خطبه 23۱ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
فَمِنَ الْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ- وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَ الصُّدُورِ- إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ- فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ- حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ- فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ- وَ الْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الْأَوَّلِ- مَا كَانَ لِلَّهِ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ حَاجَةٌ- مِنْ مُسْتَسِرِّ الْإِمَّةِ وَ مُعْلِنِهَا- لَا يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَى أَحَدٍ- إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الْأَرْضِ- فَمَنْ‏ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ- وَ لَا يَقَعُ اسْمُ الِاسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ- فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ- امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ- وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِينَةٌ أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي- فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ- قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا- وَ تَذْهَبُ بِأَحْلَامِ قَوْمِهَا

اللغة
أقول:

العوارىّ بالتشديد: جمع عارية قيل: كأنّها منسوبة إلى العار.إذ في طلبها عار.

و البراءة: التبرّى.

و شغرت البلدة: إذا خلت عن مدبّرها.

و في الفصل مسائل:
الاولى: قوله: فمن الإيمان. إلى قوله: أجل معلوم.
قسمة للإيمان إلى قسمين، و وجه الحصر فيهما أنّ الإيمان لمّا كان عبارة عن التصديق بوجود الصانع سبحانه و ماله من صفات الكمال و نعوت الجلال، و الاعتراف بصدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما جاء به. فتلك الاعتقادات إن بلغت حدّ الملكات في النفوس فهى الإيمان الثابت المستقرّ في القلب، و إن لم يبلغ حدّ الملكة بل كانت بعد حالات في معرض التغيّر و الانتقال فهى العوارىّ المتزلزلة. و استعار لها لفظ العوارىّ باعتبار كونها في معرض الزوال كما أنّ العوارىّ في معرض الاسترجاع و الردّ. و كنّى بكونها بين القلوب و الصدور عن كونها غير مستقرّه في القلوب و لا متمكّنة من جواهر النفوس، و قال بعض الشارحين: أراد أنّ من الإيمان ما يكون على سبيل الإخلاص و منه ما يكون على سبيل النفاق.
و قوله: إلى أجل معلوم. ترشيح لاستعارة العوارىّ. إذ كانت من شأنها أن تستعار إلى وقت معلوم ثمّ ترد فكذلك ما كان بمعرض الزوال و التغيّر من الإيمان. و هذه القسمة إلى هذين القسمين هى الموجودة في نسخة الرضى بخطّه و في نسخ كثير من الشارحين و نسخ كثيرة معتبرة، و نقل الشارح عبد الحميد بن أبي الحديد- رحمه اللّه- في النسخة الّتي شرح الكتاب عليها ثلاثة أقسام هكذا: فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرّا في القلوب، و منه ما يكون عوارىّ في القلوب، و منه ما يكون عوارىّ بين القلوب و الصدور إلى أجل معلوم. ثمّ قال في بيانها ما هذه خلاصته: إنّ الإيمان إمّا أن يكون ثابتا مستقرّا في القلوب بالبرهان و هو الإيمان الحقيقىّ، أو ليس بثابت بالبرهان بل بالدليل الجدلىّ كإيمان كثير ممّن لم تحقّق العلوم العقليّة و يعتقد ما يعتقده من أقيسة جدليّة لا تبلغ درجة البرهان و قد سمّاه عليه السّلام عوارىّ في القلوب: أى أنّه و إن كان في القلب الّذي هو محلّ الإيمان الحقيقيّ إلّا أنّ حكمه حكم العارية في البيب فإنّها بعرضة الخروج منه، و إمّا أن لا يكون مستندا إلى برهان و لا إلى قياس جدلىّ بل على سبيل التقليد و حسن الظنّ بالأسلاف أو بإمام يحسن الظنّ به و قد جعله عليه السّلام عوارىّ بين القلوب و الصدور لأنّه دون الثاني فلم يجعله حالّا في القلب لكونه أضعف ممّا قبله و أقرب إلى الزوال. ثمّ ردّ قوله: إلى أجل معلوم. إلى القسمين الأخيرين لأنّ من ثبت إيمانه بالقياس الجدلىّ قد يبلغ إلى درجة البرهان إذا أنعم النظر و رتّب المقدّمات اليقينيّة ترتيبا منتجا، و قد يضعف مقدّماته في نظره فينحطّ إلى درجة المقلّد فيكون إيمان كلّ منهما إلى أجل معلوم لكونه في معرض الزوال. و أقول: إن صحّت هذه الرواية فالمعنى يعود إلى ما قلناه من القسمة فإنّ العلم بما يستلزمه البرهان أو غيره من الإيمان إن بلغ إلى حدّ الملكة فهو الثابت المستقرّ، و إلّا فهو العارية و الّذي أراه أنّ القسم الثاني تكرار وقع من قلم الناسخ سهوا. و اللّه أعلم.
