خطبه ۱۰۹ صبحی صالح
۱۰۹- و من خطبه له ( علیه السلام ) فی بیان قدره اللّه و انفراده بالعظمه و أمر البعث
قدره اللّه
کُلُّ شَیْءٍ خَاشِعٌ لَهُ
وَ کُلُّ شَیْءٍ قَائِمٌ بِهِ
غِنَى کُلِّ فَقِیرٍ
وَ عِزُّ کُلِّ ذَلِیلٍ
وَ قُوَّهُ کُلِّ ضَعِیفٍ
وَ مَفْزَعُ کُلِّ مَلْهُوفٍ
مَنْ تَکَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ
وَ مَنْ سَکَتَ عَلِمَ سِرَّهُ
وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَیْهِ رِزْقُهُ
وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَیْهِ مُنْقَلَبُهُ
لَمْ تَرَکَ الْعُیُونُ فَتُخْبِرَ عَنْکَ
بَلْ کُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِینَ مِنْ خَلْقِکَ
لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَهٍ
وَ لَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَهٍ
وَ لَا یَسْبِقُکَ مَنْ طَلَبْتَ
وَ لَا یُفْلِتُکَ مَنْ أَخَذْتَ
وَ لَا یَنْقُصُ سُلْطَانَکَ مَنْ عَصَاکَ
وَ لَا یَزِیدُ فِی مُلْکِکَ مَنْ أَطَاعَکَ
وَ لَا یَرُدُّ أَمْرَکَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَکَ
وَ لَا یَسْتَغْنِی عَنْکَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِکَ
کُلُّ سِرٍّ عِنْدَکَ عَلَانِیَهٌ
وَ کُلُّ غَیْبٍ عِنْدَکَ شَهَادَهٌ
أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَکَ
وَ أَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِیصَ عَنْکَ
وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا مَنْجَى مِنْکَ إِلَّا إِلَیْکَ
بِیَدِکَ نَاصِیَهُ کُلِّ دَابَّهٍ
وَ إِلَیْکَ مَصِیرُ کُلِّ نَسَمَهٍ
سُبْحَانَکَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَکَ
سُبْحَانَکَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِکَ
وَ مَا أَصْغَرَ کُلَّ عَظِیمَهٍ فِی جَنْبِ قُدْرَتِکَ
وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَکُوتِکَ
وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِکَ فِیمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِکَ
وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَکَ فِی الدُّنْیَا
وَ مَا أَصْغَرَهَا فِی نِعَمِ الْآخِرَهِ
الملائکه الکرام
و منهامِنْ مَلَائِکَهٍ أَسْکَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِکَ
وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِکَ
هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِکَ بِکَ
وَ أَخْوَفُهُمْ لَکَ
وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْکَ
لَمْ یَسْکُنُوا الْأَصْلَابَ
وَ لَمْ یُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ
وَ لَمْ یُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِینٍ
وَ لَمْ یَتَشَعَّبْهُمْ رَیْبُ الْمَنُونِ
وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَکَانِهِمْ مِنْکَ
وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَکَ
وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِیکَ
وَ کَثْرَهِ طَاعَتِهِمْ لَکَ
وَ قِلَّهِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِکَ
لَوْ عَایَنُوا کُنْهَ مَا خَفِیَ عَلَیْهِمْ مِنْکَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ
وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ یَعْبُدُوکَ حَقَّ عِبَادَتِکَ
وَ لَمْ یُطِیعُوکَ حَقَّ طَاعَتِکَ
عصیان الخلق
سُبْحَانَکَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً
بِحُسْنِ بَلَائِکَ عِنْدَ خَلْقِکَ
خَلَقْتَ دَاراً
وَ جَعَلْتَ فِیهَا مَأْدُبَهً
مَشْرَباً وَ مَطْعَماً
وَ أَزْوَاجاً وَ خَدَماً وَ قُصُوراً وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً
ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِیاً یَدْعُو إِلَیْهَا
فَلَا الدَّاعِیَ أَجَابُوا
وَ لَا فِیمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا
وَ لَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَیْهِ اشْتَاقُوا
أَقْبَلُوا عَلَى جِیفَهٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَکْلِهَا
وَ اصْطَلَحُوا عَلَىحُبِّهَا
وَ مَنْ عَشِقَ شَیْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ
وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ
فَهُوَ یَنْظُرُ بِعَیْنٍ غَیْرِ صَحِیحَهٍ
وَ یَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَیْرِ سَمِیعَهٍ
قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ
وَ أَمَاتَتِ الدُّنْیَا قَلْبَهُ
وَ وَلِهَتْ عَلَیْهَا نَفْسُهُ
فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا
وَ لِمَنْ فِی یَدَیْهِ شَیْءٌ مِنْهَا
حَیْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَیْهَا
وَ حَیْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَیْهَا
لَا یَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ
وَ لَا یَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ
وَ هُوَ یَرَى الْمَأْخُوذِینَ عَلَى الْغِرَّهِ
حَیْثُ لَا إِقَالَهَ وَ لَا رَجْعَهَ
کَیْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا کَانُوا یَجْهَلُونَ
وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْیَا مَا کَانُوا یَأْمَنُونَ
وَ قَدِمُوا مِنَ الْآخِرَهِ عَلَى مَا کَانُوا یُوعَدُونَ
فَغَیْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ
اجْتَمَعَتْ عَلَیْهِمْ سَکْرَهُ الْمَوْتِ وَ حَسْرَهُ الْفَوْتِ
فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ
وَ تَغَیَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ
ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِیهِمْ وُلُوجاً
فَحِیلَ بَیْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَیْنَ مَنْطِقِهِ
وَ إِنَّهُ لَبَیْنَ أَهْلِهِ یَنْظُرُ بِبَصَرِهِ
وَ یَسْمَعُ بِأُذُنِهِ
عَلَى صِحَّهٍ مِنْ عَقْلِهِ
وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ
یُفَکِّرُ فِیمَ أَفْنَى عُمُرَهُ
وَ فِیمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ
وَ یَتَذَکَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا
أَغْمَضَ فِی مَطَالِبِهَا
وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا
قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا
وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا
تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ یَنْعَمُونَ فِیهَا
وَ یَتَمَتَّعُونَ بِهَا
فَیَکُونُ الْمَهْنَأُ لِغَیْرِهِ
وَ الْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ
وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا
فَهُوَ یَعَضُّ یَدَهُ نَدَامَهً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ
وَ یَزْهَدُ فِیمَا کَانَ یَرْغَبُ فِیهِ أَیَّامَ عُمُرِهِ
وَ یَتَمَنَّى أَنَالَّذِی کَانَ یَغْبِطُهُ بِهَا وَ یَحْسُدُهُ عَلَیْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ
فَلَمْ یَزَلِ الْمَوْتُ یُبَالِغُ فِی جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ
فَصَارَ بَیْنَ أَهْلِهِ لَا یَنْطِقُ بِلِسَانِهِ
وَ لَا یَسْمَعُ بِسَمْعِهِ
یُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِی وُجُوهِهِمْ
یَرَى حَرَکَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ
وَ لَا یَسْمَعُ رَجْعَ کَلَامِهِمْ
ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِیَاطاً بِهِ
فَقُبِضَ بَصَرُهُ کَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ
وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ
فَصَارَ جِیفَهً بَیْنَ أَهْلِهِ
قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ
وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ
لَا یُسْعِدُ بَاکِیاً
وَ لَا یُجِیبُ دَاعِیاً
ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِی الْأَرْضِ
فَأَسْلَمُوهُ فِیهِ إِلَى عَمَلِهِ
وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ
القیامه
حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْکِتَابُ أَجَلَهُ
وَ الْأَمْرُ مَقَادِیرَهُ
وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ
وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا یُرِیدُهُ مِنْ تَجْدِیدِ خَلْقِهِ
أَمَادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا
وَ أَرَجَّ الْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا
وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا
وَ دَکَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَیْبَهِ جَلَالَتِهِ وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ
وَ أَخْرَجَ مَنْ فِیهَا
فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَاقِهِمْ
وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ
ثُمَّ مَیَّزَهُمْ لِمَا یُرِیدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَایَا الْأَعْمَالِ وَ خَبَایَا الْأَفْعَالِ
وَ جَعَلَهُمْ فَرِیقَیْنِ
أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ
وَ انْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ
فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَهِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ وَ خَلَّدَهُمْ فِی دَارِهِ
حَیْثُ لَا یَظْعَنُ النُّزَّالُ
وَ لَا تَتَغَیَّرُ بِهِمُالْحَالُ
وَ لَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ
وَ لَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ
وَ لَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ
وَ لَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ
وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِیَهِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ
وَ غَلَّ الْأَیْدِیَ إِلَى الْأَعْنَاقِ
وَ قَرَنَ النَّوَاصِیَ بِالْأَقْدَامِ
وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِیلَ الْقَطِرَانِ
وَ مُقَطَّعَاتِ النِّیرَانِ
فِی عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ
وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ
فِی نَارٍ لَهَا کَلَبٌ وَ لَجَبٌ
وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ
وَ قَصِیفٌ هَائِلٌ
لَا یَظْعَنُ مُقِیمُهَا وَ لَا یُفَادَى أَسِیرُهَا
وَ لَا تُفْصَمُ کُبُولُهَا
لَا مُدَّهَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى
وَ لَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَیُقْضَى
زهد النبی
و منها فی ذکر النبی ( صلى الله علیه وآله )
قَدْ حَقَّرَ الدُّنْیَا وَ صَغَّرَهَا
وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا
وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِیَاراً
وَ بَسَطَهَا لِغَیْرِهِ احْتِقَاراً
فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْیَا بِقَلْبِهِ
وَ أَمَاتَ ذِکْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ
وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِیبَ زِینَتُهَا عَنْ عَیْنِهِ
لِکَیْلَا یَتَّخِذَ مِنْهَا رِیَاشاً
أَوْ یَرْجُوَ فِیهَا مَقَاماً
بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً
وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً
وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّهِ مُبَشِّراً
وَ خَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً
أهل البیت
نَحْنُ شَجَرَهُ النُّبُوَّهِ
وَ مَحَطُّ الرِّسَالَهِ
وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِکَهِ
وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ
وَ یَنَابِیعُ الْحُکْمِ
نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا یَنْتَظِرُ الرَّحْمَهَ
وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا یَنْتَظِرُ السَّطْوَهَ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج۷
و من خطبه له علیه السّلام و هى المأه و الثامنه من المختار فی باب الخطب
و شرحها فى ضمن فصول:
الفصل الاول
کلّ شیء خاضع له، و کلّ شیء قائم به، غنى کلّ فقیر، و عزّ کلّ ذلیل، و قوّه کلّ ضعیف، و مفزع کلّ ملهوف، من تکلّم سمع نطقه، و من سکت علم سرّه، و من عاش فعلیه رزقه، و من مات فإلیه منقلبه، لم ترک العیون فتخبر عنک، بل کنت قبل الواصفین من خلقک، لم تخلق الخلق لوحشه، و لا استعملتهم لمنفعه، و لا یسبقک من طلبت، و لا یفلتک من أخذت، و لا ینقص سلطانک من عصاک، و لا یزید فی ملکک من أطاعک، و لا یردّ أمرک من سخط قضاءک، و لا تستغنى عنک من توّلى عن أمرک، کلّ سرّ عندک علانیه و کلّ غیب عندک شهاده، أنت الأبد لا أمد لک، و أنت المنتهى لا محیص عنک، و أنت الموعد لا منجا منک إلّا إلیک، بیدک ناصیه کلّ دآبّه، و إلیک مصیر کلّ نسمه، سبحانک ما أعظم ما نرى من خلقک، و ما أصغر عظمه فی جنب قدرتک، و ما أهول ما نرى من ملکوتک، و ما أحقر ذلک فى ما غاب عنّا من سلطانک، و ما أسبغ نعمک فی الدّنیا، و ما أصغرها فی نعم الآخره. منها: من ملائکه أسکنتهم سمواتک، و رفعتهم عن أرضک، هم أعلم خلقک بک، و أخوفهم لک، و أقربهم منک، لم یسکنوا الأصلاب، و لم یضمّنوا الأرحام، و لم یخلقوا من ماء مهین، و لم یشعّبهم ریب المنون، و إنّهم على مکانهم منک، و منزلتهم عندک و استجماع أهوائهم فیک، و کثره طاعتهم لک، و قلّه غفلتهم عن أمرک، لو عاینوا کنه ما خفی علیهم منک، لحقّروا أعمالهم، و لزروا على أنفسهم، و لعرفوا أنّهم لم یعبدوک حقّ عبادتک، و لم یطیعوک حقّ طاعتک.
اللغه
(لهف) لهفا من باب فرح حزن و تحسّر، و اللّهوف و اللّهیف و اللّهفان و اللّاهف المظلوم المضطرّ یستغیث و یتحسّر و (أفلت) الطائر و غیره إفلاتا تخلّص و أفلتّه اذا أطلقته و خلّصته یستعمل لازما و متعدّیا، و فلت فلتا من باب ضرب لغه و فلته أنا یستعمل أیضا لازما و متعدّیا.
و (الناصیه) الشعر المسترسل فی مقدّم الراس أى شعر الجبهه و قال الأزهریّ منبت الشعر و اطلاقها على الشعر مجاز من باب تسمیه الحالّ باسم المحلّ و (ماء مهین) أى ضعیف حقیر و هى النطفه و (انشعبت) أغصان الشجره و تشعّبت تفرّقت و (المنون) الدّهر من مننت الشیء قطعته، لأنه یقطع الأعمار و (زرى) علیه زریا من باب رمىو زریه و زرایه بالکسر عابه و استهزء به قال أبو عمر الشیبانی: الرّاری على الانسان هو الذی ینکر علیه و لا یعدّه شیئا.
الاعراب
قوله: لم ترک العیون فتخبر عنک، فی بعض النسخ تخبر بالنصب و هو الأظهر و فی بعضها بالجزم، و الأوّل مبنىّ على کونه منصوبا بان مضمره وجوبا بعد الفاء السببیّه المسبوقه بالنفى، و الثانی مبنىّ على جعل الفاء لمجرّد عطف ما بعدها على ما قبلها، فیکون ما بعدها شریکا لما قبلها فی الاعراب.
قال فی التصریح: و لک فی نحو ما تأتینی فاکرمک أن تقدّر الفاء لمجرّد عطف لفظ الفعل على لفظ ما قبلها فیکون شریکه فی اعرابه فیجب هنا الرّفع لأنّ الفعل الذی قبلها مرفوع و المعطوف شریک المعطوف علیه و کأنّک قلت ما تأتینی فما اکرمک فهو شریکه فى النفى الداخل علیه.
و إن تقدّر الفاء أیضا لعطف مصدر الفعل الذى بعدها على المصدر المؤل ممّا قبلها، و لکن یقدّر النفى منصبّا على المعطوف علیه و ینتفی المعطوف لأنه مسبّب عنه و قد انتفى، و المعنى ما یکون منک اتیان فکیف یکون منّى إکرام.
و قوله علیه السّلام: لا یفلتک، من باب الحذف و الایصال أى لا یفلت منک على حدّ قوله:
استغفر اللّه ذنبا لست محصیه ربّ العباد الیه الوجه و العمل
أى من ذنب، و قوله: سبحانک ما اعظم ما نرى، سبحانک منصوب على المصدر و عامله محذوف وجوبا، أى أسبّح سبحانا فحذف الفعل لسدّ المصدر مسدّه و تبعه اللّام أیضا فی الحذف تخفیفا فاضیف المصدر إلى کاف الخطاب، و هذه اللفظه وارده فی هذا المقام للتعجّب کما فی قوله صلّى اللّه علیه و آله و سلّم فی روایه أبی هریره: سبحان اللّه إنّ المؤمن لا ینجس، صرّح به فی التوضیح، و معنى التعجّب انفعال یعرض للنّفس عند الشعور بأمر یخفى سببه، و لهذا قیل: إذا ظهر السّبب بطل العجب، و یشترط أن یکون المتعجّب منه عادم النظیر أو قلیل النّظایر، فما یکثر نظائره فی الوجود لا یستعظم فلا یتعجّب منه.
قوله علیه السّلام ما اعظم ما نرى، تأکید للتعجّب، فانّ ما فی ما أعظم تعجّبه أیضا و ماء الثانیه موصوله، و قد طال التشاجر بین علماء الأدبیّه فی ماء التّعجب و صیغه أفعل بعدها بعد اتفاقهم على اسمیتها و کونها مبتدأ، فالمحکىّ عن سیبویه و جمهور البصرییّن أنّها نکره تامّه بمعنى شیء و ابتدء بها على نکارتها لتضمّنها معنى التّعجب.
قال الرّضیّ (ره): فانّ التعجّب کما ذکرنا إنّما یکون فیما یجهل سببه فالتنکیر یناسب معنى التعجّب، فکان معنى ما أحسن زیدا، فی الأصل شیء من الأشیاء لا أعرفه جعل زیدا حسنا، ثمّ انتقل إلى إنشاء التعجّب و انمحى عنه معنى الجعل فجاز استعماله فی التعجّب عن شیء یستحیل کونه جعل جاعل، نحو ما أقدر اللّه و ما أعلمه، و ذلک لأنه اقتصر من اللفظ على ثمرته و هى التعجّب من الشیء سواء کان مجعولا و له سبب أولا، فما مبتداء و افعل فعل ماض خبره و فیه ضمیر راجع إلى ما هو فاعله و المنصوب بعده مفعوله، فعلى ذلک یکون فتحه أفعل فتحه بناء فاعراب ما أحسن زیدا مثل اعراب زید ضرب عمرا حرفا بحرف.«» و قال الأخفش فی أحد قوله إنّ ما موصوله بمعنى الذی و ما بعدها من الجمله الفعلیه صله لها لا محلّ لها من الاعراب، أو نکره موصوفه بمعنى شیء و ما بعدها صفه لها، فمحلّها رفع تبعا لمحلّ ما، و على التقدیرین فالخبر محذوف وجوبا أى الذی أحسن زیدا أو شیء أحسن زیدا موجود أو شیء عظیم.
و استبعدوه بأنّ فیه التزام وجوب حذف الخبر مع عدم ما یسدّ مسدّه، و بأنه لیس فیه معنى الابهام اللّایق بالتعجّب، و أیضا إذا تضمّن الکلام افهاما و ابهاما فالمعتاد تقدّم الابهام، و فیما ذکره یکون الأمر بخلاف ذلک إذ فیه تقدیم الافهام بالصّله أو الصفه و تأخیر الابهام بالتزام حذف الخبر.
و ذهب الفرّاء و ابن درستویه و ربما عزّى إلى الکوفیّین إلى أنّ ما استفهامیه ما بعدها خبرها.
قال نجم الأئمه و هو قوىّ من حیث المعنى، لأنّه کان جهل سبب حسنه فاستفهم عنه، و قد یستفاد من الاستفهام معنى التعجّب نحو: ما أدراک ما یوم الدّین و أ تدرى من هو، و للّه درّه أىّ رجل کان قال و للّه غنیّا خیرا أیّما فتى.
و ربما یضعف بأنّ فیه نقل من الاستفهام إلى التعجّب و النقل من انشاء إلى انشاء مما لم یثبت، هذا.
و بقى الکلام فی أفعل و قد ظهر من کلام البصریّین أنه فعل ماض و فتحته فتحه بناء للزومه مع یاء المتکلم نون الوقایه نحو ما أفقرنى إلى رحمه اللّه و ما أحوجنى الیها، و قال الکوفیّون غیر الکسائی«» إنه اسم و فتحته فتحه اعراب کفتحه عندک فی زید عندک، و یؤید قولهم تصغیرهم ایاه«» فی نحو ما احیسنه و ما امیلحه قال الشاعر:
یا ما امیلح غزلانا شددن لنا
و اعتذروا عن فتحه الخبر بأنّ مخالفه الخبر للمبتدأ تقتضى نصبه و أحسن إنّما هو فی المعنى وصف لزید لا لضمیر ما، فلذلک کان منصوبا، بیان ذلک. أنّ الخبر إذا کان فى المعنى هو المبتدأ کاللّه ربّنا أو مشبه به نحو: أزواجه امّهاتهم، ارتفع ارتفاعه، و إذا کان مخالفا له بحیث لا یحمل علیه حقیقه أو حکما خالفه فی الاعراب کما فی زید عندک، و الناصب له عندهم معنوىّ و هو معنى المخالفه التی اتّصف بها، و لا حاجه على قولهم إلى شیء یتعلّق به الخبر، و امّا انتصاب زیدا فلمشابهه المفعول به، لأنّ ناصبه وصف قاصر فأشبه نصب الوجه فی قولک زید حسن الوجه هکذا قال فی التوضیح و شرحه.
