و من خطبه له علیه السّلام
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا- فَیَکُونَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ یَکُونَ آخِراً- وَ یَکُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ یَکُونَ بَاطِناً- کُلُّ مُسَمًّى
بِالْوَحْدَهِ غَیْرَهُ قَلِیلٌ- وَ کُلُّ عَزِیزٍ غَیْرَهُ ذَلِیلٌ وَ کُلُّ قَوِیٍّ غَیْرَهُ ضَعِیفٌ- وَ کُلُّ مَالِکٍ غَیْرَهُ مَمْلُوکٌ وَ کُلُّ عَالِمٍ غَیْرَهُ مُتَعَلِّمٌ- وَ کُلُّ
قَادِرٍ غَیْرَهُ یَقْدِرُ وَ یَعْجَزُ- وَ کُلُّ سَمِیعٍ غَیْرَهُ یَصَمُّ عَنْ لَطِیفِ الْأَصْوَاتِ- وَ یُصِمُّهُ کَبِیرُهَا وَ یَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا- وَ کُلُّ بَصِیرٍ
غَیْرَهُ یَعْمَى عَنْ خَفِیِّ الْأَلْوَانِ وَ لَطِیفِ الْأَجْسَامِ- وَ کُلُّ ظَاهِرٍ غَیْرَهُ بَاطِنٌ وَ کُلُّ بَاطِنٍ غَیْرَهُ غَیْرُ ظَاهِرٍ- لَمْ یَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ
لِتَشْدِیدِ سُلْطَانٍ- وَ لَا تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ- وَ لَا اسْتِعَانَهٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لَا شَرِیکٍ مُکَاثِرٍ وَ لَا ضِدٍّ مُنَافِرٍ- وَ لَکِنْ خَلَائِقُ
مَرْبُوبُونَ وَ عِبَادٌ دَاخِرُونَ- لَمْ یَحْلُلْ فِی الْأَشْیَاءِ فَیُقَالَ هُوَ فِیهَا کَائِنٌ- وَ لَمْ یَنْأَ عَنْهَا فَیُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ- لَمْ یَؤُدْهُ خَلْقُ مَا
ابْتَدَأَ- وَ لَا تَدْبِیرُ مَا ذَرَأَ وَ لَا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ- وَ لَا وَلَجَتْ عَلَیْهِ شُبْهَهٌ فِیمَا قَضَى وَ قَدَّرَ- بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَ عِلْمٌ
مُحْکَمٌ- وَ أَمْرٌ مُبْرَمٌ الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ- الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ
اللغه
أقول: المثاور: المواثب.
و الداخر: الذلیل،
و آده الأمر: أثقله.
و ذرء: خلق.
و المبرم: المحکم.
المعنى
و قد اشتملت هذه الخطبه على مباحث لطیفه من العلم إلالهىّ أیضا لا یطّلع علیها إلّا المتبحّرون فیه.
الأوّل: الّذی لم یسبق. إلى قوله: باطنا.
أقول: إنّه لمّا ثبت أنّ السبق و المقارنه و القبلیّه و البعدیّه امور تلحق الزمان لذاته و تلحق الزمانیّات به، و ثبت أنّه تعالى منزّه عن الزمان إذ کان من لواحق الحرکه المتأخّره عن وجود الجسم المتأخّر عن وجود اللّه سبحانه کما علم ذلک فی موضعه لا جرم لم تلحق ذاته المقدّسه و مالها من صفات الکمال و نعوت الجلال شیء من لواحق الزمان. فلم یجز إذن أن یقال مثلا کونه عالما قبل کونه قادر و سابقا علیه، و کونه قادرا قبل کونه عالما، و لا کونه أوّلا للعالم قبل کونه آخرا له قبلیّه و سبقا زمانیّا.
