خطبه86 شرح ابن میثم یحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ اعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ- وَ انْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ وَ تَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ- وَ الدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ- عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا- وَ إِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَ اغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا- قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى وَ ظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى- فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ- وَ طَعَامُهَا الْجِيفَةُ وَ شِعَارُهَا الْخَوْفُ وَ دِثَارُهَا السَّيْفُ- . فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ- وَ اذْكُرُوا تِيكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ- وَ عَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ- وَ لَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ وَ لَا بِهِمُ الْعُهُودُ- وَ لَا خَلَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمُ الْأَحْقَابُ وَ الْقُرُونُ- وَ مَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمَ كُنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ بِبَعِيدٍ- . وَ اللَّهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئاً-إِلَّا وَ هَا أَنَا ذَا مُسْمِعُكُمُوهُ- وَ مَا أَسْمَاعُكُمُ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالْأَمْسِ- وَ لَا شُقَّتْ لَهُمُ الْأَبْصَارُ- وَ لَا جُعِلَتْ لَهُمُ الْأَفْئِدَةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ- إِلَّا وَ قَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ- وَ وَ اللَّهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ- وَ لَا أُصْفِيتُمْ بِهِ وَ حُرِمُوهُ- وَ لَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ الْبَلِيَّةُ جَائِلًا خِطَامُهَا رِخْواً بِطَانُهَا- فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ- فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ

اللغة

أقول: الفترة: ما بين زمانى الرسالة. و الهجعة: النومة. و الاعتزام: العزم، و روى: اعترام الفتن بالراء المهملة: أى كثرتها، و روى: اعتراض من اعترض الفرس الطريق إذا مشى عرضا من غير قصد. و تلظّت الحرب: تلهبّت. و التجهّم: العبوس. و الأحقاب: جمع حقب بضمّ الحاء و القاف و هو الدهر. و البطان: حزام البعير للقتب.

المعنى

و صورة هذا الفصل تذكيرهم بنعمة اللّه تعالى الّتى نفت ما كانوا فيه من بؤس و هى بعثة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ما استلزمته من الخيرات ليعتبروا فيشكروا و يخلصوا التوجّه إلى اللّه تعالى فأشار أوّلا إلى النعمة المذكورة ثمّ أردفها بالأحوال المذمومة الّتى تبدلّت بتلك النعمة الجسيمة، و عدّ منها امورا: أحدها: الفترة من الرسل و ظاهر أنّ خلوّ الزمان عن رسول فيه يستلزم وجود الشرور و وقوع الهرج و المرج، و تلك أحوال مذمومة يلحق ذلك الزمان بها من الذمّ بمقدار ما يلحق زمان وجود الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم من المدح. الثاني: طول الهجعة من الأمم، و كنّى بالهجعة عن الغفلة في أمر المعاد و ساير المصالح الّتى ينبغي. الثالث: الاعتزام من الفتن أمّا على الرواية الاولى فنسبة العزم إلى الفتن مجاز كنّى به عن وقوعها بين الخلق المشبه لقصدها إيّاهم، و على الرواية الثانية: أى على‏ كثرة من الفتن، و على الرواية الثالثة فالمعنى أنّ الفتن لمّا كانت غير واقعة على قانون شرعىّ و لا نظام مصلحىّ و لذلك سميّت فتنة لا جرم أشبهت المعترض في الطريق من الحيوان الماشى على غير استقامة، و لذلك استعير لها لفظ الاعتراض. الرابع: و على انتشار من الامور: أى تفرّق امور الخلق و أحوالهم و جريان أفعالهم على غير قانون عدلىّ.

