خطبه155شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم

القسم الأول

فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ- أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَلْيَفْعَلْ- فَإِنْ أَطَعْتُمُونِي- فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ- وَ إِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ مَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ- وَ أَمَّا فُلَانَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ النِّسَاءِ- وَ ضِغْنٌ غَلَا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ- وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ- وَ لَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الْأُولَى وَ الْحِسَابُ عَلَى اللَّهِ

اللغة

أقول:

اعتقل نفسه: أي ضبطها و حبسها.

و الضغن: الحقد.

و المرجل: القدر.

المعنى

و قوله: عند ذلك. يقتضى أنّه سبق منه قبل هذا الفصل ذكر فتن و حروب يقع بين المسلمين وجب على من أدركها أن يحبس نفسه على طاعة اللّه دون مخالطتها و الدخول فيها، و سبيل الجنّة هو الدين القيّم، و ظاهر شرط حمله لهم عليه بالطاعة. إذ لا رأى لمن لا يطاع، و نبّه على أنّ من الدين الحقّ ما هو ذو مشقّة شديدة و مذاقة مريرة كالجهاد، و كذلك سائر التكاليف لها مشقّة، و فلانة كناية عن عايشة و إدراك رأي النساء لها في حربه بالبصرة، و قد علمت أنّ رأى النساء يرجع إلى أفن و ضعف.

و في الخبر: لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، و جاء: إنّهنّ قليلات عقل و دين. كما سبق بيان أخلاقهنّ، و أمّا الضغن فقد نقل له أسباب عدّة: منها ما كان بينها و بين فاطمة عليها السّلام بسبب تزويج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لها عقيب موت خديجة امّ فاطمة، و إقامتها مقامها، و من المعلوم المعتاد ما يقع بين المرأة و ابنة زوجها من غيرها من الكدر، و كان سبب البغض من المرأة لبنت الزوج حركة المتخيّلة بإقامة البنت مقام الامّ الّتي هي ضرّة لها و تشبيهها بها فتقيمها مقام الضرّة، و تتوهّم فيها العداوة و البغضاء ثمّ ينشأ ذلك الخيال و يقوى بأسباب اخرى فيتأكّد البغض خصوصا إن كان الزوج أكرم لبنته كما هو المنقول من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حقّ فاطمة عليها السّلام، و أمّا من جهة البنت فلتخيّلها أنّها ضرّة امّها و توهّمها بسبب ذلك بغضها لها، و الباغض للامّ باغض للبنت لا محالة، و يتأكّد ذلك بالميل المنقول عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حقّ عايشة و إيثارها على سائر نسائه، و النفوس البشريّة خصوصا نفوس النساء تغيظ على ما دون ذلك فكيف بذلك منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا شكّ في تعدّى ذلك إلى نفس بعلها عليه السّلام فإنّ النساء كثيرا ما يحصل بسببهنّ الأحقاد في قلوب الرجال، و عن بعض الحكماء: إذا رأيت في الدنيا خصومة ليست بسبب امرأة فاحمد اللّه تعالى فإنّها أمر عجيب، و كثيراً ما كانت فاطمة عليها السّلام تشكو إلى بعلها من عايشة. و منها ما كان من أمر قذف عايشة، و نقل إنّ عليّا عليه السّلام كان من المشيرين بطلاقها تنزيها لعرض الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أقوال المنافقين، و قال له لمّا استشاره: إن هي إلّا شسع نعلك، و قال: اسأل الخادمة و خوّفها فإن أقامت على الجحود فاضربها. و بلغها كلّ ذلك الكلام و سمعت أضعافه من الغير ممّا جرت عادة الناس أن يتداولنه في مثل هذه الواقعة، و نقل إليها النساء: إنّ عليّا عليه السّلام و فاطمة سرّا بذلك. فتفاقم الأمر و غلظ. ثمّ لمّا نزلت براءتها و صالحها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ظهر منها ما جرت العادة بظهوره ممّن انتصر بعد ظلمه و ينتصر بعد غلبه من بسط اللسان و التبجّح بالبراءة من العيب، و فلتات القول في أثناء ذلك. و بلغ ذلك عليّا و فاطمة عليهما السّلام، و منها كون النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سدّ باب أبى بكر من المسجد و فتح باب صهره، و منها بعثه إيّاها بسورة براءة، ثمّ أخذها منه و دفعها إلى عليّ عليه السّلام. إلى غير ذلك من الأسباب الجزئيّة الّتي تشهد بها قرائن الأحوال و لا تكاد تتبيّن بالأقوال. فإنّ كلّ ذلك ممّا يثير الأحقاد و يؤكّد الأضغان.