الثانية: قوله: فإذا كانت لكم براءة. إلى قوله: حدّ البراءة.
معناه‏ أنّكم إذا أردتم التبرىّ من أحد من أهل الكباير فقفوه: أى اجعلوه موقوفا إلى حال الموت و لا تسارعوا إلى البراءة منه قبل الموت فإنّ أشدّ الكبائر و أعظمها الكفر و جايز من الكافر أن يسلم فإذا بلغ منتهى الحياة و حدّها و لم يقلع عن كبيرته فذلك الحدّ هو حدّ البراءة الّذي يجوز أن يوقعوها معه. إذ ليس بعد الموت حالة ترجى و تنتظر. قال بعض الشارحين: و البراءة الّتي أشار عليه السّلام إليها هي البراءة المطلقه لا كلّ براءة، إذ يجوز لنا أن نبرء من الفاسق و صاحب الكبيرة في حياته براءة مشروطة: أى ما دام مصرّا على كبيرته.
الثالثة: قوله: و الهجرة قائمة على حدّها الأوّل
لمّا كانت حقيقة الهجرة ترك منزل إلى منزل آخر لم تكن تخصيصها عرفا بهجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من تبعه و هاجر إليه من مكّة إلى المدينة مخرجا لها عن حقيقتها و حدّها اللغوىّ. إذ كان أيضا كلّ من ترك منزله إلى منزل آخر مهاجرا إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ مراده عليه السّلام من بقاء الهجرة على حدّها بقاء صدقها على من هاجر إليه و إلى الأئمّة من أهل بيته في طلب دين اللّه و تعرّف كيفيّة السلوك لصراطه المستقيم كصدقها على من هاجر إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و في معناها ترك الباطل إلى الحقّ و بيان هذا الحكم بالمنقول و المعقول: أمّا المنقول فمن وجهين: أحدهما: قوله تعالى وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً فقد سمّى من فارق وطنه و عشيرته في طلب دين اللّه و طاعته مهاجرا.
و قد علمت في اصول الفقه أنّ من للعموم فوجب أن يكون كلّ من سافر لطلب دين اللّه من معادنه مهاجرا. الثاني: قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المهاجر من هاجر ما حرّم اللّه عليه. و ظاهر أنّ من هاجر معصية الأئمّة إلى طاعتهم و الاقتداء بهم فقد هاجر ما حرّم اللّه عليه فكان اسم الهجرة صادقا عليه. و أمّا المعقول فلأنّ المفارق لوطنه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مهاجر فوجب أن يكون المفارق لوطنه إلى من يقوم مقامه من ذريّته الطاهرين مهاجرا لصدق حدّ الهجرة في الموضعين، و لأنّ المقصود من الهجرة ليس إلّا اقتباس الدين و تعرّف كيفيّة سبيل اللّه. و هذا المقصود حاصل ممّن يقوم مقام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأئمّة الطاهرين عليهم السّلام بحيث لا فرق إلّا النبوّة و الإمامة. و لا مدخل لأحد هذين الوصفين في تخصيص مسمّى الهجرة بمن قصد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون من قصد الأئمّة فوجب عموم صدقه على من قصدهم. فإن قلت: هذا معارض بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا هجرة بعد الفتح حتّى شفّع عمّه العبّاس في نعيم بن مسعود الأشجعى أن يستثناه فاستثناه. قلت. يحمل ذلك على أنّه لا هجرة من مكّة بعد فتحها إلى المدينة توفيقا بين الدليلين. و سلب الخاصّ لا يستلزم سلب العامّ. فاعلم أنّ فائدة هذا القول الدعوة إلى الدين و اقتباسه منه و من أهل بيته عليهم السّلام بذكر الهجرة، و التنبّه بها و ما يستلزمه من الفضيلة على أنّ التارك لأهله و وطنه إليهم طلبا للدين منهم يلحق بالمهاجرين الأوّلين في مراتبهم و ثوابهم.
الرابعة: قوله: ما كان في الأرض. إلى قوله: و معانيها.
