خطبه ۱۰۶ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

الفصل الأول
کُلُّ شَیْ‏ءٍ خَاشِعٌ لَهُ- وَ کُلُّ شَیْ‏ءٍ قَائِمٌ بِهِ- غِنَى کُلِّ فَقِیرٍ- وَ عِزُّ کُلِّ ذَلِیلٍ- وَ قُوَّهُ کُلِّ ضَعِیفٍ- وَ مَفْزَعُ کُلِّ مَلْهُوفٍ- مَنْ تَکَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ- وَ مَنْ سَکَتَ عَلِمَ سِرَّهُ- وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَیْهِ رِزْقُهُ- وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَیْهِ مُنْقَلَبُهُ- لَمْ تَرَکَ الْعُیُونُ فَتُخْبِرَ عَنْکَ- بَلْ کُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِینَ مِنْ خَلْقِکَ- لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَهٍ- وَ لَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَهٍ- وَ لَا یَسْبِقُکَ مَنْ طَلَبْتَ- وَ لَا یُفْلِتُکَ مَنْ أَخَذْتَ- وَ لَا یَنْقُصُ سُلْطَانَکَ مَنْ عَصَاکَ- وَ لَا یَزِیدُ فِی مُلْکِکَ مَنْ أَطَاعَکَ- وَ لَا یَرُدُّ أَمْرَکَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَکَ- وَ لَا یَسْتَغْنِی عَنْکَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِکَ- کُلُّ سِرٍّ عِنْدَکَ عَلَانِیَهٌ- وَ کُلُّ غَیْبٍ عِنْدَکَ شَهَادَهٌ- أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَکَ- وَ أَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِیصَ عَنْکَ- وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا مَنْجَى مِنْکَ إِلَّا إِلَیْکَ- بِیَدِکَ نَاصِیَهُ کُلِّ دَابَّهٍ- وَ إِلَیْکَ مَصِیرُ کُلِّ نَسَمَهٍ- سُبْحَانَکَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِکَ- وَ مَا أَصْغَرَ عِظَمَهُ فِی جَنْبِ قُدْرَتِکَ- وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَکُوتِکَ- وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِکَ فِیمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِکَ- وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَکَ فِی الدُّنْیَا- وَ مَا أَصْغَرَهَا فِی نِعَمِ الْآخِرَهِ أقول: هذا الفصل من أشرف الفصول المشتمله على توحید اللّه و تنزیهه و إجلاله و تعظیمه.


اللغه
و اللهف: الحزن، و الملهوف: المظلوم یستغیث. و الأبد: الدائم. و الأمد: الغایه. و حاص عن الشی‏ء: عدل و هرب. و المحیص: المهرب.


و فیه اعتبارات ثبوتیّه و سلبیّه:
أمّا الثبوتیّه فعشره:
الأوّل: خشوع کلّ شی‏ء له
و الخشوع مراد هنا بحسب الاشتراک اللفظىّ.
إذ الخشوع من الناس یعود إلى تطأ منهم و خضوعهم للّه و من الملائکه دؤو بهم فی عبادتهم ملاحظه لعظمته، و من سائر الممکنات انفعالها عن قدرته و خضوعها فی رقّ الإمکان و الحاجه إلیه، و المشترک و إن کان لا یستعمل فی جمیع مفهوماته‏ حقیقه فقد بیّنّا أنّه یجوز استعماله مجازا فیها بحسب القرینه و هى هنا إضافته إلى کلّ شی‏ء أو لأنّه فی قوّه المتعدّد کقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِکَتَهُ یُصَلُّونَ عَلَى النَّبِیِّ»«» فکأنّه قال: الملک خاشع له و البشر خاشع له، و هذا الاعتبار یستلزم وصفه تعالى باعتبارین: أحدهما: کونه عظیما، و الثانی: کونه غنیّا: أمّا العظیم فینقسم إلى ما یکبر حاله فی النفس و لکن یتصوّر أن یحیط بکماله العقول و یقف على کنه حقیقته، و إلى ما یمکن أن یحیط به بعض العقول و إن فات أکثرها، و هذان القسمان إنّما یطلق علیهما لفظ العظمه بالإضافه، و قیاس کلّ إلى ما دونه فیما هو عظیم فیه، و إلى ما لا یتصوّر أن یحیط به العقل أصلا و ذلک هو العظیم المطلق الّذی جاوز حدود العقول أن یقف على صفات کماله و نعوت جلاله، و لیس هو إلّا اللّه تعالى، و أمّا الغنىّ فسنذکره.

الثانی: قیام کلّ شی‏ء به
و اعلم أنّ جمیع الممکنات إمّا جواهر أو أعراض و لیس شی‏ء منها یقوم بذاته فی الوجود: أمّا الأعراض فظاهر لظهور حاجتها إلى المحلّ الجوهرىّ، و أمّا الجواهر فلأنّ قوامها فی الوجود إنّما یکون بقیام عللها و تنتهى إلى الفاعل الأوّل جلّت عظمته فهو إذن الفاعل المطلق الّذى به قوام کلّ موجود فی الوجود، و إذ ثبت أنّه تعالى غنىّ عن کلّ شی‏ء فی کلّ شی‏ء و ثبت أنّ به قوام کلّ شی‏ء ثبت أنّه القیّوم المطلق. إذ مفهوم القیّوم هو القائم بذاته المقیم لغیره فکان هذا الاعتبار مستلزما لهذا الوصف.

الثالث: کونه تعالى غنى کلّ فقیر
و یجب أن یحمل الفقر على ما هو أعمّ من الفقر المتعارف و هو مطلق الحاجه لیعمّ التمجید کما أنّ الغنى هو سلب مطلق الحاجه، و إذ ثبت أنّ کلّ ممکن فهو مفتقر فی طرفیه منته فی سلسله الحاجه إلیه، و أنّه تعالى المقیم له فی الوجود ثبت أنّه تعالى رافع حاجه کلّ موجود بل کلّ ممکن و هو المراد بکونه غنى له، و أطلق علیه تعالى لفظ الغنى و إن کان الغنى به مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.

الرابع: کونه عزّ کلّ ذلیل
و قد سبق أنّ معنى العزیز هو الخطیر الّذى یقلّ وجود مثله و یشتدّ الحاجه و یصعب الوصول إلیه فما اجتمعت فیه هذه المفهومات الثلاثه سمّى عزیزا، و سبق أیضا أنّ هذه المفهومات مقوله بالزیاده و النقصان على ما تصدق علیه، و أنّه لیس الکمال فی واحد منها إلّا للّه سبحانه، و یقابله الذلیل و ثبت أنّه تعالى عزّ کلّ موجود لأنّ کلّ موجود سواه إنّما یتحقّق فیه هذه المفهومات الثلاثه منه سبحانه الناظم لسلسله الوجود و الواضع لکلّ من الموجودات فی رتبته من النظام الکلّىّ فمنه عزّ کلّ موجود، و کلّ موجود ذلیل فی رقّ الإمکان و الحاجه إلیه فی إفاضه المفهومات الثلاثه علیه فهو إذن عزّ کلّ ذلیل و إطلاق لفظ العزّ علیه کإطلاق لفظ الغنى.

الخامس: و قوّه کلّ ضعیف
القوّه تطلق على کمال القدره و على شدّه الممانعه و الدفع و یقابلها الضعف و هما مقولان بالزیاده و النقصان على من یطلقان علیه، و إذ ثبت أنّه تعالى مستند جمیع الموجودات و المفیض على کلّ قابل ما یستعدّ له و یستحقّه فهو المعطى لکلّ ضعیف عادم القوّه من نفسه کماله و قوّته فمنه قوّه کلّ ضعیف بالمعنیین المذکورین لها، و روى أنّ الحسن قال: و اعجبا لنبىّ اللّه لوط علیه السّلام إذ قال لقومه: لو أنّ لى بکم قوّه أو آوى إلى رکن شدید أ تراه أراد رکنا أشدّ من اللّه تعالى. و إطلاق لفظ القوّه علیه کإطلاق لفظ الغنى أیضا.

