خطبه 91 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(لما أراده الناس على البيعة- بعد قتل عثمان رضي الله عنه)

91 و من كلام له ع لما أراده الناس على البيعة- بعد قتل عثمان رضي الله عنه

دَعُونِي وَ الْتَمِسُوا غَيْرِي- فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً- لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ- لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ- وَ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ- وَ إِنَّ الآْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ- وَ الْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ- . وَ اعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ- رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ- وَ لَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَ عَتْبِ الْعَاتِبِ- وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ- وَ لَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ- لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ- وَ أَنَا لَكُمْ وَزِيراً- خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً في أكثر النسخ لما اراده الناس على البيعة- و وجدت في بعضها أداره الناس على البيعة- فمن روى الأول جعل على متعلقة بمحذوف- و تقديره موافقا- و من روى الثاني- جعلها متعلقة بالفعل الظاهر نفسه و هو أداره- تقول أدرت فلانا على كذا- و داورت فلانا على كذا أي عالجته- . و لا تقوم له القلوب أي لا تصبر- و أغامت الآفاق غطاها الغيم- أغامت و غامت و أغيمت و تغيمت كله بمعنى- و المحجة الطريق- و تنكرت جهلت فلم تعرف- و وزيرا و أميرا منصوبان على الحال- .

و هذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره- و يقولون إنه ع لم يكن منصوصا عليه- بالإمامة من جهة الرسول ص- و إن كان أولى الناس بها و أحقهم بمنزلتها- لأنه لو كان منصوصا عليه بالإمامة- من جهة الرسول ع- لما جاز له أن يقول دعوني و التمسوا غيري- و لا أن يقول و لعلي أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم- و لا أن يقول و أنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا- و تحمله الإمامية على وجه آخر- فيقولون إن الذين أرادوه على البيعة- هم كانوا العاقدين بيعة الخلفاء من قبل- و قد كان عثمان منعهم- أو منع كثيرا منهم عن حقه من العطاء- لأن بني أمية استأصلوا الأموال في أيام عثمان- فلما قتل قالوا لعلي ع- نبايعك على أن تسير فينا سيرة أبي بكر و عمر- لأنهما كانا لا يستأثران بالمال لأنفسهما و لا لأهلهما- فطلبوا من علي ع البيعة- على أن يقسم عليهم بيوت الأموال قسمة أبي بكر و عمر- فاستعفاهم و سألهم أن يطلبوا غيره ممن يسير بسيرتهما-

و قال لهم كلاما تحته رمز- و هو قوله إنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان- لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول- و إن الآفاق قد أغامت و المحجة قد تنكرت- . قالوا و هذا كلام له باطن و غور عميق- معناه الإخبار عن غيب يعلمه هو و يجهلونه هم- و هو الإنذار بحرب المسلمين بعضهم لبعض- و اختلاف الكلمة و ظهور الفتنة- . و معنى قوله- له وجوه و ألوان- أنه موضع شبهة و تأويل- فمن قائل يقول أصاب علي- و من قائل يقول أخطأ- و كذلك القول في تصويب محاربيه- من أهل الجمل و صفين و النهروان و تخطئتهم- فإن المذاهب فيه و فيهم تشعبت و تفرقت جدا- . و معنى قوله الآفاق قد أغامت- و المحجة قد تنكرت- أن الشبهة قد استولت على العقول و القلوب- و جهل أكثر الناس محجة الحق أين هي- فأنا لكم وزيرا عن رسول الله ص- أفتي فيكم بشريعته و أحكامه- خير لكم مني أميرا محجورا عليه-مدبرا بتدبيركم- فإني أعلم أنه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيرة رسول الله ص- في أصحابه مستقلا بالتدبير- لفساد أحوالكم و تعذر صلاحكم- .

و قد حمل بعضهم كلامه على محمل آخر- فقال هذا كلام مستزيد شاك من أصحابه- يقول لهم دعوني و التمسوا غيري- على طريق الضجر منهم- و التبرم بهم و التسخط لأفعالهم- لأنهم كانوا عدلوا عنه من قبل- و اختاروا عليه- فلما طلبوه بعد أجابهم جواب المتسخط العاتب- . و حمل قوم منهم الكلام على وجه آخر- فقالوا إنه أخرجه مخرج التهكم و السخرية- أي أنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا فيما تعتقدونه- كما قال سبحانه ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ- أي تزعم لنفسك ذلك و تعتقده- .