و قال نجم الأئمه بعد حکایه هذا المذهب أعنى مذهب الکوفیّه فی أفعل و کونه اسما کأفعل التفضیل: و لو لا انفتاح أفعل التعجّب و انتصاب ما بعده انتصاب المفعول به لکان مذهبهم جدیرا بأن ینصر.
و قد اعتذروا لفتح آخره بکونه متضمنّا لمعنى التعجّب الذى کان حقیقا بأن یوضع له حرف کما مرّ فی بناء اسم الاشاره، فبنى لتضمنه معنى الحرف و بنى على الفتح لکونه أخفّ.
و اعتذروا لنصب المتعجّب منه بعد افعل بکونه مشابها للمفعول لمجیئه بعد افعل المشابه لفعل مضمر فاعله فموقعه موقع المفعول به فانتصب انتصابه فهو نحو قوله:
و لدنا بعده بذناب«» عیش اجبّ الظّهر لیس له سنام
بنصب الظهر، و هو ضعیف، لأنّ النّصب فی مثل أجبّ الظهر و حسن الوجه توطئه لصحه الاضافه إلى ذلک المنصوب و لا یضاف أفعل إلى المتعجّب منه هذا.
و قوله علیه السّلام لم یخلقوا من ماء مهین، حرف من ابتدائیه نشویّه، و قوله: و انّهم على مکانهم، جمله مستأنفه و خبر إن الجمله الشرطیه الآتیه أعنی قوله: لو عاینوا آه، و على فی قوله: على مکانهم، للاستعلاء المجازى، و المعنى أنهم حالکونهم مستقرّین على مکانهم المعیّن لهم منک و منزلتهم الموجوده لهم عندک لو عاینوا ما خفى علیهم لحقّروا أعمالهم.
المعنى
قال الشارح المعتزلی: من أراد أن یتعلّم الفصاحه و البلاغه و یعرف فضل الکلام بعضهم على بعض فلیتأمّل هذه الخطبه، فانّ نسبتها إلى کلّ فصیح من الکلام عدا کلام اللّه و رسوله نسبه الکواکب المنیره الفلکیه إلى الحجاره المظلمه الأرضیه، ثمّ لینظر الناظر إلى ما علیها من البهاء و الجلاله و الرواء و الدّیباجه و ما یحدثه من الروعه و الرهبه و المخافه و الخشیه، حتى لو تلیت على زندیق ملحد و مصمم على اعتقاد نفى البعث و النشور، لهدت قواه و رعبت قلبه، و أصعقت على نفسه و زلزلت اعتقاده.
فجزى اللّه قائلها عن الاسلام أفضل ما جزى به ولیا من أولیائه، فما أبلغ نصرته له تاره بیده و سیفه، و تاره بلسانه و نطقه، و تاره بقلبه و فکره.
إن قیل جهاد و حرب فهو سیّد المجاهدین و المحاربین، و إن قیل وعظ و تذکیر فهو أبلغ الواعظین و المذکرین، و إن قیل فقه و تفسیر فهو رئیس الفقهاء و المفسرین و إن قیل عدل و توحید فهو إمام أهل العدل و الموحّدین، و لیس للّه بمستنکر أن یجمع العالم فی واحد.
ثمّ نعود إلى الشرح فنقول: افتتح علیه السّلام کلامه بالتوحید و التنزیه و الاجلال و ذکر نعوت الجمال و الجلال، و عقّبه بالموعظه و التذکیر و الانذار و التحذیر فقال (کلّ شیء خاشع له) أو خاضع له کما فی بعض النسخ، أى متذلّل معترف بالفاقه إلیه سبحانه و الحاجه الى تخلیقه و تکوینه، و إن من شیء إلّا یسبّح بحمده.
فالمراد بالخشوع الخضوع التکوینی و الافتقار الذاتی اللّازم المهیه الممکن مثل نفس الامکان، هذا.
و قال الشارح البحرانی (ره): الخشوع هنا مراد بحسب الاشتراک اللفظى إذ الخشوع من الناس یعود إلى تطامنهم و خضوعهم للّه، و من الملائکه دؤبهم فی عبادتهم ملاحظه لعظمته سبحانه و من سایر الممکنات انفعالها عن قدرته و خضوعها فی رقّ الامکان و الحاجه الیه، و المشترک و إن کان لا یستعمل فی جمیع مفهوماته حقیقه فقد بینّا أنّه یجوز استعماله مجازا فیها بحسب القرینه، و هى هنا اضافته لکلّ شیء، أو لأنه فی قوّه المتعدّد کقوله تعالی: إنّ اللّه و ملائکته یصلّون على النبیّ فکانه قال: الملک خاشع له و البشر خاشع له، انتهى.
أقول: و أنت خبیر بما فیه أمّا أوّلا فلأنّ کونه من المشترکات اللّفظیه ممنوع، بل المستفاد من کلام أکثراللّغویین أنّه موضوع لمطلق الخضوع أعنی الذلّ و الاستکانه، و ربما یفرّق بینه و بین الخضوع کما فی مجمع البحرین و غیره بأنّ الأوّل فی البدن و البصر و القلوب و الثانی فی البدن، و قال الفیومى خشع خشوعا خضع و خشع فی صلاته و دعائه أقبل بقلبه، و هو مأخوذ من خشعت الأرض إذا سکنت و اطمأنّت، و قال خضع خضوعا ذلّ و استکان، و الخضوع قریب من الخشوع إلّا أنّ الخضوع أکثر ما یستعمل فی الاعناق و الخشوع فی الصوت، و قال الفیروز آبادى الخشوع الخضوع أو قریب منه أو هو فی البدن و الخشوع فی الصوت و البصر، و قال خضع خضوعا تطامن و تواضع و قریب من ذلک کلام سایر أهل اللّغه.
و على قولهم فهو إما من باب الاشتراک المعنوی فیکون استعماله فی الانسان و الملک و غیرها من باب استعمال العامّ فی افراده.
و إما من باب الحقیقه و المجاز إن خصّصناه بذوات الأبدان و الابصار، فیکون اطلاقه على غیرها مجازا و استعماله فی الجمیع بعنوان عموم المجاز، و على أیّ تقدیر فالقول بکونه مشترکا لفظیا و توهّم تعدّد الوضع فیه باطل.
و أمّا ثانیا فلأنّ تجویز استعمال اللّفظ المشترک فی معانیه المتعدّده و لو بالمجاز و القرینه خلاف ما علیه المحقّقون من الاصولیّین، و قد حقّقناه فی دیباجه هذا الشرح و فی حواشینا على قوانین الاصول بما لا مزید علیه.
نعم لا بأس بجواز استعماله فی معنى عام شامل للمعانی المتعدّده بعنوان عموم الاشتراک کاستعمال لفظ الأمر فی مطلق الطلب الشامل للوجوب و الندب على القول بکونه حقیقه فیهما، کما لا ریب فی جواز استعمال اللّفظ فی معنى عام شامل لمعناه الحقیقی و المجازی و یسمّى بعموم المجاز کالمثال الذى ذکرناه على القول بکون الأمر حقیقه فی الوجوب مجازا فی الندب، و لا یمکن حمل مراد الشّارح على ذلک، لمنافاته بقوله: و الخشوع هنا مراد بحسب الاشتراک اللّفظی فافهم.
و أمّا ثالثا فلأنّ جعل خاشع بمنزله المتعدّد بالعطف قیاسا بقوله یصلّون فی الآیه الشریفه فاسد، فانّ یصلّون فی الآیه لفظ جمع و خاشع لفظ مفرد و کون الأوّل فی قوّه المتعدّد لا یدلّ على کون الثّانی کذلک مع امکان منع أصلالدّعوى فی الآیه أیضا لاحتمال حذف الخبر فیها أى إنّ اللّه یصلّى و ملائکته یصلّون على حدّ قوله: نحن بما عندنا و أنت بما عندک راض و الرّأى مختلف أو کونها من باب عموم الاشتراک بأن یکون معنى یصلّون یعتنون باظهار شرف النبیّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و تعظیمه کما فسّرها به الطبرسیّ و البیضاوى و غیرهما على ما مرّ تفصیلا و توضیحا فی دیباجه الشرح.
و هذا کلّه مبنیّ على التنزّل و المماشاه و إلّا فنقول: إنّ کون الآیه بمنزله المفرد المتکرّر المتعدّد لا یوجب الحاقها به فی جمیع الأحکام، فانّ المفرد المتکرّر شیء، و ما بمنزلته شیء آخر، فاطلاق المکرّرات و إراده المعانی المتعدّده منها لا یوجب جواز إراده المعانی المتعدّده مما هو بمنزلتها کما لا یخفى.
فقد وضح و اتّضح بما ذکرنا کلّه أنّ الآیه الشریفه لا دلاله فیها على جواز استعمال اللفظ المشترک فی أکثر من معنى، و أنّ کلام الامام علیه السّلام لیس من هذا القبیل فافهم ذلک و اغتنم.
(و کلّ شیء قائم به) لأنّ جمیع الممکنات إمّا جواهر أو أعراض، و لیس شیء منها یقوم بذاته فی الوجود أمّا الأعراض فظاهر، لظهور حاجتها إلى المحلّ الجوهرى، و أما الجواهر فلأنّ قوامها فی الوجود انما هو بعللها، و تنتهى إلى المبدأ الأوّل و علّه العلل جلّت عظمته فهو إذا الفاعل المطلق الذی به قوام وجود کلّ موجود، هکذا قال الشارح البحرانی، ثمّ قال: و اذ ثبت أنّه تعالى غنّى عن کلّ شیء فی کلّ شیء ثبت أنّ به قوام کلّ شیء فثبت أنّه القیّوم المطلق اذ مفهوم القیّوم هو القائم بذاته المقیم لغیره، فکان هذا الاعتبار مستلزما لهذا الوصف.
(غنى کلّ فقیر) قال الشارح: و یجب أن یحمل الفقیر على ما هو أعمّ من الفقر المتعارف و هو مطلق الحاجه لیعمّ التمجید کما أنّ الغنى هو سلب مطلق الحاجه و إذ ثبت أنّ کلّ ممکن فهو مفتقر فی طرفیه منته فی سلسله الحاجه إلیه و أنّه تعالى المقیم له فی الوجود ثبت أنه تعالى رافع حاجه کلّ موجود بل کلّ ممکن، و هو المراد بکونه غنى له و اطلق علیه تعالى لفظ الغنى و إن کان الغنى به مجازا إطلاقا لاسم السّبب على المسبّب.
(و عزّ کلّ ذلیل) یعنی أنه سبحانه سبب عزّه کلّ من کان به ذلّه، لأنّه العزیز المطلق الذی لا یعادله شیء و لا یغلبه شیء، فکلّ عزّه لکلّ موجود منتهیه إلیه سبحانه، و قد سبق تفسیر العزیز فی شرح الخطبه الرّابعه و السّتین.
(و قوّه کلّ ضعیف) معنى هذه الفقره کسابقتها، و قد مرّ تفسیر القوى من أسمائه سبحانه فی شرح الخطبه الرابعه و السّتین أیضا، و روى أنّ الحسن علیه السّلام قال: واعجبا لنبیّ اللّه لوط إذ قال لقومه: لَوْ أَنَّ لِی بِکُمْ قُوَّهً أَوْ آوِی إِلى رُکْنٍ شَدِیدٍ.
أ تراه أراد رکنا أشدّ من اللّه، و فی المجمع عن الصادق علیه السّلام لو یعلم أىّ قوّه له، و عن النبیّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم رحم اللّه أخى لوطا لو یدرى من معه فی الحجره لعلم أنّه منصور حیث (حین خ ل) یقول، لو أنّ لى بکم قوّه أو آوى الى رکن شدید، أىّ رکن أشد من جبرئیل معه فی الحجره و رواه فی عقاب الأعمال عن أبی جعفر علیه السّلام مثله.
(و مفزع کلّ ملهوف) یعنی أنه تعالى ملجأ کلّ مضطرّ محزون حال حزنه و اضطراره فیفرّج همّه و یکشف ضرّه و یرفع اضطراره کما قال تعالى: أَمَّنْ یُجِیبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ یَکْشِفُ السُّوءَ و قال: وَ ما بِکُمْ مِنْ نِعْمَهٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّکُمُ الضُّرُّ فَإِلَیْهِ تَجْئَرُونَ.
و هذا العطف یستلزم عموم قدرته و شمول علمه تعالى بشهاده فطره المضطرّ بنسبه جمیع أحوال وجوده إلى جوده و شهاده فطرته أیضا بعلمه بحاله و اطلاعه على ضرورته و وجوه اللهف و الاضطرار غیر معدوده، و جهات الحاجه و الافتقار غیر محصوره، و لا یقدر الاجابه لها على کثرتها إلّا الحقّ و القادر المطلق، و أما غیره سبحانه فانما یکون مفزعا و ملجئا لمضطرّ لا لکلّ مضطرّ فکونه مفزعا مجاز لا حقیقه و اتّصافه به اضافیّ لا حقیقیّ.
فمفزع جمیع العباد فی الداهیه و الناویه«» لیس إلّا اللّه الحىّ القیّوم السّمیع البصیر العالم القادر الخبیر المجیب الدّعوات الکاشف للکربات المنجح للطّلبات المنفّس لکلّ حزن و همّ المفرّج من کلّ ألم و غمّ و قال تعالى: وَ إِذا مَسَّکُمُ الضُّرُّ فِی الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِیَّاهُ.
یعنی إذا کنتم فی البحر و خفتم الغرق ذهب عن خواطرکم کلّ من تدعونه فی حوادثکم إلّا إیّاه وحده، فلا ترجون هناک النجاه إلّا من عنده.
روى فی التّوحید انه قال رجل للصّادق علیه السّلام یابن رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم دلّنی على اللّه ما هو فقد أکثر علىّ المجادلون و حیّرونی، فقال علیه السّلام: یا عبد اللّه هل رکبت سفینه قطّ قال: بلى، قال: فهل کسرت بک حیث لا سفینه تنجیک و لا سباحه تغنیک قال: بلى، قال: فهل تعلّق قلبک هناک أنّ شیئا من الأشیاء قادر على أن یخلّصک من ورطتک قال: بلى، قال الصادق علیه السّلام: فذلک الشیء هو اللّه القادر على الانجاء حین لا منجى و على الاغاثه حیث لا مغیث.
و (من تکلّم سمع نطقه و من سکت علم سرّه) یعنی أنه سبحانه سمیع علیم محیط بما أظهره العبد و أبداه، خبیر بما أسّره و أخفاه فی حالتی نطقه و سکوته، و هو إشاره إلى عموم علمه و إحاطته سبحانه و عدم التفاوت فیه بین السرّ و الاعلان، و الاظهار و الکتمان و قد مضى تحقیق الکلام فی هذا المعنى فی شرح الفصل السادس و السّابع من الخطبه الاولى و فی شرح الخطبه الرابعه و السّتین.
(و من عاش فعلیه رزقه و من مات فالیه منقلبه) یعنی أنه مرجع العباد الأحیاء منهم و الأموات، و به قیام وجودهم حالتی الحیاه و الممات، و تقدّم تحقیق الکلام فی الرزق فی شرح الفصل الأوّل من فصول الخطبه التسعین.
(لم ترک العیون فیخبر عنک) التبقات من الغیبه إلى الخطاب، یعنى امتنع الرؤیه من العیون لک فامتنع اخبارها عنک، و قد تقدّم بیان وجه امتناع الرؤیه فی شرح الخطبه التاسعه و الأربعین، و فی اسناد الاخبار إلى العیون توسّع، و المراد نفى امکان الاخبار المستند إلى المشاهده الحسیّه عنه تعالى.
(بل کنت قبل الواصفین من خلقک) أى بالذات و العلیه، و هو وارد فی مقام التعلیل لنفى الرؤیه.
قال الشارح المعتزلی: فان قلت فأىّ منافاه بین هذین الأمرین ألیس من الممکن أن یکون سبحانه قبل الواصفین له، و مع ذلک یدرک بالابصار إذا خلق خلقه ثمّ یصفونه رأى عین قلت بل ههنا منافاه ظاهره و ذلک لأنه إذا کان قدیما لم یکن جسما و لا عرضا و ما لیس بجسم و لا عرض یستحیل رؤیته فیستحیل أن یخبر عنه على سبیل المشاهده (لم تخلق الخلق لوحشه) لاستحاله الاستیحاش کالاستیناس فی حقّه سبحانه حسب ما عرفت تفصیلا فی شرح الفصل السادس من فصول الخطبه الاولى (و لا استعملتهم لمنفعه) تعود الیک و إنما هى عایده الیهم لنقصانهم فی ذاتهم و لو کانت عایده الیه سبحانه لزم نقصه فی ذاته و استکماله بغیره و هو محال، و قد تقدّم توضیح ذلک فی شرح الخطبه الرابعه و الستین و (لا یسبقک من طلبت) أى لا تطلب أحدا فیسبقک و یفوتک (و لا یفلتک من أخذت) أى من أخذته لا یفلت منک بعد أخذه، و الغرض بهذین الوصفین الاشاره إلى کمال قدرته و تمام ملکه، فانّ ملوک الدّنیا أیّهم فرضت ربما یفوت منهم هارب و ینجو من قید اسرهم المأخوذ بحیله و نحوها، و أما اللّه العزیز القادر القاهر فلا یمکن فی حقّه ذلک.
(و لا ینقص من سلطانک من عصاک و لا یزید فی ملکک من أطاعک) و هو تزید له سبحانه عن قیاس سلطانه و ملکه بسلطنه ملوک الزّمان، فانّ کمال سلطان أحدهم إنما هو بزیاده جنوده و کثره مطیعیه و قلّه مخالفیه و عصاته، و نقصان سلطانه إنما هو بعکس ذلک، فأما الحقّ تعالى فلمّا کان سلطانه بذاته لا لغیره مالک الملک یعطى الملک من یشاء و ینزع الملک ممّن یشاء و یعزّ من یشاء و یذلّ من یشاء لم یتصوّر خروج العاصی بعصیانه عن کمال سلطانه حتّى یؤثر فی نقصانه، و لا طاعه المطیع فی ازدیاد ملکه حتى تؤثر فی زیادته.
و محصلّ ذلک کلّه أنه تعالى کامل من جمیع الجهات فی ذاته و صفاته بذاته و لذاته و لا حاجه له فی عزّه و سلطانه إلى الغیر، و لا تأثیر للغیر فی ملکه و سلطنته بالنقصان و الزیاده، و إلّا لزم نقصه فی ذاته استکماله بغیره، و هو باطل.
(و لا یردّ أمرک من سخط قضائک) المراد بالأمر هنا الأمر التّکوینی المشار إلیه بقوله سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ.
و ارید الأمر لکونه بارتفاع الوسایط لا بدّ فیه من وقوع المأمور به لا محاله من غیر احتمال تمرّد و عصیان و أما الأمر التشریعی کما فی قوله: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ و قوله: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَهَ.
و نحوهما فهو لکونه بالواسطه و على ألسنه الرّسل و الملائکه، فیمکن فیه العصیان و عدم الطّاعه فمعنى قوله: انه لا یردّ أمرک الملزم أى المقدّرات الحادثه على طبق العلم الأزلى من سخط قضائک و کرهه، و قد مرّ فی شرح الفصل التاسع من فصول الخطبه الاولى ماله ربط بتوضیح المقام، و فی هذه الفقره أیضا دلاله على کمال قدرته و عموم سلطانه لافادته أنّ کلّ ما علم وجوده فلا بدّ من وجوده، سواء کان محبوبا للعبد أو مبغوضا له کما قال تعالى: وَ یَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ و قال إِنَّ عَذابَ رَبِّکَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ.
و تخصیص السّاخط للقضاء بالعجز عن ردّ الأمر لأنّ من شأنه أن لو قدر على ردّ الأمر و القدر لفعل.
(و لا یستغنى عنک من تولّى عن أمرک) أراد به الأمر التشریعى، و من المعلوم أنّ من تمرّد عن أمره و خالفه اشدّ افتقارا و حاجه إلى غفرانه و رحمته ممن قام بوظایف الطاعه و العباده، و الأظهر أن یراد به الأعمّ من ذلک، و یکون المعنى أنّ من أدبر و تولّى عن حکمه و لم یرض بقضائه و قدره لا یمکن استغنائه عنه و انقطاع افتقاره منه.