السادس: کونه مفزع کلّ ملهوف
أى إلیه ملجأ کلّ مضطرّ فی ضرورته حال حزن أو خوف أو ظلم کما قال تعالى «ثُمَّ إِذا مَسَّکُمُ الضُّرُّ فَإِلَیْهِ تَجْئَرُونَ»«» «وَ إِذا مَسَّکُمُ الضُّرُّ فِی الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِیَّاهُ»«» فکلّ مفزع و ملجأ غیره فلمضطرّ لا لکلّ مضطرّ و مجاز لا حقیقه و إضافیّ لا حقیقىّ، و هذا الاعتبار یستلزم کمال القدره للّه لشهاده فطره ذى الضروره بنسبه جمیع أحوال وجوده إلى جوده و یستلزم کمال العلم لشهاده فطرته باطّلاعه على ضرورته، و کذلک کونه سمیعا و بصیرا و خالقا و مجیبا للدعوات و قیّوما و نحوها من الاعتبارات.

السابع:
کونه من تکلّم سمع نطقه.
الثامن: من سکت علم سرّه
و هما إشارتان إلى وصفى السمیع و العلیم، و لمّا کان السمیع یعود إلى العالم بالمسموعات استلزم الوصفان إحاطته بما أظهر العبد و أبداه و ما أسرّه و أخفاه فی حالتى نطقه و سکوته، و قد سبقت الإشاره إلى ذلک.

التاسع:
و من عاش فعلیه رزقه.

العاشر: و من مات فإلیه منقلبه
و هما إشارتان إلى کونه تعالى مبدء للعباد فی وجودهم و ما یقوم به عاجلا و منتهى و غایه لهم آجلا فإلیه رجوع الأحیاء منهم و الأموات، و به قیام وجودهم حالتى الحیاه و المماه.

الحادى عشر من الاعتبارات السلبیّه: لم تراک العیون فتخبر عنک
و فیه التفات من الغیبه إلى الخطاب کقوله تعالى «إِیَّاکَ نَعْبُدُ» و هذا الالتفات و عکسه یستلزم شدّه عنایه المتکلّم بالمعنى المنتقل إلیه، و حسنه معلوم فی علم البیان، و اعلم أنّ هذا الکلام لا بدّ فیه من تجوّز أو إضمار، و ذلک إن جعلنا الرائى هو العیون کما علیه اللفظ و یصدق حقیقه لزم إسناد قوله فتخبر إلیها مجازا لکون الإخبار لیس لها، و إن راعینا عدم المجاز لزم أن یکون التقدیر: لم ترک العیون فتخبر عنک أربابها، أو لم ترک أرباب العیون فتخبر عنک. فیلزم الاضمار و یلزم التعارض بینه و بین المجاز لکن قد علمت فی مقدّمات اصول الفقه: أنّهما سیّان فی المرتبه، و غرض الکلام تنزیهه تعالى عن وصف المشبّهه و نحوهم و إخبارهم عنه بالصفات الّتى من شأنها أن یخبر عنها الراءون عن مشاهده حسیّه مع اعترافهم بأنّ إخبارهم ذلک من غیر رؤیه، و لمّا کان الإخبار عن المحسوسات و ما من شأنه أن یحسّ إنّما یصدق إذا استند إلى الحسّ لا جرم استلزم سلبه لرؤیه العیون له سلب الإخبار عنه من جهتها و کذب الإخبار عنه بما لا یعلم إلّا من جهتها، و یخبر و إن کان فی صوره الإثبات إلّا أنّه منفىّ لنفى لازمه و هى رؤیه العیون له. إذ کان الإخبار من جهتها یستلزم رؤیتها، و نصبه بإضمار أن عقیب الفاء فی جواب النفى، و الکلام فی تقدیر شرطیّه متّصله صورتها لو صحّ إخبار العیون عنک لکانت قد رأتک لکنّها لم تراک فلم تصحّ أن تخبر عنک، فأمّا قوله: بل‏ کنت قبل الواصفین من خلقک. فتعلیل لسلب الرؤیه المستلزم لسلب الإخبار عنها بقیاس ضمیر تقدیر کبراه: و کلّ من کان قبل واصفیه لم یروه فلم یخبروا عنه، و هذه الکبرى من المظنونات المشهورات فی بادى النظر، و هى کما علمت من موادّ قیاس الخطیب و إن کانت إذا تعقّبت لم یوجد کلّیّه. إذ لیس کلّما وجد قبلنا بطل إخبارنا عنه، و یمکن حمل هذا القول على وجه التحقیق و هو أن نقول: المراد بقبلیّته تعالى للواصفین قبلیّه وجوده بالعلیّه الذاتیّه و هو بهذا الاعتبار مستلزمه لتنزیهه تعالى عن الجسمیّه و لواحقها المستلزم لامتناع الرؤیه المستلزم لکذب الإخبار عنه من وجه المشابهه الحسیّه.

الثانی عشر: کونه لم تخلق الخلق لوحشه
و هو إشاره إلى تنزیهه عن الطبع المستوحش و المستأنس، و قد سبق بیان ذلک فی الخطبه الاولى.

الثالث عشر: و لا استعملتهم لمنفعه
أى لم یکن خلقه لهم لمنفعه تعود إلیه، و قد سبق بیان أنّ جلب المنفعه و دفع المضرّه من لواحق المزاج- المنزّه قدس اللّه تعالى عنه- .

الرابع عشر: و لا یسبقک من طلبت
أى لا یفوتک هربا.

الخامس عشر: و لا یفلتک من أخذت
أى لا یفلت منک بعد أخذه فحذف حرف الجرّ، و عدّى الفعل بنفسه کما قال تعالى «وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ» و هذان الاعتباران یستلزمان کمال ملکه و تمام قدرته و إحاطه علمه. إذ أىّ ملک فرض فقد ینجو من یده الهارب و یفلت من أسره المأخوذ بالحیله و نحوها.

السادس عشر:
و لا ینقص سلطانک من عصاک.

السابع عشر: و لا یزید فی ملکک من أطاعک
و هما تنزیه له تعالى من أحوال ملوک الدنیا. إذ کان کمال سلطان أحدهم بزیاده جنوده و کثره مطیعه و قلّه المخالف و العاصى له، و نقصان ملکه بعکس ذلک و هو سبب لتسلّط أعدائه علیه و طمعهم فیه. فأمّا سلطانه تعالى فلما کان لذاته و کمال قدرته مستولیا و هو مالک الملک یؤتى الملک من یشاء و ینزع الملک ممّن یشاء و یذلّ من یشاء بیده الخیر و هوعلى کلّ شی‏ء قدیر. لم یتصوّر خروج العاصى بعصیانه عن سلطانه حتّى یؤثّر فی نقصانه، و لم یکن لطاعه الطائع تأثیر فی زیاده ملکه.

الثامن عشر: و لا یردّ أمرک من سخط قضائک
یرید بالأمر هنا القدر النازل على وفق القضاء الإلهىّ و هو تفصیل القضاء کما بیّناه، و هذا الاعتبار أیضا یستلزم تمام قدره اللّه و کمال سلطانه. إذ کان ما علم وجوده فلا بدّ من وجوده سواء کان محبوبا للعبد أو مکروها له کما قال تعالى «وَ یَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ»«» «إِنَّ عَذابَ رَبِّکَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ»«» «وَ إِنْ یَمْسَسْکَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا کاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ یَمْسَسْکَ بِخَیْرٍ فَهُوَ عَلى‏ کُلِّ شَیْ‏ءٍ قَدِیرٌ»«» و إنّما خصّص المستخطّ للقضاء بالعجز عن ردّ الأمر. إذ کان من شأنه أن لو قدر لردّ القدر.