و اعلم أن ما ذكروه ليس ببعيد أن يحمل الكلام عليه- لو كان الدليل قد دل على ذلك- فأما إذا لم يدل عليه دليل فلا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره- و نحن نتمسك بالظاهر إلا أن تقوم دلالة على مذهبهم- تصدنا عن حمل اللفظ عن ظاهره- و لو جاز أن تصرف الألفاظ عن ظواهرها- لغير دليل قاهر يصدف و يصد عنها- لم يبق وثوق بكلام الله عز و جل- و بكلام رسوله ع- و قد ذكرنا فيما تقدم كيفية الحال- التي كانت بعد قتل عثمان- و البيعة العلوية كيف وقعت فصل فيما كان من أمر طلحة و الزبير عند قسم المال و نحن نذكر هاهنا في هذه القصة- ما ذكره شيخنا أبو جعفر الإسكافي- في كتابه‏ الذي نقض فيه كتاب العثمانية- لشيخنا أبي عثمان- فإن الذي ذكره لم نورده نحن فيما تقدم- .

قال أبو جعفر- لما اجتمعت الصحابة في مسجد رسول الله ص- بعد قتل عثمان للنظر في أمر الإمامة- أشار أبو الهيثم بن التيهان- و رفاعة بن رافع و مالك بن العجلان- و أبو أيوب الأنصاري و عمار بن ياسر بعلي ع- و ذكروا فضله و سابقته و جهاده و قرابته- فأجابهم الناس إليه- فقام كل واحد منهم خطيبا يذكر فضل علي ع- فمنهم من فضله على أهل عصره خاصة- و منهم من فضله على المسلمين كلهم كافة- ثم بويع و صعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة- و هو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة- فحمد الله و أثنى عليه- و ذكر محمدا فصلى عليه- ثم ذكر نعمة الله على أهل الإسلام- ثم ذكر الدنيا فزهدهم فيها- و ذكر الآخرة فرغبهم إليها-

ثم قال أما بعد- فإنه لما قبض رسول الله ص استخلف الناس أبا بكر- ثم استخلف أبو بكر عمر فعمل بطريقه ثم جعلها شورى بين ستة- فأفضي الأمر منهم إلى عثمان- فعمل ما أنكرتم و عرفتم ثم حصر و قتل- ثم جئتموني طائعين فطلبتم إلي- و إنما أنا رجل منكم لي ما لكم و علي ما عليكم- و قد فتح الله الباب بينكم و بين أهل القبلة- و أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم- و لا يحمل هذا الأمر- إلا أهل الصبر و البصر و العلم بمواقع الأمر- و إني حاملكم على منهج نبيكم ص- و منفذ فيكم ما أمرت به إن استقمتم لي- و بالله المستعان- ألا إن موضعي من رسول الله ص بعد وفاته- كموضعي منه أيام حياته- فامضوا لما تؤمرون به- و قفوا عند ما تنهون عنه- و لا تعجلوا في أمر حتى نبينه لكم- فإن لنا عن كل أمر تنكرونه عذرا- ألا و إن الله عالم من فوق سمائه و عرشه- أني كنت كارها للولاية على أمة محمد- حتى اجتمع رأيكم على ذلك- لأني سمعت رسول الله ص يقول- أيما وال ولي الأمر من بعدي- أقيم على حد الصراط-و نشرت الملائكة صحيفته- فإن كان عادلا أنجاه الله بعدله- و إن كان جائرا انتفض به الصراط حتى تتزايل مفاصله ثم يهوى إلى النار- فيكون أول ما يتقيها به أنفه و حر وجهه- و لكني لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم- ثم التفت ع يمينا و شمالا- فقال ألا لا يقولن رجال منكم غدا- قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار- و فجروا الأنهار و ركبوا الخيول الفارهة- و اتخذوا الوصائف الروقة- فصار ذلك عليهم عارا و شنارا- إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه- و أصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون-