و قوله: و لو دعيت. إلى آخره. كلام حقّ لمكان الباعث لها في حقّه دون غيره. و قوله: و لها بعد حرمتها الاولى. وجه اعتذاره في الكفّ عن أذاها بعد استحقاقها للأذى في نظره، و حرمتها بنكاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كونها زوجة له. و قوله: و الحساب على اللّه. تنبيه على أنّه و إن سامحها في الدنيا بما فعلت فإنّ اللّه تعالى هو المتولّى لحسابها في الآخرة، و لعلّ هذا الكلام منه عليه السّلام قبل إظهارها للتوبة و علمه بذلك لأنّه في معنى إظهار الوعيد لها من اللّه.

القسم الثاني منها:

سَبِيلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ أَنْوَرُ السِّرَاجِ- فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ- وَ بِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَ بِالْإِيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ- وَ بِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ وَ بِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا- وَ بِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الْآخِرَةُ- وَ إِنَّ الْخَلْقَ لَا مَقْصَرَ لَهُمْ عَنِ الْقِيَامَةِ- مُرْقِلِينَ فِي مِضْمَارِهَا إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى

اللغة

أقول:

[ازلفت خ‏]: قدّمت و قربت.

و الإرقال: ضرب من الخبب.

و لا مقصر له عن كذا: أي لا محبس.

المعنى

و مبدء الفصل في وصف الإيمان، و المراد بالإيمان التصديق القلبىّ بالتوحيد و بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا شكّ في كونه سبيلا أبلج واضح المسلك إلى الجنّة أنور السراج في ظلمات الجهل، و لفظ السراج مستعار، و الصالحات هي الأعمال الصالحات من ساير العبادات و مكارم الأخلاق الّتي وردت بها الشريعة، و ظاهر كونها معلولات للإيمان و ثمرات له يستدلّ بوجوده في قلب العبد على ملازمته لها استدلالا بالعلّة على المعلول، و يستدلّ بصدورها من العبد على وجود الإيمان في قلبه استدلالا بالمعلول على العلّة، و أمّا قوله: و بالإيمان يعمر العلم.

فلأنّ‏ الإيمان بالتفسير المذكور إذا عضده البرهان كان علما و هو روح العلوم، و يطلق اسم الإيمان عليه مع ثمراته، و هي الأعمال الصالحة لأنّها من كمالاته و لا تمام له و لا منفعة بدونها فإنّ العلم إذا لم يعضد بالعمل فهو قليل الفائدة في الآخرة بل لا ثمرة له فهو كالخراب الغير الصالح للاقتناء فكما لا يصلح الخراب للسكنى فكذلك العلم الخالى عن الأعمال الصالحة فلذلك قال عليه السّلام في موضع آخر: العلم مقرون بالعمل، و العلم يهتفّ بالعمل فإن جاء به و إلّا ارتحل، و أمّا قوله: و بالعلم يرهب الموت. فلأنّ العلم باللّه تعالى و غاية خلقه للإنسان و ملاحظة نسبة الدنيا إلى الآخرة و العلم بأحوال المعاد يستلزم ذكر الموت و دوام ملاحظته و ذلك مستلزم لرهبته و العمل له و لما بعده. و قوله: و بالموت يختم الدنيا. ظاهر إذ الدنيا عبارة عمّا فيه الإنسان قبل الموت من التصرّفات البدنيّة. و قوله: و بالدنيا تحرز الآخرة. إشارة إلى أنّ الدنيا محلّ الاستعداد لتحصيل الزاد ليوم المعاد، و فيها يحصل كمال النفوس الّذي تحرز به سعادة الآخرة. و قد سبق بيانه. و قوله: [بالقيامة تزلف الجنّة للمتّقين و تبرز الجحيم للغاوين خ‏]. إشارة لطيفة ذكرناها غير مرّه. و هو أنّ بالموت و طرح جلباب البدن يتبيّن ما للإنسان و ما عليه ممّا قدّم من خير أو شرّ و إن كانت ثمرة ذلك أثرا حاصلا للنفس في الدنيا لأنّ التألّم به و الالتذاذ إنّما يحصل لها بعد طرح البدن.

