فيه من الفتن امورا يرجع حاصلها و إن تعدّدت إلى ترك مراسم الشريعة، و عدم سلوك سبيل الحقّ، و ارتكاب طريق الباطل فانقطاع حبل الدين إشارة إلى انحراف الخلق عن سواء السبيل و عدم تمسّكهم بأوامر اللّه سبحانه حال وقوع تلك الفتن، و استعمال لفظ الحبل هاهنا و في التنزيل الإلهيّ «فاعتصموا بحبل اللّه جميعا» استعارة لقانون الشريعة المطلوب منها لزومه و التمسّك به، و كذلك استعمال السواري إمّا لقواعد الدين و أركانه المأمور بتشييدها كالجهاد الّذي هو أقوى مطالبة لذلك الوقت من الناس، و يكون المراد بتزعزعها عدم استقامتها و استقرار الناس عليها مجازا.

و إمّا لأهل الدين الّذي به يقوم و رجاله العاملين به الّذين لم يأخذهم في اللّه لومة لائم، و تزعزعها موت اولئك أو خوفهم من الأعداء المارقين و كلّ ذلك استعارة لطيفة و وجوه المشابهة فيها ظاهرة، و أشار باختلاف النجر إلى اختلاف الأصل الّذي كان يجمع الخلق و الفطرة الّتي فطر الناس عليها و وردت الشريعة بلزومها فإنّها كانت متّفقة بوجود الرسول صلى اللّه عليه و آله فاختلف بعده بسلوك كلّ فرقة مذهبا غير الاخرى على أنّ النجر هو الحسب أيضا، و الحسب هو الدين، فيحتمل أن يريد و اختلف الدين، و أشار بتشتّت الأمر إلى تفرّق كلمة المسلمين، و بقوله و ضاق المخرج و عمى المصدر إلى أنّ الخلق بعد تورّطهم في فتن الشبهات الموجبة لتفرّق كلمتهم ضاق مخرجهم منها و عمى عليهم طريق صدورهم منها، و العمى هاهنا هو المشار إليه بقوله تعالى «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»«» و هو استعارة حسنة إذ العمى حقيقة عبارة عن عدم ملكة البصر، و وجه المشابهة أنّ الأعمى كما لا يهتدى لمقاصده المحسوسة بالبصر لعدمه كذلك أعمى البصيرة لا يهتدي لمقاصده المعقولة لاختلال بصيرته و عدم عقله لوجوه رشده، و أشار بخمول الهدى إلى عدم ظهوره بينهم حال عمّاهم عن مصدرهم من ضلالهم إذ كان ضوءه ساقطا بينهم غير موجود، و الفاء لعطف الجملة الاسميّة على الفعليّة و أشار بشمول العمى إلى اشتراكهم في عدم رؤيتهم لسبيل الحقّ الّذي به يخرجون من شبهات الباطل و ظلمته ثمّ أشار بعصيانهم للرحمن و نصرهم للشيطان إلى أنّ ما هم فيه جور عن الحقّ و نصرة للباطل الّذي هو مأمول الشيطان فبالحريّ أن يكون نصرة للشيطان و عصيانا للرحمن و من نصر الشيطان بالذّب على الباطل فقد خذل الإيمان بتركه تشييد قواعده و الذّب عنه، و بترك الإيمان و خذلانه لا يبقى له دعامة يقوم بها و تحمله، و الإشارة بالدعائم و المعالم إلى دعاة الحقّ و حملة الإيمان و بانهيارها إلى عدمهم أو عدم قبول قولهم، و بتنكّر المعالم إلى عدم معرفتهم في الخلق لقلّتهم، و يحتمل أن يراد بالدعائم القواعد الّتي للدين كالجهاد و غيره و انهيارها عدم القيام بها، و بتنكّر المعالم إلى انمحائه من القلوب الّتي هي معالم الدين و محالّه و بدروس سبله و عفاء شركه إلى أنّه لم يبق له أثر يعرف به، و كلّ ذلك مبالغة في ضعف الدين و مسالك الشيطان و مناهله ما يجرّهم إليه من مناهي اللّه سبحانه فيتّبعونه فيها، و أعلام الشيطان و لواؤه إمّا القادة إليه و الدعاة إلى باطله المقتدى بهم أو صور الباطل الّتي تصوّرت في أذهان الخلق و صارت غايات لهم فانقادوا لها و اتّبعوها فهم كالأعلام و الألوية في الحروب و غيرها. قوله في فتن داستهم بأخفافها و وطئتهم بأظلافها و قامت على سنابكها يحتمل أن يكون في فتن متعلّقا بقوله بهم سارت أعلامه و قام لواؤه، و يحتمل أن يتعلّق بمقدّر يكون خبرا ثانيا لقوله و الناس، و هذه الفتن هي الّتي أشار إليها أوّلا و إنّما أوردها ثانيا بزيادة أوصاف فبالغ عليه السّلام في تشبيهها بأنواع الحيوان فاستعار لها أخفافا و أظلافا و حوافرا و جعل لها دوسا و وطئا و قياما على الحوافر، و يحتمل أن يكون هناك إضمار أي داستهم بأخفاف إبلها و وطئتهم بأظلاف بقرها و قامت على سنابك خيلها فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه و حينئذ يكون التجوّز في نسبة الوطي و الدروس و القيام إليها فقط و هو المجاز في الإسناد. قوله فهم فيها تائهون. الفاء للتعقيب و أشار بتيههم إلى ضلالهم عن القصد في ظلمات الفتن و بحيرتهم إلى تردّدهم في أنّ الحقّ في أيّ جهة و عدم درايتهم أهو مع عليّ أمّ مع معاوية و بجهلهم إلى عدم علمهم بالحقّ و اعتقاد بعضهم الباطل عن شبهة تحكيم الحكمين و اعتقاد آخرين له عن شبهة دم عثمان، و أمثال ذلك ممّا هو جهل مركّب و بكونهم مفتونين إلى فتنة غيرهم لهم و إضلاله عن الحقّ و هو الشيطان و اتباعه. قوله في خير دار و شرّ جيران هذا الظرف يجوز أن يكون كالّذي قبله في كونه خبرا ثالثا و يجوز أن يتعلّق بقوله تائهون أو ما بعده من الأفعال، و قد اختلف الشارحون لكلام عليّ عليه السّلام في مراده بخير دار فقال بعضهم: أراد الشام لأنّها الأرض المقدّسة و أهلها القاسطون، و قال معنى قوله نومهم سهود و كحلهم دموع أنّهم لا ينامون اهتماما بامورهم و إعداد أنفسهم للقتال و يبكون قتلاهم، و قوله بأرض عالمها ملجم يريد نفسه و الناصرين للحقّ، و جاهلها مكرم يريد معاوية، و قال آخرون: أراد بخير دار العراق و شرّ جيران يعني أصحابه المستصرخ بهم للجهاد، و إنّما كانوا شرّ جيران أي شرّ متجاورين لتخاذلهم عن الحقّ و نصرة الدين لأنّ خير المتجاورين المتعاضدون في اللّه، و قوله و نومهم سهود أي خوفا من الحرب و حيرة في التدبير، و كحلهم دموع أي يبكون قتلاهم أيضا، و قيل نفاقا لأنّ من تمّ نفاقه ملك عينيه، و قال آخرون أراد بها دار الدنيا لأنّها دار العمل و أكثر الخلق بها أشرار جهّال و ليس المقصود بكونها خيرا تفضيلها على غيرها ليوهم أنّها أفضل من الآخرة بل إثبات فضيلتها فقط فإنّ أفعل التفضيل كما يرد الإثبات الأفضليّة كذلك يرد لإثبات الفضيلة و الدنيا دار فاضلة لمن قام فيها بأوامر اللّه وراعى ما خلق لأجله و هي مزرعة الآخرة كما ورد به الحديث و كون أهلها شرّ جيران فأمّا شرّ متجاورين كما سبق أو شرّ جيران لمن التجأ إليهم و جاورهم للانتصار بهم على أعداء الدين و ذلك لعدم نصرتهم له و القيام معه، و قوله نومهم سهود، و كحلهم دموع ظاهره عموم لفظ الناس في أصحابه و أصحاب معاوية و من عناه أمر الحرب و دخل فيها، و قد بالغ عليه السّلام في وصفهم بقلّة النوم لخوف الحرب و هجوم بعضهم على بعض و شدّة اهتمامهم بأمر القتال و حيرتهم في تيه الباطل حتى ألحق قلّة نومهم بالسهد لاستلزامه عدم النوم فاستعار له لفظه و صيّره هو هو، و قوله و كحلهم دموع بالغ في تشبيه دموعهم بالكحل و صيّره هو هو. و وجه المشابهة أنّ الدموع لكثرته منهم و ملازمته أجفانهم أشبه في ذلك الأمر الكثير المعتاد لعيونهم و هو الكحل فلذلك استعار لفظ الكحل له، و قوله بأرض عالمها ملجم و جاهلها مكرّم الجار و المجرور حكمه حكم الظرف الّذي قبله فيما يتعلّق به ثمّ إن حملنا خير دار على الدنيا كان قوله بأرض تخصيصا لمكان الناس من الدنيا فكأنّه قال و الناس في خير دار هي الدنيا و هم منها بأرض من حالها أنّ عالمها ملجم بلجام الذلّ من أهلها عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لعدم العلم بينهم و غلبة الجهل عليهم، و جاهلها مكرّم لمناسبته لهم في الجهل و موافقته لهم على الباطل، و يكون المراد بتلك الأرض إمّا الشام أو العراق، و إن حملنا خير دار على الشام أو العراق كان قوله بأرض من حالها كذا يجري مجرى البيان، و يكون الذّم اللاحق من هذا الكلام راجعا إلى أهل تلك الأرض لتعلّق إلجام العالم، و إكرام الجاهل بهم و إن نسب ذلك إليها لكونهم بها إذ لو رددنا الذّم إلى الأرض لنا في ذلك وصفه لها بأنّها خير دار، و يحتمل أن يكون الواو في قوله و الناس للحال و العامل أرسله، و الفتن المشاهر إليها في فتن العرب في الجاهليّة و حال البعثة و خير دار يعني مكّة و شرّ جيران يعني قريشا، و العالم الملجم هو من كان حينئذ عالما بصدق الرسول و حقّ بعثته فهم ملجم بلجام التقيّة و الخوف، و الجاهل المكرّم هو من كذّبه و هذا الاحتمال حسن، و اعلم أنّ الّذي يتبادر إلى الذهن أنّ هذا القدر الّذي أورده السيّد من هذه الخطبة فصول ملفّقة ليست على نظامها الّتي خرجت عليه و إن كان كذلك فربّما يلوح لها لو انتظمت مقاصد توضح ما أورده الناس، و اختلفوا فيه منها، و اللّه أعلم،

القسم الثاني و منها يعنى آل النبي عليه الصلاة و السّلام

هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ وَ لَجَأُ أَمْرِهِ- وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ وَ مَوْئِلُ حُكْمِهِ- وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ وَ جِبَالُ دِينِهِ- بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَ أَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ ب‏ئ

اللغة

ب‏ئ‏أقول: و اللجأ الملجأ، و الموئل المرجع من آل يؤول إلى كذا إذا رجع و انتهى إليه، و الانحناء الاعوجاج، و الفرائض جمع فريضة و هي اللحمة الّتي بين الجنب و الكتف لا تزال ترعد من الدابّة،

المعنى

و قد وردت هذه القرائن الأربع بالسجع المتوازي، و الضمائر المفردة هاهنا كلّها راجعة إلى اللّه تعالى إلّا الضمير في ظهره و فرائضه فإنّهما للرسول صلى اللّه عليه و آله كما سبق ذكر اللّه و رسوله في صدر الخطبة، و قيل الكلّ للرسول صلى اللّه عليه و آله، و أشار بكونهم موضع سرّه إلى كمال استعداد نفوسهم عليهم السّلام لأسرار اللّه و حكمته إذ الموضع الحقيقي للشي‏ء هو ما قبله و استعدّ له، و بكونهم ملجأ أمره إلى أنّهم الناصرون له و القائمون بأوامر اللّه و الذابّون عن الدين فإليهم يلتجى‏ء و بهم يقوم سلطانه، و كونهم عيبة علمه مرادف لكونهم موضع سرّه إذ يقال في العرف فلان عيبة العلم إذا كان موضع أسراره، و لفظ العيبة استعارة لنفوسهم الشريفة و وجه المشابهة ظاهر إذ العيبة لمّا كان من شأنها حفظ ما يودع فيها و صائنه عن التلف و الأدناس، و كانت أذهانهم الطاهرة حافظة للعلم عن عدمه و صائنة له عن تدنّسه بأذهان غير أهله لا جرم حسنت استعارة لفظ العيبة لأذهانهم، و بكونهم موئل حكمه إلى كونهم مرجعا لحكمته إذا ضلّت عن أذهان غيرهم فمنهم تطلب و عنهم تكتسب، و بكونهم كهوف كتبه إلى أنّهم أهل حفظها و دراستها و تفسيرها و عندهم علمها و تأويلها، و الكتب إشارة إلى القرآن و ما قبله من كتب اللّه كما نقل عنه عليه السّلام في موضع آخر لو كسرت إلى الوسادة ثمّ جلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم و بين أهل الزبور بزبورهم و بين أهل الفرقان بفرقانهم، و اللّه ما من آية نزلت في برّ أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلّا و أنا أعلم فيمن نزلت و في أيّ وقت نزلت، و استعارة لفظ الكهف قريبة من استعارة لفظ العيبة، و بكونهم جبال دينه إلى دين اللّه سبحانه‏ بهم يعتصم عن و صمات الشياطين و تبديلهم و تحريفهم كما يعتصم الخائف بالجبل ممّن يؤذيه و هي استعارة لطيفة، و قوله بهم أقام انحناء ظهره إشارة إلى أنّ اللّه سبحانه جعلهم له أعضادا يشدّون أزره و يقوّمون ظهره و يؤيّدون أمره، و انحناء الظهر كناية عن ضعفه في بدؤ الإسلام فبالحريّ أن يكون إقامتهم لانحناء ظهره تقويتهم ذلك الضعف بالنصرة للدين و الذبّ عنه، و قوله و أذهب ارتعاد فرائضه أي أنّ اللّه أزال عنه بمعونتهم خوفه الّذي كان يتوقّعه من المشركين على حوزة الدين و هو كناية عن الشي‏ء ببعض لوازمه إذ كان ارتعاد الفرائض من لوازم شدّة الخوف، و كلّ هذه الامور ظاهرة لأهله الأدنين من بني هاشم كالعبّاس و حمزة و جعفر و عليّ بن أبي طالب في الذبّ عن الرسول صلى اللّه عليه و آله و الهداية إليه و البلاء في الدين و اللّه أعلم.

القسم الثالث و منها يعنى قوما آخرين:

زَرَعُوا الْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ الْغُرُورَ وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ- لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ ص مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ- وَ لَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً- هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَ عِمَادُ الْيَقِينِ- إِلَيْهِمْ يَفِي‏ءُ الْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي- وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ- وَ فِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَ الْوِرَاثَةُ- الْآنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ ب‏ئ

اللغة

ب‏ئ‏أقول: الغرور الغفلة، و الثبور الهلاك، و القياس نسبة الشي‏ء إلى الشي‏ء و إلحاقه به في الحكم، وفاء يفي‏ء رجع، و الغلوّ تجاوز الحدّ الّذي ينبغي إلى ما لا ينبغي، و التالي التابع، و الولاية الاسم من قولك و ليت الأمر إليه وليّا، و أصله القرب من الشي‏ء و الدنوّ منه، و الخصائص جمع خصيصة و هي فعيلة بمعنى فاعلة أى خاصّة أو مختصّة،

المعنى

و اعلم أنّ قوله زرعوا الفجور و سقوه‏ الغرور استعارة لطيفة فإنّ الفجور لمّا كان هو الخروج عن ملكة العفّة و الزهد و تجاوزها إلى طرف الإفراط منهم، و كان معنى الزرع إلقاء الحبّ في الأرض استعار عليه السّلام لفظ الزرع لبذر الفجور في أراضي قلوبهم، و لأنّ انتشاره عنهم و نموّه فيهم يشبه نموّ الزرع و انتشاره في الأرض، و لمّا كان غرورهم و غفلتهم عن الطريق المستقيم بسبب عدولهم عنها و تجاوزهم إلى طرف الإفراط و مهاوي الهلاك و هو مادّة تماديهم في غيّهم و زيادة فجورهم و عدولهم عن سواء السبيل أشبه الماء الّذي هو سبب حياة الزرع و نموّه و مادّة زيادته و لأجلها يناسب استعارة لفظ السقي الّذي هو خاصّة الماء له و نسبته إليهم، ثمّ لمّا كانت غاية ذلك الفجور هلاكهم في الدنيا بالسيف و في الآخرة بعذابها لا جرم أشبهت تلك الغاية الثمرة فاستعير لكونها غاية لهم لفظ الحصاد و نسب إليهم و قد اشتملت لفظ هذه الألفاظ مع حسن الاستعارة على الترصيع قال الوبري- رحمه اللّه- الإشارة بهذا الكلام إلى الخوارج، و قيل في المنافقين كما ورد مصرّحا به في بعض النسخ، و أقول: يحتمل أن يكون متناولا لكلّ من نابذه عليه السّلام و خرج عن طاعته زاعما أنّه بذلك متعصّب للدين و ناصر له، و ذلك لأنّ الفجور كما عرفت عبور و تجاوز إلى طرف الإفراط و كلّ من نابذه و هو مدّعي أنّه طالب للحقّ فقد خرج في طلبه للحقّ عن حاقّ العدل و تعدّاه إلى طرف الفجور و الغلوّ و يدخل في ذلك القاسطون و هم أصحاب معاوية، و المارقون و هم الخوارج و من في معناهم إذ زعم الكلّ أنّهم بقتاله طالبون للحقّ ناصرون له.

قوله لا يقاس بآل محمّد عليهم السّلام من هذه الأمّة أحد. إلى آخره. مدح لهم مستلزم لإسقاط غيرهم عن بلوغ درجتهم و استحقاق منزلتهم، و الكلام و إن كان عامّا في تفضيل آل محمّد على كلّ من عداهم من امّته إلّا أنّه خرج على سبب و هو قتاله عليه السّلام مع معاوية فهو إذن مشير إلى تفضيل نفسه على معاوية و عدم ترشّحه للخلافة، فقوله لا يقاس بآل محمّد من هذه الامّة أحد و لا يسوىّ بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. إشارة إلى عدم مناسبة غيرهم لهم في الفضل، و النعمة هاهنا نعمة الدين و الإرشاد إليه، و الحكم ظاهر الصدق فإنّ المنعم عليه بمثل هذه النعمة الّتي لا يمكن أحدا أن يقابلها بجزاء لا يتأهّل أبدا أن يصير في قوّة المنعم، و خواصّه الّذين اختصّهم بمزيدها على حسب استحقاقهم و استعدادهم التامّ الوافرعلى تأهّل غيرهم لها، و لا يبلغ درجتهم حتّى يقوم مقامهم مع وجودهم في إفاضة هذه النعمة و إعداد سائر الأمّة لها و تعليمهم و إرشادهم إلى كيفيّة الوصول بها إلى اللّه سبحانه، و قوله هم أساس الدين إشارة إلى أنّ بهم استقامته و ثباته، و تفرّعه عنهم كما يقوم البناء على أساسه، و كذلك قوله و عماد اليقين، و قوله إليهم يفي‏ء الغالي إشارة إلى أنّ المتجاوز للفضائل الإنسانيّة الّتي مدارها على الحكمة و العفّة و الشجاعة و العدالة إلى طرف الإفراط منها يرجع إليهم و يهتدي بهم في تحصيل هذه الفضائل لكونهم عليها إذا أخذ التوفيق بيده، و أشار بقوله و بهم يلحق التالي إلى أنّ المقصّر عن بلوغ هذه الفضائل المرتكب لطرف التفريط في تحصيلها يلحق بهم عند طلبه لها و معونة اللّه له بالهداية إلى ذلك، و قوله و لهم خصائص حقّ الولاية. إشارة إلى أنّ ولاية امور المسلمين و خلافة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لها خصائص هي موجودة فيهم و شروط بها يتأهّل الشخص لها و يستحقّها، و تلك الخصائص ما نبّهنا عليه من الفضائل الأربع النفسانيّة، و لا شكّ في صدقه عليه السّلام في ذلك فإنّ هذه الفضائل و إن وجد بعضها أو كلّها في غيرهم فعنهم اخذ و إليهم فيها انتسب، و هل يقائس بين البحر و الوشل، و قوله و فيهم الوصيّة و الوراثة إشارة إلى اختصاصه عليه السّلام بوصيّة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و اختصاص أهله بوراثته و قيل أراد بالوراثة. ما يراه هو أنّه أولى به من أمر الخلافة، و قوله الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله و نقل إلى منتقله (في بعض النسخ قد رجع) و ذلك إشارة منه عليه السّلام إلى أنّ الإمامة كانت في غير أهلها و أنّه هو أهلها و الآن وقت رجوعها إليه بعد انتقالها عنه، و لفظ الحقّ و إن كان يحتمل حقّا آخر غير الإمامة إلّا أنّها المتبادرة إلى الذهن من اللفظ هاهنا و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 249-236

خطبه1شرح ابن میثم بحرانی قسمت پنجم

الفصل الخامس منها. قوله: في ذكر الحج

وَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ-  الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ-  يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَ يَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ-  وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ-  وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ-  وَ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ-  وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ-  وَ تَشَبَّهُوا بِمَلَائِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ-  يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ-  وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ-  جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً-  وَ لِلْعَائِذِينَ حَرَماً فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ-  وَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ-  فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا-  وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ‏

اللغة

أقول: يألهون إليه أي يشتدّ وجدهم و شوقهم إليه و أصل الهمزة هاهنا الواو من و له إذا تحيّر من شدّة الوجد، و السماع جمع سامع كسامر و سماع و المبادرة المسارعة، و الوفادة القدوم للاسترفاد و الانتفاع،

المعنى

و اعلم أنّا لمّا بيّنا وجوب العبادات و أشرنا إلى وجه الحكمة فيها فبالحريّ أن نشير إلى وجه الحكمة في خصوص الحجّ من جملتها، و نؤخّر تفصيل باقيها إلى مواضعه، و إنشاء اللّه فأمّا الحجّ فإنّك لمّا عرفت أنّ الغرض الأوّل من العبادات هو جذب الخلق إلى جناب الحقّ بالتذكير له و دوام إخطاره بالبال لتجلّى لك الأسرار على طول التذكار، و ينتهى في ذلك من أخذت العناية بيده إلى مقام المخلصين فمن جملة أسرار اللّه سبحانه المنزلة على لسان رسوله تعيين موضع من البلاد أنّه أصلح المواضع لعبادة اللّه، و أنّه خاصّ له و لا بدّ أنّ تبنى مثل هذه الأوضاع على إشارات و رموز إلى مقاصد حقيقيّة يتنبّه لها من أخذ التوفيق بزمام عقله إليها، و لا بدّ من تعيين أفعال تفعل في ذلك المكان و أنّها إنّما تفعل في ذات اللّه سبحانه، و أنفع المواضع المعيّنة في هذا الباب ما كان مأوى الشارع و مسكنه فإنّ ذلك مستلزم لذكره، و ذكره مستلزم لذكر اللّه سبحانه و ذكر ملائكته و اليوم الآخر، و لمّا لم يمكن في المأوى الواحد أن يكون مشاهدا لكلّ أحد من الامة فالواجب إذن أن يفرض إليه مهاجرة و سفر و إن كان فيه نوع مشقّة و كلفة من تعب الأسفار و إنفاق المال و مفارقة الأهل و الولد و الوطن و البلد، و نحن نذكر فضيلته من جهة السمع ثمّ نشير إلى ما ينبغي أن يوظّف فيه من الآداب الدقيقة و الاعمال الباطنة عند كلّ حركة و ركن من أركان الحجّ مما يجرى من تلك الأركان مجرى الأرواح للأبدان فإذن

هاهنا أبحاث.

البحث الأوّل-  أمّا الفضيلة

فمن وجوه: الأوّل قوله تعالى «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»«» قال قتادة: لمّا أمر اللّه عزّ و جلّ خليله إبراهيم عليه السّلام أن يؤذّن في الناس و نادى أيّها الناس إنّ للّه بيتا فحجوّه، و قال تعالى «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ»«» قيل: التجارة في المواسم و الأجر في الآخرة، و لمّا سمع بعض السلف هذا قال غفر لهم و ربّ الكعبة، الثاني قال عليه السّلام: من حجّ و لم يرفث و لم يفسق خرج‏ من ذنوبه كيوم ولدته امّه، و قد عرفت كيفيّة نفع العبادات في الخلاص من الذنوب. الثالث قال صلى اللّه عليه و آله: ما رأى الشيطان في يوم هو أصغر و لا أحقر و لا أغيض منه يوم عرفة، و ما ذلك إلّا لما يرى من نزول الرحمة و تجاوز اللّه عن الذنوب العظام إذ يقال من الذنوب ما لا يكفّرها إلّا الوقوف بعرفة. أسنده الصادق عليه السّلام إلى الرسول صلى اللّه عليه و آله و كان سرّ ذلك ما يحصل من رحمة اللّه و يفاض على أسرار العبادة الّتي قد صفت بشدّة الاستعداد الحاصل من ذلك الموقف العظيم الّذي يجتمع فيه العالم أشدّ اجتماع، فإنّ الاجتماع سبب عظيم في الانفعال و الخشية للّه و قبول أنواره كما سنبيّنه إنشاء اللّه. الرابع قال صلى اللّه عليه و آله: حجّة مبرورة خير من الدنيا و ما فيها، و حجّة مبرورة ليس لها أجر إلّا الجنّة قال صلى اللّه عليه و آله: الحجّاج و العمّار وفد اللّه و زوّاره إن سألوه أعطاهم، و إن استغفروه غفر لهم، و إن دعوه استجاب لهم، و إن شفعوا إليه شفّعهم. السادس روى عنه صلى اللّه عليه و آله من طرق أهل بيته عليهم السّلام أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة و ظنّ أنّ اللّه لم يغفر له، و في فضل جزئيّات الحجّ أخبار كثيرة تطلب من مظانّها.

البحث الثاني-  في الآداب الدقيقة

و هي عشرة: الأوّل أن تكون النفقة حلالا و يخلو القلب عن تجارة تشغله سوى اللّه تعالى، و في الخبر من طريق أهل البيت إذا كان آخر الزمان خرج الناس إلى الحجّ على أربعة أصناف سلاطينهم للنزهة، و أغنيائهم للتجارة، و فقراؤهم للمسألة و قرّاؤهم للسمعة، و في الخبر إشارة إلى جملة أغراض الدنيا الّتي يتصوّر أن يتّصل بالحجّ، فكلّ ذلك مانع لفضيلة الحجّ و مقصود الشارع منه، الثاني أن لا يساعد الصادّين عن سبيل اللّه و المسجد الحرام بتسليم المكوس إليهم فإنّ ذلك إعانة على الظلم و تسهيل لأسبابه و جرأة على سائر السالكين إلى اللّه، و ليحتل في الخلاص فإن لم يقدر فالرجوع أولى من إعانة الظالمين على البدعة و جعلها سنّة، الثالث التوسّع في الزاد و طيب النفس في البذل، و الإنفاق بالعدل دون البخل و التبذير، فإنّ بذل الزاد في طريق مكّة إنفاق في سبيل اللّه قال صلى اللّه عليه و آله: الحجّ المبرور ليس له أجر إلّا الجنّة فقيل يا رسول اللّه ما برّ الحجّ قال: طيب الكلام و إطعام الطعام، الرابع ترك الرفث و الفسوق و الجدال كما قال تعالى «فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ»«» و الرفث كلّ لغو و فحش من الكلام،و يدخل في ذلك محادثة النساء بشأن الجماع المحرّم فإنّها تهيّج داعيته و هي مقدّمة له فتحرم، و من لطف الشارع إقامة مظنّة الشي‏ء مقام الشي‏ء حسما لمادّته، و الفسوق الخروج عن طاعة اللّه، و الجدال هو المماراة و الخصومة الموجبة للضغائن و الأحقاد و افتراق كلمة الخلق (الحقّ)، و كلّ ذلك ضدّ مقصود الشارع من الحجّ و شغل عن ذكر اللّه، الخامس أن يحجّ ماشيا مع القدرة و نشاط النفس فإنّ ذلك أفضل و أدخل للنفس في الإذعان لعبوديّة اللّه، و قال بعض العلماء: الركوب أفضل لما فيه من مئونة الإنفاق، و لأنّه أبعد من الملال و أقلّ للأذى و أقرب إلى السلامة و أداء الحجّ، و هذا التحقيق غير مخالف لما قلناه، و الحقّ التفصيل، فيقال: من سهل عليه المشى فهو أفضل فإن أضعف و أدّى إلى سوء خلق و قصور عن العمل فالركوب أفضل لأنّ المقصود توفّر القوى على ذكر اللّه تعالى و عدم المشتغلات عنه. السادس أن يركب الزاملة دون المحمل لاشتماله على زىّ المترفين و المتكبّرين و لأنّه أخفّ على البعير اللهمّ إلّا لعذر. حجّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على راحلته و كان تحته رحل رثّ و قطيفة خلقة قيمته أربعة دراهم و طاف على الراحلة لينظر الناس إلى هيئته و شمائله، و قال: خذوا عنّي مناسككم. السابع أن بخرج رثّ الهيئة أقرب إلى الشعث غير مستكثر من الزينة و أسباب التفاخر فيخرج بذلك عن حزب السالكين و شعار الصالحين. و روى عنه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّما الحاجّ الشعث التفث يقول اللّه تعالى لملائكته انظروا إلى زوّار بيتي قد جاءوني شعثا غيرا من كلّ فج. و قال تعالى «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» و التفث الشعث و الاغبرار و قضاؤه بالحلق و تقليم الأظفار. الثامن أن يرفق بالدابّة و لا يحملها ما لا تطيق كان أهل الورع لا ينامون على الدابّة إلّا عفوة من قعود قال صلى اللّه عليه و آله: لا تتّخذوا ظهور دوّابكم كرسيّ، و يستحبّ أن ينزل عن دابّته غدوّة و عشيّة يروّحها بذلك فهو سنّة، و سرّ ذلك مراعاة الرقّة و الرحمة و التخلّي عن القسوة و الظلم و لأنّه يخرج بالعسف عن قانون العدل و مراعاة عناية اللّه و شمولها فإنّها كما لحقت الإنسان لحقت سائر الحيوان التاسع أن يتقرّب بإراقه دم و يجتهد أن يكون سمينا ثمينا روى أنّ عمر أهدى نجيبة فطلبت منه بثلاثة مائة دينار فسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أن يبيعها و يشترى بثمنها بدنا فنهاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قال: بل اهدها و ذلك لأنّ المقصود ليس تكثير اللحم و إنّما المقصود تزكية النفس و تطهيرها عن رذيلة البخل و تزيينها بجمال التعظيم للّه لن ينال اللّه لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم قال صلى اللّه عليه و آله: ما من عمل آدميّ يوم النحر أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من إهراقه دما و إنّها لتأتى يوم القيامة بقرونها و إطلافها و إنّ الدم ليقع من اللّه بمكان قبل أن يقع الأرض فطيّبوا بها نفسا. العاشر أن يكون طيّب النفس بما أنفقه من هدى و غيره، و بما أصابه من خسران و نقيصة مال إن أصابه ذلك فإنّه بذلك يكون مكتفيا إلى اللّه سبحانه عن كلّ ما أنفقه متعوّضا عنه ما عند اللّه و ذلك علامة لقبول حجّه.

البحث الثالث-  في الوظائف القلبيّة عند كلّ عمل من أعمال الحجّ.

اعلم أنّ أوّل الحجّ فهم موقع الحجّ في الدين ثمّ الشوق إليه ثمّ العزم عليه ثمّ قطع العلائق المانعة عنه ثمّ تهيئة أسباب الوصول إليه من الزاد و الراحلة ثمّ السير ثمّ الإحرام من الميقات بالتلبية ثمّ دخول مكّة ثمّ استتمام الأفعال المشهورة، و في كلّ حالة من هذه الحالات تذكرة للمتذكّر و عبرة للمعتبر و نيّة للمريد الصادق و إشارة للفطن الحاذق إلى أسرار يقف عليها بصفاء قلبه و طهارة باطنه إن ساعده التوفيق. أمّا الفهم فاعلم أنّه لا وصول إلى اللّه إلّا بتنحية ما عداه عن القصد من المشتهيات البدنيّة و اللذّات الدنيويّة و التجريد في جميع الحالات و الاقتصار على الضروريّات، و لهذا انفرد الرهبان في الأعصار السالفة عن الخلق في قلل الجبال توحّشا من الخلق و طلبا للانس بالخالق و اعرضوا عن جميع ما سواه، و لذلك مدحهم بقوله «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» فلمّا اندرس ذلك و أقبل الخلق على اتّباع الشهوات و الإقبال على الدنيا و الالتفات عن اللّه بعث نبيّه صلى اللّه عليه و آله لإحياء طريق الآخرة و تجديد سنّة المرسلين في سلوكها فسأله أهل الملل عن الرهبانيّة و السياحة في دينه فقال: أبدلنا بها الجهاد و التكبير على كلّ شرف يعنى الحجّ. و سئل عن السائحين فقال: هم الصائمون فجعل سبحانه الحجّ رهبانيّة لهذه الامة فشرّف البيت العتيق بإضافته إلى نفسه و نصبه مقصدا لعباده و جعل ما حوله حرما لبيته تفخيما لأمره و تعظيما لشأنه، و جعل عرفات كالميدان على باب حرمه و أكدّ حرمة الموضع بتحريم صيده و شجره، و وضعه على مثال حضرة الملوك يقصده الزوّار من كلّ فجّ عميق شعثا غبرا متواضعين لربّ البيت مستكينين له خضوعا بجلاله و استكانة لعزّته مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحومه مكان ليكون ذلك أبلغ في رقّهم و عبوديّتهم، و لذلك وظّف عليهم فيها أعمالا لا تأنس بها النفوس و لا تهتدى إلى معانبها العقول كرمي الجمار بالأحجار و التردّد بين الصفا و المروة على سبيل التكرار، و بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرّق و العبوديّة بخلاف سائر العبادات كالزكاة الّتي هي إنفاق في وجه معلوم و للعقل إليه ميل، و الصوم الّذي هو كسر للشهوة الّتي هي عدوّ للّه و تفرّغ للعبادة بالكفّ عن الشواغل، و كالركوع و السجود في الصلاة الّذي هو تواضع للّه سبحانه بأفعال على هيئات التواضع و للنفوس انس بتعظيم اللّه تعالى. و أمّا أمثال هذه الأعمال فإنّه لا اهتداء للعقل إلى أسرارها فلا يكون للإقدام عليها باعث إلّا الأمر المجرّد و قصد امتثاله من حيث هو واجب الاتّباع فقط و فيه عزل للعقل عن تصرّفه و صرف النفس و الطبع عن محلّ انسه المعين على الفعل من حيث هو فإنّ كلّ ما أدرك العقل وجه الحكمة في فعله مال الطبع إليه ميلا تامّا فيكون ذلك الميل معينا للأمر و باعثا على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرقّ و الانقياد، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله في الحجّ على الخصوص: لبّيك بحجّة حقّا تعبّدا و رقّا، و لم يقل ذلك في الصلاة و غيرها، و إذا اقتضت حكمة اللّه سبحانه ربط نجاة الخلق بكون أعمالهم على خلاف أهوية طباعهم و أن يكون أزّمتها بيد الشارع فيتردّدون في أعمالهم على سنن الانقياد و مقتضي الاستبعاد كان مالا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبّدات و صرفها عن مقتضي الطبع إلى مقتضي الاسترقاق، و لهذا كان مصدر تعجّب النفوس من الأفعال العجيبة هو الذهول عن أسرار التعبّدات، و أمّا الشوق فباعثه الفهم أنّ البيت بيت اللّه و أنّه وضع على مثال حضرة الملوك فقاصده قاصد اللّه تعالى و من قصد حضرة اللّه تعالى بالمثال المحسوس فجدير أن يترقّى منه بحسب سوق شوقه إلى الحضرة العلويّة و الكعبة الحقيقيّة الّتي هي في السماء و قد بنى هذا البيت على قصدها فيشاهد وجه ربّه الأعلى بحكم وعده الكريم، و أمّا العزم فليستحضر في ذهنه أنّه لعزمه مفارق للأهل و الولد، هاجر للشهوات و اللذّات مهاجر إلى ربّه، متوجّه إلى زيارة بيته و ليعظّم قدر البيت لقدر ربّ البيت و ليخلّص عزمه للّه و يبّعده عن شوائب الرياء و السمعة فإنّ ذلك شرك خفيّ، و ليتحقّق أنّه لا يقبل من عمله و قصده إلّا الخالص و أنّ من أقبح المقابح أن يقصد بيت الملك و حرمه مع اطّلاع ذلك الملك على خائنة الأعين و ما تخفى الصدور و يكون قصده غيره فإنّ ذلك استبدال للّذي هو أدنى بالّذي هو خير، أمّا قطع العلائق فحذف جميع الخواطر عن قلبه غير قصد عبادة اللّه و التوبة الخالصة له عن الظلم و أنواع المعاصي فكلّ مظلمة علاقة و كلّ علاقة خصم حاضر متعلّق به ينادى عليه و يقول أتقصد بيت الملوك و هو مطّلع على تضييع أمره لك في منزلك هذا و تستهين به و لا تلتفت إلى نواهيه و زواجره و لا تستحيى أن تقدم عليه قدوم العبد العاصي فيغلق دونك أبواب رحمته و يلقيك في مهاوي نقمته فإن كنت راغبا في قبول زيارتك فأبرز إليه من جميع معاصيك و أقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك لتتوجّه إليه بوجه قلبك كما أنت متوجّه إلى بيته بوجه ظاهرك، و ليذكر عند قطعه العلائق لسفر الحجّ قطع العلائق لسفر الآخرة فإنّ كلّ هذه أمثلة قريبة يترقّى منها إلى أسرارها، و أمّا الزاد فليطلبه من موضع حلال فإذا أحسّ من نفسه بالحرص على استكثاره و طيبه و طلب ما يبقى منه على طول السفر و لا يتغيّر قبل بلوغ المقصد فليذكر أنّ سفر الآخرة أطول من هذا السفر و أنّ زاده التقوى، و أمّا ما عداه لا يصلح زادا و لا يبقى معه إلّا رثيما هو في هذا المنزل و ليحذر أن يفسد أعماله الّتي هي زاده إلى الآخرة بشوائب الرياء و كدورات التقصير فيدخل في قوله تعالى «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»«» و كذلك فليلاحظ عند ركوب دابّته تسخير الحيوان له و حمله عنه الأذى، و يتذكّر منّته تعالى لشمول عنايته و رأفته حيث يقول «و تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلّا بشقّ الأنفس إنّ ربّكم لرؤف رحيم»«» فيشكره سبحانه على جزيل هذه النعمة و عظيم هذه المنّة، و يستحضر نقلته من مركبه إلى منازل الآخرة الّتي لا شكّ فيه، و لعلّه أقرب من ركوبه الحاضر فتحتاط في أمره، و ليعلم أنّ هذه أمثلة محسوسة يترقّى منها إلى مراكب النجاة من الشقّة الكبرى و هي عذاب اللّه سبحانه، و أمّا ثوب الإحرام و شراؤه و لبسه فليتذكّر معه الكفن و درجه فيه و لعلّه أقرب إليه وليتذكّر منها التسربل بأنوار اللّه الّتي لا مخلص من عذابه إلّا بها فيجهد في تحصيلها بقدر إمكانه، و أمّا الخروج من البلد فليستحضر عنده أنّه يفارق الأهل و الولد متوجّها إلى اللّه سبحانه في سفر غير أسفار الدنيا، و يستحضر أيضا غايته من ذلك السفر و أنّه متوجّه إلى ملك الملوك. و جبّار الجبابرة في جملة الزائرين الّذين نودوا فأجابوا و شوّقوا ما اشتاقوا و قطعوا العلائق و فارقوا الخلائق و أقبلوا على بيت اللّه طلبا لرضى اللّه و طمعا في النظر إلى وجهه الكريم و ليحضر أيضا في قلبه رجاء الوصول إلى الملك و القبول له بسعة فضله و ليعتقد أنّه إن مات دون الوصول إلى البيت لقى اللّه وافدا عليه لقوله تعالى «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»«» و ليتذكّر في أثناء طريقه من مشاهدة عقبات الطريق عقبات الآخرة و من السباع و الحيّات حشرات القبر، و من وحشة البرارى وحشة القبر و انفراده عن الانس فإنّ كلّ هذه الامور جاذبة إلى اللّه سبحانه و مذكّرة له أمر معاده، و أمّا الإحرام و التلبية من الميقات فليستحضر أنّه إجابة نداء اللّه تعالى و ليكن في قبول إجابته بين خوف و رجاء مفوّضا أمره إلى اللّه متوكّلا على فضله. قال سفيان بن عيينة حجّ زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام فلمّا أحرم و استوت به راحلته اصفرّ لونه و وقعت عليه الرعدة و لم يستطع أن يلبّي فقيل له ألا تلبّي فقال: أخشى أن يقول لا لبّيك و لا سعديك فلمّا لبّى غشى عليه و سقط عن راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتّى قضى حجّه فانظر-  رحمك اللّه-  إلى هذه النفس الطاهرة حيث بلغ بها الاستعداد لإفاضة أنوار اللّه لم تزل الغواشي الإلهيّة و النفخات الربّانيّة تغشيها فيغيب عن كلّ شي‏ء سوى جلال اللّه و عظمته، و ليتذّكر عند إجابته نداء اللّه سبحانه إجابة ندائه بالنفخ في الصور و حشر الخلق من القبور و ازدحامهم في عرصات القيامة مجيبين لندائه منقسمين إلى مقرّبين و ممقوتين و مقبولين و مردودين و مردّدين في أوّل الأمر بين الخوف و الرجاء تردّد الحاجّ في الميقات حيث لا يدرون أيتيسّر لهم إتمام الحجّ أم لا، أمّا دخول مكّة.

فليستحضر عنده أنّه قد انتهى إلى حرم اللّه الأمن و ليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب اللّه و ليخش أن لا يكون من أهل القرب، و ليكن رجاؤه أغلب فإنّ الكريم عميم و شرف البيت عظيم و حقّ الزائر مرعيّ و ذمام اللائذ المستجير غير مضيّع خصوصا عند أكرم‏ الأكرمين و أرحم الراحمين، و يستحضر أنّ هذا الحرم مثال للحرم الحقيقيّ لترقّي من الشوق إلى دخول هذا الحرم و الأمن بدخوله من العقاب إلى الشوق إلى دخول ذلك الحرم و المقام الأمين، و إذا وقع بصره على البيت فليستحضر عظمته في قلبه و ليترّق بفكره إلى مشاهدة حضرة ربّ البيت في جوار الملائكة المقرّبين و ليتشوّق أن يرزقه النظر إلى وجهه الكريم كما رزقه الوصول إلى بيته العظيم و ليتكثّر من الذكر و الشكر على تبليغ اللّه إيّاه هذه المرتبة، و بالجملة فلا يغفل عن تذكير أحوال الآخرة في كلّ ما يراه فإنّ كل أحوال الحجّ و منازله دليل يترقّي منه إلى مشاهدة أحوال الآخرة، و أما الطواف بالبيت. فليستحضر في قلبه التعظيم و الخوف و الخشية و المحبّة، و ليعلم أنّه بذلك متشبّه بالملائكة المقرّبين الحافيّن حول العرش الطائفين حوله و لا تظنّن أنّ المقصود طواف جسمك بالبيت بل طواف قلبك بذكر ربّ البيت حتّى لا تبتدى‏ء بالذكر إلّا منه و لا تختم إلّا به كما تبدأ بالبيت و تختم به، و اعلم أنّ الطواف المطلوب هو طواف القلب بحضرة الربوبيّة و أنّ البيت مثال ظاهر في عالم الشهادة لتلك الحضرة الّتي هي عالم الغيب كما أنّ الإنسان الظاهر مثال الظاهر في عالم الشهادة للإنسان الباطن الّذي لا يشاهد بالبصر و هو في عالم الغيب و أنّ عالم الملك و الشهادة مرقاة و مدرج إلى عالم الغيب و الملكوت لمن فتح له باب الرحمة و أخذت العناية الإلهيّة بيده لسلوك الصراط المستقيم، و إلى هذه الموازنة وقعت الإشارة الإلهيّة بأنّ البيت المعمور في السماء بإزاء الكعبة، و أنّ طواف الملائكة به كطواف الإنس بهذا البيت، و لمّا قصرت مرتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف امروا بالتشبّه بهم بحسب الإمكان و وعدوا بأنّ من تشبّه بقوم فهو منهم ثمّ كثيرا ما يزداد ذلك التشبيه إلى أن يصير في قوّة المشبّه به و الّذي يبلغ تلك المرتبة فهو الّذي يقال إنّ الكعبة تزوره و تطوف به على ما رواه بعض المكاشفين لبعض أولياء اللّه، و أمّا الاستلام فليستحضر عنده أنّه مبائع للّه على طاعته مصمّم عزيمته على الوفاء ببيعته «فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه و من أوفي بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه أجرا عظيما»«» و لذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض يصافح بها خلقه كما يصافح الرجل أخاه، و لمّا قبّله عمر قال: إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ و لا تنفع و لو لا أنّي رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقبّلك لما قبّلتك فقال له عليّ عليه السّلام مه يا عمر بل يضرّ و ينفع فإنّ اللّه سبحانه لمّا أخذ الميثاق على بني آدم حيث يقول «و إذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم و أشهدهم على أنفسهم»«» الآية ألقمه هذا الحجر ليكون شاهدا عليهم بأداء أمانتهم و ذلك معنى قول الإنسان عند استلامه أمانتي أدّيتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي عند ربّك بالموافاة، و أمّا التعلّق بأستار الكعبة و الالتصاق بالملتزم. فليستحضر فيه طلب القرب حبّا للّه و شوقا إلى لقائه تبرّكا بالمماسّة و رجاء للتحصّن من النار في كلّ جزء من البيت و لتكن النيّة في التعلّق بالستر الالحاح في طلب الراحة (الرحمة) و توجيه الذهن إلى الواحد الحقّ، و سؤال الأمان من عذابه كالمذنب المتعلّق بأذيال من عصاه المتضرّع إليه في عفوه عنه المعترف له بأنّه لا ملجاء إلّا إليه و لا مفزع له إلّا عفوه و كرمه، و أنّه لا يفارق ذيله إلّا بالعفو و بذل الطاعة في المستقبل، و أمّا السعي بين الصفا و المروة في فناء البيت فمثال التردّد العبد بفناء دار الملك جائيا و ذاهبا مرّة بعد اخرى إظهارا للخلوص في الخدمة و رجاء لملاحظته بعين الرحمة كالّذي دخل على الملك و خرج و هو لا يدري ما الّذي يقضي الملك في حقّه من قبول أوردّ فيكون تردّده رجاء أن يرحمه في الثانية إن لم يكن رحمه في الاولى، و ليتذّكر عند تردّده بين الصفا و المروة تردّده بين كفتّي الميزان في عرصة القيامة و ليمثّل الصفا بكفّه الحسنات و المروة بكفّه السيّئات و ليتذكّر تردّده بين الكفّتين ملاحظا للرجحان و النقصان متردّدا بين العذاب و الغفران، و أما الوقوف بعرفه.

