خطبه1شرح ابن میثم بحرانی قسمت چهارم

الفصل الرابع قوله و اصطفى سبحانه…

وَ اصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ-  أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ-  وَ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ-  لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ-  فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ-  وَ اجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ-  وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ-  وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ-  وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ-  وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ-  وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ-  وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ-  مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ-  وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ‏ تُهْرِمُهُمْ-  وَ أَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ-  وَ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ-  أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ-  رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ-  وَ لَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ-  مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَ مَضَتِ الدُّهُورُ-  وَ سَلَفَتِ الْآبَاءُ وَ خَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص-  لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ-  مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ-  مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلَادُهُ-  وَ أَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ-  وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَوائِفُ مُتَشَتِّتَةٌ-  بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ-  أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ-  فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ-  ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ-  وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا-  وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى-  فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً-  ص وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا-  إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ-  وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ-  وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ-  وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ-  وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ-  بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ-  وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ-  وَ مَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ-  وَ وَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ-  وَ مُرَخَّصٍ فِي الْكِتَابِ تَرْكُهُ-  وَ بَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ-  وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ-  أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ-  وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ

اللغة

أقول: الاصطفاء الاستخلاص، و الأنداد الأمثال، و اجتالتهم أي أدارتهم و اجتذبتهم، و واتر أي أرسل وترا بعد وتر أي واحدا بعد آخر، و الفطرة الخلقة، و المهاد الفراش، و الأوصاب الأمراض، و الأحداث المصائب و تخصيصها بذلك عرفيّ، و الحجّة ما يحجّ به الإنسان غيره أي يغلبه به، و المحجّة جادّة الطريق، و الغابر الباقي و الماضي أيضا و هو من الأضداد، والقرن الامّة، و نسلت أي درجت و مضت مأخوذ من نسل ريش الطائر و نسل الوبر إذا وقع، و العدة الوعد و إنجازها قضاؤها، و السمة العلامة، و ميلاد الرجل محلّ ولادته من الزمان و المكان، و الملحد العادل عن الاستقامة على الحقّ، و النسخ في اللغة الإزالة، و الرخصة الساهل في الأمر، و العزيمة الهمّة، و هذه الألفاظ الثلاثة مخصوصة في العرف على معان اخرى كما نذكره، و أرصدت له كذا أي هيّأته له،

المعنى

و هاهنا أبحاث.

البحث الأوّل

–  الضمير في ولده راجع إلى آدم عليه السّلام ثمّ إن كانت الإشارة بآدم إلى النوع الإنساني فنسبة الولادة إليه في العرف ظاهرة صادقة فإنّ كلّ أشخاص نوع هم أبناء ذلك النوع في اصطلاح أهل التأويل و كذلك إن كان المراد به أوّل شخص وجد، و اعلم أنّ اصطفاء اللّه للأنبياء يعود إلى إفاضة الكمال النبويّ عليهم بحسب ما وهبت لهم العناية الإلهيّة من القبول و الاستعداد، و أخذه على الوحي ميثاقهم و على تبليغ الرسالة أمانتهم هو حكم الحكمة الإلهيّة عليهم بالقوّة على ما كلّفوا به من ضبط الوحي في ألواح قواهم‏و جذب سائر النفوس الناقصة إلى جناب عزّته بحسب ما أفاضهم من القوّة على ذلك الاستعداد، له و ما منحهم من الكمال الّذي يقتدرون معه على تكميل الناقصين من أبناء نوعهم، و لمّا كانت صورة العهد و أخذ الأمانة في العرف أن يوغر إلى الإنسان بأمر و يؤكّد عليه القيام به بالإيمان و إشهاد الحقّ سبحانه، و كان الحكم الإلهيّ جاريا بإرسال النفوس الإنسانيّة إلى هذا العالم و كان مراد العناية الإلهيّة من ذلك البعث أن يظهر ما في قوّة كلّ نفس من كمال أو تكميل إلى الفعل، و كان ذلك لا يتمّ إلّا بواسطة بعضها للبعض كان الوجه الّذي بعثت عليه مشبّها للعهد و الميثاق المأخوذ و الأمانة المودعة كلّ لما في قوّته و ما أعدّ له فحسن إطلاق هذه الألفاظ و استعارتها هاهنا.

 

قوله لمّا بدّل أكثر خلق اللّه عهدهم إليهم فجهلوا حقّه و اتّخذوا الأنداد معه و اجتالتهم الشياطين عن معرفته و اقتطعتهم عن عبادته إلى آخره

إشارة إلى وجه الحكمة الإلهيّة في وجود الأنبياء عليهم السّلام و لوازمه و هي شرطيّة متصّلة قدّم فيها التالي لتعلّق ذكر الأنبياء عليهم السّلام بذكر آدم، و التقدير لمّا بدّل أكثر خلق اللّه عهده إليهم اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم فبعثهم في الخلق، و ذلك العهد هو المشار إليه بقوله تعالى «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»«» الآية قال ابن عبّاس: لمّا خلق اللّه آدم مسح على ظهره فأخرج منه كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فقال: أ لست بربّكم قالوا: بلى، فنودى يومئذ جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، و اعلم أنّ أخذ الذريّة يعود إلى إحاطة اللوح المحفوظ بما يكون من وجود النوع الإنساني بأشخاصه، و انتقاشه بذلك عن قلم القضاء الإلهي، و لمّا كان بالإنسان تمام العالمين في الوجود الخارجيّ فكذلك هو في التقدير القضائي المطابق له، و به يكون تمام التقدير و جفاف القلم، و أمّا إشهادهم على نفسهم فيعود إلى إنطاق إمكانهم بلسان الحاجة إليه و أنّه الإله المطلق الّذي لا إله غيره، و أمّا بيان ملازمة الشرطيّة فلأنّه لمّا كان الغالب على الخلق حبّ الدنيا، و الإعراض عن مقتضي الفطرة الأصليّة الّتي فطرهم عليها، و الالتفات عن القبلة الحقيقيّة الّتي امروا بالتوجّه إليها، و ذلك بحسب ما ركبّ فيهم من القوى البدنيّة المتنازعة إلى كمالاتها لا جرم كان من شأن كونهم على هذا التركيب المخصوص أن يبدّل أكثرهم عهد اللّه سبحانه إليهم من الدوام على عبادته و الاستقامة على صراطه المستقيم و عدم الانقياد لعبادة الشيطان كما قال سبحانه «أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ»«» الآية، و أن يجهلوا حقّه للغفلة بحاضر لذّاتهم عمّا يستحقّه من دوام الشكر، و أن يتّخذوا الأنداد معه لنسيانهم العهد القديم، و أن تجتذبهم الشياطين عن معرفته الّتي هي ألذّ ثمار الجنة، و أن تقتطعهم عن عبادته الّتي هي المرقاة إلى اقتطاف تلك الثمرة، و لمّا كان من شأنهم ذلك وجب في الحكمة الإلهيّة أن يختصّ صنفا منهم بكمال أشرف يقتدر معه أبناء ذلك الصنف على ضبط الجوانب المتجاذبة، و على تكميل الناقصين ممّن دونهم، و هم صنف الأنبياء عليهم السلام و الغاية منهم ما أشار إليه ليستأدوهم ميثاق فطرته أي ليبعثوهم على أداء ما خلقوا لأجله و فطروا عليه من الإقرار بالعبوديّة للّه، و يجذبوهم عمّا التفتوا إليه من اتّباع الشهوات الباطنة، و افتناء اللذّات الوهميّة الزائلة، و ذلك البعث و الجذب تارة يكون بتذكيرهم نعم اللّه الجسميّة و تنبيههم على شكر ما أولاهم به من مننه العظيمة، و تارة يكون بالترغيب فيما عقده سبحانه ممّا أعدّه لأوليائه الأبرار، و تارة بالترهيب ممّا أعدّه لأعدائه الظالمين من عذاب النار، و تارة بالتنفير عن خسائس هذه الدار، و بيان وجوه الاستهانة بها و الاستحقار، و إلى ذلك أشار بقوله، و يذكّروهم منسيّ نعمته، و لا بدّ للمجادلة و المخاطبة من احتجاج مقنع و مفحم فيحتجّوا عليهم بتبليغ رسالات ربّهم و إنذارهم لقاء يومهم الّذي يوعدون، و يشيروا لهم وجوه الأدلّة على وحدانيّة المبدع الأوّل، و تفرّده باستحقاق العبادة، و هو المراد بدفائن العقول و كنوزها، و استعمال الدفائن هاهنا استعارة لطيفة فإنّه لمّا كانت جواهر العقول و نتائج الأفكار، موجودة في النفوس بالقوّة أشبهت الدفائن فحسن استعارة لفظ الدفينة لها، و لمّا كانت الأنبياء هم الأصل في استخراج تلك الجواهر لإعداد النفوس لإظهارها حسنت إضافة إثارتها إليهم، و كذلك ليرشدهم إلى تحصيل مقدّمات تلك الأدلّة و البراهين و موادّها و هي آيات القدرة الإلهيّة و آثارها من سقف فوقهم محفوظ مرفوع مشتمل على بدائع الصنع و غرائب الحكم، و مهاد تحتهم موضوع فيه ينتشرون و عليه يتصرّفون، و معائش بها يكون قوام حياتهم الدنيا، و بلاغا لمدّة بقائهم لما خلقوا له، و إجال مقدرة بها يكون فناؤهم و رجوعهم إلى بارئهم، و أعظم بالأجل آية رادعة و تقديرا جاذبا إلى اللّه تعالى، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله: أكثروا من ذكر هادم اللذّات إلى غير ذلك من الأمراض الّتي تضعف قواهم و تهرمهم، و المصائب الّتي تتتابع عليهم فإنّ كلّ هذه الآثار موادّ احتجاج الأنبياء على الخلق لينبّونهم بصدورها عن العزيز الجبّار عزّ سلطانه على أنّه هو الملك المطلق الّذي له الخلق و الأمر، و ليقرّروا في أذهانهم صورة ما نسوه من العهد المأخوذ عليهم في الفطرة الأصليّة من أنّه سبحانه هو الواحد الحقّ المتفرّد باستحقاق العبادة، و إلى ذلك أشار القرآن الكريم «و جعلنا السماء سقفا محفوظا و هم عن آياتها معرضون»«» و قوله «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها»«» الآية و قوله تعالى «وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»«» إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على احتجاج الخالق سبحانه على خلقه بألسنة رسله و تراجمة وحيه و جذبهم بهذه الألطاف إلى القرب من ساحل عزّته و الوصول إلى حضرة قدسه سبحانه و تعالى عمّا يشركون «و إن تعدّوا نعمت اللّه لا تحصوها إنّ الإنسان لظلوم كفّار»«»

