خطبه28شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ- الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ- كَلَامُكُمْ يُوهِي الصُّمَّ الصِّلَابَ- وَ فِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ

الْأَعْدَاءَ- تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ كَيْتَ وَ كَيْتَ- فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ- مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ- وَ لَا

اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ- أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ الْمَطُولِ- لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ- وَ لَا يُدْرَكُ الْحَقُّ

إِلَّا بِالْجِدِّ- أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ- وَ مَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ- الْمَغْرُورُ وَ اللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ- وَ مَنْ فَازَ بِكُمْ

فَقَدْ فَازَ وَ اللَّهِ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ- وَ مَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ-

أَصْبَحْتُ وَ اللَّهِ لَا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ- وَ لَا أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ- وَ لَا أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِكُمْ- مَا بَالُكُمْ مَا دَوَاؤُكُمْ مَا طِبُّكُمْ-

الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ- أَ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ- وَ غَفْلةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ- وَ طَمَعاً فِي غَيْرِ حَقٍّ

أقول: روى أنّ السبب في  هذه الخطبة هو غارة الضحّاك بن قيس بعد قصّة الحكمين و عزمه على المسير إلى الشام. و ذلك أنّ معاوية لمّا سمع باختلاف الناس على عليّ عليه السّلام، و تفرّقهم عنه، و قتله من قتل من الخوارج بعث الضحّاك بن قيس في نحو من أربعة آلاف فارس و أوعز عليه بالنهب و الغارة. فأقبل الضحّاك يقتل و ينهب حتّى مرّ بالثعلبيّة. فأغار على الحاجّ فأخذ أمتعتهم. و قتل عمرو بن عميس بن مسعود ابن أخي عبد اللّه بن مسعود صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قتل معه ناسا من أصحابه. فلمّا بلغ عليّا عليه السّلام ذلك استصرخ أصحابه على أطراف أعماله و استشارهم إلى لقاء العدوّ فتلكّؤوا.
و رأى منهم تعاجزا و فشلا. فخطبهم هذه الخطبة. و لنرجع إلى المتن.

اللغة

فالأهواء: الآراء، و الوهي: الضعف، و كيت و كيت: كنايه عن الحديث. و حاد عن الأمر: عدل عنه. قال الجوهري: قولهم حيدي حياد كقولهم: فيحي فياح، و نقل أنّ فياح اسم للغارة كقطام. فحياد أيضا اسم لها. و المعنيّ: اعزلي عنّا [عنها خ‏] أيّتها الحرب، و يحتمل أن يكون حياد من أسماء الأفعال كنزال. فيكون قد أمر بالتنحّي مرّتين بلفظين مختلفين. و أعاليل و أضاليل: جمع أعلال و أضلال و هما جمع علّة: اسم لما يتعلّل به من مرض و غيره، و ضلّة: اسم من الضلال بمعنى الباطل، و المطول: كثير المطال و هو تطويل الوعد و تسويفه، و الجدّ: الاجتهاد، و الأخيب: أشدّ خيبة و هي الحرمان، لأفوق: السهم المكسور الفوق و هو موضع الوتر منه، و الناصل: الّذي لا نصل فيه.

المعنى

و المقصود أنّه عليه السّلام نبّههم على ما يستقبح في الدين، و مراعاة حسن السيرة من أحوالهم و أقوالهم و أفعالهم: أمّا أحوالهم فاجتماع أبدانهم مع تفرّق آرائهم الموجب لتخاذلهم عن الذبّ عن الدين و المفرّق لشمل مصالحهم. و أمّا أقوالهم فكلامهم الّذي يضعف عند سماعه القلوب الصلبة الثابتة و يظنّ سامعه أن تحته نجدة و ثباتا و هو قولهم مثلا في مجالسهم: إنّه لا محلّ لخصومنا، و إنّا سنفعل بهم كذا، و سيكون منّا كذا. و أمثاله.

و استعار لفظي الصمّ الصلاب من أوصاف الحجارة للقلوب الّتي تضعف من سماع كلامهم كما شبّه القرآن الكريم بها: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً. و أمّا أفعالهم فهو تعقيب هذه الأقوال عند حضور القتال و دعوتهم إلى الحرب بالتخاذل و عدم التناصر و التقاعد عن إجابة داعي اللّه و كراهيّة الحرب و الفرار عن مقاتلة العدوّ، و كنّى بقوله: قلتم حيدي حياد. عن ذلك، و هى كلمة كانت تستعملها العرب عند الفرار. ثمّ أردف ذلك بما العادة أن يأنف منه من يطلب الانتصار به على وجه التضجّر منهم عن كثرة تقاعدهم عن صوته.