فليتذكّر بما يرى من ازدحام الناس و ارتفاع الأصوات و اختلاف اللغات و اتّباع الفرق أئمتّهم في التردّدات على المشاعر اقتفاء لهم و سيرا بسيرتهم عرصات القيامة و اجتماع الامم مع الأنبياء و الأئمّة و اقتفاء كلّ امّة أثر نبيّها و طمعهم في شفاعتهم و تجرّهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرّد و القبول، و إذا تذكّر ذلك فيلزم قلبه الضراعة و الابتهال إلى اللّه أن يحشره في زمرة الفائزين المرحومين، و لكن رجاؤه أغلب فإنّ الموقف شريف و الرحمة إنّما تصل من حضرة الجلال إلى كافّة الخلائق بواسطة النفوس الكاملة من أوتاد الأرض و لا يخلو الموقف عن طائفة من الأبدال و الأوتاد و طوائف من الصالحين و أرباب‏ القلوب فإن اجتمعت همّهم و تجرّدت للضراعة نفوسهم، و ارتفعت إلى اللّه أيديهم و امتدّت إليه أعناقهم يرمقون بأبصارهم جهة الرحمة طالبين لها فلا تظنّن أنّه يخيّب سعيهم من رحمة تغمرهم و يلوح لك من اجتماعهم الامم بعرفات و الاستظهار بمجاورة الأبدال و الأوتاد المجتمعين من أقطار البلاد و هو السرّ الأعظم من الحجّ و مقاصده فلا طريق إلى استنزال رحمة اللّه و استدرارها أعظم من اجتماع الهمم و تعاون القلوب في وقت واحد على صعيد واحد، و أمّا رمي الجمار. فليقصد به الانقياد لأمر اللّه و إظهار الرقّ و العبودية ثمّ ليقصد به التشبّه بإبراهيم عليه السّلام حيث عرض له إبليس في ذلك الموضع ليدخل على حجّه شبهة أو يفتنه بمعصية فأمره اللّه تعالى أن يرميه بالحجارة طردا له و قطعا لأمله فإن خطر له أنّ الشيطان عرض لإبراهيم عليه السّلام و لم يعرض له فليعلم أنّ هذا الخاطر من الشيطان و هو الّذي ألقاه على قلبه ليخيّل إليه أنّه لا فائدة في الرمي، و أنّه يشبه اللعب و ليطرده عن نفسه بالجدّ و التشمير في الرمي فيه يرغم فيه برغم أنف الشيطان فإنّه و إن كان في الظاهر رميا للعقبة بالحصى فهو في الحقيقة رمي لوجه إبليس و قصم لظهره إذ لا يحصل إرغام أنفه إلّا بامتثال أمر اللّه تعظيما لمجرد الأمر، و أمّا ذبح الهدى.

فليعلم أنّه تقرب إلى اللّه تعالى بحكم الامتثال فليكمل الهدى و أجزاه و ليرج أن يعتق اللّه بكلّ جزء منه جزءا من النار. هكذا ورد الوعد فكلّما كان الهدى أكثر و أوفر كان الفداء به من النار أتمّ و أعمّ و هو يشبه التقرب إلى الملك بالذبح له و إتمام الضيافة و القرى و الغاية منه تذكّر المعبود الأوّل سبحانه عند النيّة في الذبح و اعتقاد أنّه متقرب به بأجزائه إلى اللّه فهذه هي الإشارة إلى أسرار الحجّ و أعماله الباطنة.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى المتن

قوله و فرض عليكم حجّ بيته الحرام

إشارة. إلى وجوب الحجّ على الخلق و هو معلوم بالضرورة من الدين و وصفه بالحرام لأنّه يحرم على الخلق أن يفعلوا فيه ما لا ينبغي من مناهي الشرع،

و قوله الّذي جعله قبلة للأنام

مستنده قوله تعالى «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ»«»

و قوله يردونه ورود الأنعام

مبالغة في تشبيه ورود الخلق البيت بورود الأنعام، و وجه الشبه أنّ الخلق يردّون البيت‏ بازدحام عن حرص و شوق إليه كحال الأنعام عند ورودها الماء، و قيل: إنّ وجه الشبه هو ما بيّناه من عدم اطّلاع الخلق على أسرار الحجّ و على ما يشتمل عليه المناسك من الحكمة الإلهيّة، و لمّا كان العقل الّذي به تميّز الإنسان عن الأنعام و سائر الحيوان معزولا عن إدراك هذه الأسرار كاد أن لا يكون بين الإنسان و بين مركوبه فرق في الورود إلى البيت و سائر المناسك و فيه بعد، و قوله و يألهون إليه ولوه الحمام إشارة إلى شوق الخلق في كلّ عام إلى ورود البيت كما يشتاق إليه الحمام الّذي يسكنه، و قد راعى عليه السّلام في هذه القرائن الأربع السجع.

 

قوله جعله علامة لتواضعهم لعظمته و إذعانهم لعزّته

إشارة إلى ما ذكرنا من أنّ العقل لمّا لم يكن ليهتدي إلى أسرار هذه الأعمال لم يكن الباعث عليها إلّا الأمر المجرّد و قصد امتثاله من حيث هو واجب الإتّباع فقط، و فيه كمال الرقّ و خلوص الانقياد فمن فعل ما أمر به من أعمال الحجّ كذلك فهو المخلص الّذي ظهرت عليه علامة المخلصين و المذعن المتواضع لجلال ربّ العالمين، و لمّا كان الحقّ سبحانه عالم الغيب و الشهادة لم يمكن أن يقال إنّ تلك العلامة ممّا يستفيد بها علما بأحوال عبيده من طاعتهم و معصيتهم فإذن يتعيّن أن يكون معناها راجعا إلى ما به تتميّز النفوس الكاملة الّتي انقادت لأوامر اللّه و أخلصت له العبادة عمّا عداها فإنّ هذه العبادة من أشرف ما استعدّت به النفس الإنسانيّة و إفادتها كمالا تميّزت به عن أبناء نوعها فهي إذن علامة بها تميّز من اتّسم بها عن غيره،

 

و قوله و اختار من خلقه سماعا أجابوا إليه دعوته

إشارة إلى الحاج في قوله تعالى «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»«» و في الآثار أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا فرغ من بناء البيت جاءه جبرئيل عليه السّلام فأمره أن يؤذّن الناس بالحجّ فقال إبراهيم عليه السّلام: يا ربّ و ما يبلغ صوتى قال اللّه أذّن و عليّ البلاغ فعلا إبراهيم عليه السّلام المقام و أشرف به حتّى صار كأطول الجبال و أقبل بوجهه يمينا و شمالا و شرقا و غربا و نادى يا أيّها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم فأجابه من كان في أصلاب الرجال و أرحام النساء لبيّك اللهمّ لبّيك، و في الأثر إشارات لطيفة فإنّه يحتمل أن يراد بقول إبراهيم و ما يبلغ صوتي إشارة إلى حكم الوهم الإنسانيّ باستبعاد عموم هذه الدعوة و انقياد الخلق لها و قصور الطبع عن ذلك، و بقول الحقّ سبحانه و علىّ البلاغ الإشارة إلى تأييد اللّه سبحانه بما أوحى إليه من العلم ببسط دعوته و إبلاغها إلى من علم بلوغها إليه، و بعلوّ إبراهيم المقام حتّى صار كأطول الجبال، و إقباله بوجهه يمينا و شمالا و شرقا و غربا و دعوته إشارة إلى اجتهاده في التبليغ للدعوة و جذب الخلق إلى هذه العبادة بحسب إمكانه و استعانته في ذلك بأولياء اللّه التابعين له، و أمّا إجابة من كان في أصلاب الرجال و أرحام النساء له فإشارة إلى ما كتبه اللّه سبحانه بقلم قضائه في اللوح المحفوظ من طاعة الخلق و إجابتهم لهذه الدعوة على لسان إبراهيم عليه السّلام و من بعده من الأنبياء و هم المراد بالسماع الّذين اختارهم اللّه سبحانه من خلقه حتّى أجابوا دعوته إلى بيته بحجّهم إليه بعد ما أهّلهم لذلك قرنا بعد قرن و امّة بعد اخرى،

 

و قوله و صدّقوا كلمته

إشاره إلى مطابقة أفعالهم لما جاءت به الأنبياء من كلام اللّه سبحانه و عدم مخالفتهم و تكذيبهم لهم، و قوله و وقفوا مواقف الأنبياء إشارة إلى متابعتهم لهم أيضا في مواقف الحجّ و في ذكر الأنبياء هاهنا استدراج حسن للطباع اللطيفة المتشوّقة إلى لقاء اللّه و التشبّه بأنبيائه عليهم السّلام و ملائكته

 

و قوله و تشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه

إشارة إلى ما ذكرناه من أنّ البيت المعمور بإزاء الكعبة في السماء و أنّ طواف الخلق بهذا البيت يشبه طواف الملائكة و إحداقهم بالبيت المعمور و العرش فهم متشبّهون بالملائكة في الطواف، و الغاية أن يترقّي من أخذ العناية بيده من هذا الطواف إلى أن يصير من الطائفين بالعرش و البيت المعمور،

 

و قوله يحرزون الأرباح في متجر عبادته و يبادرون عنده موعد مغفرته

شبّه عليه السّلام العبادة بالبضاعة الّتي يتّجر بها فالتاجر هو النفس و رأس المال هو العقل، و وجوه تصرّفاته حركاته و سكناته الحسيّة و العقليّة المطلوبة منه بالأوامر الشرعيّة و العقليّة و الأرباح هي ثواب اللّه و ما أعدّه للمحسنين في جنّات النعيم و أقبح بمملوك يعدّ تصرّفه في خدمة سيّده متجرا يطلب به التكسّب و الربح و أحسن به إذا نظر إلى أنّه أهل العبادة فحذف جميع الأعراض و الخواطر في خدمته عن درجة الاعتبار و جعلها خالصة له لأنّه هو فأمّا كلامه عليه السّلام بذكر الربح هاهنا فاستدراج حسن لطباع الخلق بما يفهمونه و يميلون إليه من حبّ الأرباح في الحركات ليشتاقوا فيعبدوا، و قوله و جعله للإسلام علما أي علما للطريق إلى اللّه و سلوك صراطه المستقيم، و هي الإسلام الحقيقيّ يهتدي عليها كما يهتدي بالعلم المرفوع‏ للعسكر و المارّة على مقاصدهم،

 

و قوله فرض عليكم حجّة و أوجب حقّه و كتب عليكم وفادته إلى آخره

تأكيد لما سبق و ذكر للخطاب الموجب للحجّ و هو قوله «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»«» و باللّه العصمة و التوفيق.

 

شرح ابن میثم بحرانی جلد اول

خطبه1شرح ابن میثم بحرانی قسمت چهارم

الفصل الرابع قوله و اصطفى سبحانه…

وَ اصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ-  أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ-  وَ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ-  لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ-  فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ-  وَ اجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ-  وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ-  وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ-  وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ-  وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ-  وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ-  وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ-  مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ-  وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ‏ تُهْرِمُهُمْ-  وَ أَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ-  وَ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ-  أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ-  رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ-  وَ لَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ-  مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَ مَضَتِ الدُّهُورُ-  وَ سَلَفَتِ الْآبَاءُ وَ خَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص-  لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ-  مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ-  مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلَادُهُ-  وَ أَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ-  وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَوائِفُ مُتَشَتِّتَةٌ-  بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ-  أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ-  فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ-  ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ-  وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا-  وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى-  فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً-  ص وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا-  إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ-  وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ-  وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ-  وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ-  وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ-  بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ-  وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ-  وَ مَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ-  وَ وَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ-  وَ مُرَخَّصٍ فِي الْكِتَابِ تَرْكُهُ-  وَ بَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ-  وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ-  أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ-  وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ

اللغة

أقول: الاصطفاء الاستخلاص، و الأنداد الأمثال، و اجتالتهم أي أدارتهم و اجتذبتهم، و واتر أي أرسل وترا بعد وتر أي واحدا بعد آخر، و الفطرة الخلقة، و المهاد الفراش، و الأوصاب الأمراض، و الأحداث المصائب و تخصيصها بذلك عرفيّ، و الحجّة ما يحجّ به الإنسان غيره أي يغلبه به، و المحجّة جادّة الطريق، و الغابر الباقي و الماضي أيضا و هو من الأضداد، والقرن الامّة، و نسلت أي درجت و مضت مأخوذ من نسل ريش الطائر و نسل الوبر إذا وقع، و العدة الوعد و إنجازها قضاؤها، و السمة العلامة، و ميلاد الرجل محلّ ولادته من الزمان و المكان، و الملحد العادل عن الاستقامة على الحقّ، و النسخ في اللغة الإزالة، و الرخصة الساهل في الأمر، و العزيمة الهمّة، و هذه الألفاظ الثلاثة مخصوصة في العرف على معان اخرى كما نذكره، و أرصدت له كذا أي هيّأته له،

المعنى

و هاهنا أبحاث.

البحث الأوّل

–  الضمير في ولده راجع إلى آدم عليه السّلام ثمّ إن كانت الإشارة بآدم إلى النوع الإنساني فنسبة الولادة إليه في العرف ظاهرة صادقة فإنّ كلّ أشخاص نوع هم أبناء ذلك النوع في اصطلاح أهل التأويل و كذلك إن كان المراد به أوّل شخص وجد، و اعلم أنّ اصطفاء اللّه للأنبياء يعود إلى إفاضة الكمال النبويّ عليهم بحسب ما وهبت لهم العناية الإلهيّة من القبول و الاستعداد، و أخذه على الوحي ميثاقهم و على تبليغ الرسالة أمانتهم هو حكم الحكمة الإلهيّة عليهم بالقوّة على ما كلّفوا به من ضبط الوحي في ألواح قواهم‏و جذب سائر النفوس الناقصة إلى جناب عزّته بحسب ما أفاضهم من القوّة على ذلك الاستعداد، له و ما منحهم من الكمال الّذي يقتدرون معه على تكميل الناقصين من أبناء نوعهم، و لمّا كانت صورة العهد و أخذ الأمانة في العرف أن يوغر إلى الإنسان بأمر و يؤكّد عليه القيام به بالإيمان و إشهاد الحقّ سبحانه، و كان الحكم الإلهيّ جاريا بإرسال النفوس الإنسانيّة إلى هذا العالم و كان مراد العناية الإلهيّة من ذلك البعث أن يظهر ما في قوّة كلّ نفس من كمال أو تكميل إلى الفعل، و كان ذلك لا يتمّ إلّا بواسطة بعضها للبعض كان الوجه الّذي بعثت عليه مشبّها للعهد و الميثاق المأخوذ و الأمانة المودعة كلّ لما في قوّته و ما أعدّ له فحسن إطلاق هذه الألفاظ و استعارتها هاهنا.

 

قوله لمّا بدّل أكثر خلق اللّه عهدهم إليهم فجهلوا حقّه و اتّخذوا الأنداد معه و اجتالتهم الشياطين عن معرفته و اقتطعتهم عن عبادته إلى آخره

إشارة إلى وجه الحكمة الإلهيّة في وجود الأنبياء عليهم السّلام و لوازمه و هي شرطيّة متصّلة قدّم فيها التالي لتعلّق ذكر الأنبياء عليهم السّلام بذكر آدم، و التقدير لمّا بدّل أكثر خلق اللّه عهده إليهم اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم فبعثهم في الخلق، و ذلك العهد هو المشار إليه بقوله تعالى «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»«» الآية قال ابن عبّاس: لمّا خلق اللّه آدم مسح على ظهره فأخرج منه كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فقال: أ لست بربّكم قالوا: بلى، فنودى يومئذ جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، و اعلم أنّ أخذ الذريّة يعود إلى إحاطة اللوح المحفوظ بما يكون من وجود النوع الإنساني بأشخاصه، و انتقاشه بذلك عن قلم القضاء الإلهي، و لمّا كان بالإنسان تمام العالمين في الوجود الخارجيّ فكذلك هو في التقدير القضائي المطابق له، و به يكون تمام التقدير و جفاف القلم، و أمّا إشهادهم على نفسهم فيعود إلى إنطاق إمكانهم بلسان الحاجة إليه و أنّه الإله المطلق الّذي لا إله غيره، و أمّا بيان ملازمة الشرطيّة فلأنّه لمّا كان الغالب على الخلق حبّ الدنيا، و الإعراض عن مقتضي الفطرة الأصليّة الّتي فطرهم عليها، و الالتفات عن القبلة الحقيقيّة الّتي امروا بالتوجّه إليها، و ذلك بحسب ما ركبّ فيهم من القوى البدنيّة المتنازعة إلى كمالاتها لا جرم كان من شأن كونهم على هذا التركيب المخصوص أن يبدّل أكثرهم عهد اللّه سبحانه إليهم من الدوام على عبادته و الاستقامة على صراطه المستقيم و عدم الانقياد لعبادة الشيطان كما قال سبحانه «أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ»«» الآية، و أن يجهلوا حقّه للغفلة بحاضر لذّاتهم عمّا يستحقّه من دوام الشكر، و أن يتّخذوا الأنداد معه لنسيانهم العهد القديم، و أن تجتذبهم الشياطين عن معرفته الّتي هي ألذّ ثمار الجنة، و أن تقتطعهم عن عبادته الّتي هي المرقاة إلى اقتطاف تلك الثمرة، و لمّا كان من شأنهم ذلك وجب في الحكمة الإلهيّة أن يختصّ صنفا منهم بكمال أشرف يقتدر معه أبناء ذلك الصنف على ضبط الجوانب المتجاذبة، و على تكميل الناقصين ممّن دونهم، و هم صنف الأنبياء عليهم السلام و الغاية منهم ما أشار إليه ليستأدوهم ميثاق فطرته أي ليبعثوهم على أداء ما خلقوا لأجله و فطروا عليه من الإقرار بالعبوديّة للّه، و يجذبوهم عمّا التفتوا إليه من اتّباع الشهوات الباطنة، و افتناء اللذّات الوهميّة الزائلة، و ذلك البعث و الجذب تارة يكون بتذكيرهم نعم اللّه الجسميّة و تنبيههم على شكر ما أولاهم به من مننه العظيمة، و تارة يكون بالترغيب فيما عقده سبحانه ممّا أعدّه لأوليائه الأبرار، و تارة بالترهيب ممّا أعدّه لأعدائه الظالمين من عذاب النار، و تارة بالتنفير عن خسائس هذه الدار، و بيان وجوه الاستهانة بها و الاستحقار، و إلى ذلك أشار بقوله، و يذكّروهم منسيّ نعمته، و لا بدّ للمجادلة و المخاطبة من احتجاج مقنع و مفحم فيحتجّوا عليهم بتبليغ رسالات ربّهم و إنذارهم لقاء يومهم الّذي يوعدون، و يشيروا لهم وجوه الأدلّة على وحدانيّة المبدع الأوّل، و تفرّده باستحقاق العبادة، و هو المراد بدفائن العقول و كنوزها، و استعمال الدفائن هاهنا استعارة لطيفة فإنّه لمّا كانت جواهر العقول و نتائج الأفكار، موجودة في النفوس بالقوّة أشبهت الدفائن فحسن استعارة لفظ الدفينة لها، و لمّا كانت الأنبياء هم الأصل في استخراج تلك الجواهر لإعداد النفوس لإظهارها حسنت إضافة إثارتها إليهم، و كذلك ليرشدهم إلى تحصيل مقدّمات تلك الأدلّة و البراهين و موادّها و هي آيات القدرة الإلهيّة و آثارها من سقف فوقهم محفوظ مرفوع مشتمل على بدائع الصنع و غرائب الحكم، و مهاد تحتهم موضوع فيه ينتشرون و عليه يتصرّفون، و معائش بها يكون قوام حياتهم الدنيا، و بلاغا لمدّة بقائهم لما خلقوا له، و إجال مقدرة بها يكون فناؤهم و رجوعهم إلى بارئهم، و أعظم بالأجل آية رادعة و تقديرا جاذبا إلى اللّه تعالى، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله: أكثروا من ذكر هادم اللذّات إلى غير ذلك من الأمراض الّتي تضعف قواهم و تهرمهم، و المصائب الّتي تتتابع عليهم فإنّ كلّ هذه الآثار موادّ احتجاج الأنبياء على الخلق لينبّونهم بصدورها عن العزيز الجبّار عزّ سلطانه على أنّه هو الملك المطلق الّذي له الخلق و الأمر، و ليقرّروا في أذهانهم صورة ما نسوه من العهد المأخوذ عليهم في الفطرة الأصليّة من أنّه سبحانه هو الواحد الحقّ المتفرّد باستحقاق العبادة، و إلى ذلك أشار القرآن الكريم «و جعلنا السماء سقفا محفوظا و هم عن آياتها معرضون»«» و قوله «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها»«» الآية و قوله تعالى «وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»«» إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على احتجاج الخالق سبحانه على خلقه بألسنة رسله و تراجمة وحيه و جذبهم بهذه الألطاف إلى القرب من ساحل عزّته و الوصول إلى حضرة قدسه سبحانه و تعالى عمّا يشركون «و إن تعدّوا نعمت اللّه لا تحصوها إنّ الإنسان لظلوم كفّار»«»

 

قوله و لم يخل اللّه سبحانه خلقه إلى قوله و خلقت الأبناء.

أقول: المقصود الإشارة إلى بيان عناية اللّه سبحانه بالخلق حيث لم يخل امّة منهم من نبيّ مرسل يجذبهم إلى جناب عزّته كما قال تعالى «وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ»«» و كتاب منزل يدعوهم إلى عبادته و يذكّرهم فيه منسىّ عهده و يتلى عليهم فيه أخبار الماضين و العبر اللاحقة للأوّلين و يحتجّ عليهم فيه بالحجج البالغة و الدلائل القاطعة، و يوضح لهم فيه امور نظامهم و ينبّههم على مبدئهم و معادهم، و الانفصال هاهنا انفصال مانع من الخلوّ كما هو مصرّح به.

 

قوله رسل لا تقصّر بهم قلّة عددهم و لا كثرة المكذّبين لهم أي هم رسل كذلك،

و المراد الإشارة إلى أنّهم و إن كانوا قليلي العدد بالنسبة إلى كثرة الخلق، و كان عدد المكذّبين‏ لهم كثيرا كما هو المعلوم من أنّ كلّ نبيّ بعث إلى امّة فلا بدّ فيهم فرقه تنابذه و تعانده، و تكذّب مقاله فإنّ ذلك لا يولّيهم قصورا عن أداء ما كلّفوا القيام به من حمل الخلق على ما يكرهون ممّا هو مصلحة لهم في معاشهم و معادهم، بل يقوم أحدهم وحده و يدعو إلى طاعة بارئه و يتحمّل إعباء المشقّة التامّة في مجاهدة أعداء الدين، و ينشر دعوته في أطراف الأرض بحسب العناية الأزليّة و الحكمة الإلهيّة، و تبقي آثارها محفوظة و سنتّها قائمة إلى أن يقتضى الحمكمة وجود شخص آخر منهم يقوم ذلك المقام «رسلا مبشّرين و منذرين لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرسل»«» قوله من سابق سمّى له من بعده تفضيل للأنبياء، و من هاهنا للتمييز و التبيين، و المراد أنّ السابق منهم قد اطّلعه اللّه تعالى على العلم بوجود اللاحق له بعده فبعضهم كالمقدّمة لتصديق البعض كعيسى عليه السّلام حيث قال «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ«»» و بين لاحق سمّاه من قبله كمحمّد صلى اللّه عليه و آله و على ذلك أي على هذه الوتيرة و الاسلوب و النظام الإلهي.

 

قوله مضت الأمم و سلفت الآباء و خلقت الأبناء إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّد صلى اللّه عليه و آله إلى قوله من الجهالة،

و اعلم أنّه عليه السّلام ساق هذه الخطبة من لدن آدم عليه السّلام إلى أن انتهى إلى محمّد صلى اللّه عليه و آله كما هو الترتيب الطبيعي إذ هو الغاية من طينة النبوّة و خاتم النبيّين كما نطق به القرآن الكريم «ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول اللّه و خاتم النبيّين»«» ثمّ شرع بعد ذلك في التنبيه على كيفيّة اهتداء الخلق به و انتظام أمورهم في معاشهم و معادهم بوجوده كلّ ذلك استدراج لأذهان السامعين و تمهيد لما يريد أن يقرّره عليهم من مصالح دينيّة أو دنيويّة فأشار إلى أنّه الغاية من طينة النبوّة و تمام لها بقوله إلى أن بعث اللّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله لإنجاز عدته لخلقه على ألسنة رسله السابقين بوجوده و إتمام نبوّته صلى اللّه عليه و آله.

 

قوله مأخوذا على النبيين ميثاقه، النصب هاهنا على الحال من بعث و ذو الحال‏ محمّد صلى اللّه عليه و آله، و كذلك الحال في المنصوبين الباقيين، و المراد بأخذ ميثاقه عليهم ما ذكر و قرّر في فطرتهم من الاعتراف بحقيّة نبوّته صلى اللّه عليه و آله و تصديقه فيما سيجي‏ء به إذ كان ذلك من تمام عبادة الحقّ سبحانه فبعث صلى اللّه عليه و آله حال ما كان ذلك الميثاق مأخوذا على الأنبياء و من عداهم و حال ما كانت إمارات ظهوره و البشارة بمقدّمة مشهورة بينهم مع ذكاء أصله و كرم مادّة حملته و شرف وقت سمح به، ثمّ أراد عليه السّلام بعد ذلك أن يزيد بعثة محمّد صلى اللّه عليه و آله تعظيما، و يبيّن فضيلة شرعه و كيفيّة انتفاع الخلق به فقال: و أهل الأرض يومئذ ملل متفرّقة و أهواء منتشرة و طوائف متشتّتة، و الواو في قوله و أهل الأرض للحال أيضا، و موضع الجملة نصب، و قوله و أهواء خبر مبتداء محذوف تقديره أهوائهم أهواء متفرّقة، و كذلك قوله و طوائف أي و طوائفهم طرائق متشتّتة أي بعثه و حال أهل الأرض يوم بعثه ما ذكر من تفرّق الأديان و انتشار الآراء و اختلافها و تشتّت الطرق و المذاهب، و اعلم أنّ الخلق عند مقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله إمّا من عليه اسم الشرائع أو غيرهم أمّا الأوّلون فاليهود و النصارى و الصائبة و المجوس، و قد كانت أديانهم اضمحلّت من أيديهم، و إنّما بقوا متشبّهين بأهل الملل، و قد كان الغالب عليهم دين التشبيه، و مذهب التجسيم كما حكى القرآن الكريم عنهم «و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه»«» «و قالت اليهود عزير ابن اللّه و قالت النصارى المسيح بن اللّه»«» «و قالت اليهود يد اللّه مغلولة غلّت أيديهم و لعنوا بما قالوا»«» و المجوس أثبتوا أصلين أسندوا إلى أحدهما الخير و إلى الثاني الشّر، ثمّ زعموا أنّه جرت بينهما محاربة ثمّ إنّ الملائكة توسّطت و أصلحت بينهما على أن يكون العالم السفلى للشرير مدّة سبعة آلاف سنة إلى غير ذلك من هذيانهم و خبطهم، و أمّا غيرهم من أهل الأهواء المنتشرة و الطوائف المتشتّتة فهم على أصناف شتّى فمنهم العرب أهل مكّة و غيرهم و قد كان منهم معطّلة و منهم محصّلة نوع تحصيل، أمّا المعطّلة فصنف منهم أنكروا الخالق و البعث و الإعادة، و قالوا بالطبع المحيي و الدهر المفني، و هم الّذين حكى القرآن عنهم «و قالوا إن هي إلّا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلّا الدهر»«» و قصّروا الحياة و الموت على تحلّل الطبائع المحسوسة و تركّبها فالجامع هو الطبع و المهلك هو الدهر «و ما لهم بذلك من علم إن هم إلّا يظنّون»«» و صنف منهم أقروّا بالخالق و ابتداء الخلق عنه، و أنكروا البعث و الإعادة و هم المحكيّ عنهم في القرآن الكريم «وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا»«» الآية، و صنف منهم اعترفوا بالخالق و نوع من الإعادة لكنّهم عبدوا الأصنام و زعموا أنّها شفعاؤهم عند اللّه كما قال «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ»«» و من هؤلاء قبيلة يقف و هم أصحاب اللات بالطائف و قريش و بنو كنانه و غيرهم أصحاب العزّى، و منهم من كان يجعل الأصنام على صور الملائكة، و يتوجّه بها إلى الملائكة، و منهم من كان يعبد الملائكة كما قال تعالى «بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ»«» و أمّا المحصّلة فقد كانوا في الجاهلية على ثلاثة أنواع من العلوم: أحدها علم الأنساب و التواريخ و الأديان، و الثاني علم تعبير الرؤيا و الثالث علم الأنواء، و ذلك بما يتولّاه الكهنة و القافة منهم، و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله من قال: مطرنا نبنوء كذا فقد كفر بما أنزل على محمّد، و من غير العرب البراهمة من أهل الهند و مدار مقالتهم على التحسين و التقبيح العقليّين و الرجوع في كلّ الأحكام إلى العقل و إنكار الشرائع و انتسابهم إلى رجل منهم يقال له براهام، و منهم أصحاب البددة و البدّ عندهم شخص في هذا العالم لا يولد و لا ينكح و لا يطعم و لا يشرب و لا يهرم و لا يموت، و منهم أهل الفكرة و هم أهل العلم منهم بالفلك و أحكام النجوم، و منهم أصحاب الروحانيّات الّذين أثبثوا وسائط روحانيّة تأتيهم بالرسالة من عند اللّه في صورة البشر من غير كتاب فتأمرهم و تنهاهم و منهم عبدة الكواكب، و منهم عبدة الشمس، و منهم عبدة القمر و هؤلاء يرجعون بالأخرة إلى عبادة الأصنام إذ لا يستمرّ لهم طريقة إلّا بشخص حاضر ينظرون إليه و يرجعون إليه في مهمّاتهم، و لهذا كان أصحاب الروحانيّات و الكواكب يأخذون أصناما على صورها فكان الأصل في وضع الأصنام ذلك إذ يبعد ممّن له أدنى فطنة أن يعمل خشبا بيده ثمّ يتخذّه إلها إلّا أنّ الخلق لمّا عكفوا عليها و ربطوا حوائجهم بها من غير إذن شرعىّ و لا حجّة و لا برهان من اللّه تعالى كان عكوفهم ذلك و عبادتهم لها إثباتا لإلهيّتها، و وراء ذلك من أصناف الآراء الباطلة و المذاهب الفاسدة أكثر من أن تحصى مذكورة في الكتب المصنّفة في هذا الفنّ، و إذا عرفت ذلك ظهر معنى قوله عليه السّلام من مشيّئة اللّه بخلقه كالبقيّة من أصحاب الملل السابقه فإنّهم و إن أثبتوا صانعا إلّا أنّ أذهانهم مكيّفة بكيفيّة بعض مصنوعاته في نفس الأمر من الجسميّة و توابعها، و من ملحد في اسمه كالّذين عدلوا عن الحقّ في أسماعه بتحريفها عمّا هي عليه إلى أسماء اشتقّوها لأوثانهم و زادوا فيها و نقصوا كاشتقاقهم اللات من اللّه، و العزّى من العزيز و مناة من المنّان، و هذا التأويل مذهب ابن عبّاس، و منهم من فسّر الملحدين في أسماء اللّه بالكاذبين في أسمائه و على هذا كلّ من سمّى اللّه بما لم يسمّ به ذهنه و لم ينطق به كتاب و لا ورد فيه إذن شرعيّ فهو ملحد في أسمائه، و قوله و من مشير إلى غيره كالدهريّة و غيرهم من عبدة الأصنام، و الانفصال هاهنا لمنع الخلوّ أيضا، فلمّا اقتضت العناية بعثته صلى اللّه عليه و آله ليهتدوا سبيل الحقّ و يفيئوا من ضلالهم القديم إلى سلوك الصراط المستقيم، و لينقذهم ببركة نوره من ظلمات الجهل إلى أنوار اليقين، فقام بالدعوة إلى سبيل ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة و المجادلة بالّتي هي أحسن، فجلى اللّه بنوره صداء قلوب الخلق، و أزهق باطل الشيطان بما جاء به من الحقّ و الصدق و انطلقت الألسن بذكر اللّه و استنارت البصائر بمعرفة اللّه و كمل به دينه في أقصى بلاد العالم، و أتمّ به نعمته على كافّة عباده كما قال تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»«» أحبّ اللّه سبحانه لقاءه كما أحبّ هو لقاء اللّه كما قال صلى اللّه عليه و آله: من أحبّ لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه و رضى له ما عنده من الكرامة التامّة و النعمة العامّة في جواره الأمين في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فأكرمه عن دار الدنيا و رغب به عن مجاورة البلوى و مقام الأذى فقبضه اللّه إليه عند انتهاء أجله كريما عن أدناس الذنوب طاهرا في ولادته الجسمانيّة و الروحانية صلى اللّه عليه و آله ما برق بارق و ذرّ شارق.

 

قوله و خلّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في اممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح و لا علم قائم.

أقول: لمّا كان هذا الشخص الّذي هو النبيّ ليس ممّا يتكوّن وجود مثله في كلّ وقت لما أنّ المادّة الّتي تقبل كمال مثله إنّما يقع في قليل من الأمزجة وجب إذن أن يشرع للناس بعده في امورهم سنّة باقية بإذن اللّه و أمره و وحيه و إنزاله الروح القدس عليه، و واجب أن يكون قد دبّر لبقاء ما يسنّه و يشرعه في امور المصالح الإنسانيّة تدبيرا و الغاية من ذلك التدبير هو بقاء الخلق و استمرارهم على معرفة الصانع المعبود و دوام ذكره و ذكر المعاد، و حسم وقوع النسيان فيه مع انقراض القرآن الّذي يلي النبيّ و من بعده فواجب إذن أن يأتيهم بكتاب من عند اللّه و يكون وافيا بالمطالب الإلهيّة و الأذكار الجاذبة إلى اللّه سبحانه و لإخطاره بالبال في كلّ حال مشتملا على أنواع من الوعد على طاعة اللّه و رسوله بجزيل الثواب عند المصير إليه، و الوعيد على معصيته بعظيم العقاب عند القدوم عليه و لا بدّ أن يعظّم أمره و يسنّ على الخلق تكراره و حفظه، أو بحثه و دراسته و تعلّمه و تعليمه و تفّهم معانيه و مقاصده ليدوم به التذكّر للّه سبحانه، و الملاء الأعلى من ملائكته ثمّ يسنّ عليهم أفعالا و أعمالا تتكرّر في أوقات مخصوصة تتقارب و يتلو بعضها بعضا مشفوعة بألفاظ تقال و نيّات تنوى في الخيال ليحصل بها دوام تذكّر المعبود الأوّل و ينتفع بها في أمر المعاد و إلّا فلا فائدة فيها، و هذه الأفعال كالعبادات الخمس المفروضة على الناس و ما يلحقها من الوظائف و لمّا بدء عليه السّلام هاهنا بذكر الكتاب العزيز لكونه مشتملا على ذكر سائر ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه و آله إمّا مطابقة أو التزاما و في بسط قوانينه الكليّة بحسب السنّة النبويّة وفاء بجميع المطالب الإلهيّة، فنحن نبدء بذكر شرفه و وظائفه و شرائط تلاوته و نؤخّر الكلام في باقي العبادات إلى مواضعها.

البحث الثاني-  في فضيلة الكتاب

أمّا الفضيلة فمن وجوه.

الأوّل-  قوله تعالى «وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ»«» «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ»«» و قوله «وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ‏ أَنْ يُفْتَرى‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ»«» الثاني قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من قرء القرآن ثمّ رأى أنّ أحدا اوتى أفضل ممّا اوتى فقد استصغر ما عظّم اللّه تعالى، الثالث قوله صلى اللّه عليه و آله: ما من شفيع أفضل منزلة عند اللّه تعالى يوم القيامة من القرآن لا نبيّ و لا ملك و لا غيره، و يلوح لك من سرّ هذه الإشارة أنّ ذلك إنّما هو في حقّ من تدّبره، و سلك النهج المطلوب منه المشتمل عليه، و وصل به إلى جناب اللّه في جوار الملائكة المقرّبين و لا غاية من الشفاعة إلّا الوصول إلى نيل الرضوان من المشفوع، و علمت أنّ تمام رضوان اللّه بغير سلوك الطريق المشتمل عليها الكتاب العزيز لا يحصل، و لا ينفع فيه شفاعة شافع كما قال تعالى «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ»«» الرابع قال صلى اللّه عليه و آله: لو كان القرآن في احاب لما مسّته النار، و المراد أىّ ظرف وعاه و تدبّره و سلك طريقه لم تمسّه النار، أمّا نار الآخرة فظاهر، و أمّا نار الدنيا فلأنّ الواصلين من أولياء اللّه الكاملين في قوّتهم النظريّة و العمليّة يبلغون حدّا تنفعل العناصر عن نفوسهم فتتصرّف فيها كتصرّفها في أبدانها فلا يكون لها في أبدانهم تأثير، و قد عرفت أسباب ذلك في المقدّمات. الخامس قال صلى اللّه عليه و آله: أفضل عبادة امّتي قراءة القرآن، و أهل القرآن هم أهل اللّه و خاصّته، و المقصود مع شرائطه الّتي سنذكرها.

 

البحث الثالث-  في وظائفه

أمّا مداومة الكتاب بالتلاوة و الدرس فيحتاج إلى وظائف و إلّا لم ينتفع بها كما قال أنس: ربّ تال للقرآن و القرآن يلعنه، و الّذي ينبغي أن يوظّف في ذلك ما لخصّه الإمام أبو حامد الغزّاليّ في كتاب الإحياء فإنّه لا مزيد عليه و هي امور عشرة: الأوّل أن يتصوّر الإنسان حال سماعة للتلاوة عظمة كلام اللّه سبحانه و إفاضة كماله و لطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة أفهام الخلق في إيصال معاني كلامه إلى أذهانهم، و كيف تجلّت لهم الحقائق الإلهيّة في طيّ حروف و أصوات هي صفات البشر إذ يعجز البشر عن الوصول إلى مدارج الجلال و نعوت الكمال إلّا بوسيلة، و لو لا استنار كنه جمال كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع الكلام عرش و لا ثرى، و لتلاشى ما بينهما من‏ عظمة سلطانه و سبحات نوره فالصوت و الحرف للحكمة جسد، و هي بالنسبة إليه نفس و روح، و لمّا كان شرف الأجساد و عزّتها بشرف أرواحها فكذلك شرف الحرف و الصوت بشرف الحكمة الّتي فيها. الثاني التعظيم للمتكلّم، و ينبغي أن يحضر في ذهن القارئ عظمة المتكلّم، و يعلم أنّ ما يقرأه ليس بكلام البشر، و أنّ في تلاوة كلام اللّه غاية الحظر فإنّه تعالى قال «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» و كما أنّ ظاهر جلد المصحف و ورقه محروس عن ظاهر بشرة الامس الغير المتطّهر فكذلك باطن معناه كلمة عزّه و جلاله محجوب عن باطن القلب إذ لا يستضي‏ء بنوره إلّا إذا كان متطهّرا عن كلّ رجس مستنيرا بنور التعظيم و التوفير عن ظلمة الشرك، و كما لا تصلح للمس جلد المصحف كلّ يد، فلا يصلح لتلاوة حروفه كلّ إنسان و لا لحمل أنواره كلّ قلب، و لأجل هذا الإخلال كان عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف يغشى عليه و يقول: هو كلام ربّي فيعظّم الكلام بتعظيم المتكلّم و علمت أنّ عظمة المتكلّم لا تخطر في القلب بدون الفكر في صفات جلاله و نعوت كماله و أفعاله و إذا خطر ببالك الكرسيّ و العرش و السماوات و الأرضون و ما بينهما، و علمت أنّ الخالق لجميعها و القادر عليها و الرازق لها هو اللّه الواحد القهّار، و أنّ الكلّ في قبضته و السماوات مطويّات بيمينه، و الكلّ سائر إليه و أنّه الّذي يقول: هؤلاء في الجنّة، و لا ابالي فإنّك تستحضر من ذلك عظمة المتكلّم ثمّ عظمة الكلام.

الثالث حضور القلب و ترك حديث النفس. قيل في تفسير قوله «يا يَحْيى‏ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ» أي بجدّ و اجتهاد و أخذه بالجدّ أن يتجرّد عند قراءته بحذف جميع المشغلات و الهموم عنه، و هذه الوظيفة تحصل ممّا قبلها فإنّ المعظم للكلام الّذي يتلوه يستبشر به و يستأنس إليه و لا يغفل فإنّ في القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي له أهلا، و كيف يطلب الانس بالفكر في غيره و فيه بساتين العارفين، و رياض الأولياء و ميادين اولي الألباب. الرابع التدبير و هو طور وراء حضور القلب فإنّ الإنسان قد لا يتفكّر في غير القرآن، و لكنّه يقتصر على سماع القرآن من نفسه و هو لا يتدبّره، و المقصود من التلاوة التدبّر قال سبحانه «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها»«» «أفلا يتدبّرون القرآن و لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»«» و قال «وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» تمكّن الإنسان من تدبّر الباطن و قال صلى اللّه عليه و آله: لا خير في عبادة لا فقه فيها، و لا في قراءة لا تدبّر فيها، و إذا لم يمكن التدبّر إلّا بالترديد فليردّد قال أبو ذر: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ليلة يردّد قوله تعالى «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»«» الخامس التفهّم و هو أن يستوضح من كلّ آية ما يليق بها إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات اللّه تعالى و أفعاله و أحوال أنبيائه و المكذّبين لهم و أحوال ملائكته و ذكر أوامره و زواجره و ذكر الجنّة و النار و الوعد و الوعيد، فليتأمّل معاني هذه الأسماء و الصفات لتنكشف له أسرارها فتحتها دفائن الأسرار و كنوز الحقائق و إلى ذلك أشار عليّ عليه السلام بقوله ما أسرّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله شيئا كتمه عن الناس إلّا أن يؤتى اللّه عبدا فهما في كتابه فليكن حريصا في طلب ذلك الفهم، و قال ابن مسعود: من أراد علم الأوّلين و الآخرين فعليه بالقرآن، و اعلم أنّ أعظم علوم القرآن تحت أسماء اللّه تعالى و صفاته و لم يدرك الخلق منها إلّا بقدر أفهامهم و إليه الإشارة بقوله «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً»«» فالماء هو العلم أنزله من سماء جوده أودية القلوب كلّ على حسب استعداده و إمكانه و إن كان وراء ما أدركوه أطوار اخرى لم يقفوا عليها، و كنوز لم يعثروا على أغوارها أمّا أفعاله تعالى و ما أشار إليه من خلق السماوات و الأرض و غيرها فالّذي ينبغي أن يفهم التالي منها و هو صفات اللّه و جلاله لاستلزام الفعل الفاعل فيستدلّ بعظمة فعله على عظمته ليلاحظ بالأخرة الفاعل دون الفعل فيقرأ في المقام الأوّل «هذا خلق اللّه فأروني ما ذا خلق الّذين من دونه»«» و يقرأ في المقام الثاني «كلّ شي‏ء هالك إلّا وجهه» فمن عرف الحقّ رآه في كلّ شي‏ء، و من بلغ إلى حدّ العرفان عن درجة الاعتبار لم ير معه غيره فإذا تلا قوله «أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ-  أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ» فلا ينبعي أن يقصّر نظره على النطفة و الماء و النار بل ينظر في المني و هو نطفة، ثمّ في كيفيّة انقسامها إلى اللحم و العظم و العصب و العروق و غيرها، ثمّ في كيفيّة أشكال أعضائها المختلفة من المستدير و الطويل و العريض و المستقيم و المنحني و الرخوة و الصلب و الرقيق و الغليظ، و ما أودع في كلّ من القوّة وهبا له من المنفعة الّتي لو اختلّ شي‏ء منها لاختلّ أمر البدن و مصالح الإنسان، فليتأمّل في هذه العجائب و أمثالها يترقىّ فيها إلى عجيب قدرة اللّه تعالى و المبدأ الّذي صدرت عنه هذه الآثار، فلا يزال مشاهدا لكمال الصانع في كمال صنعه، و أمّا أحوال الأنبياء عليهم السلام فليفهم من سماع كيفيّة تكذيبهم و قتل بعضهم صفة استغناء اللّه تعالى عنهم، و لو هلكوا بأجمعهم لم يتضرّر بذلك و لم يؤثّر في ملكه فإذا سمع نصرتهم فليفهم أنّ ذلك بتأييد إلهيّ كما قال تعالى «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ»«» و أمّا أحوال المكذّبين لهم كعاد و ثمود و كيفيّة إهلاكهم فلينبّه من سماعه لاستشعار الخوف من سطوة اللّه و نقمته و ليكن حظّه منه الاعتبار في نفسه، و أنّه إن غفل و أساء الأدب فربّما أدركته النقمة و نفذت فيه القضيّة حيث لا ينفع مال و لا بنون، و كذلك إذا سمع أحوال الجنّة و النار فليحصل منهما على خوف و رجاء و ليتصوّر أنّه بقدر ما يبعد عن أحدهما يقرب من الآخر، و ليفهم منها و من سائر القرآن أنّ استقصاء ما هناك من الأسرار الإلهيّة غير ممكن لعدم نهايته قال تعالى «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً»«» و قال عليّ عليه السّلام: لو شئت لأوفرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب، فمن لم يتفهمّ معاني القرآن في تلاوته و سماعه و لو في أدنى المراتب دخل في قوله تعالى «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى‏ أَبْصارَهُمْ أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها»«» و تلك الأقفال هي الموانع الّتي سنذكرها.

السادس التخلّي عن موانع الفهم فإنّ أكثر الناس منعوا من فهم القرآن لأسباب و حجب استدّلها الشيطان على قلوبهم فحجبت عن عجائب أسراره قال صلى اللّه عليه و آله: لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لتنظروا إلى الملكوت، و معاني القرآن و أسراره من جملة الملكوت و الحجب المانعة.

أوّلها الاشتغال بتحقيق الحروف و إخراجها و الشدق بها عن ملاحظة المعنى، و قيل: إنّ‏ المتولّى لحفظ ذلك شيطان و كلّ بالقرّاء ليصرف عن معاني كلام اللّه فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف و يحيل إليهم أنّه لم يخرج من مخرجه فيكون تأملّه مقصور على مخارج الحروف: فمتى تنكشف له المعاني، و أعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعا لمثل هذا التلبيس، و ثانيها أن يقلّد مذهبا سمعه و تفسيرا ظاهرا نقل إليه عن ابن عبّاس أو مجاهد أو غيرهما فيحمل على التعصّب له من غير علم فيصير نظره موقوفا على مسموعه حتّى لو لاح له بعض الأسرار حمل عليه شيطان التقليد جهله، و لم يسوّغ له مخالفة آبائه و معلميّه في ترك ما هو عليه من الاعتقاد، و إلى مثل هذا أشارت الصوفيّة بقولهم: العلم حجاب، و عنوا بالعلم العقائد الّتي استمرّ عليها أكثر الناس بالتعليم و التقليد أو بمجرّد كلمات جدليّة حرّرها المتعصبّون للمذاهب و ألقوها إليهم لا العلم الحقيقيّ الّذي هو المشاهدة بأنوار البصيرة، ثمّ ذلك التقليد قد يكون باطلا كمن يحمل الاستواء على العرش على ظاهره فإن خطر له في القدّوس أنّه المقدّس عن كلّ ما يجوز على خلقه لم يمكنه تقليده من استقرار ذلك الخاطر في نفسه حتّى ينساق إلى كشف ثان و ثالث، و لكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره و يجعله وسوسة، و قد يكون حقّا و يكون أيضا مانعا من الفهم لأنّ الحقّ الّذي كلّف الخلق طلبه له مراتب و درجات و ظاهر و باطن فجمود الطبع على ظاهره يمنع من الوصول إلى الباطن، فإن قلت: كيف يجوز أن يتجاوز الإنسان المسموع و قد قال صلى اللّه عليه و آله: من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار، و في النهي عن ذلك آثار كثيرة، قلت: الجواب عنه من وجوه: الأوّل أنّه معارض بقوله صلى اللّه عليه و آله: إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و حدّا و مطلعا، و بقوله عليّ عليه السّلام: إلّا أن يؤتى اللّه عبدا فهما في القرآن، و لو لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما فائدة ذلك الفهم، الثاني أنّه لو لم يكن غير المنقول لاشترط أن يكون مسموعا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و ذلك ممّا لا يصادف إلّا في بعض القرآن، و أمّا ما بقوله ابن عبّاس و ابن مسعود و غيرها من أنفسهم فينبغي أن لا يقبل و يقال هو تفسير بالرأى.

