۱۹۳ و من کلام له ع
وَ اللَّهِ مَا مُعَاوِیَهُ بِأَدْهَى مِنِّی وَ لَکِنَّهُ یَغْدِرُ وَ یَفْجُرُ- وَ لَوْ لَا کَرَاهِیَهُ الْغَدْرِ لَکُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ- وَ لَکِنْ کُلُّ غُدَرَهٍ فُجَرَهٌ وَ کُلُّ فُجَرَهٍ کُفَرَهٌ- وَ لِکُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ یُعْرَفُ بِهِ یَوْمَ الْقِیَامَهِ- وَ اللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَکِیدَهِ وَ لَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِیدَهِ الغدره على فعله الکثیر الغدر- و الفجره و الکفره الکثیر الفجور و الکفر- و کل ما کان على هذا البناء فهو للفاعل- فإن سکنت العین فهو للمفعول- تقول رجل ضحکه أی یضحک و ضحکه یضحک منه- و سخره یسخر و سخره یسخر به- یقول ع کل غادر فاجر و کل فاجر کافر- و یروى و لکن کل غدره فجره و کل فجره کفره- على فعله للمره الواحده- . وقوله لکل غادر لواء یعرف به یوم القیامهحدیث صحیح مروی عن النبی ص- . ثم أقسم ع أنه لا یستغفل بالمکیده- أی لا تجوز المکیده علی- کما تجوز على ذوی الغفله- و أنه لا یستغمز بالشدیده- أی لا أهین و ألین للخطب الشدید
سیاسه علی و جریها على سیاسه الرسول ع
و اعلم أن قوما ممن لم یعرف حقیقه فضل أمیر المؤمنین ع- زعموا أن عمر کان أسوس منه- و إن کان هو أعلم من عمر- و صرح الرئیس أبو علی بن سینا بذلک- فی الشفاء فی الحکمه- و کان شیخنا أبو الحسین یمیل إلى هذا- و قد عرض به فی کتاب الغرر- ثم زعم أعداؤه و مباغضوه- أن معاویه کان أسوس منه و أصح تدبیرا- و قد سبق لنا بحث قدیم فی هذا الکتاب- فی بیان حسن سیاسه أمیر المؤمنین ع و صحه تدبیره- و نحن نذکر هاهنا ما لم نذکره هناک- مما یلیق بهذا الفصل الذی نحن فی شرحه- .
اعلم أن السائس لا یتمکن من السیاسه البالغه- إلا إذا کان یعمل برأیه- و بما یرى فیه صلاح ملکه و تمهید أمره و توطید قاعدته- سواء وافق الشریعه أو لم یوافقها- و متى لم یعمل فی السیاسه و التدبیر بموجب ما قلناه- فبعید أن ینتظم أمره أو یستوثق حاله- و أمیر المؤمنین کان مقیدا بقیود الشریعه- مدفوعا إلى اتباعها و رفض ما یصلح اعتماده- من آراء الحرب و الکید و التدبیر- إذا لم یکن للشرع موافقا- فلم تکن قاعدته فی خلافته قاعده غیره- ممن لم یلتزم بذلک- و لسنا بهذا القول زارین على عمر بن الخطاب- و لا ناسبین إلیه ما هو منزه عنه- و لکنه کان مجتهدا- یعمل بالقیاس و الاستحسان و المصالح المرسله- و یرى تخصیص عمومات النص بالآراء- و بالاستنباط من أصول- تقتضی خلاف ما یقتضیه عموم النصوص- و یکید خصمه و یأمر أمراءه بالکید و الحیله- و یؤدب بالدره و السوط- منیتغلب على ظنه أنه یستوجب ذلک- و یصفح عن آخرین قد اجترموا ما یستحقون به التأدیب- کل ذلک بقوه اجتهاده و ما یؤدیه إلیه نظره- و لم یکن أمیر المؤمنین ع یرى ذلک- و کان یقف مع النصوص و الظواهر- و لا یتعداها إلى الاجتهاد و الأقیسه- و یطبق أمور الدنیا على أمور الدین- و یسوق الکل مساقا واحدا- و لا یضیع و لا یرفع إلا بالکتاب و النص- فاختلفت طریقتاهما فی الخلافه و السیاسه- و کان عمر مع ذلک شدید الغلظه و السیاسه- و کان علی ع کثیر الحلم و الصفح و التجاوز- فازدادت خلافه ذاک قوه و خلافه هذا لینا- و لم یمن عمر بما منی به علی ع من فتنه عثمان- التی أحوجته إلى مداراه أصحابه و جنده و مقاربتهم- للاضطراب الواقع بطریق تلک الفتنه- ثم تلا ذلک فتنه الجمل و فتنه صفین ثم فتنه النهروان- و کل هذه الأمور مؤثره فی اضطراب أمر الوالی- و انحلال معاقد ملکه- و لم یتفق لعمر شیء من ذلک- فشتان بین الخلافتین فیما یعود إلى انتظام المملکه- و صحه تدبیر الخلافه- .