التاسع عشر: و لا یستغنى عنک من تولّى عن أمرک
أراد بالأمر هاهنا ظاهره، و هو أمر عباده بطاعته و عبادته، و ظاهر أنّ من تولّى عن أمر اللّه فهو إلیه أشدّ فقرا و أنقص ذاتا ممّن تولّى أمره، و هذا الاعتبار یستلزم کمال سلطانه و غناه المطلق.

العشرون:
کلّ سرّ عندک علانیه.

الحادى و العشرون: و کلّ غیب عندک شهاده
هذان الاعتباران یستلزمان کمال علمه و إحاطته بجمیع المعلومات، و لمّا کانت نسبه علمه تعالى إلى المعلومات على سواء لا جرم استوى بالنسبه إلیه السرّ و العلانیه، و أیضا فإنّ السرّ و الغیب إنّما یطلقان بالقیاس إلى مخفىّ عنه و غائب عنه و هى القلوب المحجوبه بحجب الطبیعه و أستار الهیئات البدنیّه و الأرواح المستولى علیها نقصان الإمکان الحاکم علیها بجهل أحوال ما هو أکمل منها، و کلّ ذلک ممّا تنزّه قدس الصانع عنه.

الثانی و العشرون: أنت الأبد فلا أمد لک
أى أنت الدائم فلا غایه لک یقف عندها وجودک، و ذلک لاستلزام وجوب وجوده امتناع عدمه و انتهائه بالغایه، و قال بعض الشارحین: أراد أنت ذو الأبد کما قیل: أنت خیال. أى ذو خیال من الخیلاء و هو الکبر. و أقول فی تقریر ذلک: إنّه لمّا کان الأزل و الأبد لازمین لوجوداللّه تعالى أطلق الأبد على وجوده مجازا للمبالغه فی الدوام و کان أحدهما هو بعینه الآخر کقولهم: أنت الطلاق. للمبالغه فی البینونه.

الثالث و العشرون:
و أنت المنتهى فلا محیص عنک.

الرابع و العشرون: و أنت الموعد فلا منجا منک إلّا إلیک:
أمّا أنّه تعالى المنتهى و الموعد فلقوله تعالى «وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّکَ الْمُنْتَهى‏»«» و قوله «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمِیعاً» و المنتهى فی کلامه علیه السّلام الغایه، و قد سبق بیان أنّه تعالى غایه الکلّ و مرجعه و أمّا أنّه لا معدل عنه و لا ملجأ منه إلّا إلیه فإشاره إلى ضروره لقائه کقوله تعالى «وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَیْهِ».

الخامس و العشرون: بیدک ناصیه کلّ دابّه 

أى فی ملکک و تحت تصریف قدرتک کقوله تعالى «ما مِنْ دَابَّهٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِیَتِها»«» و إنّما خصّت الناصیه لحکم الوهم بأنّه تعالى فی جهه فوق فیکون أخذه بالناصیه، و لأنّها أشرف ما فی الدابّه فسلطانه تعالى على الأشرف یستلزم القهر و الغلبه و تمام القدره.

السادس و العشرون: و إلیک مصیر کلّ نسمه
و قد سبق أنّه تعالى منتهى الکلّ، و إلیه مصیره.
و قوله: سبحانک ما أعظم ما نرى من خلقک. إلى آخره.
 تنزیه و تقدیس للّه تعالى عن أحکام الأوهام على صفاته بشبهیّه مدرکاتها و تعجّب فی معرض التمجید من عظم ما یشاهد من مخلوقاته کأطباق الأفلاک و العناصر و ما یترکّب عنها، ثمّ من حقاره هذه العظمه بالقیاس إلى ما تعبّره العقول من مقدوراته و ما یمکن فی کمال قدرته من الممکنات الغیر المتناهیه، و ظاهر أنّ نسبه الموجود إلى الممکن فی العظم و الکثره یستلزم حقارته و صغره، ثمّ من هول ما وصلت إلیه العقول من عظمه ملکوته، ثمّ من حقارته بالقیاس إلى ما غاب عنها و حجبت عن إدراکه بأستار القدره و حجب العزّه من الملأ الأعلى و سکّان حظائر القدس و حال العالم العلوی، ثمّ من سبوغ نعمه اللّه تعالى على عباده فی الدنیا و حقاره تلک النعم بالقیاس إلى النعمه الّتى أعدّها لهم فی الآخره، و ظاهر أنّ نعم الدنیا إذا اعتبرت إلى نعم الآخره فی الدوام و الکثره و الشرف کانت بالقیاس إلیها فی غایه الحقاره. و باللّه التوفیق.


منها:
مِنْ مَلَائِکَهٍ أَسْکَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِکَ- وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِکَ- هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِکَ بِکَ- وَ أَخْوَفُهُمْ لَکَ وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْکَ- لَمْ یَسْکُنُوا الْأَصْلَابَ- وَ لَمْ یُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ- وَ لَمْ یُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِینٍ- وَ لَمْ یَتَشَعَّبْهُمْ رَیْبُ الْمَنُونِ- وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَکَانِهِمْ مِنْکَ- وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَکَ وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِیکَ- وَ کَثْرَهِ طَاعَتِهِمْ لَکَ وَ قِلَّهِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِکَ- لَوْ عَایَنُوا کُنْهَ مَا خَفِیَ عَلَیْهِمْ مِنْکَ- لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ یَعْبُدُوکَ حَقَّ عِبَادَتِکَ- وَ لَمْ یُطِیعُوکَ حَقَّ طَاعَتِکَ


اللغه
أقول: المهین: الحقیر. و التشعّب: الاقتسام و التفریق. و المنون: الدهر. و ریبه: ما یکره من حوادثه. و المکانه: المنزله. و کنه الشی‏ء: نهایه حقیقته. و زریت علیه: عبث فعله.


المعنى
و اعلم أنّ من فی صدر هذا الفصل لبیان الجنس، و ذلک أنّه علیه السّلام لمّا شرع فی بیان عظمه اللّه تعالى و جلاله جعل مادّه ذلک التعظیم تعدید مخلوقاته و ذکر الأشرف فالأشرف منها
فذکر الملائکه السماویه، و أشار إلى أفضلیّتهم بأوصاف:

الأوّل: کونهم أعلم خلق اللّه به
و هو ظاهر. إذ ثبت أنّ کلّ مجرّد کان علمه أبعد عن منازعه النفس الأمّاره بالسوء الّتی هی مبدء الغفله و السهو و النسیان کان أکمل فی معارفه و علومه ممّن عداه، و لأنّ الملائکه السماویّه وسائط لغیرهم‏ فی وصول العلم و سائر الکمالات إلى الخلق فکانوا کالاستادین لمن عداهم، و ظاهر أنّ الاستاد أعلى درجه من التلمیذ، و قد عرفت فی الخطبه الاولى أنّ المعارف مقوله بحسب التشکیک.

الثانی: کونهم أخوف له
و ذلک لکونهم أعلم بعظمه اللّه و جلاله و کلّ من کان أعلم بذلک کان أخوف و أشدّ خشیه: أمّا الاولى: فلما مرّ، و أمّا الثانیه: فلقوله تعالى «إِنَّما یَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»«» فحصر الخشیه فی العلماء.
و بحسب تفاوت العلم بالشدّه و الضعف یکون تفاوت الخشیه بهما.

الثالث: کونهم أقرب منه
و المراد لا القرب المکانىّ لتنزّهه تعالى عن المکان بل قرب المنزله و الرتبه منه. و ظاهر أنّ من کان أعلم به و أخوف منه کان أقرب منزله عنده لقوله تعالى «إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ»«».