الثالث أنّ الصحابة و المفسّرين اختلفوا في تفسير بعض الآيات فقالوا فيها أقاويل مختلفة لا يمكن الجمع بينها، و سماع ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله محال فكيف يكون الكلّ مسموعا. الرابع أنّه عليه السّلام دعا لابن عبّاس فقال: اللهمّ فقّهه في الدين، و علّمه التأويل فإن كان التأويل‏ مسموعا كالتنزيل و محفوظا مثله فلا معنى لتخصيص ابن عبّاس بذلك. الخامس قوله تعالى «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» فأثبت للعلماء استنباطا، و معلوم أنّه وراء المسموع فإذن الواجب أن يحمل النهى عن التفسير بالرأى على أحد معنيين: أحدهما أن يكون للإنسان في الشي‏ء رأي و له إليه ميل بطبعه فيتأوّل القرآن على وفق رأيه حتّى لو لم يكن له ذلك الميل لما خطر ذلك التأويل له، و سواء كان ذلك الرأى مقصدا صحيحا أو غير صحيح، و ذلك كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيستدّل على تصحيح غرضه من القرآن بقوله تعالى «اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏» و يشير إلى أنّ قلبه هو المراد بفرعون كما يستعمله بعض الوعّاظ تحسينا للكلام و ترغيبا للمستمع و هو ممنوع. الثاني أن يتسرّع إلى تفسير القرآن بظاهر العربيّة من غير استظهار بالسماع و النقل فيما يتعلّق بغرائب القرآن و ما فيها من الألفاظ المبهمة و ما يتعلّق من الاختصار و الحذف و الإضمار و التقديم و التأخير و المجاز فمن لم يحكم ظاهر التفسير و بادر إلى استنباط المعاني بمجرّد فهم العربيّة كثر غلطه و دخل في زمرة من يفسّر بالرأى مثاله قوله تعالى «وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةًً فَظَلَمُوا بِها»«» فالناظر إلى ظاهر العربيّة ربّما يظنّ أنّ المراد أنّ الناقة كانت مبصرة، و لم تكن عمياء و المعنى آية مبصرة، ثمّ لا يدري أنّهم إذا ظلموا غيرهم و من ذلك المنقول المنقلب كقوله تعالى «وَ طُورِ سِينِينَ» و كذلك باقي أجزاء البلاغة فكلّ مكتف في التفسير بظاهر العربيّة من غير استظهار بالنقل فهو مفسّر برأيه، فهذا هو النهي عنه دون التفهم لأسرار المعاني و ظاهر أنّ النقل لا يكفي فيه، و إنّما ينكشف للراسخين في العلم من أسراره بقدر صفاء عقولهم، و شدّة استعدادهم له و للطلب و الفحص و التفهّم و ملاحظة الأسرار و العبر، و يكون لكلّ واحد منهم جدّ في الترقيّ إلى درجة منه بعد الاشتراك في الظاهر و مثاله ما فهم بعض العارفين من قوله صلى اللّه عليه و آله في سجوده: أعوذ برضاك من سخطك، و أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، و أعوذ بك منك لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك إنّه قيل له اسجد و اقترب فوجد القرب في السجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض، فإنّ الرضا و السخط وصفان متضادّان ثمّ زاد قربه فاندرج القرب الأوّل فيه فرقي إلى اللذّات، فقال: أعوذبك منك ثمّ زاد قربه ممّا استحيا به على سائر القرب فالتجأ إلى الثناء، فأثنى بقوله: لا احصى ثناء عليك، ثمّ علم أنّ ذلك قصور، فقال: أنت كما اثنيت على نفسك، فهذه خواطر نسخ للعارفين لا يفهم من تفسير الظاهر و ليس مناقضا له، و إنّما هو استكمال لما تحته من الأسرار. الثالث من الموانع أن يكون مبتلى من الدنيا بهوى متاع فإنّ ذلك سبب لظلمة القلب و كالصداء على المرآة فيمنع جليّة الحقّ يتجلّى فيه و هو أعظم حجاب للقلب و به حجب الأكثرون: و كلّما كانت الشهوات أكثر تراكما على القلب كان البعد عن أسرار اللّه أكثر، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله: الدنيا و الآخرة ضرّتان بقدر ما تقرب من إحداهما تبعد من الاخرى. السابع أن يخصّص نفسه بكلّ خطاب في القرآن من أمر أو نهي أو وعد أو وعيد، و يقدّر أنّه هو المقصود به كذلك إن سمع قصص الأوّلين و الأنبياء عليهم السلام علم أنّ السمر غير مقصود و إنّما المقصود الاعتبار فلا يعتقد أنّ كلّ خطاب خاصّ في القرآن فالمراد به الخصوص فإنّ القرآن و سائر الخطابات الشرعيّة واردة بإيّاك أعني و اسمعي يا جاره، و هي كلّها نور و هدى و رحمة للعالمين، و لذلك أمر الحقّ تعالى الكافّة بشكر نعمة الكتاب فقال «وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ»«» و إذا قدر أنّه المقصود لم يتخذ دراسة القرآن عملا بل قراءة كقرائة العبد كتاب مولاه الّذي كتبه إليه ليتدبّره و يعمل بمقتضاه كما قال حكيم: هذا القرآن وسائل أتتنا من قبل ربّنا بعهوده نتدبّرها في الصلوات، و نقف عليها في الخلوات، و نعدّها في الطاعات بالسنن المتبعات.

الثاني التأثّر و هو أنّ يتأثّر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كلّ فهم حال و وجد يتصّف به عند ما يوجّه نفسه في كلّ حالة إلى الجهة الّتي فهمها من خوف أو حزن أو رجاء أو عبرة فيستعدّ بذلك و ينفعل و يحصل له التأثّر و الخشية، و مهما قويت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه فإنّ التضييق غالب على العارفين فلا يرى ذكر المغفرة و الرحمة إلّا مقرونا بشروط يقصر العارف عن نيلها كقوله تعالى «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى‏»«» فإنّه قرن المغفرة بهذه الشروط الأربعة و كذلك قوله تعالى «وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» السورة ذكرفيها أربعة شروط و حيث أوجزه و اقتصر ذكر شرطا واحدا جامعا للشرائط فقال تعالى «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» إذ كان الإحسان جامعا لكلّ الشرائط، و تأثّر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوّة فعند الوعيد يتضاءل من خشية اللّه و عند الوعد يستبشر فرحا باللّه و عند ذكر صفات اللّه و أسمائه يتطأطأ خضوعا لجلاله و عند ذكر الكفّار في حقّ اللّه ما يمتنع عليه كالصاحبة و الولد يعضّ صورته (صوته) و ينكسر في باطنه من قبح أفعالهم و يكبّر اللّه و يقدّسه عمّا يقول الظالمون، و عند ذكر الجنّة ينبعث بباطنه شوقا إليها، و عند ذكر النار ترعد فرائصه خوفا منها، و لمّا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لابن مسعود: اقرأه علىّ قال: فافتتحت سورة النساء فلمّا بلغت «فكيف إذا جئنا من كلّ امّة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا» رأيت عينيه تذرفان من الدمع، فقال لي: حسبك الآن، و ذلك لاستغراق تلك الحالة بقلبه بالكلّيّة، و بالجملة فالقرآن إنّما يراد بهذه الأحوال و استجلابها إلى القلب و العمل بها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم و لانت عليه جلودكم، فإذا اختلفتم فلستم تقرءونه، و قال تعالى «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً»«» و إلّا فالمئونة في تحريك اللسان خفيفة قال بعضهم قرأت على شيخ لي، ثمّ رجعت أقرء عليه ثانيا فانتهرني و قال: جعلت القرآن عليّ.

عملا اذهب فاقرء على اللّه تعالى، و انظر ما ذا يأمرك، و ما ذا يفهمك، و مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عن عشرين ألفا من الصحابة لم يكن ليحفظ القرآن منهم غير ستّة و اختلف منهم في إثنين و كان أكثرهم يحفظ السورة و السورتين، و كان الّذي يحفظ البقرة و الأنعام من علمائهم كلّ ذلك لاشتغالهم بتفهّم معانى القرآن عن حفظه كلّه، و جاء إليه واحد ليعلّمه القرآن فانتهى إلى قوله تعالى «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»«» فقال: يكفيني هذا و انصرف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله انصرف الرجل و هو فقيه فالعزيز مثل تلك الحالة الّتي يمنّ اللّه تعالى بها على القلب عقيب تفهّم الآية، و امّا التالي باللسان المعرض عن العمل فجدير بأن يكون المراد بقوله تعالى «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ‏ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏» الآية و إنّما حظّ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل و حظّ العقل تفسير المعاني، و حظّ القلب الاتّعاظ و التأثّر بالانزجار و الايتمار. التاسع الترقّي و هو أن يوجّه قلبه و عقله إلى القبلة الحقيقيّة فيسمع الكلام من اللّه تعالى لا من نفسه. و درجات القراءة ثلاث: أدناها أن يقدّر العبد كأنّه يقرأ على اللّه واقفا بين يديه و هو ناظر إليه و مستمع منه فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال و التضرّع و الابتهال. الثانية أن يشهد بقلبه كأنّه سبحانه يخاطبه بألطافه و يناجيه بإنعامه و إحسانه، و هو في مقام الحياء و التعظيم لمنن اللّه و الاصغآء إليه و الفهم عنه. الثالثة أن يرى في الكلام المتكلّم، و في الكلمات الصفات و لا ينظر إلى قلبه و لا إلى قراءته و لا إلى التعلّق بالإنعام من حيث هو منعم عليه بل يقصر الهمّ على المتكلّم و يوقف فكره عليه و يستغرق في مشاهدته. هذه درجة المقرّبين، عنها أخبر الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام فقال: لقد تجلّى اللّه تعالى لخلقه في كلامه و لكنّهم لا يبصرون، و قال أيضا و قد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتّى خرّ مغشيّا عليه، فلمّا أفاق قيل له في ذلك فقل: ما زلت اردّد هذه الآية على قلبي حتّى سمعتها من المتكلّم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته. ففي مثل هذه الدرجة تعظم الحلاوة، و بهذا الترقّي يكون العبد ممتثلا لقوله تعالى «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» و بمشاهدة المتكلّم دون ما عداه يكون ممتثلا لقوله تعالى «وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» فإنّ رؤية غير اللّه معه شرك خفيّ لا مخلص منه إلّا برؤيته وحده. العاشر التبريّ، و المراد به أن يبرء من حوله و قوّته و لا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا و التزكية، فإذا تلا آيات الوعد و مدح الصالحين حذف نفسه عن درجة الاعتبار و شهد فيها الموقنين و الصديقين، و يتشوّق إلى أن يلحقه اللّه تعالى بهم، و إذا تلا آيات المقت و الذّم في المقصّرين شهد نفسه هناك و قدّر أنّه المخاطب خوفا و إشفاقا.

قيل ليوسف بن أستاط إذا قرأت القرآن بماذا تدعو. قال: بما ذا أدعو أستغفر اللّه عن تقصيري سبعين مرّة، و من رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كان ذلك سبب قربه فإنّ من شهد البعد في القرب لطف له بالخوف حتّى يسوقه إلى درجة أعلى في القرب و من شهد القرب في البعد ردّه أمنه إلى درجة أدني في البعد ممّا هو فيه، و مهما شاهد نفسه بعين الرضا صار محجوبا بنفسه فإذا جاوز حدّ الالتفات إلى نفسه و لم يشاهد إلّا اللّه في قراءته انكشف له الملكوت، و المكاشفات تابعة لحال‏ المكاشف، فحيث يتلو آيات الرجاء يغلب عليه استبشار و ينكشف له صورة الجنّة فيشاهدها كأنّه يراها، و إن غلب عليه الخوف كوشف بالنار حتّى يرى أنواع عذابها، و ذلك لأنّ كلام اللّه تعالى وارد باللطف و السهولة و الشدّة و العسف و الرجاء و الخوف و ذلك بحسب أوصافه إذ منها الرحمة و اللطف و الإنعام و البطش، فبحسب مشاهدة الكمالات و الصفات يتقلّب القلب في اختلاف الحالات، و بحسب كلّ حالة منها يستعدّ لنوع من المكاشفة مناسب لتلك الحالة إذ يستحيل أن يكون حال المستمع واحد و المسموع مختلف، إذ فيه كلام رضى و كلام غضب و كلام إنعام و كلام انتقام و كلام جبروت و تكبّر و كلام جنّة و تعطّف، فهذه هي وظائف التلاوة.

و لنرجع إلى المتن فنقول:

قوله و خلّف فيكم ما خلّف الأنبياء في اممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح و لا علم قائم

قوله: و خلّف فيكم ما خلّف الأنبياء في اممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح و لا علم قائم. إشارة إلى وضع ما يجب في الحكمة الإلهيّة على ألسنة الرسل عليهم السلام من العبادات الشرعيّة و القوانين الكلّيّة الّتي بها يبقى ذكر اللّه سبحانه محفوظا، و استعمال لفظ العلم القائم هاهنا استعارة حسنة للآثار الباقية عن الأنبياء الّتي يهتدي بها الأوصياء و الأولياء الّذين يرجع إليهم الخلق.

 

قوله كتاب ربّكم

قوله: كتاب ربّكم. عطف بيان لما في قوله ما خلّفت الأنبياء، و لا ينبغي أن يفهم ممّا شخص الكتاب حتّى يكون ما أتى به محمّد صلى اللّه عليه و آله من الكتاب هو عين ما أتت به الأنبياء السابقون عليهم السّلام و شخصه فإنّ ذلك محال، بل المراد بما نوع ما خلّفت الأنبياء في اممها من الحقّ، و ما جاء به محمّد صلى اللّه عليه و آله شخص من أشخاص ذلك النوع، و بيان ذلك أنّ القوانين الكلّيّة الّتي اشتركت في الإتيان بها جميع الأنبياء عليهم السّلام من التوحيد و التنزيه للّه تعالى و أحوال البعث و القيامة و سائرالقواعد الكليّة الّتي بها يكون النظام الكلّي للعالم كتحريم الكذب و الظلم و القتل و الزنا و غير ذلك ممّا لم يخالف فيه نبيّ نبيّا بمنزلة مهيّة واحدة كلّية وجدت في أشخاص، و كما تعرض لبعض أشخاص المهيّة عوارض لا تكون لشخص الآخر و بها يكون اختلاف بين الأشخاص بحسب الموادّ الّتي نشأت منها الصور الشخصيّة كذلك الكتب المنزلة على ألسنة الأنبياء عليهم السّلام بمنزلة أشخاص اشتملت على مهيّة واحدة تختلف بحسب الزيادات و العوارض على تلك المهيّة بحسب اختلاف الامم‏ و الأوقات المشتملة على المصالح المختلفة باختلافها.

 

قوله: مبيّنا

قوله: مبيّنا. منصوب على الحال و العامل خلّف و ذو الحال الفاعل و هو ضمير النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

 

قوله و حلاله و حرامه و فضائله و فرائضه

قوله و حلاله و حرامه و فضائله و فرائضه إشارة إلى الأحكام الخمسة الشرعيّة الّتي يدور عليها علم الفقه، و هي الوجوب و الندب و الحظر و الكراهة و الإباحة، و عبّر بالحلال عن المباح و المكروه، و بالحرام عن المحظور و بالفضائل عن المندوب، و بالفرائض عن الواجب، و بالنسخ عن رفع الحكم الثابت بالنصّ المتقدّم بحكم آخر مثله، فالناسخ هو الحكم الرافع كقوله «فَإِذَا انْسَلَخَ» و المنسوخ هو الحكم المرفوع كقوله «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» و بالرخص عمّا اذن في فعله مع قيام السبب المحرّم لضرورة أو غيرها كقوله «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ» الآية و بالعزائم عمّا كان من الأحكام الشرعيّة جاريا على وفق سببه الشرعي كقوله «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» و بالعامّ هاهنا عن اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح به بحسب وضع واحد كقوله تعالى «وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ» و كقوله «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» و بالخاصّ عما لم يتناول الجميع بالنسبة إلى ما يتناوله كقوله «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» و الخاصّ المطلق هو ما يمنع تصوّر مفهومه من وقوع الشركة فيه كما عرفته، و العبر جمع عبرة و هي الاعتبار و اشتقاقها من العبور و هو انتقال الجسم من موضع إلى آخر، و لمّا كان الذهن ينتقل من الشي‏ء إلى غيره حسن إطلاق العبرة عليه، و أكثر ما يختصّ إطلاق العبرة بانتقال ذهن الإنسان من المصائب الواقعة بالغير أو الامور المكروهة له إلى نفسه فيقدّرها كأنّها نازلة به فيحصل له بسبب ذلك انزعاج عن الدنيا و انتقال ذهن إلى ما ورائها من أمر المعاد و الرجوع الى بارئه و يسمّى ذلك عبرة، و كذلك من المصائب اللاحقة فى نفسه المذكّرة له بجناب العزّة و الملفتة له بتكرارها عن دار البلوى و المحن، فينتقل ذهنه بسببها إلى أنّ الدنيا دار البوار و أنّ الآخره هي دار القرار، و ذلك كقصّة أصحاب الفيل، و كقوله «فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى‏ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى‏»«» و قوله تعالى «وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ» و إن كان قد تستعمل العبرة في كلّ ما يفيداعتبارا من طرف الإحسان أيضا كقوله تعالى «وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها»«» الآية و كقوله تعالى «قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى‏ كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ»«» فجعل سبحانه نصر المؤمنين على ملّتهم و خذلان المشركين على كثرتهم و مشاهدة المسلمين لكونهم مثليهم محلّا للعبرة إذ يحصل بذلك انتقال الذهن من نعمة إلى أنّه الإله المطلق المستحقّ للعبادة المتفرّد بالقدرة على ما يشاء أهل الرحمة و الجود و إفاضة تمام الوجود، و أمّا الأمثال فظاهرة كقوله تعالى «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ» الآية و كقوله «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» و نحوه، و أراد بالمرسل الألفاظ المطلقة و المهملة و هي الألفاظ الّتي لا تمنع نفس مفهوماتها وقوع الشركة فيها لكنّها لم يبيّن فيها كميّة الحكم و مقداره و لم تقيّد بقيد يفيد العموم و لا الخصوص و هو محتملة لهما كأسماء الجموع في النكرات كقوله تعالى «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ» و كالمفرد المعرّف باللام أو المنكّر كقوله «وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» و كقوله «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ» و قوله «فَكُّ رَقَبَةٍ» فإنّ كلّ هذه الألفاظ يراد بها الطبيعة دون الكلّ أو البعض إلّا بدليل منفصل، و الفرق بينها و بين العامّ أنّ لكلّ شي‏ء مهيّة هو بها ما هو و هي مغايرة لكلّ ما عداها فإنّ مفهوم الإنسان مثلا ليس إلّا أنّه الإنسان و أمّا أنّه واحد أو كثير أو ليس أحدهما فمفهوم آخر مغاير لمهيّته. إذا عرفت ذلك فاللفظ الدالّ على الحقيقة من حيث هي من غير دلالة على شي‏ء آخر معها هو اللفظ المطلق و المهمل، و الدالّ معها على قيد العموم بحيث يفهم منه تعدّد المهيّة و تكثّرها في جميع مواردها فهو اللفظ العامّ، أو في بعض مواردها و هو الخاصّ و إن كان العموم و الخصوص بالذات للمعاني، و أراد بالمحدود المقيّد كقوله تعالى في الكفّارة في موضع آخر «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» و أمّا المحكم و المتشابه و المجمل و المبيّن فقد سبق بيانها في المقدّمة مثال المحكم قوله تعالى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مثال المتشابه قوله «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏» مثال المجمل قوله «إِلَّا ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ» و قوله «وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما» مثال المبيّن قوله بعد ذلك‏ «أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ» الآية، و التفسير هو التبيين و الغوامض دقائق المسائل، و إنّما أضاف هذه المعاني كلّها إلى الكتاب لاشتماله عليها، و كونه مبدءا لها، و لمّا كانت محتاجة إلى البيان كان الرسول صلى اللّه عليه و آله هو المبيّن لها بسنّته الكريمة.

 

و قوله بين مأخوذ ميثاق علمه و موسّع على العباد في جهله إلى آخره

و قوله بين مأخوذ ميثاق علمه و موسّع على العباد في جهله إلى آخره الضمائر تعود إلى الأحكام المذكورة المشتمل عليها الكتاب العزيز و ذكر منها أنواعا: أحدها-  ما يجب تعلّمه و غير موسّع للخلق في جهله كوحدانيّة الصانع و أمر المعاد و العبادات الخمس و شرائطها. و ثانيها-  ما لا يتعيّن على كافّة الخلق العلم به بل يعذر بعضهم في الجهل و يوسّع لهم في تركه كالآيات المتشابهات، و كأوائل السور كقوله تعالى «كهيعص-  و حم عسق» و نحوهما. و ثالثها-  ما هو مثبت في الكتاب فرضه معلوم في السنّة نسخه و ذلك كقوله تعالى «وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما»«» فكانت الثّيّب إذا زنت في بدو الإسلام تمسّك في البيوت إلى الممات، و البكر تؤذي بالكلام و نحوه بمقتضي هاتين الآيتين، ثمّ نسخ ذلك في حقّ الثيّب بالرجم و في حقّ البكر بالجلد و التعذيب بحكم السنّة. و رابعها-  ما هو بعكس ذلك أي مثبت في السنّة أخذه مأذون في الكتاب تركه و ذلك كالتوجّه إلى بيت المقدس في ابتداء الإسلام فإنّه كان ثابتا في السنّة ثمّ نسخ بقوله تعالى «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ»«» و كثبوت صلاة الخوف في القرآن حال القتال الرافع لجواز تأخيرها في السنّة إلى انجلاء القتال. و خامسها-  ما يجب لوقته و يزول في مستقبله كالحجّ الواجب في العمر مرّة و كالنذور المقيّدة بوقت معيّن و أمثالها فإنّ وجوبها تابع لوقتها المعيّن و لا يتكرّر بتكرّر أمثالها.

 

قوله و مباين بين محارمه عطف على المجرورات السابقة و الياء مفتوحة و في معنى الكلام و تقديره لطف فإنّ المحارم لمّا كانت هي محالّ الحكم المسمّى بالحرمة صار المعنى و بين حكم مباين بين محالّه هو الحرمة، و قوله من كبير أو عد عليه نيرانه أو صغير أرصد له غفرانه بيان لتلك المحالّ و أشارة إلى تفاوتها بالشدّة و الضعف في كونها مبّعدة عن رحمة اللّه على سبيل الجملة، فالأوّل كالقتل في قوله تعالى «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ» الآية و كذلك سائر الكبائر من الظلم و الزنا و غيرها، و الثاني قال الفقهاء كالتطفيف بالحبّة و سرقة بافة من بصل و نحو ذلك و إرصاد الغفران بإزاء هذه و أمثالها في الكتاب العزيز كقوله تعالى «وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ» و سائر آيات الوعد بالمغفرة فإنّها إن كانت عامّة في كلّ الذنوب فالصغائر داخله بطريق أولى و إلّا كانت محمولة على الصغائر و سرّ أولويّتها بالغفران أنّها لا تكاد تكسب النفس ملكة الإفراط و الجور إلّا عن بعد بعيد و تكرار طويل بخلاف الكبائر فإنّ الأحوال لا يقع إلّا عن نفس مستعدّة للشرّ بعيدة عن رحمة اللّه، و باللّه العصمة و التوفيق.

 

شرح نهج البلاغه ابن میثم جلد اول

خطبه1 شرح ابن میثم بحرانی قسمت سوم

الفصل الثالث في كيفيّة خلق آدم عليه السلام.

 

ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا-  وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا-  تُرْبَةً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ-  وَ لَاطَهَا بِالْبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ-  فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ-  وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ-  وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَمَدٍ مَعْلُومٍ-  ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ-  فَمَثُلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا-  وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا-  وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ-  وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ-  مَعْجُوناً بِطِينَةِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ-  وَ الْأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَةِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِيَةِ-  وَ الْأَخْلَاطِ الْمُتَبَايِنَةِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ-  وَ الْبَلَّةِ وَ الْجُمُودِ-  وَ اسْتَأْدَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ-  وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي الْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ-  وَ الْخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ-  فَقَالَ سُبْحَانَهُ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ-  اعْتَرَتْهُ الْحَمِيَّةُ-  وَ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ-  وَ تَعَزَّزَ بِخِلْقَةِ النَّارِ وَ اسْتَوْهَنَ خَلْقَ الصَّلْصَالِ-  فَأَعْطَاهُ اللَّهُ النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ-  وَ اسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَةِ-  فَقَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ثُمَّ أَسْكَنَ سُبْحَانَهُ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عَيْشَهُ وَ آمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَ عَدَاوَتَهُ-  فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ-  وَ مُرَافَقَةِ الْأَبْرَارِ-  فَبَاعَ‏ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَ الْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ-  وَ اسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلًا وَ بِالِاغْتِرَارِ نَدَماً-  ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ-  وَ لَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ-  وَ أَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الْبَلِيَّةِ وَ تَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ ب‏ئ

 

قوله ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض إلى قوله و تناسل الذريّة:

قوله منها في خلق آدم عليه السّلام ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض إلى قوله و تناسل الذريّة:

اللغة

أقول: الحزن من الأرض ما غلظ منها و اشتدّ كالجبل، و السهل مالان، و عذبها ما طاب منها و استعدّ للنبات و الزرع، و السبح ما ملح منها، و المسنون الطين الرطب في قول ابن عبّاس، و عن ابن السكّيت عن أبي عمر و أنّه المتغيّر، و قول ابن عبّاس أنسب إلى كلام عليّ عليه السّلام لأنّ قوله: سنّها بالماء حتّى لزبت أي أنّه خلّطها بالماء حتّى صارت طينا رطبا يلتصق، و صلصلت قال بعضهم: الصلصال هو المنتن من قولهم صلّ اللحم و اصلّ إذا أنتن و قيل هو الطين اليابس الّذي يصلصل و هو غير مطبوخ و إذا طبخ فهو فخار، و قيل إذا توهّمت في صوته مدّا فهو صليل و إذا توهّمت فيه ترجيعا فهو صلصلة، و لاطها بالبلّة أي خلّطها بالرطوبة و مزّجها بها، و البلّة بالكسر النداوة، و بالفتح واحدة البلّ، و اللازب اللاصق، و أصل الباء الميم، و جبل أي خلق، و الأحناء جمع حنو و هي الجوانب، و الوصول جمع كثرة للوصل و هي المفاصل و جمع القلّة أوصال، و الأعضاء جمع عضو بالكسر و الضمّ كاليد و الرجل للحيوان، و أصلدها أي جعلها صلدا و هي الصلبة الملساء، و الذهن في اللغة الفطنة و الحفظ، و في الاصطلاح العلميّ عبارة عن القوى المدركة من العقل و الحسّ الباطن، و الفكر جمع فكرة و هى قوّة للنفس بها تحصل الإدراكات العقليّة، و يشبه أن يكون أصل الإنسان انس و هو الأنيس، و الألف و النون في أصل لحوقها له للتثنية، و ذلك لأنّ الانس أمر نسبيّ لا يتحقّق إلّا بين شيئين فصاعدا، و لمّا كان كلّ واحد من الناس يأنس بصاحبه قيل إنسان ثمّ كثر استعماله مثنّى فاجريت على النون وجوه الإعراب، و المساءة الغم، و الجوارح الأعضاء، و الاختدام و الاستخدام بمعنى، و الأدواة جمع أدات، و أصلها الواو و لذلك ردّت في الجمع، و الاستيداء طلب الأداء، و الخنوع الخضوع، و اشتقاق إبليس من الإبلاس و هو اليأس و البعد لبعده من رحمة اللّه، و الحميّة الأنفة، و اعترتهم أي غشيتهم، و الوهن الضعف، و النظرة بفتح النون و كسر الظاء الإمهال و السخط الغضب، و اغترّه أي استغفله و نفست عليه بالأمر نفاسة إذا لم تره مستحقّا له، و العزيمة الاهتمام بالشي‏ء، و الجدل السرور، و الإهباط الإنزال.

إذا عرفت ذلك فنقول:

للناس في هذه القصّة طريقان:

الطريق الأوّل-  أنّ جمهور المسلمين من المفسّرين و المتكلّمين حملوا هذه القصّة على ظاهرها

ثمّ ذكروا فيها أبحاثا.

البحث الأوّل-  أنّ هذه قد كرّرها سبحانه في كتابه الكريم في سبع سور

و هي سورة البقرة، و الأعراف و الحجر، و سورة بني إسرائيل، و الكهف، و طه، و سورة ص، و ذلك لمن يشتمل عليه من تذكير الخلق و تنبيه هم من مراقد الطبيعة الّتي جذبهم إليها إبليس، و التحذير من فتنة و فتنة جنوده و الجذب إلى جناب اللّه و مطالعة أنوار كبريائه كما قال تعالى «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ»«» الآية فقوله عليه السلام و تربة كقوله تعالى «خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» و قوله: سنّها بالماء كقوله تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا» و قوله: لاطها بالبلّه حتى لزبت كقوله تعالى «مِنْ طِينٍ لازِبٍ» و قوله: حتّى صلصلت كقوله تعالى «مِنْ صَلْصالٍ» و قوله: ثمّ نفخ فيه من روحه كقوله «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» و قوله: وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ و قوله: ذا أذهان بجيلها و فتر يتصرّف فيها و جوارح يختدمها كقوله تعالى «وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ» و قوله: و استأدى اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم و عهد وصيّته إليهم كقوله تعالى «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» و قوله: اسْجُدُوا و قوله: إلّا إبليس كقوله تعالى «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ» و قوله اعترته الحميّة إلى قوله و تعزّز بخلقة النار و استهون خلق الصلصال كقوله تعالى حكاية عن إبليس «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» و قوله: لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ و قوله فأعطاه اللّه‏

 

النظرة حذف قبله تقديره فسأل النظرة و ذلك قوله أَنْظِرْنِي فأعطاه اللّه النظر إلى يوم الوقت المعلوم كقوله تعالى‏

 

 «قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» و قوله: ثمّ أسكن سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشه كقوله تعالى «وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما»«» و قوله: و حذّره إبليس و عداوته كقوله «فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى‏» و قوله: فاغترّه إبليس نفاسة عليه بدار المقام و مرافقة الأبرار كقوله «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ» الآية و قوله «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» و قوله فباع اليقين بشكّه و العزيمة بوهنه كقوله تعالى «فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و قوله: و استبدل بالجذل و جلا و بالاغترار ندما كقوله تعالى «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ»«» و قوله: ثمّ بسط اللّه في توبته و لقّاه كلمة رحمته كقوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ» و قوله و وعده المردّة إلى جنّته ذلك الوعد في قوله تعالى «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي… فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏»«» و قوله: فأهبطه إلى دار البليّة كقوله تعالى «اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً».

 

البحث الثاني-  أنّ اللّه تعالى أشار في مواضع من كتابه الكريم إلى خلق آدم من تراب

فقال «إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ»«» و قال في موضع آخر «إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ»«» و قال في موضع آخر «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ»«» قال المتكلّمون: و إنّما خلقه اللّه على هذا الوجه إمّا لمحض المشيئة أو لما فيه من دلالة الملائكة على كمال قدرته و عجيب صنعه لأنّ خلق الإنسان في هذه المراتب أعجب عندهم من خلقه من جنسهم. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ كلامه عليه السّلام هاهنا يجري مجري التفسير لهذه الآيات فإنّه أشار أوّلا إلى كونه من تراب بقوله ثمّ جمع سبحانه من سهل الأرض و حزنها و عذبها و سبخها تربة، و نحو ذلك ما روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال:

إنّ اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمرو الأبيض و الأسود و بين ذلك، و السهل و الحزن و الخبيث و الطيّب، و اعلم أنّ جمهور المفسّرين على أن الإنسان في قوله تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» هو أبونا آدم عليه السّلام و نقل عن محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام أنّه قال: قد انقضى قبل آدم الّذي هو أبونا ألف ألف آدم و أكثر قال بعض العلماء: و هذا لا ينافي حدوث العالم فإنّه كيف كان لا بدّ من الانتهاء إلى إنسان هو أوّل الناس فأمّا أنّ ذلك الإنسان هو أبونا آدم فلا طريق إلى إثباته إلّا من جهة السمع.

 

البحث الثالث أجمع المسلمون على أنّ سجود الملائكة لآدم لم يكن سجوده عبادة

لأنّ العبادة لغير اللّه كفر، ثمّ اختلفوا على ثلاثة أقوال. الأوّل أنّ ذلك السجود كان للّه و كان آدم كالقبلة و كما يحسن أن يقال سجدوا لآدم كذلك يحسن أن يقال سجدوا للقبلة بدليل قول حسّان بن ثابت:

         ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف            عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن‏

         أ ليس أوّل من صلّى لقبلتكم‏            و أعرف الناس بالآيات و السنن‏

 

فقوله صلّى لقبلتكم نصّ على المقصود. الثاني أنّ السجود كان لآدم تعظيما له و تحيّة كالسلام منهم عليه، و قد كان الامم السالفة تفعل ذلك كما يحيّى المسلمون بعضهم بعضا، و عن صهيب أنّ معاذا-  رضى اللّه عنه-  لمّا تقدّم من اليمن سجد للنبيّ صلى اللّه عليه و آله فقال له: يا معاذ ما هذا فقال: رأيت اليهود تسجد لعظمائها و علماءها و رأيت النصارى تسجد لقسّيسها و بطارقتها فقلت ما هذا فقالوا: تحيّة الأنبياء فقال صلى اللّه عليه و آله كذبوا على أنبيائهم. الثالث أنّ السجود في أصل اللغة عبارة عن الانقياد و الخضوع كمال قال الشاعر:

         ترى الاكم فيها سجّدا للحوافر

 

أي أنّ تلك الجبال الصغار كانت مذلّلة لحوافر الخيل، و منه قوله تعالى «وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ» و القول الثاني هو مقتضى كلامه عليه السّلام إذ فسّر السجود به فقال و الخضوع لتكرمته، و باللّه التوفيق.

 

البحث الرابع-  اختلفوا في الملائكة الّذين امروا بالسجود لآدم

فاستعظم بعضهم سجود ملائكة السماء له، و قالوا المأمورون بذلك هم الملائكة الّذين اهبطوا مع إبليس إلى الأرض قالوا و ذلك أنّ اللّه تعالى لمّا خلق السماوات و الأرض و خلق الملائكة اهبط منهم‏  ملاء إلى الأرض يسمّون بالجنّ رأسهم إبليس، و أسكنهم إيّاها و كانوا أخّف الملائكة عبادة فأعجب إبليس بنفسه و تداخله الكبر فأطلع اللّه عزّ و جلّ على ما انطوى عليه فقال له و لجنده «إنّى خالق بشرا من طين فإذا سوّيته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين»«» و قال بعضهم: إنّ المأمورين بالسجود لآدم هم كلّ الملائكة بدليل قوله تعالى «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» فأكّد جمعهم بأكمل وجوه التأكيد.

 

البحث الخامس-  أكثر المتكلّمين لا سيّما المعتزلة على أنّ إبليس لم يكن من الملائكة

و قال جمهور المفسّرين و منهم ابن عبّاس: إنّه كان من ملائكة الأرض الّذين اهبطوا قبل آدم. حجّة الأوّلين قوله تعالى «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ» و الجنّ لم يكونوا من الملائكة بدليل قوله تعالى للملائكة «أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ» و قول الملائكة «سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ»«» و احتجّ من قال إنّه منهم باستثناء إبليس من الملائكة في غير موضع من القرآن الكريم، و الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، و ذلك يدلّ على أنّ إبليس من الملائكة، و أجابوا عن حجّة الأوّلين من وجهين: أحدهما المعارضة بقوله تعالى «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» و ذلك الجعل هو قول قريش: الملائكة بنات اللّه بدليل قوله تعالى «وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» فهذه الآية تدلّ على أنّ الملائكة من الجنّ. الثاني أنّ كون إبليس من الجنّ لا ينافي كونه من الملائكة يصدق عليهم اسم الجنّ لأنّ الجنّ مأخوذ من الاجتنان و هو الاستتار، و منه سمّى الجنين لاستتاره في بطن امّه و منه المجنون لاستتار العقل و الملائكة مستترون عن الأعين فوجب جواز إطلاق لفظ الجنّ عليهم، و اعلم أنّ الخلاف لفظيّ فإنّه إذا ثبت أنّ الملائكة الّذين اهبطوا إلى الأرض قبل آدم هم المسمّون بالجنّ و إبليس من الجنّ ثبت أنّ إبليس من الملائكة و ليس النزاع في أنّه من ملائكة الأرض أو من ملائكة السماء بل في كونه من الملائكة مطلقا فإذن ليس بينهم خلاف المعنى.

 

البحث السادس-  اختلفوا في سبب عداوة إبليس لآدم

فقال بعضهم: إنّه الحسد و ذلك أنّ إبليس لمّا رأى ما أكرم اللّه به آدم من إسجاد الملائكة و تعليمه ما لم يطّلع عليه الملائكة حسده و عاداه، و قال آخرون: إنّ السبب تباين أصليهما و لمنافرة الأصلين أثر قويّ في منافرة الفرعين قالوا و تباين أصليهما هو منشأ القياس الفاسد من إبليس حين امر بالسجود و ذلك قوله «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»«» و كأنّه في خطابه يقول إنّ آدم جسمانيّ كثيف و أنا روحانيّ لطيف، و الجسمانيّ أدون حالا من الروحانيّ و الأدون كيف يليق أن يكون مسجودا للأعلى، و أيضا فإنّ أصل آدم من صلصال من حماء مسنون، و الصلصال في غاية الدناءة و أصلي من أشرف العناصر، و إذا كان أصلي خيرا من أصله وجب أن أكون خيرا منه و أشرف، و الأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدون. قالوا: فكان ذلك قياسا منه، فأوّل من قاس هو إبليس فأجابه اللّه تعالى جوابا على سبيل التنبيه دون التصريح اخرج منها مذؤما مدحورا، قال بعض الفضلاء: و تقريره أنّ الّذي قال تعالى نصّ بحكم الحكمة الإلهيّة و القدرة الربّانيّة، و الّذي قاله إبليس قياس و من عارض النصّ بالقياس كان مرجوما ملعونا.

 

البحث السابع-  احتجّت الأشعريّة على أنّه تعالى قدير أن يلق الكفر في الكافرين من هذه القصّة

بوجهين أحدهما أنّه تعالى أنظر إبليس مع أنّه يعلم أنّه إنّما قصده إغواء بني آدم و لو أهلكه لاستراحوا و عدم الشرّ الحاصل منه و من ذرّيّته، الثاني قال أَغْوَيْتَنِي فنسب الإغواء إلى اللّه تعالى مع أنّه لم ينكر عليه هذا الكلام و هذا صريح في أنّه تعالى يفعل الإغواء أجابت المعتزلة عن الأوّل بأنّ اللّه تعالى خلق آدم و ذرّيته قادرين على رفع إبليس عن أنفسهم فهم الّذين اختاروا الكفر و الفساد. أقصى ما في الباب أن يقال إنّ الاحتراز عن القبيح حال عدم إبليس أسهل منه حال وجوده إلّا أنّ على هذا التقدير تصير وسوسته سببا لزيادة المشقّة في أداء الطاعات فيزداد المكلّف بتكلّفها ثوابا كما قال عليه السّلام: أفضل الأعمال أحمزها أى أشقّها و ذلك لا يمنع الحكيم من فعله كما أنّ إنزال المشاقّ و الآلام و إنزال المتشابهات صار سببا لزيادة الشبهات و مع ذلك لم يمتنع فعلها من اللّه تعالى و هذا الوجه قريب من قوله عليه السّلام استماما للبليّة، و عن الثاني أنّ المراد من قوله فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي بما خيبّتني من رحمتك، و قيل معنى إضافة غوايته إلى اللّه تعالى أنّ اللّه تعالى‏

لما أمره بالسجود لآدم عصى و غوى فكان الباري هو الأصل في حصول الإغواء له فلذلك نسبه إليه، و احتجّ أيضا من جواز الخطاء على الأنبياء عليهم السّلام من هذه القصّة بقوله تعالى «وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏» و أجاب من أوجب عصمتهم من حين الولادة بأنّه لمّا دلّ الدليل على وجوب عصمتهم وجب صرف هذا اللفظ و نحوه على ترك الأولى و هو في حقّهم سيّئة و معصية و إن كان في حقّ غيرهم حسنة كما قال حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين و من أوجب عصمتهم من حين الرسالة فله أن يحمل هذه المعصية على ما قبل الرسالة و المسألة مستقصاة في الكلام.

 

البحث الثامن

–  قال القفّال أصل التلقّى في قوله «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» و قوله عليه السّلام و لقّاه كلمة رحمته هو التعرّض للقادم وضع في موضع الاستقبال للمسي‏ء و الجاني ثمّ وضع موضع القبول و الأخذ قال تعالى «وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» أي تلقّنه و يقال تلقّينا الحاجّ أى استقبلناهم و تلقيّت هذه الكلمة من فلان أى أخذتها منه، و إذا كان هذا أصل الكلمة و كان من تلقّى رجلا فتلاقيا لقى كلّ واحد منهما صاحبه و اضيف بالاجتماع إليهما معا فصلح أن يشتركا في الوصف بذلك فكلّ ما تلقيته فعد تلقاك فجاز أن يقال تلقّى آدم ربّه كلمات أى أخذها و وعاها و استقبلها بالقبول، و لقّاه اللّه إيّاها أي أرسلها إليه و واجهه بها، ثمّ ذكر المفسّرون في ذلك الكلمات أقوالا: الأوّل روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس-  رضى اللّه-  عنه أنّ آدم عليه السّلام قال يا ربّ أ لم تخلقنى بيدك بلا واسطة قال: بلى قال: أ لم تسكنّى جنّتك قال: بلى قال: أ لم تسبق رحمتك غضبك قال: بلى قال: إن تبت و اصلحت أ تردّني إلى الجنّة قال: نعم، و هو قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ»، الثاني قال النخعيّ: أتيت ابن عبّاس فقلت: ما الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه قال: علّم اللّه تعالى آدم و حوّا أمر الحجّ و الكلمات الّتي يقال فيه فحجّا فلمّا أفرغا أوحى اللّه تعالى إليهما إنّي قد قبلت توبتكما، الثالث قال مجاهد و قتادة و في إحدى الروايتين عنهما: هي قوله، «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» الرابع قال سعيد بن جبير: إنّها قوله لا إله إلّا أنت سبحانك و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي فاغفر لي إنّك خير الغافرين لا إله إلّا أنت سبحانك و بحمدك عملت سواء و ظلمت نفسي‏ فارحمنى إنّك أرحم الراحمين لا إله إلّا أنت سبحانك و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي فتب علىّ إنّك أنت التوّاب الرحيم. الخامس قوله عايشة: لمّا أراد اللّه تعالى أن يتوب على آدم طاف بالبيت سبعا و البيت حينئذ ربوة حمراء فلمّا صلّى ركعتين استقبل القبلة (البيت) و قال: اللهمّ إنّك تعلم سرّي و علانيتي فاقبل معذرتي، و تعلم حاجتي فاعطني سؤلي، و تعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي اللهمّ إنّي أسئلك إيمانا تباشر به قلبي، و يقينا صادقا حتّى أعلم أنّه لن يصيبني إلّا ما كتبت لي و رضّني بما قسمت لي، فأوحى اللّه تعالى إليه يا آدم قد غفرت لك ذنبك و لن يأتيني أحد من ذرّيتك فيدعوني بمثل ما دعوتني به إلّا قد غفرت ذنوبه و كشفت همومه و نزعت الفقر من بين عينيه و جاءته الدنيا و هو لا يريدها.

 

البحث التاسع-  في حقيقة التوبة

قال الإمام الغزّالي: التوبة عبارة عن معنى مركّب من ثلاثة امور مترتّبة علم ثمّ حال ثمّ ترك، أمّا العلم فأن يعلم العبد ضرر الذنوب و كونه حجابا بينه و بين اللّه تعالى و قيدا يمنعه من دخول الجنّة فإذا علم ذلك بيقين غالب على قلبه فإنّ ذلك يوجب له تألّما نفسانيّا بسبب فوات الخير العظيم المطلوب لكلّ عاقل فيسمّى تأمّله بسبب فعله المفوّت لمحبوبه و مطلوبه ندما فإذا غلب هذا الألم على القلب أوجب له القصد إلى أمرين: أحدهما ترك الذنوب الّتي كان ملابسا لها أوّلا، و الثاني العزم على ترك الذنب المفوّت لمطلوبه في المستقبل إلى آخر العمر فهذه حقيقتها، و ينشأ من ذلك تلافي ما فات بالجبر و القضاء و إن كان قابلا للجبر، و العلم هو الأصل في إظهار هذه الخيرات فإنّ القلب إذا أيقن بأنّ الذنوب كالسموم المهلكة و الحجب الحائلة بينه و بين محبوبه فلا بدّ أن يتمّ نور ذلك اليقين فتشتعل فيه نيران الندم فيتألّم به القلب و حينئذ ينبعث من تلك النار طلب الانتهاض للتدارك فالعلم و الندم و القصد المتعلّق بالترك في الحال و الاستقبال و التلافي للماضي ثلاثة معان مترتّبة يطلق اسم التوبة على مجموعها، و ربّما اطلق اسم التوبة على الندم وحده و جعل العلم كالباعث و الترك كالثمرة المتأخّرة، و لهذا الاعتبار قال صلى اللّه عليه و آله: الندم توبة إذ الندم مستلزم لعلم أوجبه و لعزم يتبعه، و  أمّا وجوبها فمن وجهين:

أحدهما أنّ التوبة مرضاة للرحمن مسخطة للشيطان مفتّحة لأبواب الجنان معدّة لإشراق شموس المعارف الإلهيّة على ألواح النفوس مستلزمة للمواهب الربانيّة من‏ الملك القدّوس.

 الثاني الأوامر الواردة بها في القرآن الكريم «يا أيّها الّذين آمنوا توبوا إلى اللّه توبة نصوحا» و الوعد الصادق على فعلها «عسى ربّكم أن يكفّر عنكم سيّئاتكم و يدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار» و الوعيد الحتم على تركها «و من لم يتب فأولئك هم الظالمون» و نحوه ممّا يدلّ على وجوبها فأمّا قبولها فمن وجهين: أحدهما قوله تعالى «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» و قوله تعالى «غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ» الثاني قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: أفرح بتوبة من العبد المذنب، و الفرح وراء القبول فهو دليل على القبول، و قال صلى اللّه عليه و آله: لو علّتم الخطايا إلى السماء ثمّ ندمتم عليها لتاب اللّه عليكم.