بقى أن یقال: إنّ القبلیّه و البعدیّه قد تطلق بمعان اخر کالقبلیّه بالشرف و الفضیله و الذات و العلیّه، و قد بیّنا فی الخطبه الاولى أنّ کلّ ما یلحق ذاته المقدّسه من الصفات فاعتبارات ذهنیّه تحدثها العقول عند مقایسته إلى مخلوقاته، و شیء من تلک الاعتبارات لا تتفاوت أیضا بالقبلیّه و البعدیّه بأحد المعانی المذکوره بالنظر إلى ذاته المقدّسه فلا یقال مثلا هو المستحقّ لهذا الاعتبار قبل هذا الاعتبار أو بعده و إلّا لکان کمال ذاته قابلا للزیاده و النقصان، بل استحقاقه بالنظر إلى ذاته لمّا یصحّ أن یعبّر لها استحقاق واحد لجمیعها دائما فلا حال یفرض إلّا و هو یستحقّ فیه أن یعتبر له الأوّلیّه و الآخریّه معا استحقاقا أوّلیا ذاتیّا لا على وجه الترتّب و إن تفاوتت الاعتبارات بالنظر إلى اعتبارنا، و هذا بخلاف غیره من الامور الزمانیّه فإنّ الجوهر مثلا یصدق علیه کونه أوّلا من العرض و لا یصدق علیه مع ذلک أنّه آخر له حتّى لو فرضنا عدم جمیع الأعراض و بقاء الجوهر بعدها لم یکن استحقاقه للاعتبارین معا بل استحقاقه لاعتبار الأوّلیّه متقدّم إذ کانت بعض أحواله سابقه على بعض، و لا استحقاقه لهما لذاته بل بحسب بقاء أسبابه. و لا العرض لما صدق علیه أنّه بعد الجوهر یصدق علیه أنّه قبله باعتبار ما، و خلاف المختلفین فی أیّ الصفات أقدم مبنىّ على سوء تصوّرهم لصانعهم سبحانه و تعالى عمّا یقولون علوّا کبیرا.
إذا عرفت ذلک فنقول: أوّلیّته هو اعتبار کونه مبدء لکلّ موجود، و آخریّته هو کونه غایه لکلّ ممکن، و قد سبق معنى کونه ظاهرا و باطنا فی الخطبه الّتی أوّلها: الحمد للّه الّذی بطن خفیّات الامور.
الثانی: کلّ مسمّى بالوحده غیره قلیل.
مقصود هذه الکلمه أنّه تعالى لا یوصف بالقلّه و إن کان واحدا، و تقریر ذلک أنّ الواحد یقال بمعان و المشهور منها المتعارف بین الخلق کون الشیء مبدءا لکثره یکون عادّا لها و مکیالا و هو الّذی تلحقه القلّه و الکثره الإضافیّتان فإنّ کلّ واحد بهذا هو قلیل بالنسبه إلى الکثره الّتی یصلح أن یکون مبدءا لها و المتصوّر لأکثر أهل العالم صدق هذا الاعتبار على اللّه بل ربّما لا یتصوّر بعضهم کونه تعالى واحدا إلّا بهذا الوجه، و لمّا کان تعالى منزّها عن الوصف بالقلّه و الکثره لما یستلزمانه من الحاجه و النقصان اللازمین لطبیعه الإمکان أثبت القلّه لکلّ ما سواه فاستلزم إثباتها لغیره فی معرض المدح له و نفیهما عنه. و استلزم ذلک تنزیهه تعالى عن الواحدیّه بالمعنى المذکور. إذ سلب اللازم یستلزم سلب ملزومه، و لیس إذا بطل کونه واحدا بهذا المعنى بطل کونه واحدا. فإنّا بیّنا صدق الواحد علیه بمعان اخر فی الخطبه الاولى، و قد یفهم من هذا أنّه لمّا نفى عنه القلّه استلزم ذلک أن یثبت له الکثره، و هو من سوء الفهم و قلّه العلم فإنّ عدم القلّه إنّما یستلزم ثبوت الکثره عند تعاقبها على محلّ من شأنه قبولهما. و ربّما قیل: إنّ المراد بالقلیل هنا الحقیر، و هو غیر مناسب لذکر الوحده و إنّما قال علیه السّلام: کلّ مسمّى بالوحده، و لم یقل کلّ واحد لیشعر بأنّ قول الوحده على واحدیّته تعالى و على واحدیّه غیره قول بحسب اشتراک الاسم.