 

قوله و لم يخل اللّه سبحانه خلقه إلى قوله و خلقت الأبناء.

أقول: المقصود الإشارة إلى بيان عناية اللّه سبحانه بالخلق حيث لم يخل امّة منهم من نبيّ مرسل يجذبهم إلى جناب عزّته كما قال تعالى «وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ»«» و كتاب منزل يدعوهم إلى عبادته و يذكّرهم فيه منسىّ عهده و يتلى عليهم فيه أخبار الماضين و العبر اللاحقة للأوّلين و يحتجّ عليهم فيه بالحجج البالغة و الدلائل القاطعة، و يوضح لهم فيه امور نظامهم و ينبّههم على مبدئهم و معادهم، و الانفصال هاهنا انفصال مانع من الخلوّ كما هو مصرّح به.

 

قوله رسل لا تقصّر بهم قلّة عددهم و لا كثرة المكذّبين لهم أي هم رسل كذلك،

و المراد الإشارة إلى أنّهم و إن كانوا قليلي العدد بالنسبة إلى كثرة الخلق، و كان عدد المكذّبين‏ لهم كثيرا كما هو المعلوم من أنّ كلّ نبيّ بعث إلى امّة فلا بدّ فيهم فرقه تنابذه و تعانده، و تكذّب مقاله فإنّ ذلك لا يولّيهم قصورا عن أداء ما كلّفوا القيام به من حمل الخلق على ما يكرهون ممّا هو مصلحة لهم في معاشهم و معادهم، بل يقوم أحدهم وحده و يدعو إلى طاعة بارئه و يتحمّل إعباء المشقّة التامّة في مجاهدة أعداء الدين، و ينشر دعوته في أطراف الأرض بحسب العناية الأزليّة و الحكمة الإلهيّة، و تبقي آثارها محفوظة و سنتّها قائمة إلى أن يقتضى الحمكمة وجود شخص آخر منهم يقوم ذلك المقام «رسلا مبشّرين و منذرين لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرسل»«» قوله من سابق سمّى له من بعده تفضيل للأنبياء، و من هاهنا للتمييز و التبيين، و المراد أنّ السابق منهم قد اطّلعه اللّه تعالى على العلم بوجود اللاحق له بعده فبعضهم كالمقدّمة لتصديق البعض كعيسى عليه السّلام حيث قال «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ«»» و بين لاحق سمّاه من قبله كمحمّد صلى اللّه عليه و آله و على ذلك أي على هذه الوتيرة و الاسلوب و النظام الإلهي.

 

قوله مضت الأمم و سلفت الآباء و خلقت الأبناء إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّد صلى اللّه عليه و آله إلى قوله من الجهالة،

و اعلم أنّه عليه السّلام ساق هذه الخطبة من لدن آدم عليه السّلام إلى أن انتهى إلى محمّد صلى اللّه عليه و آله كما هو الترتيب الطبيعي إذ هو الغاية من طينة النبوّة و خاتم النبيّين كما نطق به القرآن الكريم «ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول اللّه و خاتم النبيّين»«» ثمّ شرع بعد ذلك في التنبيه على كيفيّة اهتداء الخلق به و انتظام أمورهم في معاشهم و معادهم بوجوده كلّ ذلك استدراج لأذهان السامعين و تمهيد لما يريد أن يقرّره عليهم من مصالح دينيّة أو دنيويّة فأشار إلى أنّه الغاية من طينة النبوّة و تمام لها بقوله إلى أن بعث اللّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله لإنجاز عدته لخلقه على ألسنة رسله السابقين بوجوده و إتمام نبوّته صلى اللّه عليه و آله.

 