و إليه الإشارة بقوله تعالى «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً»«» و لفظ الإزلاف و البروز يشهد بذلك لأنّ فيه معنى الظهور: أى ظهور الإدراك إذن. و قوله: و إنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة. إلى آخره. كلام في غاية الحسن مع غزارة الفائدة، و هو إشارة إلى أنّه لا بدّ لهم من‏ ورود القيامة. و مضمارها: مدّة الحياة الدنيا. و هو لفظ مستعار، و وجه المشابهة كون تلك المدّة محلّ استعداد النفوس للسباق إلى حضرة اللّه كما أنّ المضمار محلّ استعداد الخيل للسباق، و قد سبق بيان ذلك في قوله: ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السباق، و مرقلين: حال. و إرقالهم كناية عن سيرهم المتوهّم في مدّة أعمارهم إلى الآخرة و سرعة حثيث الزمان بهم في إعداد أبدانهم للخراب، و الغاية القصوى هي السعادة و الشقاوة الاخرويّة.

القسم الثالث منها:

قَدْ شَخَصُوا مِنْ مُسْتَقَرِّ الْأَجْدَاثِ- وَ صَارُوا إِلَى مَصَايِرِ الْغَايَاتِ لِكُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا- لَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَ لَا يُنْقَلُونَ عَنْهَا- وَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ- لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- وَ إِنَّهُمَا لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ- وَ لَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ- وَ عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ- فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ وَ النُّورُ الْمُبِينُ- وَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ وَ الرِّيُّ النَّاقِعُ- وَ الْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ وَ النَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ- لَا يَعْوَجُّ فَيُقَامَ وَ لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ- وَ لَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ وَ وُلُوجُ السَّمْعِ- مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَ مَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ و قام إليه رجل و قال: أخبرنا عن الفتنة، و هل سألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عليه السّلام: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا- أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ- عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنْزِلُ بِنَا- وَ رَسُولُ اللَّهِ ص بَيْنَ أَظْهُرِنَا- فَقُلْتُ‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا- فَقَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي- فَقُلْتُ يَا رَسُولُ اللَّهِ- أَ وَ لَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ- حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ- وَ حِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ- فَقُلْتَ لِي أَبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ- فَقَالَ لِي إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ- وَ لَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى وَ الشُّكْرِ- وَ قَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ- وَ يَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ- وَ يَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ وَ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ- وَ يَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ- وَ الْأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ- وَ السُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ وَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ- قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ- بِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ- أَ بِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ فَقَالَ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ

المعنى

أقول:

صدر هذا الفصل صفة حال أهل القبور في القيامة.

و مصائر الغايات: الجنّة و النار، و ظاهر أنّ لكلّ دار منهما أهل لا يستبدلون بها، و يجب أن يعنى بأهل النار الكفّار ليتمّ قوله: لا يستبدلون بها و لا ينقلون عنها فإنّ العصاة من أهل القبلة و إن صحّ أنّهم يعذّبون لكن ثبت أنّهم ينتقلون عنها. و قوله: و إنّ الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر. إلى قوله: من رزق. حثّ عليهما، يذكر كونهما خلقين من خلق اللّه. و اعلم أنّ إطلاق لفظ الخلق على اللّه استعارة لأنّ حقيقة الخلق أنّه ملكة نفسانيّة تصدر عن الإنسان‏ بها أفعال خيريّة أو شرّيّة. و إذ قد تنزّه قدسه تعالى عن الكيفيّات و الهيئات لم يصدق هذا اللفظ عليه حقيقة لكن لمّا كان الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر من الأخلاق الفاضلة أشبه ما نعتبره له تعالى من صفات الكمال و نعوت الجلال الّتي ينسب إليها ما يصدر عنه من الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و الأفعال الخيريّة الّتي بها نظام العالم و بقاؤه كحكمته و قدرته وجوده و عنايته و عدم حاجته ما يتعارف من الأخلاق الفاضلة الّتي تصدر عنها الأفعال الخيريّة و الشرّيّة فاستعير لها لفظ الأخلاق، و اطلق عليه. فأمّا كونهما لا يقرّبان الأجل و لا ينقصان الرزق فلأنّ كثيرا من ضعفاء الاعتبار العقلىّ يمنعهم عن الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر توهّم أحد الأمرين، و خصوصا ترك نهى الملوك من المنكرات. ثمّ شرع في الحثّ على لزوم كتاب اللّه بأوصاف نبّه بها على فضيلته:

الأوّل: كونه الحبل المتين، و لفظ الحبل مستعار له، و وجه المشابهة كونه سببا لنجاة المتمسّك به من الهوى في دركات الجحيم كالحبل في نجاة المتمسّك به، و رشّح بذكر المتانة.