الثالث: و کلّ عزیز غیره ذلیل.
أقول: رسّم العزیز بأنّه الخطیر الّذی یقلّ وجود مثله و تشتدّ الحاجه إلیه و یصعب الوصول إلیه. ثمّ فی کلّ واحد من هذه القیود الثلاثه کمال و نقصان فالکمال فی قلّه الوجود أن یرجع إلى واحد و یستحیل أن یوجد مثله و لیس ذلک إلّا اللّه سبحانه، و الکمال فی النفاسه و شدّه الحاجه أن یحتاج کلّ شیء فی کلّ شیء، و لیس ذلک على الکمال إلّا اللّه تعالى، و الکمال فی صعوبه المنال أن لا یوصل إلى حقیقته على معنى الإحاطه بها، و لیس ذلک على کمال إلّا اللّه تعالى فهو إذن العزیز المطلق الّذی کلّ موجود سواه ففى ذلّ الحاجه إلیه و حقاره العبودیّه بالنسبه إلى کمال عزّه. فأمّا العزیز من الخلق فهو الّذی توجد له تلک الاعتبارات لکن لا مطلقا بل بقیاسه إلى من هو دونه فی الاعتبارات المذکوره فهو إذن و إن صدق علیه أنّه عزیز بذلک الاعتبار إلّا أنّه فی ذلّ الحاجه إلى من هو أعلى رتبه منه و أکمل فی تلک الاعتبارات، و کذلک من هو أعلى منه إلى أن ینتهى إلى العزیز المطلق الّذی لا یلحقه ذلّ باعتبار ما. فلذلک أثبت علیه السّلام الذلّ لکلّ عزیز سواه.
الرابع: و کلّ قوىّ غیره ضعیف.
القوّه تعودن إلى تمام القدره، و یقابلها الضعف، و لمّا کان استناد جمیع الموجودات إلى تمام قدرته علمت أنّه لا أتمّ من قدرته فکلّ قوّه وصف بها غیره فبالنسبه إلى ضعف یقابلها لمن هو دونه و إذا قیس بالنسبه إلى من هو فوقه کان ضعیفا بالنسبه إلیه، و کذلک من هو فوقه إلى أن ینتهى إلى تمام قدره اللّه فهو القوىّ الّذی لا یلحقه ضعف بالقیاس إلى أحد غیره و کذلک قوله: و کلّ مالک غیره مملوک. فإنّ معنى المالک یعود إلى القادر على الشیء الّذی تنفذ مشیّته فیه باستحقاق دون غیره، و غیره بإذنه. و لمّا ثبت أنّ کلّ موجود سواه فهو فی تصریف قدرته و مشیّته إذ هما مستند وجوده ثبت أنّه هو المالک المطلق الّذی لست له مملوکیّه بالقیاس إلى شیء آخر و أنّ کلّ ما سواه فهو مملوک له و إن صدق علیه بالعرف أنّه مالک بالقیاس إلى هو دونه. ثمّ لا یخفى علیک ممّا سلف أنّ قول القوّى و المالک علیه و على غیره قول بحسب اشتراک الاسم أیضا.
الخامس: و کلّ عالم غیره متعلّم.
لمّا ثبت أنّ علمه تعالى بالأشیاء على ما مرّ من التفصیل إنّما هو لذاته، و لم یکن شیء منه بمستفاد من أمر آخر، و کان علم من سواه إنّما هو مستفاد بالتعلّم من الغیر ثمّ الغیر. من الغیر إلى أن ینتهى إلى علمه تعالى الفایض بالخیرات لا جرم کان کلّ عالم سواه متعلّما و إن سمّى عالما بحصول العلم له، و کان هو العالم المطلق الّذی لا حاجه به فی تحصیل العلم إلى أمر آخر.
السادس: و کلّ قادر غیره یقدر و یعجز.