 

البحث العاشر-  فيما عساه يبقى من المقاصد المشكلة في هذه القصّة.

الأوّل الوديعة و الوصيّة الّتي استأداها اللّه سبحانه من الملائكة في قوله عليه السّلام و استأدى اللّه سبحانه من الملائكة وديعته لديهم إشارة إلى قوله «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» فكان تعالى قد عهد إليهم بهذا القول و أوصاهم بمقتضاه ثمّ استأداه منهم بما ذكره عليه السّلام في قوله تعالى «اسْجُدُوا لِآدَمَ» الثاني قوله فاغتره إبليس فالاغترار طلب العزّة من آدم و التماسها منه بالوسوسة الّتي ألقاها إليه كما سنبّين معنى الوسوسة إنشاء اللّه. الثالث قوله دار المقام هي جنّة الخلد، و مرافقة الأبرار إشارة إلى مصاحبة الملائكة في مقعد صدق عند مليك مقتدر. الرابع قوله فباع اليقين بشكّه للشارحين فيه أقوال: أحدها أنّ معيشة آدم كانت في الجنّة على حال يعلمها يقينا ما كان يعلم كيف معاشه في الدنيا إذا انتقل إليها و لاحاله بعد مفارقة الجنّة ثمّ إنّ ابليس شكّكه في صدق مقاله إنّي لكما لمن الناصحين فنسى ما كان عنده يقينا مما هو فيه من الخير الدائم و شكّ في نصح إبليس فكأنّه باع اليقين بالشكّ بمتابعته، و هي استعارة حسنة على سبيل الكناية عن استبعاض آدم الشكّ عن اليقين. الثاني قالوا: لمّا أخبره اللّه تعالى عن عداوة إبليس تيقّن ذلك فلمّا وسوس له إبليس شكّ في نصحه فكأنّه باع يقين عداوته بالشكّ في ذلك. الثالث قول من نزّه آدم عليه السّلام: إنّ ذلك مثل قديم للعرب لمن عمل عملا لا يفيده و ترك ما ينبغي له أن يفعله تمثّل به أمير المؤمنين عليه السّلام هاهنا و لم يرد أنّ آدم عليه السّلام شكّ في أمر اللّه تعالى. الرابع قوله و العزيمة بوهنه‏                        

قال ابن عبّاس في قوله تعالى «وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً»: أي لم نجده حفظا لما أمر اللّه به، و قال قتادة صبرا، و قال الضحاك ضريمة أمر، و حاصل هذه الأقوال يعود إلى أنّه لم يكن له قوّة على حفظ ما أمر اللّه فكأنّه باع العزم الّذي كان ينبغي له و القوّة الّتي كان ينبغي أن يتحفّظ بها عن متابعة إبليس بالضعف و الوهن عن تحمّل ما أمر اللّه به، الخامس قوله دار البليّة هي دار الدنيا إذ كانت دار المحنة و الابتلاء بمقاساة إبليس و مجاهدته، و سجن الصالحين كما قال عليه السّلام: الدنيا سجن المؤمن و جنّة الكافر، و اعلم أنّ في ذكر هذه القصّة تحذيرا عظيما عن المعاصي و ذلك من وجوه، أحدها أنّ من تصوّر ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلّة كان على و جل شديد من المعاصي قال الشاعر

         يا ناظرا نورا بعيني راغد            و مشاهدا للأمر غير مشاهد

         تصل الذنوب إلى الذنوب و ترتجى‏

            درك الجنان و نيل نور العابد

         أنسيت أنّ اللّه أخرج آدما            منها إلى الدنيا بذنب واحد

 

و عن فتح الموصلي أنّه قال: كنّا قوما من أهل الجنّة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلّا الهمّ و الحزن حتّى نردّ إلى الدار الّتي أخرجنا منها، و ثانيها التحذير عن الاستكبار و الحسد و الحرص عن قتادة في قوله تعالى «أَبى‏ وَ اسْتَكْبَرَ» قال: حسد عدوّ اللّه إبليس آدم على ما أعطاه اللّه تعالى من الكرامة فقال أنا ناريّ و هذا طينيّ ثمّ ألقى الحرص و الحسد في قلب ابن آدم حتى حمله على ارتكاب المنهي عنه، و ثالثها أنّه تعالى بيّن العداوة الشديدة بين ذريّة آدم و إبليس هذا تنبيه عظيم على وجوب الحذر و باللّه التوفيق،

 

الطريق الثاني و اعلم أنّ من الناس من سلّط التأويل على هذه القصّةو قبل بيان تأويلها ذكروا مقدّمات،

 

المقدّمة الاولى في الإشارة إلى أجزاء التركيب الخارجيّ للإنسان و كيفيّة تركيبها

قالوا: إنّ العناصر الأربعة أجسام بسيطة و هي أجزاء أوّليّة لبدن الإنسان فمنها إثنان خفيفان، و هما النار و الهواء و إثنان ثقيلان و هما الأرض و الماء قالوا: و الموضع الطبيعيّ للأرض هو وسط الكلّ و هي باردة يابسة في طبعها و وجودها في الكائنات مفيد للاستمساك و الثبات و حفظ الشكل و الهيئة و الموضع الطبيعيّ للماء هو أن يكون شاملا للأرض و ثقله إضافيّ و طبعه بارد رطب و وجوده في الكائنات لتسهّل الهيئات الّتي يراد تكوينها من التشكيل و التخطيط و التعديل فإنّ الرطب كما

أنّه سهل الترك للهيئات الشكليّة فإنّه سهل القبول لها كما أنّ اليابس عسر القبول للهيئات الشكليّة عسر الترك لها، و مهما تخمّر اليابس بالرطب استفاد اليابس منه قبول التمديد و التشكيل بسهولة و استفاد الرطب من اليابس حفظا لما حدث فيه من التعديل بقوّة فاجتمع اليابس بالرطب عن تشتّته، و استمسك الرطب باليابس عن سيلانه و الموضع الطبيعيّ للهواء فوق الماء و تحت النار و خفّته إضافيّة و طبعه حارّ رطب و وجوده في الكائنات ليتخلخل و يلطف و يسفل، و الموضع الطبيعيّ للنار فوق الأجرام العنصريّة كلّها، و مكانها الطبيعيّ هو مقعّر فلك القمر و خفّتها مطلقة و طبعها حارّ يابس، و وجودها في الكائنات ليصلح المركّبات و يجري فيها الجوهر الحيواني، و لتكسر من يرد العنصرين الثقيلين بردّهما عن العنصريّة إلى المزاجيّة، و الثقيلان أنفع في تكون الأعضاء و في سكونها، و الخفيفان أنفع في كون الأرواح و تحريكها و تحريك الأعضاء ثمّ قالوا: و المزاج كيفيّة تحدث من تفاعل الكيفيّات المتضادّة في هذه العناصر إذا تفاعلت بقواها بعضها في بعض فانكسر صورة كلّ واحد منها بالآخر حدثت عنها كيفيّة متشابهة في جميعها هي المزاج و القوى الأوليّة في تلك الأركان أربع الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة، و هي الّتي يكون عنها المزاجات في الأجسام الكائنة الفاسدة ثمّ إنّ واهب الوجود أعطى كلّ حيوان و كلّ عضو من المزاج ما هو أليق و أصلح لأفعاله بحسب احتمال الإمكان له، و أعطى الإنسان أعدل الأمزجة الممكنة في هذا العالم مع مناسبة لقواه الّتي بها يفعل و ينفعل و أعطى كلّ عضو ما يليق به من أفعاله فجعل بعض الأعضاء أحرّ و بعضها أبرد و بعضها أرطب و بعضها أيبس و أمدّها بالأخلاط و هي أجسام رطبة سيّالة يستحيل إليها الغذاء أوّلا، و هي منحصرة في أربعة أجناس: أحدها الدم و هو أفضلها، و الثاني البلغم و الثالث الصفراء، و الرابع السوداء، ثمّ قسّم الأعضاء إلى عظام و غضاريف و أعصاب و أوتار و جعل أوّل الأعضاء المتشابهة الأجزاء العظم و خلق صلبا لأنّه أساس البدن و دعامة الحركات ثمّ الغضروف و هو ألين من العظم و فائدته أن يحسن به اتّصال العظام بالأعضاء الليّنة فلا يتأذّى الليّن بالصلب عند الضعظة و الضربة بل متوسّط بينهما ما يناسب كلّا منهما و ليحسن به تجاوز المفاصل المحاكّة فلا تتراض لصلابتها، ثمّ العصب و هي أجسام تنبت من الدماغ و النخاع بيض لدنة في الانعطاف صلبة في الانفصال، و فائدتها أن تتمّ به الأعضاء  للإحساس و الحركة، ثمّ الأوتار و هي أجسام تنبت من أطراف العضل شبيهة بالعصب تلاقي الأعضاء المتحرّكة فتجذبها تارة و تبسطها اخرى بحسب انبساط العضلة و انقباضها ثمّ الرباطات و هي أيضا أجسام شبيهة بالعصب و الحكمة فيها ظاهرة، و هي ارتباط بعض الأعضاء إلى بعض و استمساكها و ليس لشي‏ء منها حسّ لئلّا يتأذّي بكثرة ما يلزمه من الحركة و الحكّ، ثمّ الشريانات و هي أجسام نابتة من القلب ممتدّة مجوّفة طولا عصبانية رباطيّة الجوهر لها حركات منبسطة و منقبضة خلقت لترويح القلب و نقض البخار الدخانيّ عنه، و لتوزيع الروح إلى أعضاء البدن، ثمّ الأورده و هي تشبه الشريانات و نباتها من الكبد، و فائدتها توزيع الدم على أعضاء البدن، ثمّ الأغشية و هي أجسام منتسجة من ليف عصباني غير محسوس رقيقة مستعرضة تغشى سطوح أجسام اخرى، و لها فوائد: منها أن يحفظ جملتها على شكلها و هيئتها، و منها أن تعلّقها على أعضاء اخرى و تربطها بواسطة العصب، و منها أن يكون للأعضاء العديمة الحسّ في جواهرها سطح حساس بالذات لما تلافيه و بالعرض لما يحدث في الجسم الملفوف فيه كالرية و الطحال و الكبد و الكليتين، فإنّها لا تحسّ بجواهرها و إنّما يحسّ بالامور المصادمة لها الأغشية الّتي عليها بالذات و يحسّ أيضا بالعرض ما يحدث فيها مثلا الريح للتمدّد الّذي يحدث فيها، ثمّ اللحم و هو حشو خلل وضع الأعضاء في البدن فصار البدن مشتملا على ثلاثة ضروب من الأعضاء، أحدها آلات الغذاء و هي المعدة و الكبد و جداولها كالعروق و الطرق إليها كالفم و المري و عنها كالأمعاء، و الثاني آلات الحرارة الغريزيّة و حفظتها، و هي القلب و الرأس و الرية و الصدر و سائر آلات النفس، و الثالث آلات الحسّ و الحركة و الأفعال العقليّة و هي الدماغ و النخاع و العصب و العضل و الأوتار و نحوها ممّا يحتاج إليه في المعونة على تمام فعل العقل، ثمّ لمّا كان من ضرورة البدن أن يقع فيه أفعال مختلفة وجب في الحكمة أن يكون هناك استعداد لقوى متعدّدة هي مبادئ تلك الأفعال أحدها النفس الطبيعيّة و تخصّها قوى منها مخدومة و منها خادمة، أمّا المخدومة فجنسان.

 

أحدهما يتصرّف في الغذا و تحته نوعان: أحدهما القوّة المسمّاة بالغاذية، و غايتها أن تغذو الشخص مدّة بقائه بإحالة الغذاء إلى مشابهة المتغذي ليخلف بدل ما يتحلّل، و الثاني القوّة المسمّاة بالنامية، و غايتها أن تزيد في أقطار البدن‏ على التناسب الطبيعيّ إلى تمام نشوه، و الجنس الثاني يتصرّف في الغذاء لبقاء النوع و تحته نوعان أحدهما القوّة المسمّاة بالمولّدة و هي المتصرّفة في أمر التناسل ليفصل من أمشاج البدن جوهر المني، و الثاني القوّة المسمّاة بالمصوّرة و هي الّتي تفيد المني بعد استحالته في الرحم الصور و القوى و الأعراض الحاصلة للنوع الّذي انفصل عنه المني، و أمّا الخادمة الصرفة في القوى الطبيعيّة فهي خوادم القوّة الغاذية و هي أربع، أحدها الجاذبة و هي خلقت لتجذّب النافع إلى محلّها و هي موجودة في المعدة و المري و الكبد و الرحم و سائر الأعضاء، و الثاني الماسكه و هي خلقت لتمسّك المنافع رثيما يتصرّف فيه القوى المغيّرة و المحيّلة، و الثالث الهاضمة و هي الّتي تخيّل ما امسكته الماسكة إلى قوام مهيّى‏ء لفعل القوّة المغيّرة فيه، و إلى مزاج صالح للاستحالة إلى الغذائيّة بالفعل، الرابع الدافعة و هي الّتي تدفع الفاضل من الغذاء الّذي لا يصلح للاغتذاء أو يفضل على الكافي أو يستغني عنه بعد الفراغ من استعماله كالبول، و لهذه الأربع أيضا خوادم أربع أعنى الكيفيّات الأربع، و هي الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة على تفصيل يعلم في مظانّه، الثاني النفس الحيوانيّه و تختص بها قوّتان محرّكة و مدركة، و المحرّكة إمّا باعثة أو فاعلة، و الباعثة هي القوّة النزوعية المذعنة للمدركات كالوهم و الخيال أو النفس فيحمل الإدراك لها على البعث إلى طلب أو هرب بحسب السوانح و لها شعبتان شهوانيّة و هي الباعثة على التحريك إلى جانب أشياء ضروريّة أو نافعة نفعا ما طلبا للّذّة و غضبيّة و هي الحاملة على دفع و هرب عما لا يلائم طلبا للغلبة، و تخدمها القوّة المسمّاة بالقدرة و هي قوّة تنبعث في الأعصاب و العضل من شأنها أن تشنّج الفضلات بجذب الأوتار و الرباطات و أرخائهما، و القوى المدركة قسمان ظاهرة و باطنة أمّا الظاهرة فالحواسّ الخمس، أحدها اللمس و هو قوّة منبثّة في جلد البدن كلّه تدرك ما تماسّه، و تؤثر فيه بالمضادّة كالكيفيّات الأربع و غيرها، و ثانيها الذوق و هو قوّة مرتّبة في العصب المفروش على سطح اللسان بها تدرك الطعوم من الأجرام المماسّة المخالطة للرطوبة العذبة الّتي في الفم، و ثالثها الشمّ و هي قوّة مرتّبة في زائدتي مقدّم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي بها تدرك الروائح بتوسّط الهواء المنفصل عن ذي الرائحة، و رابعها السمع و هي قوّة في العصب المفروش في باطن الصماخ و هو تدرك الأصوات و الحروف بواسطة الهواء، و خامسها البصر و هي قوّة مرتّبة في العصبتين المجوّفتين تدرك ما يتطبّع في الرطوبة الجليديّة من الصور بتوسّط جرم شفاف، و أمّا الباطنة من القوى فهي أيضا خمس، و هي إمّا مدركة فقط إمّا للصور الجزئيّة و هو القوّة المسمّاة حسّا مشتركا المرتّبة في التجويف الأوّل من الدماغ عندها تجتمع صور المحسوسات، ثمّ القوّة الموسومة خيالا، و هي خزانة الحسّ المشترك مودعة في آخر التجويف المقدّم من الدماغ تجتمع فيها مثل المحسوسات و تبقى فيها بعد الغيبة عن الحواسّ، و إمّا مدركة للمعاني الجزئيّة، و هي إمّا الوهم و هي قوّة مرتّبة في التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعاني‏ الجزئية الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات كإدراك الشاة معنى في الذئب يوجب لها الهرب، و إمّا الحافظة و هي قوّة مرتّبة في التجويف الأخير من الدماغ تحفظ الأحكام الجزئيّة المدركة للوهم و هي خزانة له، و إمّا مدركة و متصرّفة و هي القوّة المسمّاة متخيّلة باعتبار استعمال الوهم لها، و مفكّرة باعتبار استعمال العقل لها و محلّها مقدم البطن الأوسط من الدماغ من شأنها التركيب و التفصيل لبعض الصور ببعض و عن بعض و كذا المعاني و المعاني بالصورة و هي الحاكية للمدركات و الهيئات المزاجيّة و الحكمة الإلهيّة اقتضّت أن تكون متوسّطة بين مقتضى الصور الجرمانيّة و المعاني الروحانيّة متصرّفة في خزائنهما بالحكم و الاسترجاع للأمثال المنمحيّة من الجانبين، ثمّ إنّ لكلّ واحد من هذه الآلات روح يختصّ به و هو جرم حارّ لطيف متكوّن عن لطافة الأخلاط على نسبة محدودة و هو حامل للقوي المدركة و غيرها، الثالث النفس الناطقة و نسبتها إلى هذا البدن نسبة الملك إلى المدينة و البدن و جميع أجزائه و قواه المذكورة آلات لها، و رسمها أنّها جوهر مجرّد يتعلّق بالأبدان تعلّق التدبير و هي المشار إليها بقوله تعالى «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»«» و بقوله عليه السّلام: الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها ائتلف و ما تناكر فيها اختلف فيها، و لهذا الجوهر قوّتان يختصّ بهما نظريّة و عمليّة و قد سبقت الإشارة إليهما في مقدّمة الكتاب و تحقيق الكلام في هذا الجوهر و البرهان على وجوده و تجرّده و كمالاته من العلوم و الأخلاق مستقصى في مظانّه و باللّه التوفيق.

 

المقدّمة الثانية قد علمت أنّ الملك عندهم اسم مشترك يقع على حقائق مختلفة

فأمّا لفظ الجنّ فهو و إن صدق في أصل اللغة على كلّ الملائكة لكونه مأخوذا من الاجتنان و هو الاستتار، و كون الملائكة مستترين على الأعين فإنّهم يخصّون في عرفهم هذا اللفظ بالأرواح الّتي تخصّ عالم العناصر فتارة يطلقون عليها أنّها ملائكة باعتبار كونهم مرسلين من عند اللّه فاعلين لما أمر اللّه جارين على نظام العقل، و تارة يطلقون عليها أنّها جنّ باعتبار الاجتنان، و هم جنّ مسلمون باعتبار موافقة العقل و التصرّف على وفق مصلحة العالم و نظامه، و كفّار و شياطين باعتبار مخالفتها لذلك، فأمّا صدق اسم الجنّ على النفوس الناطقة الإنسانيّة فقد تعتبر من جهة اخرى، و هي كونها عالمة ترى بنور العلم من حيث لا ترى فهي مجتنّة محجوبة عن أبصار الجاهلين ثمّ هي إمّا أن تكون عالمة أو جاهلة و على التقديرين فإمّا أن يكون موافقة لظواهر الشريعة منقادة لها متمسّكة بها أو ليس كذلك فهذه أقسام أربعة، أوّلها النفوس العالمة العاملة بمقتضى الشريعة و هذه الطائفة هم الجنّ المسلمون و المؤمنون قالوا: و هم الّذين أمر اللّه تعالى نبيّه بالإخبار عنهم في قوله تعالى «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ»«» إلى آخر الآيات قالوا: و ممّا يبيّن ذلك أنّ السماء الّتي أخبر الجنّ عنها أنّهم لمسوها هي سماء الحكمة و هي الشريعة الّتي استترت فيها قالوا: و لمسهم لها عبارة عن اعتبارهم أمر الشريعة في مبدء ظهورها هل يصحّ لهم معها إظهار الحكمة و يمكنهم أخذها و إعطاؤها بالتعلّم و التعليم كما كان يفعل قبل ذلك أم لا، و قولهم «فوجدناها ملئت حرسا شديدا و شهبا»«» إشارة إلى حفظة الشريعة و هم علماء الشريعة و الملوك الصالحون اللازمون لناموس الشريعة و قوانينها، و قولهم «و إنّا كنّا نقعد منها مقاعد للسمع»«» إشارة إلى أنّهم كانوا قبل ظهور الشرائع يتدارسون الحكمة و يتعلّمونها و لم يكن عليهم إنكار، و قولهم «فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا»«» إشارة إلى أنّ المظهر للحكمة بعد وجود الشريعة                       

التارك لظواهر ما جاءت به الأنبياء يجد من حرسة الدين و حفظته شهابا يحرقه و يؤدّيه، و ثانيها النفوس العالمة المخالفة للشريعة و النواميس الإلهيّة التابعة لقواها في مقتضى طباعها و هؤلائهم من شياطين الجنّ و مردتها، و ثالثها النفوس الجاهلة إلّا أنّها متمسّكة بظواهر الشريعة منقادة لها، و هؤلائهم المسلمون من الإنس، و رابعها النفوس الجاهلة التاركة للشريعة و العمل بها التابعة لمقتضى الطبيعة، و هؤلائهم شياطين الإنس قالوا: و بهذا البيان لا يبقي بين قول اللّه سبحانه «إلّا إبليس كان من الجنّ» و بين استثنائه من الملائكة المقتضي لدخوله فيهم و كونه منهم فرق بل هو من الملائكة باعتبار من الجنّ باعتبار و من الشياطين باعتبار، و الشيطان قد يكون ملكا في أصله ثمّ ينتقل إلى الشيطانيّة باعتبار فسوقه عن أمر ربّه و كذلك الجنّي و اللّه أعلم.

 

المقدّمة الثالثة-  قالوا: كلّ ما يتوالد فلا يستحيل في أصله أن يكون متولّدا

ثمّ ضربوا لذلك أمثلة فقالوا: إنّ العقرب تتولّد من البادروج و لباب الخبز، و النحل من العجل المحرق المكيس عظامه، و الفار من المدر و الطين و نحو ذلك ثمّ يتوالد عن هذا المتولّد أشخاص اخرى و يبقى نوعه متولدا فلا مانع إذن أن يكون الإنسان في أوّل خلقه كذلك فيحدث شخص من نوعه و يتكوّن من التراب ثمّ يحصل ما بعده من نوعه عنه بالتوالد إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ لفظ آدم إذا اطلق في عباراتهم فتارة يراد به أمر جزئيّ و تارة يراد به أمر كلّي أمّا الجزئيّ فيراد به أوّل شخص تكوّن من هذا النوع، و على ذلك يحملون قوله تعالى «إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ»«» و يحملون قوله تعالى «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ» و ما في معناه على ما توالد منه، و قد يراد منه أوّل شخص استخلف في الأرض و أمر بنشر الحكمة و ناموس الشريعة، و أمّا الكلّي فتارة يراد بآدم مطلق نوع الإنسان، و على ذلك كلّه قوله تعالى «وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ»«» و قد يراد به صنف الأنبياء و الدعاة إلى اللّه كما نقل عن سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله كلّ نبيّ فهو آدم وقته و قوله صلى اللّه عليه و آله: أنا و أنت يا عليّ أبوا هذه الامّة، و يمكن أن يكون‏


قول الباقر محمّد بن عليّ عليهما السّلام: قد انقضى قبل آدم الّذي هو أبونا ألف ألف آدم و أكثر على هذا المعنى إذا ثبت هذا فنقول: إنّ لكلّ آدم بالمعاني المذكورة ملائكة تخصّه و هي مأمورة بالسجود له، و إبليس في مقابلته و معارضته أمّا آدم بالمعني الأوّل و الثاني فملائكته المأمورون بالسجود له هي قواه البدنيّة و نفوس أهل زمانه المأمورين باتّباعه المستمعين لقوله و سائر القوى في أقطار هذا العالم فإنّها بأسرها ملائكة مأمورة بالخضوع له و السعي في مهمّاته و حوائجه بين يديه و المعونة على مراده، و أمّا إبليس المعارض له القوّة الوهميّة منها المعارضة لمقتضى عقله العمليّ الساعية في الأرض فسادا و النفوس المتمرّدة عن قبول الحقّ و الاستماع لقوله الخارجة عن طاعته و هم شياطين الإنس و الجنّ الّذي يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا و كذلك ملائكة آدم و إبليس آدم الّذي هو صنف الأنبياء و الدعاة إلى اللّه تعالى بالحكمة و الموعظة الحسنة، و أمّا آدم الّذي هو نوع الإنسان فكلّ الملائكة الّذين ذكرناهم في هذا العالم هم المأمورون بالسجود له و إبليس كلّ شخص من هذا النوع هو و همه المعارض لعقله و جنوده ما تحته من القوى الشهويّة و الغضبيّة و غيرها

إذا عرفت هذه المقدّمات فليرجع إلى المتن فنقول: الأولى أن يحمل آدم فيما ذكره عليه السّلام هاهنا من هذه القصّة على مطلق النوع الإنسانيّ.

 

فقوله ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها تربة سنّها بالماء حتّى خلصت و لاطها بالبلّة حتّى لزبت

إشارة إلى أصل امتزاج العناصر، و إنّما خصّ هذين العنصرين و هما الأرض و الماء دون الباقيين لأنّهما الأصل في تكوّن الأعضاء، المشاهدة الّتي تدور عليها صورة الإنسان المحسوسة، و قوله حتّى خلصت و حتّى لزبت إشارة إلى بلوغها في الاستعداد الغاية الّتي معها تفاض صورة ما يتكوّن منها،

و قوله فجبل منها صورة ذات أحناء و وصول و أعضاء و فصول إشارة إلى خلق الصورة الإنسانيّة و إفاضتها بكمال أعضائها و مفاصلها و ما تقوم به صورة، و قوله منها الضمير راجع إلى التربة و يفهم من ظاهر اللفظ أنّ الصورة الإنسانيّة هي المفاضة على كمال استعداد التربة من غير واسطة انتقالات اخر في أطوار الخلقة، و إنّما يتمّ ذلك إذا حملنا آدم على أوّل شخص يكون من هذا النوع فأمّا إذا حملنا على مطلق النوع كان المراد أنّه جبل منها الصورة الإنسانيّة بوسائط من صور ترددت في أطوار الخلقة كما قال تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ»«» فالصورة الإنسانيّة جبلت من النطفة المتولّدة من فضل الهضم الرابع المتولّد من الأغذية، و هي إمّا حيوانيّة أو نباتيّة و الحيوانيّة تنتهي إلى النباتيّة و النباتيّة إنّما تتولّد من صفو الأرض و الماء و هي التربة المستعدّة للإنبات و ليس في ذلك مخالفة الظاهر فإنّ تلك التربة بعد أن تواردت عليها أطوار الخلقة و أدوار الفطرة صارت منيّا فصدق عليها أنّ الصورة الإنسانيّة جبلت منها،

و قوله أجمدها حتّى استمسكت و أصلدها حتّى صلصلت الضمير في الجملتين راجع إلى الصورة و ما يتعلّق بها من الأعضاء فالإجماد لغاية الاستمساك راجع إلى بعضها كاللحم و الأعصاب و العروق و أشباهها، و الأصلاد لغايته راجع إلى بعض آخر كالعظام و الأسنان و إسناد ذلك إلى المدبّر الحكيم سبحانه لأنّه العلّة الاولى و إن كان هناك لهذه الآثار أسباب قريبة طبيعيّة كالحارّ الغريزي فإنّه المستعدّ لتحريك الموادّ و يتبعه البرد ليسكنه عند الكمالات من الخلق، و كالرطوبة فإنّها هي الّتي تتخلق و تتشكّل و يتبعها اليبوسة لحفظ الأشكال و إفادة التماسك،

و قوله لوقت معدود و أجل معلوم يحتمل أن يراد به أنّ لكلّ مرتبة من مراتب تركيب بدن الإنسان، و انتقاله في أدوار الخلقة وقتا معدودا يقع فيه و أجلا معلوما يتمّ به، و يحتمل أن يراد بالوقت المعدود و الأجل المعلوم الوقت الّذي يعلم اللّه سبحانه انحلال هذا التركيب فيه كما قال تعالى «وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ»

قوله ثم نفخ فيها من روحه.

أقول: الضمير المؤنّث راجع إلى الصورة و قد علمت أنّ هذه الإشارة جارية في القرآن الكريم كما قال تعالى «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ»«» و المراد بالتسوية إفاضة تمام إعداد البدن و تهيّئه لقبول النقش، و المراد بالنفخ هاهنا هو إفاضة النفس عليه عند كمال ذلك الاستعداد، و استعمال النفخ هاهنا استعارة حسنة فإنّ النفخ له صورة و هو إخراج الهواء من فم النافخ إلى المنفوخ فيه ليشتعل فيه النار، و لمّا كانت حقيقة النفخ ممتنعة في حقّ اللّه تعالى وجب العدول إلى حمل لفظه على ما يشبهه، و لمّا كان اشتغال نور النفس في فتيلة البدن عن الوجود الإلهيّ المعطي لكلّ قابل ما يستحقّه يشبه بحسب محاكاة خيالنا الضعف ما نشاهد من اشتغال النار في المحلّ القابل لها عن صورة النفخ لا جرم حسن التعبير و التجوّز بلفظ النفخ عن إفاضة الجود الإلهيّ للنفس على البدن لمكان المشابهة المتخيّلة و إن كان الأمر أجلّ ممّا عندنا و أعلى،

 و أمّا نسبة الروح إلى اللّه فاعلم أنّ الروح يحتمل أن يراد به أحد ثلاثة معان، الأوّل جبرئيل عليه السّلام و هو روح اللّه الأمين و نسبته إليه ظاهرة و أمّا نسبة النفخ إلى اللّه حينئذ فلكونه العلّة الاولى و جبرئيل واسطة جعله اللّه تعالى مبدء في هذا اللفظ لنفخ النفس في صورة آدم منه، الثاني جود اللّه و نعمته و فيضه الصادر على آدم و غيره، و إنّما كان ذلك روح لأنّه مبدء كلّ حياة فهو الروح الكليّة الّتي بها قوام كلّ وجود و نسبته إليه ظاهرة و يكون من هاهنا للتبعيض، الثالث أن يراد بالروح النفس الإنسانيّة و يكون من زائدة و إنّما نسب إليه دون سائر مصنوعاته الطيفة لما علمت أنّ الروح منزّه عن الجهة و المكان و في قوّته العلم بجميع الأشياء و الاطّلاع عليها، و هذه مضاهاة و مناسبة بوجه ما مع العلّة الّتي ليست حاصلة لما عدا هذا الجوهر ممّا هو جسم أو جسمانيّ فلذلك شرّفها بالإضافة إليه و قوله فمثلث إنسانا إشارة إلى الصورة المجبولة، و فيه لطيفة و هي أنّها إنّما كانت إنسانا و ينفخ الروح فيها و لذلك رتّب و صيرورتها إنسانا بالفاء على نفخ الروح فيها،

و قوله ذا أذهان يجيلها إشارة إلى ما للإنسان من القوى الباطنة المدركة و المتصرّفة و معنى إجالتها تحريكها و بعثها في انتزاع الصور الجزئيّة كما للحسّ المشترك و المعاني الجزئيّة كما للوهم،

و قوله و فكر يتصرّف بها إشارة إلى القوى المفكّرة في آحاد النوع الإنساني و تصرّفها في تفتيش الخزانتين و تركيب بعض مودوعاتها ببعض و تحليلها،

و قوله و جوارح تختدمها إشارة إلى عامّة الأعضاء الّتي بيّنا أنّها كلّها خدم للنفس و الأدوات الّتي تقلّبها من تلك يشبه أن يختصّ بالأيدي كقوله تعالى «وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى‏»«» و يمكن أن يكون أعمّ من ذلك كالبصر و القلب كقوله عليه السّلام: يا مقلّب القلوب و الأبصار إلى عامّة الأعضاء الّتي بيّنا أنّها كلّها خدم للنفس و الأدوات الّتي تقلّبها من تلك يشبه أن يختصّ بالأيدي كقوله تعالى «وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى‏»«» و يمكن أن يكون أعمّ من ذلك كالبصر و القلب كقوله عليه السّلام: يا مقلّب القلوب و الأبصارفيصدق عليها اسم التقليب،

و قوله و معرفة يفرق بها بين الحقّ و الباطل إشارة إلى استعداد النفس لدرك المعقولات الثانية المسمّى عقلا بالملكة بحسب مالها من المعارف الاولى أعني البديهيّات فإنّ الحقّ و الباطل امور كلّية و ليس للقوى البدنيّة في إدراك الامور الكلّية حظّ يحتمل أن يشير بالمعرفة إلى القوّة الاستعداديّة الاولى للإنسان المسمّاة عقلا هيولانيّا،

و قوله و الأذواق و المشامّ و الألوان و الأجناس نبّه هاهنا على ثلاثة امور: أحدها أنّ للإنسان آلة بها يدرك المذوقات، و اخرى بها يدرك المشمومات، و اخرى بها يدرك الألوان، و قد بيّنا ذلك، الثاني نبّه على أنّ النفس مدركة للجزئيات بواسطة هذه القوى إذ عدّها في نسق ما تتصرّف فيه النفس و تفرّق بينه و بين غيره، الثالث أنّه أخرّ قوله و الأجناس تنبيها على أنّ النفس تنتزع الامور الكلّية من تصفّح الجزئيّات فإنّ الأجناس امور كلّية و النفس بعد إدراك الجزئيّات و تصفحها تتنبّه لمشاركات بينها و مباينات فتنتزع منها تصوّرات كلّية و تصديقات كلّية و كأنّه عنى بالأجناس هاهنا الامور الكلّية مطلقا لا بعضها كما هو في الاصطلاح العلمي،

و قوله معجونا بطينة الألوان المختلفة النصب على الحال من قوله إنسانا أو الصفة له، و المراد الإشارة إلى أنّ اختلاف أبدان النوع بعضها من بعض بالألوان بسبب قوّة استعداداتها لذلك كما قال صلى اللّه عليه و آله: فجاء منهم الأحمر و الأبيض و الأسود كما سبق و طينة الألوان و أصلها، و عجنه بها مزجه بها و تهيّئه و إعداده لقبولها على اختلافها و كذلك الحال في البدن الواحد فإنّه ليس لجملة أجزائه لون واحد فإنّ امتزاج بعض الأعضاء يقتضي أن يكون أبيض كالعظام و الأسنان و بعضها أحمر كالدم و بعضها أسود كالحدقة و الشعر، و كذلك اختلاف الأشخاص في الصفات المكنّي بها عن الاختلاف الواردة في تمام الخبر من قوله: و السهل و الخزن و الخبيث و الطيّب يرجع إلى أنّ الأرض لمّا كانت أكثر العناصر شركة في هذه الأبدان كان لاختلاف بقاعها أثر تامّ في تفاوت الامتزاج لقبول الأخلاق بالسهولة و الحزونة و الخبيث و الطيّب،

و قوله و الأشباه المؤتلفة و الأضداد المتعادية و الأخلاط المتبائنة من الحرّ و البرد و البلّة و الجمود و المساء و السرور أمّا الأشباه المؤتلفة فكالعظام و الأسنان و أشباهها فإنّها أجسام متشابهة ائتلف بعضها مع بعض، و بها قامت الصورة البدنيّة و امتزجت بطينتها، و أمّا الأضداد المتعادية فكالكيفيّات الأربع الّتي ذكرها عليه السّلام و هي الحرارة و البرودة و الرطوبة الّتي هي البلّة و اليبس الّذي هو الجمود، و عبّر عنه بلازمه و هو الجمود على أنّ الجمود في اللغة هو اليبس أيضا و أمّا الأخلاط المتبائنة فهي الأخلاط الأربعة كما عرفت من الدم و البلغم و الصفراء و السوداء، و أمّا المساءة و السرور فهما من الكيفيّات النفسانيّة و مهيّة. كلّ منهما ظاهرة، و أمّا أسبابهما فاعلم أنّ للسرور سببا جسمانيّا معدّا و هو كون حامله الّذي هو الروح النفساني على كمال أحواله في الكميّة لأنّ زيادة الجوهر في الكمّ يوجب زيادة القوّة في الكيفيّة و هي أن يكون معتدلا في اللطافة و الغلظ و أن يكون شديد الصفا، و أمّا السبب الفاعلي له فالأصل فيه تخيّل الكمال كالعلم و القدرة و الإحساس بالمحسوسات الملائمة و التمكّن من تحصيل المرادات و القهر و الاستيلاء على الغير و الخروج عن المولم و تذكر الملذّات، و أمّا أسباب الغم فمقابلات هذه أمّا السبب المعدّ الجسمانيّ فهو إمّا قلّة الروح كما للناقهين و المنهوكين بالأمراض و المشايخ، و أمّا غلظة فكما للسوداويين و أمّا رقّة كما للنساء و أمّا الفاعلي فمقابل أسباب السرور، و قد يشتدّ كلّ منهما بعد الأسباب المذكورة بتكرّره فيصير السرور أو الغم ملكة و يسمّى صاحبه مفراحا أو محزانا و مقصوده عليه السّلام التنبيه على أنّ طبيعة الإنسان فيها قوّة قبول و استعداد لهذه الكيفيّات و أمثالها، و تلك القوّة هي المراد بطينة المساءة و السرور و الفرق بينها و بين الاستعداد أنّ القوّة تكون على الضدّين و الاستعداد لا يكون إلّا لأحدهما.

و قوله استأدى اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم و عهد وصيّته إليهم إلى قوله إلّا إبليس.

أقول: لمّا كان الّذي يشير إليه كلّ إنسان بقوله أنا هو النفس الناطقة كان آدم عندهم عبارة عن النفس الناطقة ثمّ قالوا: المراد بالملائكة الّذين امروا بالسجود لآدم هي القوى البدنيّة الّتي امرت بالخضوع و الخشوع لتكرمة النفس العاقلة، و الانقياد تحت حكمها و هو الأمر الّذي لأجله خلقوا أمّا عهد اللّه لديهم و وصيّته إليهم فهو المشار إليه بقوله تعالى «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ‏ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ»«» و الخطاب هاهنا خطاب الحكمة الإلهيّة بالقضاء الأزلي قبل الوجود و الاستيذاء لذلك العهد و تلك الوصيّة هو طلب المأمور به أوّلا من الانقياد و الخضوع من تلك القوى بعد الوجود على ألسنة الرسل عليهم السّلام بالوحي المنزل و هو قوله اسْجُدُوا لِآدَمَ، قوله فسجدوا إشارة إلى القوى المطيعة لنفوسها العاقلة في أشخاص عباد اللّه الصالحين، قوله إلّا إبليس و قبيله إشارة إلى الوهم و سائر القوى التابعة له في معارضة العقل في أشخاص الكفّار و الفاسقين عن أوامر اللّه سبحانه، و قد عرفت أنّ الوهم رئيس القوى البدنيّة فهي إذن عند معارضته للعقل و متابعتها له جنود إبليس و قبيله،

و أمّا قوله اعترته الحميّة و غلبت عليه الشقوة و تعزّر بخلق النار و استهون خلق الصلصال، فقالوا: إنّ المراد بكون إبليس و جنوده خلقوا من نار أنّ الأرواح الحاملة لهذه القوى كما عرفت أجسام لطيفة تتكوّن عن لطافة الأخلاط و هي حارّة حدّا مائلة في الإفراط و الناريّة و الهوائيّة عليها أغلب و تولّدها عنهما أسهل و هي آخر أجزاء البدن و كذلك القلب الّذي هو منبعها فكانت تلك الأرواح كالأبدان لهذه القوى فلذلك نسب إبليس إلى النار فقال تعالى حكاية عنه «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ» و قال «وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ» أي قدّرنا قبل وجوده أن تكون الناريّة و الهوائيّة على وجود أغلب، و قال بعضهم: إنّه لمّا كانت النار ألطف العناصر و كانت هذه القوى و أرواحها ألطف الامور الجسمانيّة و تكّونها عن ألطف الأخلاط كانت نسبتها إلى النار أولى من سائر العناصر لمكان المشابهة في اللطافة فجاز أن يطلق على أصله أنّه نار.

لا يقال: إذا كان آدم هو النفس الناطقة فما معنى قول إبليس و خلقته من طين.

لأنا نقول: كما صدق أنّ إبليس مخلوق من نار بمعنى أنّ الغالب على الروح الحامل له هو عنصر النار كذلك يصدق أنّ آدم من طين بمعنى أنّ الغالب على بدنه الأرضيّة، و أيضا فإنّ الوهم لا يدرك إلّا المعاني الجزئيّة المتعلّقة بالمحسوسات فلا يصدق حكمه و مساعدته إلّا فيما كان محسوسا، و لمّا ثبت أنّ النفس جوهر مجرّد لم يكن إعتقاد إبليس أنّ الإنسان شي‏ء غير هذا البدن المتكوّن عن الطين. إذا ثبت ذلك فنقول: اعتراء الحميّة و التعزّز بالانتساب إلى عنصر النار نسبة مجازيّة إذا العادة جارية بأن يأنف الإنسان من‏ الأصل الناقص و أن يفتخر و يتعزّز بالأصل الشريف و الانتساب إليه فكان لسان حال إبليس و القوى المتابعة له يقول على جهة الاستنكار أ أسجد لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون، و أنا مخلوق من النار الّتي هي أشرف العناصر قالوا: و لمّا علم اللّه ذلك من حال إبليس لعنه و طرده و أخرجه من الجنّة و ذلك قوله تعالى «قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ»«» قالوا و ذلك أنّك علمت أنّ الجنّة تعود إلى معارف الحقّ سبحانه و الابتهاج بمطالعة أنوار كبريائه و درجات الجنّة هي المراتب الّتي ينتقل العقل فيها في مقامات السلوك إلى حظائر القدس و مجاورة الملاء الأعلى، و علمت أنّ حال الوهم قاصر عن الانتقال على تلك المراتب فطرده و لعنه و تحريم الجنّة عليه يعود إلى تكوينه على الطبيعة الّتي هو عليها القاصرة عن إدراك العلوم الكلّية الّتي هي ثمار الجنّة و قطوفها و القضاء عليه بذلك قالوا: و ممّا ينبّه على ذلك قوله «قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ»«» أي بما خلقتني على هذه الجبلة لا اهتدى لدخول الجنّة و لا أتمكّن منها لأجذبنّهم إلى المشتهيات و تزيين الملذّات الجاذبة لهم عن عبادتك حتّى لا يهتدوا إلى الجنّة الّتي لأجلها خلقتهم و لا يلتفتوا إليها إلّا من عصمته منّي و جعلت له سلطانا على قهري و غلبتي و هم عبادك المخلصون أي النفوس الكاملة المطهّرة عن متابعة قواها المسلّط على قهر شياطينها و قهرها و كذلك قوله: «قالَ أَنْظِرْنِي إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ» فإنّه لمّا كان البعث الأوّل هو مفارقة النفوس لأبدانها و انبعاثها إلى عالمها و كانت طبيعة الوهم قاضية بمحبّة البقاء في دار الدنيا إذ لا حظّ له في غيرها أحسن من لسان حاله أن يقول ربّ انظرني إلى يوم يبعثون،

و قوله فأعطاه اللّه النظرة لمّا كان الوهم باقيا في البدن هو و جنوده إلى يوم البعث حسن من لسان الحكمة الإلهيّة أن يقول إنّك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم و ذلك معنى إعطائه النظرة، و قوله استحقاقا للسخطة و استتماما للبليّة و إنجازا للعدّة فقد عرفت أنّ البليّة نصب على المفعول له ثمّ إنّ فساد الوهم و ابتلاء الخلق به و الشرّ الصادر عنه امور داخلة في القضاء الإلهيّ بالعرض فيصدق                        

عليه أنّه مراد و أنّ الإنظار و الإمهال له و كذلك استحقاق السحطة و إنجاز العدة و إطلاق لفظ السخطة استعارة فإنّ السخط لمّا كان عبارة عن حالة للإنسان يستلزم وجود مغضوب عليه غير مرضيّ بأفعاله و كان حال إبليس في إنظار اللّه إيّاه و فسوقه عن أمر ربّه مستلزما لإعراض اللّه سبحانه عنه و عمّن عصاه بمتابعته كان هناك نوع مشابهة، فحسن لأجلها إطلاق لفظ السخطة أمّا العدة فتعود إلى قضاء الحكمة الإلهيّة ببقاء الوهم إلى يوم البعث، و إنجازها يعود إلى موافقة القدر لذلك القضاء، و قال بعضهم: إنّه لمّا كان هاهنا صورة مطرود و مبعّد و ملعون حسن إطلاق لفظ السخطة و استحقاقها و أنّه إنّما انظر لأجلها و هو ترشيح للاستعارة.

 

قوله ثمّ أسكن اللّه سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشه و آمن فيها محلّته و حذّره إبليس و عداوته.

أقول: الدار الّتي أسكن فيها آدم هي الجنّة و الإشارة هاهنا إلى أنّ الإنسان من أوّل زمان إفاضة القوّة العاقلة عليه إلى حين استرجاعها ما دام مراعيا لأوامر الحقّ سبحانه غير منحرف عن فطرته الأصليّة و لا معرض عن عبادته و لا يلتفت إلى غيره فإنّه في الجنّة و إن كانت الجنّة على مراتب كما قال تعالى «لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ»«» و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله: كلّ مولود يولد على الفطرة و إنّما أبواه هما اللذان يهوّدانه و ينصّرانه إذ كانت نفسه قبل الجواذب الخارجيّة عن القبلة الحقيقيّة غير مدّ نسبة بشي‏ء من الاعتقادات الفاسدة و الهيئات الرديئة، و إن كانت المرتبة السامية و الغرفة العالية إنّما تنال بعد المفارقة، و استصحاب النفس لأكمل زاد، و أمّا إرغاد العيش فيعود إلى ابتهاجه بالمعقولات و المعارف الكلّيّة و أمان المحلّة أمان مكانه في الجنّة أن يعرض له خوف أو حزن ما دام فيها، و أمّا تحذيره من إبليس و عداوته فظاهر من الأوامر الشرعيّة و لسان الوحي ناطق كما قال تعالى «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ»«» و وجه العداوة ظاهر ممّا قلنا فإنّ النفس لمّا كانت من عالم المجرّدات و كان الوهم بطبعه منكرا لهذا القسم من الممكنات كان منكرا لما تأمر به النفس من الامور الكلّيّة الّتي لا حظّ له في إدراكها و ذلك من مقتضيات العداوة و لأنّ نظام أمر النفس و مصلحتها لا يتمّ إلّا بقهر الوهم و القوى البدنيّة عن مقتضيات طباعها، و تمام مطالب القوى لا يحصل إلّا بانقهار النفس فكانت بينهما مجاذبة طبيعيّة و عداوة أصليّة إذ لا معنى للمعاداة إلّا المجانبة لما يتصوّر كونه موذيا.

 

قوله فاغترّه عدّوه نفاسة عليه بدار المقام و مرافقة الأبرار.

أقول: يقال: إنّ اللّه تعالى لمّا حذّره إبليس و عداوته كان قد نهاه عن أكل شجرة يقال إنّها شجرة البرّ، و أعلمه أنّه إن أكل منها كان ظالما لنفسه مستحقّا لسخط اللّه عليه و ذلك قوله تعالى «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ»«» قالوا: و تلك الشجرة هي الشجرة الخبيثة الّتي اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار و هي عائدة إلى المشتهيات الدنيويّة الفانية و اللذّات البدنيّة الخارجة عن المحدودات في أوامر اللّه، و تناولها هو العبور فيها إلى طرف الإفراط عن وسط القانون العدل، و أمّا كونها شجرة البرّ فقالوا: إنّ البرّ لمّا كان هو قوام الأبدان و عليه الاعتماد في أنواع المطعومات و الملاذ البدنيّة حسن أن يعبّر به عنها فيقال هي شجرة البرّ كناية عن الفرع بالأصل، فأمّا اغترار إبليس له فاعلم أنّ حقيقة الغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى و يميل إليه بالطبع عن شبهة و خدعة من إبليس فاغتراره يعود إلى استغفال النفس بالوسوسة الّتي حكى اللّه تعالى عنها بقوله «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‏ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى‏»«» و لنبحث حقيقة الوسوسة فنقول: إنّ الفعل إنّما يصدر عن الإنسان بواسطة امور مترتّبة ترتيبا طبيعيّا أوّلها تصوّر كون الفعل ملائما و هو المسمّى بالداعي، ثمّ إنّ ذلك الشعور يترتّب عليه ميل النفس إلى الفعل المسمّى ذلك الميل إرادة فيترتّب على ذلك الميل حركة القوّة النزوعيّة المحرّكة للقوّة المسمّاة قدرة المحرّكة للعضل إلى الفعل.