فينقمون ذلك- و يستنكرون و يقولون حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا- ألا و أيما رجل من المهاجرين و الأنصار- من أصحاب رسول الله ص يرى- أن الفضل له على من سواه لصحبته- فإن الفضل النير غدا عند الله- و ثوابه و أجره على الله- و أيما رجل استجاب لله و للرسول- فصدق ملتنا و دخل في ديننا و استقبل قبلتنا- فقد استوجب حقوق الإسلام و حدوده- فأنتم عباد الله و المال مال الله يقسم بينكم بالسوية- لا فضل فيه لأحد على أحد- و للمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء- و أفضل الثواب- لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا و لا ثوابا- و ما عند الله خير للأبرار- و إذا كان غدا إن شاء الله فاغدوا علينا- فإن عندنا مالا نقسمه فيكم- و لا يتخلفن أحد منكم عربي و لا عجمي- كان من أهل العطاء أو لم يكن- إلا حضر إذا كان مسلما حرا- أقول قولي هذا- و أستغفر الله لي و لكم ثم نزل- .

قال شيخنا أبو جعفر- و كان هذا أول ما أنكروه من كلامه ع- و أورثهم الضغن عليه- و كرهوا إعطاءه و قسمه بالسوية- فلما كان من الغد غدا و غدا الناس لقبض المال- فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه- ابدأ بالمهاجرين فنادهم- و أعط كل‏ رجل ممن حضر ثلاثة دنانير- ثم ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك- و من يحضر من الناس كلهم- الأحمر و الأسود فاصنع به مثل ذلك- . فقال سهل بن حنيف يا أمير المؤمنين- هذا غلامي بالأمس و قد أعتقته اليوم- فقال نعطيه كما نعطيك- فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير- و لم يفضل أحدا على أحد- و تخلف عن هذا القسم يومئذ- طلحة و الزبير و عبد الله بن عمر- و سعيد بن العاص و مروان بن الحكم- و رجال من قريش و غيرها- . قال- و سمع عبيد الله بن أبي رافع عبد الله بن الزبير- يقول لأبيه و طلحة و مروان و سعيد- ما خفي علينا أمس من كلام علي ما يريد- فقال سعيد بن العاص و التفت إلى زيد بن ثابت- إياك أعني و اسمعي يا جارة- فقال عبيد الله بن أبي رافع- لسعيد و عبد الله بن الزبير- إن الله يقول في كتابه وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ- .

ثم إن عبيد الله بن أبي رافع أخبر- عليا ع بذلك- فقال و الله إن بقيت و سلمت لهم- لأقيمنهم على المحجة البيضاء و الطريق الواضح- قاتل الله ابن العاص- لقد عرف من كلامي و نظري إليه أمس- أني أريده و أصحابه ممن هلك فيمن هلك- . قال فبينا الناس في المسجد بعد الصبح- إذ طلع الزبير و طلحة- فجلسا ناحية عن علي ع- ثم طلع مروان و سعيد و عبد الله بن الزبير- فجلسوا إليهما- ثم جاء قوم من قريش- فانضموا إليهم- فتحدثوا نجيا ساعة- ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط- فجاء إلى علي ع- فقال يا أبا الحسن- إنك قد وترتنا جميعا- أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبرا- و خذلت أخي يوم الدار بالأمس- و أما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب- و كان ثور قريش- و أما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه- و نحن إخوتك‏ و نظراؤك من بني عبد مناف- و نحن نبايعك اليوم- على أن تضع عنا ما أصبناه- من المال في أيام عثمان- و أن تقتل قتلته- و إنا إن خفناك تركناك- فالتحقنا بالشام- .

فقال أما ما ذكرتم من وتري إياكم- فالحق وتركم- و أما وضعي عنكم ما أصبتم- فليس لي أن أضع حق الله عنكم- و لا عن غيركم- و أما قتلي قتلة عثمان- فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس- و لكن لكم علي- إن خفتموني أن أؤمنكم- و إن خفتكم أن أسيركم- . فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم- و افترقوا على إظهار العداوة و إشاعة الخلاف- فلما ظهر ذلك من أمرهم- قال عمار بن ياسر لأصحابه- قوموا بنا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم- فإنه قد بلغنا عنهم- و رأينا منهم ما نكره من الخلاف- و الطعن على إمامهم- و قد دخل أهل الجفاء بينهم- و بين الزبير و الأعسر العاق يعني طلحة- .