قوله مأخوذا على النبيين ميثاقه، النصب هاهنا على الحال من بعث و ذو الحال‏ محمّد صلى اللّه عليه و آله، و كذلك الحال في المنصوبين الباقيين، و المراد بأخذ ميثاقه عليهم ما ذكر و قرّر في فطرتهم من الاعتراف بحقيّة نبوّته صلى اللّه عليه و آله و تصديقه فيما سيجي‏ء به إذ كان ذلك من تمام عبادة الحقّ سبحانه فبعث صلى اللّه عليه و آله حال ما كان ذلك الميثاق مأخوذا على الأنبياء و من عداهم و حال ما كانت إمارات ظهوره و البشارة بمقدّمة مشهورة بينهم مع ذكاء أصله و كرم مادّة حملته و شرف وقت سمح به، ثمّ أراد عليه السّلام بعد ذلك أن يزيد بعثة محمّد صلى اللّه عليه و آله تعظيما، و يبيّن فضيلة شرعه و كيفيّة انتفاع الخلق به فقال: و أهل الأرض يومئذ ملل متفرّقة و أهواء منتشرة و طوائف متشتّتة، و الواو في قوله و أهل الأرض للحال أيضا، و موضع الجملة نصب، و قوله و أهواء خبر مبتداء محذوف تقديره أهوائهم أهواء متفرّقة، و كذلك قوله و طوائف أي و طوائفهم طرائق متشتّتة أي بعثه و حال أهل الأرض يوم بعثه ما ذكر من تفرّق الأديان و انتشار الآراء و اختلافها و تشتّت الطرق و المذاهب، و اعلم أنّ الخلق عند مقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله إمّا من عليه اسم الشرائع أو غيرهم أمّا الأوّلون فاليهود و النصارى و الصائبة و المجوس، و قد كانت أديانهم اضمحلّت من أيديهم، و إنّما بقوا متشبّهين بأهل الملل، و قد كان الغالب عليهم دين التشبيه، و مذهب التجسيم كما حكى القرآن الكريم عنهم «و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه»«» «و قالت اليهود عزير ابن اللّه و قالت النصارى المسيح بن اللّه»«» «و قالت اليهود يد اللّه مغلولة غلّت أيديهم و لعنوا بما قالوا»«» و المجوس أثبتوا أصلين أسندوا إلى أحدهما الخير و إلى الثاني الشّر، ثمّ زعموا أنّه جرت بينهما محاربة ثمّ إنّ الملائكة توسّطت و أصلحت بينهما على أن يكون العالم السفلى للشرير مدّة سبعة آلاف سنة إلى غير ذلك من هذيانهم و خبطهم، و أمّا غيرهم من أهل الأهواء المنتشرة و الطوائف المتشتّتة فهم على أصناف شتّى فمنهم العرب أهل مكّة و غيرهم و قد كان منهم معطّلة و منهم محصّلة نوع تحصيل، أمّا المعطّلة فصنف منهم أنكروا الخالق و البعث و الإعادة، و قالوا بالطبع المحيي و الدهر المفني، و هم الّذين حكى القرآن عنهم «و قالوا إن هي إلّا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلّا الدهر»«» و قصّروا الحياة و الموت على تحلّل الطبائع المحسوسة و تركّبها فالجامع هو الطبع و المهلك هو الدهر «و ما لهم بذلك من علم إن هم إلّا يظنّون»«» و صنف منهم أقروّا بالخالق و ابتداء الخلق عنه، و أنكروا البعث و الإعادة و هم المحكيّ عنهم في القرآن الكريم «وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا»«» الآية، و صنف منهم اعترفوا بالخالق و نوع من الإعادة لكنّهم عبدوا الأصنام و زعموا أنّها شفعاؤهم عند اللّه كما قال «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ»«» و من هؤلاء قبيلة يقف و هم أصحاب اللات بالطائف و قريش و بنو كنانه و غيرهم أصحاب العزّى، و منهم من كان يجعل الأصنام على صور الملائكة، و يتوجّه بها إلى الملائكة، و منهم من كان يعبد الملائكة كما قال تعالى «بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ»«» و أمّا المحصّلة فقد كانوا في الجاهلية على ثلاثة أنواع من العلوم: أحدها علم الأنساب و التواريخ و الأديان، و الثاني علم تعبير الرؤيا و الثالث علم الأنواء، و ذلك بما يتولّاه الكهنة و القافة منهم، و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله من قال: مطرنا نبنوء كذا فقد كفر بما أنزل على محمّد، و من غير العرب البراهمة من أهل الهند و مدار مقالتهم على التحسين و التقبيح العقليّين و الرجوع في كلّ الأحكام إلى العقل و إنكار الشرائع و انتسابهم إلى رجل منهم يقال له براهام، و منهم أصحاب البددة و البدّ عندهم شخص في هذا العالم لا يولد و لا ينكح و لا يطعم و لا يشرب و لا يهرم و لا يموت، و منهم أهل الفكرة و هم أهل العلم منهم بالفلك و أحكام النجوم، و منهم أصحاب الروحانيّات الّذين أثبثوا وسائط روحانيّة تأتيهم بالرسالة من عند اللّه في صورة البشر من غير كتاب فتأمرهم و تنهاهم و منهم عبدة الكواكب، و منهم عبدة الشمس، و منهم عبدة القمر و هؤلاء يرجعون بالأخرة إلى عبادة الأصنام إذ لا يستمرّ لهم طريقة إلّا بشخص حاضر ينظرون إليه و يرجعون إليه في مهمّاتهم، و لهذا كان أصحاب الروحانيّات و الكواكب يأخذون أصناما على صورها فكان الأصل في وضع الأصنام ذلك إذ يبعد ممّن له أدنى فطنة أن يعمل خشبا بيده ثمّ يتخذّه إلها إلّا أنّ الخلق لمّا عكفوا عليها و ربطوا حوائجهم بها من غير إذن شرعىّ و لا حجّة و لا برهان من اللّه تعالى كان عكوفهم ذلك و عبادتهم لها إثباتا لإلهيّتها، و وراء ذلك من أصناف الآراء الباطلة و المذاهب الفاسدة أكثر من أن تحصى مذكورة في الكتب المصنّفة في هذا الفنّ، و إذا عرفت ذلك ظهر معنى قوله عليه السّلام من مشيّئة اللّه بخلقه كالبقيّة من أصحاب الملل السابقه فإنّهم و إن أثبتوا صانعا إلّا أنّ أذهانهم مكيّفة بكيفيّة بعض مصنوعاته في نفس الأمر من الجسميّة و توابعها، و من ملحد في اسمه كالّذين عدلوا عن الحقّ في أسماعه بتحريفها عمّا هي عليه إلى أسماء اشتقّوها لأوثانهم و زادوا فيها و نقصوا كاشتقاقهم اللات من اللّه، و العزّى من العزيز و مناة من المنّان، و هذا التأويل مذهب ابن عبّاس، و منهم من فسّر الملحدين في أسماء اللّه بالكاذبين في أسمائه و على هذا كلّ من سمّى اللّه بما لم يسمّ به ذهنه و لم ينطق به كتاب و لا ورد فيه إذن شرعيّ فهو ملحد في أسمائه، و قوله و من مشير إلى غيره كالدهريّة و غيرهم من عبدة الأصنام، و الانفصال هاهنا لمنع الخلوّ أيضا، فلمّا اقتضت العناية بعثته صلى اللّه عليه و آله ليهتدوا سبيل الحقّ و يفيئوا من ضلالهم القديم إلى سلوك الصراط المستقيم، و لينقذهم ببركة نوره من ظلمات الجهل إلى أنوار اليقين، فقام بالدعوة إلى سبيل ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة و المجادلة بالّتي هي أحسن، فجلى اللّه بنوره صداء قلوب الخلق، و أزهق باطل الشيطان بما جاء به من الحقّ و الصدق و انطلقت الألسن بذكر اللّه و استنارت البصائر بمعرفة اللّه و كمل به دينه في أقصى بلاد العالم، و أتمّ به نعمته على كافّة عباده كما قال تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»«» أحبّ اللّه سبحانه لقاءه كما أحبّ هو لقاء اللّه كما قال صلى اللّه عليه و آله: من أحبّ لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه و رضى له ما عنده من الكرامة التامّة و النعمة العامّة في جواره الأمين في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فأكرمه عن دار الدنيا و رغب به عن مجاورة البلوى و مقام الأذى فقبضه اللّه إليه عند انتهاء أجله كريما عن أدناس الذنوب طاهرا في ولادته الجسمانيّة و الروحانية صلى اللّه عليه و آله ما برق بارق و ذرّ شارق.

 

قوله و خلّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في اممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح و لا علم قائم.