أقول: قدره اللّه تعالى تعود إلى اعتبار کونه مصدرا لآثاره. فأمّا قدره الغیر فقد یراد بها قوّه جسمانیّه منبّثه فی الأعضاء محرّکه لها نحو الأفاعیل الاختیاریّه. و العجز ما یقابل القدره بهذا المعنى و هو عدمها عمّا من شأنه أن یقدر کما فی حقّ الواحد منّا، و قد یراد بهما اعتباران آخران یتقابلان. إذا عرفت ذلک فنقول: القادر المطلق على کلّ تقدیر هو مستند کلّ مخترع و موجود اختراعا ینفرد به و یستغنى فیه عن معاونه غیره و ذلک إنّما یتحققّ فی حقّ اللّه سبحانه فأمّا کلّ منسوب إلى القدره سواه فهو و إن کان بالجمله ذا قدره إلّا أنّها ناقصه لتناولها بعض الممکنات فقط و قصورها عن البعض الآخر و عدم تناولها له إذا کانت لا تصلح للمخترعات و إن نسب إلیه إیجاد شیء فلأنّه فاعل أقرب و واسطه بین القادر الأوّل سبحانه و بین ذلک الأثر لا لذاته استقلالا و تفرّدا به على ما علم فی مظانّه. فکلّ قادر سواه فلذاته یستحقّ العجز و عدم القدره بالنسبه إلى ما یمکن تعلّق قدرته به من سائر المخترعات و الممکنات و إنّما یستحقّ القدره من وجوده. فهو إذن الفاعل المطلق الّذی لا یعجزه شیء عن شیء و لا یستعصى على قدرته شیء.
السابع: و کلّ سمیع غیره یصمّ عن لطیف الأصوات، و یصمّه کبیرها، و یذهب عنه ما بعد منها.
أقول: حسّ السمع فی الحیوان عباره عن قوّه تنفذ من الدماغ إلى الاذن فی عصبته ثابته منه إلى الصماخ مبسوطه علیه کجلد الطبل، و هذه العصبه آله هذه القوّه.
و الصوت هیئه تحصل فی الهواء عن تموجّه بحرکه شدیده إمّا من قرع یحصل من اصطکاک جسمین صلبین فیضغط الهواء بینهما و ینفلت بشدّه، و إمّا من قلع شدید فیلج الهواء بین الجسمین المنفصلین الصلبین و یحصل عن السببین تموّج الهواء على هیئه مستدیره کما یفعل وقوع الحجر فی الماء فإذا انتهى ذلک التموّج إلى الهواه الّذی فی الاذن تحرّک ذلک الهواء الراکد حرکه مخصوصه بهیئه مخصوصه فتنفعل العصبه المفروشه على الصماخ عن تلک الحرکه و تدرکها القوّه السامعه هناک فهذا الإدراک یسمّى سماعا.
إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ إدراک هذه القوّه للصوت یکون على قرب و بعد و حدّ من القوّه و الضعف مخصوص فإنّه إن کان الصوت ضعیفا أو بعیدا جدّا لم یحصل بسببه تموّج الهواء فلم یصل إلى الصماخ فلم یحصل السماع و ذلک معنى قوله: یصمّ عن لطیف الأصوات، و یذهب علیه ما بعد منها. فإن قلت: لم خصّص اللطیف بالصمّ عنه و البعید بالذهاب علیه.