الرابع من سلب النقصانات البشریّه عنهم
کونهم لم یسکنوا الأصلاب، و لم یضمّنوا الأرحام، و لم یخلقوا من ماء مهین، و لم یختلف علیهم حوادث الدهر. و ظاهر کون هذه الامور الأربعه نقصانات تلزم الحیوان العنصرىّ لاستلزامها التغیّر و مخالطه المحالّ المستقذره و معاناه الأسقام و الأمراض و سائر الهیئات البدنیّه المانعه عن التوجّه إلى اللّه فکان سلبها عمّن لا یجوز علیه من کمالاته.

و قوله: و إنّهم على مکانتهم [مکانهم خ‏] منک. إلى آخره.
 لمّا بیّن عظمه الملائکه بالنسبه إلى من عداهم شرع فی المقصود و هو بیان عظمه اللّه تعالى بالنسبه إلیهم، و حقارتهم على عظمتهم بالقیاس إلى عظمته و کبریائه: أى أنّهم مع کونهم على هذه الأحوال الّتی توجب لهم العظمه و الإجلال من قرب منزلتهم منک و کمال محبّتهم لک و غرقهم فی أنوار کبریائک عن الالتفات إلى غیرک لو عرفوا کنه معرفتک لصغرت فی أعینهم أعمالهم، و علموا أن لا نسبه لعبادتهم إلى عظمتک و جلال وجهک، و لمّا کان کمال العباده و مطابقتها للأمر المطاع بحسب العلم بعظمته، و کان ذات الحقّ سبحانه أعظم من أن یطّلع علیه بالکنه ملک مقرّب‏ أو نبیّ مرسل لا جرم کانت عباده الملائکه بحسب معارفهم القاصره عن کنه حقیقته.
فکلّ من کانت معرفته أتمّ کانت عباده من دونه مستحقره فی جانب عبادته حتّى لو زادت معارفهم به و أمکن اطّلاعهم على کنه حقیقته لزادت عبادتهم و کانت أکمل فاستحقروا ما کانوا فیه و عابوا أنفسهم بقصور الطاعه و العباده عمّا یستحقّه کماله المطلق، و عبّر بقلّه الغفله عن عدمها فی حقّهم مجازا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه.
إذ کان کلّ معدوم قلیل و لا ینعکس، و جعل قلّه الغفله فی مقابله کثره الطاعه، و یحتمل أن یرید بقلّه الغفله قوّه معرفه بعضهم بالنسبه إلى بعض مجازا أیضا إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه. إذ کانت قلّه الغفله مستلزمه لقوّه المعرفه و زیادتها، و قد سبق ذکر أنواع الملائکه السماویّه و غیرهم، و ذکر نکت من أحوالهم فی الخطبه الاولى.


الفصل الثانی
قوله: سُبْحَانَکَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً- بِحُسْنِ بَلَائِکَ عِنْدَ خَلْقِکَ خَلَقْتَ دَاراً- وَ جَعَلْتَ فِیهَا مَأْدُبَهً- مَشْرَباً وَ مَطْعَماً وَ أَزْوَاجاً- وَ خَدَماً وَ قُصُوراً- وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً- ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِیاً یَدْعُو إِلَیْهَا- فَلَا الدَّاعِیَ أَجَابُوا- وَ لَا فِیمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا- وَ لَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَیْهِ اشْتَاقُوا- أَقْبَلُوا عَلَى جِیفَهٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَکْلِهَا- وَ اصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا- وَ مَنْ عَشِقَ شَیْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ- وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ- فَهُوَ یَنْظُرُ بِعَیْنٍ غَیْرِ صَحِیحَهٍ- وَ یَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَیْرِ سَمِیعَهٍ- قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ- وَ أَمَاتَتِ الدُّنْیَا قَلْبَهُ- وَ وَلِهَتْ عَلَیْهَا نَفْسُهُ- فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا- وَ لِمَنْ فِی یَدَیْهِ شَیْ‏ءٌ مِنْهَا- حَیْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَیْهَا- وَ حَیْثُمَا أَقْبَلَتْ‏ أَقْبَلَ عَلَیْهَا- لَا یَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ- وَ لَا یَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ- وَ هُوَ یَرَى الْمَأْخُوذِینَ عَلَى الْغِرَّهِ- حَیْثُ لَا إِقَالَهَ وَ لَا رَجْعَهَ- کَیْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا کَانُوا یَجْهَلُونَ- وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْیَا مَا کَانُوا یَأْمَنُونَ- وَ قَدِمُوا مِنَ الْآخِرَهِ عَلَى مَا کَانُوا یُوعَدُونَ- فَغَیْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ- اجْتَمَعَتْ عَلَیْهِمْ سَکْرَهُ الْمَوْتِ- وَ حَسْرَهُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ- وَ تَغَیَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ- ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِیهِمْ وُلُوجاً- فَحِیلَ بَیْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَیْنَ مَنْطِقِهِ- وَ إِنَّهُ لَبَیْنَ أَهْلِهِ یَنْظُرُ بِبَصَرِهِ- وَ یَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّهٍ مِنْ عَقْلِهِ- وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ- یُفَکِّرُ فِیمَ أَفْنَى عُمُرَهُ- وَ فِیمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ- وَ یَتَذَکَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِی مَطَالِبِهَا- وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا- قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا- وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا- تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ یَنْعَمُونَ فِیهَا- وَ یَتَمَتَّعُونَ بِهَا- فَیَکُونُ الْمَهْنَأُ لِغَیْرِهِ وَ الْعِبْ‏ءُ عَلَى ظَهْرِهِ- وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا- فَهُوَ یَعَضُّ یَدَهُ نَدَامَهً- عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ- وَ یَزْهَدُ فِیمَا کَانَ یَرْغَبُ فِیهِ أَیَّامَ عُمُرِهِ- وَ یَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِی کَانَ یَغْبِطُهُ بِهَا- وَ یَحْسُدُهُ عَلَیْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ- فَلَمْ یَزَلِ الْمَوْتُ یُبَالِغُ فِی جَسَدِهِ- حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ- فَصَارَ بَیْنَ أَهْلِهِ لَا یَنْطِقُ بِلِسَانِهِ- وَ لَا یَسْمَعُ بِسَمْعِهِ- یُرَدِّدُ  طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِی وُجُوهِهِمْ- یَرَى حَرَکَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ لَا یَسْمَعُ‏ رَجْعَ کَلَامِهِمْ- ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِیَاطاً فَقُبِضَ بَصَرُهُ کَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ- فَصَارَ جِیفَهً بَیْنَ أَهْلِهِ- قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ- وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ- لَا یُسْعِدُ بَاکِیاً وَ لَا یُجِیبُ دَاعِیاً- ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِی الْأَرْضِ- فَأَسْلَمُوهُ فِیهِ إِلَى عَمَلِهِ- وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ


اللغه
أقول: المأدبه بضمّ الدال و فتحها: الطعام یصنع و یدعى إلیه. و الوله: التحیّر لشدّه الوجد و المحبّه. و أغمض: أى اذداد من مطالبها و تساهل فی وجوه اکتسابها و لم یحفظ دینه. و التبعه: ما یلحق من إثم و عقاب. و المهنأ: المصدر من هنؤ بالضمّ و هنى‏ء بالکسر. و العب‏ء: الحمل. و أصحر: انکشف. و رجع الکلام: جوابه و تردیده. و الالتیاط: الالتصاق. و المخطّ: موضع الخطّ کنایه عن القبر یخطّ أوّلا ثمّ یحفر، و یروى بالحاء. و محطّ القوم: منزلهم.