و ذلك قوله: ما عزّت دعوة من دعاكم. المستلزم للحكم بذلّة داعيهم، و لا استراح قلب من قاساكم. المتلزم للحكم بتعبه، و قوله: أعاليل بأضاليل. خبر مبتدأ محذوف أي و إذا دعوتكم إلى القتال تعللّتم بأعاليل هي باطلة ضلالا عن سبيل اللّه و سألتموني التأخير و تطويل المدّة دفاعا،

و قوله: دفاع ذي الدين المطول. يحتمل أن بكون تشبيها لدفاعهم له بدفاع ذي الدين فيكون منصوبا محذوف الجار، و يحتمل أن يكون قد استعار دفاع ذى الدين المطول لدفاعهم فيكون مرفوعا، و وجه الاستعارة أنّ المدين المطول أبدا مشتهي لعدم المطالبة و تودّ نفسه أن لا يراه غريمه فكذلك فهم عليه السّلام منهم أنّهم كانوا يحبّون أن لا يعرض لهم بذكر القتال و لا يطالبهم به. فاستعار لدفاعهم الدفاع المذكور لمكان المشابهة، ثمّ نبّههم على قبح الذلّ ليفيؤوا إلى فضيلة الشجاعة بذكر بعض لوازمه المنفرة و هو أنّ صاحبه لا يتمكّن من رفع الضيم عن نفسه، و على قبح التواني و التخاذل بأنّه لا يدرك الإنسان حقّه إلّا بضدّ ذلك و هو الجدّ و التشمير في طلبه، ثمّ أعقب ذلك بالسؤال على جهة الإنكار و التقريع عن تعبين الدار الّتي ينبغي لهم حمايتها بعد دار الإسلام الّتي لا نسبة لغيرها إليها في العزّ و الكرامة عند اللّه و وجوب الدفع عنها و الّتي هي موطنهم و محلّ دولتهم. كذلك قوله: و مع أىّ إمام بعدي تقاتلون. و فيه تنبيه لهم على أفضليّته و ما وثق به من إخلاص نفسه للّه في جميع حركاته، و تثبيت لهم على طاعته إذ كان عليه السّلام يتوهّم في بعضهم الميل إلى معاوية و الرغبة فيما عنده من الدنيا. ثمّ أردف ذلك بذمّ من اغترّ بكلامهم و نسبه إلى الغرور و الغفلة.

ثمّ بالإخبار عن سوء حال من كانوا حزبه و من يقاتل بهم: أمّا الأوّل: فهو قوله: المغرور و اللّه من غرّرتموه. و المقصود بالحقيقة ذمّهم و توبيخهم على خلف المواعيد و المماطلة بالنفار إلى الحرب لأنّه إنّما ينسب من وثق بهم إلى الغرور بعد خلفهم في وعدهم له بالنهوض معه. و جعل المغرور مبتدأ و من خبره أبلغ في إثبات الغرّة لمن اغترّ بهم من العكس لاقتضاء الكلام إذن انحصار المغرور في من اغترّ بهم. و لا كذلك لو كان من مبتدأ. و أمّا الثاني: فهو قوله: و من فاز بكم فقد فاز بالسهم الأخيب و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. و قد شبّه نفسه و خصومه باللاعبين بالميسر، و لا حظ شبه حصولهم في حقّه. بخروج أحد السهام الخائبة الّتي لا غنم لها أو الأوغاد الّتي فيها غرم كالّتي لم يخرج حتّى استوفيت أجزاء الجزور فحصل لصاحبها غرم و خيبة. فلأجل ملاحظة هذا الشبه استعار لهم لفظ السهم بصفة الأخيب، و إطلاق الفوز هنا مجاز في حصولهم له من باب إطلاق اسم أحد الضدّين على الآخر كتسمية السيّئة جزاء. كذلك لاحظ المشابهة بين رجال الحرب و بين السهام في كون كلّ منهما عدّة للحرب و دفع العدوّ و لاحظها أيضا بين إرسالهم في الحرب و بين الرمي بالسهام. فلأجل ذلك استعار أوصاف السهم من الأفوق و الناصل، و استعار لفظ الرمي لمقاتلته بهم ثمّ خصّصهم بأردء أوصاف السهم الّتي يبطل معها فائدته لمشابتهم ذلك السهم في عدم الانتفاع بهم في الحرب. و كأنّه أيضا خصّص بعثه لهم إلى الحرب باستعارة الرمى بالسهم الموصوف لزيادة الشبه و هي عدم انبعاثهم عن أمره.