أقول: لمّا كان هذا الشخص الّذي هو النبيّ ليس ممّا يتكوّن وجود مثله في كلّ وقت لما أنّ المادّة الّتي تقبل كمال مثله إنّما يقع في قليل من الأمزجة وجب إذن أن يشرع للناس بعده في امورهم سنّة باقية بإذن اللّه و أمره و وحيه و إنزاله الروح القدس عليه، و واجب أن يكون قد دبّر لبقاء ما يسنّه و يشرعه في امور المصالح الإنسانيّة تدبيرا و الغاية من ذلك التدبير هو بقاء الخلق و استمرارهم على معرفة الصانع المعبود و دوام ذكره و ذكر المعاد، و حسم وقوع النسيان فيه مع انقراض القرآن الّذي يلي النبيّ و من بعده فواجب إذن أن يأتيهم بكتاب من عند اللّه و يكون وافيا بالمطالب الإلهيّة و الأذكار الجاذبة إلى اللّه سبحانه و لإخطاره بالبال في كلّ حال مشتملا على أنواع من الوعد على طاعة اللّه و رسوله بجزيل الثواب عند المصير إليه، و الوعيد على معصيته بعظيم العقاب عند القدوم عليه و لا بدّ أن يعظّم أمره و يسنّ على الخلق تكراره و حفظه، أو بحثه و دراسته و تعلّمه و تعليمه و تفّهم معانيه و مقاصده ليدوم به التذكّر للّه سبحانه، و الملاء الأعلى من ملائكته ثمّ يسنّ عليهم أفعالا و أعمالا تتكرّر في أوقات مخصوصة تتقارب و يتلو بعضها بعضا مشفوعة بألفاظ تقال و نيّات تنوى في الخيال ليحصل بها دوام تذكّر المعبود الأوّل و ينتفع بها في أمر المعاد و إلّا فلا فائدة فيها، و هذه الأفعال كالعبادات الخمس المفروضة على الناس و ما يلحقها من الوظائف و لمّا بدء عليه السّلام هاهنا بذكر الكتاب العزيز لكونه مشتملا على ذكر سائر ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه و آله إمّا مطابقة أو التزاما و في بسط قوانينه الكليّة بحسب السنّة النبويّة وفاء بجميع المطالب الإلهيّة، فنحن نبدء بذكر شرفه و وظائفه و شرائط تلاوته و نؤخّر الكلام في باقي العبادات إلى مواضعها.

البحث الثاني-  في فضيلة الكتاب

أمّا الفضيلة فمن وجوه.

الأوّل-  قوله تعالى «وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ»«» «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ»«» و قوله «وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ‏ أَنْ يُفْتَرى‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ»«» الثاني قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من قرء القرآن ثمّ رأى أنّ أحدا اوتى أفضل ممّا اوتى فقد استصغر ما عظّم اللّه تعالى، الثالث قوله صلى اللّه عليه و آله: ما من شفيع أفضل منزلة عند اللّه تعالى يوم القيامة من القرآن لا نبيّ و لا ملك و لا غيره، و يلوح لك من سرّ هذه الإشارة أنّ ذلك إنّما هو في حقّ من تدّبره، و سلك النهج المطلوب منه المشتمل عليه، و وصل به إلى جناب اللّه في جوار الملائكة المقرّبين و لا غاية من الشفاعة إلّا الوصول إلى نيل الرضوان من المشفوع، و علمت أنّ تمام رضوان اللّه بغير سلوك الطريق المشتمل عليها الكتاب العزيز لا يحصل، و لا ينفع فيه شفاعة شافع كما قال تعالى «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ»«» الرابع قال صلى اللّه عليه و آله: لو كان القرآن في احاب لما مسّته النار، و المراد أىّ ظرف وعاه و تدبّره و سلك طريقه لم تمسّه النار، أمّا نار الآخرة فظاهر، و أمّا نار الدنيا فلأنّ الواصلين من أولياء اللّه الكاملين في قوّتهم النظريّة و العمليّة يبلغون حدّا تنفعل العناصر عن نفوسهم فتتصرّف فيها كتصرّفها في أبدانها فلا يكون لها في أبدانهم تأثير، و قد عرفت أسباب ذلك في المقدّمات. الخامس قال صلى اللّه عليه و آله: أفضل عبادة امّتي قراءة القرآن، و أهل القرآن هم أهل اللّه و خاصّته، و المقصود مع شرائطه الّتي سنذكرها.

 

البحث الثالث-  في وظائفه

أمّا مداومة الكتاب بالتلاوة و الدرس فيحتاج إلى وظائف و إلّا لم ينتفع بها كما قال أنس: ربّ تال للقرآن و القرآن يلعنه، و الّذي ينبغي أن يوظّف في ذلك ما لخصّه الإمام أبو حامد الغزّاليّ في كتاب الإحياء فإنّه لا مزيد عليه و هي امور عشرة: الأوّل أن يتصوّر الإنسان حال سماعة للتلاوة عظمة كلام اللّه سبحانه و إفاضة كماله و لطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة أفهام الخلق في إيصال معاني كلامه إلى أذهانهم، و كيف تجلّت لهم الحقائق الإلهيّة في طيّ حروف و أصوات هي صفات البشر إذ يعجز البشر عن الوصول إلى مدارج الجلال و نعوت الكمال إلّا بوسيلة، و لو لا استنار كنه جمال كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع الكلام عرش و لا ثرى، و لتلاشى ما بينهما من‏ عظمة سلطانه و سبحات نوره فالصوت و الحرف للحكمة جسد، و هي بالنسبة إليه نفس و روح، و لمّا كان شرف الأجساد و عزّتها بشرف أرواحها فكذلك شرف الحرف و الصوت بشرف الحكمة الّتي فيها. الثاني التعظيم للمتكلّم، و ينبغي أن يحضر في ذهن القارئ عظمة المتكلّم، و يعلم أنّ ما يقرأه ليس بكلام البشر، و أنّ في تلاوة كلام اللّه غاية الحظر فإنّه تعالى قال «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» و كما أنّ ظاهر جلد المصحف و ورقه محروس عن ظاهر بشرة الامس الغير المتطّهر فكذلك باطن معناه كلمة عزّه و جلاله محجوب عن باطن القلب إذ لا يستضي‏ء بنوره إلّا إذا كان متطهّرا عن كلّ رجس مستنيرا بنور التعظيم و التوفير عن ظلمة الشرك، و كما لا تصلح للمس جلد المصحف كلّ يد، فلا يصلح لتلاوة حروفه كلّ إنسان و لا لحمل أنواره كلّ قلب، و لأجل هذا الإخلال كان عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف يغشى عليه و يقول: هو كلام ربّي فيعظّم الكلام بتعظيم المتكلّم و علمت أنّ عظمة المتكلّم لا تخطر في القلب بدون الفكر في صفات جلاله و نعوت كماله و أفعاله و إذا خطر ببالك الكرسيّ و العرش و السماوات و الأرضون و ما بينهما، و علمت أنّ الخالق لجميعها و القادر عليها و الرازق لها هو اللّه الواحد القهّار، و أنّ الكلّ في قبضته و السماوات مطويّات بيمينه، و الكلّ سائر إليه و أنّه الّذي يقول: هؤلاء في الجنّة، و لا ابالي فإنّك تستحضر من ذلك عظمة المتكلّم ثمّ عظمة الكلام.