و فی هذا الفصل نکت:
الاولى: أنّ خالقا و معبودا حالان انتصبا عمّا فی سبحانک من معنى الفعل:
أى اسبّحک خالقا و معبودا، و أشار بذلک إلى وجوب تنزیهه فی هذین الاعتبارین أعنى اعتبار کونه خالقا للخلق و معبودا لهم عن الشرکاء و الأنداد فإنه لمّا تفرّد بالإبداع و الخلق، و استحقّ بذلک التفرّد تفرّده بعباده الکلّ له وجب تنزیهه عن مساو له فی الاعتبارین.

الثانیه: قوله: بحسن بلائک عند خلقک خلقت دارا الجارّ و المجرور متعلّق بخلقت، و لفظ الدار مستعار للإسلام، و لفظ المأدبه للجنّه، و الداعى هو الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلم. و قد جمعها الخبر فی بعض أمثاله صلّى اللّه علیه و آله و سلم إنّ اللّه جعل الإسلام دارا و الجنّه مأدبه و الداعى إلیها محمّدا. و وجه الاستعاره الاولى أنّ الإسلام یجمع أهله و یحمیهم کالدار، و وجه الثانیه: أنّ الجنّه مجتمع الشهوات و منتجع اللذّات‏ کالمأدبه، و یحتمل أن یرید بالدار الآخره باعتبار کونها مجمعا و مستقرّا و المأدبه فیها الجنّه، و المنصوبات الثمانیه ممیّزات لتلک المأدبه، و ظاهر أنّ وجود الإسلام و الجنّه و الدعوه إلیها بلاء حسن من اللّه لخلقه، و قد عرفت معنى ابتلائه تعالى، و قال بعض الشارحین: إنّ قوله: بحسن بلائک متعلّق بسبحانک أو بمعبود و هو بعید.

الثالثه: قوله: فلا الداعى أجابوا. إلى قوله: بواعظ
شرح لحال العصاه الّذین لم یجیبوا داعى اللّه، و بیان لعیوبهم و غرقهم فی حبّ الباطل من الدنیا و فائدته: أمّا للمنتهین اللازمین لأوامر اللّه المجیبین لدعوته فتنفیرهم عن الرکون إلى هؤلاء و الوقوع فیما وقعوا فیه، و أمّا لهؤلاء فتنبیههم من مراقد غفلاتهم بتذکیرهم عیوبهم لعلّهم یرجعون، و استعار لفظ الجیفه للدنیا، و وجه المشابهه أنّ لذّات الدنیا و قیناتها فی نظر العقلاء و اعتبار الصالحین منفور عنها و مهروب منها و مستقذره کالجیفه و إلى ذلک أشار الواصف لها:
و ما هی إلّا جیفه مستحیله علیها کلاب همهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها کنت سلما لأهلها
و إن تجتذبها نازعتک کلابها

و یمکن أخذ معنى البیت الثانی فی وجه الاستعاره المذکوره، و کذلک استعار لفظ الافتضاح للاشتهار باقتنائها و جمعها و الخروج بها عن شعائر الصالحین، و وجه الاستعاره أنّه لمّا کان الإقبال على جمع الدنیا و الاشتغال بها عن اللّه من أعظم الکبائر و المساوى فی نظر الشارع و السالکین لطریق اللّه، و کان الافتضاح عباره عن انکشاف المساوى المتعارف قبحها لا جرم أشبه الاشتهار بجمعها و انکشاف الحرص علیها الافتضاح، و یمکن أن یصدق الافتضاح هاهنا حقیقه، و کنّى بأکلها عن جمعها، و تجوّز بلفظ الاصطلاح فی التوافق على محبّتها إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه فإنّ الاصطلاح عباره عن التراضى بعد التغاضب و یلزمه الاتّفاق على الأحوال، و قوله: من عشق شیئا أعمى بصره و أمرض قلبه. کبرى قیاس دلّ على صغراه قوله: و اصطلحوا على حبّها. لأنّ الاصطلاح على محبّه الشی‏ء یستلزم شدّه محبّته و هومعنى العشق و نتیجته أنّ المذکورین فی معرض الذمّ قد أعشت الدنیا أبصارهم و أمرضت قلوبهم، و استعار لفظ البصر لنور البصیره ملاحظه لشبه المعقول بالمحسوس، و لفظ العشاء لظلمه الجهل ملاحظه للشبه بالظلمه العارضه للعین باللیل، و إسناد الإعشاء إلى الدنیا یحتمل أن یکون حقیقه لما یستلزمه حبّها من الجهل و الغفله عن أحوال الآخره، و یحتمل أن یرید بالبصر حقیقته، و یکون لفظ العشاء مستعارا لعدم استفادتهم بأبصارهم عبره تصرفهم عن حبّ الدنیا إلى ملاحظه أحوال الآخره، و یؤیّده قوله: فهو ینظر بعین غیر صحیحه، و کنّى بعدم صحّتها عمّا یلزم العین غیر الصحیحه من عدم الانتفاع بها فی تحصیل الفائده، و کذلک استعار لفظ المرض للداء الأکبر و هو الجهل استعاره لفظ المحسوس للمعقول، و قوله: فهو یسمع باذن غیر سمیعه، و کنّى بذلک عن عدم إفادتها عبره من المواعظ و الزواجر الإلهیّه کما سبق، و کذلک استعار لفظ التخریق لتفرّق عقله فی مهمّات الدنیا و مطالبها.
و وجه الاستعاره أنّ العقل إذا استعمل فیما خلق لأجله من اتّخاذ الزاد لیوم المعاد و اقتباس العلم و الحکمه من تصفّح جزئیّات الدنیا و الاستدلال منها على وجود الصانع و ما ینبغی له و نحو ذلک ممّا هو کماله المستعدّ فی الآخره فإنّه یکون منتظما منتفعا به، و أمّا إن استعمل فیما لا ینبغی من جمیع متفرّقات الدنیا و توزیع الهمّه فی تحصیل جزئیّاتها و ضبطها حتّى یکون أبدا فی الحزن و الأسف على فوات ما فات، و فی الخوف من زوال ما یحصل، و فی الهمّه و الحرص على جمع ما لم یحصل بعد فإنّه یکون کالثوب المخرّق الّذی لا ینتفع به صاحبه. و نحوه قول الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلم: من جعل الدنیا أکبر همّه فرّق اللّه علیه همّه، و جعل فقره بین عینیه.
الحدیث، و نسبه ذلک التخریق إلى الشهوات ظاهره. إذ کان زمام عقله بید شهوته فهى تفرّقه و تمزّقه على حسب تصرّفاتها و میولها إلى أنواع المشتهیات، و کذلک استعار لفظ الإماته لقلبه، و وجه المشابهه خروجه عن الانتفاع به الانتفاع الحقیقىّ الباقى کالمیّت، و الضمیر فی قوله: علیها یعود إلى الدنیا: أى و ولّهت الدنیا على نفسها، و کنّى بالتولّه عن شدّه المحبّه لها و أطلقه مجازا تسمیه للشی‏ء بما هو من غایاته، و کذلک‏ استعار لفظ العبد له لکونه محبّها و المتجرّد لتحصیلها متصرّفا بحسب تصریفها و دائرا فی حرکاته حیث دارت فإن کانت فی یده أقبل علیها بالعماره و الحفظ، و إن زالت عنه أنصب إلى تحصیلها و خدمه من کانت فی یده لغرضها فهو فی ذلک کالعبد لها بل أخسّ حالا کما قال علیه السّلام فی موضع آخر: عبد الشهوه أذلّ من عبد الرقّ. إذا الباعث لعبد الرقّ على الخدمه و الانقیاد قد یکون قسریّا، و الباعث لعبد الشهوه طبیعىّ، و شتّان ما بینهما.

