خطبه 211 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام
قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَ أَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ- وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ- فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَ سَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ- وَ تَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى‏ بَابِ السَّلَامَةِ وَ دَارِ الْإِقَامَةِ- وَ ثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَ الرَّاحَةِ- بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَ أَرْضَى رَبَّهُ

أقول: هذا الفصل من أجلّ كلام له في وصف السالك المحقّق إلى اللّه، و في كيفيّة سلوكه المحقّق و أفضل اموره
فأشار بإحياء عقله إلى صرف همّته في تحصيل الكمالات العقليّة من العلوم و الأخلاق و إحياء عقله النظري و العملى بها بعد الرياضة بالزهد و العبادة، و أشار بإماتة نفسه إلى قهر نفسه الأمّارة بالسوء، و تطويعها بالعبادة للنفس المطمئنّة بحيث لا يكون لها تصرّف على حدّ طباعها إلّا بإرسال العقل و باعثه فكانت في حكم الميّت عن الشهوات و الميول الطبيعيّة الّذي لا تصرّف له من نفسه. و قوله: حتّى دقّ جليله. أى حتّى انتهت به إماتته لنفسه الشهويّة إلى أن دقّ جليله، و كنّى بجليله عن بدنه فإنّه أعظم ما يرى منه، و لطف غليظه إشارة إلى لطف بدنه أيضا، و يحتمل أن يشير به إلى لطف قواه النفسانيّة بتلك الرياضة و كسر الشهوة فإنّ إعطاء القوّة الشهويّة مقتضى طباعها من الانهماك في المآكل و المشارب ممّا يثقل البدن و يكدّر الحواسّ، و لذلك قيل: البطنة تذهب الفطنة و تورث القسوة و الغلظة.
فإذا قصرت على حدّ العقل لطفت الحواسّ عن قلّة الأبخرة المتولّدة عن التملّؤ بالطعام و الشراب، و لطف بلطف ذلك ما غلظ من جوهر النفس بالهيئات البدنيّة المكتسبة من متابعة النفس الأمّارة بالسوء كلطف المرآة بالصقال حتّى يصير ذلك اللطف مسبّبا لاتّصالها بعالمها و استشراقها بأنوار من الملأ الأعلى. و قوله: و برق له لا مع كثير البرق. أشار باللامع إلى ما يعرض للسالك عند بلوغ الإرادة بالرياضة به حدّا ما من الخلسات إلى الجناب الأعلى فيظهر له أنوار إلهيّة لذيذة شبيهة بالبرق في سرعة لمعانه و اختفائه، و تلك اللوامع مسمّاة بالأوقات عند أهل الطريقة، و كلّ وقت فإنّه محفوف بوجد إليه قبله و وجد عليه بعده لأنّه لمّا ذاق تلك اللذّة ثمّ فارقها وصل فيه حنين و أنين إلى ما فات منها. ثمّ إنّ هذه اللوامع في مبدء الأمر تعرض له قليلا فإذا أمعن في الارتياض كثرت، فأشار باللامع إلى نفس ذلك النور، و بكثرة برقه إلى كثرة عروضه بعد الإمعان في الرياضة. و يحتمل أن يكون قد استعار لفظ اللامع للعقل الفعّال، و لمعانه ظهوره للعقل الإنسانىّ، و كثرة بروقه إشارة إلى كثرة فيضان تلك الأنوار الشبيهة بالبروق عند الإمعان في الرياضة، و قوله: فأبان له الطريق. أى ظهر له بسبب ذلك أنّ الطريق الحقّ إلى اللّه هى ما هو عليه من الرياضة، و سلك به السبيل: أى كان سببا لسلوكه في سبيل اللّه إليه. و قوله: و تدافعته الأبواب. أى أبواب الرياضة، و هى أبواب الجنّة أعنى تطويع النفس الأمّارة، و الزهد الحقيقىّ، و الأسباب الموصلة إليهما كالعبادات و ترك الدنيا فإنّ كلّ تلك أبواب يسير منها السالك حتّى ينتهى إلى باب السلامة و هو الباب الّذى إذا دخله السالك تيقّن فيه السلامة من الانحراف عن سلوك سبيل اللّه بمعرفته أنّ تلك هى الطريق و ذلك الباب هو الوقت الّذي أشرنا إليه، و هو أوّل منزل من منازل الجنّة العقليّة. و قوله: و ثبتت رجلاه. إلى قوله: و الراحة. ففى قرار الأمن متعلّق ثبتت، و هو إشارة إلى الطور الثاني للسالك بعد طور الوقت و يسمّى طمأنينة و ذلك أنّ السالك ما دام في مرتبة الوقت فإنّه يعرض لبدنه عند لمعان تلك البروق في سرّه اضطراب و قلق يحسّ بها خلسة لأنّ النفس إذا فاجأها أمر عظيم اضطربت و تقلقلت فإذا كثرت تلك الغواشى ألفتها بحيث لا تنزعج عنها و لا تضطرب لورودها عليها بل تسكن و تطمئنّ لثبوت قدم عقله في درجة أعلى من درجات الجنّة الّتى هى قرار الأمن و الراحة من عذاب اللّه.

و قوله: بما استعمل. إلى آخره. فالجار و المجرور متعلّق بثبتت أيضا: أى و ثبتت رجلاه بسبب استعمال قلبه و نفسه في طاعة اللّه و إرضائه بذلك الاستعمال، و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 53

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.