و یوضح ذلک ما رواه الصّدوق فی التّوحید باسناده عن سعد الخفاف عن الأصبغ بن نباته قال: قال أمیر المؤمنین علیه السّلام لرجل: ان کنت لا تطیع خالقک فلا تأکل رزقه، و إن کنت و الیت عدوّه فاخرج من ملکه، و إن کنت غیر قانع بقضائه و قدره فاطلب ربّا سواه.
(کلّ سرّ عندک علانیه و کلّ غیب عندک شهاده) و هما إشارتان إلى عموم علمه و إحاطته، و قد مرّ ذلک فی شرح الفصل السّابع من الخطبه الاولى و نقول هنا مضافا إلى ما مرّ: انّ واجب الوجود سبحانه مجرّد غایه التجرّد، و الغیبه و الخفاء إنّما یتصوّران بالنسبه إلى القلوب المحجوبه بحجب الطّبیعه و سترات الهیآت البدنیه و الأرواح المستولى علیها نقصان الامکان الحاکم علیها بجهل أحوال ما هو أکمل منها، و الواجب تعالى لتجرّده و بساطته و منتهى کماله لا یحجبه شیء عن شیء و فوق کلّ شیء لیس فوقه شیء حتى یقصر عن إدراکه.
(أنت الأبد فلا أمد لک) أى أنت الدّائم فلا غایه لک یقف عندها وجودک و ذلک لاستلزام وجوب الوجود امتناع العدم و الانتهاء إلى الغایه، و یمکن ان یکون إطلاق الأبد علیه سبحانه من باب المجاز مبالغه فی الدّوام، و الأصل أنت ذو الأبد على حدّ قوله: فانما هى إقبال و إدبار، و قوله: فأنت طلاق، و هذا المجاز شایع فی عرف العرب.
(و أنت المنتهى فلا محیص عنک) أى إلیه مصیر الخلائق و وقوفهم عنده و إلیه انتهاؤهم و إیابهم فیجزى کلّ أحد ما یستحقّه من الثواب و العقاب، فلا محید عن حکمه و لا مهرب عن أمره و لا معدل یلجئون إلیه کما قال تعالى:
وَ أَنَّ إِلى رَبِّکَ الْمُنْتَهى و قال إِنَّ إِلَیْنا إِیابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنا حِسابَهُمْ (و أنت الموعد فلا منجى منک إلّا إلیک) و معناها قریب من سابقتها أى لا مخلص و لا ملجأ لأحد منه سبحانه إلّا إلیه، و لا عاصم من عذابه إلّا هو عزّ و جلّ فیعصم منه و یرفعه عنه إما بالتوبه و الانابه، أو بالمنّ و الرّحمه.
(بیدک ناصیه کلّ دابّه) أى أنت مالک لها قادر علیها تصرفها کیف تشاء غیر مستعصیه علیک، فانّ الأخذ بالناصیه تمثیل لذلک قال المفسّرون فی تفسیر قوله سبحانه: ما مِنْ دَابَّهٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِیَتِها.
هو تمثیل لغایه التسخیر و نهایه التذلیل، و کان العرب إذا اسر الأسیر فأرادوا إطلاقه و المنّ علیه جزوا ناصیته فکان علامه لقهره.
و قال الشارح البحرانی: و انما خصت النّاصیه لحکم الوهم بأنّه تعالى فی جهه فوق فیکون أخذه بالناصیه، و لأنها أشرف ما فی الدابه فسلطانه تعالى على الأشرف یستلزم القهر و الغلبه و تمام القدره.
أقول: و الأظهر أنّ تخصیصها من جهه جریان العاده بأنّ الممسک للدابه و المرید لتسخیرها إنّما یستمسک و یقبض ناصیتها بیدها، فأجرى کلامه تعالى و کلام ولیّه علیه السّلام على ما هو المتعارف المعتاد.
(و الیک مصیر کلّ نسمه) أى مرجع کلّ نفس ثمّ نزّهه سبحانه و قدّسه عن أحکام الأوهام بکونه تعالى مشابها لمدرکاتها فقال: (سبحانک ما أعظم ما نرى من خلقک و ما أصغر عظمه فی جنب قدرتک) و هو تعجّب فی معرض التمجید من عظم ما یشاهد من مخلوقاته تعالى من الأرض و السّماء و الجوّ و الهواء و النبات و الماء و الشجر و الحجر و الشّمس و القمر و الانسان و الحیوان و البرّ و البحر و اللّیل و النّهار و السّحاب و الغمام و الضّیاء و الظّلام إلى غیر هذه مما لا ینتهی إلى حدّ و لا یستقصى بعدّ ثمّ من حقاره هذه کلّها بالنسبه إلى ما تعتبره العقول من مقدوراته و ما یمکن فی کمال قدرته من الممکنات الغیر المتناهیه و من البیّن أنّ قیاس الموجود على الممکن و نسبته إلیه فی العظم و الکثره یستلزم صغره و حقارته ثمّ قال (و ما أهول ما نرى من ملکوتک و ما أحقر ذلک فیما غاب عنّا من سلطانک) و هو تعجّب من هول ما وصلت إلیه العقول من عظمه ملکوته ثمّ من حقارته بالنسبه إلى ما غاب عنها و خفى علیها مما هو محتجب تحت أستار القدره و حجبّ العزّه من بدایع الملاء الأعلى و عجائب العالم العلوى و سکّان حظائر القدس.
ثمّ قال (و ما اسبغ نعمک فی الدّنیا و ما أصغرها فی نعم الآخره) و هو تعجّب من سبوغ نعمه على عباده فی الدّنیا بما لا تحصى ثمّ من حقارتها بالقیاس إلى نعم الآخره و ما أعدّه للمؤمنین فیها من الجزاء الأوفى، فانّ نسبتها إلیها نسبه المتناهى إلى ما لا یتناهى کما هو ظاهر لا یخفى.
ثمّ إنّه سلام اللّه علیه و آله لما افتتح کلامه بذکر أوصاف العظمه و الکبریاء للرّب العزیز تبارک و تعالى عقّبه بذکر حالات ملائکه السماء و أنّهم على ما هم علیه من القدس و الطهاره و الفضایل الجمّه و الکمالات الدثره الّتی فضّلوا بها على الاشباح و الأقران و تمیزوا بها عن نوع الانسان، و من العلم و المعرفه التی لهم بخالقهم، و الخوف و الخشیه التی لهم من بارئهم، و الخضوع و الخشوع الذى لهم لمعبودهم لم یعبدوه حقّ عبادته و لم یطیعوه حقّ طاعته.
فقال (من ملائکه أسکنتهم سماواتک و رفعتهم عن أرضک) هذا محمول على الأغلب أو المراد أنّ مسکنهم الأصلی هو السّماء، فلا ینافی کون بعضهم فی الأرض لاقتضاء المصلحه و التّدبیر مثل الکرام الکاتبین و المجاورین بمرقد الحسین علیه السّلام و نظرائهم.
(هم أعلم خلقک بک) لتجرّدهم و بعد علومهم من منازعه النفس الأماره التی هی مبدء السّهو و النسیان و الغفله، فیکونون أبلغ معرفه و أکمل علما (و أخوفهم لک) لأنّ العلم کلما کان أکمل کان الخوف آکد و الخشیه أشدّ کما قال تعالى: إِنَّما یَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ.
قال الطبرسی أى لیس یخاف اللّه حقّ خوفه و لا یحذر معاصیه خوفا من نقمته إلّا العلماء الذین یعرفونه حقّ معرفته و إنما خصّ العلماء بالخشیه لأنّ العالم أحذر لعقاب اللّه من الجاهل، حیث یختصّ بمعرفه التوحید و العدل و یصدّق بالبعث و الحساب و الجنّه و النّار.
(و أقربهم منک) أى من حیث الشرف و الرتبه لا بالمکان و المنزله، لتنزّهه سبحانه عن المحلّ و المکان و تقدّسه من لوازم الامکان، و غیر خفىّ أنّ نفضیلهم على غیرهم فی القرب و الشرف إنما هو إضافیّ لا حقیقیّ فقد قدّمنا فی شرح الفصل الخامس من فصول الخطبه التسعین أنّ بعض أفراد البشر کالنبیّ و الأئمه علیهم السّلام أفضل منهم و أشرف، و قد تقدّم فی الفصل المذکور شرح حالات الملائکه مستوفا، و کذلک فی شرح الفصل التّاسع من فصول الخطبه الاولى من أراد الاطّلاع فلیراجع إلیه.
و قوله (لم یسکنوا الأصلاب) و ما یتلوه من الجملات الثّلاث السّلبیه إشاره إلى ارتفاعهم عن النقصانات البشریه، أى لم یسکنوا أصلاب الآباء (و لم یضمّنوا الأرحام) أى أرحام الامّهات یعنی لم یخالطوا المحالّ المستقذره (و لم یخلقوا من من ماء مهین) أى ضعیف حقیر (و لم یشعبهم ریب المنون) أى لم یفرّقهم حوادث الدهر، و هو إشاره إلى سلامتهم من الأمراض و الأسقام البدنیه العارضه للموادّ العنصریه المانعه من الاستغراق التامّ، و التّوجه الکلّی لشهود أنوار الحضره الرّبوبیه.
(و أنّهم على مکانهم منک و منزلتهم عندک) یعنی أنهم على ما هم علیه من القرب و الزلفى (و استجماع أهوائهم فیک) أى کمال محبّتهم لک و رغبتهم و شوقهم الیک (و کثره طاعتهم لک) بحیث لا یفترون عن تسبیحک و لا یسئمون عن تقدیسک (و قلّه غفلتهم عن أمرک) التعبیر بقلّه الغفله لمحض المشاکله و المقابله بکثره الطاعه، و إلّا فلا یتصوّر فی حقّهم الغفله کما یدلّ علیه قوله سبحانه: فَالَّذِینَ عِنْدَ رَبِّکَ یُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّیْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا یَسْأَمُونَ.
و فی دعاء الصّحیفه العلویّه السجّادیه على صاحبها آلاف الصّلاه و السّلام و التحیّه فی الصّلاه على حمله العرش: اللّهمّ و حمله عرشک الذی لا یفترون من تسبیحک و لا یسأمون من تقدیسک و لا یستحسرون عن عبادتک و لا یؤثرون التقصیر على الجدّ فی امرک و لا یغفلون عن الوله الیک.
فانّ المقصود ذلک کلّه الاشاره إلى کمال مراتبهم فی صنوف العبادات و التأکید لاستغراقهم فی مقام المعرفه و المحبّه و بیان خلوّ عبودیّتهم من النقصانات اللّاحقه، فانّ کلّا من هذه الصّفات المنفیه لو وجد کان نقصانا فیما یتعلّق به و اعراضا عن الجهه المقصوده.
و بالجمله فالغرض أنّ هؤلاء الملائکه الرّوحانیّات مع هذه المراتب و الکمالات التی لهم (لو عاینوا کنه ما خفى علیهم منک) أى لو عرفوک حقّ معرفتک (لحقروا أعمالهم) علما منهم بأنها لا تلیق بحضرتک (و لزروا على أنفسهم) أى عابوها و عاتبوها لمعرفتهم بکونهم مقصّرین فی القیام بوظایف عبودیّتک (و لعرفوا أنّهم لم یعبدوک حقّ عبادتک و لم یطیعوک حقّ طاعتک) لظهور أنّ العباده و الطاعه إنما هی على قدر المعرفه و کلّما کانت المعرفه أکمل کانت العباده أکمل، فعبادتهم الحالیه على قدر معرفتهم الموجوده، فلو ازدادت المعرفه ازدادت العباده لا محاله.
الترجمه
از جمله خطب فصیحه آن سرور عالمیان و مقتداى آدمیانست در ذکر صفات کمال و نعوت جلال خداوند متعال و أوصاف فرشتگان و غرور بندگان بمتاع این جهان و بیان حشر و نشر انسان و ذکر صفات پیغمبر آخر الزّمان علیه و آله أفضل الصّلاه و السّلام چنانچه فرموده: هر چیز فروتنی کننده است بر حضرت عزّت، و هر چیز قایم است در وجود بجناب احدیت او، توانگرى هر فقیر است، و عزّت هر ذلیل و حقیر، و قوّت هر ضعیف و ناتوان، و پناهگاه هر مضطرّ و محزون، هر کس تکلّم نمود شنود او گفتار او را،و هر که خاموش شد دانست أسرار او را، و هر که زندگانی نماید بر او است روزى او، و هر که وفات نماید بسوى اوست باز گشت او، ندید تو را چشمها تا خبر دهد از تو صاحبان دیدها، بلکه بودى تو پیش از وصف کنندگان از خلایق خودت، نیافریدى خلق را از جهه ترس و وحشت، و طلب عمل ننمودى از ایشان بجهه جلب منفعت، پیشی نمى گیرد بتو کسى که طلب کردى تو او را، و خلاصى نیافت از تو کسى که أخذ نمودى تو او را، و کم نمى نماید پادشاهى تو را کسى که معصیت تو را نمود، و زیاد نمى کند در ملک تو کسى که اطاعت تو را کرد، و ردّ نمى کند أمر تو را کسى که ناخوش دارد حکم تو را، و مستغنى نمى باشد از تو کسى که رو گردان شود از فرمان تو، هر نهانی در نزد تو آشکار است، و هر غایبى در نزد تو حاضر، توئى صاحب دوام پس هیچ نهایتى نیست تو را، و توئى محلّ نهایت خلایق پس هیچ گریز گاهى نیست از تو، و توئى وعده گاه همه پس جاى نجاتی نیست از تو مگر بسوى تو، در دست قدرت تست موى پیشانى هر جنبنده، و بسوى تست باز گشت هر نفس تنزیه میکنم تو را تنزیه کردنى چه بزرگست آنچه که مى بینیم از مخلوقات، و چه کوچکست بزرگى آن در جنب قدرت تو، و چه هولناکست آنچه که مشاهده مى کنیم از پادشاهى تو، و چه حقیر است این در جنب آنچه که پنهانست از مادر سلطنت تو، و چه وافر است نعمتهاى تو در دنیا، و چه کوچکست این نعمتها در جنب نعمتهاى آخرت.
بعض دیگر از این خطبه در صفت فرشتگان فرموده: از ملائکه که ساکن نمودى ایشان را در آسمانهاى خود، و برداشتى ایشان را از زمین خود، ایشان داناترین مخلوقات تو است بتو، و ترسنده ترین خلایق است مر تو را، و مقرّبترین ایشان است از تو، ساکن نشده اند ایشان در پشت پدران، و نهاده نشده اند در رحمهاى مادران، و آفریده نشده اند از نطفه که ضعیف است و بی مقدار، و پراکنده نساخته است ایشان را حوادث روزگار.
و بدرستى که ایشان در مکان قربى که ایشان را است از تو، و منزلت و مرتبتى که ایشان را است نزد تو، و کمال خواهشهائیست که ایشان را است در تو، و کثرت عبادتى که ایشان را است بتو، و کمى غفلتى که ایشان را است از امر تو اگر مشاهده کنند پایان آنچه که پنهانست برایشان در معرفت، هر آینه حقیر مى شمارند عملهاى خودشان را و هر آینه عتاب مى نمایند بر نفسهاى خود، و هر آینه مى دانند که ایشان نپرستیده اند تو را حقّ پرستش، و فرمان نبردهاند تو را همچنان که لایق فرمان بردارى تست.
الفصل الثانی
سبحانک خالقا و معبودا، بحسن بلائک عند خلقک، خلقت دارا و جعلت فیها مأدبه، مشربا، و مطعما، و أزواجا، و خدما، و قصورا، و أنهارا، و زروعا، و ثمارا، ثمّ أرسلت داعیا یدعو إلیها، فلا الدّاعی أجابوا، و لا فیما رغّبت إلیه رغبوا، و لا إلى «على خ ل» ما شوّقت إلیه اشتاقوا، أقبلوا على جیفه قد افتضحوا بأکلها، و اصطلحوا على حبّها، و من عشق شیئا أعشى بصره، و أمرض قلبه، فهو ینظر بعین غیر صحیحه، و یسمع باذن غیر سمیعه، قد خرقت الشّهوات عقله، و أماتت الدّنیا قلبه، و ولهت علیها نفسه، فهو عبد لها، و لمن فی یدیه شیء منها، حیثما زالت زال إلیها، و حیثما أقبلت أقبل علیها، لا ینزجر من اللّه بزاجر، و لا یتّعظ منه بواعظ، و هو یرى المأخوذین على الغرّه، حیث لا إقاله و لا رجعه، کیف نزل بهم ما کانوا یجهلون، و جاءهم من فراق الدّنیا ما کانوا یأمنون، و قدموا من الآخره على ما کانوا یوعدون. فغیر موصوف ما نزل بهم، اجتمعت علیهم سکره الموت، و حسره الفوت، ففترت لها أطرافهم، و تغیّرت لها ألوانهم، ثمّ ازداد الموت فیهم و لوجا، فحیل بین أحدهم و بین منطقه، و إنّه لبین أهله، ینظر ببصره، و یسمع باذنه، على صحّه من عقله، و بقاء من لبّه، یفکّر فیم أفنى عمره، و فیم أذهب دهره، و یتذکّر أموالا جمعها، أغمض فی مطالبها، و أخذها من مصرّحاتها و مشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، و أشرف على فراقها، تبقى لمن ورائه، ینعّمون فیها، و یتمتّعون بها، فیکون المهناء لغیره، و العبء على ظهره، و المرء قد غلقت رهونه بها، فهو یعضّ یده ندامه على ما أصحر له عند الموت من أمره، و یزهد فیما کان یرغب فیه أیّام عمره، و یتمنّى أنّ الّذی کان یغبطه بها، و یحسده علیها قد حازها دونه. فلم یزل الموت یبالغ فی جسده، حتّى خالط لسانه سمعه، فصار بین أهله، لا ینطق بلسانه، و لا یسمع بسمعه، یردّد طرفه بالنّظر فی وجوههم، یرى حرکات ألسنتهم، و لا یسمع رجع کلامهم، ثمّ ازداد الموت التیاطا، فقبض بصره کما قبض سمعه، و خرجت الرّوح من جسده، فصار جیفه بین أهله، قد أوحشوا من جانبه، و تباعدوا من قربه، لا یسعد باکیا، و لا یجیب داعیا، ثمّ حملوه إلى مخطّ من الأرض، فأسلموه فیه إلى عمله، و انقطعوا عن زورته.
اللغه
(المأدبه) بفتح الهمزه و ضمّها وزان مسعده و مکرمه طعام صنع لدعوه أو عرس من أدب فلان أدبا من باب ضرب إذا عمل مأدبه و (و له) الرّجل من باب ضرب و منع و حسب اذا تحیّر من شدّه الوجد و فی بعض النسخ و لهت بالتضعیف و نصب نفسه على المفعول و (الغرّه) بکسر الغین المعجمه الاغترار و الغفله یقال اغترّه فلان أى أتاه على غرّه منه و (أطراف) البدن الرأس و الیدان و الرّجلان و (و لج) یلج ولوجا أى دخل و (المصرّح) خلاف المشتبه و هو الظاهر البیّن و (التبعات) جمع التبعه و هو الاثم، و (المهنأ) المصدر من هنأ الطعام یهنأ و هنوء یهنوء بالکسر و الضم إذا صار هنیئا و (العبء) الثقل و (أصحر) أى ظهر و انکشف و اصله من أصحر القوم اذا برزوا من المکمن الى الصحرا و (رجع) الکلام ما یتراجع منه و (الالتیاط) الالتصاق و (الاسعاد) الاعانه و (المخطّ من الأرض) بالخاء المعجمه کنایه عن القبر یخطّ أولا ثمّ یحفر، و فی بعض النسخ بالحاء المهمله و هو المنزل من حطّ القوم إذا نزلوا.
الاعراب
خالقا و معبودا منصوبان على الحال من کاف الخطاب فی سبحانک، و العامل فیهما هو المصدر لتضمّنه معنى الفعل و یحتملان الانتصاب على التمیز.
قال الشارح المعتزلی: و الباء فی قوله بحسن بلائک، للتعلیل کقوله تعالى: ذلِکَ بِأَنَّهُمْ کانَتْ تَأْتِیهِمْ رُسُلُهُمْ، أى لأنّهم، فتکون متعلّقه بما فی سبحانک من معنى الفعل أى اسبّحک لحسن بلائک، و یجوز أن تتعلّق بمعبود أى یعبد لذلک، انتهى.