الثالث حضور القلب و ترك حديث النفس. قيل في تفسير قوله «يا يَحْيى‏ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ» أي بجدّ و اجتهاد و أخذه بالجدّ أن يتجرّد عند قراءته بحذف جميع المشغلات و الهموم عنه، و هذه الوظيفة تحصل ممّا قبلها فإنّ المعظم للكلام الّذي يتلوه يستبشر به و يستأنس إليه و لا يغفل فإنّ في القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي له أهلا، و كيف يطلب الانس بالفكر في غيره و فيه بساتين العارفين، و رياض الأولياء و ميادين اولي الألباب. الرابع التدبير و هو طور وراء حضور القلب فإنّ الإنسان قد لا يتفكّر في غير القرآن، و لكنّه يقتصر على سماع القرآن من نفسه و هو لا يتدبّره، و المقصود من التلاوة التدبّر قال سبحانه «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها»«» «أفلا يتدبّرون القرآن و لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»«» و قال «وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» تمكّن الإنسان من تدبّر الباطن و قال صلى اللّه عليه و آله: لا خير في عبادة لا فقه فيها، و لا في قراءة لا تدبّر فيها، و إذا لم يمكن التدبّر إلّا بالترديد فليردّد قال أبو ذر: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ليلة يردّد قوله تعالى «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»«» الخامس التفهّم و هو أن يستوضح من كلّ آية ما يليق بها إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات اللّه تعالى و أفعاله و أحوال أنبيائه و المكذّبين لهم و أحوال ملائكته و ذكر أوامره و زواجره و ذكر الجنّة و النار و الوعد و الوعيد، فليتأمّل معاني هذه الأسماء و الصفات لتنكشف له أسرارها فتحتها دفائن الأسرار و كنوز الحقائق و إلى ذلك أشار عليّ عليه السلام بقوله ما أسرّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله شيئا كتمه عن الناس إلّا أن يؤتى اللّه عبدا فهما في كتابه فليكن حريصا في طلب ذلك الفهم، و قال ابن مسعود: من أراد علم الأوّلين و الآخرين فعليه بالقرآن، و اعلم أنّ أعظم علوم القرآن تحت أسماء اللّه تعالى و صفاته و لم يدرك الخلق منها إلّا بقدر أفهامهم و إليه الإشارة بقوله «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً»«» فالماء هو العلم أنزله من سماء جوده أودية القلوب كلّ على حسب استعداده و إمكانه و إن كان وراء ما أدركوه أطوار اخرى لم يقفوا عليها، و كنوز لم يعثروا على أغوارها أمّا أفعاله تعالى و ما أشار إليه من خلق السماوات و الأرض و غيرها فالّذي ينبغي أن يفهم التالي منها و هو صفات اللّه و جلاله لاستلزام الفعل الفاعل فيستدلّ بعظمة فعله على عظمته ليلاحظ بالأخرة الفاعل دون الفعل فيقرأ في المقام الأوّل «هذا خلق اللّه فأروني ما ذا خلق الّذين من دونه»«» و يقرأ في المقام الثاني «كلّ شي‏ء هالك إلّا وجهه» فمن عرف الحقّ رآه في كلّ شي‏ء، و من بلغ إلى حدّ العرفان عن درجة الاعتبار لم ير معه غيره فإذا تلا قوله «أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ-  أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ» فلا ينبعي أن يقصّر نظره على النطفة و الماء و النار بل ينظر في المني و هو نطفة، ثمّ في كيفيّة انقسامها إلى اللحم و العظم و العصب و العروق و غيرها، ثمّ في كيفيّة أشكال أعضائها المختلفة من المستدير و الطويل و العريض و المستقيم و المنحني و الرخوة و الصلب و الرقيق و الغليظ، و ما أودع في كلّ من القوّة وهبا له من المنفعة الّتي لو اختلّ شي‏ء منها لاختلّ أمر البدن و مصالح الإنسان، فليتأمّل في هذه العجائب و أمثالها يترقىّ فيها إلى عجيب قدرة اللّه تعالى و المبدأ الّذي صدرت عنه هذه الآثار، فلا يزال مشاهدا لكمال الصانع في كمال صنعه، و أمّا أحوال الأنبياء عليهم السلام فليفهم من سماع كيفيّة تكذيبهم و قتل بعضهم صفة استغناء اللّه تعالى عنهم، و لو هلكوا بأجمعهم لم يتضرّر بذلك و لم يؤثّر في ملكه فإذا سمع نصرتهم فليفهم أنّ ذلك بتأييد إلهيّ كما قال تعالى «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ»«» و أمّا أحوال المكذّبين لهم كعاد و ثمود و كيفيّة إهلاكهم فلينبّه من سماعه لاستشعار الخوف من سطوة اللّه و نقمته و ليكن حظّه منه الاعتبار في نفسه، و أنّه إن غفل و أساء الأدب فربّما أدركته النقمة و نفذت فيه القضيّة حيث لا ينفع مال و لا بنون، و كذلك إذا سمع أحوال الجنّة و النار فليحصل منهما على خوف و رجاء و ليتصوّر أنّه بقدر ما يبعد عن أحدهما يقرب من الآخر، و ليفهم منها و من سائر القرآن أنّ استقصاء ما هناك من الأسرار الإلهيّة غير ممكن لعدم نهايته قال تعالى «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً»«» و قال عليّ عليه السّلام: لو شئت لأوفرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب، فمن لم يتفهمّ معاني القرآن في تلاوته و سماعه و لو في أدنى المراتب دخل في قوله تعالى «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى‏ أَبْصارَهُمْ أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها»«» و تلك الأقفال هي الموانع الّتي سنذكرها.

السادس التخلّي عن موانع الفهم فإنّ أكثر الناس منعوا من فهم القرآن لأسباب و حجب استدّلها الشيطان على قلوبهم فحجبت عن عجائب أسراره قال صلى اللّه عليه و آله: لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لتنظروا إلى الملكوت، و معاني القرآن و أسراره من جملة الملكوت و الحجب المانعة.

أوّلها الاشتغال بتحقيق الحروف و إخراجها و الشدق بها عن ملاحظة المعنى، و قيل: إنّ‏ المتولّى لحفظ ذلك شيطان و كلّ بالقرّاء ليصرف عن معاني كلام اللّه فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف و يحيل إليهم أنّه لم يخرج من مخرجه فيكون تأملّه مقصور على مخارج الحروف: فمتى تنكشف له المعاني، و أعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعا لمثل هذا التلبيس، و ثانيها أن يقلّد مذهبا سمعه و تفسيرا ظاهرا نقل إليه عن ابن عبّاس أو مجاهد أو غيرهما فيحمل على التعصّب له من غير علم فيصير نظره موقوفا على مسموعه حتّى لو لاح له بعض الأسرار حمل عليه شيطان التقليد جهله، و لم يسوّغ له مخالفة آبائه و معلميّه في ترك ما هو عليه من الاعتقاد، و إلى مثل هذا أشارت الصوفيّة بقولهم: العلم حجاب، و عنوا بالعلم العقائد الّتي استمرّ عليها أكثر الناس بالتعليم و التقليد أو بمجرّد كلمات جدليّة حرّرها المتعصبّون للمذاهب و ألقوها إليهم لا العلم الحقيقيّ الّذي هو المشاهدة بأنوار البصيرة، ثمّ ذلك التقليد قد يكون باطلا كمن يحمل الاستواء على العرش على ظاهره فإن خطر له في القدّوس أنّه المقدّس عن كلّ ما يجوز على خلقه لم يمكنه تقليده من استقرار ذلك الخاطر في نفسه حتّى ينساق إلى كشف ثان و ثالث، و لكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره و يجعله وسوسة، و قد يكون حقّا و يكون أيضا مانعا من الفهم لأنّ الحقّ الّذي كلّف الخلق طلبه له مراتب و درجات و ظاهر و باطن فجمود الطبع على ظاهره يمنع من الوصول إلى الباطن، فإن قلت: كيف يجوز أن يتجاوز الإنسان المسموع و قد قال صلى اللّه عليه و آله: من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار، و في النهي عن ذلك آثار كثيرة، قلت: الجواب عنه من وجوه: الأوّل أنّه معارض بقوله صلى اللّه عليه و آله: إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و حدّا و مطلعا، و بقوله عليّ عليه السّلام: إلّا أن يؤتى اللّه عبدا فهما في القرآن، و لو لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما فائدة ذلك الفهم، الثاني أنّه لو لم يكن غير المنقول لاشترط أن يكون مسموعا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و ذلك ممّا لا يصادف إلّا في بعض القرآن، و أمّا ما بقوله ابن عبّاس و ابن مسعود و غيرها من أنفسهم فينبغي أن لا يقبل و يقال هو تفسير بالرأى.