فإن قلت فما قولک فی سیاسه رسول الله ص و تدبیره- أ لیس کان منتظما سدیدا مع أنه کان لا یعمل إلا بالنصوص- و التوقیف من الوحی- فهلا کان تدبیر علی ع و سیاسته کذلک- إذا قلتم إنه کان لا یعمل إلا بالنص- قلت أما سیاسه رسول الله ص و تدبیره فخارج عما نحن فیه- لأنه معصوم لا تتطرق الغفله إلى أفعاله- و لا واحد من هذین الرجلین بواجب العصمه عندنا- و أیضا فإن کثیرا من الناس- ذهبوا إلى أن الله تعالى أذن لرسول الله ص- أن یحکم فی الشرعیات و غیرها برأیه- و قال له احکم بما تراه فإنک لا تحکم إلا بالحق- و هذا مذهب یونس بن عمران- و على هذا فقد سقط السؤال- لأنه ص یعمل بما یراه من المصلحه و لا ینتظر الوحی- .
و أیضا فبتقدیر فساد هذا المذهب- أ لیس قد ذهب خلق کثیر من علماء أصول الفقه- إلى أن رسول الله ص کان یجوز له- أن یجتهد فی الأحکام و التدبیر- کما یجتهدالواحد من العلماء- و إلیه ذهب القاضی أبو یوسف رحمه الله- و احتج بقوله تعالى لِتَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ بِما أَراکَ اللَّهُ- . و السؤال أیضا ساقط على هذا المذهب- لأن اجتهاد علی ع لا یساوی اجتهاد النبی ص- و بین الاجتهادین کما بین المنزلتین- . و کان أبو جعفر بن أبی زید الحسنی نقیب البصره رحمه الله- إذا حدثناه فی هذا یقول- إنه لا فرق عند من قرأ السیرتین- سیره النبی ص و سیاسه أصحابه أیام حیاته- و بین سیره أمیر المؤمنین ع و سیاسه أصحابه أیام حیاته- فکما أن علیا ع لم یزل أمره مضطربا معهم- بالمخالفه و العصیان و الهرب إلى أعدائه- و کثره الفتن و الحروب- فکذلک کان النبی ص- لم یزل ممنوا بنفاق المنافقین و أذاهم- و خلاف أصحابه علیه و هرب بعضهم إلى أعدائه- و کثره الحروب و الفتن- .
و کان یقول أ لست ترى القرآن العزیز- مملوءا بذکر المنافقین و الشکوى منهم- و التألم من أذاهم له- کما أن کلام علی ع مملوء بالشکوى من منافقی أصحابه- و التألم من أذاهم له و التوائهم علیه- و ذلک نحو قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِینَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى- ثُمَّ یَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ- وَ یَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِیَهِ الرَّسُولِ- وَ إِذا جاؤُکَ حَیَّوْکَ بِما لَمْ یُحَیِّکَ بِهِ اللَّهُ- وَ یَقُولُونَ فِی أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا یُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ- حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ یَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِیرُ- . و قوله إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّیْطانِ- لِیَحْزُنَ الَّذِینَ آمَنُوا الآیه- . و قوله تعالى إِذا جاءَکَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّکَ لَرَسُولُ اللَّهِ- وَ اللَّهُ یَعْلَمُ إِنَّکَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ یَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِینَ لَکاذِبُونَ- اتَّخَذُوا أَیْمانَهُمْ جُنَّهً فَصَدُّوا عَنْ سَبِیلِ اللَّهِ- إِنَّهُمْ ساءَ ما کانُوا یَعْمَلُونَ السوره بأجمعها- .