و الأظهر أن تکون متعلّقه بقوله خلقت، و تقدیمها علیه للتّوسّع، و المعنى خلقت دارا بسبب حسن بلائک کما تقول ضربت زیدا بسوء أدبه، و قوله مأدبه قال الشارح البحرانی: المأدبه هنا الجنّه، و المنصوبات الثمانیه ممیّزات لتلک المأدبه أقول: و هو غلط إذ المأدبه سواء ارید به معناه الاصلی أو المجازى أعنی الجنه لا ابهام فیه حتى یحتاج إلى التمیز، بل الظاهر أنّ المراد به فی المقام مطلق ما یصنع لدعوه من طعام أو غیره.
و انتصاب المنصوبات الثمانیه إما على أنّها عطف بیان کما هو مذهب الکوفیّین و جماعه من البصریّین من علماء الأدبیّه حیث جوّزوا عطف البیان فی النکرات و جعلوا منه قوله سبحانه: أَوْ کَفَّارَهٌ طَعامُ مَساکِینَ، فیمن نوّن کفّاره.
و إما على البدل کما هو مذهب جمهور البصریّین حیث خصّوا عطف البیان بالمعارف زعما منهم أنّ البیان بیان کاسمه، و النکره مجهوله و المجهول لا یبین المجهول.
و فیه أنّ بعض النکرات قد یکون أخصّ من بعض و الأخصّ یبیّن غیر الأخصّ کما فی کلام الامام علیه السّلام، و قوله: و لا فیما رغبت رغبوا، الظرف متعلّق برغبوا، و رغبت صله ما، و العاید محذوف بقرینه المقام و دلاله الکلام أى فیما رغبت فیه، و جمله أقبلوا، استیناف بیانیّ، و نفسه بالضمّ فاعل و لهت، و لمن فی یدیه، عطف على لها.
و جمله و هو یرى، منصوبه المحلّ على الحال من فاعل یتّعظ، و قوله: فغیر موصوف ما نزل بهم، غیر بالرّفع خبر مقدّم على مبتدئه أعنی ماء الموصوله لافاده الحصر و الدّلاله على أنّ غیر ما نزل قابل لأن یوصف کما فی قوله سبحانه: لا فیهاغول، أى لیس غول فی خمور الجنه بخلاف خمور الدّنیا و ایراد المسند الیه بلفظ الموصول للتفخیم و التهویل کما فی قوله: فغشیهم من الیمّ ما غشیهم.
و وصل جمله اجتمعت لسابقتها لما بینهما من کمال الاتّصال و کون الثانیه أو فى بتمام المراد و اقتضاء المقام الاعتناء بشأنه لکونه فظیعا فی نفسه و نظیرها قوله سبحانه: أَمَدَّکُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّکُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِینَ وَ جَنَّاتٍ وَ عُیُونٍ.
فانّ المراد التنبیه على نعم اللّه، و الثّانیه أو فی بتادیته لدلالتها علیها بالتفصیل، فالجمله الثانیه فی المقامین منزّله منزله بدل البعض، و کذلک وصل جمله یفکر لسابقتها لما بینهما من کمال الاتصال أیضا لکونها من سابقتها بمنزله التّأکید المعنوى مثل: لا ریب فیه، فی قوله تعالى: ذلِکَ الْکِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ، و وزانهما وزان جائنى زید نفسه، و هذا کله من محسّنات البیان و إنما نبّهنا علیه مع عدم مدخلیه فی الاعراب اشاره إلى بعض وجوه الحسن فی کلامه علیه السّلام.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من کلامه تحذیر للمتمرّدین العصاه و المذنبین الغواه، و تنفیر لهم عن الرکون إلى الدّنیا و إلى زخارفها و ما فیها، و تذکیر لهم بما یحلّ بساحتهم من سکرات الموت و ینزل بفنائهم من حسرات الفناء و الفوت.
و افتتح بتسبیحه تعالى و تقدیسه فقال: (سبحانک خالقاً و معبوداً) أى أنزّهک تنزیها عن الشرکاء و الأمثال فی حاله خلقک و معبودیّتک لا موجد غیرک و لا معبود سواک (بحسن بلائک عند خلقک خلقت دارا) أى خلقت دارا بسبب ابتلاء عبادک و امتحانا لهم و تمیزا بینهم و تفرقه بین السّعداء أعنى الطالبین المشتاقین إلى تلک الدار، و بین الأشقیاء و هم الرّاغبون المعرضون عنها، و المراد بالدّار دار الآخره،و ما فی شرح البحرانی من أنّ لفظ الدّار مستعار للاسلام باعتبار أنه یجمع أهله و یحمیهم کالدّار، لا یخفى بعده و الأظهر ما ذکرناه، و یشعر به قوله سبحانه: تِلْکَ الدَّارُ الْآخِرَهُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَهُ لِلْمُتَّقِینَ.
و یؤیّده قوله (و جعلت فیها مأدبه) فانّه لو أرید بالدّار الاسلام لا بدّ من حمل الظرف أعنى قوله: فیها، على المجاز بخلاف ما لو ارید بها الآخره و الأصل فی الکلام الحقیقه، و المراد بالمأدبه الجنّه التی هیأت للمتّقین و دعى الیها عباد اللّه الصّالحون، و أعدّ اللّه سبحانه لهم فیها ما لا عین رأت و لا اذن سمعت و ما تشتهیه أنفسهم.
(مشربا و مطعما) أى شرابا و طعاما (و أزواجا) من الحور العین (و خدما) من الولدان المخلّدین (و قصورا) عالیه (و أنهارا) جاریه (و زروعا) زاکیه (و ثمارا) طیّبه (ثمّ أرسلت داعیا یدعو) الناس (الیها) إى إلى هذه الدّار أو المأدبه، و أراد بالداعى محمّدا صلّى اللّه علیه و آله و سلّم أو إیّاه مع سایر الأنبیاء.
(فلا الدّاعى أجابوا و لا فیما رغبت الیه) من الدار الآخره الباقیه و نعیمها (رغبوا و لا إلى ما شوّقت الیه) من حور الجنه و قصورها و أنهارها و ثمارها و سایر ما اعدّ فیها.
(اشتاقوا اقبلوا على جیفه قد افتضحوا بأکلها) استعار علیه السّلام لفظ الجیفه للدنیا باعتبار نفره طباع أهل البصیره. و المعرفه عنها و کونها مستقذره فی نظر أرباب الیقین و أولیاء الدّین کالجیفه المنتنه التی ینفرّ عنها النّاس و یفرّون منها، أو باعتبار اجتماع أهلها علیها و فرط رغبتهم إلیها و کون همّ کلّ واحد جذبها إلى نفسه بمنزله جیفه منبوذه تجتمع علیها الکلاب و یجذبها کلّ إلیه قال الشاعر:
و ما هى إلّا جیفه مستحیله
علیها کلاب همّهنّ اجتذابها
فان تجتنبها کنت سلما لأهلها
و ان تجتذ بها نازعتک کلابها
و أما افتضاحهم بأکلها فلانّها بعد ما کانت بمنزله الجیفه یکون آکلها مفتضحا بأکلها لا محاله، و هو ترشیح للاستعاره.
و قوله علیه السّلام (و اصطلحوا على حبّها) أى اتفقوا على محبّتها و توافقوا علیها، فانّ أصل الصلح هو التراضی بین المتنازعین و تجوّز به عن التوافق و الاتفاق للملازمه بینهما (و من عشق شیئا) أى کان مولعا به شدید المحبّه له، فانّ العشق هو الافراط فی الحبّ و التجاوز عن حدّ الاعتدال.
قال جالینوس الحکیم العشق من فعل النفس و هى کامنه فی الدّماغ و القلب و الکبد، و فی الدماغ ثلاث مساکن التخیّل فی مقدّمه، و الفکر فی وسطه، و الذکر فی آخره فلا یکون أحد عاشقا حتى اذا فارق معشوقه لم یخل من تخیّله و فکره و ذکره فیمتنع من الطعام و الشراب باشتغال قلبه و کبده من النوم باشتغال الدّماغ بالتخیّل و الذکر و الفکر للمعشوق، فیکون جمیع مساکن النفس قد اشتغلت به، و متى لم یکن کذلک لم یکن عاشقا.
و کیف کان فالمراد أنّ من أفرط فی محبّه شیء (اغشى) ذلک الشیء (بصره و أمرض قلبه) أى یکون فرط حبّه لذلک الشیء مانعا عن توجّهه الى ما یلزمه التوجّه إلیه و حاجبا عن النظر إلى مصالحه و ما یلزمه الاشتغال به فیکون غافلا عما عداه، صارفا أوقاته بکلّیته إلى هواه، و یکون«» عشقه مانعا عن ادراکه العقول، و یکون عشقه ایضا مانعا عن ادراکه لعیوب المعشوق، و عن التفاته الى مساویه، و من هنا قیل:
و عین الرّضا عن کلّ عیب کلیله
کما أنّ عین السّخط تبدى المساویا
و غرضه علیه السّلام أنّ أهل الدّنیا لکثره حبّهم لها و فرط رغبتهم إلیها قصرت أبصارهم عن النظر إلى اخراهم، و مرضت قلوبهم عن التوجه إلى عقباهم، و صرفوا أوقاتهم بکلّیتها إلیها و إلى زخارفها و قنیاتها، غافلین عن ادراک عیوباتها و مساویها و لم یعرفوا أنها غدّاره مکّاره، غرّاره یونق منظرها و یوبق مخبرها، و لم تف إلى الآن لأحد من عشّاقها، و لم تصدق ظنّ أحد من طالبیها و راغبیها (فهو ینظر بعین غیر صحیحه و یسمع باذن غیر سمیعه) لغفلته عما سوى المحبوب و عدم تنبّهه بما فیه من العیوب فلا ینظر الیه بنظر البصیره و الاعتبار حتى یبصر ما فیه من المفاسد و المضار، و لا یستمع إلى المواعظ و الزواجر و النواهى و الأوامر حتّى یأخذ عدّته لیوم تبلى السرائر.
(قد خرقت الشهوات عقله) شبّه العقل بالثوب اذ کما أنّ الثوب زینه الانسان و وقایه للبدن من الحرّ و البرد فکذلک العقل زینه للمرء و وقایه له من حرّ نار الجحیم یعبد به الرّحمن و یکتسب به الجنان، و جعل عقل الرجل الموصوف بمنزله ثوب خلق و رشح الاستعاره بذکر الخرق إذا الثوب إذا کان خرقا خلقا ممزقا لا ینتفع به صاحبه فکذلک العقل إذا کان مفرقا بالشهوات الباطله مصروفا فی اللّذات العاجله لا ینتفع به فیما خلق لأجله البته و فی الحقیقه هذه القوّه نکر أو شیطنه و لیست بالعقل و إنما هى شبیهه بالعقل.
(و أماتت الدّنیا قلبه) فلا انتفاع له به کمیّت لا نفع له (و ولهت علیها نفسه) أى صار فی فرط محبّته للدّنیا بمنزله الواله علیها و المفتون بها (فهو عبد لها و لمن فی یدیه شیء منها) لأنه اذا کانت همته مصروفه الیها و أوقاته مستغرقه فی جمعها و جبایتها صار زمام أمره بیدها (حیثما زالت زال الیها و حیثما أقبلت أقبل علیها) کعبد دائر فی حرکاته و سکناته مدار مولاه بل عبودیته لها أشدّ و أخسّ من عبودیه العبد لسیّده، إذ طاعه العبد و انقیاده لسیّده ربما یکون قسّریا و خدمه ذلک لدنیاه عن وجه الشّوق و الرّغبه و الرضاء و المحبه و فی هذا المعنى قال الشاعر:
ما النّاس إلّا مع الدّنیا و صاحبها
فکیف ما انقلبت یوما به انقلبوا
یعظّمون أخا الدّنیا فان و ثبت
یوما علیه بما لا یشتهى و ثبوا
(لا ینزجر من اللّه بزاجر و لا یتّعظ منه بواعظ و هو یرى) الکتب الالهیه و الصحف السّماویّه و الأخبار النّبویّه المشحونه بذمّ الدّنیا النّاهیه عن الرکون الیها و الاعتماد علیها، مضافا إلى رؤیته المخرجین عن الدّنیا بجبر و قهر، و المقلعین عنها بکره و قسر (المأخوذین على الغرّه) و حاله الاغترار و الغفله المشغولین بالدّنیا و شهواتها الغافلین عن هادم اللّذات و سکراته (حیث لا اقاله) لهم عن ذنوبهم (و لا رجعه) لهم إلى الدّنیا لیتدارکوا سیئات أعمالهم.
(کیف نزل بهم) من شداید الأهوال (ما کانوا یجهلون و جاءهم من فراق الدّنیا ما کانوا یأمنون و قدموا من) عقبات (الآخره على ما کانوا یوعدون) فانه لو تفکّر فی ذلک و تذکّر ذلک یوشک أن یؤثر فیه و یقلّ فرحه بالدّنیا و شعفه بها.
لأنه بعد ما لاحظ أحوال هؤلاء الماضین و تصوّر تبدّد أجزائهم فی قبورهم، و محو التراب حسن صورهم، و أنهم کیف ارملوا نسائهم و ایتموا أولادهم و ضیّعوا أموالهم، و خلت عنهم مجالسهم و مدارسهم، و انقطعت عنهم آثارهم و معالمهم، و عرف أنّه عن قریب کائن مثلهم انقلع لا محاله عن هواه و ارتدع عن حبّ دنیاه
تفانوا جمیعا فما مخبر
و ماتوا جمیعا و مات الخبر
تروح و تغد و بنات الثرى
فتمحو محاسن تلک الصّور
فیا سائلى عن اناس مضوا
أما لک فیما ترى معتبر
لا سیّما لو عمق نظره فی ما حلّ بالأموات بعد موتهم، و ما نزل بساحتهم حین موتهم، لکان ندمه أشدّ و حسرته آکد.
(ف) انه (غیر موصوف ما نزل بهم) من الشّدائد و الآلام، و یحتمل أن یکون ضمیر بهم راجعا إلى الذین لم یجیبوا الدّاعی المقدّم ذکرهم بقوله: فلا الدّاعی أجابوا و لا فیما رغبت إلیه رغبوا (اجتمعت علیهم سکره الموت و حسره الفوت ففترت لها أطرافهم و تغیّرت لها ألوانهم) و ذلک لأنّ ألم النزع یسرى جمیع اعضاء البدن و یستوعب الأطراف و یوجب ضعفها و فتورها.
قال الغزالی: و اعلم أنّ شدّه الألم فی سکرات الموت لا یعرفها بالحقیقه إلا من ذاقها، و من لم یذقها فانما یعرفها بالقیاس إلى الآلام التی أدرکها، بیان ذلک القیاس أنّ کلّ عضولا روح فیه فلا یحسّ بالألم، فاذا کان فیه فالمدرک للألم هو الرّوح فمهما أصاب العضو جرح أو حریق سرى الأثر إلى الروح فبقدر ما یسرى إلى الروح یتألّم، و المؤلم یتفرّق على اللّحم و الدم و سایر الأجزاء فلا یصیب الرّوح إلّا بعض الألم، فان کان فی الآلام ما یباشر نفس الروح و لا یلاقی غیره، فما اعظم ذلک الألم و ما أشدّ، و النزع عباره عن مؤلم نزل بنفس الرّوح، فاستغرق جمیع أجزائه حتى لم یبق جزء من اجزاء المنتشر فی أعماق البدن إلّا و قد حلّ به الألم، فلو أصابته شوکه فالألم الذى یجده إنّما یجرى فی جزء من الرّوح یلاقی ذلک الموضوع الذی أصابته الشوکه، و إنما یعظم أثر الاحتراق لأنّ أجزاء النار تغوص فی سایر أجزاء البدن، فلا یبقى جزء من العضو المحترق ظاهرا و باطنا إلّا و تصیبه النّار، فتحسر الأجزاء الرّوحانیه المنتشره فی سایر أجزاء اللحم، و أمّا الجراحه فانّما تصیب الموضوع الذی مسّه الحدید فقط فکان لذلک ألم الجرح دون ألم النار فألم النزع یهجم على نفس الرّوح و یستغرق جمیع أجزائه، فانّه المنزوع المجذوب من کلّ عرق من العروق و عصب من الأعصاب و جزء من الأجزاء و مفصل من المفاصل و من أصل کلّ شعره و بشره من الفرق إلى القدم حتّى قالوا إنّ الموت لأشد من ضرب بالسّیف و نشر بالمناشیر و قرض بالمقاریض، لأنّ قطع البدن بالسیف إنما یولمه لتعلّقه بالرّوح فکیف إذا کان المتناول المباشر نفس الروح، و إنما یستغیث المضروب و یصیح لبقاء قوّته فی قلبه و فی لسانه، و إنّما انقطع صوت المیّت و صیاحه مع شدّه ألمه لأنّ الکرب قد بالغ فیه و تصاعد على قلبه و بلغ کلّ موضع منه، فهدّ کلّ قوّه و ضعف کلّ جارحه، فلم یترک له قوّه الاستغاثه.
و إلى ذلک أشار بقوله (ثمّ ازداد الموت فیهم و لوجا فحیل بین أحدهم و بین منطقه) و استعار لفظ الولوج لما یتصوّر من فراق الحیاه بعضو عضو، فأشبه ذلک دخول جسم فی جسم آخر، و المقصود بذلک شدّه تأثیر الموت فی أبدانهم و ایجابه لضعف اللّسان عن قوّه النطق و التکلّم.
نعم فی روایه الکافی باسناده عن زراره عن أبی جعفر علیه السّلام قال: الحیاه و الموت خلقان من خلق اللّه فاذا جاء الموت فدخل فی الانسان لم یدخل فی شیء إلّا و خرج منه الحیاه.
فانّ ظاهر هذه الروایه مفیده لکون الولوج فی کلامه مستعملا فی معناه الحقیقی اللهمّ إلّا أن یرتکب المجاز فی ظاهر هذه أیضا فافهم.
(و انه لبین أهله ینظر) الیهم (ببصره و یسمع) کلامهم (باذنه) و لا یتمکّن من اظهار ما فیه من الشدّه و الحسره علیهم لمکان ضعفه و عجزه مع أنه (على صحّه من عقله و بقاء من لبّه) فهو راغب عن الدّنیا مقبل إلى الآخره، مشغول بحاله محاسب على نفسه، متحسّر على ما قدّمت یداه، نادم على ما فرّط فی جنب مولاه.
(یفکّر فیم أفنى عمره و فیم أذهب دهره) و یتأثّر على غفلته فی أیّام مهلته (و یتذکّر أموالا جمعها) و استغرق أوقاته فیها (أغمض فی مطالبها) و تساهل فی اکتسابه أیّامه و ذلک لعدم مبالاته بأنها من حلال أو حرام (و أخذها من مصرّحاتها و مشتبهاتها) أى من وجوه مباحه و ذوات شبهه.
کما اشیر إلیه فی النبوى المعروف قال علیه السّلام إنما الامور ثلاثه: أمر بیّن رشده فیتّبع، و أمر بیّن غیّه فیجتنب، و شبهات بین ذلک فمن ترک الشبهات نجى من المحرّمات و من أخذ بالشّبهات وقع فی المحرّمات و هلک من حیث لا یعلم.
(قد لزمته تبعات جمعها) و آثام جبایتها (و أشرف على فراقها تبقى لمن ورائه ینعّمون فیها و یتمتّعون بها) و هم إما أهل طاعه اللّه فسعدوا بما شقى، و إمّا أهل معصیته فکان عونا لهم على معصیتهم (فیکون المهنأ لغیره و العبؤ على ظهره) أى یکون هنائه تلک الأموال أى کونها هنیئه لغیره، و وزرها و ثقلها على ظهره.
و فی الحدیث النبویّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم المرویّ عن ارشاد القلوب قال صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: إذا حمل المیّت على نعشه رفرف روحه فوق النعش و هو ینادى: یا أهلی و ولدی لا تلعبنّ بکم الدّنیا کما لعبت بی، جمعته من حلّ و غیر حلّ و خلّفته لکم فالمهنأ لکم و التعب علىّ فاحذروا مثل ما قد نزل بی، و نعم ما قیل:
یمرّ أقاربی جنبات قبرى
کأنّ أقاربی لم یعرفونی
و ذو المیراث یقتسمون مالی
و ما یألون أن جحدوا دیونی
و قد أخذوا سهامهم و عاشوا
فیاللّه أسرع ما نسونی
و قوله علیه السّلام (و المرء قد غلقت رهونه بها) قال الشارح المعتزلی: معناه أنه لما کان قد شارف الرّحیل و أشفى على الفراق صارت تلک الأموال التی جمعها مستحقّه لغیره و لم یبق له فیها تصرّف، و أشبهت الرّهن الذى غلق على صاحبه، فخرج عن کونه مستحقا له و صار مستحقا لغیره و هو المرتهن.