الثالث أنّ الصحابة و المفسّرين اختلفوا في تفسير بعض الآيات فقالوا فيها أقاويل مختلفة لا يمكن الجمع بينها، و سماع ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله محال فكيف يكون الكلّ مسموعا. الرابع أنّه عليه السّلام دعا لابن عبّاس فقال: اللهمّ فقّهه في الدين، و علّمه التأويل فإن كان التأويل‏ مسموعا كالتنزيل و محفوظا مثله فلا معنى لتخصيص ابن عبّاس بذلك. الخامس قوله تعالى «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» فأثبت للعلماء استنباطا، و معلوم أنّه وراء المسموع فإذن الواجب أن يحمل النهى عن التفسير بالرأى على أحد معنيين: أحدهما أن يكون للإنسان في الشي‏ء رأي و له إليه ميل بطبعه فيتأوّل القرآن على وفق رأيه حتّى لو لم يكن له ذلك الميل لما خطر ذلك التأويل له، و سواء كان ذلك الرأى مقصدا صحيحا أو غير صحيح، و ذلك كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيستدّل على تصحيح غرضه من القرآن بقوله تعالى «اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏» و يشير إلى أنّ قلبه هو المراد بفرعون كما يستعمله بعض الوعّاظ تحسينا للكلام و ترغيبا للمستمع و هو ممنوع. الثاني أن يتسرّع إلى تفسير القرآن بظاهر العربيّة من غير استظهار بالسماع و النقل فيما يتعلّق بغرائب القرآن و ما فيها من الألفاظ المبهمة و ما يتعلّق من الاختصار و الحذف و الإضمار و التقديم و التأخير و المجاز فمن لم يحكم ظاهر التفسير و بادر إلى استنباط المعاني بمجرّد فهم العربيّة كثر غلطه و دخل في زمرة من يفسّر بالرأى مثاله قوله تعالى «وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةًً فَظَلَمُوا بِها»«» فالناظر إلى ظاهر العربيّة ربّما يظنّ أنّ المراد أنّ الناقة كانت مبصرة، و لم تكن عمياء و المعنى آية مبصرة، ثمّ لا يدري أنّهم إذا ظلموا غيرهم و من ذلك المنقول المنقلب كقوله تعالى «وَ طُورِ سِينِينَ» و كذلك باقي أجزاء البلاغة فكلّ مكتف في التفسير بظاهر العربيّة من غير استظهار بالنقل فهو مفسّر برأيه، فهذا هو النهي عنه دون التفهم لأسرار المعاني و ظاهر أنّ النقل لا يكفي فيه، و إنّما ينكشف للراسخين في العلم من أسراره بقدر صفاء عقولهم، و شدّة استعدادهم له و للطلب و الفحص و التفهّم و ملاحظة الأسرار و العبر، و يكون لكلّ واحد منهم جدّ في الترقيّ إلى درجة منه بعد الاشتراك في الظاهر و مثاله ما فهم بعض العارفين من قوله صلى اللّه عليه و آله في سجوده: أعوذ برضاك من سخطك، و أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، و أعوذ بك منك لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك إنّه قيل له اسجد و اقترب فوجد القرب في السجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض، فإنّ الرضا و السخط وصفان متضادّان ثمّ زاد قربه فاندرج القرب الأوّل فيه فرقي إلى اللذّات، فقال: أعوذبك منك ثمّ زاد قربه ممّا استحيا به على سائر القرب فالتجأ إلى الثناء، فأثنى بقوله: لا احصى ثناء عليك، ثمّ علم أنّ ذلك قصور، فقال: أنت كما اثنيت على نفسك، فهذه خواطر نسخ للعارفين لا يفهم من تفسير الظاهر و ليس مناقضا له، و إنّما هو استكمال لما تحته من الأسرار. الثالث من الموانع أن يكون مبتلى من الدنيا بهوى متاع فإنّ ذلك سبب لظلمة القلب و كالصداء على المرآة فيمنع جليّة الحقّ يتجلّى فيه و هو أعظم حجاب للقلب و به حجب الأكثرون: و كلّما كانت الشهوات أكثر تراكما على القلب كان البعد عن أسرار اللّه أكثر، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله: الدنيا و الآخرة ضرّتان بقدر ما تقرب من إحداهما تبعد من الاخرى. السابع أن يخصّص نفسه بكلّ خطاب في القرآن من أمر أو نهي أو وعد أو وعيد، و يقدّر أنّه هو المقصود به كذلك إن سمع قصص الأوّلين و الأنبياء عليهم السلام علم أنّ السمر غير مقصود و إنّما المقصود الاعتبار فلا يعتقد أنّ كلّ خطاب خاصّ في القرآن فالمراد به الخصوص فإنّ القرآن و سائر الخطابات الشرعيّة واردة بإيّاك أعني و اسمعي يا جاره، و هي كلّها نور و هدى و رحمة للعالمين، و لذلك أمر الحقّ تعالى الكافّة بشكر نعمة الكتاب فقال «وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ»«» و إذا قدر أنّه المقصود لم يتخذ دراسة القرآن عملا بل قراءة كقرائة العبد كتاب مولاه الّذي كتبه إليه ليتدبّره و يعمل بمقتضاه كما قال حكيم: هذا القرآن وسائل أتتنا من قبل ربّنا بعهوده نتدبّرها في الصلوات، و نقف عليها في الخلوات، و نعدّها في الطاعات بالسنن المتبعات.

الثاني التأثّر و هو أنّ يتأثّر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كلّ فهم حال و وجد يتصّف به عند ما يوجّه نفسه في كلّ حالة إلى الجهة الّتي فهمها من خوف أو حزن أو رجاء أو عبرة فيستعدّ بذلك و ينفعل و يحصل له التأثّر و الخشية، و مهما قويت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه فإنّ التضييق غالب على العارفين فلا يرى ذكر المغفرة و الرحمة إلّا مقرونا بشروط يقصر العارف عن نيلها كقوله تعالى «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى‏»«» فإنّه قرن المغفرة بهذه الشروط الأربعة و كذلك قوله تعالى «وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» السورة ذكرفيها أربعة شروط و حيث أوجزه و اقتصر ذكر شرطا واحدا جامعا للشرائط فقال تعالى «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» إذ كان الإحسان جامعا لكلّ الشرائط، و تأثّر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوّة فعند الوعيد يتضاءل من خشية اللّه و عند الوعد يستبشر فرحا باللّه و عند ذكر صفات اللّه و أسمائه يتطأطأ خضوعا لجلاله و عند ذكر الكفّار في حقّ اللّه ما يمتنع عليه كالصاحبة و الولد يعضّ صورته (صوته) و ينكسر في باطنه من قبح أفعالهم و يكبّر اللّه و يقدّسه عمّا يقول الظالمون، و عند ذكر الجنّة ينبعث بباطنه شوقا إليها، و عند ذكر النار ترعد فرائصه خوفا منها، و لمّا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لابن مسعود: اقرأه علىّ قال: فافتتحت سورة النساء فلمّا بلغت «فكيف إذا جئنا من كلّ امّة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا» رأيت عينيه تذرفان من الدمع، فقال لي: حسبك الآن، و ذلك لاستغراق تلك الحالة بقلبه بالكلّيّة، و بالجملة فالقرآن إنّما يراد بهذه الأحوال و استجلابها إلى القلب و العمل بها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم و لانت عليه جلودكم، فإذا اختلفتم فلستم تقرءونه، و قال تعالى «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً»«» و إلّا فالمئونة في تحريك اللسان خفيفة قال بعضهم قرأت على شيخ لي، ثمّ رجعت أقرء عليه ثانيا فانتهرني و قال: جعلت القرآن عليّ.