قال قطب الدين الراوندى- رحمه اللّه- : ما هاهنا نافية: أى لم يكن للّه في أهل الأرض ممّن أسرّ دينه أو أعلنه و أظهره حاجة. و من هنا لبيان الجنس. و أنكر الشارح عبد الحميد بن أبي الحديد كون ما نافية. و قال: يلزم منه كون الكلام منقطعا بين كلامين متواصلين و جعلها هو بمعنى المدّة: أى و الهجرة قائمة على حدّها ما دام للّه في أهل الأرض ممّن أسرّ دينه أو اعلنه حاجة: أى ما دامت العبادة مطلوبة للّه تعالى من أهل الأرض بالتكليف و هو كقولك في الدعاء: اللّهمّ أحينى ما كان الحياة خيرا لي.
و يكون لفظ الحاجة مستعارا في حقّه تعالى باعتبار طلبه للعبادة بالأوامر و غيرها كطلب ذي الحاجة لها. و أقول: إنّه غير بعيد أن يكون نافية مع اتّصال الكلام بما قبله، و وجهه أنّه لمّا رغّب الناس في طلب الدين و العبادة فكأنّه أراد أن يرفع حكم الوهم بما عساه يحكم به عند تكرار طلب اللّه للدين و العبادة من حاجته تعالى إليها من خلقه حيث كرّر طلبه منهم بتواتر الرسل و الأوامر الشرعيّة، و يصيرمعنى الكلام أنّ الهجرة باقية على حدّها الأوّل في صدقها على المسافرين لطلب الدين فينبغي للناس أن يهاجروا في طلبه إلى أئمّة الحقّ و ليس ذلك لأنّ للّه تعالى إلى أهل الأرض ممن أسرّ دينه أو أظهره حاجة فإنّه تعالى الغنىّ المطلق الّذي لا حاجة به إلى شي‏ء.
الخامسة: قوله: لا تقع اسم الهجرة. إلى قوله: قلبه
إشارة بالحجّة في الأرض إلى إمام الوقت لأنّه حجّة اللّه في أرضه على عباده يوم القيامة و شاهده عليهم. و هذا الكلام تفسير لمواقع اسم الهجرة و بيان لمن تصدق عليه فشرط صدقها على الإنسان بمعرفته لإمام وقته و ذلك لأنّ الإمام هو الحافظ للدين و معدنه الّذي يجب أخذه عنه فيكون قصده لذلك مشروطا بمعرفته فإذن إطلاق اسم الهجرة عليه مشروط بمعرفة إمام الوقت فلذلك قال: لا يقع اسم الهجرة على أحد إلّا بعد معرفة الحجّة في الأرض. و قوله: فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر. يحتمل أن يريد به أنّ شرط إطلاق اسم المهاجرة على الإنسان مشروط بمعرفة إمام الوقت المستلزمة للسفر إليه كما هو الظاهر من لفظ المهاجرة. و يحتمل أن يريد أنّ مجرّد معرفة الإمام و الإقرار بوجوب اتّباعه و الأخذ عنه و إن كان بالإخبار عنه دون المشاهدة كاف في إطلاق اسم الهجرة على من عرفه كذلك دون السفر إليه كما كفى في إطلاقه على ترك ما حرّم اللّه بمقتضى قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و المهاجر من ترك ما حرّم اللّه عليه. و قوله: و لا يصدق [يقع خ‏] اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة. أى أخبار الحجّة فحذف المضاف. و يحتمل أن يريد بالحجّة نفس الأخبار الّتى ينقل عن الإمام و يجب العمل بها قال قطب الدين الراوندى: يمكن أن يشير بهذا الكلام إلى أحد آيتين: إحداهما: قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ«» فيكون مراده عليه السّلام على هذا أنّه لا يصدق اسم الاستضعاف على من عرف الإمام و بلغته أحكامه و وعاها قلبه و إن بقى في وطنه و لم يتجشّم السفر إلى الإمام كما لا يصدق على هؤلاء المذكورين في الآية. و الثانية: قوله تعالى بعد ذلك إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ«» فيكون مراده على هذا أنّ من عرف الإمام و سمع مقالته و وعاها قلبه لا يصدق عليه الاستضعاف كما صدق على هؤلاء. إذ كان المفروض على الموجودين في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المهاجرة بالأبدان دون من بعدهم بل يقنع منه بمعرفته و العمل بقوله بدون المهاجرة إليه بالبدن: و أقول: يحتمل أن يريد بقوله ذلك أنّه لا عذر لمن بلغته دعوة الحجّة و سمعها في تأخّره عن النهوض و المهاجرة إليه مع قدرته على ذلك و لا يصدق عليه اسم الاستضعاف كما يصدق المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان حتّى يكون ذلك عذرا له بل يكون في تأخّره ملوما مستحقّا للعذاب كالّذين قالوا إنّا كنّا مستضعفين في الأرض، و يكون مخصوصا بالقادرين على النهوص كما قلناه دون العاجزين فإنّ اسم الاستضعاف صادق عليهم. و هذا الاحتمال إنّما يكون جايز الإرادة من هذا الكلام على تقدير أن يكون إطلاق اسم المهاجر على الإنسان في الكلام المقدّم مشروطا بمعرفة الإمام بالمشاهدة و السفر إليه. إذ لو جاز عليه أن يطلق عليه المهاجرة مع عدم السفر إلى الإمام لما كان ملوما في تأخّره عنه.