الخامس: التلظّى من الحروب. و قد سبق تشبيه الحرب بالنار فلذلك أسند إليها التلظّى على سبيل الاستعارة، و كنّى بها عن هيجانها و وجودها بينهم زمان الفترة. السادس: و الدنيا كاسفة، و الواو للحال: أى كاسف نورها، و نور الدنيا كناية عن وجود الأنبياء و ما يأتون به من الشرائع و ما ينتج عنهم من الأولياء و العلماء كناية بالمستعار، و وجه المشابهة ما يستلزم النور و وجود الأنبياء و الشرائع من الاهتداء بهما، و رشّح تلك الاستعارة بذكر الكسوف، و عبّر به عن عدم ذلك النور منها ملاحظة لشبهها بالشمس.
السابع: ظاهرة الغرور: أى كلّ قد اغترّ بها و انهمك في مشتهياتها و خدعته بخوادعها. الثامن: كونه أرسل على حين اصفرارهن ورقها و إياس من ثمرها و اغورار من ماءها. استعار لفظ الثمرة و الورق لمتاعها و زينتها، و لفظ الاصفرار لتغيّر تلك الزينة عن العرب في ذلك الوقت و عدم طلاوة عيشهم إذن و خشونة مطاعمهم كما يذهب حسن الشجرة باصفرار ورقها فلا يتلذّذ بالنظر إليها و عنى بالإياس من ثمرها انقطاع آمال العرب إذن من الملك و الدولة و ما يستلزمه من الحصول على طيّبات الدنيا، و كذلك استعار لفظ الماء لموادّ متاع الدنيا و طرق لذّاتها و لفظ الاغورار لعدم تلك الموادّ من ضعف التجارات و المكاسب و عدم التمليك للأمصار و كلّ ذلك لعدم النظام العدلىّ بينهم و كلّها استعارات بالكناية و وجه الاستعارة الاولى أنّ الورق كما أنّه زينة للشجرة و به كما له كذلك لذّات الدنيا و حياة الدنيا و زينتها، و وجه الثانية أنّ الثمر كما أنّه مقصود الشجرة غالبا و غايتها كذلك متاع الدنيا و الانتفاع به هو مقصودها المطلوب منها لأكثر الخلق، و وجه الثالثة أنّ الماء كما أنّه مادّة الشجر و به حياتها و قيامها في الوجود كذلك مولود تلك اللذّات هى المكاسب و التجارات و الصناعات، و قد كانت العرب خالية من ذلك، و وجوه باقى الاستعارات ظاهرة.

التاسع: دروس أعلام الهدى. وكنّى بأعلام الهدى عن أئمّة الدين، و كتبه الّتى بها يهتدى لسلوك سبيل اللّه و بدروسها عن موت اولئك و عدمهم كناية بالمستعار كما سبق. العاشر: ظهور أعلام الردى. و هم أئمّة الضلال الداعين إلى النار. الحادى عشر: كون الدنيا متجهّمة لأهلها عابسة في وجوه طلّابها، و كنّى بذلك عن عدم صفائها فإنّ طيب العيس في الدنيا إنّما يكون مع وجود نظام العدل و التصفية بين أهلها و عدم التظالم و ذلك في زمان الفترة مفقود بين العرب، و هو كناية بالمستعار، و وجه المشابهة ما يلزمه المستعار عنه و له من عدم تحصيل المطلوب معهما.

 الثاني عشر: كون ثمرها الفتنة: أى غاية سعيهم فيها على خبط في ظلمات جهلهم إنّما هو الفتنة: أى الضلال عن سبيل اللّه و التيه في ظلمات الباطل. و غاية كلّ شي‏ء هو مقصوده فتشبه الثمرة الّتى هى مقصود الشجرة فلذلك استعير لها لفظها.

الثالث عشر: و طعامها الجيفة. يحتمل أن يكون لفظ الجيفة هنا مستعارا لطعام الدنيا و لذّاتها، و وجه المشابهة أنّه لمّا كانت الجيفة عبارة عمّا أنتن و تغيّرت رائحته من جثّة حيوان و نحوها فخبث مأكله و نفر الطبع عنه كذلك طعام الدنيا و لذّاتها في زمان الفترة أكثر ما يكون من النهب و الغارة و السرقة و نحوهما ممّا يخبث تناوله شرعا و ينفر العقل منه و تأباه كرائم الأخلاق فأشبه ما يحصل من متاعها إذن الجيفة في خبثها و سوء مطعمها و إن كان أحد الخبيثين عقليّا و الآخر حسّيا فاستعير لفظها له، و يحتمل أن يكنّى بالجيفة عمّا كانوا يأكلون في الجاهليّة من الحيوان غير مذكّى و هو ما حرّمه القرآن الكريم من ذلك في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ:«» أى المضروبة بالخشب حتّى تموت و يبقى الدم فيها فيكون أطيب كما زعم المجوس، و المترديّة: أى الّتى تردّت من علوّ فماتت. فإنّ كلّ ذلك إذا مات فكثيرا ما يتعفّن و يؤكل فيصدق أن طعامهم كان الجيفة.