عملا اذهب فاقرء على اللّه تعالى، و انظر ما ذا يأمرك، و ما ذا يفهمك، و مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عن عشرين ألفا من الصحابة لم يكن ليحفظ القرآن منهم غير ستّة و اختلف منهم في إثنين و كان أكثرهم يحفظ السورة و السورتين، و كان الّذي يحفظ البقرة و الأنعام من علمائهم كلّ ذلك لاشتغالهم بتفهّم معانى القرآن عن حفظه كلّه، و جاء إليه واحد ليعلّمه القرآن فانتهى إلى قوله تعالى «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»«» فقال: يكفيني هذا و انصرف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله انصرف الرجل و هو فقيه فالعزيز مثل تلك الحالة الّتي يمنّ اللّه تعالى بها على القلب عقيب تفهّم الآية، و امّا التالي باللسان المعرض عن العمل فجدير بأن يكون المراد بقوله تعالى «وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ‏ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏» الآية و إنّما حظّ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل و حظّ العقل تفسير المعاني، و حظّ القلب الاتّعاظ و التأثّر بالانزجار و الايتمار. التاسع الترقّي و هو أن يوجّه قلبه و عقله إلى القبلة الحقيقيّة فيسمع الكلام من اللّه تعالى لا من نفسه. و درجات القراءة ثلاث: أدناها أن يقدّر العبد كأنّه يقرأ على اللّه واقفا بين يديه و هو ناظر إليه و مستمع منه فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال و التضرّع و الابتهال. الثانية أن يشهد بقلبه كأنّه سبحانه يخاطبه بألطافه و يناجيه بإنعامه و إحسانه، و هو في مقام الحياء و التعظيم لمنن اللّه و الاصغآء إليه و الفهم عنه. الثالثة أن يرى في الكلام المتكلّم، و في الكلمات الصفات و لا ينظر إلى قلبه و لا إلى قراءته و لا إلى التعلّق بالإنعام من حيث هو منعم عليه بل يقصر الهمّ على المتكلّم و يوقف فكره عليه و يستغرق في مشاهدته. هذه درجة المقرّبين، عنها أخبر الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام فقال: لقد تجلّى اللّه تعالى لخلقه في كلامه و لكنّهم لا يبصرون، و قال أيضا و قد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتّى خرّ مغشيّا عليه، فلمّا أفاق قيل له في ذلك فقل: ما زلت اردّد هذه الآية على قلبي حتّى سمعتها من المتكلّم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته. ففي مثل هذه الدرجة تعظم الحلاوة، و بهذا الترقّي يكون العبد ممتثلا لقوله تعالى «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» و بمشاهدة المتكلّم دون ما عداه يكون ممتثلا لقوله تعالى «وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» فإنّ رؤية غير اللّه معه شرك خفيّ لا مخلص منه إلّا برؤيته وحده. العاشر التبريّ، و المراد به أن يبرء من حوله و قوّته و لا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا و التزكية، فإذا تلا آيات الوعد و مدح الصالحين حذف نفسه عن درجة الاعتبار و شهد فيها الموقنين و الصديقين، و يتشوّق إلى أن يلحقه اللّه تعالى بهم، و إذا تلا آيات المقت و الذّم في المقصّرين شهد نفسه هناك و قدّر أنّه المخاطب خوفا و إشفاقا.

قيل ليوسف بن أستاط إذا قرأت القرآن بماذا تدعو. قال: بما ذا أدعو أستغفر اللّه عن تقصيري سبعين مرّة، و من رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كان ذلك سبب قربه فإنّ من شهد البعد في القرب لطف له بالخوف حتّى يسوقه إلى درجة أعلى في القرب و من شهد القرب في البعد ردّه أمنه إلى درجة أدني في البعد ممّا هو فيه، و مهما شاهد نفسه بعين الرضا صار محجوبا بنفسه فإذا جاوز حدّ الالتفات إلى نفسه و لم يشاهد إلّا اللّه في قراءته انكشف له الملكوت، و المكاشفات تابعة لحال‏ المكاشف، فحيث يتلو آيات الرجاء يغلب عليه استبشار و ينكشف له صورة الجنّة فيشاهدها كأنّه يراها، و إن غلب عليه الخوف كوشف بالنار حتّى يرى أنواع عذابها، و ذلك لأنّ كلام اللّه تعالى وارد باللطف و السهولة و الشدّة و العسف و الرجاء و الخوف و ذلك بحسب أوصافه إذ منها الرحمة و اللطف و الإنعام و البطش، فبحسب مشاهدة الكمالات و الصفات يتقلّب القلب في اختلاف الحالات، و بحسب كلّ حالة منها يستعدّ لنوع من المكاشفة مناسب لتلك الحالة إذ يستحيل أن يكون حال المستمع واحد و المسموع مختلف، إذ فيه كلام رضى و كلام غضب و كلام إنعام و كلام انتقام و كلام جبروت و تكبّر و كلام جنّة و تعطّف، فهذه هي وظائف التلاوة.

و لنرجع إلى المتن فنقول:

قوله و خلّف فيكم ما خلّف الأنبياء في اممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح و لا علم قائم

قوله: و خلّف فيكم ما خلّف الأنبياء في اممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح و لا علم قائم. إشارة إلى وضع ما يجب في الحكمة الإلهيّة على ألسنة الرسل عليهم السلام من العبادات الشرعيّة و القوانين الكلّيّة الّتي بها يبقى ذكر اللّه سبحانه محفوظا، و استعمال لفظ العلم القائم هاهنا استعارة حسنة للآثار الباقية عن الأنبياء الّتي يهتدي بها الأوصياء و الأولياء الّذين يرجع إليهم الخلق.

 

قوله كتاب ربّكم

قوله: كتاب ربّكم. عطف بيان لما في قوله ما خلّفت الأنبياء، و لا ينبغي أن يفهم ممّا شخص الكتاب حتّى يكون ما أتى به محمّد صلى اللّه عليه و آله من الكتاب هو عين ما أتت به الأنبياء السابقون عليهم السّلام و شخصه فإنّ ذلك محال، بل المراد بما نوع ما خلّفت الأنبياء في اممها من الحقّ، و ما جاء به محمّد صلى اللّه عليه و آله شخص من أشخاص ذلك النوع، و بيان ذلك أنّ القوانين الكلّيّة الّتي اشتركت في الإتيان بها جميع الأنبياء عليهم السّلام من التوحيد و التنزيه للّه تعالى و أحوال البعث و القيامة و سائرالقواعد الكليّة الّتي بها يكون النظام الكلّي للعالم كتحريم الكذب و الظلم و القتل و الزنا و غير ذلك ممّا لم يخالف فيه نبيّ نبيّا بمنزلة مهيّة واحدة كلّية وجدت في أشخاص، و كما تعرض لبعض أشخاص المهيّة عوارض لا تكون لشخص الآخر و بها يكون اختلاف بين الأشخاص بحسب الموادّ الّتي نشأت منها الصور الشخصيّة كذلك الكتب المنزلة على ألسنة الأنبياء عليهم السّلام بمنزلة أشخاص اشتملت على مهيّة واحدة تختلف بحسب الزيادات و العوارض على تلك المهيّة بحسب اختلاف الامم‏ و الأوقات المشتملة على المصالح المختلفة باختلافها.