السادسة: قوله: إنّ أمرنا صعب مستصعب.
فأمرهم شأنهم و ما هم عليه من الكمال الخارج عن كمالات من عداهم من الامّة و الأطوار الّتي يختصّ بها عقولهم وراء عقول غيرهم فيكون لهم عن ذلك القدرة على ما لا يقدر عليه غيرهم و الإدراكات الغيبيّة بالنسبة إلى غيرهم و الإخبار عنه كالوقائع الّتي حكى عنها عليه السّلام ثمّ وقعت على وفق قوله و كالأحكام و القضايا الّتى اختصّ بها و نقلت عنه فإنّ هذا الشأن صعب في نفسه لا يقدر عليه إلّا الأنبياء و أوصياء الأنبياء و مستصعب‏ الفهم على الخلق معجوز عن احتمال ما يلقى منه من الإشارات و الإخبارات عمّا سيكون و القدرة على ما يخرج عن وسع مثلهم و لا تحتمله و لا تقبله إلّا نفس عبد امتحنها اللّه للايمان كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ«» أى أعدّها بالامتحان و الابتلاء بالتكاليف العقليّة و النقليّة لحصول الإيمان الكامل اليقينىّ باللّه و رسوله و كيفيّة سلوك سبيله، و تجلّت بالكمالات العلميّة و الفضايل الخلقيّة حتّى عرفت مبادى كمالاتهم و مقاديرها و كيفيّة صدور مثل هذه الغرايب عنها فلا يستنكر ما يأتون به من قول أو فعل و لا يلقاه بالتكذيب كما كانت جماعة من أصحابه عليه السّلام يفعلون ذلك معه فيما كان يخبر به عن الفتن حتّى فهم ذلك منهم فقال: يقولون: يكذب. قاتلهم اللّه تعالى فعلى من أكذب أعلى اللّه و أنا أوّل من آمن به أو على رسوله و أنا أوّل من صدّقه كما حكينا ذلك فيما سبق، بل يحتمل كلّ ما يأتون به على وجهه و يستنده إلى مبدئه و يفرح بوصول ما يرد عليها من أسرارهم الإلهيّة. فأولئك و أمثالهم هم أصحاب الصدور الآمنة الّتي تعى ما يلقى إليها من تلك الأسرار و يصونها عن الإذاعة إلى من لا ينتفع بها و ليس بأهل لها فهي مأمونة عليها، و أولو الأحلام الرزينة الّتي لا يستفزّها سماع تلك الغرايب و مشاهدتها منهم فيحملهم ذلك على إذاعتها و استنكارها بل يحملها على الصواب ما وجدت لها محملا فإذا عجزت عن معرفتها ثبتت فيها و آمنت بها على سبيل الإجمال و فوّضت علم كنهها إلى اللّه سبحانه. و أراد قلوب صدور أمينة أو أصحاب صدور أمينة و أصحاب أحلام رزينة فحذف المضاف. و يحتمل أن يكون قد أطلق اسم الصدور و الأحلام مجازا عن أهلها إطلاقا لاسم المتعلّق على المتعلّق و نقل عنه عليه السّلام مثل هذا الكلام في غير هذا الموضع من جملة خطبة له: أنّ قريشا طلبت السعادة فشقيت. و طلبت النجاة فهلكت. و طلبت الهدى فضلّت ألم يسمعوا و يحهم قوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ«» فأين العدل و النزع عن ذرّيّة الرسول الّذين شيّد اللّه بنيانهم فوق البنيان و أعلى رؤوسهم و اختارهم عليهم. ألا إنّ‏ الذّريّة أفنان أنا شجرتها و دوحة أنا ساقها. و إنّي من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء كنّا أظلالا تحت العرش قبل خلق البشر و قبل خلق الطينة الّتي كان منها البشر أشباحا عالية لا أجساما نامية. إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يعرف كنهه إلّا ملك مقرّب أو نبىّ مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان فإذا انكشف لكم سرّا و وضح لكم أمر فاقبلوه و إلّا فامسكوا تسلموا و ردّوا علمها إلى اللّه فإنّكم في أوسع ما بين السماء و الأرض. و في قوله: و إنّي من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء، و قوله: كنّا أظلالا. إلى قوله: نامية إشارة لطيفة: أمّا الأوّل: فأشار إلى أنّ الكمالات الّتي حصلت لنفسه القدسيّة بواسطة كمالات نفس النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشبه الأشياء بصدور الضوء عن الضوء كشعلة مصباح اقتبست من شعلة مصباح أكبر و أعلى. و من العادة في عرف المجرّدين و أولياء اللّه و كتابه تمثيل النفوس الشريفة و العلوم بالأنوار و الأضواء لمكان المشابهة بينهما في حصول الهداية عنها مع لطفها و صفائها، و أمّا الثاني فيحمل أن يكون قد أشار بكونهم أظلّة تحت العرش قبل خلق البشر أشباحا بلا أجسام إلى وجودهم في العلم الكلّيّ فإنّه قد يعبّر عنه في بعض المواضع بالعرش.