الرابعه: قوله: و هو یرى المأخوذین على الغرّه
فالواو فی قوله: و هو للحال، و هو شروع فی وصف نزول الموت بالغافلین عن الاستعداد له و لما ورائه من أحوال الآخره و کیفیّه قبض الموت لأرواحهم من مبدء نزوله بهم. إلى آخره، و کیفیّه أحوالهم مع أهلیهم و إخوانهم معه، و هو وصف لا مزید على وضوحه و بلاغته و فائدته تذکیر العصاه بأهوال الموت و تنبیههم من غفلتهم فی الباطل بذلک على وجوب العمل له، و تثبیت للسالکین إلى اللّه على ما هم علیه، و مراده بقوله: ما کانوا یجهلون. لا الموت فإنّه معلوم لکلّ أحد، بل تفصیل سکراته و أهواله. و ما کانوا یأمنون. إشاره إلى الموت و ما بعده فإنّ الغافل حال انهماکه فی لذّات الدنیا لا یعرض له خوف الموت بل یکون فی تلک الحال آمنا منه، و قوله: فغیر موصوف ما نزل بهم: أى لیس ذلک ممّا یمکن استقصائه بوصف بل غایته التمثیل کما ورد فی التوراه: أنّ مثل. الموت کمثل شجره شوک أدرجت فی بدن بن آدم فتعلّقت کلّ شوکه بعرق و عصب ثمّ جذبها رجل شدید الجذب فقطع ما قطع و ابقى ما ابقى، و استعار لفظ الولوج لما یتصوّر من فراق الحیاه لعضوعضو فأشبه ذلک دخول جسم فی جسم آخر، و کذلک استعار لفظ العب‏ء للآثام الّتی تحملها النفس، و رشّح بذکر الظهر استعاره لفظ المحسوس للمعقول.

الخامسه: قوله: و المرء قد غلقت رهونه بها.
ضربه مثلا لحصول المرء فی تبعات ما جمع و ارتباطه بها عن الوصول إلى کماله و انبعاثه إلى سعادته بعد الموت، و قد کان یمکنه فکاکها بالتوبه و الأعمال الصالحه فأشبه ما جمع من الهیئات الردیئه فی نفسه عن اکتساب الأموال فارتهنت بها بما على الرهن من المال، و قال بعض الشارحین: أراد أنّه لمّا أشفى على الفراق صارت الأموال الّتی جمعها مستحقّه لغیره و لم یبق له فیها تصرّف فاشبهت الرهن الّذی غلّق على صاحبه فخرج عن کونه مستحقّا لصاحبه و صار مستحقّا للمرتهن. و هذا و إن کان محتملا إلّا أنّه یضیّع فائده قوله: بها. لأنّ الضمیر یعود إلى الأموال المجموعه و هو إشاره إلى المال الّذی تعلّق الرهن به فلا تکون هی نفس الرهن، و قوله: و هو یعضّ یده. کنایه عمّا یلزم ذلک من الأسف و الحزن و الندم على تفریطه فی جنب اللّه حیث انکشف له حال الموت انقطاع سببه من اللّه، و فوت ما کان یتوهّم بقائه علیه ممّا اشتغل به عن ربّه، و حیث یتحسّر على ذلک التفریط کما قال تعالى «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ یا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ فِی جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ کُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِینَ»«» و یتمنّى هدایه اللّه فیقول: لو أنّ اللّه هدانى لکنت من المتّقین، أو الرجعه إلى الدنیا لامتثال ما فرّطت فیه من الأوامر الإلهیّه فیقول حین یرى العذاب: لو أنّ لى کرّه فأکون من المحسنین، و کما قال تعالى «وَ یَوْمَ یَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى‏ یَدَیْهِ یَقُولُ یا لَیْتَنِی اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِیلًا»«» و قد نبّه علیه السّلام فی هذا الکلام على أنّ آله النطق تبطل من الإنسان حال الموت قبل آلتى السمع و البصر بقوله: فحیل بین أحدهم و بین منطقه، و إنّه لبین أهله ینظر ببصره و یسمع باذنه على صحّه من عقله. ثمّ نبّه على بطلان آله السمع بعدها قبل آله البصر و أنّ آله البصر تبطل مع المفارقه بقوله: حتّى خالط سمعه.
إلى قوله: یرى حرکات ألسنتهم و لا یسمع رجع کلامهم. و ذلک لعلمه علیه السّلام بأسرار الطبیعه، و لیس کلامه مطلقا بل فی بعض الناس و أغلب ما یکون ذلک فیمن تعرّض الموت الطبیعىّ لآلاته، و إلّا فقد تعرّض الآفه لقوّه البصر و آلته قبل آله السمع و آله النطق، و الّذی یلوح من أسباب ذلک أنّه لمّا کان السبب العامّ القریب للموت هو انطفاء الحراره الغریزیّه عن فناء الرطوبه الأصلیّه الّتی منها خلقنا، و کان فناء تلک الرطوبه عن عمل الحراره الغریزیّه فیها التجفیف و التحلیل و قد تعینها على‏ ذلک الأسباب الخارجیّه من الأهویه و استعمال الأدویه المجفّفه و سائر المخفّفات کان کلّ عضو أیبس من طبیعته و أبرد أسرع إلى البطلان و أسبق إلى الفساد.
إذا عرفت ذلک فنقول: أمّا أنّ آله النطق أسرع فسادا من آله السمع فلأنّ آله النطق مبنیّه على الأعصاب المحرّکه و مرکّبه منها، و آله السمع من الأعصاب المفیده للحسّ، و اتّفق الأطبّاء على أنّ الأعصاب المحرّکه أیبس و أبرد لکونها منبعثه من مؤخّر الدماغ دون الأعصاب المفیده للحسّ فإنّ جلّها منبعث من مقدّم الدماغ فکانت لذلک أقرب إلى البطلان، و لأنّ النطق أکثر شرائط من السماع لتوقّفه مع الآله و سلامتها على الصوت و سلامه مخارجه و مجارى النفس، و الأکثر شرطا أسرع إلى الفساد، و أمّا بطلان آله السمع قبل البصر فلأنّ منبت الأعصاب الّتی هى محلّ القوّه السامعه أقرب إلى مؤخّر الدماغ من منابت محلّ القوّه الباصره الصماخ الّذی رتّبت فیه قوّه السمع احتاج أن یکون مکشوفا غیر مسدود عنه سبیل الهواء بخلاف العصب الّذی هو آله البصر فکانت لذلک أصلب، و الأصلب أیبس و أسرع فسادا. هذا مع أنّه قد یکون ذلک لتحلّل الروح الحامل للسمع قبل الروح الحامل للبصر أو لغیر ذلک. و اللّه أعلم، و أمّا سبب النفره الطبیعیّه من المیّت و التوحّش من قربه فحکم الوهم على المتخیّله بمحاکاه حاله فی نفس المتوهّم، و عزل العقل فی ذلک الوضع حتّى أنّ المجاور لمیّت فی موضع منفرد یتخیّل أنّ المیّت یجذبه إلیه و یصیّره بحاله مثل حالته المنفوره عنها طبعا.

السادسه: قوله: و أسلموه فیه إلى عمله
إشاره إلى أنّ کلّ ثواب و عقاب اخروىّ یفاض على النفس فبحسب استعدادها بأعمالها السابقه الحسنه و السیّئه فعمل الإنسان هو النافع أو الضارّ له حین لا ناصر له، و لمّا کان میله علیه السّلام فی هذا الکلام إلى الإنذار و التخویف لا جرم ذکر إسلامهم له إلى عمله لأنّ الإسلام إنّما یکون إلى العدوّ فلمّا حاول أن ینفّر عن قبح الأعمال نبّه على أنّ عمل الإنسان القبیح یکون کعدوّه القوىّ علیه یسلم إلیه.