قلت: یشبه أن یکون لأنّ البعید فی مظنّه أن یسمع و إنّما یفوته بسبب عدم وصول الهواء الحامل له إلیه، و أمّا الخفىّ فلمّا فلم یکن من شأنه أن تدرکه القوّه السامعه أشبه عجزها عن إدراکه الصمّ فاستعیر لفظه له، و أمّا إن کان الصوت فی غایه القوّه و القرب فربّما أحدث الصمّ و ذلک لشدّه قرعه للصماخ و تفرّق اتّصال الروح الحامل لقوّه السمع عنه بحیث یبطل استعدادها لتأدیه القوّه إلى الصماخ و کلّ ذلک من نقصان الحیوان و ضعفه، و لمّا کان البارى تعالى منزّها عن الجسمیّه و توابعها لا جرم کانت هذه اللواحق من الصمم عن لطیف الأصوات، و ذهاب بعیدها، و الصمّ من کبیرها مخصوصه بمن له تلک القوّه المذکوره و السمع المخصوص فکلّ سامع غیره فهو کذلک. و استلزم ذلک فی معرض مدحه بتنزیهه سبحانه عنها. و إذ لیس سمیعا بالمعنى المذکور و قد نطق القرآن بإثبات هذه الصفه له فهو سمیع بمعنى أنّه لا یعزب عن إدراکه مسموع و إن خفى فیسمع السرّ و النجوى بل ما یسمع هو أدّق و أخفى حمد الحامدین و دعاء الداعین، و ذلک هو السمیع الّذی لا یتطرّق إلیه الحدثان إذ لم یکن بآله و آذان.
الثامن: و کل بصیر غیره یعمى عن خفىّ الألوان و لطیف الأجسام.
أقول: خفىّ الألوان مثلا کاللون فی الظلم، و اللطیف قد یکون بمعنى عدیم اللون کما فی الهواء، و قد یکون بمعنى رقیق القوام کالجوهر الفرد عند المتکلّمین، و کالذّره، و اللطیف بالمعنیین غیر مدرک للحیوان، و اطلق لفظ. العمى مجازا إذ کان عباره إمّا عن عدم البصر مطلقا أو عن عدمه عمّا من شأنه أن یبصر و لا واحد من هذین الاعتبارین بموجود للبصیر غیر اللّه فلم یکن عدم إدراکها عمى حقیقیّا بل لکون العمى من أسباب عدم الرؤیه اطلق لفظه علیه إطلاقا لاسم السبب على المسبّب، و هذا الحکم فی معرض مدحه إن یستلزم تنزیه بصره عن لاحق العمى و مظنّته إذ کان سبحانه منزّها عن معروض العمى و البصر و متعالیا عن أن یکون إدراکه بحدقه و أجفان و انطباع الصور و الألوان و إن کان یشاهد و یرى حتّى لا یعزب عنه ما تحت الثرى. و إذ لیس بصیرا بالمعنى المذکور فهو البصیر باعتبار أنّه مدرک لکمال صفات المبصرات، و ذلک الاعتبار أوضح و أجلى ممّا یفهم من إدراک البصر القاصر على ظواهر المرئیّات.
التاسع: و کلّ ظاهر غیره باطن.
أقول: ظهور الأشیاء هو انکشافها للحسّ أو للعقل انکشافا بیّنا، و یقابله بطونها و هو خفاؤها عن أحدهما، و لمّا ثبت أنّه تعالى منزّه عن الجسمیّه و لو احقها علم کونه منزّها عن إدراک الحواسّ، و لمّا قام البرهان على أنّه تعالى برىء عن أنحاء التراکیب الخارجیّه و العقلیّه وجب تنزّه ذاته المقدّسه عن اطّلاع العقول علیها فعلم من هذا الترتیب أنّه لا یشارک الأشیاء فی معنى ظهورها و قد وصف نفسه بالظهور فیجب أن یکون ظهوره عباره عن انکشاف وجوده فی جزئیّات آثاره کما قال تعالی سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی الْآفاقِ وَ فِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ«» و إن کانت مشاهده الحقّ له على مراتب متفاوته و درجات متصاعده کما أشار إلیه بعض مجرّدى السالکین: ما رأینا اللّه بعده. فلمّا ترقّوا عن تلک المرتبه درجه من المشاهده و الحضور قالوا: ما رأینا شیئا إلّا و رأینا اللّه فیه. فلمّا ترقّوا قالوا: ما رأینا شیئا إلّا و رأینا اللّه قبله. فلمّا ترقوا قالوا: ما رأینا شیئا سوى اللّه.