و قوله تعالى وَ مِنْهُمْ مَنْ یَسْتَمِعُ إِلَیْکَ- حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِکَ- قالُوا لِلَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً- أُولئِکَ الَّذِینَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ- . و قوله تعالى رَأَیْتَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ- یَنْظُرُونَ إِلَیْکَ نَظَرَ الْمَغْشِیِّ عَلَیْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ- طاعَهٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ- فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَکانَ خَیْراً لَهُمْ- . و قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ- أَنْ لَنْ یُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ- وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَیْناکَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِیماهُمْ- وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِی لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ یَعْلَمُ أَعْمالَکُمْ- . و قوله تعالى سَیَقُولُ لَکَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ- شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا- یَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ- قُلْ فَمَنْ یَمْلِکُ لَکُمْ مِنَ اللَّهِ شَیْئاً- إِنْ أَرادَ بِکُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِکُمْ نَفْعاً- بَلْ کانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیراً- بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ یَنْقَلِبَ الرَّسُولُ- وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِیهِمْ أَبَداً وَ زُیِّنَ ذلِکَ فِی قُلُوبِکُمْ- وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ کُنْتُمْ قَوْماً بُوراً- .
و قوله تعالى سَیَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ- لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْکُمْ یُرِیدُونَ أَنْ یُبَدِّلُوا کَلامَ اللَّهِ- قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا کَذلِکُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ-فَسَیَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا- بَلْ کانُوا لا یَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِیلًا- . و قوله إِنَّ الَّذِینَ یُنادُونَکَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ- أَکْثَرُهُمْ لا یَعْقِلُونَ- وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَیْهِمْ لَکانَ خَیْراً لَهُمْ- وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ- . قال و أصحابه هم الذین نازعوا فی الأنفال و طلبوها لأنفسهم- حتى أنزل الله تعالى قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَیْنِکُمْ- وَ أَطِیعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ- . و هم الذین التووا علیه فی الحرب یوم بدر- و کرهوا لقاء العدو حتى خیف خذلانهم- و ذلک قبل أن تتراءى الفئتان- و أنزل فیهم یُجادِلُونَکَ فِی الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَیَّنَ- کَأَنَّما یُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ یَنْظُرُونَ- .
و هم الذین کانوا یتمنون لقاء العیر دون لقاء العدو- حتى إنهم ظفروا برجلین فی الطریق- فسألوهما عن العیر فقالا لا علم لنا بها- و إنما رأینا جیش قریش من وراء ذلک الکثیب- فضربوهما و رسول الله ص قائم یصلی- فلما ذاقا مس الضرب قالا بل العیر أمامکم فاطلبوها- فلما رفعوا الضرب عنهما- قالا و الله ما رأینا العیر- و لا رأینا إلا الخیل و السلاح و الجیش- فأعادوا الضرب علیهما مره ثانیه- فقالا و هما یضربان العیر أمامکم- فخلوا عنا فانصرف رسول الله ص من الصلاه- و قال إذا صدقاکم ضربتموهما- و إذا کذباکم خلیتم عنهما دعوهما- فما رأیا إلا جیش أهل مکه و أنزل قوله تعالى- وَ إِذْ یَعِدُکُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَیْنِ أَنَّها لَکُمْ- وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَیْرَ ذاتِ الشَّوْکَهِ تَکُونُ لَکُمْ- وَ یُرِیدُ اللَّهُ أَنْ یُحِقَّ الْحَقَّ بِکَلِماتِهِ وَ یَقْطَعَدابِرَ الْکافِرِینَ- قال المفسرون- الطائفتان العیر ذات اللطیمه- الواصله إلى مکه من الشام- صحبه أبی سفیان بن حرب- و إلیها کان خروج المسلمین- و الأخرى الجیش ذو الشوکه- و کان ع قد وعدهم بإحدى الطائفتین- فکرهوا الحرب و أحبوا الغنیمه- .