إذا عرفت ذلك فنقول: صدور الفعل عن مجموع القدرة و الإرادة أمر واجب فليس للشيطان فيه مدخل، و وجود الميل عن تصوّر كونه نافعا و خيرا أمر لازم فلا مدخل للشيطان أيضا فيه فلم يبق له مدخل إلّا في إلقاء ما يتوهّم كونه نافعا أو لذيذا إلى النفس ممّا يخالف أمر اللّه سبحانه فذلك الإلقاء في الحقيقة هو الوسوسة و هو عين ما حكى اللّه سبحانه عنه بقوله «وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَ‏ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي»«» إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ متابعة إبليس يعود إلى انقياد النفس لجذب الوهم و القوى البدنيّة الّتي هي الشياطين عن الوجهة المقصودة و القبلة الحقيقيّة و هي عبادة الحقّ سبحانه و فتنتها لها بتزيين ما حرّم اللّه عليها فأمّا ما يقال: إنّ إبليس لم يكن له تمكّن من دخول الجنّة و إنّما توسّل بالحيّة و دخل في فمها إلى الجنّة حتّى تمكّن من الوسوسة لآدم عليه السّلام و اغتراره فقالوا: المراد بالحيّة هي القوّة المتخيّلة، و ذلك أنّ الوهم إنّما يتمكّن من التصرّف و بعث القوى المحرّكة كالشهوة و الغضب الّتي هي جنوده و شياطينه على طلب الملاذ البدنيّة و الشهوات الحسّيّة الدنيّة، و جذب النفس إليها بتصوير كونها لذيذة نافعة بواسطة القوّة المتخيّلة، و وجه تشبيهها بالحيّة أنّ الحيّة لمّا كانت لطيفة سريعة الحركة تتمكّن من الدخول في المنافذ الضيّقة و تقدر على التصرّف الكثير و هي مع ذلك سبب من أسباب الهلاك بما تحمله من السمّ و كانت المتخيّلة في سرعة حركتها و قدرتها على التصرّف السريع و الإدراك ألطف من سائر القوى و هي الواسطة بين النفس و الوهم و كانت بما اشتملت عليه من تحمّل كيد إبليس و إلقاء الوسوسة بواسطتها إلى النفس سببا قويّا للهلاك السرمد و العذاب المؤبّد لا جرم كان أشبه ما يشبه به الحيّة لما بينهما من المناسبة فحسن إطلاق لفظ الحيّة عليها.

قوله نفاسة عليه ترشيح للاستعارة لأنّه لمّا كان جذب الوهم للنفس إلى الجنّة السافلة مانعا لها من الكرامة بدار المقامة و مستنزلا عن درجة مرافقة الملاء الأعلى، و كان ذلك أعظم ما تنفس به كما قال تعالى «وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ»«» و عرفت أنّ ذلك الجذب عن صورة معاداة كما سبق و كان من لوازم المعادة النفاسة على العدوّ بكلّ ما يعدّ كمالا لا جرم حسن إطلاق النفاسة هاهنا ترشيحا لاستعارة العداوة، و النصب على المفعول له.

قوله فباع اليقين بشكّه و العزيمة بوهنه أي لمّا حصلت الوسوسة و الاغترار لآدم فانقاد لها كان قد بدّل ما تيقّنه من أنّ شجرة الخلد و الملك الّذي لا يبلى هو نور الحقّ و البقاء في جنّته و دوام مطالعة كبريائه بالشكّ فيه بواسطة وسوسة إبليس، و ذلك أنّ الامور الموعودة من متاع الآخرة و ما أعدّه اللّه لعباده الصالحين امور خفيت حقائقها على أكثر البصائر البشريّة، و إنّما الغاية في تشويقهم إليها أن يمثّل لهم بما هو مشاهد لهم من‏ اللذّات البدنيّة الحاضرة فترى كثيرا منهم لا يخطر بباله أن يكون في الجنّة أمر زائد على هذه اللذّات فهو يجتهد في تحصيلها إذ لا يتصوّر وراءها أكثر منها، ثمّ إن صدّق بها على سبيل الجملة تصديقا للوعد الكريم فإنّه لا يتصوّر كثير تفاوت بين الموعود به و الحاضر بحيث يرجّح ذلك التفاوت عنده ترك الحاضر لما وعد به بل يكون ميل طبعه إلى الحاضر، و توهّم كونه أنفع و أولى به أغلب عليه، و أن تيقنّ بأصل عقله أنّ الأولى به و أنفع له و الأبقى هو متاع الآخرة فتارة يطرأ على ذلك اليقين غفلة عنه و نسيان له بسبب الاشتغال باللذّات الحاضرة و الانهماك فيها، و ذلك معنى قوله تعالى فَأَخْرَجَ، و تارة لا تحصل الغفلة الكلّيّة بل يكون الوهم المذكور قويّا فيعارض ذلك اليقين بحيث يوجب في مقابلته شبهة و شكّا و ذلك معنى قوله عليه السّلام فباع اليقين بشكّه و لا منافاة بين قوله تعالى فَأَخْرَجَ و بين الشكّ هاهنا.

و قوله و العزيمة بوهنه أي تعوّض من العزم و التصميم الّذي كان ينبغي له في طاعة الحقّ سبحانه بالضعف و التعاجز عن تحمّله كما قال تعالى «وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و إطلاق لفظ البيع هاهنا استعارة حسنة إذ كان مدار البيع على استعاضة شي‏ء بشي‏ء سواء كان المستعاض أجلّ أو أنقص، و مثله قوله تعالى «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏ فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ».

و قوله فاستبدل بالجذل وجلا و بالاغترار ندما إلى قوله و تناسل الذرّيّة

فيه تقديم و تأخير و تقديره و العزيمة بوهنه فأهبطه اللّه إلى دار البليّة و تناسل الذريّة فاستبدل بالجذل و جلا بالاغترار ندما، ثمّ أناب إلى اللّه فبسط له في توبته و لقّاه كلمة رحمته و وعده المردّ إلى جنّته، و ذلك لأنّ الإهباط عقيب الزلّة و استبدال الجذل بالوجل بعد الإهباط من الجنّة و الإخراج منها، و قد ورد القرآن الكريم بهذا النظم في سورة البقرة و هو قوله «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا»«» ثمّ قال عقيبه «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ» و ورد أيضا على النظم الّذي ذكره عليه السّلام في سورة طه و ذلك قوله «وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‏ قالَ اهْبِطا»«» فقدم الاجتباء و التوبة على الإهباط و كلاهما حسن. قالوا: و معنى الإهباط له هو إنزاله عن دار كرامته و استحقاق إفاضة نعيم الجنّة، و ذلك أنّ النفس الناطقة إذا أعرضت عن جناب الحقّ سبحانه، و التفتت إلى متابعة الشياطين و أبناء الجنّ و موافقة إبليس بعدت عن رحمة اللّه و تسوّد لوحها عن قبول أنوار الإلهيّة، و أمّا دار البليّة و تناسل الذريّة فإشارة إلى الدنيا فإنّ الإنسان إذا التفت بوجهه إليها، و أقبل بكلّيته عليها هبط من أعلى عليّين إلى أسفل سافلين، و لم يزل ممنوّا ببلاء على أثر بلاء إذ لا يقدّم في كلّ لحظة و وقت فوت مطلوب أو فقد محبوب يطلب مالا يدرك و يجد ما لا يطلب و كفى بانقطاعه عن اللّه تعالى بالتفاته إليها بلاء و أعظم به شقاء إذ كان سبب البعد عن رحمته و الطرد عن أبواب جنّته.

فإن قلت لم ذكر تناسل الذريّة في معرض الإهانة لآدم مع أنّه في الحقيقة من الامور الخيريّة المندرجة في سلك العناية الإلهيّة فإنّ به بقاء النوع و دوام الإفاضة. قلت: إنّه و إن كان كذلك إلّا أنّه لا نسبة له في الحقيقة إلى الخير الّذي كان في الجنّة فإنّ تناسل الذريّة خير إضافيّ عرضيّ بالنسبة إلى الكمال الّذي يحصل لأبناء النوع و ذريّته، ثمّ النسبة إن حصلت فنسبة أخصّ إلى أشرف فإنّ إنزاله و إهباطه عن استحقاق تلك المراتب السامية و الإفاضات العالية إلى هذه المرتبة الّتي يشارك فيها البهيمة و سائر أنواع الحشرات نقصان عظيم و خسران مبين. قوله و استبدل بالجذل و جلا و بالاغترار ندما ظاهر فإنّ المقبل بوجهه على عبادة الحقّ سبحانه المستشرق لأنوار كبريائه المعرض عمّا سواه أبدا مسرور مبتهج فإذا أعرض عمّا يوجب السرور و الفرح و التفت إلى خسائس الامور بسبب شيطان قاده إليها و زيّنها لعينه فانكشف عنه ستر اللّه و بدت سوئته للناظرين بعين العاقبة من عباد اللّه الصالحين، ثمّ أخذت بضبعه العناية الإلهيّة و تداركته الرحمة الربّانيّة فانتبه من رقدة الغافلين في مراقد الطبيعة فرأى السلاسل و الأغلال قد أحاطت به و شاهد الجحيم مسعرّة عن جنبتي الصراط المستقيم، و تذكّر قوله تعالى «قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ»«» الآيات‏ فلا بدّ و أن يصيح و جلا قلقا يقلّب كفّيه حسرة و ندما و جلا ممّا يلحقه من سخط اللّه نادما على ما فرّط في جنب اللّه، و قوله ثمّ بسط اللّه في توبته و لقّاه كلمة رحمته فالمراد الإشارة إلى أنّ الجود الإلهيّ لا بخل فيه و لا منع من جهته، و إنّما النقصان من جهة القابل و عدم استعداده فإذا استعدّت النفس لتدارك رحمة اللّه و جذبتها العناية الإلهيّة من ورطات الهلاك الأبدي فأيّدتها بالمعونة على إبليس و جنوده و بصّرتها بمقابح أحواله (أفعاله) و ما يدعوا إليه، فأخذت في مقاومته و الترصّد لدفع مكائده فذلك هو معنى إنابتها و توبتها، و أمّا كلمة رحمة اللّه الّتي لقّاها آدم فتعود إلى السوانح الإلهيّة الّتي تنسخ للعبد فتكون سببا لجذبه عن مهاوي الهلاك و توجيهه عن الجنّة السافلة إلى القبلة الحقيقيّة و إمداده بالملائكة حالا فحالا و رفعه في مدارج الجلال الّتي هي درجات الجنّة، و قوله و وعده المردّ إلى جنّته فإشارة إلى وعد القضاء الإلهيّ الناطق عنه لسان الوحي الكريم «فمن اتّبع هداى فلا يضلّ و لا يشقى-  يا أيّها الّذين آمنوا توبوا إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربّكم أن يكفّر عنكم سيّئاتكم و يدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار»«» و كذلك سائر أنواع و عد التائبين فهذا ما يتعلّق بهذه القصّة من التأويل و باللّه العصمة و التوفيق.

شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی جلد اول

خطبه1 شرح ابن میثم بحرانی قسمت دوم

الفصل الثاني في نسبة إيجاد العالم إلى قدرة اللّه تعالى جملا و تفصيلا و في كيفيّة ذلك و هو اقتصاص في معرض المدح.

خطبه1

أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ ابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً-  بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا-  وَ لَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا-  أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا-  وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا-  عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا-  مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ انْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا: ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ-  وَ شَقَّ الْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ الْهَوَاءِ-  فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُهُ-  مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ-  وَ الزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ-  وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ-  الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ-  ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا-  وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا-  وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ-  وَ إِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ-  وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ-  تَرُدُّ أَوَّلَهُ إِلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ-  وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ-  فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ-  فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ-  جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً-  وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً-  بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لَا دِسَارٍ يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ-  وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً-  فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ. ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ‏ السَّمَوَاتِ الْعُلَا-  فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِكَتِهِ-  مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ وَ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ-  وَ صَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ-  لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَ لَا سَهْوُ الْعُقُولِ-  وَ لَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَ لَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ-  وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ-  وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ-  وَ مِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ السَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ-  وَ مِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ-  وَ الْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ-  وَ الْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ-  وَ الْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ-  نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ-  مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ-  وَ أَسْتَارُ الْقُدْرَةِ-  لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ-  وَ لَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ-  وَ لَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَ لَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ ب‏ئ

 

اللغة

ب‏ئ‏أقول: لم أجد لأهل اللغة فرقا بين الإنشاء و الابتداء و هو الإيجاد الّذي لم يسبق بمثله إلّا أنّه يمكن أن يفرق هاهنا بينهما صونا لكلامه عليه السّلام عن التكرار بأن يقال: المفهوم من الإنشاء هو الإيجاد الّذي لم يسبق غير الموجد إليه و المفهوم من الابتداء هو الإيجاد الّذي لم يقع من الموجد قبل، و الرويّة الفكر، و همامة النفس اهتمامها بالامور و من روى همامة نفس فالمراد ترديد العزوم مأخوذ من الهمهمة و هى ترديد الصوت الخفيّ، و روى أيضا همّة نفس، و الإحالة التحويل و النقل و التغيير و الانقلاب من حال إلى آخر، و روى أجال بالجيم، و روى أيضا أجلّ أي وقّت، و الملائمة الجمع، و الغرائز جمع غريزة و هى الطبيعة الّتي طبع عليها الإنسان كأنّها غرّزت فيه، و النسخ الأصل، و روى أشباحها جمع شبح و هو

الملائك مئالك بتقديم الهمزة من الألوك و هى الرسالة ثمّ قلّبت و قدّمت اللام، و قيل ملأك ثمّ تركت همزته لكثرة الاستعمال فقيل ملك فلمّا جمعوه ردّوها إليه فقالوا ملائكة و ملائك، و السأم الملال، و السدنه جمع سادن و هو الخازن، و مرق السهم من الرمية إذا خرج من الجانب الآخر، و القطر الناحية، و الركن الجانب، و تلفع بثوبه التحف به، و النظائرالشخص، و القرائن جمع قرينة و هى ما يقترن بالشي‏ء، و الأحناء جمع حنو و هي الناحية، و الأجواء جمع جوّ و هو الفضاء الواسع، و فتقها شقّها، و الأرجاء جمع رجاء مقصور و هى الناحية، و السكائك جمع سكاكة كذؤابة و ذوائب و هى الفضاء ما بين السماء و الأرض و كلّ مكان خال فهو هواء، و أجار أى أجرى و من روى أحار أي أدار و جمع، و تلاطم الماء تراد أمواجه و ضرب بعضها بعضا، و الزخّار مبالغة في الزاخر و هو الممتلي، و متن كلّ شي‏ء ما صلب منه و اشتدّ، و عصف الريح شدّة جريانها، و ريح زعزع تحرّك الأشياء بقوّة و تزعزعها، و الريح العاصفة الشديدة كأنّها لشدّتها تكسّر الأشياء و تقصفها، و سلّطها أي جعل لها سلاطة و هى القهر، و الفتيق المنفتق و الدقيق المندفق. و الاعتقام الشدّ و العقد و اعتقم الأرض مهبّها أي جعله خاليا لا نبت به من قولهم عقمت الرحم إذا لم يقدر بها ولد، و روى بغير تاء أي جعلها عقيمة لا تلقح شجرا و لا سحابا، و المربّ المجمع، و العصف الجري بشدّة و قوّة، و الصفق و التصفيق الضرب المترادّ المصوّت، و إنارة الموج رفعه و هيّجه، و أصل البحر الماء المتّسع الغمر، و ربّما خصّص في العرف بالمالح، و تموّج البحر اضطرابه و توجّه ما ارتفع منه حال هيجانه و حركته، و الخض التحريك، و السقاء وعاء اللبن و الماء أيضا، و المائر المتحرّك، و العباب بالضمّ معظم الماء و عبّ أي علا و تدفّق، و الركام الماء المتراكم، و المنفهق الواسع، و التسوية التعديل، و المكفوف الممنوع من السقوط الجوهري، السقف اسم للسماء، و سمك البيت سقفه و السموك الارتفاع، و العمد جمع كثرة لعموم البيت و عامة البيت عموده و ما يمنعه من السقوط، و الدسار كلّ شي‏ء أدخلته في شي‏ء لشدّة كمسمار و حبل و نحوهما، و المستطير المنتشر، و الفلك من أسماء السماء قيل مأخوذ من فلكة المغزل في الاستدارة، و الرقيم اسم للفلك أيضا و اشتقاقه من الرقم و هو الكتابة و النقش لأنّ الكواكب به تشبه الرقوم، و الأطوار الحالات المختلفة و الأنواع المتبائنة قال الكسائي: أصل   الأمثال،

 

و لنرجع إلى المعنى

فنقول:

أنشأ الخلق إنشاء و ابتدئه ابتداء

انشاء الخلق إنشاء و ابتدئه ابتداء يشير إلى كيفيّة، إيجاد الخلق على الجملة عن قدرة اللّه تعالى بعد أن ينبّه على أصل الإيجاد بقوله فطر الخلائق بقدرته و أتى بالمصدرين بعد الفعلين تأكيدا لنسبة الفعلين إلي اللّه تعالى و صدق هاتين القضيّتين ظاهر فإنّ الباري تعالى لمّا لم يكن مسبوقا بغيره لا جرم صدق الإنشاء منه، و لمّا لم يكن العالم موجودا قبل وجوده لا جرم صدق ابتداؤه له.

 

قوله بلا رويّة أجالها و لا تجربة استفادها و لا حركة أحدثها و لا همامة نفس اضطرب فيها.

أقول: لمّا كانت هذه الكيفيّات الأربع من شرائط علوم الناس و أفعالهم الّتي لا يمكن حصولها إلّا بها أراد تنزيه اللّه سبحانه عن أن يكون إيجاده للعالم موقوفا على شي‏ء منها أمّا الرويّة و الفكر فلمّا كانت عبارة عن حركة القوّة المفكّرة في تحصيل مبادئ المطالب و الانتقال منها إليها أو عن تلك القوّة أيضا نفسها كان ذلك في حقّ اللّه تعالى محالا لوجهين: أحدهما أنّ القوّة المفكّرة من خواصّ نوع الإنسان، الثاني أنّ فائدتها تحصيل المطالب المجهولة و الجهل على اللّه تعالى محال، و أمّا التجربه فلمّا كانت عبارة عن حكم الفعل بأمر على أمر بواسطة مشاهدات متكرّرة معدّة لليقين بسبب انضمامه قياس خفيّ إليها و هو أنّه لو كان هذا الأمر اتّفاقيّا لمّا كان دائما و لا أكثريّا كان توقّف فعل اللّه تعالى على استفادة الأحكام منها محالا لوجهين: أحدهما أنّها مركّبة من مقتضى الحسّ و العقل، و ذلك أنّ الحسّ بعد مشاهدته وقوع الإسهال مثلا عقيب شرب الدواء مرّة و مرّة ينتزع العقل منها حكما كليّا بأنّ ذلك الدواء مسهل، و معلوم أنّ اجتماع الحسّ و العقل من خواصّ نوع الإنسان، الثاني أنّ التجربة إنّما يفيد علما لم يكن فالمحتاج إلى التجربة لاستفادة العلم بها ناقص بذاته مستكمل بها و المستكمل بالغير محتاج إليه فيكون ممكنا على ما مرّ و ذلك على اللّه محال، و أمّا الحركة فقد عرفت أنّها من خواصّ الأجسام و الباري سبحانه منزّه عن الجسميّة فيمتنع صدق المتحرّك عليه و إن صدق أنّه محرّك الكلّ لأنّ المتحرك ما قامت به الحركة و المحرّك أعمّ من ذلك، و أمّا الهمامة أو الهمّة فلمّا كانت مأخوذة من الاهتمام، و حقيقته الميل النفسانيّ الجازم إلى فعل الشي‏ء مع التألّم و الغمّ‏ بسبب فقد كان ذلك في حقّ اللّه تعالى محالا لوجهين: أحدهما أنّ الميل النفسانيّ من خواصّ الإنسان طلبا لجلب المنفعة و الباري سبحانه منزّه عن الميول النفسانيّة و جلب المنافع، الثاني أنّه مستلزم للتألّم المطلوب و التألّم على اللّه تعالى محال، و إذ ليس إيجاده تعالى للعالم على أحد الأنحاء المذكورة فهو إذن بمحض الاختراع و الإبداع البري‏ء من الحاجة إلى أمر من خارج ذاته المقدّسة بديع السماوات و الأرض وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فاعلم أنّه عليه السّلام أردف كلّا من هذه الامور بما هو كيفيّة في وجوده فأردف الرويّة بالإحالة و التجربة بالاستفادة و الحركة بالإحداث و الهمامة بالاضطراب لتنتفي الكيفيّة بانتفاء ما هى له عن ذاته المقدّسة و باللّه التوفيق.

 

قوله أحال الأشياء لأوقاتها و لائم بين مختلفاتها و غرّز غرائزها و ألزمها أشباحها.

 أقول: لمّا نبّه على نسبة إيجاد العالم إلى اللّه تعالى جملة أشار بعده إلى أنّ ترتيبه و ما هو عليه من بديع الصنع و الحكمة كان مفصّلا في علمه و على وفق حكمته البالغة قبل إيجاده، و المراد بقوله أجال الأشياء لأوقاتها الإشارة إلى ربط كلّ ذي وقت بوقته بحسب ما كتب في اللوح المحفوظ بالقلم الإلهيّ بحيث لا يتأخّر متقدّم و لا يتقدّم متأخّر منها، و معنى الإجالة نقل كلّ منها إلى وقته، و تحويله من العدم و الإمكان الصرف إلى مدّته المضروبة لوجوده، و اللام في لأوقاتها لام التعليل أي لأجل أوقاتها إذ كلّ وقت يستحقّ بحسب قدرة اللّه و علمه أن يكون فيه ما لا يكون في غيره، و على النسخة الاخرى فمعنى تأجيلها جعل أوقاتها أجلالها لا تتقدّم عليها و لا تتأخّر عنها كما قال «وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ» و نبّه بقوله و لائم بين مختلفاتها على كمال قدرة اللّه تعالى، و بيان ذلك في صورتين: إحداهما أنّ العناصر الأربع متضادّة الكيفيّات، ثمّ إنّها إذا اجتمعت بقدرة اللّه تعالى و على وفق حكمته حتّى انكسرت صورة كلّ واحد منها بالآخر و هو المسمّى بالتفاعل حصلت كيفيّة متوسّطة بين الأضداد متشابهة و هي المزاج فامتزاج اللطيف بالكثيف على ما بينهما من تضادّ الكيفيّات و غاية البعد بقدرته التامّة من أعظم الدلائل الدالّة على كمالها، الثانية أنّ الملائمة بين الأرواح اللطيفة و النفوس المجرّدة الّتي لا حاجة بها في قوامها في الوجود إلى مادّة أصلا و بين هذه الأبدان المظلمة الكثيفة و اختصاص كلّ نفس ببدن منها و تدبيره و استعماله فيما يعود إليها من المصالح على النظام الأقصد و الطريق الأرشد ممّا يشهد بكمال قدرته و لطيف حكمته، و قوله و غرّز غرائزها إشارة إلى ركن القويّ الجسمانيّة النفسانيّة فيما هي قوي له و خلق كلّ ذي طبيعة على خلقه و مقتضى قواه الّتي غرّزت فيه من لوازمه و خواصّه مثلا كقوّة التعجّب و الضحك للإنسان، و قوّة الشجاعة للأسد و الجبن للأرنب، و المكر للثعلب و غير ذلك، و عبّر عن إيجادها فيها بالغرز و هو الركز استعارة لما يعقل من المشابهة بينها و بين العود الّذي يركز في الأرض من جهة المبدأ و من جهة الغاية، و ذلك أنّ اللّه سبحانه لمّا غرّز هذه الغرائز في محالّها و اصولها و كانت الغاية من ذلك ما يحصل منها من الآثار الموافقة لمصلحة العالم أشبه ذلك غرز الإنسان العود في الأرض لغاية أن يثمر ثمرة منتفعا بها، و قوله و ألزمها أسناحها إشارة إلى أنّها لا تفارق اصولها و لا يمكن زوالها عنها لأنّ اللازم هذا شأنه، و من روي أشباحها بالشين المعجمة فالمراد أنّ ما غرّز في الأشخاص من اللوازم و الغرائز لا تفارقها سواء كانت تلك الغرائز من لوازم الشخص كالذكاء و الفطنة بالنسبة إلى بعض الناس و البلادة و الغفلة لآخر أو من لوازم المهيّات و طباعها لوجود المهيّات في أشخاصها هذا إن قلنا إنّ الضمير في قوله و ألزمها عائد إلى الغرائز أمّا إن قلنا إنّه عائد إلى الأشياء كان المراد أنّ اللّه سبحانه لمّا أجال الأشياء لأوقاتها و لائم بين مختلفاتها و غرّز غرائزها في علمه و قضائه ألزمها بعد كونها كلّيّة أشخاصها الجزئيّة الّتي وجدت فيها. لا يقال: إنّ لوازم المهيّات مقتضى المهيّات فكيف يمكن نسبة إلزامها لاصولها إلى قدرة اللّه تعالى لأنّا نقول: المستند إلى مهيّة الملزوم ليس إلّا مهيّة لازمه، و أمّا وجوده له فبقدرة اللّه تعالى فيكون معنى إلزامها لأصولها إيجادها في اصولها تبعا لإيجاد اصولها على تقدير وجودها.

 

قوله عالما بها قبل ابتدائها محيطا بحدودها و انتهائها عارفا بقرائنها و أحنائها.

 أقول: المنصوبات الثلاثة و هي قوله عالما و محيطا و عارفا منصوبة على الحال، و العامل فيها قوله ألزمها إعمالا للأقرب، و الأحوال الثلاثة مفسّرة لمثلها عقيب الأفعال الثلاثة الأول إذ كانت صالحة لأن يكون أحوالا عنها، و المراد في القضيّة الاولى إثبات الأفعال الأربعة له‏ حال كونه عالما بالأشياء قبل إيجادها حاضرة في علمه بالفعل كلّيها و جزئيّها، و في القضيّة الثانية نسبة تلك الأفعال إليه حال إحاطة علمه بحدودها و حقائقها المميّزة لبعضها عن بعض و إنّ كلّا منته بحدّه واقف عنده و هو نهايته و غايته، و يحتمل أن يريد بانتهائها انتهاء كلّ ممكن إلى سببه و انتهاء الكلّ في سلسلة الحاجة إلى اللّه، و في القضيّة الثالثة نسبة الأفعال إلى قدرته حال علمه بما يقترن بالأشياء من لوازمها و عوارضها، و علمه بكلّ شي‏ء يقترن بشي‏ء آخر على وجه التركيب أو المجاورة كاقتران بعض العناصر ببعض في أحيازها الطبيعيّة على الترتيب الطبيعي، و علمه بأحنائها و جوانبها الّتي بها تنتهي و تقارن غيرها، و بيان هذه الأحكام له تعالى ببيان أنّه عالم بكلّ المعلومات من الكلّيّات و الجزئيّات و ذلك ممّا علم في العلم الإلهيّ فإن قلت: إطلاق اسم العارف على اللّه تعالى لا يجوز لقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّ للّه تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنّة، و إجماع علماء النقل على أنّ هذا الاسم ليس منها قلت: الأشبه أنّ أسماء اللّه تعالى تزيد على التسعة و التسعين لوجهين أحدهما قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله أسئلك بكلّ اسم سميّت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك و استأثرت به في علم الغيب عندك فإنّ هذا صريح في أنّه استأثر ببعض الأسماء، الثاني أنّه صلى اللّه عليه و آله قال في رمضان: إنّه اسم من أسماء اللّه تعالى و كذلك كان الصحابة يقولون فلان اوتى الاسم الأعظم و كان ذلك ينسب إلى بعض الأنبياء و الأولياء و ذلك يدلّ على أنّه خارج من التسعة و التسعين، فإذا كان كذلك كان كلّ الكلام في قوله صلى اللّه عليه و آله إنّ للّه تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنّة قضيّة واحدة معناها الإخبار بأنّ من أسماء اللّه تعالى تسعة و تسعين من أحصاها يدخل الجنّة و يكون تخصيصها بالذكر لاختصاصها بمزيد شرف لا يكون لباقي الأسماء و هي كونها مثلا جامعة لأنواع من المعاني المنبئة عن الكمال بحيث لا يكون لغيرها لا لنفي أن يكون اللّه تعالى اسم غيرها، و إذا كان كذلك جاز أن يكون العارف من تلك الأسماء. لا يقال: إنّ الاسم الأعظم غير داخل فيها لاشتهارها و اختصاص معرفته بالأنبياء و الأولياء و إذا كان كذلك فكيف يصدق عليها أنّها أشرف الأسماء. لأنّا نقول: يحتمل أن يكون خارجا منها و يكون شرفها حاصلا بالنسبة إلى باقي الأسماء الّتي هى غيره و يحتمل أن يكون داخلا فيها إلّا أنّا لا نعرفه بعينه و يكون ما يختصّ به‏ النبيّ أو الوليّ إنّما هو تعيينه منها.


قوله ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء إلى قوله فسوّى منه سبع سماوات

 أقول: لمّا أشار عليه السّلام في الفصل المتقدّم إلى نسبة خلق العالم إلى قدرة اللّه تعالى على سبيل الإجمال شرع بعده في تفصيل الخلق و كيفيّة إيجاده و الإشارة إلى مباديه و لذلك حسن إيراد ثمّ هاهنا. و في هذا الفصل أبحاث:

البحث الأوّل

–  اعلم أنّ خلاصة ما يفهم من هذا الفصل أنّ اللّه قدّر أحيازا و أمكنة أجرى فيها الماء الموصوف و خلق ريحا قويّة على ضبطه و حفظه حمله عليها و أمرها بضبطه، و يفهم من قوله الهواء من تحتها فتيق و الماء من فوقها دفيق أنّ تلك الأحياز و الأمكنة تحتها و أنّها امرت بحفظه و ضبطه لتوصّله إلى تلك الأحياز، و ربّما فهم منه أنّ تلك الأحياز تحتها للماء و هى سطح الريح الحاوي له، و أنّ تحت تلك الريح فضاء آخرا واسعا و هي محفوظة بقدرة اللّه تعالي كما ورد في الخبر ثمّ خلق سبحانه ريحا آخرا لأجل تموّج ذلك الماء فأرسلها و عقدّ مهبّها أى أرسلها بمقدار مخصوص علي وفق الحكمة و المصلحة الّتي أرادها بإجرائها و لم يرسلها مطلقا، و من روى بالتاء فالمراد أنّه أخلى مهبّها عن العوائق أو أنّه أرسلها بحيث لا يعرف مهبّها و أدام حركتها و ملازمتها لتحريك الماء و أعصف جريانها و أبعد مبتداهما ثمّ سلّطها على تموّج ذلك الماء فلمّا عبّ عبابه و قذف بالزبد رفع تعالى ذلك الزبد في الفضاء و كوّن منه السماوات العلى.

البحث الثاني

أنّ هذه الإشارة وردت في القرآن الكريم

فإنّه اشير فيه إلى أنّ السماوات تكوّنت من الدخان كقوله تعالى «ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ» و المراد بخار الماء كذلك وردت في أقوال كثيرة:«» ما روي عن الباقر محمّد بن علي عليهما السلام قال: لمّا أراد اللّه سبحانه و تعالى أن يخلق السماء أمر الرياح فضربن البحر حتّى أزبد فخرج من ذلك الموج و الزبد دخان ساطع من وسطه من غير نار فخلق اللّه منه السماء (ب) ما نقل أنّه جاء في السفر الأوّل من التورية أنّ مبدء الخلق جوهر خلقه اللّه ثمّ نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء فثار من الماء بخار كالدخان فخلق منه السماوات و ظهر على وجه الماء زبد البحر فخلق منه الأرض ثمّ أرسلها بالجبال و في رواية اخرى فخلق منه أرض مكّةثمّ بسط الأرض من تحت الكعبة و لذلك تسمّى مكة امّ القرى (ج) نقل عن كعب ما يقرب من ذلك قال إنّ اللّه تعالى خلق ياقوتة خضراء ثمّ نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثمّ خلق الريح فجعل الماء على متنها ثمّ وضع العرش على الماء كما قال تعالى «وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» (د) ما نقل عن تاليس الملطي و كان من مشاهير الحكماء القدماء فإنّه نقل عنه بعد أن وحّد الصانع الأوّل للعالم و تنزّهه أنّه قال: لكنّه أبدع العنصر الّذي فيه صور الموجودات و المعلومات كلّها و سمّاه المبدع الأوّل، ثمّ نقل عنه أنّ ذلك العنصر هو الماء قال: و منه أنواع الجوهر كلّها من السماء و الأرض و ما بينهما و هو علّة كلّ مبدع و علّة كلّ مركّب من العنصر الجسمانيّ فذكر أن من جمود الماء تكوّنت الأرض و من انحلاله تكوّن الهواء و من صفوته تكوّنت النار و من الدخان و الأبخرة تكوّنت السماء، و قيل: إنّه أخذ ذلك من التوراة (ه) ما وجدته في كتاب بلينوس الحكيم الّذي سمّاه الجامع لعلل الأشياء قريبا من هذه الإشارة و ذلك أنّه قال: إنّ الخالق تبارك و تعالي كان قبل الخلق و أراد أن يخلق الخلق فقال: ليكن كذا و كذا فكان ما أراد بكلمته فأوّل الحدث كلمة اللّه المطاعة الّتي كانت بها الحركة ثمّ قال: بعده إنّ أوّل ما حدث بعد كلام اللّه تعالى الفعل فدلّ بالفعل على الحركة و دلّ بالحركة على الحرارة ثمّ لمّا نقصت‏  الحرارة جاء السكون عند فنائها فدلّ بالسكون على البرد، ثمّ ذكر بعد ذلك أنّ طبائع العناصر الأربعة إنّما كانت من هاتين القوّتين أعنى الحرّ و البرد قال: و ذلك أنّ الحرارة حدث منها اللين و من البرودة أ ليس فكانت أربع قوى مفردات فامتزج بعضها ببعض فحدث من امتزاجها الطبائع الأربع و كانت هذه الكيفيّات قائمة بأنفسها غير مركّبة فمن امتزاج الحرارة و اليبس حصلت النار و من الرطوبة و البرودة حدث الماء و من الحرارة و الرطوبة حدث الهواء و من امتزاج البرد و اليبس حصلت الأرض ثمّ قال: إنّ الحرارة لمّا حرّكت طبيعة الماء و الأرض تحرّك الماء للطفه عن ثقل الأرض و أثقلت ما أصابه من الأرض فصار بخارا لطيفا هوائيّا رقيقا روحانيّا و هو أوّل دخان طلع من أسفل الماء و امتزج بالهواء فسما إلي العلو لخفّته و لطافته و بلغ الغاية في صعوده على قدر قوّته و نفرته من الحرارة فكان منه الفلك الأعلى و هو فلك زحل، ثمّ حرّكت النار الماء أيضا فطلع منه دخان هو أقلّ لطفا ممّا صعد

أوّلا و أضعف فلمّا صار بخارا سما العلوّ بجوهره و الطاقته و لم يبلغ فلك زحل لعلّة لطافته عمّا قبله فكان منه الفلك الثاني و هو فلك المشتري و هكذا بيّن في طلوع الدخان مرّة مرّة و تكون الأفلاك الخمسة الباقية عنه. فهذه الإشارات كلّها متطابقة على أنّ الماء هو الأصل الّذي تكوّنت عنه السماوات و الأرض و ذلك مطابق لكلامه عليه السّلام.

 

البحث الثالث

قوله و أدام مربّها

قال قطب الدين الراوندي: أي أدام جمع الريح للماء و تسويتها له. قلت: تقرير ذلك أنّ الماء لمّا كان مقرّ الريح الّذي انتهت إليه و عملت في تحريكه كان ذلك هو مربَّها أي الموضع الّذي لزمته و أقامت به، فقوله و أدام مربّها أي أدام حركة الماء و اضطرابه، و محتضه و هو محلّ إربابها و يحتمل أن يكون قد استعمل اسم الموضع استعمال المصدر، و التقدير أدام إربابها أي ملازمتها لتحريك الماء و أيضا فيحتمل أن يكون قد شبّهها في كونها سببا للآثار الخيريّة و في كثرتها و قوّتها بالديمة فكان محلّها و مقرّها الّذي تصل إليه و تقيم بها قد أدامه اللّه أى سقاه اللّه ديمة، و قوله و أبعد منشأها قال: أي أبعد ارتفاعها قلت: المنشأ محلّ النشو و هو الموضع الّذي أنشأها منه فلا يفهم منه الارتفاع اللهمّ إلّا على تقدير استعماله لموضع الإنشاء استعمال المصدر أي بلغ بإنشائها غاية بعيدة، و الأقرب أنّه يشير إلى أنّها نشأت من مبدء بعيد و لا يمكن الوقوف على أوّله و هو قدرة الحقّ سبحانه وجوده، و قوله و أمرها. قال-  رحمه اللّه- : أمر المؤكلّين بها من الملائكة بضرب الماء بعضه بعضا و تحريكه كمحض اللبن للزبد و أطلق الأمر عليها مجازا لأنّ الحكيم لا يأمر الجماد. قلت: بل حمله على أمر الريح أولى لأنّ في التقدير الّذي ذكره يكون التجوّز في لفظ الأمر لعدم القول المخصوص هناك فيحمل على قهر ملائكتها و في نسبته الى الريح أيضا مجاز إذا اريد ملائكتها أمّا إذا حملناه على ظاهره كان التجوّز في لفظ الأمر دون النسبة فكان أولى، و قوله مخض السقاء و عصفها بالفضاء أي مثل مخض السقاء و مثل عصفها فحذف المضاف الّذي هو صفة المصدر و أقام المضاف إليه مقامه فلذلك نصبه نصب المصادر، و اعلم أنّ اللام في قوله بتصفيق الماء للمعهود السابق في قوله ماء متلاطما لأنّ المائين واحد، و مثل هذا التكرار جاز في الكلام الفصيح كقوله تعالى «كَما أَرْسَلْنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ»

 

فإن قلت: إنّ الأجواء و الأرجاء و سكائك‏ الهواء امور عدميّة فكيف يصحّ نسبتها إلى الإنشاء عن القدرة. قلت: إنّ هذه الأشياء عبارة عن الخلاء و الأحياز، و الخلاف في أنّ الخلاء و الحيّز و المكان هل هي امور وجوديّة أو عدميّة مشهور فإن كانت وجوديّة كانت نسبتها إلى القدرة ظاهرة، و يكون معنى فتقها و شقّها و نسبتها إلى القدرة تقديرها و جعلها أحيازا للماء و مقرّا له لأنّه لمّا كان تمييزها عن مطلق الهواء و الخلاء بإيحاد اللّه فيها الماء صار تعيّنها له بسبب قدرته تعالى فيصحّ نسبتها إلى إنشائه فكأنّه سبحانه شقّها و فتقها بحصول الجسم فيها، روي أنّ زرارة و هشاما اختلفا في الهواء أهو مخلوق أم لا فرفع بعض موالي الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام إليه ذلك و قال: إنّي متحيّر و أرى أصحابنا يختلفون فيه فقال عليه السّلام: ليس هذا بخلاف يؤدّي إلى الكفر و الضلال، و اعلم أنّه عليه السّلام إنّما أعرض عن بيان ذلك لأنّ أولياء اللّه الموكّلين بإيضاح سبيله و تثبيت خلقه على صراط المستقيم لا يلتفتون بالذات إلّا إلى أحد أمرين، أحدهما ما يؤدّي إلى الهدى أداء ظاهرا واضحا، و الثاني ما يصرف عن الضلال و يردّ إلى سواء السبيل، و بيان أنّ الهواء مخلوق أو غير مخلوق لا يفيد كثير فائدة في أمر المعاد فلا يكون الجهل به ممّا يضرّ في ذلك فكان ترك بيانه و الاشتغال بما هو أهمّ منه أولى.

 

البحث الرابع

أنّ القرآن الكريم نطق بأنّ السماء تكوّنت من الدخان

و كلامه عليه السّلام ناطق بأنّها تكوّنت من الزبد و ما ورد في الخبر أنّ ذلك الزبد هو الّذي تكوّنت منه الأرض فلا بدّ من بيان وجه الجمع بين هذه الإشارات. فنقول: وجه الجمع بين كلامه عليه السّلام و بين لفظ القرآن الكريم ما ذكره الباقر عليه السّلام و هو قوله فيخرج من ذلك الموج و الزبد دخان ساطع من وسطه من غير نار فخلق منه السماء و لا شكّ أنّ القرآن الكريم لا يريد بلفظ الدخان حقيقته لأنّ ذلك إنّما يكون عن النار و اتّفق المفسّرون على أنّ هذا الدخان لم يكن عن نار بل عن تنفّس الماء و تبخيره بسبب تموّجه، فهو إذن استعارة للبخار الصاعد من الماء و إذا كان كذلك فنقول: إنّ كلامه عليه السّلام مطابق للفظ القرآن الكريم و ذلك أنّ الزبد بخار يتصاعد على وجه الماء عن حرارة حركته إلّا أنّه ما دامت الكثافة غالبة عليه و هو باق على وجه الماء لم ينفصل فإنّه يخصّ باسم الزبد و ما لطف و غلبت عليه الأجزاء الهوائيّة فانفصل خصّ باسم البخار، و إذا كان الزبد بخارا و البخار هو المراد بالدخان‏

 

في القرآن الكريم كان مقصده و مقصد القرآن واحد فكان البخار المنفصل هو الّذي تكوّنت عنه السماوات و الّذي لم ينفصل هو الّذي تكوّنت عنه الأرض و هو الزبد، و أمّا وجه المشابهة بين الدخان و البخار الّذي صحّت لأجله استعارة لفظه فهو أمران: أحدهما حسّي و هو الصورة المشاهدة من الدخان و البخار حتّى لا يكاد يفرق بينهما في الحسّ البصري، و الثاني معنويّ و هو كون البخار أجزاء مائيّة خالطت الهواء بسبب لطافتها عن حرارة الحركة كما أنّ الدخان كذلك و لكن عن حرارة النار فإنّ الدخان أيضا أجزاء مائيّة انفصلت من جرم المحترق بسبب لطافتها عن حرّ النار فكان الاختلاف بينهما ليس إلّا بالسبب فلذلك صحّ استعارة اسم أحدهما للآخر و باللّه التوفيق.

البحث الخامس

قال المتكلّمون: إنّ هذه الظواهر من القرآن و كلام عليّ عليه السّلام لمّا دلّت على ما دلّت عليه من كون الماء أصلا تكوّنت عنه السماوات و الأرض و غير ذلك و ثبت أنّ الترتيب المذكور في المخلوقات أمر ممكن في نفسه و ثبت أنّ الباري تعالى فاعل مختار قادر على جميع الممكنات ثمّ لم يقم عندنا دليل عقليّ يمنع من أجزاء هذه الظواهر على ما دلّت عليه بظاهرها وجب علينا القول بمقتضي تلك الظواهر و لا حاجة بنا إلى التأويل.

لا يقال: إنّ جمهور المتكلّمين يتّفقون على إثبات الجواهر الفرد و أنّ الأجسام مركّبة عنه فبعضهم يقول: إنّ الجوهر كانت ثابتة في عدمها و الفاعل المختار كساها صفة التأليف و الوجود، و بعضهم و إن منع ثبوتها في العدم إلّا أنّه يقول: إنّ اللّه تعالى يوجد أوّلا تلك الجواهر ثمّ يؤلّف بينها فيوجد منها الأجسام فكيف يقال إنّ السماوات و الأرض تكوّنت من الماء لأنّا نقول: هذا ظاهر لأنّه يجوز أن يخلق اللّه تعالى أوّل الأجسام من تلك الجواهر ثمّ تكوّن باقي الأجسام عن الأجسام الأول، و أمّا الحكماء فلمّا لم يكن الترتيب الّذي اقتضته هذه الظواهر في تكوين الأجسام موافقا لمقتضي أدلّتهم لتأخّر وجود العناصر عندهم عن وجود السماوات لا جرم عدل بعضهم إلى تأويلها توفيقا بينها و بين مقتضي أدلّتهم و ذكروا من التأويل وجهين:

الوجه الأوّل

–  قالوا: العالم عالمان عالم يسمّى عالم الأمر و هو عالم الملائكة الروحانيّة و المجرّدات، و عالم يسمّى عالم الخلق و هو عالم الجسمانيّة و على ذلك حملوا قوله تعالى‏

«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» ثمّ قالوا: ما من موجود في عالم الجسمانيّة إلّا و له نسبة إلى عالم الروحانيّة و هو مثال له بوجه ما و لو لا ذلك لأنسدّ طريق الترقّي إلى العالم الروحانيّ و تعذّر السفر إلى الحضرة الإلهيّة، ثمّ كان من بحثهم أن بيّنوا أنّ قدرة اللّه سبحانه ترجع إلى كون ذاته عاملة بالكلّ علما هو مبدء الكلّ مبدئيّة بالذات غير مأخوذة عن شي‏ء و لا متوقّفة على وجود شي‏ء، ثمّ لمّا دلّ دليلهم على أنّ رتبة صدور عالم الأمر أعلى في الوجود و أسبق نسبة إلى قدرة المبدع الأوّل من عالم الخلق إذ كان صدور عالم الخلق إنّما هو بواسطة عالم الأمر كان اعتبار إيجاد عالم الأمر عن القدرة أمرا أوّلا و اعتبار إيجاد عالم الخلق عنها أمرا ثانيا متأخّرا عنه فعند ذلك قالوا: إنّ الّذي أشار إليه عليه السّلام هاهنا موافق لما أصّلناه و متناسب له، و ذلك أنّه أشار بالأجواء و الأرجاء و سكائك الهواء إلى سلسلة وجود الملائكة المسمّاة بالعقول الفعّالة على مراتبها متنازلة، و بإنشائها إلى إيجادها، و و بفتقها و شقّها إلى وجودها، و بالماء المتلاطم المتراكم إلى الكمالات الّتي وجبت عنه سبحانه و بإجرائها فيها إلى افاضته على كلّ واحد منها ما استحقّه بواسطة ما قبله، و بالريح العاصف إلى الأمر الأوّل الّذي أشرنا إليه عن القدرة، و أمّا وجه المناسبة بين هذه الامور و بين ما ذكره فأمّا في التعبير عن العقول بالأرجاء و الأجواء و السكائك فمن جهة أنّها قابلة للفيض و الكمالات عن مبدئها الأوّل كما أنّ الأرجاء و الأجواء و سكائك الهواء قابلة للماء عمّا يخرج عنه من سحاب أو ينبوع، و أمّا في تشبيه الفيض بالماء فلأنّه لمّا لم يكن بحيث يتوقّف إلّا على تمام القابل فحيث وجد سال بطبعه إليه كذلك الفيض الإلهيّ لا يتوقّف صدوره عن واهبه إلّا على تمام القابل لكون الفاعل تامّ الفاعليّة في ذاته، و لأنّ الماء لمّا كان به قوام كلّ حيّ جسمانيّ في عالم الكون كذلك الفيض الإلهيّ هو مبدء قوام كلّ موجود قالوا: و مثل هذا التشبيه جاء في القرآن الكريم قال جمهور المفسّرين و منهم ابن عباس-  رضى اللّه عنه-  في قوله تعالى «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها»«»: إنّ المراد بالماء هو العلم، و بالأودية قلوب العباد، و بإنزاله إفاضته على القلوب، و بقوله فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها أنّ كلّ قلب منها يصل إليه مقدار ما يستحقّه و يقبله.