و الاولى مرتبه الفکر و الاستدلال علیه، و الثانیه مرتبه الحدس، و الثالثه مرتبه المستدلّین به لا علیه، و الرابعه مرتبه الفناء فی ساحل عزّته و اعتبار الوحده المطلقه محذوفا عنها کلّ لاحق. و إذا عرفت معنى ظهوره علمت أنّ شیئا من الممکنات لا یکون له الظهور المذکور فإنّه و إن کان لبعض الأشیاء فی عقل أو حسّ إلّا أنّه لیس فی کلّ عقل و فی کل حسّ إذ کلّ مطّلع على شیء فالّذی خفى عته أکثر ممّا اطّلع علیه فکلّ ظاهر غیره فهو باطن بالقیاس إلیه و هو تعالى الظاهر لکلّ شیء و فی کلّ شیء لکونه مبدء کلّ شیء و مرجع کلّ شیء.
العاشر: و کلّ باطن غیره فهو ظاهر [فهو غیر ظاهر خ].
و قد علمت معنى البطون للممکنات و ظهورها، و علمت أیضا ممّا سبق أنّ کونه باطنا یقال بمعنیین: أحدهما: أنّه الّذی خفى قدس ذاته عن اطّلاع العقول علیه. و الثانی: أنّه الّذی بطن جمیع الأشیاء خبره و نفذ فیها علمه. ثمّ علمت الظهور المقابل للمعنى الأوّل، و أمّا المقابل للثانی فهو الّذی لم یطّلع إلّا على ظواهر الأشیاء لم یکن له اطّلاع على بواطنها یقال فلان ظاهر و ظاهرى.
إذا عرفت ذلک فنقول: إنّ کلّ باطن غیره سوا کان المراد بالبطون خفاء المتصوّر أو نفوذ العلم فی البواطن. فهو ظاهر بالقیاس إلیه تعالى ظهورا بالمعنى الّذی یقابله. أمّا الأوّل فلأنّ کلّ ممکن و إن خفى على بعض العالمین لم یخف على غیره و إن خفى على الکلّ فهو ظاهر فی علمه تعالى و ممکن الظهور فی علم غیره فلیس إذن بخفى مطلقا و هو تعالى الباطن الّذی لا أبطن منه و کلّ باطن غیره فهو ظاهر بالقیاس إلیه. و أمّا الثانی فلأنّ کلّ عالم و إن جلّ قدره فلا إحاطه له ببعض المعلومات و هو قاصر عن بعضها، و بعضها غیر ممکن له و هو تعالى الّذی لا یعزب عن علمه مثقال ذرّه فی الأرض و لا فی السماء و لا أصغر من ذلک و لا أکبر و کلّ ظاهر بالقیاس إلیه، و فی بعض النسخ و کلّ ظاهر غیره غیر باطن و کلّ باطن غیره غیر ظاهر، و معنى القضیّتین أنّ کلّ ممکن إن کان ظاهرا منکشفا لعقل أو حسّ لم یوصف مع ذلک بأنّه باطن کالشمس مثلا و إن کان باطنا خفیّا عن العقل و الحسّ لم یوصف مع ذلک بأنّه ظاهر، و هو تعالى الموصوف بأنّه الباطن الظاهر معا. و فی هذه النسخه نظر. فإنّا إنّما أثبتنا کونه تعالى ظاهرا و باطنا معا باعتبارین
و فی بعض الممکنات ما هو کذلک کالزمان مثلا فإنّ کلّ عاقل یعلم بالضروره وجود الزمان و إن خفیت حقیقته على جمهور الحکماء و اضطربت علیه أقوال العلماء و کذلک العلم فلیس إذن کلّ ظاهر غیره غیر باطن و لا کلّ باطن غیره غیر ظاهر. و اللّه أعلم.
الحادى عشر: لم یخلق ما خلقه لتشدید سلطان. إلى قوله: منافر.
أقول: إنّه تعالى لا یفعل لغرض و متى کان کذلک کان منزّها عن خصوصیّات هذه الأغراض. أمّا الأوّل فبرهانه أنّه لو فعل لغرض لکان وجود ذلک الغرض و عدمه بالنسبه إلیه تعالى إمّا أن یکونا على سواء، أو لیس. و الأوّل باطل و إلّا لکان حصول الغرض له ترجیحا من غیر مرجّح، و الثانی باطل لأنّهما إذ الم یستویا کان حصول الغرض أولى به فحینئذ یکون حصول ذلک الغرض معتبرا فی کماله فیکون بدونه ناقصا تعالى اللّه عن ذلک.