 

قوله: مبيّنا

قوله: مبيّنا. منصوب على الحال و العامل خلّف و ذو الحال الفاعل و هو ضمير النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

 

قوله و حلاله و حرامه و فضائله و فرائضه

قوله و حلاله و حرامه و فضائله و فرائضه إشارة إلى الأحكام الخمسة الشرعيّة الّتي يدور عليها علم الفقه، و هي الوجوب و الندب و الحظر و الكراهة و الإباحة، و عبّر بالحلال عن المباح و المكروه، و بالحرام عن المحظور و بالفضائل عن المندوب، و بالفرائض عن الواجب، و بالنسخ عن رفع الحكم الثابت بالنصّ المتقدّم بحكم آخر مثله، فالناسخ هو الحكم الرافع كقوله «فَإِذَا انْسَلَخَ» و المنسوخ هو الحكم المرفوع كقوله «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» و بالرخص عمّا اذن في فعله مع قيام السبب المحرّم لضرورة أو غيرها كقوله «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ» الآية و بالعزائم عمّا كان من الأحكام الشرعيّة جاريا على وفق سببه الشرعي كقوله «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» و بالعامّ هاهنا عن اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح به بحسب وضع واحد كقوله تعالى «وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ» و كقوله «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» و بالخاصّ عما لم يتناول الجميع بالنسبة إلى ما يتناوله كقوله «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» و الخاصّ المطلق هو ما يمنع تصوّر مفهومه من وقوع الشركة فيه كما عرفته، و العبر جمع عبرة و هي الاعتبار و اشتقاقها من العبور و هو انتقال الجسم من موضع إلى آخر، و لمّا كان الذهن ينتقل من الشي‏ء إلى غيره حسن إطلاق العبرة عليه، و أكثر ما يختصّ إطلاق العبرة بانتقال ذهن الإنسان من المصائب الواقعة بالغير أو الامور المكروهة له إلى نفسه فيقدّرها كأنّها نازلة به فيحصل له بسبب ذلك انزعاج عن الدنيا و انتقال ذهن إلى ما ورائها من أمر المعاد و الرجوع الى بارئه و يسمّى ذلك عبرة، و كذلك من المصائب اللاحقة فى نفسه المذكّرة له بجناب العزّة و الملفتة له بتكرارها عن دار البلوى و المحن، فينتقل ذهنه بسببها إلى أنّ الدنيا دار البوار و أنّ الآخره هي دار القرار، و ذلك كقصّة أصحاب الفيل، و كقوله «فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى‏ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى‏»«» و قوله تعالى «وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ» و إن كان قد تستعمل العبرة في كلّ ما يفيداعتبارا من طرف الإحسان أيضا كقوله تعالى «وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها»«» الآية و كقوله تعالى «قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى‏ كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ»«» فجعل سبحانه نصر المؤمنين على ملّتهم و خذلان المشركين على كثرتهم و مشاهدة المسلمين لكونهم مثليهم محلّا للعبرة إذ يحصل بذلك انتقال الذهن من نعمة إلى أنّه الإله المطلق المستحقّ للعبادة المتفرّد بالقدرة على ما يشاء أهل الرحمة و الجود و إفاضة تمام الوجود، و أمّا الأمثال فظاهرة كقوله تعالى «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ» الآية و كقوله «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» و نحوه، و أراد بالمرسل الألفاظ المطلقة و المهملة و هي الألفاظ الّتي لا تمنع نفس مفهوماتها وقوع الشركة فيها لكنّها لم يبيّن فيها كميّة الحكم و مقداره و لم تقيّد بقيد يفيد العموم و لا الخصوص و هو محتملة لهما كأسماء الجموع في النكرات كقوله تعالى «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ» و كالمفرد المعرّف باللام أو المنكّر كقوله «وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» و كقوله «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ» و قوله «فَكُّ رَقَبَةٍ» فإنّ كلّ هذه الألفاظ يراد بها الطبيعة دون الكلّ أو البعض إلّا بدليل منفصل، و الفرق بينها و بين العامّ أنّ لكلّ شي‏ء مهيّة هو بها ما هو و هي مغايرة لكلّ ما عداها فإنّ مفهوم الإنسان مثلا ليس إلّا أنّه الإنسان و أمّا أنّه واحد أو كثير أو ليس أحدهما فمفهوم آخر مغاير لمهيّته. إذا عرفت ذلك فاللفظ الدالّ على الحقيقة من حيث هي من غير دلالة على شي‏ء آخر معها هو اللفظ المطلق و المهمل، و الدالّ معها على قيد العموم بحيث يفهم منه تعدّد المهيّة و تكثّرها في جميع مواردها فهو اللفظ العامّ، أو في بعض مواردها و هو الخاصّ و إن كان العموم و الخصوص بالذات للمعاني، و أراد بالمحدود المقيّد كقوله تعالى في الكفّارة في موضع آخر «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» و أمّا المحكم و المتشابه و المجمل و المبيّن فقد سبق بيانها في المقدّمة مثال المحكم قوله تعالى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مثال المتشابه قوله «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏» مثال المجمل قوله «إِلَّا ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ» و قوله «وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما» مثال المبيّن قوله بعد ذلك‏ «أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ» الآية، و التفسير هو التبيين و الغوامض دقائق المسائل، و إنّما أضاف هذه المعاني كلّها إلى الكتاب لاشتماله عليها، و كونه مبدءا لها، و لمّا كانت محتاجة إلى البيان كان الرسول صلى اللّه عليه و آله هو المبيّن لها بسنّته الكريمة.

 

و قوله بين مأخوذ ميثاق علمه و موسّع على العباد في جهله إلى آخره

و قوله بين مأخوذ ميثاق علمه و موسّع على العباد في جهله إلى آخره الضمائر تعود إلى الأحكام المذكورة المشتمل عليها الكتاب العزيز و ذكر منها أنواعا: أحدها-  ما يجب تعلّمه و غير موسّع للخلق في جهله كوحدانيّة الصانع و أمر المعاد و العبادات الخمس و شرائطها. و ثانيها-  ما لا يتعيّن على كافّة الخلق العلم به بل يعذر بعضهم في الجهل و يوسّع لهم في تركه كالآيات المتشابهات، و كأوائل السور كقوله تعالى «كهيعص-  و حم عسق» و نحوهما. و ثالثها-  ما هو مثبت في الكتاب فرضه معلوم في السنّة نسخه و ذلك كقوله تعالى «وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما»«» فكانت الثّيّب إذا زنت في بدو الإسلام تمسّك في البيوت إلى الممات، و البكر تؤذي بالكلام و نحوه بمقتضي هاتين الآيتين، ثمّ نسخ ذلك في حقّ الثيّب بالرجم و في حقّ البكر بالجلد و التعذيب بحكم السنّة. و رابعها-  ما هو بعكس ذلك أي مثبت في السنّة أخذه مأذون في الكتاب تركه و ذلك كالتوجّه إلى بيت المقدس في ابتداء الإسلام فإنّه كان ثابتا في السنّة ثمّ نسخ بقوله تعالى «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ»«» و كثبوت صلاة الخوف في القرآن حال القتال الرافع لجواز تأخيرها في السنّة إلى انجلاء القتال. و خامسها-  ما يجب لوقته و يزول في مستقبله كالحجّ الواجب في العمر مرّة و كالنذور المقيّدة بوقت معيّن و أمثالها فإنّ وجوبها تابع لوقتها المعيّن و لا يتكرّر بتكرّر أمثالها.

 

قوله و مباين بين محارمه عطف على المجرورات السابقة و الياء مفتوحة و في معنى الكلام و تقديره لطف فإنّ المحارم لمّا كانت هي محالّ الحكم المسمّى بالحرمة صار المعنى و بين حكم مباين بين محالّه هو الحرمة، و قوله من كبير أو عد عليه نيرانه أو صغير أرصد له غفرانه بيان لتلك المحالّ و أشارة إلى تفاوتها بالشدّة و الضعف في كونها مبّعدة عن رحمة اللّه على سبيل الجملة، فالأوّل كالقتل في قوله تعالى «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ» الآية و كذلك سائر الكبائر من الظلم و الزنا و غيرها، و الثاني قال الفقهاء كالتطفيف بالحبّة و سرقة بافة من بصل و نحو ذلك و إرصاد الغفران بإزاء هذه و أمثالها في الكتاب العزيز كقوله تعالى «وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ» و سائر آيات الوعد بالمغفرة فإنّها إن كانت عامّة في كلّ الذنوب فالصغائر داخله بطريق أولى و إلّا كانت محمولة على الصغائر و سرّ أولويّتها بالغفران أنّها لا تكاد تكسب النفس ملكة الإفراط و الجور إلّا عن بعد بعيد و تكرار طويل بخلاف الكبائر فإنّ الأحوال لا يقع إلّا عن نفس مستعدّة للشرّ بعيدة عن رحمة اللّه، و باللّه العصمة و التوفيق.

 

شرح نهج البلاغه ابن میثم جلد اول

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.