 

قالوا: و ذلك أنّ اللّه سبحانه أنزل من سماء الكبرياء و الجلالة   و الإحسان ماء بيان القرآن و علومه على قلوب العباد لأنّ القلوب يستقرّ فيها أنوار علوم القرآن كما أنّ الأودية يستّقر فيها المياه النازلة من السماء و كما أنّ كلّ واد فإنّما يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته و ضيقه فكذلك هاهنا كلّ قلب إنّما يحصل فيه أنوار علم القرآن ما يليق بذلك القلب من طهارته و خبثه و قوّة فهمه و بصره و تمام التشبيه في الآية مذكور في التفاسير، و أمّا تشييه الأمر الأوّل بالريح العاصفة فلأنّ وقوعه لمّا كان دفعة غير منسوب إلى زمان يتوقّف عليه كان أنسب ما يشبه به من الأجسام في السرعة و النفوذ و هو الريح العاصف لكونها أسرع الأجسام حركة و لذلك أكّدها بوصف العصف تقريرا للسرعة التامّة و ما أمرنا إلّا واحدة كلمح بالبصر و بوصف الزعزعه و القصف تحقيقا للقوّة العالية و الشدّة الشديدة، و أمّا أمره لها بردّه و تسليطها على شدّة فلأنّه لمّا صوّرها بصورة الريح ساغ أن يقال: إنّه أمرها و هو عبارة عن نسبة ذلك الأمر إلى ذاته تعالى النسبة الّتي تحدثها عقولنا الضعيفة، و فائدة الردّ و الشدّ هاهنا ضبط أمره سبحانه على وفق حكمته الكمالات الفائضة عنه على كلّ مورد مورد بحسب نوعه المستلزم لردّه عمّن ليس له ذلك الكمال المعيّن، و أمّا قرنها إلى حدّه فإشارة إلى إحاطة أمره سبحانه بما لتلك القوابل من الكمالات الفائضة و اشتماله عليها، و قوله الهواء من تحتها فتيق إشارة إلى قبول القوابل المذكورة، و الماء من فوقها دفيق إشارة إلى ما يحمله أمر اللّه من الفيض المذكور و يلقيه على تلك القوابل و كلّ ذلك بترتيب عقليّ لأزمان تلحقه فيعقل فيه التراخي، و أمّا الريح الثانية فأشار بها عليه السّلام إلى الأمر الثاني و وصفها باعتقام مهبّها إشارة إلى عقد ذلك الأمر و إيقاعه على وفق الحكمة الإلهيّة و إلى عدم مانع لجريان ذلك الأمر، و بإدامة مربّها إلى إفاضة مقارّ ذلك الأمر فكأنّه شبّه الفيض الصادر بهذا الأمر على هيولى الأجسام الفلكيّة بالديمة الهاطلة على الأماكن الّتي يجتمع بها و يقيم، أو أراد أنّ المحالّ القابلة لذلك الأمر المستلزمه له ذاتيّة دائمة، و أشار بعصف مجراها إلى سرعة ذلك الأمر كما وصف به الريح الاولى، و ببعد منشأها إلى عدم أوّليّة مبدؤه، و بأمره لهذه الريح إلى نسبة ذلك الأمر إلى ذاته كما مرّ، و بتصفيق الماء الزخّار و إثارة أمواج البحار إلى نسبة فيضان صور الأفلاك و كمالاتها إلى أمره سبحانه

بواسطة تلك الكمالات الفعليّة للملائكة و أنّها غير مستقلّة بإيجاد شي‏ء بل على شرائط بعضها لبعض و لغيرها، و بالبخار إلى تلك الملائكة و بمخضها له مخض السقاء و عصفها به كعصفها بالفضاء و ترديد بعضه على بعض و إلى قوّة أمر اللّه عليها و تصريفها على حسب علمه بنظام الكلّ و تقدير ما لكلّ فلك من الكمالات في ذات كلّ مبدء من تلك المبادي‏ء، و قوله حتّى عبّ عبابه إشارة إلى بلوغ كمالات تلك الملائكة الحاصلة لها بالفعل عن أمر اللّه إلى رتبة أن يعطى بواسطتها الفيض لغيرها، و كذلك قوله ورمى بالزبد ركامه إشارة إلى إعطاء صور الأفلاك و كمالاتها بواسطتها، و لمّا كانت صور الأفلاك محتاجة في قيامها في الوجود إلى الهيولى كانت نسبتها إلى الملائكة المجرّدة نسبة أخسّ إلى أشرف فبالحريّ أن اطلق عليها اسم الزبد و لأنّ هذه الصور حاصلة من تلك الكمالات العقليّة و فائضة عنها كما أنّ الزبد منفصل عن الماء و مكوّن عنه فتشابها، و أمّا رفعه في أهواء منفتق و جوّ منفهق فإشارة إلى إلحاق صور الأفلاك بموادّها المستعدّة أو إلى تخصيص وجودات الأفلاك بأحيازها و رفعها إليها، و قوله فسوّى عنه سبع سماوات إشارة إلى كمال الأفلاك بما هى عليه من الوضع و التعديل و الترتيب، و أمّا تخصيصه بالسبع فلأنّ الفلكين الباقيين في الشريعة معروفان باسمين آخرين و هما العرش و الكرسيّ، ثمّ قالوا: و إلى هذا أشار الحكماء السابقون أيضا فإنّ مرادتا ليس الملطي بالعنصر الأوّل هو المبدع الأوّل و كونه هو الماء لأنّ المبدع الأوّل واسطة في باقي الموجودات و فيه صورها و عنه تفاض كمالاتها كما أنّ بالماء قوام كلّ حيّ عنصريّ و بواسطته تكوّن و كذلك سرّ ما جاء في التوراة فإنّ المراد بالجوهر المخلوق للّه أوّلا هو المبدع الأوّل و كونه تعالى نظر إليه نظر الهيبة، و ذوبان أجزائه إشارة إلى صدور الفيض عنه بأمر اللّه سبحانه و قدرته، و الزبد الّذي تكوّنت منه الأرض و الدخان الّذي تكوّنت منه السماوات إشارة إلى كمالات السماوات و الأرض و صورها الصادرة عن كمالات عللها صدور البخار و الزبد عن الماء و كلّ هذا تجوّزات و استعارات يلاحظ في تفاوت حسنها قرب المناسبة و بعدها.

 

الوجه الثاني 

 

–  قالوا: يحتمل أن يكون مراده بالريح الأولي هو العقل الأوّل فإنّه الحامل للفيض الإلهىّ إلى ما بعده و هو المحيط بصور الموجودات، و يؤيّد ذلك قوله الهواء من تحتها فتيق و الماء من فوقها دفيق فإنّ الهواء إشارة إلى القوابل بعده و بواسطته، و بالماء إشارة إلى الفيض الصادر عن الأوّل سبحانه فإنّ التدفّق لمّا كان مستلزما لسرعة حركة الماء و جريانه عبر به عن الفيض الّذي لا توقّف فيه، و الريح الثانية عن العقل الثاني فإنّه هو الواسطة في إفاضة أنوار اللّه سبحانه على ما بعده من العقول الّتي بواسطتها تصوّر السماوات السبع، و وصف الريحين بالعصف و القصف إشارة إلى ما يخصّ هذين المبدئين من القدرة، و أمره للريح الثانية بتصفيق الماء الزخّار و إثارة موج البحار إشارة إلى تحريك العقل الثاني للعقول الّتي بعده إلى إفاضة كمالات الأفلاك بأمر اللّه تعالى و باقي التأويل كما في التأويل الأوّل.

 

قوله جعل سفلاهنّ مفوفا إلى قوله و سقف سائر و رقيم مائر.

أقول: هاهنا أبحاث.

البحث الأوّل-  هذا الكلام يجري مجرى الشرح و التفسير لقوله فسوّى

لانّ التسوية عبارة عن التعديل و الوضع و الهيئة الّتي عليها السماوات إنّما فيهنّ، و الغرض بهذا التفصيل تنبيه الأذهان الغافلة عن حكمة الصانع سبحانه في ملكوت السماوات و بدائع صنعه و ضروب نعمه ليتذكّروا نعمة ربّهم فيواظبوا على عبادته و حمده على تمام ذلك الإحسان كما قال تعالى «لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ»«» فإنّ كلّ هذه نعم على العباد و هى إن كان فيها ما يبعد عن الأذهان الضعيفة كونه نعمة على العباد كحركات السماوات مثلا فإنّي أحسب أنّ كثيرا من الغافلين يقولون: و ما فائدة حركة السماء في حقّنا لكنّه إذا انتبهت أذهانهم لذلك علمت أنّه لو لا تلك الحركة لم يحصل شي‏ء من المركّبات في هذا العالم أصلا فلم يكن العبد في نفسه فضلا عمّا يجرى عليه من النعم الخارجة عنه إلّا أنّ تلك الحركة قد تستلزم نعمة هى أقرب إلى العبد من غيرها كالاستضاءة بنور الكواكب و الاهتداء بها في ظلمات البرّ و البحر و إعدادها الأبدان للصحّة و نحو ذلك، و قد يستلزم نعما اخرى إلى أن يتّصل بالعبد كإعدادها الأرض مثلا لحصول المركّبات الّتي منها قوام حياة العبد، و اعلم أنّ اللّه‏ سبحانه ذكر أمر السماوات في كتابه في مواضع كثيرة، و لا شكّ أن إكثاره من ذكرها دليل عظم شأنها و على أنّ له سبحانه فيها أسرار لا تصل إليها عقول البشر إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ قوله عليه السّلام: و علياهنّ سقفا محفوظا كقوله تعالى «وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً»«» و قوله تعالى «وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ»«» و قوله «وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ»«» و قوله: و سمكا مرفوعا بغير عمد تدعمها و لا دسار ينتظمها كقوله تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها»«» و قوله «وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ»«» و قوله: ثمّ زيّنها بزينة الكواكب و ضياء الثواقب كقوله تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» و قوله: فأجرى فيها سراجا مستطيرا و قمرا منيرا كقوله «وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً»«»

البحث الثاني–  في هذا الفصل استعارات:

الأولى قوله: جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا. استعار لفظ الموج للسمكة لما بينهما من المشابهة في العلوّ و الارتفاع و ما يتوهّم من اللون، و قال بعض الشارحين: أراد أنّها كانت في الاولى موجا ثمّ عقدها و كفّها أي منعها من السقوط، و الثانية قوله: سقفا محفوظا استعار لفظ السقف من البيت للسماء في الأصل لما بينهما من المشابهة في الارتفاع و الإحاطة ثمّ كثر ذلك الاستعمال حتّى صار اسما من أسماء السماء و يحتمل أن لا يكون منقولا، و أراد بقوله محفوظا أى من الشياطين قال ابن عبّاس-  رضي اللّه عنه- : كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات و كانوا يدخلونها و يختبرون أخبارها فلمّا ولد عيسى عليه السّلام منعوا من ثلاث سماوات فلمّا ولد محمّد صلى اللّه عليه و آله منعوا من السماوات كلّها فما منهم أحد استرق السمع إلّا رمى بشهاب فلذلك معنى قوله تعالى «وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ» و سنشير إلى سرّ ذلك إنشاء اللّه تعالى.

 

قوله بغير عمد تدعمها و لا دسار ينتظمها.

أقول: لمّا كان مقتضى قدرة العبد و غايتها إذا تمكّن من بناء بيت و إنشاء سقف أنّه لا بدّ له من أساطين و عمد يقوم عليها ذلك السقف و روابط تشدّ بعضه إلى بعض و كانت قدرة الحقّ سبحانه و تعالى أجلّ و أعلى من الحاجة إلى أمثال ذلك أراد أن يشير إلى عظمته سبحانه و قوّة قهره بسلب صفات المخلوقين عنه و شرائط آثارهم عن قدرته و المعنى أنّ هذه الأجرام العظيمة بقيت واقعة في الجوّ العالي و يستحيل أن يكون وقوفها هناك لذواتها لأنّ الأجسام متساوية في الجسميّة فلو وجب حصول جسم في حيّز لوجب حصول كلّ جسم في ذلك الحيّز و لأنّ الأحياز و الخلاء متشابهة فلا اختصاص فيه لموضوع دون آخر و لا يجوز أن يقال: إنّها معلّقة بجسم آخر و إلّا لكان الكلام في وقوف ذلك الجسم في الجوّ كالكلام في الأوّل و يلزم التسلسل فلم يبق إلّا أن يقال: إنّ وقوفها بقدرة الصانع الحكيم القادر المختار، و إن قلت: قوله تعالى تَرَوْنَها يفهم منه أنّ هناك عمد و لكنّها غير مرئيّة لنا و ذلك ينافي سلبه عليه السّلام للعمد مطلقا قلت: الجواب عنه من وجوه.

أحدها أنّه يحتمل أن يكون قوله تَرَوْنَها كلاما مستأنفا و التقدير غير عمد و أنتم ترونها كذلك. الثاني يحتمل أن يكون في الكلام تقديم و تأخير كما نقل عن الحسن البصريّ أنّه قال: التقدير ترونها بغير عمد. الثالث و هو الألطف ما ذكره الإمام فخر الدين-  رحمه اللّه-  فقال: إنّ العماد هو ما يعمد عليه و السماوات معتمدة و قائمة على قدرة اللّه تعالى فكانت هي العمد الّتي لا ترى و ذلك لا ينافي كلامه عليه السّلام الرابع و هو الأحقّ ما ذكرته و هو أنّه قد ثبت في اصول الفقه أنّ تخصيص الشي‏ء بحكم لا يدلّ على أنّ حكم غيره بخلاف ذلك الحكم فتخصيص العمد المرئيّة للسماوات بالسلب لا يستلزم ثبوت العمد غير المرئيّة لها. الثالثة الثواقب استعارة في الأصل للشهب عن الأجسام الّتي يثقب جسما آخر و ينفذ فيه، و وجه المشابهة الّتي لأجلها سمّى الشهاب ثاقبا أنّه يثقب بنوره الهواء كما يثقب جسم جسما لكنّه لكثرة الاستعمال فيه صار إطلاقه عليه حقيقة أو قريبا منها. الرابعة قوله: سراجا مستطيرا استعارة للشمس و وجه المشابهة أنّ‏ السراج القويّ المستطير لمّا كان من شأنه أن يضي‏ء ما حوله و ينتشر في جميع نواحي البيت و يهتدي به من الظلمة كذلك الشمس مضيئة لهذا العالم و يهتدي بها المتصرّف فيه. الخامسة رقيم استعارة أصليّة للفلك تشبيها له باللوح المرقوم فيه ثمّ كثر استعمال هذا اللفظ في الفلك حتّى صار اسما من أسمائه.

البحث الثالث-  اعلم أنّ هذه الاستعارات تستلزم ملاحظة اخرى

و هو تشبيه هذا العالم بأسره ببيت واحد فالسماء كقبّة خضراء نصبت على الأرض و جعلت سقفا محفوظا محجوبا عن أن تصل إليه مردة الشياطين كما تحمى غرف البيت بالسهام و الخراب عن مردة اللصوص، ثمّ هو مع غاية علوّه و ارتفاعه غير محمول بعمد يدعمه و لا منظوم بدسار يشدّه بل بقدرة صانعه و مبدعه، ثمّ إنّ القبّة متزيّنة بالكواكب و ضيائها الّذي هو أحسن الزينة و أكملها فلو لم يحصل صور الكواكب في الفلك ليبقى سطحا مظلما فلمّا خلق اللّه تعالى هذه الكواكب المشرقة في سطحه لا جرم استنار و ازدان بذلك النور و الضوء كما قال ابن عبّاس في قوله بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ أي بضوئها و أنت إذا تأمّلت هذه الكواكب المشرقة المضيئة في سطح الفلك وجدتها عند النظر إليها كجواهر مرصوصة في سطح من زمرّد على أوضاع اقتضتها الحكمة أو كما قال:

 

و كأنّ أجرام النجوم لوامعا            درر نثرن على بساط أزرق‏

 

ثمّ جعل من جملتها كوكبين هما أعظم الكواكب جرما و أشدّها إشراقا و أتمّها ضياء مع اشتمالهما على تمام الحسن و الزينة جعل أحدهما ضياء للنهار و الآخر ضياء للّيل ثمّ لم يجعل ذلك السقف ساكنا بل جعله متحرّكا ليكون أثر صنعه فيه أظهر و صنع حكمته فيه أبدع و لم يجعل ذلك السقف طبقا واحدا بل طباقا أسكن في كلّ طبق ملاء من جنوده و خواصّ ملكه الّذين ضربت بينهم و بين من دونهم حجب العزّة و أستار القدرة فلا يستطيع أحد أن ينظر إليهم فضلا عن أن يتشبّه بمالكهم و خالقهم سبحانه و تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا هذا هو الحكمة الظاهرة الّتي يتنبّه لها من له أدنى فطنة فيحصل منها عبرة شاملة لأصناف الخلق بحيث إذا لاحظوا مع جزئيّ من جزئيّات آثار هذه القدرة أيّ أثر كان استعظم و استحسن من أيّ ملك فرض من ملوك الدنيا لم يكن بينهما من المناسبة إلّا خيال ضعيف، فإنّ أيّ ملك فرض إذا همّ بوضع بنيان و بالغ في تحسينه و تزريق سقوفه و ترصيعها بأنواع‏  الجواهر و تزيينه بالأوضاع المعجبة لأبناء نوعه و بذل فيه جهده و استفرغ فيه فكره لم يكن غايته إلّا أن يلحظ ممّا عمله نسبة خياليّة بعيدة إلى ظاهر هذا الصنع العجيب و الترتيب اللطيف هذا مع ما اشتمل عليه من الحكم الخفيّة و الأسرار الإلهيّة الّتي يعجز القوى البشريّة عن إدراكها و يحتاج فيها لاح منها إلى لطف قريحة و توقدّ ذهن فسبحان الّذي بيده ملكوت كلّ شي‏ء و إليه ترجعون فانظر أيّها المستبصر بعين بصيرتك المناسبة بين بيتك الّتي تبنيه و هذا البيت العظيم و قس سراجك إلى سراجه و زينتك إلى زينته ثمّ لاحظ مع ذلك أنّه إنّما خلقه لك و لأبناء نوعك ليكون فيه و منه قوام حياتكم و وجودكم و لتستدلّوا بملكوت ما خلق على كمال قدرته و حكمته لترجعوا بذلك إلى حضرته طاهرين من الرجس متشبّهين بسكّان سقف هذا البيت و غرفه لا أنّ له حاجة إليه فإنّه الغنيّ المطلق الّذي لا حاجة به إلى شي‏ء، و العجب من الإنسان أنّه ربما رأى خطّا حسنا أو تزريقا على حائط فلا يزال يتعجّب من حسنه و حذق صانعه ثمّ يرى هذا الصنع العجيب و الإبداع اللطيف فلا يدهشه عظمة صانعه و قدرته و لا يحيّره جلال مبدعه و حكمته.

البحث الرابع

الشرع و البرهان قد تطابقا على أنّ هاهنا تسع أفلاك بعضها فوق بعض

فمنها سبع سماوات ثمّ الكرسيّ و العرش بعبارة الناموس الإلهي ثمّ أكثرها يشتمل على الكواكب و هي أجرام نورانيّة مستديرة مصمتة مركوزة في أجرام الأفلاك فأوّل الأفلاك ممّا يلينا ليس فيه من الكواكب إلّا القمر، و ليس في الثاني إلّا عطارد، و ليس في الثالث إلّا الزهرة، و ليس في الرابع إلّا الشمس، و ليس في الخامس إلّا المريّخ، و ليس في السادس إلّا المشتري، و ليس في السابع إلّا زحل، و هذه هي المسمّاة بالكواكب السبعة السيارة و ما سواها من الكواكب فيشتمل عليها الفلك الثامن، و أمّا التاسع فخال عن الكواكب و إن كان فليس بمدرك لنا، ثمّ قد دلّ البرهان على أنّ الأفلاك هي المتحرّكة بما فيها من الكواكب و أنّ تلك الحركة دوريّة و كان كلامه عليه السّلام مطابقا لذلك حيث قال: في فلك دائر و سقف سائر و رقيم مائر. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ اللّه سبحانه خلق الموجودات كلّها على أتمّ أنحاء الوجود و أكمله فجميع الموجودات من الأفلاك و مقاديرها و أعدادها و حركاتها المختلفة و هيئاتها و هيئة الأرض و ما عليها من حيوان و نبات و معدن و نحوه إنّما وجد على الوجه الّذي وجد عليه لحصول النظام الكلّي للعالم و لو كان بخلاف ما عليه لكان شرّا، و ناقصا فخلق الأفلاك و الكواكب و ما هي عليه من الحركات و الأوضاع و جعلها أسبابا لحدوث الحوادث في عالم الكون و الفساد بواسطة كيفيّات تحدثها فيها من حرارة و برودة و رطوبة و يبوسة يوجب ذلك امتزاج بعضها ببعض امتزاجات مختلفة و مستعدّة لقبول صور مختلفة من حيوان و نبات و معدن، و أظهر الكواكب تأثيرا هو الشمس و القمر فإنّ بحركة الشمس اليوميّة يحصل النهار و الليل فالنهار هو زمان طلوعها يكون زمان التكسب و الطلب للمعاش الّذي به يحصل قوام الحياة و يكون سببا إلى السعادة الاخرويّة ثمّ إنّها في مدّة حركتها اليوميّة لا تزال تدور فتغشى جهة بعد جهة حتّى تنتهى إلى المغرب و قد أخذت كلّ جهة من الجهات حظّا من الإشراق و الاستعداد به، و أمّا الليل و هو زمان غروبها فإنّ فيه هدوء الخلق و قرارهم الّذي به تحصل الراحة و انبعات القوّة الهاضمة و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء كما قال تعالى «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً»«» «وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً»«» ثمّ كانت الشمس من جهة ضوئها كسراج يرتفع لأهل كلّ بيت بمقدار حاجتهم ثمّ يرفع عنهم فصار النور و الظلمة على تضادّها متظاهرين على ما فيه مصلحة هذا العالم، و أمّا بحسب حركاتها الجنوبيّة و الشماليّة فقد جعل سبحانه ذلك سببا لإقامة الفصول الأربعة ففي الشتاء تغور الحرارة و النبات فيتولّد منها موادّ البحار و يكثر السحاب و الأمطار و يقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزيّة في البواطن، و في الربيع تتحرّك الطبائع و تظهر الموادّ المتولدّة في الشتاء فيطلع النبات و ينوّر الشجر و يهيجّ الحيوان للفساد، و في الصيف يحتدم الهواء فينضج الثمار و تنحلّ فضول الأبدان و يجفّ وجه الأرض و يتهيّي‏ء للبناء و العمارة، و في الحزيف يظهر اليبس و البرد فينتقل فيه الأبدان على التدريج إلى الشتاء فإنّه لو وقع الانتقال دفعة لهلكت و فسدت، و أمّا القمر فإنّ بحركته تحصل الشهور و الأعوام كما قال سبحانه «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ»«» فيتمكّن العبد بالحساب من ترتيب معاشه بالزراعة و الحراثة و إعداد مهمّات الشتاء و الصيف، و باختلاف حاله في زيادته و نقصانه يختلف أحوال الرطوبات في هذا العالم، فلو أنّه سبحانه خلق الأفلاك دون الكواكب لكان إن خلقها مظلما لم يحصل ما ذكرنا من اختلاف الفصول و الحرّ و البرد فلم يتمّ في هذا العالم ما كانت أسبابا فيه من الاستعدادات و لم يتميّز لها فصل عن فصل كما قال تعالى «وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ، هُمْ يَهْتَدُونَ»«» و قوله: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ و ان خلقها مضيئة تشابه أثرها في الأمكنة و الأزمنة. بل خلق فيها الكواكب و لم يخلقها ساكنة و إلّا لأفرط أثرها في موضع بعينه فيفسد استعداده و يخلو موضع آخر عن التأثيرات، و لمّا تميزّت فصول السنة و لمّا حصل البرد المحتاج إليه و الحرّ المحتاج إليه فلم يتمّ نشو النبات و الحيوان، و على الجملة فالنظام الكليّ لا يحصل إلّا بهذا الوجه فهو أكمل أنحاء الوجود كلّ ذلك يدلّ على كمال رحمة اللّه بخلقه و شمول عنايته لهم إذ كان جميع ما ذكرناه من المنافع الحاصلة في هذا العالم مستندة إلى علوّ تدبيره و كمال حكمته كما قال تعالى «وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ«» لا يقال: السؤال علي ما ذكرتم من وجهين أحدهما أنّ الترتيب الّذي ذكرتموه في تخصيص كلّ فلك ببعض الكواكب يشكل بقوله تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ»«» و قوله تعالى «وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ»«» الثاني أنّ الشهب الثواقب الّتي جعلت رجوما للشياطين على ما نطق به القرآن الكريم إمّا أن يكون من الكواكب الّتي زيّنت بها السماء أو لا تكون، و الأوّل باطل لأنّ هذه الشهب تبطل بالانقضاض و تضمحلّ فكان يلزم من ذلك على مرور الزمان فناء الكواكب و نقصان أعدادها، و معلوم أنّه لم يوجد ذلك النقصان البتّة، و الثاني أنّه يشكل بقوله تعالى «وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» فإنّه نصّ على كون الشهب الّتي جعلت رجوما للشياطين هى تلك المصابيح و الكواكب الّتي زيّنت بها السماء لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّه لا تنافي بين ظاهر الآية و بين ما ذكرناه، و ذلك أنّ السماء الدنيا لمّا كانت لا تحجب ضوء الكواكب و كانت أوهام الخلق حاكمة عند النظر إلى السماء و مشاهدة الكواكب بكونها مزيّنة بها لا جرم صحّ قوله تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» لأنّ الزينة بها إنّما هى بالنسبة إلي أوهام الخلق للسماء الدنيا، و عن الثاني أنّا نقول: هذه الشهب غير تلك الثواتب الباقية فأمّا قوله: «وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» فنقول: كلّ مضي‏ء حصل في الجوّ العالى أو في السماء فهو مصباح لأهل الأرض إلّا أنّ تلك المصابيح منها باقية على طول الزمان و هو الثوابت و منها متغيّرة و هي هذه الشهب الّتي يحدثها اللّه تعالى و يجعلها رجوما للشياطين و يصدق عليها أنّها زينة للسماء أيضا بالنسبة إلى أوهامنا و باللّه التوفيق.

 

قوله ثمّ فتق ما بين السماوات و العلى إلى قوله و لا يشيرون إليه بالنظائر

قوله ثمّ فتق ما بين السماوات و العلى إلى قوله و لا يشيرون إليه بالنظائر، و فيه أبحاث.

البحث الأوّل-  هذا الفصل أيضا من تمام التفسير

لقوله فسوّى منه سبع سماوات إذ كان ما أشار إليه هاهنا من فتق السماوات إلى طبقاتها و إسكان كلّ طبقة منها ملاء معيّنا من ملائكته هو من تمام التسوية و التعديل لعالم السماوات فإن قلت: لم أخّر ذكر فتق السماوات و إسكان الملائكة لها عن ذكر إجراء الشمس و القمر فيها و تزيينها بالكواكب، و معلوم أنّ فتقها متقدّم على اختصاص بعضها ببعض الكواكب. قلت: إنّ إشارته عليه السّلام إلى تسوية السماوات إشارة جمليّة فكأنّه قدّر أوّلا أنّ اللّه خلق السماوات كرة واحدة كما عليه بعض المفسّرين لقوله تعالى «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ثمّ ذكر علياهنّ و سفلاهنّ لجريانهما مجرى السطحين الداخل و الخارج لتلك الكرة، ثمّ أشار إلى بعض كمالاتها و هى الكواكب و الشمس و القمر جملة، ثمّ بعد ذلك أراد التفصيل فأشار إلى تفصيلها و تمييز بعضها عن بعض بالفتق، و إسكان كلّ واحدة منهنّ ملاء معيّنا من الملائكة ثمّ عقّب‏ ذلك بتفصيل الملائكة، و لا شكّ أنّ تقديم الإجمال في الذكر و تعقيبه بالتفصيل أولى في الفصاحة و البلاغة في الخطابة من العكس. إذا عرفت ذلك فنقول: قوله عليه السّلام ثمّ فتق ما بين السماوات العلى كقوله تعالى «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما»«» و قوله: فملأهنّ أطوارا من ملائكته منهم سجود لا يركعون كقوله تعالى «وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و قوله: وَ لَهُ يَسْجُدُونَ و نحوه و قوله: و صافّون لا يتزايلون كقوله تعالى «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا» و قوله: و مسبّحون لا يسأمون كقوله تعالى «يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ» و قوله: و لافتراة الأبدان كقوله تعالى «لا يَفْتُرُونَ» و قوله: و منهم امناء على وحيه كقوله تعالى «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ» و قوله: و ألسنة إلى رسله كقولة تعالى «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» و قوله: مختلفون بقضائه و أمره كقوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»«» و قوله تعالى «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها… مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» و قوله: و منهم الحفظة لعباده كقوله تعالى «يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً»«» و قوله: «وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ»، و قوله: «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»، و قوله: و السدنة لأبواب جنانه كقوله تعالى «وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» و قوله: و المناسبة لقوائم العرش أكنافهم كقوله تعالى «وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ»«» و قوله: بأجنحتهم كقوله تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ»

 

البحث الثاني

اعلم أنّ للناس في تفسير قوله «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» أقوالا: أحدها قال ابن عبّاس و الضحّاك و عطاء و قتادة: إنّ السماء و الأرض كانتا شيئا واحدا ملتزمتين ففصّل اللّه بينهما في الهواء، الثاني قال كعب: خلق اللّه السماوات و الأرض بعضها على بعض ثمّ خلق ريحا توسّطها ففتحها بها، الثالث قال مجاهد و السدي: كانت السماوات طبقة واحدة ففتقها و جعلها سبع سماوات و كذلك الأرض، الرابع قال عكرمة و عطيّة و ابن عبّاس برواية اخرى عنه: إنّ معنى‏ كون السماء رتقا أنّها كانت لا تمطر و كانت الأرض رتقا أي لا تنبت نباتا ففتق اللّه السماء بالمطر و الأرض بالنبات، و يؤيّد ذلك قوله تعالى بعد ذلك «وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ» و نظيره قوله تعالى «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ» و قوله: «وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» و قوله تعالى «أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا» الآية، الخامس قال بعض الفضلاء: إنّ معنى قوله كانَتا رَتْقاً أي كانت امورا كليّة في علم اللّه تعالى و في اللوح المحفوظ، و قوله فَفَتَقْناهُما إشارة إلى تشخّصاتها في الوجود الخارجيّ و تمييز بعضها عن بعض، و هذا القول مناسب للأقوال الثلاثة الاول و يصحّ تحقيقا لها و يحمل الريح الّتي ذكرها كعب على أمر اللّه تعالى استعارة لما بينهما من المشابهة في السرعة، السادس قال بعضهم: إنّ معنى الرتق في هذه الآية هو انطباق دائرة معدّل النهار على ذلك البروج ثمّ إنّ الفتق بعد ذلك عبارة عن ظهور الميل قالوا: و ممّا يناسب ذلك قول ابن عبّاس و عكرمة فإنّهم لمّا قالوا إنّ معنى كون السماء رتقا أنّها لا تمطر و معنى كون الأرض رتقا أنّها لا تنبت كان الفتق و الرتق بالمعنى الّذي ذكرناه إشارة إلى أسباب ما ذكروه إذ انطباق الدائرتين و هو الرتق يوجب خراب العالم السفلى و عدم المطر، و ظهور الميل الّذي هو الفتق يوجب وجود الفصول و ظهور المطر و النبات و سائر أنواع المركّبات. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ قوله عليه السّلام ثمّ فتق ما بين السماوات العلى إنّما هو موافق للأقوال الثلاثة الاول مع القول الخامس و التحقيق به أليق، و أمّا القول السادس فهو بعيد المناسبة لقوله عليه السّلام و بيان ذلك أنّ قوله ثمّ فتق ما بين السماوات العلى إنّما هو في معرض بيان كيفيّة تخليق العالم الأعلى و لذلك أردفه و عقّبه بالفاء في قوله فملأهنّ أطوارا من ملائكته، و الرتق و الفتق في هذا القول متأخّر عن كلام الأجرام العلويّة بما فيها و ما يتعلّق بها و لا يقبل تقدّم ظهور الميل بوجه ما على وجود الملائكة السماويّة و إسكانها أطباق السماوات و باللّه التوفيق.

 

 

البحث الثالث-  الملائكة على أنواع كثيرة و مراتب متفاوتة

فالمرتبة الاولى الملائكة المقرّبون كما قال تعالى «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»«»

الثانية الملائكة الحاملون للعرش كقوله «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ» و قوله «وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» الثالثة الحافّون حول العرش كما قال تعالى «وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ»«» و قوله «و من حوله» الرابعة ملائكة السماوات و الكرسيّ، الخامسة ملائكة العناصر، السادسة الملائكة الموكلّون بالمركّبات من المعدن و النبات و الحيوان، السابعة الملائكة الحفظة الكرام الكاتبين كما قال تعالى «وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ» و يدخل فيهم المعقّبات المشار إليه بقوله تعالى «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»، الثامنة ملائكة الجنّة و خزنتها كما قال تعالى «وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ»، التاسعة ملائكة النار كما قال تعالى «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ» و قال «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» و قال وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» إذا عرفت ذلك فنقول اتّفق الكلّ على أنّ الملائكة ليس عبارة عن أشخاص جسمانيّة كثيفة تجى‏ء و تذهب كالناس و البهائم بل القول المحصّل فيها قولان: الأوّل هو قول المتكلّمين إنّها أجسام نورانيّة إلهيّة خيّرة سعيدة قادرة على التصرّفات السريعة و الأفعال الشاقّة ذوات عقول و أفهام و بعضها أقرب عند اللّه من البعض و أكمل درجة كما قال تعالى حكاية عنهم «وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ»«»، و القول الثاني قول غيرهم و هي أنّها ليست بأجسام لكنّ منها ما هو مجرّد عن الجسميّة و عن تدبير الأجسام، و منها من له الأمر الأوّل دون الثاني، و منها من ليس بمجرّد بل جسمانيّ حالّ في الأجسام و قائم بها و لهم في تنزيل المراتب المذكورة على قولهم تفصيل، أمّا المقرّبون فإشارة إلى الذوات المقدّسة عن الجسميّة و الجهة و عن حاجتها إلى القيام بها و عن تدبيرها، و أمّا حملة العرش فالأرواح الموكّلة بتدبير العرش، و قيل هم الثمانية المذكورة في القرآن الكريم «و يحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية» و هم رؤساء الملائكة المدّبرين للكرسيّ و السماوات السبع، و ذلك أنّ هذه الأجرام لها كالأبدان فهى بأبدانها أشخاص حاملون للعرش فوقهم، و أمّا الحافّون حول العرش هى الأرواح الحاملة للكرسي، و الموكّلة و المتصرّفة فيه، و أمّا ملائكة السماوات فالأرواح الموكّلة بها و المتعرّفة فيها بالتحريك و الإرادة بإذن اللّه عزّ و جلّ، كذلك ملائكة العناصر و الجبال و البحار و البراري و الغفار و سائر المركّبات من المعدن و النبات و الحيوان المسخّر كلّ منها لفعله المخصوص على اختلاف مراتبها، فأمّا الملائكة الحافظون الكرام الكاتبون فلهم فيها أقوال. أحدها قال بعضهم: إنّ اللّه تعالى خلط الطبائع المتضادّة و مزّج بين العناصر المتنافرة حتّى استعدّ ذلك الممتزج بسبب ذلك الامتزاج لقبول النفس المدبّرة و القوى الحسيّة و المحرّكة، فالمراد بتلك الحفظة الّتي أرسلها اللّه هى تلك النفوس و القوى الّتي يحفظ تلك الطبائع المقهورة على امتزاجاتها و هى الضابطة على أنفسها أعمالها، و المكتوب في ألواحها صور ما تفعله لتشهد به علي أنفسها يوم القيامة كما قال تعالى «قالُوا شَهِدْنا عَلى‏ أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ»«» و هى المعقّبات من بين يدي الإنسان و من خلفه الحافظون له من أمر اللّه، و قيل: الحفظة للعباد غير الحفظة على العباد و الكاتبين لأعمالهم، و سنشير إلى ذلك. و الثاني قال بعض القدماء: إنّ هذه النفوس البشريّة و الأرواح الإنسانيّة مختلفة بجواهرها، فبعضها خيّرة و بعضها شريرة، و كذا القول في البلادة و الزكاء و الفجور و العفّة و الحريّة و النذالة و الشرف و الدنائة، و غيرها من الهيئات، و لكلّ طائفة من هذه الأرواح السفليّة روح سماويّ هو لها كالأب المشفق و السيّد الرحيم يعينها على مهمّاتها في يقظتها و مناماتها تارة على سبيل الرؤيا و اخرى على سبيل الإلهامات، و هى مبدء لما يحدث فيها من خير و شرّ، و تعرف تلك المبادي‏ء في مصطلحهم بالطياع التامّ يعنى أنّ تلك الأرواح الفلكيّة في تلك الطباع و الأخلاق تامّة كاملة بالنسبة إلى هذه الأرواح السفليّة و هى الحافظة لها و عليها كما قال تعالى «فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ»«» الثالث قول بعضهم: إنّ للنفوس المتعلّقة بهذه الأجساد مشاكله و مشابهة مع النفوس المفارقة عن الأجساد فيكون لتلك المفارقة ميل إلى النفوس الّتي لم تفارق فيكون لها تعلّق أيضا بوجه ما بهذه الأبدان بسبب ما بينها و بين نفوسها من المشابهة و الموافقة فتصير معاونة لهذه النفوس على مقتضى طباعها، و شاهدة عليها كما قال تعالى:

 

«ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ…-  وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ»«»، و أمّا ملائكة الجنّة فاعلم أنّ الجنان المذكورة في القرآن ثمان، و هى جنّة النعيم و جنّة الفردوس و جنّة الخلد و جنّة المأوى و جنّة عدن و دار السلام و دار القرار و جنّة عرضها السماوات و الأرض اعدّت للمتّقين، و من وراء الكلّ عرش الرحمن ذى الجلال و الإكرام. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ لهذه الجنان سكّانا و خزّانا من الملائكة، أمّا السكّان فهم الّذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحضرون يسبّحون الليل و النهار لا يفترون و هم الّذين يتلّقون عباد اللّه الصالحين المخلصين بالشفقة و البشارة بالجنّة، و ذلك أنّ الإنسان الطائع إذا اكملت طاعته و بلغ النهاية في الصورة الإنسانيّة و استحقّ بأعماله الصالحة و ما اكتسبه من الأفعال الزكيّة صورة ملكيّة و رتبة سماويّة تلقّيه الملائكة الطيّبون بالرأفة و الرحمة و الشفقة، و تقبّلوه بالروح و الريحان، و قبلوه كما تقبل القوابل و الدايات أولاد الملوك بفاخر امور الدنيا و طيّبات روائحها من مناديل السندس و الإستبرق، و بالفرح و السرور مرّوا به إلى الجنّة فيعاين من البهجة و السرور ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و يبقي معهم عالما درّاكا ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ، و يتّصل بإخوانه المؤمنين في الدنيا أخباره و أحواله و يتراءى لهم في مناماتهم بالبشارة و السعادة و حسن المنقلب، و إذا كان يوم القيامة الكبرى عرجت به ملائكة الرحمة إلى جنان النعيم و السرور المقيم لا يذوقون فيها الموت إلّا الموتة الاولى في غرف من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتهم الأنهار و آخر دعويهم أن الحمد اللّه ربّ العالمين.

 

قال بعض حكماء الإسلام: إنّ تلك الملائكة المتلّقية له بالروح و الريحان هى روحانيّات الزهرة و المشتري و كأنّ القائل يقول: إنّ النفوس الإنسانيّة السعيدة إذا فارقت أبدانها و حملت القوّة المتوهّمه معها و الهيئات المتخيّلة الّتي حصلت من الوعد الكريم في دار الدنيا من الجنان و الحدائق و الأنهار و الأثمار و الحور العين و الكأس المعين و اللؤلؤ و المرجان و الولدان و الغلمان فإنّه يفاض عليها بحسب استعدادها و طهارتها و رجاء ثواب الآخرة صور عقليّة في غاية البهاء و الزينة مناسبة لما كانت متخيّلة من الامور المذكورة مناسبة ما، و لمّا كان لهذين الكوكبين أثر تامّ في إعداد النفوس‏

للمتخيّلات البهيّة الحسنة و للفرح و السرور كما ينسب في المشهور إلى روحانيّتهما من الأفعال الحسنة نسب تلقّى الإنسان بعد المفارقة بالرأفة و الرحمة و الشفقة إلى روحانيّتهما، و اللّه أعلم، و أمّا الخزنة للجنان فيشبه أن يكون هم السكّان لها أيضا باعتبار آخر، و ذلك أنّه لمّا كان الخازن هو المتولّي لأحوال أبواب الخزانه بفتحها و تفريق ما فيها على مستحقّها بإذن ربّ الخزانة و مالكها و غلقها و منعها عن غير مستحقّها و كانت الملائكة هم المتولّون لإفاضة الكمالات و تفريق ضروب الإحسان و النعم على مستحقيّها و حفظها و منعها من غير مستحقّيها و المستعدّين بالطاعة لها بإذن اللّه و حكمته لا جرم صدق أنّهم خزّان الجنان بهذا الاعتبار، و هم الّذين يدخلون على المؤمنين من كلّ باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. قال بعض الفضلاء: إنّ العبد إذا راض نفسه حتّى استكمل مراتب القوّة النظرية و مراتب القوّة العمليّة فإنّه يستعدّ بكلّ مرتبة من تلك المراتب لكمال خاصّ يفاض عليه من اللّه تعالى و يأتيه الملائكة فيدخلون عليه من كلّ باب من تلك الأبواب فالملك الّذي يدخل على الإنسان منه رضاء اللّه كما قال تعالى «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ» هو رضوان خازن الجنان و اللّه أعلم، و أمّا ملائكة النار فقال بعض الفضلاء: هي تسعة عشر نوعا من الزبانية لا يعصون اللّه ما أمرهم و هم الخمسة الّذين ذكرنا أنّهم يوردون عليه الأخبار من خارج، و رئيسهم و الخازنان و الحاجب و الملك المتصرّف بين يديه بإذن ربّه، و ملكا الغضب و الشهوة، و السبعة الموكّلون بأمر الغذاء و ذلك أنّه إذا كان يوم الطامّة الكبرى و كان الإنسان ممّن طغى و آثر الحياة الدنيا حتّى كانت الجحيم هي المأوى كانت اولئك التسعة عشر من الزبانية هم الناقلين له إلى الهاوية بسبب ما استكثر من المشتهيات، و اقترف من السيّئات و أعرض عن قوله تعالى «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى‏ وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏» و اعلم وفّقك اللّه أنّ هؤلاء الّذين ذكر هذا القائل أنّهم ملائكة النار ربّما كانوا أيضا مع إنسان آخر من ملائكة الجنان و ذلك إذا استخدمهم ذلك الإنسان في دار الدنيا على وفق أوامر اللّه و أوفقهم على طاعة اللّه دون أن يطلب منهم فوق ما خلقو الأجله و امروا به من طاعته و يعبّر بهم إلى معصية اللّه و ارتكاب نواهيه و محارمه و باللّه التوفيق.

 

البحث الرابع-  أنّه عليه السّلام ذكر من الملائكة أنواعا

و أشار بالسجود و الركوع و الصفّ و التسبيح إلى تفاوت مراتبهم في العبادة و الخشوع، و ذلك أنّ اللّه سبحانه قد خصّ كلّا منهم بمرتبة معيّنة من الكمال في العلم و القدرة لا يصل إليها من دونه، و كلّ من كانت نعمة اللّه عليه أكمل و أتمّ كانت عبادته أعلى و طاعته أو في ثمّ إنّ السجود و الركوع و الصفّ و التسبيح عبادات متعارفة بين الخلق و متفاوتة في استلزام كمال الخضوع و الخشوع، و لا يمكن حملها على ظواهرها المفهومة منها لأنّ وضع الجبهة على الأرض و انحناء الظهر و الوقوف في خطّ واحد و حركة اللسان بالتسبيح امور مبنيّة على وجود هذه الآلات الّتي هي خاصّة ببعض الحيوانات فبالحريّ أن يحمل تفاوت المراتب المذكورة لهم على تفاوت كمالاتهم في الخضوع و الخشوع لكبرياء اللّه و عظيمته إطلاقا للّفظ الملزوم على لازمه على أنّ السجود في اللغة هو الانقياد و الخضوع كما مرّ. إذا عرفت ذلك فنقول: يحتمل أن يكون قوله عليه السّلام منهم سجود إشارة إلى مرتبة الملائكة المقرّبين لأنّ درجتهم أكمل درجات الملائكة فكانت نسبة عبادتهم و خضوعهم إلى خضوع من دونهم كنسبة خضوع السجود إلى خضوع الركوع. فإن قلت إنّه قد تقدّم أنّ الملائكة المقرّبين مبرّؤن عن تدبير الأجسام و التعلّق بها فكيف يستقيم أن يكونوا من سكّان السماوات و من الأطوار الّذين ملئت بهم. قلت: إنّ علاقة الشي‏ء بالشي‏ء و إضافته إليه يكفي فيها أدنى مناسبة بينهما، و المناسبة هاهنا حاصلة بين الأجرام السماويّة و بين هذا الطور من الملائكة و هي مناسبة العلّة للمعلول أو الشرط للمشروط فكما جاز أن ينسب الباري جلّ جلاله إلى الاختصاص بالعرش و الاستواء عليه في لفظ القرآن الكريم مع تنزيهه تعالى و تقدّسه من هذا الظاهر و لم يجر في الحكمة أن يكشف للخلق من عظمة الحقّ سبحانه أكثر من هذا القدر فكذلك جاز أن ينسب الملائكة المقرّبون إلى الكون في السماوات بطريق الأولى و إن تنزّهوا عن الأجسام و تدبيرها لأنّ عليّا عليه السّلام قاصد قصد الرسول صلى اللّه عليه و آله و قصد القرآن الكريم و ناطق به فليس له أن يفصح بما تنبوا عنه الأفهام، و باللّه التوفيق.

 

قوله و ركوع يشبه أن يكون

إشارة إلى حملة العرش إذا كانوا أكمل ممّن دونهم فكانت نسبة عبادتهم الى عبادة من دونهم كنسبة خضوع الركوع إلى خضوع الصفّ.

قوله و صافّون يحتمل أن يكون إشارة إلى الملائكة الحافّين من حول العرش قيل:

إنّهم يقفون صفوفا لأداء العبادة كما أخبر تعالى عنهم «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ» و تحقيق ذلك أنّ لكلّ واحد منهم مرتبة معيّنة و درجة معيّنة من الكمال يخصّه و تلك الدرجات باقية غير متغيّرة و ذلك يشبه الصفوف، و ممّا يؤيّد القول بأنّهم‏  الحافّون حول العرش ما جاء في الخبر أنّ حول العرش سبعين ألف صفّ قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل و التكبير و من ورائهم مائة ألف صفّ قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلّا و هو يسبّح.