الرابع عشر: كون شعارها الخوف. الخامس عشر: كون دثارها السيف. استعار لفظ الشعار للخوف و الدثار للسيف، و وجه الاستعارة الاولى أنّ الخوف و إن كان من العوارض القلبيّة إلّا أنّه كثيرا ما يستتبع اضطراب البدن و انفعاله بالرعدة فيكون شاملا له شمول ما يتّخذه الإنسان شعارا، و وجه الثانية أنّ الدثار و السيف يشتركان في مباشرة المدّثر و المضروب من فوقهما.

و قوله: فاعتبروا عباد اللّه شروع في المقصود. فقوله: و اذكروا تلك. إشارة إلى وجه العبرة من قبايح الأعمال: أى تلك الأعمال الّتى كانت عليها آباؤكم و إخوانكم زمان الفترة و زمان دعوة الرسول لكم، و قوله: فهم بها مرتهنون: أى محبوسون في سلاسل الهيئات البدنيّة و أغلال ما اكتسبوا منها، و محاسبون عليها. و قوله: و لعمرى. إلى قوله: ببعيد. إلحاق بهم بآبائهم في تشبيه زمانهم بزمانهم و تقارب ما بين الزمانين و تشبيه أحوالهم بحالهم في امور:

أحدها: أنّ اولئك كانوا آبائكم و ليس زمان الابن و حاله ببعيد من حال أبيه فيما يأتي و يذر.

الثاني: أنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يسمعهم شيئا إلّا و أسمعتكم إيّاه فلا فرق بينكم و بينهم من هذه الجهة. الثالث: أنّه لا تفاوت بين إسماعكم و إسماعهم.

الرابع: أنّ ساير الآلات البدنيّة الّتى كانت لاولئك فاكتسبوا بها كما لا و لم تكتسبوا حاصلة لكم أيضا. الخامس: أنّكم لم تعلموا شيئا كان آباؤكم جهلوه حتّى يكون ذلك سببا للفرق بينكم و بينهم.

السادس: و لا اصفيتم من الدنيا بشى‏ء لم يكن لآبائكم مثله، و غرضه من إلحاقهم بآبائهم في هذه الأحوال أمران: أحدهما: التنفير عن حال من سبق من العاصين بمخالفة أو امر اللّه تعالى. الثاني: الجذب و الترغيب في حال من سبق ممّن أطاع اللّه و الرسول فإنّه إذا حصلت المشابهة بينهم و بين السابقين و المتشابهان يتّحدان في اللوازم كان من تشبّه بسابق في عصيانه لزمه ما لزمه من أليم العقاب، و من تشبّه به في طاعته و انقياده للّه لزمه ما لزمه من الوصول إلى جزيل الثواب.

و قوله: و لقد نزلت بكم البليّة. يشبه أن يكون إنذارا بابتلاء الخلق بدولة بنى اميّة و ملوكها، و قوله: جائلا خطامها. كناية بالمستعار عن خطرها و صعوبة حال من يركن إليها فإنّها لمّا كانت دولة خارجة عن نظام الشريعة جارية على وفق الأوهام كان الراكن إليهم على خطر في دينه و نفسه كما أنّ من ركن إلى الناقة الّتى جال خطامها، أى لم يثبت في وجهها و ارتخى حزامها فركبها كان على خطر أن تصرعه فيهلك، ثمّ أردف ذلك بالنهى عن الاغترار بما أصبح فيه أهل الغفلة من متاع الدنيا و طيّباتها و نفّر عنه باستعارة لفظ الظلّ له، و وجه المشابهة ما يشتركان فيه من كونه ممدودا ينتهى عند أجل و يزول به. و باللّه التوفيق.


شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 310

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.