قال و هم الذین فروا عنه ص یوم أحد- و أسلموه و أصعدوا فی الجبل- و ترکوه حتى شج الأعداء وجهه و کسروا ثنیته- و ضربوه على بیضته حتى دخل جماجمه- و وقع من فرسه إلى الأرض بین القتلى- و هو یستصرخ بهم و یدعوهم- فلا یجیبه أحد منهم إلا من کان جاریا مجرى نفسه- و شدید الاختصاص به و ذلک قوله تعالى- إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ- وَ الرَّسُولُ یَدْعُوکُمْ فِی أُخْراکُمْ- أی ینادی فیسمع نداءه آخر الهاربین لا أولهم- لأن أولهم أوغلوا فی الفرار- و بعدوا عن أن یسمعوا صوته- و کان قصارى الأمر أن یبلغ صوته و استصراخه- من کان على ساقه الهاربین منهم- . قال و منهم الذین عصوا أمره فی ذلک الیوم- حیث أقامهم على الشعب فی الجبل- و هو الموضع الذی خاف أن تکر علیه منه- خیل العدو من ورائه- و هم أصحاب عبد الله بن جبیر- فإنهم خالفوا أمره و عصوه فیما تقدم به إلیهم- و رغبوا فی الغنیمه ففارقوا مرکزهم- حتى دخل الوهن على الإسلام بطریقهم- لأن خالد بن الولید کر فی عصابه من الخیل- فدخل من الشعب الذی کانوا یحرسونه- فما أحس المسلمون بهم إلا و قد غشوهم بالسیوف من خلفهم- فکانت الهزیمه و ذلک قوله تعالى- حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْوَ تَنازَعْتُمْ فِی الْأَمْرِ- وَ عَصَیْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراکُمْ ما تُحِبُّونَ- مِنْکُمْ مَنْ یُرِیدُ الدُّنْیا وَ مِنْکُمْ مَنْ یُرِیدُ الْآخِرَهَ- .
قال و هم الذین عصوا أمره فی غزاه تبوک- بعد أن أکد علیهم الأوامر- و خذلوه و ترکوه و لم یشخصوا معه- فأنزل فیهم یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا- ما لَکُمْ إِذا قِیلَ لَکُمُ انْفِرُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ- أَ رَضِیتُمْ بِالْحَیاهِ الدُّنْیا مِنَ الْآخِرَهِ- فَما مَتاعُ الْحَیاهِ الدُّنْیا فِی الْآخِرَهِ إِلَّا قَلِیلٌ- إِلَّا تَنْفِرُوا یُعَذِّبْکُمْ عَذاباً أَلِیماً- وَ یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَیْئاً- وَ اللَّهُ عَلى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ- و هذه الآیه خطاب مع المؤمنین لا مع المنافقین- و فیها أوضح دلیل على أن أصحابه و أولیاءه- المصدقین لدعوته کانوا یعصونه و یخالفون أمره- و أکد عتابهم و تقریعهم و توبیخهم بقوله تعالى- لَوْ کانَ عَرَضاً قَرِیباً وَ سَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوکَ- وَ لکِنْ بَعُدَتْ عَلَیْهِمُ الشُّقَّهُ- وَ سَیَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَکُمْ- یُهْلِکُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ یَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَکاذِبُونَ- .
ثم عاتب رسول الله ص على کونه أذن لهم فی التخلف- و إنما أذن لهم لعلمه أنهم لا یجیبونه فی الخروج- فرأى أن یجعل المنه له علیهم فی الإذن لهم- و إلا قعدوا عنه و لم تصل له المنه- فقال له عَفَا اللَّهُ عَنْکَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ- حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْکاذِبِینَ- أی هلا أمسکت عن الإذن لهم حتى یتبین لک قعود من یقعد- و خروج من یخرج صادقهم من کاذبهم- لأنهم کانوا قد وعدوه بالخروج معه کلهم- و کان بعضهم ینوی الغدر- و بعضهم یعزم على أن یخیس بذلک الوعد- فلو لم یأذن لهم لعلم من یتخلف و من لا یتخلف- فعرف الصادق منهم و الکاذب- .
ثم بین سبحانه و تعالى- أن الذین یستأذنونه فی التخلف خارجون من الإیمان- فقال له لا یَسْتَأْذِنُکَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ- أَنْ یُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِیمٌ بِالْمُتَّقِینَ- إِنَّما یَسْتَأْذِنُکَ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ- وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِی رَیْبِهِمْ یَتَرَدَّدُونَ- . و لا حاجه إلى التطویل بذکر الآیات المفصله- فیما یناسب هذا المعنى- فمن تأمل الکتاب العزیز- علم حاله ص مع أصحابه کیف کانت- و لم ینقله الله تعالى إلى جواره- إلا و هو مع المنافقین له- و المظهرین خلاف ما یضمرون من تصدیقه فی جهاد شدید- حتى لقد کاشفوه مرارا- فقال لهم یوم الحدیبیه احلقوا و انحروا مرارا- فلم یحلقوا و لم ینحروا- و لم یتحرک أحد منهم عند قوله- و قال له بعضهم و هو یقسم الغنائم- اعدل یا محمد فإنک لم تعدل- .