 

قوله و مسبّحون يحتمل أن يكون المراد بهم الصافّون و غيرهم من الملائكة، و الواو العاطفة و إن اقتضت المغائرة إلّا أن المغائرة حاصلة إذ هم من حيث هم صافّون غيرهم من حيث هم مسبّحون و تعدّد هذه الاعتبارات يسوّغ تعديد الأقسام بحسبها و عطف بعضها على بعض، و يؤيّد ذلك الجمع بين كونهم صافّين و بين كونهم مسبّحين في قوله تعالى «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» و يحتمل أن يريد نوعا و أنواعا اخر من ملائكة السماوات، فأمّا سلب الركوع عن الساجدين، و سلب الانتصاب عن الراكعين، و سلب المزائلة عن الصافّين، و سلب السأم عن المسبّحين فإشارة إلى كمال في مراتبهم المعينّة كلّ بالنسبة إلى من هو دونه و تأكيد لها بعدم النقصانات اللاحقة فإنّ الركوع و إن كان عبادة إلّا أنّه نقصان بالنسبة إلى السجود، و الانتصاب نقصان في درجة الراكع بالنسبة إلى ركوعه، و كذلك التزايل عن مرتبة الصفّ نقص فيها، و كذلك السأم في التسبيح نقصان فيه و إعراض عن الجهة المقصودة به و أيضا فالسأم و الملال عبارة عن إعراض النفس عن الشي‏ء بسبب كلال بعض القوى الطبيعيّة عن أفعالها، و ذلك غير متصوّر في حقّ الملائكة السماويّة، و أمّا سلب غشيان النوم عنهم في قوله لا يغشاهم نوم العيون فهو ظاهر الصدق، و بيانه أنّ غشيان النوم لهم مستلزم لصحّة النوم عليهم و اللازم باطل في حقّهم فالملزوم مثله أمّا الملازمة فظاهرة، و أمّا بطلان اللازم فلأنّ النوم عبارة عن تعطيل الحواسّ الظاهرة عن أفعالها لعدم انصباب الروح النفسانيّ إليها و رجوعها بعد الكلال و الضعف، و الملائكة السماويّة منزّهون عن هذه الأسباب و الآلات، فوجب أن يكون النوم غير صحيح في حقهم فوجب أن لا يغشاهم، و أمّا سلب سهو العقول و غفلة النسيان، فاعلم أنّ الغفلة عبارة عن عدم التفطّن للشي‏ء و عدم تعقّله بالفعل و هى أعمّ من السهو و النسيان و كالجنس لهما، بيان ذلك أنّ السهو هو الغفلة عن الشي‏ء مع بقاء صورته أو معناه في الحيال أو الذكر بسبب اشتغال النفس و التفاتها إلى بعض مهّماتها، و أمّا النسيان فهو الغفلة عنه مع انمحاء صورته أو معناه عن إحدى الخزانتين بالكلّية و لذلك يحتاج الناسي للشي‏ء إلى تجشّم كسب جديد و كلفة في تحصيله ثانيا، و بهذا يظهر الفرق بين الغفلة و السهو و النسيان، و إذا عرفت ذلك ظهر أنّ هذه الامور الثلاثة من لواحق القوى الإنسانيّة فوجب أن تكون مسلوبة عن الملائكة السماويّة لسلب معروضاتها عنهم، و لمّا ذكر سهو العقول و نفاه عنهم أردفه بسلب ما هو أعمّ منه و هو الغفلة لاستلزام سلبها سلب النسيان، و قد كان ذلك كافيا في سلب النسيان إلّا أنّه أضاف الغفلة إليه ليتأكّد سلبه بسلبها،

 

و أمّا قوله و لا فترة الأبدان، فلأنّ الفترة هي وقوف الأعضاء البدنيّة عن العمل و قصورها بسبب تحلّل الأرواح البدنيّة و ضعفها و رجوعها للاستراحة، و كلّ ذلك من توابع المزاج الحيوانيّ فلا جرم صدق سلبها عنهم. قوله و منهم امناء على وحيه و ألسنة إلى رسله مختلفون بقضائه و أمره يشبه أن يكون هذا القسم داخلا في الأقسام السابقة من الملائكة، و إنّما ذكره ثانيا باعتبار وصف الأمانة على الوحي و الرسالة و الاختلاف بالأمر إلى الأنبياء عليهم السلام و غيرهم لأنّ من جملة الملائكة المرسلين جبرئيل عليه السلام و هو من الملائكة المقربّين، و اعلم أنّه لمّا ثبت أنّ الوحى و سائر الإفاضات من اللّه تعالى على عباده إنّما هو بواسطة الملائكة كما علمت كيفيّة ذلك لا جرم صدق أنّ منهم امناء على وحيه و ألسنة إلى رسله إذ كان الأمين هو الحافظ لما كلّف بحفظه على ما هو عليه ليؤدّيه إلى مستحقّه، و إفاضة الوحي النازل بواسطه الملائكة محفوظة نازلة كما هي مبرّاة عن الخلل الصادرة عن سهو لعدم معروضات السهو هناك أو عن عمد لعدم الداعي إليه و لقوله تعالى «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ»«» و أمّا كونهم ألسنة إلى رسله فهي استعارة حسنة إذ يقال: فلان لسان قومه أي المفصح عن أحوالهم و المخاطب عنهم فيطلق عليه اسم اللسان لكونه مفصحا عمّا في النفس، و لمّا كانت الملائكة وسائط بين الحقّ سبحانه و بين رسله في تأدية خطابه الكريم إليهم لا جرم حسن استعارة

هذا اللفظ لهم لمكان المشابهة، و المراد هاهنا بالاختلاف التردّد بأمر اللّه و ما قضى به مرّة بعد اخرى و بالقضاء الامور المقضيّة إذ يقال: هذا قضاء اللّه أي مقضيّ اللّه، و لا يراد به المصدر فإنّ معنى ذلك هو سطر ما كان و ما يكون في اللوح المحفوظ بالقلم الإلهي و ذلك أمر قد فرغ منه كما قال صلى اللّه عليه و آله: جفّ القلم بما هو كائن، فإن قلت: كيف يصحّ أن يكون هذا القسم داخلا في السجود لأنّ من كان أبدا ساجدا كيف يتصورّ أن يكون مع ذلك متردّدا في الرسالة و النزول و الصعود مختلفا بالأوامر و النواهي إلى الرسل عليهم السلام قلت: إنّا بيّنا أنّه ليس المراد بسجود الملائكة هو وضع الجبهة على الأرض بالكيّفية الّتي نحن عليها، و انّما هو عبارة عن كمال عبوديّتهم للّه تعالى و خضوعهم تحت قدرته و ذلّتهم في الإمكان و الحاجة تحت ملك وجوب وجوده، و معلوم أنّه ليس بين السجود بهذا المعنى و بين تردّدهم بأوامر اللّه تعالى و اختلافهم بقضائه على وفق مشيئته و أمره منافاة بل كلّ ذلك من كمال عبوديّتهم و خضوعهم لعزّته و اعترافهم بكمال عظمته. قوله و منهم الحفظة لعباده. فاعلم أنّ في هذا القسم مطلوبين أحدهما ما الحفظة، و الثاني ما المراد منهم ثمّ الحفظة منهم حفظة للعباد كما قال تعالى «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»«» و منهم حفظة على العباد كما قال تعالى «وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» و المراد من الأوّلين حفظ العباد بأمر اللّه تعالى من الآفات الّتي تعرض لهم و من الآخرين ضبط الأعمال و الأقوال من الطاعات و المعاصي كما قال «كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» و كقوله «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» قال ابن عبّاس: إنّ مع كلّ إنسان ملكين أحدهما على يمينه و الآخر على يساره فإذا تكلّم الإنسان بحسنة كتبها من على يمينه، و إذا تكلّم بسيّئة قال من على اليمين لمن على اليسار: انتظر لعلّه يتوب منها فإن لم يتب كتبت عليه قال المفسّرون: فائدة ذلك أنّ المكلّف إذا علم أنّ الملائكة موكلّون به يحضرون عليه أعماله و يكتبونها في صحائف تعرض على رؤس الأشهاد في موقف القيامة كان ذلك أزجر له عن القبائح، و اعلم أنّه يحتمل أن يكون التعدّد المذكور في الحفظة تعدّدا بحسب الذوات، و يحتمل أن يكون بحسب الاعتبار.

 

قال بعض من زعم أنّ‏ الحفظة للعباد هي القوى الّتي أرسلها اللّه تعالى من سماء جوده على الأبدان البشريّة: يحتمل أن يكون الحفظة على العباد هي مبادئ تلك القوى، و يكون معنى كتبه السيّئات و الحسنات و ضبطهما على العباد إمّا باعتبار ما يصدر و يتعدّد عن العبد من السيّئات و الحسنات في علم تلك المبادي‏ء أو يكون معناها كتبه صور الأفعال الخيريّة و الشرية إلى العبد بقلم الإفاضة في لوح نفسه بحسب استعدادها لذلك قال: و يشبه أن تكون إشارة ابن عبّاس بانتظار ملك اليسار كاتب السيّئات توبة العبد إلى أنّه ما دامت السيّئة حالة غير ممكنة من جوهر نفس العبد فإنّ رحمة اللّه تعالى تسعه فإذا تاب من تلك السيّئة لم تكتب في لوح نفسه، و إن لم يتب حتّى صارت ملكة راسخة في نفسه كتبت و عذّب بها يوم تقوم الساعة. قال: و يحتمل أن يكون الحفظة على العباد هم بأعيانهم من الحفظة لهم فإنّ النفس تحفظ في جوهرها ما يفعله من خير و شرّ و تحصيه يوم البعث على نفسها إذا زالت عنها الغواشي البدنيّة و تجده مصوّرا مفصّلا لا تغيب عنها منه شي‏ء كما قال تعالى «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً»«» و كما قال تعالى «وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً»«» و كما قال «إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ»«» و قال: و أمّا معنى كونهم من ملائكة السماء فلأنّ أصلهم من ملائكة السماء ثمّ ارسلوا إلى الأرض، و اللّه اعلم، و أمّا السدنة لأبواب جنانه فقد عرفت ما قيل فيهم.

 

قوله فمنهم الثابتة في الأرضيين السفلى أقدامهم المارقة من السماء العليا أعناقهم و الخارجة من الأركان أقطارهم و المناسبة لقوائم العرش أكنافهم:

فاعلم أنّ هذه الأوضاف وردت في صفة الملائكة الحاملين للعرش في كثير من الأخبار فيشبه أن يكونوا هم المقصودون بها هاهنا، و روى عن ميسرة أنّه قال: أرجلهم في الأرض السفلى رؤسهم قد خرقت العرش و هم خشوع لا يرفعون طرفهم و هم أشدّ خوفا من أهل السماء السابعة، و أهل السماء السابعة أشدّ خوفا من أهل السماء السادسة و هكذا إلى سماء الدنيا، و عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لا تتفكرّوا في عظمة ربّكم و لكن تفكّروا فيما خلق من الملائكة فإنّ خلقا منهم يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله و قدماه في الأرض السفلى و قد مرق رأسه‏ من سبع سماوات و أنّه ليتضاءل من عظمة اللّه حتّى يصير كأنّه الوصع، و الوصع طائر صغير، و عن ابن عبّاس أيضا أنّه قال: لمّا خلق اللّه تعالى حملة العرش قال لهم احملوا عرشي فلم يطيقوا فقال لهم: قولوا لا حول و لا قوّة إلّا باللّه فلمّا قالوا ذلك استقل فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى فلم تستقرّ فكتب في قدم كلّ ملك منهم اسما من أسمائه فاستّقرت أقدامهم، و وجه هذا الخبر أنّ وجودهم و بقائهم و حولهم و قوّتهم الّتي بها هم على ما هم إنّما هو من حوله و قوّته و هيبته فلو أنّه سبحانه خلقهم و قال لهم: احملوا عرشي و لم تكن لهم استعانة و لا مدد بحول اللّه و قوّته و معونة لم ينتهضوا بحمل ذرّة من ذرّاة مبدعاته و مكوّناته فضلا عن تدبير العرش الّذي هو أعظم الأجرام الموجودة في العام.

 

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا من قال بأنّ الملائكة أجسام كان حمل صفاتهم المذكورة في هذه الأخبار في كلامه عليه السلام على ظاهرها أمرا ممكنا و أنّه تعالى قادر على جميع الممكنات، و أمّا من نزههم عن الجسميّة فقال إنّ اللّه سبحانه لمّا خلق الملائكة السماويّة مسخّرين لأجرام السماوات مدبّرين لعالمنا عالم الكون و الفساد و أسبابا لما يحدث فيه كانوا محيطين بإذن اللّه علما بما في السماوات و الأرض فلا جرم كان منهم من ثبت في تخوم الأرض السفلى أقدام إدراكاتهم الّتي ثبتت و استقرّت باسم اللّه الأعظم و علمه الأعزّ الأكرم و نفذت في بواطن الوجودات الموجودات خبر او مرقت من السماء العليا أعناق عقولهم و خرجت من أقطارها أركان قواهم العقلّيّة، و قوله المناسبة لقوائم العرش أكتافهم يريد أنّهم مشبّهون و مناسبون لقوائم العرش في بقائهم و ثباتهم عن الزائل من تحته أبدا إلى ما شاء اللّه. فإن قلت: فهل هناك قوائم غير الحاملين للعرش الّذي أشار إليهم، و تكون هذه الطائفة من الملائكة مناسبة لتلك القوائم أم لا. قلت: قد جاء في الخبر أنّ العرش له قوائم، روى عن جعفر بن محمّد الصادق عن أبيه عليه السلام عن جدّه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ بين القائمين من قوائم العرش و القائمة الاخرى خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام قال بعض المحقّقين: إنّ هناك قوائم ثمان قد فوّض اللّه تعالى إلى كلّ ملك من الملائكة الثمانية الحاملين للعرش تدبير قائمة منها و حملها و وكلّه بها. إذا عرفت ذلك فنقول: يحتمل أن يكون قد أشار عليه السلام بقوله تلك القوائم و وجه المناسبة أنّ الكتف لمّا كان محلّ القوّة و الشدّة استعاره عليه السلام هاهنا للقوّة و القدرة الّتي يخصّ كلّ ملك من تلك الملائكة و بها يدبّر تلك القوائم من العرش، و لا شكّ أنّ بين كلّ قائمة من تلك القوائم و بين كلّ قدرة من تلك القدرة مناسبة ما لأجلها خصّ اللّه سبحانه ذلك الملك بحمل تلك القائمة و ذلك معنى قوله المناسبة لقوائم العرش أكتافهم و يحتمل أن يكون كما استعار لهم لفظ الأقدام استعار لهم أيضا لفظ الأكتاف ثمّ شبّه قيامهم بأمر اللّه في حملهم للعرش بقيام الأساطين الّتي يبني عليها الواحد منّا عرشه فهم مناسبون مشابهون لقوائم العرش الّتي يبنى عليها من غير أن يكون هناك تعرّض لإثبات قوائم بل ما يشبه القوائم.

 

قوله ناكسة دونه أبصارهم متلفعّون تحته بأجنحتهم:

الضميران في دونه و تحته راجعان إلى العرش و قد جاء في الخبر عن وهب ابن منبّه قال: إنّ لكلّ ملك من حملة العرش و من حوله أربعة أجنحة أمّا جناحان فعلى وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق و أمّا جناحان فيفهوا بهما ليس لهم كلام إلّا التسبيح و التحميد، و كنى عليه السلام بنكس أبصارهم عن كمال خشيتهم للّه تعالى و اعترافهم بقصور أبصار عقولهم عن إدراك ما وراء كمالاتهم المقدّرة لهم و ضعفها عمّا لا يحتمله من‏  أنوار اللّه و عظمته المشاهدة في خلق عرشه و ما فوقهم من مبدعاته فإنّ شعاع أبصارهم منته واقف دون حجب عزّة اللّه. و عن بريد الرقاشيّ أنّ للّه تعالى ملائكة حول العرش يسموّن المخلخلين تجري أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة يميدون كأنّما تنقضهم الرياح من خشية اللّه تعالى فيقول لهم الربّ جل جلاله ملائكتي ما الّذي يخيفكم فيقولون: ربّنا لو أنّ أهل الأرض اطّلعوا من عزّتك و عظمتك على ما اطّلعنا عليه ما ساغوا طعاما و لا شرابا و لا انبسطوا في فرشهم و لخرجوا إلى الصحراء يخورون كما يخور الثور، و اعلم أنّه لمّا كان الجناح من الطائر و الإنسان عبارة عن محل القوّة و القدرة و البطش صحّ أن يستعار للملائكة على سبيل الكناية عن كمالهم في قدرتهم و قوّتهم الّتي يطيرون في بيداء جلال اللّه و عظمته و تصدر بواسطتهم كمالات ما دونهم من مخلوقات اللّه، و صحّ أن توصف تلك الأجنحة بالقلّة و الكثرة في آحادهم، و يكون ذلك كناية عن تفاوت قرابتهم و زيادة كمال بعضهم على بعض، و لمّا استعار لفظ الأجنحة استلزم ذلك أن يكون قد شبّههم بالطائر ذي الجناح، ثمّ لمّا كان الطائر عند قبض جناحه يشبه المتلفّع بثوبه و الملتحف به و كانت أجنحة الملائكة الّتي هي عبارة عن كما لهم في قدرهم و علومهم مقبوضة قاصرة عن التعلّق بمثل مقدورات اللّه و مبدعاته واقفة دون جلاله و عظمته في صنعه لا جرم أشبه ذلك قبض الأجنحة المشبّه للتلفّع بالثوب فاستعار عليه السلام لفظ التلفّع أيضا و كنّى به عن كمال خضوعهم و انقهارهم تحت سلطان الله و قوّته و المشاهدة في صورة عرشه. فإن قلت: إنّك بيّنت أنّ المراد بالركوع هم حملة العرش فكيف يستقيم مع ذلك أن يقال إنّ هذا القسم هم حملة العرش أيضا فإنّ من كان أقدامهم في تخوم الأرضين، و أعناقهم خارجة من السماوات السبع و من الكرسيّ و العرش كيف يكون مع ذلك راكعا قلت: الجواب عنه قد سبق في قوله و منهم امناء على وحيه فإنّ الركوع أيضا المقصود منه الخشوع لعزّ اللّه و عظمته و ذلك غير مناف للأوصاف المذكورة هاهنا، و باللّه التوفيق.

 

قوله مضروبة بينهم و بين من دونهم حجب العزّة و أستار القدرة

إشارة إلى أنّ الآلات البشريّة قاصرة عن إدراكهم و الوصول إليهم، و ذلك لتنزّههم عن الجسميّة و الجهة و قربهم من عزّة مبدعهم الأوّل جلّ جلاله، و بعد القوى الإنسانيّة عن الوقوف على أطوارهم المختلفة و مراتبهم المتفاوتة، و إذا كان الحال في الملك العظيم من ملوك الدنيا إذا بلغ في التعزّز و التعظيم إلى حيث لا يراه إلّا أجلاء خواصّه، و كان الحال أيضا في بعض خواصّه كذلك كالوزير و الحاجب و النديم فإنّهم لا يصل إليهم كلّ الناس بل لا يصل إليهم إلّا من كانت له إليهم وسيلة تامّة و علاقة قويّة و كان منشأ ذلك إنّما هو عظمة الملك و هيبته و قربهم منه فكان الحائل بينهم و بين غيرهم إنّما هو حجب عزّة الملك و أستار قدرته و قهره، فكيف الحال في جبّار الجبابرة و مالك الدنيا و الآخرة، و حال ملائكته المقرّبين و من يليهم من حملة العرش الروحانييّن، فبالحريّ أن ينسب عدم وصول قوانا الضعيفة إليهم و إدراكها لمراتبهم إلى حجب عزّة اللّه و عظمته لهم و كمال ملكه و تمام قدرته و ما أهلّهم له من قربه و مطالعة أنوار كبريائه عزّ سلطانه و لا إله إلّا هو.

 

قوله و لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير

إشارة إلى تنزيههم عن الإدراكات الوهميّة و الخياليّة في حقّ مبدعهم عزّ سلطانه إذ كان الوهم إنّما يتعلّق بالامور المحسوسة ذات الصور و الأحياز و المحالّ الجسمانيّة فالوهم و إن أرسل طرفه إلى قبلة وجوب الوجود و بالغ في تقليب حدقه فلن يرجع إلّا بمعنى جزئيّ يتعلّق بمحسوس حتّى أنّه لا يقدر نفسه و لا يدركها إلّا ذات مقدار و حجم، و لمّا كان الوهم من خواصّ المزاج الحيوانيّ لا جرم سلب‏ التوهّم عن هذا الطور من الملائكة لعدم قوّة الوهم هناك فإنّ هذه القوّة لمّا كانت موجودة للإنسان لا جرم كان يرى ربّه في جهة و يشير إليه متحيّزا ذا مقدار و صورة، و لذلك وردت الكتب الإلهيّة و النواميس الشرعيّة مشحونة بصفات التجسيم كالعين و اليد و الإصبع و الاستواء على العرش و نحو ذلك خطابا للخلق بما تدركه أوهامهم و توطينا لهم و إيناسا حتّى أنّ الشارع لو أخذ في مبدء الأمر بيّن لهم أنّ الصانع الحكيم ليس داخل العالم و لا خارجة و لا في جهة و ليس مجسم و لا عرض لاشتدّ نفار أكثرهم من قبول ذلك و عظم إنكارهم له فإنّ الوهم في طبيعته لا يثبت موجودا بهذه الصفة و لا يتصوّره، و من شأنه أن ينكر ما لا يتصوّر فكان منكرا لهذا القسم من الموجودات و الخطابات الشرعيّة و إن وردت بصفات التجسيم إلّا أنّ الألفاظ الموهمة لذلك لمّا كانت قابلة للتأويل محتملة له كانت وافية بالمقاصد إذ ال عاميّ المغمور في ظلمات الجهل يحمله على ظاهره و يحصل بذلك تقييده عن تشتّت اعتقاده و ذو البصيرة المترقّي عن تلك الدرجة يحمله على ما يحتمله عقله من التأويل، و كذلك حال من هو أعلى منه، و الناس في ذلك على مراتب فكان إيرادها حسنا و حكمة. قوله و لا يجرؤن عليه صفات المصنوعين. أقول: إجراء صفات المصنوعين عليه إنّما يكون بمناسبته و مما ثلثته مع مصنوعاته و مكوّناته و كلّ ذلك بقياس من الوهم و محاكاة من المتخيّلة له بصورة المصنوع، فكان الوهم يحكم أوّلا يكون الباري عزّ سلطانه مثلا لمصنوعاته الّتي يتعلّق إدراكه بها من المتحيّزات و ما يقوم بها و يخيّله بصورة منها ثمّ يساعده العقل في مقدّمة اخري هي أنّ حكم الشي‏ء حكم مثله فيجري حينئذ عليه صفات مصنوعاته التي حكم بمثليّته لها، و لما كانت الملائكة السماويّة منزّهين عن الوهم و الخيال لا جرم وجب تنزيههم عن أن يجروا عليه صفات مصنوعاته سبحانه و تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا، و كذلك قوله و لا يحدّونه بالأماكن و لا يشيرون إليه بالنظائر فإنّ الحاكم بحدّه في مكان و تحيّزه فيه و المشير إليه بالمثل المتصوّر له بالقياس إلى نظير يشاكله و يشابهه إنّما هو الوهم و الخيال، و لمّا عرفت أنّهما يخصّان للحيوان العنصريّ لا جرم كانت هذه الأحكام مسلوبة عن الملائكة السماويّة مطلقا و باللّه التوفيق.

 

شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی جلد1

خطبه1شرح ابن میثم بحرانی قسمت اول

1-  و من خطبة له عليه السّلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض، و خلق آدم. و فيها ذكر الحج

الفصل الاول في تصديرها بذكر اللّه جلّ جلاله و تمجيده و الثناء عليه بما هو أهله

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ-  وَ لَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ-  وَ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ-  الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ-  وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ-  الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ-  وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ-  وَ لَا أَجَلٌ مَمْدُودٌ-  فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ-  وَ نَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ-  وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ: أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ-  وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ-  وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ-  وَ كَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ-  لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ-  وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ-  فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ-  وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ-  وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ-  وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ-  وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ-  وَ مَنْ قَالَ عَلَا مَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ: كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عَنْ‏  عَدَمٍ-  مَعَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ-  فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ وَ الْآلَةِ-  بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ-  مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ

 

أقول: اعلم أنّ هذه الخطبة مشتملة على مباحث عظيمة و نكت مهمة على ترتيب طبيعيّ فلنعقد فيها خمسة فصول.

                  

الفصل الاول في تصديرها بذكر اللّه جلّ جلاله و تمجيده و الثناء عليه بما هو أهله و هو قوله:

الحمد للّه إلى قوله: و لا يستوحش لفقده.

أقول: المدح و المديح الثناء الحسن، و المدحة فعلة من المدح و هي الهيئة و الحالة التي ينبغي أن يكون المدح عليها، و الإحصاء إنهاء العدّ و الإحاطة بالمعدود يقال: أحصيت الشي‏ء أي أنهيت عدّه، و هو من لواحق العدد و لذلك نسبه إلى العادّين، و النعماء النعمة، و هو اسم يقام مقام المصدر، و أدّيت حقّ فلان إذا قابلت إحسانه بإحسان مثله، و الإدراك اللحقوق و النيل و الإصابة و الوصول و الوجدان، و الهمّة هي العزم الجازم و الإرادة يقال: فلان بعيد الهمّة إذا كانت إرادته تتعلّق بعليّات الامور دون محقرّاتها، و الغوص الحركة في عمق الشي‏ء من قولهم غاض في الماء إذا ذهب في عمقه، و الفطن جمع فطنة و هي في اللغة الفهم، و هو عند العلماء عبارة عن جودة استعداد الذهن لتصوّر ما يرد عليه، و حدّ الشي‏ء منتهاه، و الحدّ المنع، و منه سمّى العلماء تعريف الشي‏ء بأجزائه حدّا لأنّه يمنع أن يدخل في المحدود ما ليس منه أو يخرج منه ما هو منه، و النعت الصفة، و الأجل المدّة المضروبة للشي‏ء، و الفطرة الشقّ و الابتداع قال ابن عبّاس: ما كنت أدري ما معنى قوله تعالى: «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» حتّى جائني أعرابيّان يختصمان على بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدعتها، و الخلائق جمع خليقة و هي إمّا بمعنى المخلوق يقال: هم خليقة اللّه و خلق اللّه أي مخلوقه أو بمعني الطبيعة لأنّ الخليقة هي الطبيعة أيضا، و النشر البسط، و وتد بالفتح أي ضرب الوتد في حائط أو في غيره، و الصخورة الحجارة العظام، و الميدان الحركة بتمايل و هو الاسم من ماد يميد ميدا و منه غصن ميّاد متمايل، و الدين في أصل‏ اللغة يطلق على معان، منها العادة، و منها الإذلال يقال دانه أي أذّله و ملّكه و منه بيت الحماسة دنّاهم كما دانوا، و منها المجازاة كقوله تعالى «إِنَّا لَمَدِينُونَ» أي مجزيّون، و المثل المشهور كما تدين تدان، و منها الطاعة يقال: دان له أي أطاعه كقول عمرو بن كلثوم: عصينا لملك فينا أن تدينا، و يطلق في العرف الشرعي على الشرائع الصادرة بواسطة الرسل عليهم السّلام و قرنه أي جعل له قرينا و المقارنة الاجتماع مأخوذ من قرن الثور و غيره و منه القرن للمثل في السنّ و كذلك القرن من الناس أهل الزمان الواحد قال

         إذا ذهب القرن الّذي أنت فيهم            و خلّفت في قرن فأنت قريب‏

 

و المزائلة المفارقة و هي مفاعلة من الطرفين و المتوحّد بالأمر المنفرد به عمّن يشاركه فيه، و السكن بفتح الكاف كلّ ما سكت إليه، و الاستيناس بالشي‏ء ميل الطبع إليه و سكون و كذلك التأنّس و منه الأنيس و هو المونس، و الاستيحاش ضدّ الاستيناس و هو نفرة الطبع بسبب فقد المؤانس، و اعلم أنّا نفتقر في بيان نظام كلامه عليه السّلام في هذا الفصل إلى تقديم مقدّمة فنقول: الصفة أمر يعتبره العقل لأمر آخر و لا يمكن أن يعقل إلّا باعتباره معه، و لا يلزم من تصوّر العقل شيئا لشي‏ء أن يكون ذلك المتصوّر موجودا لذلك الشي‏ء في نفس الأمر بيان ذلك ما قيل في رسم المضاف: إنّه الأمر الّذي تعقّل ماهيّته بالقياس إلى غيره و ليس له وجود سوى معقوليّته بالقياس إلى ذلك الغير، و الصفة تنقسم باعتبار العقل إلى حقيقيّة و إضافيّة و سلبيّة، و ذلك لأنّ نسبة العقل للصفة إلى غيرها إمّا أن يعقل معها نسبته من المنسوب إليه أو لا يعقل فإن كان الأوّل فهو المضاف الحقيقيّ و حقيقته أنّه المعقول بالقياس إلى غير يكون بإزائه يعقل له إليه نسبة و لا يكون له وجود سوى معقوليّتة بالقياس إليه ككونه تعالى خالقا و رازقا و ربّا فإنّ حقيقة هذه الصفات هي كونها معقولة بالقياس إلى مخلوقيّة و مرزوقيّة و مربوبيّة موازية، و إن كان الثاني فالمنسوب إليه إمّا أن يكون موجودا للمضاف أو ليس بموجود له، و الأوّل هو الصفات الحقيقيّة ككونه تعالى حيّا فإنّه أمر يعقل بالقياس إلى صحّة العلم و القدرة له و ليس بإزاء أمر يعقل منه نسبة إليه، و الثاني هو الصفات السلبيّة ككونه تعالى ليس بجسم و لا بعرض و غيرها فإنّها امور تعقل له بالقياس إلى امور غير موجودة له تعالى ثمّ نقول: إنّه لا يلزم من اتّصاف ذاته سبحانه بهذه الأنواع الثلاثة من الصفات تركيب و لا كثرة في ذاته لأنّها اعتبارات عقليّة تحدثها عقولنا عند المقائسة إلى الغير و لم يلزم من ذلك أن تكون موجودة في نفس الأمر و إن لم تعقل، و لمّا كان دأب العقلاء أن يصفوا خالقهم سبحانه بما هو أشرف طرفي النقيض لما تقرّر في عقولهم من أعظميته و مناسبة اشرف الطرفين للأعظميّته كان ما وصف به تعالى من الصفات الحقيقيّة و الإضافيّة و السلبيّة كلّها كذلك، فإذا عرفت ما قلناه فاعلم أنّه عليه السّلام شرع أوّلا في الاعتبارات السلبيّة و قدّمها على الثبوتيّة لدقيقة و هى أنّه قد ثبت في علم السلوك إلى اللّه أنّ التوحيد المحقّق و الإخلاص المطلق لا يتقرّر إلّا بنقض كلّ ما عداه عنه و تنزيهة عى كلّ لا حق له و طرحه عن درجة الاعتبار و هو المسمى في عرف المجرّدين و أهل العرفان بمقام التخليّة و النقض و التفريق، و ما لا يتحقّق الشي‏ء إلّا به كان اعتباره مقدّما على اعتباره، و لهذا الترتيب كان أجلّ كلمة نطق بها في التوحيد قولنا: لا إله إلّا اللّه إذ كان الجزء الأوّل منها مشتملا على سلب كلّ ما عدا الحقّ سبحانه مستلزما لغسل درن كلّ شبهة لخاطر سواه، و هو مقام التنزيه و التخلية حتّى إذا أنزح كلّ ثان عن محلّ عرفانه استعدّ بجوده للتخلية بنور وجوده و هو ما اشتمل عليه الجزء الثاني من هذه الكلمة، و لمّا بيّنا أنّه عليه السّلام كان لسان العارفين و الفاتح لأغلاق الطريق إلى الواحد الحقّ تعالى و المعلّم المرشد لكيفيّة السلوك، و كانت الأوهام البشريّة حاكمه بمثليته تعالى لمدركاتها و العقول قاصرة عن إدراك حقيقته و الواصل إلى ساحل عزّته و المنزّه له عمّا لا يجوز عليه إذا أمكن وجوده نادرا لم يكن للأوهام الواصفة له تعالى بما لا يجوز عليه معارض في أكثر الخلق بل كانت جارية على حكمها قائدة لعقولها إلى تلك الأحكام الباطلة كالمشبّهة و نحوهم لا جرم بدء عليه السّلام بذكر السلب إذ كان تقديمه مستلزما لغسل درن الحكم الوهميّ في حقّه تعالى عن لوح الخيال و الذكر حتّى إذا أورد عقب ذلك ذكره تعالى بما هو أهله ورد على ألواح صافيه من كدر الباطل فانتقشت بالحقّ كما قال: فصادف قلبا خاليا فتمكّنا، ثمّ إنّه عليه السّلام بدء بتقديم حمد اللّه تعالى على الكلّ هاهنا و في سائر خطبة جريا على العادة في افتتاح الخطب و تصديرها، و سرّ ذلك تأديب الخلق بلزوم الثناء على اللّه تعالى، و الاعتراف بنعمته عند افتتاح كلّ خطاب لاستلزام ذلك ملاحظة حضرة الجلال و الالتفات إليها عامّة الأحوال‏ و قد بيّنا أنّ الحمد يفيد معنى الشكر و يفيد ما هو أعمّ من ذلك و هو التعظيم المطلق و بجميع أقسامه مراد هاهنا لكون الكلام في معرض التمجيد المطلق.

 

قوله الّذي لا يبلغ مدحته القائلون.

 أقول أراد تنزيهه تعالى عن إطّلاع العقول البشريّة على كيفيّة مدحه سبحانه كما هي، و بيان هذا الحكم أنّ الثناء الحسن على الشي‏ء إنّما يكون كما هو إذا كان ثناء عليه بما هو كذلك في نفس الأمر، و ذلك غير ممكن في حقّ الواجب الوجود سبحانه إلّا بتعقّل حقيقته و ما لها من صفات الجلال و نعوت الكمال كما هي و عقول البشر قاصرة عن هذا المقام فالقول و إن صدر عن المادحين بصورة المدح المتعارف بينهم و على ما هو دأبهم من وصفه تعالى بما هو أشرف من طرفي النقيض فليس بكمال مدحه في نفس الأمر لعدم اطّلاعهم على ما به يكون المدح الحقّ في حقّه تعالى و إن تصوّر بصورة المدح الحقّ و أشار إلى تأديب الخلق و تنبيههم على بطلان ما تحكّم به أوهامهم في حقّه تعالى من الصفات و أنّه ليس الأمر كما حكمت به إذ قال في موضع آخر، و قد سأله بعضهم عن التوحيد فقال: التوحيد أن لا تتوهّمه، فجعل التوحيد عبارة عن سلب الحكم الوهميّ في حقّه تعالى فاستلزم ذلك أنّ من أجرى عليه حكما وهميّا فليس بموحّد له على الحقيقة، و إلى هذا النحو أشار الباقر محمّد بن عليّ عليه السّلام مخاطبا و هل سمّى عالما قادرا إلّا لأنّه وهب العلم للعلماء، و القدرة للقادرين فكلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدّق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم، و الباري تعالى واهب الحياة و مقدّر الموت، و لعلّ النمل الصغار تتوهّم أن للّه تعالى زبانيين كما لها فإنّها تتصوّر أنّ عدمها نقصان لمن لا يكونان له، فهكذا شأن الخلق فيما يصفون به بآرائهم فإنّ أوهامها حاكمة له بكلّ ما يعدّونه كمالا في حقّهم ما لم تقو عقولهم على ردّ بعض تلك الأحكام الوهميّة و لولا رادع الشرع كقوله عليه السّلام تفكّروا في الخلق و لا تتفكّروا في الخالق لصرّحوا بكثير من تلك الأحكام في حقّه سبحانه و تعالى عمّا يصفون، و يحتمل أن يكون المراد تنزيهه تعالى عن بلوغ العقول و الأوهام تمام الثناء الحسن عليه و إحصائه أتي أنّ العبد كان كلّما بلغ مرتبة من مراتب المدح و الثناء كان ورائها أطوار من استحقاق الثناء و التعظيم أعلى كما أشار إليه سيّد المرسلين‏ صلى اللّه عليه و آله بقوله: لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، و في تخصيصه عليه السّلام القائلين دون المادحين بالذكر نوع لطف فإنّ القائل لمّا كان أعمّ من المادح و كان سلب العامّ مستلزما لسلب الخاصّ من غير عكس كان ذكر القائلين أبلغ في التنزيه إذا التقدير لا واحد من القائلين ببالغ مدحة اللّه سبحانه.

 

قوله و لا يحصى نعماؤه العادّون.

 أقول: المراد أنّ جزئيّات نعم اللّه و أفرادها لا يحيط بها حصر الإنسان و عدّه لكثرتها و بيان هذا الحكم بالنقل و العقل أمّا النقل فقوله تعالى «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها»«» و هذه الآية هى منشأ هذا الحكم و مصدره، و أمّا العقل فلأنّ نعم اللّه تعالى على العبد منها ظاهرة و منها باطنة كما قال تعالى «أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ»«» و يكفينا في صدق هذا الحكم التنبيه على بعض جزئيّات نعم اللّه تعالى على العبد فنقول: إنّ من جملة نعمه تعالى على الإنسان أن أكرمه بملائكته و جعله مسجودا لهم و مخدوما، و جعلهم في ذلك على مراتب فلنذكر أقربهم إليه و أخصّهم به، و هم الملائكة الّذين يتولّون إصلاح بدنه و القيام بمهمّاته و حوائجه، و إن كانوا في ذلك أيضا على مراتب فجعل سبحانه لهم رئيسا هو له كالوزير الناصح المشفق من شأنه تمييز الأصلح و الأنفع له و الأمر به، و جعل بين يدي ذلك الوزير ملكا آخرا هو كالحاجب له و المتصرّف بين يديه من شأنه تمييز صداقة الأصدقاء للملك من عداوة الأعداء له، و جعل لذلك الحاجب ملكا خازنا يضبط عنه ما يتعرّفه من الامور ليطالعها الوزير عند الحاجة، ثمّ جعل بين يديه ملكين آخرين أحدهما ملك الغضب و هو كصاحب الشرطة موكّل بالخصومات و الغلبة و البطش و الانتقام، و الثاني ملك اللذّة و المتولّي لمشتهيات الإنسان بالطلب و الأمر بالاستحضار، و بين يديه ملائكة اخرى تسعى في تحصيل ما يأمر به و يطلبه، ثمّ جعله سبحانه وراء هؤلاء سبعة اخرى من الملائكة دأبهم إصلاح غذاء الإنسان، فالأوّل موكّل بجذب الغذاء إلى داخل المعدة إذ الغذاء لا يدخل بنفسه فإنّ الإنسان لو وضع اللقمة في فيه و لم يكن لها جاذب لم تدخل، و الثاني موكلّ بحفظه  في المعدة إلي تمام نضجه و حصول الغرض منه، و الثالث موكّل بطبخه و تنضيجه، و الرابع موكّل بتفريق صفوته و خلاصته في البدن سدّ البدل ما يتحلّل منه، و الخامس موكّل بالزيادة في أقطار الجسم على التناسب الطبيعي بما يوصله إليه الرابع فهما كالباني و المناول، و السادس موكّل بفصل صورة الدم من الغذاء، و السابع الّذي يتولّى دفع الفضلة الغير المنتفع بها عن المعدة، ثمّ وكّل تعالى خمسة اخرى في خدمته شأنهم أن يوردوا عليه الأخبار من خارج، و جعل لكلّ واحد منهم طريقا خاصّا و فعلا خاصّا به، و جعل لهم رئيسا يبعثهم و يرجعون إليه بما عملوه، و جعل لذلك الرئيس خازنا كاتبا يضبط عنه ما يصل إليه من تلك الأخبار، ثمّ جعل بين هذا الخازن و بين الخازن الأوّل ملكا قويّا على التصرف و الحركة سريع الانتقال بحيث ينتقل في اللحظة الواحدة من المشرق إلى المغرب و من تخوم الأرض إلى السماء العليا قادرا على التصرّفات العجيبة، و جعله مؤتمرا للوزير تارة و للحاجب اخرى و هو موكّل بتفتيش الخزانتين و مراجعة الخازنين بإذن الوزير واسطة الحاجب إذا أراد استعلام أمر من تلك الامور، فهذه الملائكة الّتي خصّ اللّه تعالى بها بدنه و جعلها أقرب الملائكة المتصرفين في خدمته إليه، ثمّ إنّ وراء هؤلاء أطوارا اخر من الملائكة الأرضيّة كالملائكة الموكّلين بأنواع الحيوانات الّتي ينتفع بها الإنسان و بها تكون مسخّرة له و أنواع النبات و المعادن و العناصر الأربعة و الملائكة السماوية الّتي لا يعلم عددهم إلّا اللّه سبحانه و تعالى كما قال «وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ»«» فإنّ كلّ واحد منها موكّل بفعل خاصّ و له مقام خاصّ لا يتعدّاه و لا يتجاوزه كما قال تعالى حكاية عنهم «وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ»«» و هم بأسرهم متحرّكون بمصالح الإنسان و منافعه من أوّل حياته إلى حين وفاته بإذن المدبّر الحكيم دع ما سوى الملائكة من سائر الموجودات في هذا العالم المشتملة على منافعة و ما أفاض عليه من القوّة العقليّة الّتي هي سبب الخيرات الباقية و النعم الدائمة الّتي لا تنقطع موادّها و لا يتناهى تعدادها فإنّ كلّ ذلك في الحقيقة نعم إلهيّة و مواهب ربانيّة للعبد بحيث لو اختلّ شي‏ء منها لاختلّت منفعته من تلك الجهة، و معلوم أنّه لو قطع وقته أجمع‏ بالنظر إلى آثار رحمة اللّه تعالي في نوع من هذه النعم لانتها دونها فكره و قصر عنها إحصاؤه و حصره، و هو مع ذلك كلّه غافل عن شكر اللّه جاهل بمعرفة اللّه مصرّ على معصية اللّه فحقّ أن يقول سبحانه و تعالى بعد تنبيهه له على ضروب نعمه و الامتنان بها عليه «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ»«» ظلوم لنفسه بمعصية اللّه معتاد للكفر بآلاء اللّه قتل الإنسان ما أكفره إنّ الإنسان لكفور مبين فسبحان الّذي لا تحصى نعماؤه و لا تستقصي آلاؤه، و غاية هذا الحكم تنبيه الغافلين من مراقد الطبيعة على لزوم شكر اللّه سبحانه، و الاعتراف بنعمه المستلزم لدوام إخطاره بالبال.

 

قوله و لا يؤدّي حقّه المجتهدون.

أقول: هذا الحكم ظاهر الصدق من وجهين أحدهما أنّه لمّا كان أداء حقّ النعمة هو مقابلة الإحسان بجزاء مثله و ثبت في الكلمة السابقة أنّ نعم اللّه سبحانه لا تحصى لزم من ذلك أنّه لا يمكن مقابلتها بمثل. الثاني أنّ كلّ ما نتعاطاه من أفعالنا الاختياريّة مستندا إلى جوارحنا و قدرتنا و إرادتنا و سائر أسباب حركاتنا و هى بأسرها مستندة إلى جوده و مستفادة من نعمته، و كذلك ما يصدر عنّا من الشكر و الحمد و سائر العبادات نعمة فتقابل نعمة بنعمة، و روى أنّ هذا الخاطر خطر لداود عليه السّلام و كذلك لموسى عليه السّلام فقال: يا ربّ كيف أشكرك و أنا لا أستطيع أن أشكرك إلّا بنعمة ثانية من نعمك، و في رواية اخرى و شكري ذلك نعمة اخرى توجب علىّ الشكر لك فأوحى اللّه تعالى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتني، و في خبر آخر إذا عرفت أنّ النعم منّي رضيت منك بذلك شكرا، فأمّا ما يقال في العرف: من أنّ فلانا مؤدّ لحقّ اللّه تعالى فليس المراد منه جزاء النعمة بل لمّا كانت المطلوبات للّه تعالى من التكاليف الشرعيّة و العقليّة تسمّى حقوقا له لا جرم سمّى المجتهد في الامتثال مؤدّيا لحقّ اللّه، و ذلك الأداء في الحقيقة من أعظم نعمه تعالى على عبده إذ كانت الامتثال و سائر أسباب السلوك الموصل إلى اللّه تعالى كلّها مستندة إلى جوده و عنايته و إليه الإشارة بقوله تعالى «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»«» و ما كان في الحقيقة نعمة اللّه لا يكون أداء لنعمة اللّه و جزاء لها و إن اطلق ذلك في العرف إذ كان من شأن الحقّ المفهوم المتعارف بين الخلق استلزامه وجوب الجزاء و الأداء ليسارعوا إلى الإيتان به رغبة و رهبة فيحصل المقصود من التكليف حتّى لو لم يعتقدوا أنّه حقّ للّه بل هو مجرّد نفع خالص لهم لم يهتمّوا به غاية الاهتمام إذ كانت غايته غير متصوّرة لهم كما هي، و قلمّا تهتمّ النفوس، بأمر لا تتصوّر غايته و منفعته خصوصا مع المشقّة اللازمة في تحمّله إلّا بباعث قاهر من خارج.

 

قوله الّذي لا يدركه بعد الهمم و لا يناله غوص الفطن.

 أقول: إسناد الغوص هاهنا إلى الفطن على سبيل الاستعارة إذ الحقيقة إسناده إلى الحيوان بالنسبة إلى الماء و هو مستلزم لتشبيه المعقولات بالماء، و وجه الاستعارة هاهنا أنّ صفات الجلال و نعوت الكمال لمّا كانت في عدم تناهيها و الوقوف على حقائقها و أغوارها تشبه البحر الخضم الّذي لا يصل السائح له إلى ساحل، و لا ينتهي الغائص فيه إلى قرار، و كان السائح لذلك البحر و الحائض في تيّاره هى الفطن الثاقبة لا جرم كانت الفطنة شبيهة بالغائص في البحر فأسند الغوص إليها، و في معناه الغوص في الفكر و الغوص في النوم، و يقرب منه إسناد الإدراك إلى بعد الهمم إذ كان الإدراك حقيقة في لحقوق جسم لجسم آخر و إضافة الغوص إلى الفطن و البعد إلى الهم إضافة لمعنى الصفة بلفظ المصدر إلى الموصوف، و التقدير لا تناله الفطن الغائصة و لا تدركه الهمم البعيدة، و وجه الحسن في هذه الإضافة و تقديم الصفة أنّ المقصود لمّا كان هو المبالغة في عدم إصابة ذاته تعالى بالفطنة من حيث هى ذات غوص و بالهمّة من حيث هى بعيدة كانت تلك الحيثيّة مقصودة بالقصد الأوّل، و قد بيّنا أنّ البلاغة تقتضي تقديم الأهمّ و المقصود الأوّل على ما ليس كذلك، و برهان هذا المطلوب ظاهر فإنّ حقيقته تعالى لمّا كانت بريّة عن جهات التركيبات عريّة عن اختلاف الجهات مترعة عن تكثّر المتكثّرات، و كانت الأشياء إنّما تعلم بما هى من جهة حدودها المؤلّفة من أجزائها فإذن صدق أنّ واجب الوجود ليس بمركّب و ما ليس بمركّب ليس بمدرك الحقيقة و صدق أنّ واجب الوجود ليس بمدرك الحقيقة فلا تدركه همّة و إن بعدت و لا تناله فطنة و إن اشتدّت فكلّ سائح في بحار جلاله غريق فكلّ مدّع للوصول فبأنوار كبريائه حريق لا إله إلّا هو سبحانه و تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا.