الفصل الثالث:
قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْکِتَابُ أَجَلَهُ- وَ الْأَمْرُ مَقَادِیرَهُ- وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ- وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا یُرِیدُهُ- مِنْ تَجْدِیدِ خَلْقِهِ- أَمَادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا- وَ أَرَجَّ الْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا- وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا- وَ دَکَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَیْبَهِ جَلَالَتِهِ- وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ- وَ أَخْرَجَ مَنْ فِیهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَاقِهِمْ- وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ- ثُمَّ مَیَّزَهُمْ لِمَا یُرِیدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ- عَنْ خَفَایَا الْأَعْمَالِ وَ خَبَایَا الْأَفْعَالِ- وَ جَعَلَهُمْ فَرِیقَیْنِ- أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَ انْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ- فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَهِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ- وَ خَلَّدَهُمْ فِی دَارِهِ- حَیْثُ لَا یَظْعَنُ النُّزَّالُ- وَ لَا تَتَغَیَّرُ بِهِمُ الْحَالُ- وَ لَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ- وَ لَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ وَ لَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ- وَ لَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ- وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِیَهِ- فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وَ غَلَّ الْأَیْدِیَ إِلَى الْأَعْنَاقِ- وَ قَرَنَ النَّوَاصِیَ بِالْأَقْدَامِ- وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِیلَ الْقَطِرَانِ- وَ مُقَطَّعَاتِ النِّیرَانِ- فِی عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ- وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ- فِی نَارٍ لَهَا کَلَبٌ وَ لَجَبٌ- وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ وَ قَصِیفٌ هَائِلٌ- لَا یَظْعَنُ مُقِیمُهَا- وَ لَا یُفَادَى أَسِیرُهَا- وَ لَا تُفْصَمُ کُبُولُهَا- لَا مُدَّهَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى- وَ لَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَیُقْضَى


اللغه
أقول: الرجّ، و الرجف: الاضطراب الشدید، و یروى رجّها بغیر همزه، و هو الأشهر. و نسفها: قلعها من اصولها و بثّها. و دکّ بعضها بعضا: تصادمت. و تنوبهم: تعودهم. و الخطر: الإشراف على الهلاک. و شخص: خرج من منزله‏ إلى آخر، و أشخصه: غیّره. و الکلب: الشدّه. و الجلب و اللجب: الصوت. و القصیف: الصوت الشدید. و الکبول: الأغلال واحدها کبل. و فصمها: کسرها.


المعنى
و أشار بقوله: حتّى إذا بلغ الکتاب أجله. إلى غایه الناس فی موتهم، و هو بلوغ الوقت المعلوم الّذی یجمع له الناس و هو یوم القیامه، و أراد بالأمر القضاء و مقادیره و تفاصیله من الآثار الّتی توجد على وفقه کما سبق بیانه، و لحوق الخلق بأوّله إشاره إلى توافیهم فی الموت و تساویهم فیه کما نطقت الشریعه به، و تجدید الخلق بعثهم و إعادتهم، و أمّا إماده السماء و شقّها و ارجاج الأرض و نسف الجبال فظاهر الشریعه الناطق بخراب هذا العالم ناطق به، و أمّا من زعم بقائه فربّما عدلوا إلى التأویل،
و الّذی یحتمل أن یقال فی ذلک وجوه:

أحدها
أنّ القیامه لمّا کانت عندهم عباره عن موت الإنسان و مفارقته لهذا البدن و لما یدرک بواسطته من الأجسام و الجسمانیّات و وصوله إلى مبدئه الأوّل کان عدمه عن هذه الأشیاء مستلزم لغیبوبتها عنه و عدمها و خرابها بالنسبه فیصدق علیه أنّه إذا انقطع نظره عن جمیع الموجودات سوى مبدئه الأوّل- جلّت عظمته- أنّها قد عدمت و تفرّقت، و کذلک إذا انقطع نظره عن عالم الحسّ و الخیال و متعلّقاتهما من الأجسام و الجسمانیّات و اتّصل بالملأ الأعلى فبالحرىّ أن یتبدّل الأرض و السماوات‏ بالنسبه إلیه فیصیر عالم الأجسام و الجسمانیّات أرضا له و عالم المفارقات سمائه.

الثانی:
أنّ هذه الموجودات المشار إلیها لمّا کانت مقهوره بلجام الإمکان فی قبض القدره الإلهیّه کان ما نسب إلیها من الانشقاق و الانفطار و الارجاج و النسف و غیرها امورا ممکنه فی نفسها و إن امتنعت بالنظر إلى الأسباب الخارجیّه فعبّر عمّا یمکن بالواقع مجازا. و حسنه فی العربیّه معلوم، و فائدته التهویل بما بعد الموت و التخویف للعصاه بتلک الأهوال.

الثالث:
قالوا: یحتمل أن یرید بالأرض القوابل للجود الإلهىّ استعاره فعلى هذا إماده السماء عباره عن حرکاتها و اتّصالات کواکبها الّتی هى أسباب معدّه لقوابل هذا العالم، و انفطارها إفاضه الجود بسبب تلک المعدّات على القوابل، و ارجاج الأرض إعداد الموادّ لإعاده أمثال هذه الأبدان أو لنوع آخر بعد فناء النوع الإنسانیّ، و قلع الجبال و نسفها و دقّها إشاره إلى زوال موانع الاستعدادات لنوع آخر إن کان، أولا عاده بناء هذا النوع استعاره. و وجهها أنّ الأرض بنسف الجبال یستوى سطحها و یعتدل فکذلک قوابل الجود یستعدّ و یعتدل لأن یفاض علیها صوره نوع اخرى لأبناء هذا النوع.