و اورد علیه بأنه و إن کان محتملا إلّا أنه یضیع فائده قوله: بها، لأنّ الضمیر یعود إلى الأموال المجموعه، و هو إشاره إلى المال الذى انغلق الرّهن به فلا نکون هى نفس الرّهن.
و قال الشارح البحرانی: ضربه علیه السّلام مثلا لحصول المرء فی تبعات ما جمع و ارتباطه بها عن الوصول إلى کماله و انبعاثه الى سعادته بعد الموت، و قد کان یمکنه فکاکها بالتوبه و الأعمال الصالحه، فأشبه ما جمع من الهیآت الرّدیّه فی نفسه عن اکتساب الأموال، فارتهنت بها بما على الراهن من المال.
أقول: و یتوجّه علیه أنّ الراهن على ذلک التوجیه هو نفس المراد و لو کان مراده علیه السّلام ذلک لقال و المرء قد صار رهینا بها کما قال تعالى: کلّ نفس بما کسبت رهینه.
و الذی یلوح على النّظر القاصر هو أن یقال: إنّه من باب الاستعاره التمثیلیه و الغرض تشبیه حال هذا المرء المحجوب عن الترقّی إلى مدارج الکمال الغیر المتمکّن من الوصول إلیها بجمع تلک الأموال بحال من غلقت علیه أمواله المرهونه فی مقابل دین المرتهن فی عدم امکان وصوله الیها و محجوریته عنها، أو أنّ رهونه استعاره لبعض ما فعله من الأعمال الصالحه و ذکر الغلق ترشیح، و تشبیه تلک الأعمال بالرّهن باعتبار عدم تمکّنه من الانتفاع بها و محجوبیّته عنها بما جمعه من الأموال فصارت تلک الأموال حاجبه مانعه عن انتفاعه بها بمنزله دین المرتهن المانع عن تصرف الراهن فی العین المرهونه الموجب لحجره عنها و عن استفادته بها، و إنّما صارت تلک الأموال سببا للحجب و المنع عن الانتفاع، لکون حقّ النّاس مقدّما على حقّ اللّه، و لذلک کان أوّل عقبات القیامه موضوعه للحکم بین النّاس و أخذ المظالم، هذا ما یخطر بالخاطر القاصر، و اللّه العالم بحقایق کلام ولیّه علیه السّلام (فهو یعضّ یده ندامه على ما أصحر له عند الموت من أمره) و انکشف له حینئذ من تفریطه کما یعضّ یوم القیامه إذا عاین العقاب و شاهد طول العذاب قال سبحانه: وَ یَوْمَ یَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى یَدَیْهِ یَقُولُ یا لَیْتَنِی اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِیلًا یا وَیْلَتى لَیْتَنِی لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِیلًا لَقَدْ أَضَلَّنِی عَنِ الذِّکْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِی.
قال فی التفسیر أى یعضّ على یدیه ندما و أسفا، قال عطا: یأکل یدیه حتى تذهب إلى المرفقین ثمّ تنبتان لا یزال هکذا کلّما نبتت یداه أکلهما ندامه على ما فعل، هذا فغضّ الید فی الآیه مستعمل على التّفسیر المذکور فی معناه الحقیقی، و فی کلامه علیه السّلام کنایه عن النّدم و التّحسّر على ما فرّط فی جنب اللّه و قصر فی امتثال أمر مولاه (و یزهد فیما کان یرغب فیه أیّام عمره) من الأموال التی جمعها و خلّفها لغیره (و یتمنّى انّ الذى کان یغبطه بها و یحسده علیها قد حازها دونه) لما ظهر له من تبعاتها و سوء عاقبتها.
(فلم یزال الموت یبالغ فی جسده حتى خالط لسانه سمعه فصار بین أهله لا) یقدر أن (ینطق بلسانه و لا) أن (یسمع بسمعه) لانقطاع مادّه الحیاه عن السّمع و اللّسان (یردّد طرفه بالنظر فی وجوههم) أى مخاطباتهم و (یرى حرکات ألسنتهم و لا یسمع رجع کلامهم) أى ما یتراجعونه من الکلام لبطلان قوّته السّامعه و بقاء قوّته الباصره بعد.
(ثمّ ازداد الموت التیاطا به) أى التصاقا (فقبض بصره کما قبض سمعه و خرجت الرّوح من جسده) و ظاهر هذا الکلام بملاحظه ما سبق من قوله: ثمّ ازداد الموت فیهم و لوجا فحیل بین أحدهم و بین منطقه آه، و ما سبق أیضا من قوله: فلم یزل الموت یبالغ فی جسده حتى خالط لسانه سمعه، یفید لبطلان آله النطق فی الانسان قبل آلتى السمع و البصر، ثمّ بطلان آله البصر و إنّما تبطل مع خروج الرّوح و مفارقتها عن البدن.
قال الشارح البحرانی: و لیس ذلک مطلقا بل فی بعض الناس و أغلب ما یکون ذلک فیمن تعرض الموت الطبیعی لآلاته و الّا فقد تعرض الآفه لقوّه البصر و آلته قبل آله السّمع و آله النطق، و الذی یلوح من اسباب ذلک أنه لما کان السبب العام القریب للموت هو انطفاء الحراره الغریزیه عن فناء الرّطوبه الأصلیه التی منها خلقنا، و کان فناء تلک الرطوبه عن عمل الحراره الغریزیه فیها التجفیف و التحلیل، و قد تعینها على ذلک الأسباب الخارجیه من الأهویه و استعمال الأدویه المجففه و سایر المجففات، کان کلّ عضو أیبس من طبیعته و أبرد أسرع إلى البطلان و أسبق إلى الفساد.
إذا عرفت ذلک فنقول: أما أنّ آله النطق أسرع فسادا من آله السمع، فلأنّ آله النطق مبنیّه على الأعصاب المحرکه و مرکبه منها، و آله السمع من الاعصاب المفیده للحسّ و اتّفق الأطباء على أنّ الأعصاب المحرّکه أیبس و أبرد، لکونها منبعثه من مؤخّر الدماغ دون الأعصاب المفیده للحسّ، فانّ جلّها منبعث من مقدّم الدّماغ فکان لذلک أقرب إلى البطلان، و لأنّ النطق أکثر شروطا من السّماع لتوقفه مع الآله و سلامتها على الصّوت و سلامه مخارجه و مجارى النفس، و الأکثر شرطا أسرع إلى الفساد.
و أما بطلان آله السمع قبل البصر فلأنّ منبت الأعصاب التی هی محلّ القوّه السامعه أقرب إلى مؤخّر الدّماغ من منابت محلّ القوّه الباصره، فکانت أیبس و أبرد و أقبل لانطفاء الحراره الغریزیه، و لأنّ العصب المفروش على الصّماخ الذی رتّبت فیه قوه السّمع احتاج أن یکون مکشوفا غیر مسدود عنه سبیل الهواء بخلاف العصب الذى هو آله البصر، فکانت لذلک أصلب و الأصلب أیبس و أسرع فسادا، هذا مع أنّه قد یکون ذلک لتحلّل الروح الحامل للسّمع قبل الرّوح الحامل للبصر أو لغیر ذلک، و اللّه اعلم.
و قوله علیه السّلام (فصار جیفه بین أهله) لا یخفى ما فی هذا التعبیر من النکته اللّطیفه، و هو التنفیر عن التعلّق بهذا البدن العنصرى و النهى عن التعزّز بهذا الهیکل الجسمانی، فإنّ من کان أوّله جیفه و آخره جیفه و هو فی الدّنیا حامل الجیف کیف یجوز له الاغترار بوجوده، و التعزّز و التّکبر بذاته لا سیّما بعد ملاحظه کون آخره جیفه أقذر من سایر الجیف حتّى جیفه الکلب و الخنزیر، حیث إنّ سایر الجیف لا توجب على من لامسها الغسل بخلاف میته الانسان فانّ ملامستها توجب غسل المسّ خصوصا لو لاحظ أنّ أقرب النّاس إلیه و آنسهم به من الآباء و الاخوان و البنات و الولدان: (قد أوحشوا من جانبه و تباعدوا من قربه) مع کمال انسهم به و محبّتهم له، و جهه استیحاشهم منه حکم أوهامهم السخیفه على قواهم المتخیله بمحاکات حاله فی نفس المتوهم و عزل العقل فی ذلک الموضع، و لذلک أنّ المجاور لمیّت فی موضع ظلمانی منفرد یتخیل أنّ المیّت یجذ به إلیه و یصیره بحاله المنفوره عنها طبعا.
و بالجمله فالمرء إذا خرجت روحه من جسده تنافر الناس عنه و یبقى فریدا وحیدا (لا یسعد باکیا) على بکائه (و لا یجیب داعیا) على دعائه.
(ثمّ حملوه) أى حفده الولدان و حشده الاخوان (الى محطّ من الأرض) أى قبره الذى یحطّ و ینزل فیه و على ما فی بعض النسخ من روایه مخط بالخاء المعجمه تکون کنایه عن القبر لکونه یخط أولا ثمّ یحفر أو عن اللحد لکونه کالخطّ فى الدّقه(فأسلموه فیه إلى عمله و انقطعوا عن زورته) و وجد ما عمله محضرا فان کان العمل صالحا فنعم المونس و المعین، و إن کان سیئا فبئس المصاحب و القرین و العدوّ المبین أقول: لو کان کلام یؤخذ بالأعناق فی التزهید عن الدّنیا و الترغیب الى الآخره لکان هذا الکلام الذى فی هذا الفصل، و ما أبعد غوره و اجزل قدره، فانّ عمده ما أوجب رغبه الراغبین إلى الدّنیا و الرّاکنین الیها و المغترّین بها إنما هى امور ثلاثه احدها حبّ المال و الثانی حبّ الوجود و الثالث حبّ الأولاد و البنین و الأزواج و الأقربین، فزهّد علیه السّلام عن کلّ ذلک بأحکم بیان و أوضح برهان.
أما عن المال فبأنه عن قریب یفارقه و ینتقل عنه و یکون لذّته و مهنائه لغیره و یبقى وزره و تبعته علیه.
و أمّا عن وجوده و نفسه فبأنّه سینمحى أعضاؤه و جوارحه و یبطل قواه و آلاته و یکون بالآخره جیفه منبوذه بین أهله.
و أما عن الأولاد و الابناء و الاخوان و الأقرباء فبأنهم سیفارقونه و یتنفّرون عنه و یستوحشون منه، فمن کان مآل ما أحبّه ذلک فکیف یغترّ بذلک مع علمه بأنّ کلّ ذلک واقع لا محاله و اعتقاده بأنّ الموت لا یمکن الفرار منه البته.
قال علیّ بن الحسین علیهما السّلام: عجب کلّ العجب لمن أنکر الموت و هو یرى من یموت کلّ یوم و لیله، و العجب کلّ العجب لمن أنکر النشأه الآخره و هو یرى النشأه الاولى و قال اللّه سبحانه: أَیْنَما تَکُونُوا یُدْرِکْکُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ کُنْتُمْ فِی بُرُوجٍ مُشَیَّدَهٍ.
روى الأعمش عن خثیمه قال: دخل ملک الموت على سلیمان بن داود على نبیّنا و آله و علیهما السلام فجعل ینظر إلى رجل من جلسائه یدیم النظر الیه، فلما خرج قال الرجل: من هذا قال: هذا ملک الموت، قال: لقد رأیته ینظر الىّ کأنه یریدنی، قال علیه السّلام: فما ذا ترید قال: ارید أن تخلصنی منه فتأمر الریح حتّى تحملنی إلى أقصى الهند، ففعلت الرّیح ذلک ثمّ قال سلیمان علیه السّلام لملک الموت بعد أن أتاه ثانیا: رأیتک تدیم النظر إلى واحد من جلسائى، قال: نعم کنت أتعجّب منه، لأنى کنت أمرت أن أقبضه بأقصى الهند فی ساعه قریبه و کانت عندک فتعجّبت من ذلک.
و فی الکافی عن علیّ بن إبراهیم عن عمرو بن عثمان عن مفضل بن صالح عن جابر عن أبی جعفر علیه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: أخبرنی جبرئیل أنّ ملکا من ملائکه اللّه کانت له عند اللّه منزله عظیمه فتعتّب علیه فأهبطه من السماء إلى الأرض، فأتى ادریس علیه السّلام فقال: إنّ لک من اللّه منزله فاشفع لى عند ربک، فصلّى ثلاث لیال لا یفتر و صام أیّامها لا یفطر، ثمّ طلب الى اللّه فی السحر فی الملک، فقال الملک: إنک قد اعطیت سؤلک و قد اطلق لى جناحى و أنا احبّ أن اکافیک فاطلب إلىّ حاجه قال: ترینى ملک الموت لعلّی آنس به فانه لیس یهنئنی مع ذکره شیء، فبسط جناحه ثمّ قال: ارکب، فصعد به یطلب ملک الموت فی السماء الدّنیا، فقیل له: اصعد، فاستقبله بین السماء الرابعه و الخامسه فقال الملک: یا ملک الموت مالى أراک قاطبا قال: العجب انى تحت ظلّ العرش حیث امرت أن أقبض روح آدمى بین السماء الرابعه و الخامسه، فسمع إدریس علیه السّلام بها فامتعض فخرّ من جناح الملک فقبض روحه مکانه، و قال اللّه عزّ و جلّ: و رفعناه مکانا علیّا و نعم ما قیل:
انّ الحبیب من الاحباب مختلس
لا یمنع الموت بوّاب و لا حرس
فکیف تفرح بالدّنیا و لذّتها
یا من یعدّ علیه اللّفظ و النّفس
أصبحت یا غافلا فی النقص منغمسا
و أنت دهرک فی اللّذات منغمس
لا یرحم الموت ذا جهل لغرّته
و لا الذى کان منه العلم یقتبس
کم أخرس الموت فی قبر وقفت به
عن الجواب لسانا ما به خرس
قد کان قصرک معمورا به شرف
فقبرک الیوم فی الأجداث مندرس
ایقاظ
فی ذکر بعض ما ورد فی وصف الموت و حالات المیّت.
فأقول: قال الغزالی: روى عن مکحول عن النبیّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال: لو أنّ شعره من شعر المیت وضعت على أهل السّماوات و الأرض لماتوا باذن اللّه، لأنّ فی کلّ شعره الموت و لا یقع الموت بشیء إلّا لمات، قال: و یروى لو أنّ قطره من ألم الموت وضعت على جبال الدّنیا کلها لذابت، قال: و قال النبیّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: إنّ العبد لیعالج کرب الموت و سکرات الموت و أنّ مفاصله یسلّم بعضها على بعض تقول: علیک السلام تفارقنى و افارقک الى یوم القیامه.
و فی الکافی باسناده عن جابر قال قال علیّ بن الحسین علیهما السّلام ما ندرى کیف نصنع بالناس، إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم ضحکوا، و إن سکتنا لم یسعنا، قال: فقال ضمره بن معبد: حدّثنا فقال: هل تدرون ما یقول عدوّ اللّه إذا حمل على سریره قال: فقلنا: لا، قال علیه السّلام: فانه یقول لحملته ألا تستمعون إنی أشکو إلیکم عدوّ اللّه خدعنى و أوردنى ثمّ لم یصدرنی، و أشکو الیکم اخوانا و اخیتهم فخذلونى، و أشکو الیکم أولادا حامیت علیهم فخذلونى «فأسلمونی خ» و أشکو الیکم دارا أنفقت فیها حریبتى فصار سکّانها غیرى، فارفقوا بى و لا تستعجلونی قال: فقال ضمره یا أبا الحسن إن کان هذا یتکلّم بهذا الکلام یوشک أن یثب بجهد على أعناق الذین یحملونه قال: فقال علیّ بن الحسین علیهما السّلام: اللهمّ إن کان ضمره هزاء من حدیث رسولک فخذه أخذ أسف، قال: فمکث أربعین یوما ثمّ مات، فحضره مولى له قال: فلما دفن أتى علیّ بن الحسین علیهما السّلام فجلس إلیه فقال له: من أین جئت یا فلان قال: من جنازه ضمره فوضعت وجهى علیه حین سوى علیه فسمعت صوته و اللّه أعرفه کما کنت أعرفه و هو حىّ یقول: و یلک یا ضمره بن معبد الیوم خذلک کلّ خلیل، و صار مصیرک إلى الجحیم، فیها مسکنک و مبیتک و المقیل قال: فقال علیّ ابن الحسین علیهما السّلام: أسأل اللّه العافیه هذا جزاء من یهزء من حدیث رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم.
و عن جابر عن أبی جعفر علیه السّلام قال: سألته عن قوله اللّه عز و جلّ: وَ قِیلَ مَنْ راقٍ وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ.
قال: فانّ ذلک ابن آدم إذا حلّ به الموت قال: هل من طبیب إنه الفراق أیقن بمفارقه الأحبّه قال، و التفّت السّاق بالسّاق التفّت الدّنیا بالآخره، ثمّ إلى ربّک یومئذ المساق قال: المصیر إلى ربّ العالمین.
و عن عبد اللّه بن سلیم العامری عن أبی عبد اللّه علیه السّلام قال: إنّ عیسى بن مریم جاء إلى قبر یحیى بن زکریّا علیه السّلام و کان سأل ربّه أن یحییه له، فدعا فأجابه و خرج إلیه من القبر، فقال له ما ترید منّى فقال له: ارید أن تونسنى کما کنت فی الدّنیا، فقال له یا عیسى ما سکنت عنّى حراره الموت و أنت ترید أن تعیدنى إلى الدّنیا و تعود علىّ حراره الموت، فترکه فعاد إلى قبره.
و عن علیّ بن إبراهیم عن أبیه عن ابن محبوب عن أبی أیّوب عن یزید الکناسی عن أبی جعفر علیه السّلام قال: إنّ فتیه من أولاد ملوک بنی إسرائیل کانوا متعبّدین، و کانت العباده فی اولاد ملوک بنی إسرائیل و أنهم خرجوا یسیرون فی البلاد لیعتبروا، فمرّوا بقبر على ظهر الطّریق قد سفى علیه السّافی لیس منه إلّا اسمه، فقالوا: لودعونا اللّه السّاعه فینشر لنا صاحب هذا القبر فساءلناه کیف وجد طعم الموت، فدعوا اللّه و کان دعائهم الذى دعوا به: اللّه أنت إلهنا یا ربّنا لیس لنا إله غیرک و البدىء الدّایم غیر الغافل الحىّ الذی لا یموت لک فی کلّ یوم شأن تعلم کلّ شیء بغیر تعلیم، انشر لنا هذا المیت بقدرتک، قال: فخرج من ذلک القبر رجل أبیض الرأس و اللّحیه ینفض رأسه من التراب فزعا شاخصا بصره إلى السماء، فقال له: ما یوقفکم على قبرى فقالوا: دعوناک لنسألک کیف وجدت طعم الموت فقال لهم: قد سکنت فی قبرى تسعه و تسعون «تسعین خ ل» سنه ما ذهب عنّى ألم الموت و کربه، و لا خرج مراره طعم الموت من حلقی فقال له: متّ یوم متّ و أنت على ما نرى أبیض الرّأس و اللّحیه قال: لا و لکن لما سمعت الصیحه اخرج اجتمعت تربه عظامى إلى روحى و بقیت فیه فخرجت فزعا شاخصا بصرى مهطعا إلى صوت الدّاعى فابیضّ لذلک رأسی و لحیتی.
و فی عقاید الصّدوق (ره) قال: قیل لأمیر المؤمنین علیه السّلام: صف لنا الموت، فقال علیه السّلام: على الخبیر سقطتم هو أحد امور ثلاثه یرد علیه: إما بشاره بنعیم الأبد، و إما بشاره بعذاب الأبد و إما تخویف و تهویل و أمر مبهم لا یدرى من أىّ الفرق هو، أمّا ولیّنا و المطیع لأمرنا فهو المبشّر بنعیم الأبد، و أما عدوّنا و المخالف لأمرنا فهو المبشّر بعذاب الأبد و أما المبهم أمره الذی لا یدرى ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه لا یدرى ما یؤل إلیه حاله، یأتیه الخبر مبهما مخوفا ثمّ لن یشوبه اللّه عزّ و جلّ بأعدائنا و لکن یخرجه من النّار بشفاعتنا، فاعملوا و أطیعوا و لا تتّکلوا و لا تستصغروا عقوبه اللّه، فانّ من المسرفین من لا یلحقه شفاعتنا إلّا بعد عذاب اللّه بثلاثمأه ألف سنه قال: و سئل عن الحسن بن علیّ بن أبی طالب علیه السّلام ما الموت الذی جهلوه فقال: أعظم سرور یرد على المؤمنین إذا نقلوا عن دار النکد إلى نعیم الأبد، و أعظم ثبور یرد على الکافرین إذا نقلوا من جنّتهم إلى نار لا تبید و لا تنفد.