 

قوله الّذي ليس لصفته حدّ محدود و لا نعت موجود.

 أقول: المراد ليس لمطلق ما تعتبره عقولنا له من الصفات السلبيّة و الإضافيّة نهاية معقولة تقف عندها فيكون حدّا له، و ليس لمطلق ما يوصف به أيضا وصف موجود يجمعه فيكون نعتا له و منحصرا فيه قال ابو الحسن الكندرى-  رحمه اللّه- : و يمكن أن يؤول حدّ محدود على ما يأوّل به كلام العرب: و لا يرى الضبّ بها ينحجر، أى ليس بها ضبّ فينحجر حتّى يكون المراد أنّه ليس له صفة فتحدّ إذ هو تعالى واحد من كلّ وجه منزّه عن الكثرة بوجه ما فيمتنع أن يكون له صفة تزيد على ذاته كما في سائر الممكنات، و صفاته المعلومة ليست من ذلك في شي‏ء إنّما هى نسب و إضافات لا يوجب وصفه بها كثرة في ذاته قال: و ممّا يؤكّد هذا التأويل قوله بعد ذلك فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و هذا التأويل حسن و هو راجع إلى ما ذكرناه في المعنى، و أمّا وصفه الحدّ بكونه محدودا فللمبالغة على طريقة قولهم شعر شاعر، و على هذا التأويل يكون قوله و لا نعت موجود سلبا للنعت عن ذاته سبحانه إذ التقدير ليس له صفة تحدّ و لا نعت، و قيل معنى قوله ليس لصفته حدّ أى ليس لها غاية بالنسبة إلى متعلّقاتها كالعلم بالنسبة إلى المعلومات و القدرة إلى المقدورات.

 

قوله و لا وقت معدود و لا أجل ممدود.

 أقول: وصف الوقت بكونه معدودا كقوله تعالى «فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» و كقوله «وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ»«» و هو المعلوم الداخل في الإحصاء و العدّ، و ذلك أنّ العدّ لا يتعلّق بالوقت الواحد من حيث هو واحد فإنّه من تلك الحيثيّة ليس معدودا بل مبدء للعدد و إنّما يتعلّق به من حيث إنّه داخل في الأوقات الكثيرة الموجودة في الزمان إمّا بالفرض أو بالفعل الّتي يلحق جملتها عند اعتبار التفصيل كونها معدودة إذ يقال: هذا الفرد معدود في هذه الجملة أى داخل في عدّها و مراده في هذين الحكمين نفي نسبة ذاته و ما يلحقها إلى الكون في الزمان و أن يكون ذات أجل ينتهي إليه فينقطع وجودها بانتهائه و بيان ذلك من وجهين أحدهما أنّ الزمان من لواحق الحركة الّتي هى من لواحق الجسم فلمّا كان الباري سبحانه منزّها عن الجسميّة استحال أن يكون في زمان، الثاني أنّه‏   تعالى إن أوجد الزمان و هو في الزمان لزم كون الزمان متقدّما على نفسه و إن أوجده بدون أن يكون فيه كان غنيّا في وجوده عنه فهو المطلوب فإذن صدق هذين السلبين في حقّه معلوم، و قد حصل في هذه القرائن الأربع السجع المتوازي مع نوع من التجنيس.   


قوله الّذي فطر الخلائق بقدرته و نشر الرياح برحمته و وتد بالصخور ميدان أرضه.

أقول: لمّا قدّم الصفات السلبيّة شرع في الصفات الثبوتيّة و هذه الاعتبارات الثلاثة موجودة في القرآن الكريم أمّا الأوّل فقوله تعالى «الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ»«» و أمّا الثاني فقوله تعالى «وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ»«» و أمّا الثالث فقوله تعالى «وَ أَلْقى‏ فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ»«» و قوله «وَ الْجِبالَ أَوْتاداً»«»

أمّا المراد بقوله فطر الخلائق بقدرته فاعتباره من حيث استناد المخلوقات إلى قدرته و وجودها عنها، و لمّا كانت حقيقة الفطر الشقّ في الأجسام كانت نسبته هاهنا إلى الخلق استعارة، و للإمام فخر الدين في بيان وجه الاستعارة في أمثال هذا الموضع بحث لطيف قال: و ذلك أنّ المخلوق قبل دخوله في الوجود كان معدودا محضا و العقل يتصوّر من العدم ظلمة متّصلة لا انفراج فيها و لا شقّ، فإذا أخرج الموجد المبتدع من العدم إلى الوجود فكأنّه بحسب التخيّل و التوهّم شقّ ذلك العدم و فطره و أخرج ذلك الموجود منه. قلت: إلّا أنّ ذلك الشقّ و الفطر على هذا التقدير لا يكون للموجود المخرج بل للعدم الّذي خرج هذا الموجود منه اللّهم إلّا على تقدير حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه حتّى يكون التقدير الّذي فطر عدم الخلائق. و هو استعمال شائع في العرف و العربيّة كثيرا و حسنه بين الناس ظاهر و مثله فالق الحبّ و النوى على قول بعض المفسّرين كما سنبيّنه، و قال ابن‏  الأنباري: لمّا كان أصل الفطر شقّ الشي‏ء عند ابتدائه فقوله فطر الخلائق أي خلقهم و أنشأهم بالتركيب و التأليف الّذي سبيله أن يحصل فيه الشقّ و التأليف عند ضمّ بعض الأشياء إلى بعض، ثمّ إنّ الفطر كما يكون شقّ إصلاح كقوله تعالى «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» كذلك يكون شقّ إفساد كقوله تعالى «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» «و هَلْ تَرى‏ مِنْ فُطُورٍ»

و أمّا  قوله و نشر الرياح برحمته فبيانه أنّ نشر الرياح و بسطها لمّا كان سببا عظيما من أسباب بقاء أنواع الحيوان و النبات و استعدادات الأمزجة للصحّة و النموّ و غيرها حتّى قال كثير من الأطبّاء: إنّها تستحيل روحا حيوانيّا، و كانت عناية اللّه سبحانه و تعالى و عموم رحمته شاملة لهذا العالم و هى مستند كلّ موجود لا جرم كان نشرها برحمته، و من أظهر آثار الرحمة الإلهيّة بنشر الرياح حملها للسحاب المقرع بالماء و إثارتها له على وفق الحكمة ليصيب الأرض الميتة فينبت بها الزرع و يملاء الضرع كما قال سبحانه «مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ»«» و قال «يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ»«» و قال «وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ-  فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ»«» و المراد تنبيه الغافلين على ضروب نعم اللّه بذكر هذه النعمة الجليلة ليستديموها بدوام شكره و المواظبة على طاعته كما قال تعالى «وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» و لقوله «لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما»«» قال إنّ بعض العرب يستعمل الريح في العذاب و الرياح في الرحمة و كذلك نزل القرآن الكريم قال تعالى «بِرِيحٍ صَرْصَرٍ» و قال «الرِّيحَ الْعَقِيمَ» و قال «يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ-  و الرِّياحَ لَواقِحَ» و أمثاله.

قوله و وتد بالصخور ميدان أرضه.

أقول: المراد نسبة نظام الأرض إلى قدرته سبحانه، و هاهنا بحثان.

البحث الأوّل في أنّ قول القائل وتدت كذا بكذا

معناه جعلته و تداله و الموتود هاهنا في الحقيقة إنّما هو الأرض و قد جعل الموتود هنا هو ميدان الأرض و هو عرض من الأعراض لا يتصوّر جعل الجبل وتدا له إلّا أنّا نقول: لمّا كان الميدان علّة حاملة على إيجاد الجبال و إيتاد الأرض بها كان الاهتمام به أشدّ فلذلك قدمّه و أضافه إضافة الصفة إلى الموصوف و إن كان التقدير وتد بالصخور أرضه المائدة.

البحث الثاني أنّ تعليل وجود الجبال بميدان الأرض

ورد هاهنا و في القرآن الكريم في مواضع كقوله تعالى «وَ أَلْقى‏ فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» و كقوله «وَ الْجِبالُ‏ كَذَّبَتْ» و لا بدّ من البحث عن وجه هذا التعليل، و فيه خمسة أوجه

الوجه الأوّل قال المفسّرون في معنى هذه الآيات:

إنّ السفينة إذا القيت على وجه الماء فإنّها تميل من جانب إلى جانب و تتحرّك فإذا وضعت الأجرام الثقيلة فيها استقرّت على وجه الماء و سكنت قالوا فكذلك لمّا خلق اللّه تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت و مادت فخلق اللّه عليها هذا الجبال و وتدها بها فاستقرّت على وجه الماء بسبب ثقل الجبال قال الإمام فخر الدين و يتوجّه على هذا الكلام أن يقال: لا شكّ أنّ الأرض أثقل من الماء و الأثقل يغوص فيه و لا يبقى طافيا عليه و إذا لم يبق كذلك امتنع أن يقال: إنّها تميد و تميل بخلاف السفينة إذ كانت مركّبة من الأخشاب و داخلها مجوّف مملوّ من الهواء فلذلك تبقى طافية على الماء فلا جرم تميل و تضطرب إلى أن ترسى بالأجرام الثقيلة فإذن الفرق ظاهر.

الوجه الثاني ما ذكره هو

قال: إنّه قد ثبت بالدلائل اليقينيّة أنّ الأرض كرة، و ثبت أيضا أنّ هذه الجبال على سطح الأرض جارية مجرى خشونات و تضريسات حاصلة على وجه الكرة فإذا ثبت هذا فلو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت الأرض كرة حقيقية خالية عن الخشونات و التضريسات لصارت بحيث تتحرّك بالاستدارة بأدنى سبب لأنّ الجرم البسيط يجب كونه متحرّكا على نفسه و إن لم يجب ذلك عقلا إلّا أنّها تصير بأدني سبب تتحرّك على هذا الوجه أمّا إذا حصل على سطح كرة الأرض هذه الجبال فكانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة فكلّ واحد من هذه الجبال إنّما يتوجّه بطبعه إلى مركز العالم و توجّه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم و قوّته الشديدة يكون جاريا مجرى الوتد الّذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة و كان تخليق هذه الجبال على الأرض كالأوتاد المعدودة في الكرة المانعة من الحركة المستديرة.

الوجه الثالث أن نقول:

لمّا كانت فائدة الوتد أن يحفظ الموتود في بعض المواضع عن الحركة و الاضطراب حتّى يكون قارّا ساكنا، و كان من لوازم ذلك السكون في بعض الأشياء صحّة الاستقرار على ذلك الشي‏ء و التصرّف عليه و كان من فائدة وجود الجبال و التصريسات الموجودة في وجه الأرض أن لا يكون مغمورة بالماء ليحصل للحيوان الاستقرار و التصرّف عليها لا جرم كان بين الأوتاد و الجبال الخارجة من الماء في الأرض اشتراك في كونهمامستلزمين لصحّة الاستقرار مانعين من عدمه لا جرم حسنت استعارة نسبة الإتياد إلى الصخور و الجبال، و أمّا إشعاره بالميدان، فلانّ الحيوان كما يكون صادقا عليه أنّه غيره مستقرّ على الأرض بسبب انغمارها في الماء لو لم توجد الجبال كذلك يصدق على الأرض أنّهما غير مستقرّة تحته و مضطربة بالنسبة إليه فثبت حينئذ أنّه لو لا وجود الجبال في سطح الأرض لكانت مضطربة و مائدة بالنسبة إلى الحيوان لعدم تمكّنه من الاستقرار عليها.

الوجه الرابع قال بعض العلماء:

إنّه يحتمل أن تكون الإشارة بالصخور إلى الأنبياء و الأولياء و العلماء و بالأرض إلى الدنيا أمّا وجه التجوّز بالصخور عن الأنبياء و العلماء فلأنّ الصخور و الجبال لمّا كانت على غاية من الثبات و الاستقرار مانعة لما يكون تحتها من الحركة و الاضطراب عاصمة لما يلتجى‏ء إليها من الحيوان عمّا يوجب له الهرب فيسكن بذلك اضطرابه و قلقه أشبهت الأوتاد من بعض هذه الجهات، ثمّ لمّا كانت الأنبياء و العلماء هم السبب في انتظام امور الدنيا و عدم اضطراب أحوال أهلها كانوا كالأوتاد للأرض فلا جرم صحّت استعارة لفظ الصخور لهم، و لذلك يحسن في العرف أن يقال: فلان جبل منيع يأوي إليه كلّ ملهوف إذا كان يرجع إليه في المهمّات و الحوائج و العلماء أوتاد اللّه في الأرض.

الوجه الخامس

أنّ المقصود من جعل الجبال كالأوتاد في الأرض أن يهتدى بها على طرقها و المقاصد فيها فلا تميد جهاتها المشتبهة بأهلها و لا تميل بهم فيتيهون فيها عن طرقهم و مقاصدهم و باللّه التوفيق.

قوله أوّل الدين معرفته.

أقول: لمّا كان الدين في اللغة الطاعة كما سبق و في العرف الشرعيّ هو الشريعة الصادرة بواسطة الرسل عليهم السلام و كان اتّباع الشريعة طاعة مخصوص كان ذلك تخصيصا من الشارع للعامّ بأحد مسمّياته و لكثرة استعماله فيه صار حقيقة دون سائر المسمّيات لأنّه المتبادر إلى الفهم حال إطلاق لفظة الدين، و اعلم أنّ معرفة الصانع سبحانه على مراتب فأوليها و أدناها أن يعرف العبد أنّ للعالم صانعا، الثانية أن يصدّق بوجوده، الثالثة أن يترقّي بجذب العناية الإلهيّة إلى توحيده و تنزيهه عن الشركاء، الرابعة مرتبة الإخلاص له، الخامسة نفي الصفات الّتي تعتبرها الأذهان له عنه و هي غاية العرفان و منتهى قوّة الإنسان، و كلّ مرتبة من المراتب الأربع الاولى مبدء لما بعدها من المراتب، و كلّ من الأربع الأخيرة كمال لما قبلها، ثمّ إنّ المرتبتين الأوليين مركوزتان في الفطر الإنسانيّة بل فيما هو أعمّ منها و هي الفطر الحيوانيّة و لذلك فإنّ الأنبياء عليهم السلام لم يدعوا الخلق إلى تحصيل هذا القدر من المعرفة، و أيضا فلو كان حصول هذا القدر من المعرفة متوّقفا على دعوة الأنبياء و صدقهم مع أنّ صدقهم مبنىّ على معرفة أنّ هاهنا صانعا للخلق أرسلهم للزم الدور، و إنّما كانت أوّل مرتبة دعوا إليها من المعرفة هي توحيد الصانع و نفي الكثرة عنه المشتمل عليها أوّل كلمة نطق بها الداعي إلى اللّه و هي قولنا: لا إله إلّا اللّه فقال صلى اللّه عليه و آله من قال لا إله إلّا اللّه خالصا مخلصا دخل الجنّة. ثمّ استعدّت أذهان الخلق بما نطقت به من التوحيد الظاهر نبّههم على أنّ فيها قوّة إعداد لتوحيد أعلى و أخفى من الأوّل فقال: من قال لا إله إلّا اللّه خالصا مخلصا دخل الجنّة، و ذلك إشارة إلى حذف كلّ قيد من درجة الاعتبار مع الوحدة المطلقة إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يحتمل أن يكون مراده بالمعرفة المرتبة الاولى من مراتب المعرفة و حينئذ يكون معنى قوله أوّل الدين معرفته ظاهرا فإنّ ذلك القدر أوّل متحصّل في النفس من الدين الحقّ، و يحتمل أن يكون مراده المعرفة التامّة الّتي هي غاية العارف و نهاية مراتب‏ السلوك و حينئذ يكون المراد من كونها أوّل الدين هو أوليّتها في العقل و هو إشارة إلى كونها علّة غائيّة إذ العلّة الغائيّة متقدّمة في العقل على ما هي علّة له و إن تأخّرت في الوجود، و بيان ذلك أنّ المعرفة التامّة الّتي هي غاية سعى العارف غير حاصلة في مبدء الأمر بل يحتاج في كمال ما حصل له من مراتب المعرفة و تحصيل المعرفة التامّة إلى الرياضة بالزهد و العبادة و تلقى الأوامر الإلهيّة بالقبول الّتي هي سبب إتمام الدين فيستعدّ أوّلا بسببها للتصديق بوجوده يقينا ثمّ لتوحيده ثمّ للإخلاص له ثمّ لنفي كلّ ما عداه عنه فيغرق في تيّار بحار العظمة و كلّ مرتبة أدركها فهي كمال لما قبلها إلى أن تتمّ المعرفة المطلوبة له بحسب ما في وسعه و بكمال المعرفة يتمّ الدين و ينتهي السفر إلى اللّه.

 

قوله و كمال معرفته التصديق إلى قوله نفي الصفات عنه.

أقول: ترتيب هذه المقدّمات على هذا الوجه يسمّى قياسا مفصولا و هو القياس المركّب‏ الّذي تطوي فيه النتائج و عند ذكرها يتبيّن أنّ المقصود منها بيان أنّ كمال معرفته نفي الصفات عنه، و هذا القياس تنحلّ إلى قياسات تشبه قياس المساواة لعدم الشركة بين مقدّمتي كلّ منها في تمام الأوسط فيحتاج في إنتاج كلّ منها إلى قياس آخر، و المطلوب من التركيب الأوّل و هو قوله و كمال معرفته التصديق به و كمال التصديق به توحيده أنّ كمال معرفته توحيده، و إنّما يلزم عنه هذا المطلوب بقياس آخر، صورته أنّ معرفته كمال و كمالها توحيده و كلّما كان كمال كماله توحيده كان كماله توحيده فينتج أنّ كمال معرفته توحيده، أمّا المقدّمة الاولى فإنّ التوحيد كمال التصديق و هو كمال المعرفة، و أمّا الثانية فلأنّ كمال كمال الشي‏ء كمال الشي‏ء و هكذا في باقي التركيب و المطلوب من تركيب هذه النتيجة مع المقدّمة الثالثة و هى قوله و كمال توحيده الإخلاص له أنّ كمال معرفته الإخلاص له، و من تركيب هذه النتيجة مع المقدّمة الرابعة و هي قوله كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه يحصل المطلوب، و اعلم أنّ في إطلاق الكمال هاهنا تنبيها على أنّ معرفة اللّه تعالى مقولة بحسب التشكيك إذ كانت قابلة للزيادة و النقصان، و بيان ذلك أنّ ذات اللّه تعالي لمّا كانت بريّة عن أنحاء التركيب لم يكن معرفته ممكنة إلّا بحسب رسوم ناقصة تتركّب من سلوب و إضافات تلزم ذاته المقدّسة لزوما عقليّا فتلك السلوب و الإضافات لمّا لم تكن متناهية لم يمكن أن تقف المعرفة بحسبها عند حدّ واحد بل تكون متفاوتة بحسب زيادتها و نقصانها و خفائها و جلائها، و كذلك كمال التصديق و التوحيد و الإخلاص، و إذا تقرّر ذلك فلنشرع في تقدير المقدّمات،

أمّا المقدّمة الاولى و هي أنّ كمال معرفته التصديق به، و بيان ذلك أن المتصوّر لمعنى إله العالم عارف به من تلك الجهة معرفة ناقصة تمامها الحكم بوجوده و وجوبه إذ من ضرورة كونه موجد للعالم كونه موجودا فإنّ ما لم يكن موجودا استحال بالضرورة أن يصدر عنه أثر موجود فهذا الحكم اللاحي هو كمال معرفته،

و أمّا الثانية و هي قوله و كمال التصديق به توحيده فبيانها أنّ من صدّق بوجود الواجب ثمّ جهل مع ذلك كونه واحدا كان تصديقه به تصديقا ناقصا تمامه توحيده، إذ كانت الواحدة المطلقة لازمة لوجود الواجب فإنّ طبيعة واجب الوجود بتقدير أن تكون مشتركة بين اثنين فلا بدّ لكلّ واحد منهما من مميّز وراء ما به الاشتراك فيلزم التركيب في ذاتيهما و كلّ مركّب ممكن فيلزمه الجهل بكونه واجب الوجود و إن تصوّر معناه و حكم بوجوده،

و أمّا الثالثة و هي قوله و كمال توحيده الإخلاص له ففيها إشارة إلى أنّ التوحيد المطلق للعارف نّما يتمّ بالإخلاص له و هو الزهد الحقيقيّ الّذي هو عبارة عن تنحية كلّ ما سوى الحقّ الأوّل عن سنن الإيثار، و بيان ذلك أنّه ثبت في علم السلوك أنّ العارف ما دام ملتفتا مع ملاحظة جلال اللّه و عظمته إلى شي‏ء سواه فهو بعد واقف دون مقام الوصول جاعل مع اللّه غيرا حتّى أنّ أهل الإخلاص ليعدّون ذلك شركا خفيّا كما قال بعضهم: من كان في قلبه مثقال خردلة سوى جلالك فاعلم أنّه مريض و إنّهم ليعتبرون في تحقّق الإخلاص أن يغيب العارف عن نفسه حال ملاحظته لجلال اللّه و أن لحظها فمن حيث هي لاحظة لا من حيث هي متزيّنة بزينة الحقّ فإذن التوحيد المطلق أن لا يعتبر معه غيره مطلقا، و ذلك هو المراد بقوله و كمال توحيده الإخلاص له،

 

و أمّا المقدّمة الرابعة و هي أنّ كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه فقد بيّن عليه السّلام صدقها بقياس برهانيّ مطويّ النتائج أيضا استنتج منه أنّ كلّ من وصف اللّه سبحانه فقد جهله،

 

و ذلك قوله عليه السّلام لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة إلى قوله و من جزّاه فقد جهله، و بيان صحّة المقدّمات

 

أمّا قوله لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف و بالعكس فهو توطئة الاستدلال ببيان المغائرة بين الصفة و الموصوف، و المراد بالشهادة هاهنا شهادة الحال فإنّ حال الصفة تشهد بحاجتها إلى الموصوف و عدم قيامها بدونه و حال الموصوف تشهد بالاستغناء عن الصفة و القيام بالذات بدونها فلا تكون الصفة نفس الموصوف،

 

و أمّا قوله فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه فهو ظاهر لأنّه لمّا قرّر كون الصفة مغايرة للموصوف لزم أن تكون زائدة على الذات غير منفكّة عنها فلزم من وصفه بها أن تكون مقارنة لها و إن كانت تلك المقارنة على وجه لا يستدعي زمانا و لا مكانا،

 

و أمّا قوله و من قرنة فقد ثنّاه فلأنّ من قرنه بشي‏ء من الصفات فقد اعتبر في مفهومه أمرين أحدهما الذات و الآخر الصفة فكان واجب الوجود عبارة عن شيئين أو أشياء فكانت فيه كثرة و حينئذ ينتج هذا التركيب أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد ثنّاه،

 

و أمّا قوله و من ثنّاه فقد جزّاه فظاهر أنّه إذا كانت الذات عبارة عن مجموع امور كانت تلك الامور أجزاء لتلك الكثرة من حيث إنّها تلك الكثرة و هي مبادئ لها، و ضمّ هذه المقدّمة إلى نتيجة التركيب الأوّل ينتج أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد جزّاه،

 

و أمّا قوله و من جزّاه فقد جهله فلأنّ كلّ ذي جزء فهو يفتقر إلى جزء و جزئه غيره فكلّ ذي جزء فهو مفتقر إلى غيره و المفتقر إلى الغير ممكن فالمتصوّر في الحقيقة لأمر هو ممكن الوجود لا الواجب الوجود بذاته فيكون إذن جاهلا به و ضمّ هذه المقدّمة إلى نتيجة ما قبلها ينتج أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد جهله و حينئذ يتبيّن المطلوب و هو أنّ كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه إذ الإخلاص له و الجهل به ممّا لا يجتمعان، و إذا كان الإخلاص منافيا للجهل به الّذي هو لازم لإثبات الصفة له كان إذن منافيا لإثبات الصفة له لأنّ معاندة اللازم تستلزم معاندة الملزوم، و إذ بطل أن يكون الإخلاص في إثبات الصفة له تثبت أنّه في نفي الصفة عنه و عند هذا يظهر المطلوب الأوّل و هو أنّ كمال معرفته نفي الصفات عنه و ذلك هو التوحيد المطلق و الإخلاص المحقّق الّذي هو نهاية العرفان و غاية سعي العارف من كلّ حركة حسيّة و عقليّة و ما يكون في نفس الأمر من غير تعقّل نقص كلّ ما عداه عنه معه فهو الوحدة المطلقة المبرّاة عن كلّ لاحق، و هذا مقام حسرت عنه نوافذ الأبصار، و كلّت في تحقيقه صوارم الأفكار، و أكثر الناس فيه الأقوال فانتهت بهم الحال إلى إثبات المعاني و ارتكاب الأحوال فلزمهم في ذلك الضلال ما لزمهم من المحال فإن قلت: هذا يشكل من وجهين أحدهما أنّ الكتب الإلهيّة و السنن النبويّة مشحونة بوصفه تعالى بالأوصاف المشهورة كالعلم و القدرة و الحياة و السمع و البصر و غيرها و على ما قلتم يلزم أن لا يوصف سبحانه بشي‏ء منها، الثاني أنّه عليه السّلام صرّح بإثبات الصفة له في قوله ليس لصفته حدّ محدود و لو كان مقصوده بنفي الصفات ما ذكرتم لزم التناقض في كلامه عليه السّلام فالأولى إذن أن يخصّ قوله نفى الصفات عنه بنفي المعاني كما ذهب إليه الأشعري، و نفي الأحوال كما ذهب إليه المثبتون من المعتزلة و بعض الأشعريّة ليبقى للصفات المشهورة الجاريه عليه تعالى و لإثباته عليه السّلام الصفة للّه في موضع آخر محمل، أو يختصّ بنفي صفات المخلوقين كما أشار عليه السّلام في آخر الخطبة لا يجرون إليه صفات المصنوعين، و كما ذكره الشيخ المفيد من الشيعة في كتاب الإرشاد عنه جلّ أن تحلّه الصفات لشهادة العقول أنّ كلّ من حلّته الصفات مصنوع. قلت: قد سبق منّا بيان أنّ كلّ ما يوصف به تعالى من‏ الصفات الحقيقيّة و السلبيّة و الإضافيّة اعتبارات تحدّثها عقولنا عند مقائسة ذاته سبحانه إلى غيرها، و لا يلزم تركيب في ذاته و لا كثرة فيكون وصفه تعالى بها أمرا معلوما من الدين ليعمّ التوحيد و التنزيه كلّ طبقة من الناس، و لمّا كانت عقول الخلق على مراتب من التفاوت كان الإخلاص الّذي ذكره عليه السّلام أقصى ما تنتهي إليه القوى البشريّة عند غرقها في أنوار كبرياء اللّه و هو أن تعتبره فقط من غير ملاحظة شي‏ء آخر، و كان إثباته عليه السّلام الصفة في موضع آخر و وصفه في الكتاب العزيز و سنن النبويّة إشارة إلى الاعتبارات الّتي ذكرناها إذ كان من هو دون درجة الإخلاص لا يمكن أن يعرف اللّه سبحانه بدونها و باللّه التوفيق.

 

قوله و من أشار إليه فقد حدّه و من حدّه فقد عدّه.

أقول: يشير إلى البرهان على أحد أمرين أحدهما أنّه يحتمل أن يكون مراده امتناع الإشارة العقليّة إليه و تعلّقها به فعلى هذا يكون تقرير المقدّمة الاولى من هذا البرهان أنّ من وجّه ذهنه طالبا لكنه ذاته المقدّسة و زعم أنّه وجدها و أحاط بها و أشار إليها من جهة ما هى فقد أوجب له حدّا يقف ذهنه عنده إذ الحقيقة إنّما تعلم من جهة ما هي و يشير العقل إلى كنهها إذا كانت مركّبة و قد علمت أنّ كلّ مركّب محدود في المعنى و لأنّ الإشارة العقليّة ملوّثة بالإشارة الوهميّة و الخياليّة مشوبة بهما و هما مستلزمان لإثبات الحدّ كما سيأتي، و أمّا تقرير المقدّمة الثانية فظاهر إذ كان حدّ الشي‏ء إنّما يتألّف من كثرة معتبرة فيه و كلّ ذي كثرة معدود في نفسه و نتيجة هذا البرهان أنّ من‏ أشار إليه فقد عدّه، و أمّا استحالة أن يكون معدودا فلما علمت فيما سبق أنّ الكثرة مستلزمة للإمكان، الثاني أنّه يحتمل أن يكون مراده أيضا نفي الإشارة الحسيّة الظاهرة و الباطنة إليه و بيان تنزيهه عن الوحدة العدديّة، و يكون تقرير المقدّمة الاولى أنّ من أشار إليه بأحد الحواسّ فقد جعل له حدّا أو حدودا أو نهايات تحيط به، و ذلك أنّ كلّ ما يشار إليه بالحسّ أيضا أو الباطن فلا بدّ و أن يشار إليه في حيّز مخصوص و على وضع مخصوص و ما كان كذلك فلا بدّ و أن يكون له حد أو حدود فإذن لو كان مشار إليها بأحدها لكان محدودا، و أمّا تقرير المقدّمة الثانية فالمراد بالعدّ هاهنا جعله مبدء كثرة يصلح أن‏ يكون عادّا لها، و ذلك أنّ كلّ ما أدرك على وضع مخصوص و في جهة فالعقل حاكم بإمكان وجود أمثاله فمن حدّه بالإشارة الحسيّة فقد جعله مبدء كثرة يصلح أن يعدّ بها و يكون معدودا بالنسبة إليها، و أمّا كونه في نفسه معدودا و ذلك كونه مركّبا من امور لأنّ الواحد بهذا المعنى ليس مجرّد الوحدة فقط و إلّا لما تعلّقت الإشارة الحسيّة به بل لا بدّ معها من الوضع كما علمت و على الوجهين يكون مجتمعا من أمرين أو أمور فيكون مركّبا و كلّ مركّب ممكن على ما مرّ و إذا استحال أن يكون واحدا بهذا المعنى كانت الإشارة إليه مطلقا يستلزم الجهل به من حيث هو واحد واجب الوجود، و أعلم أنّه ليس إذا بطل أن يكون واحدا فإنّ للواحد مفهومات اخر بها يقال له واحد فإنّه يقال واحد لما لا يشاركه في حقيقة الخاصّة به غيره و يقال واحد لما لا تتركّب حقيقته و تأتلف من معاني متعدّدة الأجزاء قوام و لا أجزاء حدّ و يقال واحد لما لم يفته من كماله شي‏ء بل كلّ كمال ينبغي أن يكون له فهو حاصل له بالفعل و الباري سبحانه واحد بهذه الاعتبارات الثلاثة

 

قوله و من قال فيم فقد ضمنّه و من قال علام فقد أخلى منه.

أقول: أصل فيم و علام فيما و علي ما حرفان دخلا على ما الاستفهاميّة فحذف ألفها لاتّصالها بهما تخفيفا في الاستفهام خاصّة و هاتان القضيّتان في تقدير شرطيّتين متّصلتين يراد منهما تأديب الخلق أن يستفهموا عنه سبحانه على هذين الوجهين، و بيان المراد منهما باستثناء نقيضي تاليهما و حذف الاستثناء هاهنا الّذي هو كبرى القياس على ما هو المعتاد في قياس الضمير، و اعلم أنّ تقدير المتّصلة الاولى لو صحّ السؤال منه بفيم لكان له محلّ يتضمّنه و يصدق عليه أنّه فيه صدق العرض بالمحلّ لكنّه يمتنع كونه في محلّ فيمتنع السؤال عنه بفيم بيان الملازمة أنّ مفهوم في لمّا كان موجودا في ما كان الاستفهام بفيم استفهاما عن مطلق المحلّ و الظرف و لا يصحّ الاستفهام عن المحلّ لشي‏ء إلّا إذا صحّ كونه فيه بيان بطلان التالي أنّه لو صحّ كونه في محلّ لكان إمّا أن يجب كونه فيه فيلزم أن يكون محتاجا إلى ذلك المحلّ و المحتاج إلى الغير ممكن بالذات و إن لم يجب حلوله فيه جاز أن يستغني عنه و الغنيّ في وجوده عن المحلّ يستحيل أن يعرض له و إذا استحال أن يكون في محلّ كان السؤال عنه بفيم جهلا، و أمّا تقدير المتّصلة الثانية فهو أنّه لو جاز السؤال عنه بعلام لجاز خلوّ بعض‏ الجهات و الأماكن عنه لكنّه لا يجوز خلوّ مكان عنه فامتنع الاستفهام عنه بعلام بيان الملازمة هو أن مفهوم على و هو العلوّ و الفوقانيّة لمّا كان موجودا في ما كانت استفهاما عن شي‏ء هو فوقه و عال عليه، و ذلك يستلزم أمرين أحدهما بواسطة الآخر و لازم له فالّذي هو بواسطة و لا لازم لها هو أخلا سائر الجهات عنه و هو ما ذكره عليه السّلام و أمّا الواسطة الملزومة فهى إثبات الجهة المعيّنة و هى جهة فوق إذا كان اختصاصه بجهة معيّنة يستلزم نفي كونه في سائر الجهات، و إنّما جعل عليه السّلام لازم هذه المتّصلة كونه قد أخلى منه ليستلزم من إبطال اللازم و هو الخلوّ عنه بطلان اختصاصه بالجهة المعيّنة ليلزم منه بطلان المقدّم و هو صحّة السؤال عنه بعلام، فأمّا بطلان التالي فلقوله «وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ«»» و قوله «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» فإن قلت: إنّ مثبت الجهة لا يجهل هذه الآيات بل له أن يقول: لا تنافي بين إثبات الجهة المعيّنة و بين مقتضي هذه الآيات لأنّ المقصود من كونه في السماء و الأرض أي بعلمه و كذلك من معيّته للخلق و كونه في جهة فوق إنّما هو بذاته فحينئذ لا يكون هذه الآيات منافية لغرضه قلت: إنّما جعل عليه السّلام قوله فقد أخلى منه لازما في هذه القضيّة لأنّ نفى هذا اللازم بهذه الآيات ظاهر و كذلك إنّ مثبت الجهة إنّما يعتمد في إثباتها على ظواهر الآيات الدالّة على ذلك كقوله تعالى «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏» فكانت معارضة مقتضاها بظواهر هذه الآيات أنفع في الخطابة و أنجع في قلوب العامّة من الدلائل العقليّة على نفي الجهة، و دلالة هذه الآيات على عدم خلوّ مكان من الأمكنة منه تعالى يستلزم دلالتها على عدم اختصاصه بجهة فوق، و المعارضة كما تكون بما يقتضي إبطال مقتضي الدليل كذلك تكون بما يقتضي إبطال لازم مقتضاه فكانت مستلزمة لعدم جواز الاستفهام عنه بعلام و لو قال: و من قال علام فقد أثبت له جهة لم يمكن إبطال هذا اللازم إلّا بالدليل العقليّ لكون الظواهر النقليّة مشعرة بإثبات الجهة له فلذلك عدل عليه السّلام إلى هذا اللازم كما بيّنه لوجود ما يبطله في القرآن الكريم و هى الآيات المذكورة حتّى إذا عدل المثبت للجهة عن ظواهر هذه الآيات إلى التأويل بإحاطة العلم مثلا ألزمناه مثله في نحو قوله «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ‏  اسْتَوى‏» فقلنا: المراد من الاستواء الاستيلاء بالقدرة أو العلم كما هو مذكور في الكتب الكلاميّة، و إنّما خصّ عليه السّلام جهة العلوّ بإنكار اعتقادها و التحذير منه لكون كلّ معتقد للّه جهة يخصّصه بها لما يتوهّم من كونها شرف الجهات و لأنّها نطق بها القرآن الكريم فكانت الشبهة في إثباتها أقوى فلذلك خصّها بالذكر.

 

قوله كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم.

أقول: الكائن اسم الفاعل من كان و هو يستعمل في اللغة على ثلاثة أوجه، أحدها أن تكون بصيغتها دالّة على الحدث و الزمان و يسمّى في عرف النحاة كان التامّة كقوله: إذا كان الشتاء فاد فئوني أي إذا حدث و وجد، الثاني أن تدلّ على الزمان وحده و يحتاج في الدلالة على الحدث إلى خبر يتمّ به و هى الناقصة و استعمالها هو الأكثر كقوله تعالى «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ» الثالث أن تكون زائدة خالية عن الدلالة على حدث أو زمان كقوله: على كان المسوّمة العراب أي على المسوّمة. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ مفهوم كائن أنّه شي‏ء ما له كون، و لمّا كان ذلك الشي‏ء هو ذات اللّه تعالى و كانت ذاته مقدّسة عن الزمان استحال أن يقصد وصفه بالكون الدالّ على الزمان، و لمّا احترز بقوله لا عن حدث استحال أن يدلّ كونه على الحدث و هو المسبوقيّة بالعدم أيضا و إذا بطل أن يكون كونه مستلزما للزمان و مسبوقيّة العدم لم يكن له دلالة إلّا على الوجود المجرّد عن هذين القيدين، و من هذا القبيل قوله تعالى «وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» و أمثاله و قول الرسول صلى اللّه عليه و آله كان اللّه و لا شي‏ء، و أمّا قوله موجود لا عن عدم فالمراد أيضا أنّ وجوده ليس بحادث، و بيانه أنّ الموجود من حيث هو موجود إمّا أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم و حاصلا عنه و هو المحدث أو لا يكون و هو القديم فأمّا كليّة هذا الحكم فلأنّه لو كان محدثا لكان ممكنا و لو كان ممكنا لما كان واجب الوجود فينتج أنّه لو كان محدثا لما كان واجب الوجود لكنّه واجب الوجود فينتج أنّه ليس بمحدث، أمّا المقدّمتان فجليّتان، و أمّا بطلان تالي النتيجة فمقتضي البراهين الإلهيّة، و اعلم أنّ هذه القضيّة مؤكّدة لمقتضى القضيّة الاولى و ليس مقتضاها عين ما أفادته الاولى إذ كان في الكلمة الاولى مقصود آخر و هو تعليم الخلق كيفيّة إطلاق لفظة الكون على اللّه تعالى و إشعارهم أنّ المراد منها ليس ما يتبادر إليه الذهن من‏ مفهومها حال إطلاقها و هو الحدوث و يحتمل أن يكون مراده في الاولى نفي الحدوث الذاتي أو ما أعمّ منه و من الزمان، و في الثانية نفي الحدوث الزماني و اللّه أعلم.

 

قوله مع كلّ شي‏ء لا بمقارنة و غير كلّ شي‏ء لا بمزائلة.

 أقول: إنّ كونه تعالى مع غيره و غيره غيره إضافتان عارضتان له بالنسبة إلى جميع الموجودات إذ كلّها منه و يصدق عليه أن يقال: إنّه معها و إنّه متقدّم عليها و لكن باعتبارين مختلفين فإنّ المعيّة نفس إضافة تحدثها العقول بنسبته إلى آثاره و مساوقة وجوده لوجوداتها و إحاطة علمه بكلّيتها و جزئيّتها كما قال «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» و التقدّم نسبة تحدثها له باعتبار كونه علّة لها ثمّ لمّا كانت المعيّة أعمّ من المقارنة لاعتبار الزمان و المكان في مفهومها المتعارف لم يكن معيّة للأشياء على سبيل المقارنة لها لبرائة ذاته المقدّسة عن الزمان و المكان فلذلك احترز بقوله لا بمقارنة و أمّا أنّه غيرها لا بمزائلة فيحتمل وجهين، أحدهما و هو الأظهر أنّ المغائرة لمّا كانت أعمّ من المزائلة لدخول الزمان و المكان في مفهومها أيضا كانت مغايرته للأشياء غير معتبر فيها المزائلة لتقدّس ذاته عن الزمان و المكان فلذلك احترز بقوله لا بمزائلة، الثاني أن يقال: إنّ كونه تعالى غير كلّ شي‏ء معناه أنّه مميّز بذاته عن كلّ شي‏ء إذ لا يشارك شيئا من الأشياء في معني جنسي و لا نوعي فلا يحتاج أن ينفصل عنها بفصل ذاتي أو عرضيّ بل هو مباين لها بذاته لا بمزائلة، و يكون معنى المزائلة المفارقة بأحد الامور المذكورة بعد الاشتراك في أحد الامور المذكورة، و اعلم أن هذين القيدين كاسران للأحكام الوهميّة باعتبار الزمان و المكان و الأوصاف المخلوقة المتعارفة بين الخلق المعتبرة بينهم في مفهوم المعيّة و الغيريّة منبّهان للعقول على ما وراء حكم الوهم من عظمة اللّه سبحانه و تقدّس ذاته عن صفات الممكنات و كذلك قوله كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم فإنّه ردّ للوهم الحاكمة بمماثلته تعالى للمحدثات.

 

قوله فاعل لا بمعني الحركات و الآلة.

أقول: الحركة عبارة عن حصول المتحيّز في حيّز بعد أن كان في حيّز آخر إن قلنا بثبوت الجوهر الفرد و إلّا فهى عبارة عن انتقال المتحيّز من حيّز إلى حيّز آخر أو غيره من التعريفات، و الآلة هى ما يؤثّر الفاعل في منفعله القريب منه بواسطة، و المراد بيان‏ أنّه فاعل إلّا أنّ ما صدر عنه تعالى من الآثار ليس بحسب حركة و لا بتوسّط آلة كما يفتقر غيره في نسبة صدور الفعل عنه إليه أمّا أنّه لا يفتقر إلى الحركة فلأنّ معنى الحركة إنّما يعرض للجسم و الباري تعالى منزّه عن الجسميّة فيستحيل صدق مسمّى الحركة في حقّه، و أمّا أنّ فعله ليس بتوسّط آلة فبيانه من وجهين: أحدهما لو كان كذلك لكانت تلك الآلة إن كانت من فعله فإمّا بتوسّط آلة اخرى أو بدونها فإن كانت بدونها فقد صدق أنّه فاعل لا بمعنى الآلة و إن كان فعله لها بتوسّط آلة اخرى فالكلام فيها كالكلام في الأولى و يلزم التناقض، و أمّا إن لم تكن تلك الآلة من فعله و لم يمكنه الفعل بدونها كان الباري تعالى مفتقرا في تحقّق فعله إلى الغير و المفتقر إلى الغير ممكن بالذات فالواجب بالذات ممكن بالذات هذا خلف. الثاني أنّه تعالى لو فعل بالآلة لكان بدونها غير مستقلّ بإيجاد الفعل فكان ناقصا بذاته مستكملا بالآلة، و النقص على اللّه تعالى محال فتوقّف فعله على الآلة محال فإذن هو الفاعل المطلق بالإبداع و محض الاختراع المبرء عن نقصان الذات المنزّه عن الحاجة إلى الحركات و الآلات.

 

قوله بصير إذ لا منظور إليه من خلقه.

 أقول: البصير فعيل بمعنى الفاعل من البصر، و البصر حقيقة في حاسّة العين مجاز في القوّة الّتي بها العلم، و المنظور إليه هو المشاهد بتقليب الحدقة نحوه، و المراد وصفه تعالى بكونه بصيرا حال مالا يتحقّق المبصرات، و إذ ليس كونه بصيرا، بمعنى أنّ له آلة البصر لتنزّهه عن الحواسّ وجب العدول إلى المجاز و هو أن يكون بصيرا بمعني أنّه عالم، و قرينة ذلك.

قوله إذ لا منظور إليه من خلقه لأنّ البصر أمر إضافيّ يلحق ذاته بالنسبة إلى مبصر و هو أمر يلحق ذاته أزلا و أبدا و لا شي‏ء من المبصرات بالحسّ موجود أزلا لقيام البراهين العقليّة على حدوث العالم حتّى يمكن أن يلحقه النسبة بالقياس إليه فوجب أن لا يكون من حيث هو هو بصيرا بهذا المعنى، و يحتمل أنّ الإشارة بإذ في قوله إذ لا منظور إليه إلى اعتبار كونه مقدّما على آثاره من جهة ما هو متقدّم فإنّه بالنظر إلى تلك الجهة لا منظور إليه من خلقه معه و هو عالم لذاته و بذاته مطلقا و إذ ليس بصيرا بالمعني المذكور فهو إذن بصير بالصفة الّتي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات، و بها تظهر الأسرار و الخفيّات فهو الّذي يشاهد و يرى حتّى لا يعزب عنه ما تحت الثرى و إن تجهر بالقول فإنّه يعلم السرّ و أخفى‏

و هذه الآلة و إن عدّت كمالا فإنّما هى كمال خاصّ بالحيوان، و كماله بها و إن كان ظاهرا إلّا أنّه ضعيف قاصر إذ لا يمتدّ إلى ما بعد و لا يتغلغل في باطن و إن قرب بل يتناول الظواهر و يقصر عن البواطن، و قد قيل: إنّ الحظّ الّذي للعبد من البصر أمران، أحدهما أن يعلم أنّه خلق له البصر لينظر إلى الآيات و عجائب ملكوت السماوات فلا يكون نظره إلّا اعتبارا حكى أنّه قيل لعيسى عليه السّلام هل أحد من الخلق مثلك فقال: من كان نظره عبرة و صمته فكرة و كلامه ذكرا فهو مثلي، الثاني أن يعلم أنّه من اللّه بمراى و مسمع فلا يستهين بنظره إليه و إطّلاعه عليه و من أخفى من غير اللّه ما لا يخفيه من اللّه تعالى فقد استهان بنظر اللّه تعالى، إليه و المراقبة إحدى ثمرات الإيمان بهذا الصفة فمن قارب معصيته و هو يعلم أنّ اللّه يراه فما أجرئه و ما أخسره، و من ظنّ أنّ اللّه تعالى لا يراه فما أكفره.

 

قوله متوحّد إذ لا سكن يستأنس به و لا يستوحش لفقده.

 أقول: المراد وصفه تعالى بالتفرّد بالوحدانيّة و أشار بقوله إذ لا سكن إلى اعتبار أنّ تفرّده بالوحدانيّة لذاته فهو من تلك الحيثيّة متفرّد بالوحدانيّة لا على وجه الانفراد عن مثل له كما هو المفهوم المتعارف من انفراد بعض الناس عن بعض ممّن عادته مشاركته في مشاوراته و محادثاته، و انفراد أحد المتألّفين من الحيوانات عن الآخر و هو الأنيس الّذي يستأنس بوجوده معه و يستوحش لفقده و غيبته عنه إذ كان الاستيناس و الاستيحاش متعلّقين بميل الطبع إلى الشي‏ء و نفرته عنه و هما من توابع المزاج، و لمّا كان الباري سبحانه منزّها من الجسميّة و المزاج وجب أن يكون منزّها عن الاستيناس و التوحش فهو المنفرد بالوحدانيّة المطلقة لا بالقياس إلى شي‏ء يعقل ذلك التفرّد بالنسبة إليه. و اعلم أنّ القيود الثلاثة الزائدة على قوله فاعل و بصير و متوحّد في الفصول الثلاثة مستلزمة للتنبيه على عظمة اللّه تعالى كما بيّناه في قوله لا بمقارنة و لا بمزائلة، و ذلك لأنّ الأوهام البشريّة حاكمة بحاجة الفاعل إلى الآلة و البصير إلى وجود المبصر و المتوحّد إلى أن يكون في مقابلته أنيس مثله انفرد عنه، و لمّا كانت ذات اللّه سبحانه منزّهة عن جميع ذلك أراد عليه السّلام كسر الوهم و معارضة أحكامه بتنبيه العقول عليها فذكر هذه القيود الثلاثة و باللّه التوفيق.

 

شرح ابن میثم بحرانی جلد اول