الرابع:
قالوا: یحتمل أن یرید بالسماء سماء الجود الإلهىّ، و بالأرض عالم الإنسان. فعلى هذا یکون إماده السماء عباره عن ترتیب کلّ استحقاق لقابله فی القضاء الإلهىّ، و الفطر عباره عن الفیض، و ارجاج الأرض و إرجافها عباره عن الهرج و المرج الواقع بین أبناء نوع الانسان، و قلع جبالها و نسفها و دکّ بعضها بالبعض عباره عن إهلاک الجبابره و المعاندین للناموس الإلهىّ و قتل بعضهم ببعض. کلّ ذلک بأسباب قهریّه مستنده إلى هیبه جلال اللّه و عظمته، و إخراج من فیها و تجدیدهم إشاره إلى ظهور ناموس آخر مجدّد لهذا الناموس و المتّبع له إذن قوم آخرون هم کنوع جدید، و تمییزهم فریقین منعم علیهم و منتقم منهم ظاهر فإنّ المستعدّین لاتّباع الناموس الشرعىّ و القائلین به هم المنعم علیهم المثابون، و التارکین له المعرضین عنه هم المنتقم منهم المعاقبون، فأمّا صفه الفریقین و ما أعدّ لکلّ منهم بعد الموت فعلى ما نطق به الکتاب العزیز و وصفته هذه الألفاظ الکریمه. و على تقدیر التأویلات السابقه لمن عدل عن الظواهر فثواب أهل الطاعه جوار بارئهم و ملاحظه الکمال المطلق لهم، و خلودهم فی داره: بقائهم فی تلک النعمه غیر جائز علیهم الفناء کما تطابق علیه الشرع و البرهان، و کونهم غیر ظاعنین و لا متغیّرى الأحوال و لا فزعین و لا ینالهم سقم و لا خطر و لا یشخصهم سفر فلأنّ کلّ ذلک من لواحق الأبدان و الکون فی الحیاه الدنیا فحیث زالت زالت عوارضها و لواحقها، و أمّا جزاء أهل المعصیه فإنزالهم شرّ دار، و هى جهنّم الّتی هی أبعد بعید عن جوار اللّه، و غلّ أیدیهم إلى أعناقهم إشاره إلى قصور قواهم العقلیّه عن تناول ثمار المعرفه، و اقتران‏ النواصى بالأقدام إشاره إلى انتکاس رؤسهم عن مطالعه أنوار الحضره الإلهیّه، و إلباسهم سرابیل القطران: استعار لفظ السرابیل للهیئات البدنیّه المتمکّنه من جواهر نفوسهم، و وجه المشابهه اشتمالها علیها و تمکّنها منها کالسربال للبدن، و نسبتها إلى القطران إشاره إلى شدّه استعدادهم للعذاب، و ذلک أنّ اشتغال النار فیما یمسح بالقطران أشدّ، و نحوه قوله تعالى «سَرابِیلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ»«» و کذلک مقطّعات النیران: إشاره إلى تلک الهیئات الّتی تمکّنت من جواهر نفوسهم، و نسبتها إلى النار لکونها ملبوس أهلها فهى منها کما قال تعالى «قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِیابٌ مِنْ نارٍ»«» و لمّا کان سبب الخروج من النار هو الخروج إلى اللّه من المعاصى بالتوبه، و الرجوع إلى تدبّر الآیات و العبر النوافع. و کان البدن و حواسّه أبواب الخروج إلى اللّه فبعد الموت تغلق تلک الأبواب فلا جرم یبقى الکفّار وراء طبق تلک الأبواب فی شدائد حراره ذلک العذاب، و لهب النار و لجبها و أصواتها الهایله: استعاره لأوصاف النار المحسوسه المستلزمه للهیبه و الخوف حسّا للنار المعقوله الّتی هی فی الحقیقه أشدّ- نعوذ باللّه منها- و إنّما عدل إلى المحسوس للغفله عن صفات تلک النار و عدم تصوّر أکثر الخلق لها إلّا من هذه الأوصاف المحسوسه، و کونها لا یظعن مقیمها کنایه عن التخلید و ذلک فی حقّ الکفّار، و لفظ الأسیر و الفدیه استعاره، و کذلک لفظ الکبول استعاره لقیود الهیئات البدنیّه المتمکّنه من جواهر نفوس الکفّار فکما لا ینفصم القید الوثیق من الحدید و لا ینفکّ المکبّل به کذلک النفوس المقیّده بالهیئات الردیئه البدنیّه عن المشى فی بیداء جلال اللّه و عظمته و التنزّه فی جنان حظائر قدسه و مقامات أصفیائه، و لمّا کان الأجل مفارقه البدن لم یکن لهم بعد موتهم أجل، إذ لا أبدان بعد الأبدان و لا خلاص من العذاب للزوم الملکات الردیئه لأعناق نفوسهم، و تمکّنها منها. فهذا ما عساهم یتأوّلونه أو یعبّرون به عن الأسرار الّتی یدّعونها تحت هذه العبارات الواضحه الّتى وردت الشریعه بها. لکنّک قد علمت أنّ العدول إلى هذه التأویلات و أمثالها مبنىّ على امتناع المعاد البدنىّ، و ذلک ممّا صرّحت به الشریعه تصریحا لا یجوز العدول عنه، و نصوصا لا یحتمل التأویل، و إذا حملنا الکلام على ما وردت به الشریعه فهذا الکلام منه علیه السّلام أفصح ما یوصف به حال القیامه و المعاد. و التعرّض لشرحه یجرى مجرى إیضاح الواضحات. و باللّه التوفیق.


الفصل الرابع

و منها فی ذکر النبی صلى اللّه علیه و آله و سلم:
قَدْ حَقَّرَ الدُّنْیَا وَ صَغَّرَهَا- وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا- وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِیَاراً- وَ بَسَطَهَا لِغَیْرِهِ احْتِقَاراً- فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْیَا بِقَلْبِهِ- وَ أَمَاتَ ذِکْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ- وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِیبَ زِینَتُهَا عَنْ عَیْنِهِ- لِکَیْلَا یَتَّخِذَ مِنْهَا رِیَاشاً- أَوْ یَرْجُوَ فِیهَا مَقَاماً- بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً- وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً- وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّهِ مُبَشِّراً- نَحْنُ شَجَرَهُ النُّبُوَّهِ- وَ مَحَطُّ الرِّسَالَهِ- وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِکَهِ- وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ یَنَابِیعُ الْحُکْمِ- نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا یَنْتَظِرُ الرَّحْمَهَ- وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا یَنْتَظِرُ السَّطْوَهَ


اللغه
أقول: الریاش: اللباس.


المعنى
و الفصل اقتصاص لحال الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلم و أوصافه الحمیده لیبنى علیها ممادح نفسه بعد. فتحقیره للدنیا و تصغیرها و تهوینها إشاره إلى ما کان یجذب الخلق به عنها من ذکر مذامّها و تعدید معایبها، و إهوانه بها إشاره إلى زهده فیها، و علمه بإزواء اللّه إیّاها عنه اختیارا إشاره إلى أنّ زهده فیها کان عن علم منه باختیار اللّه له ذلک و تسبّب أسبابه و هو وجه مصلحته لیستعدّ نفسه بذلک لکمال النبوّه و القیام بأعباء الخلافه الأرضیّه و بسطها لغیره احتقارا لها،. و قد عرفت معنى الاختیار من اللّه لخلقه غیر مرّه. فکان إعراضه عنها بقلبه إماته ذکرها عن‏ نفسه، و محبّته لأن تغیب زینتها عن عینه لئلّا یتّخذ منها ریاشا و لا یرجو فیها مقاما جذبا للعنایه الإلهیّه له عن الالتفات إلى الالتقاط إلى الکمالات المعلومه له، و عن أن ینحطّ لمحبّتها عن مقامه الّذی قضت العنایه الإلهیّه بنظام العالم بسببه. ثمّ أعقب ذلک بذکر ثلاثه أحوال هى ثمره النبوّه الّتی هى ثمره الزهد المشار الیه، و هى تبلیغ رساله ربّه إعذارا إلى خلقه أن یقولوا یوم القیامه: إنّا کنّا عن هذا غافلین، و النصح لهم إنذارا بالعذاب الألیم فی عاقبه الإعراض عن اللّه، و دعائه إلى الجنّه مبشّرا لمن سلک سبیل اللّه و نهجه المستقیم بما أعدّ له فیها من النعیم المقیم. ثمّ عقّب اقتصاص تلک الممادح بالإشاره إلى فضیله نفسه، و ذلک منه فی معرض المفاخره بینه و بین مشاجریه کمعاویه فأشار إلى فضیلته من جهه اتّصاله بالرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلم إذ کان من البیت الّذی هو شجره النبوّه و محطّ الرساله و معدن العلم و ینبوع الحکمه بأفضل مکان بعد الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلم کما سبق بیانه فی بیان فضائله، و لفظ الشجره و المعادن و الینابیع مستعار کما سبق، و إذا کان من تلک الشجره کما علمت و لکلّ غصن من الشجره قسط من الثمره بحسب قوّته و قربه من الأصل و عنایه الطبیعه به علمت مقدار فضیلته و نسبتها إلى الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلم. و قوله بعد ذلک: ناصرنا ومحبّنا. إلى آخره. ترغیب فی نصرته و محبّته و جذب إلیها بالوعد برحمه اللّه و إفاضه برکاته و تنفیر عن عداوته و بغضه بلحوق سطوه اللّه، و لعلّ ذلک هو غایته هنا من ذکر فضیلته. و باللّه التوفیق و العصمه.


شرح ‏نهج البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۳ ، صفحه‏ى ۵۰

بازدیدها: ۱۳

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.