و قالت الأنصار له مواجهه یوم حنین- أ تأخذ ما أفاء الله علینا بسیوفنا- فتدفعه إلى أقاربک من أهل مکه- حتى أفضى الأمر إلى أنقال لهم فی مرض موته- ائتونی بدواه و کتف أکتب لکم ما لا تضلون بعده- فعصوه و لم یأتوه بذلک- و لیتهم اقتصروا على عصیانه- و لم یقولوا له ما قالوا و هو یسمع- . و کان أبو جعفر رحمه الله یقول من هذا ما یطول شرحه- و القلیل منه ینبئ عن الکثیر- و کان یقول إن الإسلام ما حلا عندهم- و لا ثبت فی قلوبهم إلا بعد موته- حین فتحت علیهم الفتوح و جاءتهم الغنائم و الأموال- و کثرت علیهم المکاسب و ذاقوا طعم الحیاه- و عرفوا لذه الدنیا و لبسوا الناعم- و أکلوا الطیب و تمتعوا بنساء الروم- و ملکوا خزائن کسرى- و تبدلوا بذلک القشف و الشظف و العیش الخشن- و أکلالضباب و القنافذ و الیرابیع- و لبس الصوف و الکرابیس و أکل اللوزینجات و الفالوذجات- و لبس الحریر و الدیباج- فاستدلوا بما فتحه الله علیهم- و أتاحه لهم على صحه الدعوه و صدق الرساله- و قد کان ص وعدهم بأنه سیفتح علیهم کنوز کسرى و قیصر- فلما وجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله- عظموه و بجلوه و انقلبت تلک الشکوک و ذاک النفاق- و ذلک الاستهزاء إیمانا و یقینا و إخلاصا- و طاب لهم العیش و تمسکوا بالدین- لأنه زادهم طریقا إلى نیل الدنیا- فعظموا ناموسه و بالغوا فی إجلاله- و إجلال الرسول الذی جاء به- ثم انقرض الأسلاف و جاء الأخلاف على عقیده ممهده- و أمر أخذوه تقلیدا من أسلافهم الذین ربوا فی حجورهم- ثم انقرض ذلک القرن و جاء من بعدهم کذلک و هلم جرا- .
قال و لو لا الفتوح و النصر و الظفر- الذی منحهم الله تعالى إیاه- و الدوله التی ساقها إلیهم- لانقرض دین الإسلام بعد وفاه رسول الله ص- و کان یذکر فی التواریخ کما تذکر الآن نبوه خالد بن سنان العبسی- حیث ظهر و دعا إلى الدین- و کان الناس یعجبون من ذلک- و یتذاکرونه کما یعجبون- و یتذاکرون أخبار من نبغ من الرؤساء و الملوک- و الدعاه الذین انقرض أمرهم و بقیت أخبارهم- .
و کان یقول من تأمل حال الرجلین- وجدهما متشابهتین فی جمیع أمورهما أو فی أکثرها- و ذلک لأن حرب رسول الله ص مع المشرکین کانت سجالا- انتصر یوم بدر و انتصر المشرکون علیه یوم أحد- و کان یوم الخندق کفافا خرج هو و هم سواء لا علیه و لا له- لأنهم قتلوا رئیس الأوس و هو سعد بن معاذ- و قتل منهم فارس قریش و هو عمرو بن عبد ود- و انصرفوا عنه بغیر حرب بعد تلک الساعه التی کانت- ثم حارب بعدها قریشا یوم الفتح فکان الظفر له- . و هکذا کانت حروب علی ع انتصر یوم الجمل- و خرج الأمر بینه و بین معاویه على سواء- قتل من أصحابه رؤساء و من أصحاب معاویه رؤساء- و انصرف کل واحد من الفریقین عن صاحبه بعد الحرب على مکانه- ثم حارب بعد صفین أهل النهروان فکان الظفر له- .