قال: و قیل لعلیّ بن الحسین علیه السّلام: ما الموت قال: للمؤمن کنزع ثیاب و سخه قمله أو فکّ قیود و أغلال ثقیله و الاستبدال بأفخر الثّیاب و أطیبها روایح و أوطى المراکب و آنس المنازل، و للکافر کخلع ثیاب فاخره و النقل عن منازل أنیسه و الاستبدال بأوسخ الثیاب و أخشنها و أوحش المنازل و أعظم العذاب.
قال: و قیل للصادق علیه السّلام: صف لنا الموت، فقال: هو للمؤمن کأطیب ریح یشمّه فینفس لطیبه فیقطع التعب و الألم کلّه عنه، و للکافر کلسع الأفاعى و لذع العقارب و أشدّ، قیل له: فانّ قوما یقولون هو أشدّ من نشر بالمناشیر و قرض بالمقاریض و رضخ بالحجاره و تدویر قطب ارحیه فی الأحداق، فقال: هو کذلک على بعض الکافرین و الفاجرین، ألا ترون من یعاین تلک الشدائد، فذلکم الذی هو أشد من هذا و هو أشدّ من عذاب الدّنیا، قیل: فما لنا نرى کافرا یسهل علیه النزع فینطفى و هو یتحدّث و یضحک و یتکلّم، و فی المؤمنین من یکون أیضا کذلک، و فی المؤمنین و الکافرین من یقاسى عند سکرات الموت هذه الشدائد فقال علیه السّلام: ما کان راحه للمؤمن فهو من عاجل ثوابه، و ما کان من شدّه فهو تمحیصه من ذنوبه لیرد إلى الآخره تقیا طاهرا نظیفا مستحقا لثواب اللّه لیس له مانع دونه، و ما کان هناک من سهوله على الکافرین فلیستوفی أجر حسناته فی الدّنیا لیرد إلى الآخره و لیس له إلّا ما یوجب علیه العذاب، و ما کان من شدّه على الکافرین هناک فهو ابتداء عقاب اللّه تعالى عند نفاد حسناته، ذلک بأنّ اللّه عزّ و جلّ عدل لا یجور.
و روى عن الصّادق علیه السّلام قال: جاء رجل إلى النبیّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم فقال: یا رسول اللّه ما بالى لا أحبّ الموت فقال صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: ألک مال قال: نعم، قال صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: قدمته أمامک قال: لا، قال صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: فمن ثمّ لا تحبّ الموت.
قال: و جاء رجل إلى أبی ذر رحمه اللّه و قال ما لنا نکره الموت فقال: لأنکم عمّرتم الدّنیا و خرّبتم الآخره فتکرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب، و قیل له کیف ترى قدومنا على اللّه تعالى فقال: أما المحسن فکالغائب یقدم على اهله، و أما المسىء فکالآبق یقدم على مولاه و هو منه خائف، قیل: و کیف ترى حالنا عند اللّه قال: اعرضوا أعمالکم على کتاب اللّه تعالى حیث یقول: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِی نَعِیمٍ وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِی جَحِیمٍ قال رجل «الرجل ظ» فأین رحمه اللّه قال: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِیبٌ مِنَ الْمُحْسِنِینَ.
تنبیه
أحببت أن أورد هنا الرّوایه المتضمّنه لتکلّم المیّت مع سلمان الفارسی رضى اللّه عنه و ما أخبره به من حالات سکرات الموت و ما بعدها من الشدائد و الدّواهى لأنّ فیها تنبیها للغافلین و تذکره للجاهلین.
فأقول: روى غیر واحد من أصحابنا أنار اللّه برهانهم عن أبی الفضل سدید الملّه و الدّین شاذان بن جبرئیل بن إسماعیل بن أبی طالب القمّی فی الجزء الثانی من کتابه کتاب الفضایل عن أبی الحسن بن علیّ بن محمّد المهدی بالاسناد الصّحیح عن الأصبغ ابن نباته أنه قال: کنت مع سلمان الفارسى و هو أمیر المداین فی زمان أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السّلام و ذلک أنه قد ولّاه المداین عمر بن الخطاب فقام إلى أن ولی الأمر علیّ بن أبی طالب علیه السّلام.
قال الأصبغ فأتیته یوما و قد مرض مرضه الذى مات فیه، قال: فلم أزل أعوده فی مرضه حتّى اشتدّ به الأمر و أیقن بالموت، قال: فالتفت إلىّ و قال لی: یا أصبغ عهدى برسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم یقول یا سلمان سیکلّمک میّت إذا دنت وفاتک و قد اشتهیت أن أدرى وفاتی دنت أم لا، فقال الأصبغ: بماذا تأمرنی یا سلمان یا أخی قال له ان تخرج و تأتینی بسریر و تفرش لی علیه ما یفرش للموتى ثمّ تحملنی بین أربعه فتأتون بی الى المقبره.
فقال الاصبغ: حبا و کرامه، فخرجت مسرعا و غبت ساعه و أتیته بسریر و فرشت علیه ما یفرش للموتى، ثمّ أتیته بقوم حملوه إلى المقبره، فلما وضعوه فیها قال لهم: یا قوم استقبلوا بوجهى القبله، فلما استقبل بوجهه القبله نادى بأعلى صوته: السّلام علیکم یا أهل عرصه البلاء، السّلام علیکم یا محتجبین عن الدّنیا قال: فلم یجبه أحد فنادى ثانیه، السّلام علیکم یا من جعلت المنایا لهم غذاء، السلام علیکم یا من جعلت الأرض علیهم غطاء، السّلام علیکم یا من القوا أعمالهم فی دار الدّنیا، السّلام علیکم یا منتظرین النفخه الاولى سألتکم باللّه العظیم و النبیّ الکریم إلّا أجابنی منکم مجیب فأنا سلمان الفارسى مولى رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم فانه قال لی: یا سلمان إذا دنت وفاتک سیکلّمک میّت، قد اشتهیت أن أدرى دنت وفاتی أم لا.
فلما سکت سلمان من کلامه فاذا هو بمیّت قد نطق من قبره و هو یقول: السّلام علیک و رحمه اللّه و برکاته، یا أهل البناء و الفناء المشتعلون بعرصه الدّنیا و ما فیها، نحن لکلامک مستمعون، و لجوابک مسرعون فسل عمّا بدا لک یرحمک اللّه تعالى.
قال سلمان: أیّها الناطق بعد الموت و المتکلّم بعد حسره الفوت أمن أهل الجنه بعفوه أم من أهل النار بعدله فقال: یا سلمان أنا ممن أنعم اللّه تعالى علیه بعفوه و کرمه، و أدخله الجنه برحمته.
فقال له سلمان: الآن یا عبد اللّه صف لى الموت کیف وجدته و ما ذا لقیت منه و ما رأیت و ما عاینت قال: مهلا یا سلمان فواللّه إنّ قرضا بالمقاریض و نشرا بالمناشیر لأهون علىّ من غصّه من غصص الموت، و تسعین ضربه بالسّیف أهون من نزعه من نزعات الموت.
فقال سلمان: ما کان حالک فی دار الدّنیا قال: اعلم أنی کنت فی دار الدّنیا ممن ألهمنی اللّه تعالى الخیر و العمل به و کنت اؤدّى فرائضه و أتلو کتابه، و کنت أحرص فی برّ الوالدین و أجتنب الحرام و المحارم و أنزع من المظالم و اکدّ اللّیل و النّهار فی طلب الحلال خوفا من وقعه السؤال، فبینا أنا فی ألذّ العیش و غبطه و فرح و سرور إذ مرضت و بقیت فی مرضى أیّاما حتى انقضت من الدّنیا مدّتی و قربت موتى، فأتانى عند ذلک شخص عظیم الخلقه فظیع المنظر فوقف«» مقابل وجهى لا إلى السماء صاعدا و لا إلى الأرض نازلا، فأشار إلى بصرى فأعماه، و إلى سمعى فأصمه، و إلى لسانى فأخرسه فصرت لا ابصر و لا اسمع و لا انطق، فعند ذلک بکى أهلى و اخوانی و ظهر بخبرى إلى اخوانی و جیرانی.
فقلت له عند ذلک: من أنت یا هذا الذی أشغلتنی عن مالی و أهلی و ولدی فقد ارتعدت فرایصی من مخافتک.
فقال: أنا ملک الموت أتیتک لقبض روحک و لأنقلک من دار الدّنیا إلى دار الآخره، فقد انقضت مدّتک من الدّنیا، و جاءت منیّتک.
و بینا هو کذلک یخاطبنی إذا أتانی شخصان و لهما منظر أحسن ما یکون و ما رأیت من الخلق أحسن منهما، فجلس أحدهما عن یمینی و الآخر عن شمالی فقالا: السّلام علیک أیها العبد و رحمه اللّه و برکاته، قد جئناک بکتابک فخذه الآن و انظر ما فیه
فقلت لهما: من أنتما یرحمکما اللّه و أىّ کتاب لى أنظره و أقرء فقالا: نحن الملکان اللّذان کنامعک فی دار الدّنیا على کتفیک نکتب مالک و ما علیک فهذا کتاب عملک، فلما نظرت فی کتاب حسناتى بید الرّقیب فسرّ لى ما فیه و ما رأیت من الخیر و فرحت و ضحکت عند ذلک و فرحت فرحا شدیدا، و نظرت إلى کتاب السّیئآت و هو بید العتید فسائنى ما رأیت و أبکانی، فقالا لی: ابشر فلک الخیر.
ثمّ دنى منى الشخص الأوّل فجذب الرّوح فلیس من جذبه یجذبها إلّا و هى تقوم مقام کلّ شدّه من السّماء إلى الأرض، فلم یزل کذلک حتّى صارت الروح فی صدرى، ثمّ أشار الىّ بجذبه لو أنّها وضعت على الجبال لذابت، فقبض روحی من عرنین أنفی فعلا من اهلی عند ذلک الصّراخ و لیس من شیء یقال أو یفعل إلّا و أنا به عالم.
فلما اشتدّ صراخ القوم و بکاؤهم جزعا علىّ التفت الیهم ملک الموت بغیض و حنق و قال: معاشر القوم ممّ بکائکم فو اللّه ما ظلمناه فتشکون و لا اعتدینا علیه فتصیحون و تبکون و لکن نحن و أنتم عبید ربّ واحد و لو امرتم فینا کما امرنا فیکم لا متثلتم فینا کما امتثلنا فیکم، و اللّه ما أخذناه حتى فنى رزقه و انقطعت مدّته و صار إلى ربّ کریم یحکم فیه ما یشاء و هو على کلّ شیء قدیر فان صبرتم أوجرتم و إن جزعتم أثمتم کم لی من رجعه إلیکم آخذ البنین و البنات و الآباء و الأمّهات.
ثمّ انصرف عند ذلک عنّى و الروح معه فعند ذلک أتاه ملک آخر فأخذها منه و طرحها فی ثوب أخضر من الحریر و صعد بها و وضعها بین یدی اللّه فی أقلّ من طبقه جفن.
فلمّا حصلت الرّوح بین یدی ربی سبحانه سألها عن الصغیره و الکبیره، و عن الصّلاه و الصّیام فی شهر رمضان و حجّ بیت اللّه الحرام و قراءه القرآن و الزکاه و الصّدقات و سایر الأوقات و الأیام و طاعه الوالدین و عن قتل النفس بغیر الحقّ و أکل مال الیتیم و مال الرّبا و الزّنا و الفواحش و عن مظالم العباد، و عن التهجّد باللّیل و النّاس نیام و ما یشاکل ذلک، و ما بعد ذلک ردّت الرّوح إلى الأرض باذن اللّه تعالى.
فعند ذلک أتانی الغاسل فجرّدنى من أثوابی و أخذ فی تغسیلى، فنادته الرّوح باللّه علیک یا عبد اللّه رفقا بالبدن الضعیف فو اللّه ما خرجت من عرق إلّا انقطع و لا من عضو إلّا انصدع فو اللّه لو سمع الغاسل ذلک القول لما غسل میّتا أبدا.
ثمّ أنّه أجرى علىّ الماء و غسّلنى ثلاثه أغسال و کفّننى فی ثلاثه أثواب و حنّطنى بحنوط و هو الزّاد الذی خرجت به الى الآخره، ثمّ جذب الخاتم من یدی الیمنى فدفعه إلى أکبر أولادى و قال: آجرک اللّه فی أبیک و أحسن لک الاجر و العزاء.
ثمّ أدرجنى فی الکفن و لفّنى و نادى أهلى و جیرانى و قال هلمّوا إلیه بالوداع فقاموا عند ذلک لو داعى.
فلمّا فرغوا من وداعى حملت على سریر خشب و حملونی على أکتاف أربعه، و الرّوح عند ذلک بین وجهى و کفى واقفه على نعشی و هى تقول: یا أهلى و أولادی لا تلعب بکم الدّنیا کما لعبت بی، فهذا ما جمعته من حلّ و من غیر حلّ و خلّفته بالهناءه و الصّحه فاحذرونی فیه.
و لم أزل کذلک حتى وضعت للصّلاه فصلّوا علىّ، فلما فرغوا من الصّلاه و حملت إلى قبرى ادلیت فیه ثمّ رفعت روحى بین کتفى و وجهى ادنیت من قبرى و طرحت على شفیر القبر، فعاینت هو لا عظیما.
یا سلمان یا عبد اللّه لما وضعت فی قبرى خیّل لی أنّی سقطت من السّماء إلى الأرض فی لحدى، و شرج علىّ اللّبن و حثى علىّ التراب و زارونى «و ارونى ظ» و انصرفوا، فرجعت الرّوح إلىّ فأخذت فی النّدم فقلت: یا لیتنى کنت مع الراجعین.
فعند ذلک سلبت الرّوح من اللّسان و انقلبت السّمع و البصر فلما نادى المنادى بالانصراف أخذت فی الندم و بکیت من القبر و ضیقه و ضغطته و کنت قلت: یا لیتنى کنت مع الراجعین لعملت عملا صالحا فجاوبنى مجیب من جانب القبر:
کَلَّا إِنَّها کَلِمَهٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى یَوْمِ یُبْعَثُونَ.
فقلت من أنت یا هذا الذی تکلّمنی و تحدّثنى قال: أنا منبّه، قلت: و ما منبّه قال: أنا ملک و کلنى اللّه بجمیع خلقه لأنبّههم بعد مماتهم لیکتبوا أعمالهم على أنفسهم بین یدی اللّه.
ثمّ إنّه جذبنی و أجلسنی و قال لی: اکتب عملک و مالک و ما علیک فی دار الدّنیا، قلت: انى لا احصیه و لا أعرفه، قال: أو ما سمعت قول ربّک: أحصیه اللّه و نسوه ثمّ قال لی: اکتب الآن و أنا أملی علیک، فقلت: أین البیاض فجذب جانبا من کفنى فاذا هو رقّ فقال: هذه صحیفتک، فقلت: من أین القلم قال: سبّابتک، فقلت: من أین المداد فقال: ریقک.
ثمّ أملى علىّ جمیع ما فعلته فی دار الدّنیا من أوّل عمرى إلى آخره، فلم یبق من أعمالى صغیره و لا کبیره، ثمّ تلى علىّ: لا یُغادِرُ صَغِیرَهً وَ لا کَبِیرَهً إِلَّا أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا یَظْلِمُ رَبُّکَ أَحَداً.
ثمّ إنّه أخذ الکتاب و ختمه بخاتم و طوّقه فی عنقى فخیّل لی أنّ جبال الدّنیا جمیعا قد طوّقها فی عنقى، فقلت له: یا منبّه و لم تفعل بی هکذا قال: ألم تسمع قول ربّک وَ کُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِی عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ یَوْمَ الْقِیامَهِ کِتاباً یَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ کِتابَکَ کَفى بِنَفْسِکَ الْیَوْمَ عَلَیْکَ حَسِیباً.
فهذا ما تخاطب به یوم القیامه و یؤتى بک و بکتابک بین عینیک منشورا لتشهد به على نفسک.
ثمّ انصرف عنّى فبقیت أبکى على نفسی على حسره الدّنیا و أقول: یا لیتنیعملت خیرا حتّى لا یکتب علىّ شرّ.
فبینا أنا کذلک و إذا أنا بملک منکر أعظم منظرا و أهول شخصا ما رأیته فی الدّنیا، و معه عمود من الحدید لو اجتمعت علیه الثقلان ما حرّکوه، فراعنى و أفزعنی و هدّدنى و دنا منّى فجذبنى بلحیتی، ثمّ انه صاح بی صیحه لو سمعها أهل الأرض لماتوا جمیعا ثمّ قال لی: یا عبد اللّه أخبرنی من ربّک و من نبیّک و ما دینک و ما کنت علیه فی دار الدّنیا فاعتقل لسانی من فزعه و تحیّرت فی أمرى و ما أدرى ما أقول و لیس فی جسمی عضو إلّا فارقنى من الفزع و انقطعت أعضائى و أوصالى من الخوف.
فأتتنی رحمه من ربّی فأمسک بها فی قلبی و شدّ بها ظهرى و اطلق بها لسانی و رجع إلىّ ذهنی فقلت له عند ذلک: یا عبد اللّه لم تفزعنی و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و أنّ اللّه ربّی و محمّد نبیّی و الاسلام دینی و القرآن کتابی و الکعبه قبلتی و علیّ امامی و بعده أولاده الطاهرون أئمتی، و المؤمنون اخوانی و أنّ الموت حقّ و السّؤال حقّ و الصّراط حقّ و الجنه حقّ و النّار حقّ و أنّ السّاعه آتیه لا ریب فیها و أنّ اللّه یبعث من فى القبور فهذا قولی و اعتقادی و علیه القى ربّی فی معادی.
فعند ذلک قال لی: یا عبد اللّه ابشر بالسلامه فقد نجوت منّی فنم نومه العروس ثمّ مضى عنّى.
ثمّ أتانی شخص أهول منه یعرف بنکیر، فصاح صیحه هائله أعظم من صیحه الاولى، فاشتبکت أعضائی بعضها فی بعض کاشتباک الأصابع، ثمّ قال لی: هات الآن عملک یا عبد اللّه و ما خرجت علیه من دار الدّنیا و من ربّک و من نبیّک و ما دینک فبقیت حایرا متفکّرا فی ردّ الجواب لا أعرف جوابا و لا انطق بخطاب لما رأیت و سمعت منه.
فعند ذلک صرف اللّه عنّی شدّه الرّوع و الفزع و ألهمنی حجّتی و حسن التوفیق و الیقین فقلت: ارفق بی و لا تزعجنی یا عبد اللّه و امهل علىّ حتّى أقول لک، فقال: قل فقلت: انی خرجت من شهاده أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شریک له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أنّ أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب و الأئمه الطاهرین من ذرّیته أئمتی و أنّ الموت حقّ و القبر حقّ و الصّراط حقّ و المیزان حقّ و الحساب حقّ و مسائله منکر و نکیر حقّ، و أنّ الجنّه و ما وعد اللّه فیها من النّعیم حقّ و أنّ النّار و ما وعد اللّه من العذاب حقّ، و أنّ السّاعه آتیه لا ریب فیها و أنّ اللّه یبعث من فی القبور.
ثمّ قال لی: یا عبد اللّه ابشر بالنّعیم الدّائم و الخیر المقیم ثمّ إنّه أضجعنى و قال: نم نومه العروس، ثمّ انه فتح لی بابا من عند رأسی إلى الجنّه و بابا من عند رجلی الى النار ثمّ قال لی: یا عبد اللّه انظر إلى ما صرت إلیه فی الجنّه و إلى ما نجوت منه من نار الجحیم، ثمّ سدّ الباب التی من عند رجلی و ابقى الباب الذی هو من عند رأسی فجعل یدخل علىّ من روح الجنّه و نعیمها و أوسع لحدى مدّ البصر«» و اسرج لی سراجا أضوء من الشمس و القمر و خرج عنّی.