فقام أبو الهيثم و عمار و أبو أيوب و سهل بن حنيف- و جماعة معهم فدخلوا على علي ع- فقالوا يا أمير المؤمنين- انظر في أمرك و عاتب قومك- هذا الحي من قريش- فإنهم قد نقضوا عهدك- و أخلفوا وعدك- و قد دعونا في السر إلى رفضك- هداك الله لرشدك- و ذاك لأنهم كرهوا الأسوة- و فقدوا الأثرة- و لما آسيت بينهم و بين الأعاجم أنكروا- و استشاروا عدوك و عظموه- و أظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة- و تألفا لأهل الضلالة فرأيك- .

فخرج علي ع- فدخل المسجد و صعد المنبر مرتديا بطاق- مؤتزرا ببرد قطري متقلدا سيفا- متوكئا على قوس فقال أما بعد فإنا نحمد الله ربنا و إلهنا و ولينا- و ولي النعم علينا- الذي أصبحت نعمه علينا ظاهرة و باطنة- امتنانا منه بغير حول منا و لا قوة- ليبلونا أ نشكر أم نكفر- فمن شكر زاده و من كفر عذبه- فأفضل الناس عند الله منزلة- و أقربهم من الله وسيلة أطوعهم لأمره-و أعملهم بطاعته و أتبعهم لسنة رسوله- و أحياهم لكتابه- ليس لأحد عندنا فضل إلا بطاعة الله و طاعة الرسول- هذا كتاب الله بين أظهرنا- و عهد رسول الله و سيرته فينا- لا يجهل ذلك إلا جاهل عاند عن الحق منكر- قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏- وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ- لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ- ثم صاح بأعلى صوته- أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أطيعوا الرَّسُولُ- فإن توليتم فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ- ثم قال يا معشر المهاجرين و الأنصار- أ تمنون على الله و رسوله بإسلامكم- بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ- أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- ثم قال أنا أبو الحسن- و كان يقولها إذا غضب-

ثم قال ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم- تمنونها و ترغبون فيها- و أصبحت تغضبكم و ترضيكم- ليست بداركم و لا منزلكم الذي خلقتم له- فلا تغرنكم فقد حذرتكموها- و استتموا نعم الله عليكم بالصبر- لأنفسكم على طاعة الله- و الذل لحكمه جل ثناؤه- فأما هذا الفي‏ء فليس لأحد- على أحد فيه أثرة- و قد فرغ الله من قسمته- فهو مال الله- و أنتم عباد الله المسلمون- و هذا كتاب الله به أقررنا و له أسلمنا- و عهد نبينا بين أظهرنا- فمن لم يرض به فليتول كيف شاء- فإن العامل بطاعة الله- و الحاكم بحكم الله لا وحشة عليه- ثم نزل عن المنبر فصلى ركعتين- ثم بعث بعمار بن ياسر- و عبد الرحمن بن حنبل القرشي إلى طلحة و الزبير- و هما في ناحية المسجد فأتياهما فدعواهما- فقاما حتى جلسا إليه ع- فقال لهما نشدتكما الله- هل جئتماني طائعين للبيعة- و دعوتماني إليها- و أنا كاره لها قالا نعم- فقال غير مجبرين و لا مقسورين- فأسلمتما لي بيعتكما و أعطيتماني عهدكما-

قالا نعم- قال فما دعاكما بعد إلى ما أرى- قالا أعطيناك بيعتنا- على ألا تقضي الأمور و لا تقطعها دوننا- و أن تستشيرنا في كل أمر- و لا تستبد بذلك علينا- و لنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت- فأنت تقسم القسم و تقطع الأمر- و تمضي الحكم بغير مشاورتنا و لا علمنا- فقال لقد نقمتما يسيرا- و أرجأتما كثيرا فاستغفرا الله يغفر لكما- أ لا تخبرانني أدفعتكما عن حق وجب لكما فظلمتكما إياه- قالا معاذ الله قال فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشي‏ء- قالا معاذ الله- قال أ فوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين- فجهلته أو ضعفت عنه قالا معاذ الله- قال فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي- قالا خلافك عمر بن الخطاب في القسم- أنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا- و سويت بيننا و بين من لا يماثلنا- فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا و رماحنا- و أوجفنا عليه بخيلنا و رجلنا- و ظهرت عليه دعوتنا و أخذناه قسرا قهرا- ممن لا يرى الإسلام إلا كرها-