لا یقال: لیست أولوّیه الغرض بالنسبه إلى ذاته بل بالنسبه إلى العبد إذ غرضه الإحسان إلى الغیر.
لأنّا نقول: غرض إحسانه إلى الغیر و عدمه إن کانا بالنسبه إلیه على سواء عاد حدیث الرجحان بلا مرجّح، و إن کان أحدهما أولى به عاد حدیث الکمال و النقصان. و إذا عرفت أنّه تعالى لا یفعل لغرض، و کلّ ما ذکره علیه السّلام فی هذا الفصل من تشدید سلطان و تقویته أو تخوّف عاقبه زمان أو استعانه على ندّ و شریک و ضدّ أغراض علمت صدق قوله: إنّه لم یخلق شیئا من خلقه لشیء من هذه الامور. و هذا تنزیه من طریق نفى الغرض المطلق.
و أمّا تنزیهه تعالى عن خصوصیّات هذه الأغراض فلأنّ تشدید السلطان إنّما یحتاج إلیه ذو النقصان فی ملکه، و لمّا کان تعالى هو الغنىّ المطلق فی کلّ شیء عن کلّ شیء صدق أنّ ذلک بغرض له ممّا خلق، و أمّا التخوّف عن عواقب الزمان فلأنّ التضرّر و الانتفاع و لواحقهما من الخوف و الرجاء و نحوهما إنّما هى من لواحق الممکنات القابله للنقصان و الکمال و ما هو فی معرض التغیّر و الزوال، و لمّا ثبت تنزیهه تعالى عن الانفعال عن شیء لم یتصوّر أن یکون أحد هذه الامور غرضا له، و لذلک الاستعانه على النّدو الضدّ و الشریک فإنّ الاستعانه هى طلب العون من الغیر و ذلک من لوازم الضعف و العجز و الخوف و أنّه لا عجز فلا استعانه فلا ندّ و لا شریک و لا ضدّ، و کذلک نقول: لا ندّ و لا شریک و لا ضدّ فلا استعانه و الغرض تنزیهه سبحانه عن صفات المخلوقین و خواصّ المحدثین.
و قوله: و لکن خلایق مربوبون و عباد داخرون.
أى بل خلایق خلقهم بمحض جوده و هو فیضان الخیر عنه على کلّ قابل بقدر ما یقبله من غیر بخل و لا منع و تعویق، و بذلک الاعتبار کان کلّ شیء و کلّ عبد ذلیل و هو مالکه و مولاه:
و قوله: لم یحلل فی الأشیاء فیقال هو فیها کائن.
إشاره إلى وصفه بسلب کونه ذا محلّ. و للناس فی تنزیهه تعالى عن المحلّ کلام طویل. و المعقول من الحلول عند الجمهور قیام موجود بموجود على سبیل التعبیه له، و ظاهر أنّ الحلول بهذا المعنى على الواجب الوجود محال لأنّ کونه تبعا للغیر یستلزم حاجته إلیه و کلّ محتاج ممکن. قال أفضل المتأخّرین نصیر الدین الطوسى- أبقاه اللّه- : و الحق أنّ حلول الشیء فی الشیء لا یتصوّر إلّا إذا کان الحال بحیث لا یتعیّن إلّا بتوسّط المحل و إذ لا یمکن أن یتعیّن واجب الوجود بغیره فإذن یستحیل حلوله فی غیره.
إذا عرفت ذلک فنقول: لمّا کان الکون فی المحلّ و النائى عنه و المباینه له امورا إنّما یقال على ما یصحّ حلوله فیه و یحلّه و کان هو تعالى منزّها عن الحلول وجب أن یمتنع علیه إطلاق هذه الامور. فإذ لیس هو بحالّ فی الأشیاء فلیس هو بکائن فیها، و إذ لیس بکائن فیها فلیس بنائى عنها و لا مباین لها.