فهذه صفتی و حدیثی و ما لقیته من شدّه الأهوال، و أنا أشهد باللّه أنّ مراره الموت فی حلقی إلى یوم القیامه، فراقب اللّه أیّها السائل من رفعه المسائل، و خف من هول المطّلع و ما قد ذکرته، هذا الذى لقیته و أنا من الصّالحین ثمّ انقطع عند ذلک کلامه عن سلمان.
فقال سلمان للأصبغ و من کان معه: هلمّوا إلیّ و احملونی، فلمّا وصل إلى منزله قال: حطونى رحمکم اللّه، فلمّا حططناه إلى الأرض و شهدناه فقال: اسندونی، ثمّ رمق بطرفه إلى السّماء و قال: یا من بیده ملکوت کلّ شیء و إلیه یرجعون و هو یجیر و لا یجار علیه بک آمنت و علیک توکلت و بنبیّک أقررت و بکتابک صدقت، و قد أتانی ما وعدتنی یا من لا یخلف المیعاد فلقنی جودک، و أقبضنى إلى رحمتک، و أنزلنی إلى دار کرامتک فانی اشهد اللّه لا إله إلّا اللّه وحده لا شریک له،و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أنّ علیّا أمیر المؤمنین و الأئمّه من ذرّیته أئمتّی و ساداتی فلمّا أکمل شهادته قضى نحبه و لقى ربّه رضى اللّه تعالى عنه.
فقال بینما نحن کذلک إذ أتا رجل على بعله شهباء متلثّما فسلّم علینا فرددنا السّلام علیه فقال: یا أصبغ اجهدوا فی أمر سلمان، فأخذنا فی أمره فأخذ معه حنوطا و کفنا فقال: هلمّوا فانّ عندى ما ینوب عنه، فأتیناه بماء و مغسل، فلم یزل یغسله بیده حتّى فرغ و کفّنه و صلّى علیه فصلّینا خلفه، ثمّ إنّه دفنه بیده فلمّا فرغ من دفنه همّ بالانصراف تعلّقنا به و قلنا له: من أنت یرحمک اللّه فکشف لنا عن وجهه فسطع النور من ثنایاه کالبرق الخاطف فاذا هو أمیر المؤمنین فقلت له یا أمیر المؤمنین کیف کان مجیئک و من أعلمک بموت سلمان قال: فالتفت إلىّ و قال: آخذ علیک یا أصبغ عهد اللّه و میثاقه و أنّک لا تحدّث به أحدا ما دمت حیّا فی دار الدّنیا، فقلت یا أمیر المؤمنین أموت قبلک فقال: لا یا أصبغ بل یطول عمرک، قلت له: یا أمیر المؤمنین خذ علىّ عهدا و میثاقا فانّی لک سامع مطیع انى لا احدّث به حتّى یقضى اللّه من أمرک ما یقضى و هو على کلّ شیء قدیر.
فقال: یا أصبغ بهذا عهدنی رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم فانی قد صلّیت هذه السّاعه بالکوفه و قد خرجت ارید منزلی فلمّا وصلت إلى منزلی اضطجعت، فأتانی آت فی منامى و قال: یا على إنّ سلمان قد قضى نحبه فرکبت بغلتی و أخذت معى ما یصلح للموتى فجعلت أسیر فقرّب اللّه لى البعید کما ترانى، و بهذا أخبرنی رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم ثم انه دفنه و واراه فلم أر أصعد إلى السّماء أم فی الأرض نزل، فأتى الکوفه و المنادى ینادى بصلاه المغرب فحضر عندهم.«» و هذا ما کان من حدیث وفاه سلمان الفارسی (ره) على التمام و الکمال و الحمد للّه حقّ حمده و قد رویت الخبر على طوله لاقتضاء المقام ذلک من حیث اشتماله على کثیر من أحوال المیّت و أهوال البرزخ المسوق لها هذا الفصل من کلامه علیه السّلام، و أوردت ذیله مع خروجه عن مقتضى المقام لانّى إن ساعدنی التوفیق إنشاء اللّه اورد فی شرح باب الکتب و الوصایا مبدء أمر سلمان و کیفیّه اسلامه و بعض مناقبه فأحببت أن اورد هنا مآل أمره و منتهاه لیطلع النّاظر فی الشرح على بدایه حاله و نهایته مع ما فیه من اعجاز عجیب لأمیر المؤمنین سلام اللّه علیه و على آله الطّیبین هذا.
و لا یخفى ما فی هذه الرّوایه من الکفایه للمهتدى الطالب للرّشاد، بما فیها من التّنبیه و الایقاظ من الغفله و الرقاد، فانّ هذا المیّت مع کونه ممّن ألهمه اللّه الخیر و الصلاح و کونه من أهل السعاده و الفلاح إذا کان حاله ذلک، و مصیر أمره کذلک فکیف بنا و نحن المنهمکون فی الشّهوات و المستغرقون فی بحار السّیئآت.
تروّ عنا الجنائز مقبلات
و نلهوحین تذهب مدبرات
کروعه ثلّه لمغار ذئب
فلمّا غاب عادت راتعات
اشتغلنا ببدوات الخواطر، و نسینا اللّه و الیوم الآخر، و غفلنا عن أخذ الزاد لیوم المعاد، و لا سبب لهذه الغفله إلّا قسوه القلوب بکثره المعاصی و الذّنوب، فلیس لنا خلاص و مناص، و لا معاذ و لا ملاذ، و لا مطمع و لا رجاء إلّا فی بحر الکرم و الجود، و التّفضل من واجب الوجود
و لما قسى قلبی و ضاقت مذاهبی
جعلت رجائى نحو عفوک سلّما
تعاظمنى ذنبی فلمّا قرنته
بعفوک ربّی کان عفوک أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذّنب لم تزل
تجود و تعفو منّه و تکرّما
الترجمه
تنزیه میکنم تو را تنزیه کردنی در آن حال که آفریننده مخلوقاتی و معبود موجودات بسبب حسن امتحان خود در حین آفریدن، آفریدی خانه را که عبارت است از خانه آخرت و مهیا نمودى در آن مهمانى را: شرابی و طعامی و زنانی و خدمتگذارانی و غرفههاى رفیعه و نهرهاى لطیفه و زراعتهاى خوب و میوههاى مرغوب، بعد از آن فرستادى دعوت کننده را که مىخواند مردمان را بسوى آن پس این مردمان نادان نه دعوت کننده را اجابت نمودند، و نه در آنچه ترغیب نمودى راغب شدند، و نه بسوى آنچه که مشتاق نمودى بسوى آن شایق گشتند.
روى آوردند بر جیفه دنیاى غدّار در حالتى که مفتضح و رسوا شدند بسبب خوردن آن، و اتفاق و آشتی کردند بر دوستی آن، و هر که عاشق گشت بچیزى پرده کشید آن چیز چشم او را، و ناخوش گردانید قلب او را، پس او نظر مىکند با چشم نا صحیح، و مىشنود با گوش ناشنوا، در حالتى که دریده و پاره کرده شهوات دنیویه عقل او را، و کشته دنیاى دنی قلب او را، و واله و شیفته شده بر دنیا نفس او.
پس آن محبّ دنیا بنده دنیا است و بنده کسیست که در دستهاى آن چیزیست از متاع دنیا، هر کجا که گردید دنیا گردید آن شخص بسوى آن، و هر کجا که روى آورد دنیا روى نهاد او بر آن در حالتی که منزجر نمىشود از خدا بزجر کننده و متعظ نمىشود از حق تعالى بموعظه نماینده، و حال آنکه مىبیند کسانى را که گرفتار شدند در حالت غفلت و مغروری در مکانی که نیست هیچ فسخ و اقاله مر ایشان را و نه رجوع و بازگشتی در حق ایشان، چگونه نازلشد بایشان چیزى که جاهل بودند بآن، و آمد مالشان در مفارقت دنیا چیزى که خاطر جمع بودند از آن، و آمدند از آخرت بر آنچه که بودند که وعده داده مىشدند بآن.
پس قابل وصف و تعریف نیست چیزى که نازلشد به آنها، جمع شد برایشان سختی و شدت مرگ و حسرت و پشیمانی وفات، پس سست گشت از جهه سکرات موت اعضاء ایشان، و تغییر یافت از جهه آن رنگهاى ایشان.
بعد از آن افزون شد مرگ در ایشان از حیثیت دخول، پس حایل شد میان هر یک از ایشان و میان سخن گفتن او، و بدرستى که او در میان اهل خود نگاه میکند بدیده خود و مىشنود بگوش خود بر صحت عقل خود و باقی بودن ادراک خود، تفکر مىکند که در چه چیز فانی کرد عمر خود را، و در چه چیز گذرانید روزگار خود را، و بیاد مىآورد مالهائى را که جمع نمود آنها را، و اغماض نمود در مواضع طلب آنها، و أخذ نمود آنها را از جاهائى که واضح و روشن بود حلیّت آن، و از جاهاى شبههناک آنها بتحقیق که لازم شد او را گناههاى جمع آورى آنها، و مشرف شد بر مفارقت آنها باقی ماند آنها از براى پس ماندگان او در حالتى که منعم میشوند بر آنها، و متمتع مىباشند به آنها، پس باشد گوارائى آن اموال از براى غیر او، و بار گران و وزر و بال آنها بر پشت او، و حال آنکه آن مرد بسته شده گروهاى او بسبب آن مالها، پس او گزد دندان خود را از روى ندامت و پشیمانى بر آنچه که ظاهر شد باو در حین مرگ از امر خود، و ترک رغبت میکند در آنچه که راغب بود در آن در مدّت عمر خود، و آرزو میکند این که کاشکى آن شخصى که غبطه مىنمود باو بسبب آن اموال و حسد مىبرد بر او در آنها آن شخص حیازت نمودى و جمع مىکردى آنها را نه او.
پس همیشه مرگ ثابت بود مبالغه مىکرد در بدن او تا آنکه آمیخته شد بقوّه ناطقه او سامعه او، پس گردید در میان اهل خود بحیثیتى که قادر نبود سخن بگوید با زبان خود، و نه بشنود با گوش خود در حالتى که گرداند چشم خود را بنگاه کردن در رویهاى ایشان، بیند حرکتهاى زبانهاى ایشان را، و نمىشنود تردید سخنان و جواب باز دادن ایشان را.
پس از آن زیاده مىشود مرگ در حیثیّت چسبیدن باو، پس أخذ کند چشم او را همچنان که قبض نمود گوش او را، و خارج شود روح از تن او، پس گردد جیفه و مردارى در میان اهل خود در حالتى که وحشت کنند از جانب او و دورى جویند از نزدیکى او، و موافقت نمىکند گوینده خود را، و جواب نمىتواند بدهد برخواننده خود.
پس از آن بردارند او را بسوى منزل او در زمین پس سپارند او را در آن منزل بعمل خودش و بریده شوند از زیارت کردن او.
شارح فقیر کثیر التقصیر مىگوید که مخفى نماند کفایت این کلام بلاغت نظام در مقام وعظ و تذکیر و انذار و تحذیر و هدایت سرگشتگان بادیه ضلالت
و نجات دادن غرق شدگان دریاى غفلت را، و لنعم ما قیل:
دلا یکدم از خواب بیدار شو
ز سر مستى کبر هشیار شو
بعبرت نظر کن سوى رفتگان
که فردا شوى عبرت دیگران
بزرگى که سودى بگردون سرش
نگه کن که چون خاک شد پیکرش
ز دور زمان نگذرد اندکى
که خواهى تو هم بود از ایشان یکى
الفصل الثالث
حتّى إذا بلّغ الکتاب أجله، و الأمر مقادیره، و الحق آخر الخلق بأوّله، و جاء من أمر اللّه ما یریده من تجدید خلقه، أماد السّماء و فطرها، و أرجّ الأرض و أرجفها، و قلع جبالها و نسفها، و دکّ بعضها بعضا من هیبه جلاله، و مخوف سطوته، و أخرج من فیها، فجدّدهم بعد إخلاقهم و جمعهم بعد تفریقهم، ثمّ میّزهم لما یرید من مسائلتهم: عن خفایا الأعمال، و خبایا الأفعال، و جعلهم فریقین: أنعم على هؤلاء، و انتقم من هؤلاء. فأمّا أهل الطّاعه، فأثابهم بجواره، و خلّدهم فی داره، حیث لا یظعن النّزّال، و لا یتغیّر لهم الحال، و لا تنوبهم الأفزاع، و لا تنالهم الأسقام، و لا تعرض لهم الأخطار، و لا تشخصهم الأسفار، و أمّا أهل المعصیه، فأنزلهم شرّ دار، و غلّ الأیدی إلى الأعناق، و قرن النّواصی بالأقدام، و ألبسهم سرابیل القطران، و مقطّعات النّیران، فی عذاب قد اشتدّ حرّه، و باب قد أطبق على أهله، فی نار لها کلب و لجب، و لهب ساطع، و قصیف هائل، لا یظعن مقیمها، و لا یفادى أسیرها، و لا تفصم کبولها، لا مدّه للدّار فتفنى، و لا أجل للقوم فیقضى.
اللغه
(الکتاب) بمعنى المکتوب من کتب بمعنى حکم و قضى یقال کتب القاضى بالنّفقه و (ماد) یمید میدا و میدانا تحرّک و أماده حرّکه، و فی بعض النّسخ أمار، و الموران الحرکه (و أرجّ) الأرض زلزلها أرجّت الأرض و أرجّها اللّه یستعمل لازما و متعدّیا و فی بعض النسخ و رجّ الأرض بغیر همز و هو الأفصح المطابق لقوله تعالى إذا رجّت الأرض رجّا و (الرّجفه) الزّلزله الشّدیده و (نسفها) قلعها من اصولها.
و قوله (بعد اخلاقهم) فی بعض النسخ بفتح الهمزه و فی بعضها بالکسر من خلق الثّوب بالضّم اذا بلى فهو خلق بفتحتین و أخلق الثوب بالالف لغه و أخلقته یکون الرّباعی لازما و متعدّیا هکذا فی المصباح، و قال الطّریحى: و ثوب اخلاق اذا کانت الخلوق فیه کلّه و (ظعن) ظعنا و ظعنا من باب نفع سار و ارتحل، و یتعدّی بالهمزه و بالحرف یقال أظعنته و ظعنت به و (الاخطار) جمع الخطر محرّکه کأسباب و سبب و هو الاشراف على الهلاک و خوف التّلف.
و (شخص) یشخص من باب منع خرج من موضع إلى غیره و یتعدّى بالهمزه فیقال أشخصته و (السّربال) القمیص و (القطران) بفتح القاف و کسر الطاء و بها قرأ السّبعه فی قوله تعالى سرابیلهم من قطران، و ربما یکسر القاف و یسکن الطّاءو هو شیء أسود لزج منتن یطلى به الابل.
و (المقطّعات) الثیاب التی تقطع و قیل: هى قصار الثیاب و (الکلب) محرّکه الشدّه و یقال کلب الدّهر على أهله اذا ألحّ علیهم و اشتدّ و (اللّجب) بالتحریک أیضا الصّوت و (القصیف) الصّوت الشدیده و (تفصم) بالفاء من انفصم و هو کسر الشیء من غیر إبانه، و فی بعض النسخ بالقاف و هو الکسر مع إبانه و (الکبول) جمع الکبل کفلس و فلوس و هو القید یقال کبلت الأسیر و کبلته إذا قیدته فهو مکبول و مکبل قال الشّاعر:
لم یبق الّا أسیر غیر منقلب
و موثق فی عقال الاسر مکبول
الاعراب
قوله: فأما أهل الطّاعه فأثابهم بجواره، أما حرف شرط و تفصیل و توکید أما أنها شرط فبدلیل لزوم الفاء بعدها، و أما أنها تفصیل فلکونها مکرّره غالبا قال تعالى: و أمّا السّفینه فکانت لمساکین، و أمّا الغلام، و أمّا الجدار، الآیات، و أما أنها مفیده للتوکید فقد أفصح عنه الزمخشری حیث قال: فایده أمّا فی الکلام أن تعطیه فضل توکید، تقول زید ذاهب فاذا قصدت توکید ذلک و أنه لا محاله ذاهب و أنّه بصدد الذهاب و أنه منه على عزیمه تقول: أمّا زید فذاهب، و لذلک قال سیبویه فی تفسیره: مهما یکن من شیء فزید ذاهب، فهذا التفسیر مفید لفائدتین: بیان کونه تأکیدا، و أنه فی معنى الشرط.
و قوله: حیث لا یظعن النزال، حیث ظرف مکان بدل من قوله فی داره، و هى من الظّروف الواجبه الاضافه الى الجمل و مبنیّه على الضمّ أمّا بناؤها فلأنها مضافه فی المعنى إلى المصدر الذی تضمّنته الجمله إذ معنى جلست حیث جلس زید جلست مکان جلوسه و إن کانت فی الظّاهر مضافه إلى الجمله فاضافتها الیها کلا اضافه فشابهت الغایات المحذوف ما اضیفت الیه فلهذا بنیت على الضمّ کالغایات.
قال نجم الأئمه الرّضیّ: و اعلم أنّ الظرف المضاف إلى الجمله لما کان ظرفاللمصدر الذی تضمّنته الجمله على ما قرّرنا لم یجز أن یعود من الجمله الیه ضمیر فلا یقال آتیک یوم قدم زید فیه، لأنّ الرّبط الذی یطلب حصوله من مثل هذا الضمیر حصل باضافه الضمیر الى الجمله و جعله ظرفا لمضمونها، فیکون کانّک قلت یوم قدوم زید فیه، أى فی الیوم و ذلک غیر مستعمل و إنما وجب الرّبط لما لم یکن الظرف مرتبطا بأن کان منوّنا نحو یوما قدم فیه زید، قال تعالى: یوم تسوّد وجوه و قد یقول العوام: یوم تسودّ فیه الوجوه و نحوه، و هو شاذّ و بذلک ظهر عدم الحاجه الى الضّمیر فی قوله حیث لا یظعن النزال، فانّ معناه مکان عدم ظعن النزال فافهم ذلک فانّه ینفعک فی کثیر من المقامات الآتیه.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من کلامه علیه السّلام متضمّن لبیان حال العباد فی المعاد و کیفیّه محشرهم و منشرهم و بعثهم و جمعهم و إثابه المطیعین منهم و عقاب العاصین و أکثر ما أورده علیه السّلام هنا مطابق لآیات الکتاب الکریم و القرآن الحکیم حسبما تطلع علیه فیما یتلى علیک فأقول: قوله: (حتّى اذا بلغ الکتاب أجله و الأمر مقادیره) أراد بالکتاب ما کتبه اللّه تعالى سبحانه و قضاه فی حقّ النّاس من لبثهم فی القبور إلى یوم الحشر و النشور و بالأمر«» الامورات المقدّره الحادثه فی العالم السفلی المشار الیها بقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.
فالمعنى أنّه إذا بلغ المقضی فی حقّ العباد غایته و نهایته فی الامورات المقدّره مقادیرها المعلومه و حدودها المعینه التی اقتضت الحکمه الالهیه و التدبیر الأزلى بلوغها الیها (و الحق آخر الخلق بأوّله) أى انتزعوا جمیعا عن الدّنیا و أحاط بهم الموت و الفنا و اجتمعوا فى القبور بعد سکنى القصور (و جاء من أمر اللّه) و حکمه (ما یریده من تجدید خلقه) أى بعثهم و حشرهم (أما السّماء و فطرها) أى حرّکها و شقّها، و هو اشاره إلى خراب هذا العالم.
و به نطق قوله سبحانه: یوم تمور السّماء مورا، أى تضطرب و تموج و تتحرّک، و فی سوره المزمّل: السّماء منفطر به و کان وعده مفعولا، قال الطّبرسیّ: المعنى أنّ السّماء تنفطر و تنشقّ فی ذلک الیوم من هو له، و فی سوره الانفطار: إذا السّماء انفطرت، قال الطّبرسىّ تشقّقت و تقطّعت، (و أرجّ الأرض و أرجفها) أى حرّکها و زلزلها کما قال تعالى فی سوره الواقعه: إذا رجّت الأرض رجّا، قال الطّبرسیّ أى حرکت حرکه شدیده، و قیل زلزلت زلزالا شدیدا، و قیل معناه رجّت بما فیها کما یرجّ الغربال بما فیه فیکون المراد ترجّ باخراج من فی بطنها من الموتى، و فی سوره النّازعات: یوم ترجف الراجفه تتبعها الرادفه، قیل أى تضطرب الأرض اضطرابا شدیدا و تحرّک تحرّکا عظیما یعنی یوم القیامه تتبعها الرادفه أى اضطرابه اخرى کائنه بعد الاولى فی موضع الرّدف من الراکب فلا تزال تضطرب حتى یفنى کلّها.