فقال فأما ما ذكرتماه من الاستشارة بكما- فو الله ما كانت لي في الولاية رغبة- و لكنكم دعوتموني إليها- و جعلتموني عليها- فخفت أن أردكم فتختلف الأمة- فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله و سنة رسوله- فأمضيت ما دلاني عليه و اتبعته- و لم أحتج إلى آرائكما فيه و لا رأي غيركما- و لو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه- و لا في السنة برهانه- و احتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه- و أما القسم و الأسوة- فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء- قد وجدت أنا و أنتما رسول الله ص يحكم بذلك- و كتاب الله ناطق به- و هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه- و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد- و أما قولكما جعلت فيئنا- و ما أفاءته سيوفنا و رماحنا- سواء بيننا و بين غيرنا- فقديما سبق إلى الإسلام قوم- و نصروه بسيوفهم و رماحهم- فلم يفضلهم رسول الله ص في القسم و لا آثرهم بالسبق- و الله‏ سبحانه- موف السابق و المجاهد يوم القيامة أعمالهم- و ليس لكما و الله عندي و لا لغيركما إلا هذا- أخذ الله بقلوبنا و قلوبكم إلى الحق- و ألهمنا و إياكم الصبر- ثم قال رحم الله امرأ رأى حقا فأعان عليه- و رأى جورا فرده- و كان عونا للحق على من خالفه- .

قال شيخنا أبو جعفر و قد روي أنهما قالا له وقت البيعة- نبايعك على أنا شركاؤك في هذا الأمر- فقال لهما لا و لكنكما شريكاي في الفي‏ء- لا أستأثر عليكما- و لا على عبد حبشي مجدع بدرهم فما دونه- لا أنا و لا ولداي هذان- فإن أبيتما إلا لفظ الشركة- فإنما عونان لي عند العجز و الفاقة- لا عند القوة و الاستقامة- .

قال أبو جعفر- فاشترطا ما لا يجوز في عقد الأمانة- و شرط ع لهما ما يجب في الدين و الشريعة- . قال رحمه الله تعالى- و قد روي أيضا أن الزبير قال في ملإ من الناس- هذا جزاؤنا من علي- قمنا له في أمر عثمان حتى قتل- فلما بلغ بنا ما أراد- جعل فوقنا من كنا فوقه- . و قال طلحة ما اللوم إلا علينا- كنا معه أهل الشورى ثلاثة- فكرهه أحدنا يعني سعدا و بايعناه- فأعطيناه ما في أيدينا و منعنا ما في يده- فأصبحنا قد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس- و لا نرجو غدا ما أخطأنا اليوم- .

فإن قلت فإن أبا بكر قسم بالسواء- كما قسمه أمير المؤمنين ع- و لم ينكروا ذلك كما أنكروه أيام أمير المؤمنين ع- فما الفرق بين الحالتين- . قلت إن أبا بكر قسم محتذيا لقسم رسول الله ص- فلما ولي عمر الخلافة- و فضل قوما على قوم ألفوا ذلك- و نسوا تلك القسمة الأولى- و طالت أيام عمر-و أشربت قلوبهم حب المال و كثرة العطاء- و أما الذين اهتضموا فقنعوا و مرنوا على القناعة- و لم يخطر لأحد من الفريقين له- أن هذه الحال تنتقض أو تتغير بوجه ما- فلما ولي عثمان أجرى الأمر على ما كان عمر يجريه- فازداد وثوق القوم بذلك- و من ألف أمرا أشق عليه فراقه- و تغيير العادة فيه- فلما ولي أمير المؤمنين ع- أراد أن يرد الأمر- إلى ما كان في أيام رسول الله ص و أبي بكر- و قد نسي ذلك و رفض- و تخلل بين الزمانين اثنتان و عشرون سنة- فشق ذلك عليهم و أنكروه و أكبروه- حتى حدث ما حدث من نقض البيعة- و مفارقة الطاعة- و لله أمر هو بالغه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد) ج 7 

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.