و تجاوزهم أوطانهم كالرمى بالسهم الّذي لا فوق له و لا نصل فإنّه لا يكاد يتجاوز عن القوس مسافة. و هي من لطائف ملاحظات المشابهة و الاستعارة عنها. و المعنى أنّ من حصلتم في حربه فالخيبة حاصلة له فيما يطلب بكم، و من قاتل بكم عدوّه فلا نفع له فيكم. ثمّ أردفه بالإخبار عن نفسه بامور نشأت عن إساءة ظنّه بهم و عدم وثوقه بأقوالهم بكثرة خلفهم و مواعيدهم الباطلة بالنهوض معه و هي أنّه لا يصدّقهم لأنّه من أكثر من شي‏ء عرف به. و من أمثالهم: إنّ الكذوب‏ لا يصدّق و أنّه لا يطمع في نصرهم و أنّه لا يوعد بهم عدوّهم إذ كان وعيده بهم مع طول تخلّفهم و شعور العدوّ بذلك ممّا يوجب جرأته و تسلّطه و أمانه من المقاومة. ثمّ أردفه بالاستفهام على سبيل الاستنكار و التقريع عن حالهم الّتي توجب لهم التخاذل و التصامم عن ندائه و هو قوله: ما بالكم. ثمّ عن دوائهم الصالح للمرض الّذي هم فيه.
ثمّ عن كيفيّة علاجهم منه بقوله: ما دوائكم ما طبّكم. و قيل أراد بقوله ما طبّكم أي ما عادتكم و الأوّل أظهر و أليق. ثمّ نبّههم على ما عساهم يتوهّمونه من قوّة خصومهم و بأسهم بأنّهم رجال أمثالكم في الرجوليّة الّتي هي مظنّة الشجاعة و البأس فلا مزيّة لهم عليكم فلا معنى للخوف منهم. ثمّ عاد إلى سؤالهم على جهة التقريع و نبّههم به على امور لا ينبغي، منفور عنها، مستقبحة في الشريعة و العادة.
فأوّلا: عن قولهم ما لا يفعلون و هو إشارة إلى ما يعدون به من النهوض إلى الحرب ثمّ لا يفعلون و ذلك بقوله: أقولا بغير عمل تذكيرا لهم بما يستلزم ذلك من المقت عند اللّه كما اشير إليه في القرآن الكريم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ«» و على الرواية الثانية و هي أقولا بغير علم أى أ تقولون بألسنتكم ما ليس في قلوبكم و لا تعتقدونه و تجزمون به من أنّا سنفعل كذا. و يحتمل أن يكون معناه أ تقولون إنّا مخلصون للّه و إنّا مسلمون و لا تعلمون شرائط الإسلام و الايمان. و ثانيا: عن غفلتهم الّتي ليست عن ورع و هي عدم تعقّلهم للمصالح الّتي ينبغي أن يكونوا عليها و هي طرف التفريط من فضيلة الفطانة. و هذه بخلاف الغفلة مع الورع.

فإنّ تلك نافعة في المعاد إن كان الورع عبارة عن لزوم الأعمال الجميلة المستعدّة في الآخرة فالغفلة معه عن الامور الدنيويّة و المصالح المتعلّقة بجزئيّاتها ليست بضارّة، بل ربما كانت سببا للخلاص من عذاب ما في الآخرة. و ثالثا: عن طمعهم في غير حقّ أى في أن يمنحهم ما لا يستحقّونه لينهضوا معه و يجيبوا دعوته، و كأنّه عليه السّلام عقل من بعضهم أنّ أحد أسباب تخلّفهم من ندائه‏

إنّما هو طمعهم في أن يوفر عطيّاتهم و يمنحهم زيادة على ما يستحقّون كما فعل غيره مع غيرهم فأشار إلى ذلك و نبّههم على قبحه من حيث إنّه طمع في غير حقّ.
و اللّه أعلم.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 50

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.