(و قلع جبالها و نسفها) و هو موافق لقوله تعالى فی سوره طه: وَ یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ یَنْسِفُها رَبِّی نَسْفاً فَیَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِیها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً.
قال الطّبرسیّ أى و یسألک منکر و البعث عند ذکر القیامه عن الجبال ما حالها فقل: یا محمّد ینسفها ربّى نسفا، أى یجعلها ربّی بمنزله الرّمل، ثمّ یرسل علیها الرّیاح فیذریها کتذریه الطعام من القشور و التّراب فلا یبقى على وجه الأرض منها شیء و قیل یصیّرها کالهباء، و قیل إنّ رجلا من ثقیف سأل النبیّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم کیف تکون الجبال یوم القیامه مع عظمها فقال صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: إنّ اللّه یسوقها بأن یجعلها کالرّمال ثمّ یرسل علیها الرّیاح فتفرّقها، فیذرها، اى فیدع أما کنها من الأرض إذا نسفها، قاعا، أى أرضا ملساء، و قیل منکشفه، صفصفا، أى أرضا مستویه لیس للجبل فیها أثر،لا ترى فیها عوجا و لا أمتا، أى لیس فیها منخفض و لا مرتفع و فی سوره الواقعه: وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَکانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا.
أى فتت فتأ أو کسرت کسرا، فکانت غبارا متفرّقا کالذى یرى من شعاع الشّمس اذا دخل من الکوّه و فی سوره المزّمل: یَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ کانَتِ الْجِبالُ کَثِیباً مَهِیلًا.
قال الطّبرسیّ: أى رملا سائلا مستأثرا عن ابن عباس و قیل: المهیل الذى اذا وطأه القدم زلّ من تحتها و إذا اخذت أسفله انهار أعلاه، عن الضحاک، و المعنى أنّ الجبال تنقلع من اصولها فتصیر بعد صلابتها کالرّمل السّائل و دلّ بعضها بعضا من هیبه جلاله و مخوف سلطنته، و یشهد به قوله سبحانه فی سوره الحاقّه: فَإِذا نُفِخَ فِی الصُّورِ نَفْخَهٌ واحِدَهٌ وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُکَّتا دَکَّهً واحِدَهً فَیَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَهُ.
أى رفعت الأرض و الجبال من اماکنها و ضرب بعضها ببعض حتّى تفتت الجبال و سفتها الرّیاح و بقیت الأرض شیئا واحدا لا جبل فیها و لا رابیه، بل تکون قطعه مستویه، و قال علیّ بن إبراهیم القمّی فی تفسیرها: قد وقعت فدکّ بعضها على بعض، و قال الطّبرسىّ أى کسرتا کسره واحده لا تثنى حتى یستوى ما علیها من شیء مثل الأدیم الممدود.
(و اخرج من فیها فجدّدهم بعد اخلاقهم) أى بعد کونهم خلقا بالیا أو بعد جعله لهم کذلک (و جمعهم بعد تفریقهم) یحتمل أن یکون المراد به جمع اجزائهم بعد تفتتهم و تألیف أعضائهم بعد تمزیقهم و جمع نفوسهم فی المحشر بعد تفرّقهم فی مشارق الأرض و مغاربها و الثّانی أظهر (ثمّ میّزهم لما یرید من مسائلتهم عن خفایا الأعمال و خبایا الأفعال) أى أعمالهم الّتی فعلوها فی خلواتهم (و جعلهم فریقین أنعم على هؤلاء و انتقم من هؤلاء) کما قال تعالى:
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِی نَعِیمٍ وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِی جَحِیمٍ و فی سوره الرّعد: مَثَلُ الْجَنَّهِ الَّتِی وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُکُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْکَ عُقْبَى الَّذِینَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْکافِرِینَ النَّارُ.
و الیه أشار بقوله (فأمّا أهل الطّاعه) و السّعاده (فأثا بهم بجواره) و قربه (و خلّدهم فیداره) الاضافه للتشریف و التکریم و فیها تشویق و ترغیب الى هذه الدّار لا سیّما و انها دار خلود (حیث لا یظعن النزال) أى لا یرتحل النازلون فیها عنها و لا یجوز علیهم الانتقال (و) دار سلامه و استقامه (لا یتغیّر لهم الحال و) دار أمن و کرامه (لا تنوبهم الأفزاع و) دار صحّه و عافیه (لا تنالهم الأسقام و) دار سرور و لذّه (لا تعرض لهم الأخطار و) دار استراحه (لا تشخصهم الأسفار) و فی هذه کلّها اشاره إلى سلامه أهل الجنان من الهموم و الأحزان، و آفات الأجساد و الأبدان، و طوارق المحن و البلاء العارضه لأهل الدّنیا، و فیها حسبما اشرنا الیه حثّ و ترغیب الیها و إلى المجاهده فی طلبها.
فتنبّه أیّها المسکین من نوم الغفله، و استیقظ من رقده الجهاله، و علیک بالمجاهده و التّقوى، و نهى النفس عن الهوى لتصل إلى تلک النعمه العظمى و تدرک الجنّه التی عرضها الأرض و السموات العلى، و تفکّر فی أهلها و ساکنیها تَعْرِفُ فِی وُجُوهِهِمْ نَضْرَهَ النَّعِیمِ یُسْقَوْنَ مِنْ رَحِیقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْکٌ وَ فِی ذلِکَ فَلْیَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ.
جالسین على منابر الیاقوت الأحمر فی خیام من اللّؤلؤ الرّطب الأبیض فیها بسط من العبقری الأخضر متّکئین على أرائک منصوبه على أطراف أنهار مطرده بالخمر و العسل محفوفه بالغلمان و الولدان مزیّنه بالحور العین من الخیرات الحسان، کأنّهنّ الیاقوت و المرجان لم یطمثهنّ انس قبلهم و لا جانّ، یمشین فی درجات الجنان و اذا اختالت احدیهنّ فی مشیها حمل اعطافها سبعون ألفا من الولدان علیها من طرایف الحریر ما تتحیّر فیه الأبصار مکلّلات بالتّیجان المرصّعه باللّؤلؤ و المرجان مشکلات غنجات عطرات امنات من الهرم و البوس و حوادث الزّمان مقصورات فی الخیام فی قصور من الیاقوت بنیت وسط روضات الجنان قاصرات الطرف عین ثمّ یطاف علیهم و علیهنّ بأکواب و أباریق و کأس من معین بیضاء لذّه للشّاربین، و یطوف علیهم ولدان مخلّدون کأمثال اللّؤلؤ المکنون جزاء بما کانوا یعملون، فی مقام أمین فی جنّات و نهر فی مقعد صدق عند ملیک مقتدر، لا یرهقهم قتر و لا ذلّه بل عباد مکرمون لا خوف علیهم و لا هم یحزنون، و من ریب المنون آمنون، خالدون فیها و یأکلون من أطعمتها و یشربون من أنهارها لبنا و خمرا و عسلا مصفّى، و أیّ أنهار أراضیها من فضّه بیضاء و حصبائها مرجان، و یمطرون من سحاب من ماء النسرین على کثبان الکافور و یجلسون على أرض ترابها مسک أذفر، و نباتها زعفران.
فیا عجبا لمن یؤمن بدار هذه صفتها، و یوقن بأنه لا یموت أهلها و لا تحلّ الفجائع بمن نزل بساحتها، و لا تنظر الأحداث بعین التغییر إلى أهلها، کیف یأنس بدار قد أذن اللّه فی خرابها، و نودى بالرّحیل قطانها، و اللّه لو لم یکن فیها الّا سلامه الأبدان مع الأمن من البلاء و الموت و سایر الحدثان، لکان جدیرا بأن یهجر الدّنیا بسببها، و لا تؤثر علیها مع کون التنغّص و التصرّم من ضروراتها، فانّ نعم الدّنیا زایله کلّها فانیه، و نعم الجنّه دائمه باقیه، و أهل الدّنیا کلّهم متنغّصون هالکون، و أهل الجنّه منعّمون آمنون.
قال رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: ینادى منادیا أهل الجنه انّ لکم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا، و انّ لکم أن تحیوا فلا تموتوا أبدا، و انّ لکم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا و انّ لکم أن تنعّموا فلا تیأسوا أبدا، فذلک قول اللّه عزّ و جلّ: وَ نُودُوا أَنْ تِلْکُمُ الْجَنَّهُ أُورِثْتُمُوها بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
(و أمّا أهل المعصیه) و الشّقاوه (فأنزلهم شرّدار) و بئس القرار (و غلّ الأیدى إلى الأعناق) بأغلال و سلاسل من نار قال سبحانه: إِذِ الْأَغْلالُ فِی أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ یُسْحَبُونَ فِی الْحَمِیمِ ثُمَّ فِی النَّارِ یُسْجَرُونَ و فی سوره یس: إِنَّا جَعَلْنا فِی أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِیَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ.
قال الطّبرسیّ: یعنی أیدیهم، کنّى عنها و ان لم یذکرها لأنّ الأعناق و الأغلال تدلّان علیها، و ذلک انّ الغلّ انما یجمع الید الى الذقن و العنق و لا یجمع الغلّ العنق الى الذقن، و روى عن ابن عباس و ابن مسعود انهما قرءا انّا جعلنا فی أیمانهم أغلالا، و قرأ بعضهم فی أیدیهم، و المعنى فی الجمیع واحد، لأنّ الغلّ لا یکون فی العنق دون الید و لا فی الید دون العنق، و قوله: فهم مقمحون«»، أراد أنّ أیدیهم لما غلّت الى أعناقهم و رفعت الأغلال أذقانهم و رؤوسهم صعدا فهم مرفوع و الرّأس برفع الأغلال ایّاها وَ جَعَلْنا مِنْ بَیْنِ أَیْدِیهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَیْناهُمْ فَهُمْ لا یُبْصِرُونَ.
اشاره الى ضیق المکان فی النار بحیث لا یجدون متقدّما و لا متأخّرا إذ سدّ علیهم جوانبهم فأغشیناهم بالعذاب فهم لا یبصرون فی النار.
(و قرن النّواصی بالأقدام) بالأغلال و الأصفاد کما قال تعالى فی سوره الرحمن یُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِیماهُمْ فَیُؤْخَذُ بِالنَّواصِی وَ الْأَقْدامِ.
قال الطّبرسیّ فی تفسیر: تأخذهم الزّبانیه فتجمع بین نواصیهم و أقدامهم بالغلّ ثمّ یسحبون فی النّار و یقذفون فیها (و ألبسهم سرابیل القطران) کما قال عزّ من قائل فی سوره إبراهیم: وَ تَرَى الْمُجْرِمِینَ یَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِینَ فِی الْأَصْفادِ سَرابِیلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ قال المفسّر و هو ما یطلى به الابل الجربی فیحرق الجرب و الجلد، و هو شیء أسود لزج منتن یطلون به فیصیر کالقمیص علیهم ثمّ یرسل النار فیهم لیکون أسرع الیهم و أبلغ فی الاشتعال و أشدّ فی العذاب، و قیل السّربال من قطران تمثیل لما یحیط بجوهر النّفس من المهلکات الرّدیه و الهیآت الموحشات المؤلمه (و مقطّعات النّیران) قیل: المقطّعات کلّ ثوب یقطع کالقمیص و الجبّه و نحوهما لا ما لا یقطع کالازار و الرّداء، و لعلّ السرّ فی کون ثیاب أهل النار مقطعات کونها أشدّ فی العذاب لاشتمالها على جمیع البدن، و فی مجمع البیان فی تفسیر قوله: فَالَّذِینَ کَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِیابٌ مِنْ نارٍ قال ابن عباس: حین صاروا إلى جهنّم لبسوا مقطّعات النیران، و هى الثیاب القصار و قیل یجعل لهم ثیاب نحاس من نار و هى أشدّ ما تکون حمى، و قیل أنّ النّار تحیط بهم کاحاطه الثیاب التی یلبسونها (فی عذاب قد اشتدّ حرّه و باب قد اطبق على أهله) لکونهم فی العذاب مخلّدین، و فی النار محبوسین، و من خروج الباب ممنوعین، فالأبواب علیهم مغلقه، و أسباب الخروج بهم منقطعه قال سبحانه: کُلَّما أَرادُوا أَنْ یَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِیدُوا فِیها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِیقِ.
قال الحسن: انّ النار ترمیهم بلهبها حتّى اذا کانوا فی أعلاها ضربوا بمقامع فهو وا فیها سبعین خریفا، فاذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفیر لهبها فلا یستقرّون ساعه فذلک قوله: کلّما أرادوا الآیه، و أمّا أهل الجنّه فأبوا بها علیهم مفتوحه کما قال تعالى:
وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِینَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَهً لَهُمُ الْأَبْوابُ.
(فی نار لها کلب و لجب و لهب ساطع) أى لها شدّه و صوت و اشتعال مرتفع (و قصیف هائل) أى صوت شدید مخوف (لا یظعن مقیمها) بل کلّما أرادوا أن یخرجوا منها أعیدوا فیها و قیل لهم ذوقوا عذاب النّار الذی کنتم به تکذّبون (و لا ینادى أسیرها) أى لا یؤخذ عنه الفدیه فیخلص کأسراء الدّنیا (و لا تفصهم کبولها) و قیودها بل هى و ثیقه محکمه (لا مدّه للدّار فتفنى و لا أجل للقوم فیقضى) بل عذابها أبدىّ سرمدیّ.
قال رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: یؤتى بالموت یوم القیامه کأنه کبش أملح فیذبح بین الجنّه و النّار، و یقال: یا أهل الجنّه خلود بلا موت، و یا أهل النّار خلود بلا موت.
فیا أیّها الغافل عن نفسه المغرور بما هو فیه من شواغل هذه الدّنیا المؤذنه بالزّوال و الانقضاء، دع التّفکر فیما أنت مرتحل عنه و اصرف الفکر الى موردک و مصیرک و قد اخبرت بأنّ النار مورد للجمیع اذ قیل: وَ إِنْ مِنْکُمْ إِلَّا وارِدُها کانَ عَلى رَبِّکَ حَتْماً مَقْضِیًّا ثُمَّ نُنَجِّی الَّذِینَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِینَ فِیها جِثِیًّا.
فانت من الورود على یقین و من النّجاه فی شکّ، فاستشعر فی قلبک هول ذلک المورد فعساک تستعدّ للنجاه منه، و تأمّل فی حال الخلایق و قد قاسوا من دواهى القیامه ما قاسوا، فبینما هم فی کربها و أهوالها وقوفا ینتظرون حقیقه أنبائها، اذ أحاطت بالمجرمین ظلمات ذات شعب و أظلّت علیهم نار ذات لهب، و سمعوا لها زفیرا و جرجره تفصح عن شدّه الغیظ و الغضب، فعند ذلک أیقن المجرمون بالهلاک و العطب، و جثت الامم على الرکب، حتى اشفق البرآء من سوء المنقلب، و خرج المنادى من الزّبانیه قائلا أین فلان بن فلان المسوّف نفسه فی الدّنیا بطول الأمل المضیّع عمره فی سوء العمل، فیبادرونه بمقامع من حدید، و یستقبلونه بعظائم التّهدید و یسوقونه الى العذاب الشّدید، و ینکسونه فی قعر الجحیم، و یقولون له: ذق إنّک أنت العزیز الکریم.
فاسکنوا دارا ضیقه الأرجاء، مظلمه المسالک، مبهمه المهالک یخلد فیها الأسیر، و یوقد فیها السعیر، شرابهم فیها الحمیم، و مستقرّهم الجحیم، الزّبانیه تقمعهم، و الهاویه تجمعهم، أمانیهم فیها الهلاک، و مآلهم منها فکاک، قد شدّت أقدامهم إلى النواصی، و اسودّت وجوههم من ظلمه المعاصى.
ینادون من أکنافها، و یصیحون فی أطرافها، یا مالک قد حقّ علینا الوعید یا مالک قد أثقلنا الحدید، یا مالک قد نضجت منا الجلود، یا مالک اخرجنا منها فانّا لا نعود، فتقول الرّبانیه لات حین أمان، لا خروج لکم من دار الهوان، فاخسئوا فیها و لا تکلّمون، و لو اخرجتم لکنتم الى ما نهیتم عنه تعودون، فعند ذلک یقنطون و على ما فرّطوا فی جنب اللّه یتأسّفون، و لا یغنیهم الأسف و لا ینجیهم الندّم، اذ زلّت بهم القدم، بل یکبّون على وجوههم مغلولین، النار من فوقهم، و النّار من تحتهم، و النار عن أیمانهم، و النّار عن شمائلهم. فهم غرقى فی النّار، طعامهم و شرابهم نار، و لباسهم نار، و مهادهم نار.
فهم بین مقطعات النّیران، و سرابیل القطران، و ضرب المقامع، و ثقل السّلاسل، و هم یتجلجلون فی مضایقها، و یتحطّمون فی درکاتها، و یضطربون بین غواشیها، تغلی بهم النّار کغلى القدور، و یهتفون بالویل و العویل و الثبور، و مهما دعوا بذلک صبّ من فوق رؤوسهم الحمیم، یصهر به ما فی بطونهم و الجلود، و لهم مقامع من حدید، تهشم بها جباههم، فیتفجّر الصّدید من أفواههم، و تنقطع من العطش اکبادهم، و تسیل على الخدود أحداقهم و یسقط من الوجنات لحومها، و یتمعّط«» من الأطراف جلودها، و کلّما نضجت جلودهم بدّلوا جلودا غیرها قد عریت من اللّحم عظامهم، فبقیت الأرواح منوطه بالعروق و علایق العصب، و هى تنش فی نفخ تلک النیران و هم مع ذلک یتمنّون الموت فلا یموتون.
فکیف بک لو نظرت الیهم و قد اسودّت و جوههم أشدّ سوادا من الحمیم، و اعمیت ابصارهم، و ابکمت ألسنتهم، و قصمت ظهورهم، و کسرت عظامهم. و جدعت آذانهم، و مزّقت جلودهم، و غلّت أیدیهم إلى أعناقهم، و جمع بین نواصیهم و أقدامهم و هم یمشون على النار بوجوههم و یطؤن حسک الحدید بأحداقهم، فلهیب النار سار فی بواطن أجزائهم، و حیّات الهاویه و عقاربها متشبّثه بظواهر أعضائهم.
قال أبو الدّردا: قال رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: یلقى على أهل النّار الجوع حتّى یعدل ما هم فیه من العذاب، فیستغیثون بالطعام فیغاثون بطعام من ضریع لا یسمن و لا یغنى من جوع، و یستغیثون بالطعام فیغاثون بطعام ذى غصّه فیذکرون انّهم کانوا یجیزون «یجرعون» الغصص فی الدّنیا فیستغیثون بشراب فیرفع الیهم الحمیم بکلالیب الحدید فاذ ادنت من وجوههم شوت وجوههم، فاذا دخل الشراب بطونهم قطع ما فی بطونهم فیقولون: ادعوا اخزنه جهنم، قال: فیدعون فیقولون: ادعوا ربّکم یخفّف عنّا یوما من العذاب، و یقولون أولم تک تأتیکم رسلکم بالبیّنات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الکافرین إلّا فی ضلال، قال فیقولون ادعوا مالکا، فیدعون، فیقولون: یا مالک لیقض علینا ربّک، قال فیجیبهم إنّکم ما کثون.
قال الاعمش انبئت أنّ بین دعائهم و بین اجابه مالک إیّاهم ألف عام قال: فیقولون: ادعوا ربّکم، فلا أحد خیر من ربّکم فیقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَیْنا شِقْوَتُنا وَ کُنَّا قَوْماً ضالِّینَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ.
قال: فیجیبهم: اخسئوا فیها و لا تکلّمون، قال: فعند ذلک یئسوا من کلّ خیر، و عند ذلک اخذوا فی الزّفیر و الحسره و الویل.
و عن زید بن أسلم فی قوله تعالى:سَواءٌ عَلَیْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِیصٍ.
قال صبروا مأئه سنه ثمّ جزعوا مأئه سنه ثمّ صبروا مأئه سنه ثمّ قالوا سواء علینا أجزعنا أم صبرنا.
و قال محمّد بن کعب: لأهل النار خمس دعوات یجیبهم اللّه عزّ و جلّ فی أربعه فاذا کانت الخامسه لم یتکلّموا بعدها أبدا یقولون: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَیْنِ وَ أَحْیَ