الثاني: كونه نورا مبينا، و لفظ النور أيضا استعارة له باعتبار الاهتداء به إلى المقاصد الحقيقيّة في سلوك سبيل اللّه.

الثالث: كونه الشفاء النافع: أي من ألم الجهل، و كذلك الرىّ الناقع: أى للعطشان من ماء الحياة الأبديّة كالعلوم و الكمالات الباقية.

الرابع: كونه عصمة للمتمسّك و نجاة للمتعلّق، و معناه كالّذي سبق في كونه حبلا.

الخامس: لا يعوجّ فيقام. إذ ليس هو كسائر اللآلات المحسوسة.

السادس: و لا يزيع فيستعتب: أى يطلب منه العتبى و الرجوع إلى الحقّ كما يفعله سائر الحكام من الناس.

السابع: كونه و لا تخلقه كثرة الردّ: أى الترديد في الألسنة و ولوج الأسماع و هو من خصائص القرآن الكريم فإنّ كلّ كلام نثر أو نظم إذا كثرت تلاوته محّته‏ الأسماع و استهجن إلّا القرآن الكريم فإنّه لا يزال غضّا طريّا يزداد على طول التكرار في كرور الأعصار محبّة في القلوب و حسنا، و الّذي يلوح من سرّ ذلك كثرة أسراره و غموضها الّتي لا يطّلع عليها إلّا الأفراد مع كونه في غاية من فصاحة الألفاظ و عذوبة المسمع. فأمّا ما حكاه من سؤاله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جواب الرسول له فقد روى كثير من المحدّثين عنه عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ اللّه قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب علىّ جهاد المشركين. قال: فقلت: يا رسول اللّه و ما هذه الفتنة الّتي كتب عليّ فيها الجهاد قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه و هم مخالفون للسنّة. فقلت: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فعلام اقاتلهم و هم يشهدون كما أشهد. قال: على الإحداث في الدين و مخالفة الأمر. فقلت: يا رسول اللّه إنّك كنت وعدتنى بالشهادة فاسأل اللّه أن يعجّلها لى بين يديك. قال: فمن يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين أما إنّي وعدتك الشهادة و ستشهد تضرب على هذا فتخضب هذه فكيف صبرك إذن. فقلت: يا رسول اللّه ليس ذا [هذا خ‏] بموطن صبر هذا موطن شكر. قال: أجل أصبت فأعدّ للخصومة فإنّك مخاصم. فقلت: يا رسول اللّه لو بيّنت لى قليلا. فقال: إنّ امّتى ستفتن من بعدى فتتأوّل القرآن و تعمل بالرأى و تستحلّ الخمر بالنبيذ و السحت بالهدية و الربا بالبيع و تحرّف الكتاب عن مواضعه و تغلب كلمة الضلال فكن حلس بيتك حتّى تقلّدها فإذا قلّدتها جاشت عليك الصدور و قلبت لك الامور فقاتل حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فليست حالهم الثانية دون حالهم الاولى. فقلت: يا رسول اللّه فبأىّ المنازل هؤلاء المفتونين أ بمنزلة فتنة أم بمنزلة ردّة. فقال: بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل. فقلت: يا رسول اللّه أ يدركهم العدل منّا أم من غيرنا قال: بل منّا فبنا فتح و بنا يختم و بنا ألّف اللّه بين القلوب بعد الشرك. فقلت: الحمد للّه على ما وهب لنا من فضله.

و ليس في هذا الفصل غريب ينبّه عليه سوى قوله: ليس هذا من مواطن الصبر و لكن من مواطن الشكر. فإنّك علمت فيما سلف أنّ الصبر و الشكر من أبواب الجنّة و المقامات العالية للسالك إلى اللّه تعالى لكن علمت أنّ‏ مقام الشكر أرفع من مقام الصبر، و لمّا كان هو عليه السّلام سيّد العارفين بعد سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا جرم كان أولى من صدرت عنه هذه الإشارة فأمّا إخبار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّ الناس سيفتنون بأموالهم و يمنّون بدينهم على ربّهم و يتمنّون رحمته و يأمنون سطوته و سائر ما أخبر به. إلى قوله: بالبيع. فكلّ ذلك مشاهد في زماننا و قبله بقرون، و أمّا كون ذلك منزلة فتنة لا منزلة ردّة فلبقائهم على الإقرار بالشهادتين و إن ارتكبوا من المحارم ما ارتكبوا لشبه غطّت على أعين أبصارهم. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانى )، ج 3 ، صفحه‏ى 258

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.