و قوله: لم یؤده خلق ما ابتدء و لا تدبیر ما ذرء
الإعیاء إنّما یقال لذى الأعضاء من الحیوان و إذ لیس تعالى بجسم و لا ذى آله جسمانیّه لم یلحقه بسبب فعله إعیاء، و إنّما قال: ما ابتدء. لیکون سلب الإعیاء عنه أبلغ إذ ما ابتدء من الأفعال یکون المشقّه فیه أتمّ و تدبیره یعود إلى تصریفه لجمیع الذوات و الصفات دائما تصریفا کلّیّا و جزئیّا على وفق حکمته و عنایته، و نحوه قوله تعالى أَ وَ لَمْ یَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ یَعْیَ بِخَلْقِهِنَّ«».
و قوله: و لا وقف به عجز عمّا خلق.
إشاره إلى کمال قدرته و أنّ العجز علیه محال. و قد سبق بیانه.
و قوله: و لا ولجت علیه شبهه فیما قضى و قدّر.
إشاره إلى کمال علمه و نفى الشبهه إن تعرض له. و أعلم أنّ الشبهه إنّما تدخل على العقل فی الامور المعقوله الصرفه غیر الضروریّه. و ذلک أنّک علمت أنّ الوهم لا یصدق حکمه إلّا فی المحسوسات فأمّا الامور المعقوله الصرفه فحکمه فیها کاذب فالعقل حال استفصاله وجه الحقّ فیها یکون معارضا بالأحکام الوهمیّه فإذا کان المطلوب غامضا فربّما کان فی الأحکام الوهمیّه ما یشبه بعض أسباب المطلوب فتتصوّره النفس بصورته و تعتقده مبدءا فینتج الباطل فی صوره المطلوب و لیس به، و لمّا کان البارى تعالى منزّها عن القوى البدنیّه و کان علمه لذاته لم یجز أن تعرض لقضائه و لا قدره شبهه، أو یدخل علیه فیه شکّ لکونهما من عوارضیها. و قد عرفت معنى القضاء و القدر فیما سبق.
و قوله: بلا قضاء متقن و علم محکم.
أى برىء من فساد الشبهه و الغلط.
و قوله: و أمر مبرم.
إشاره إلى قدره الّذی هو تفصیل قضاءه المحکم، و ظاهر أنّ تفضیل المحکم لا یکون إلّا محکما:
و قوله: المأمول مع النقم المرهوب مع النعم [المرجوّ من النعم خ].
أقول: منبع هذین الوصفین هو کمال ذاته و عموم فیضه و أنّه لا غرض له و إنّما الجود المطلق و الهبه لکلّ ما یستحقّه، و لمّا کان العبد حال حلول نقمته به قد یستعدّ بالاستغفار و الشکر لإفاضه الغفران و رفع النقمه فیفیضها علیه مع بقاء کثیر من نعمه لدیه کان تعالى مظنّه الأمل و الفزع إلیه فی رفع ما القى فیه و إبقاء ما أبقى حتّى أنّه تعالى هو المفیض لصوره الأمل، و إلیه أشار بقوله تعالى وَ إِذا مَسَّکُمُ الضُّرُّ فِی الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِیَّاهُ و کذلک حال إفاضه نعمته لمّا کان العبد قد یستعدّ بالغفله للإعراض عن شکرها کان تعالى فی تلک الحال أهلا أن یفیض علیه بوادر نقمته بسلبها فکان هو المأمول مع النقم المرهوب مع النعم فهو المستعان به علیه و هو الّذی لا مفرّ منه إلّا إلیه، و من عداه مخلوق نقمته غیر مجامع لأمل رحمته، و قیام نعمته معاند لشمول رهبته. فلا مأمول و لا مرهوب فی کلا الحالین سواه. و باللّه العصمه و التوفیق.
ِ
شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی) ، ج ۲ ، صفحهى ۱۶۸
بازدیدها: ۱۹۳