و استعار لفظ الأضلال لهم باعتبار كونهم مرجعا للخلق و ملجأ كالأظلال، و قد سبقت الإشارة إلى ذلك أو ما قرب منها ببيان أوضح في الخطبة الاولى.
السابعة: أيّه بالناس.
و قال: سلونى قبل أن تفقدونى. إلى قوله: الأرض. و أجمع الناس على أنّه لم يقل أحد من الصحابة و أهل العلم: سلونى. غير علىّ عليه السّلام ذكر ذلك ابن عبد البرّ في كتاب الاستيعاب. و أراد بطرق السماء وجوه الهداية إلى معرفة منازل سكّان السماوات من الملأ الأعلى و مراتبهم من حضرة الربوبيّة و مقامات أنبياء اللّه و خلفائه من حظائر القدس، و انتقاش نفسه القدسيّة عنهم بأحوال الفلك و مدبّراتها و الامور الغيبيّة ممّا يتعلّق بالفتن و الوقايع المستقبلة إذ كان له عليه السّلام الاتّصال التامّ بتلك المبادي‏ء. فبالحرىّ أن يكون علمه بما هناك أتمّ و أكمل من علمه بطرق الأرض إلى منازلها. و قد سبق مثله لقوله: سلونى قبل أن تفقدونى فو اللّه لا تسألوني عن فئة تضلّ مائة و تهدى مائة إلّا أنبأتكم بسائقها وقائدها. و قد حمله قوم على وجه آخر و قالوا: أراد بطرق السماء الأحكام الشرعيّة و الفتاوى الفقهيّة: أى أنا أعلم بها من الامور الدنيويّة فعبّر عن تلك بطرق السماء لكونها أحكاما إلهيّة، و عبّر عن هذه بطرق الأرض لأنّها من الأرضيّة. و نحوه ما نقل عن الإمام الوبرىّ: أنّه قال: أراد أنّ علمه بالدين أوفر من علمه بالدنيا.
و قوله: قبل أن تشغر برجلها فتنة. إلى آخره.
أراد فتنة بني اميّة و أحكامهم العادلة عن العدل و ما يلحق الناس في دولتهم من البلاء. و كنّى بشغر رجلها عن خلوّ تلك الفتنة عن مدبّر يدبّرها و يحفظ الامور و ينتظم الدين حين وقوع الجور.
و قوله: تطأ في خطامها.
استعارة لوصف الناقة الّتي ارسل خطامها و خلت عن القايد في طريقها فهي تخبط في خطامها و تعثر فيه و تطأ من لقيت من الناس على غير نظام عن حالها، و هذا هو وجه الاستعارة. إذ كانت هذه الفتنة تقع في الناس على غير قانون شرعيّ.
و لا طريق مرضىّ. و لا قائد ينتظم امور الخلق فيها. و قوله: و يذهب بأحلام قومها. قال بعض الشارحين: أى تحيّر أهل زمانها و تذهلهم بشدّتها حتّى لا يثبتون فيها بل تطيش ألبابهم فلا يهتدون إلى طريق التخلّص عنها و وجه السلامة فيها.
و يحتمل أن يريد بذلك أنّها يستخفّ أهل زمانها فيأتون إليها سراعا و يجيئون الناعق بها و الداعى إليها رغبة و رهبة فلا يبالون في ذلك و لا يفحّصون عن كونها فتنة لغفلتهم عن وجه الحقّ فيها و شدّة وقوعها على الناس. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى ۱۹۳

 

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.