قال و من العجب أن أول حروب رسول الله ص کانت بدرا- و کان هو المنصور فیها- و أول حروب علی ع الجمل- و کان هو المنصور فیها- ثم کان من صحیفه الصلح و الحکومه یوم صفین- نظیر ما کان من صحیفه الصلح و الهدنه یوم الحدیبیه- ثم دعا معاویه فی آخر أیام علی ع إلى نفسه و تسمى بالخلافه- کما أن مسیلمه و الأسود العنسی دعوا إلى أنفسهما- فی آخر أیام رسول الله ص و تسمیا بالنبوه- و اشتد على علی ع ذلک- کما اشتد على رسول الله ص أمر الأسود و مسیلمه- و أبطل الله أمرهما بعد وفاه النبی ص- و کذلک أبطل أمر معاویه و بنی أمیه بعد وفاه علی ع- و لم یحارب رسول الله ص أحد من العرب إلا قریش- ما عدا یوم حنین- و لم یحارب علیا ع من العرب أحد- إلا قریش ما عدا یوم النهروان- و مات علی ع شهیدا بالسیف- و مات رسول الله ص شهیدا بالسم- و هذا لم یتزوج على خدیجه أم أولاده حتى ماتت- و هذا لم یتزوج على فاطمه أم أشرف أولاده حتى ماتت- و مات رسول الله ص عن ثلاث و ستین سنه- و مات علی ع عن مثلها- .
و کان یقول انظروا إلى أخلاقهما و خصائصهما- هذا شجاع و هذا شجاع و هذا فصیح و هذا فصیح- و هذا سخی جواد و هذا سخی جواد- و هذا عالم بالشرائع و الأمور الإلهیه- و هذا عالم بالفقه و الشریعه- و الأمور الإلهیه الدقیقه الغامضه- و هذا زاهد فی الدنیا غیر نهم و لا مستکثر منها- و هذا زاهد فی الدنیا تارک لها غیر متمتع بلذاتها- و هذا مذیب نفسه فی الصلاه و العباده و هذا مثله- و هذا غیر محبب إلیه شیء من الأمور العاجله إلا النساء- و هذا مثله- و هذا ابن عبد المطلب بن هاشم و هذا فی قعدده- و أبواهما أخوان لأب و أم دون غیرهما من بنی عبد المطلب- و ربی محمد ص فی حجر والد هذا و هذا أبو طالب- فکان جاریا عنده مجرى أحد أولاده- ثم لما شب ص و کبر استخلصه من بنی أبی طالب و هو غلام- فرباه فی حجره مکافأه لصنیع أبی طالب به- فامتزج الخلقان و تماثلت السجیتان- و إذا کان القرین مقتدیا بالقرین- فما ظنک بالتربیه و التثقیف الدهر الطویل- فواجب أن تکون أخلاق محمد ص کأخلاق أبی طالب- و تکون أخلاق علی ع کأخلاق أبی طالب أبیه- و محمد ع مربیه- و أن یکون الکل شیمه واحده و سوسا واحدا- و طینه مشترکه و نفسا غیر منقسمه و لا متجزئه- و ألا یکون بین بعض هؤلاء و بعض فرق و لا فضل- لو لا أن الله تعالى اختص محمدا ص برسالته و اصطفاه لوحیه- لما یعلمه من مصالح البریه فی ذلک- و من أن اللطف به أکمل و النفع بمکانه أتم و أعم- فامتاز رسول الله ص بذلک عمن سواه- و بقی ما عدا الرساله على أمر الاتحاد- و إلى هذا المعنىأشار ص بقوله أخصمک بالنبوه فلا نبوه بعدی- و تخصم الناس بسبعوقال له أیضا أنت منی بمنزله هارون من موسى- إلا أنه لا نبی بعدیفأبان نفسه منه بالنبوه- و أثبت له ما عداها من جمیع الفضائل- و الخصائص مشترکا بینهما- .
و کان النقیب أبو جعفر رحمه الله غزیر العلم- صحیح العقل منصفا فی الجدال- غیر متعصب للمذهب و إن کان علویا- و کان یعترف بفضائل الصحابه و یثنی على الشیخین- . و یقول إنهما مهدا دین الإسلام و أرسیا قواعده- و لقد کان شدید الاضطراب فی حیاه رسول الله ص- و إنما مهداه بما تیسر للعرب من الفتوح- و الغنائم فی دولتهما- . و کان یقول فی عثمان- إن الدوله فی أیامه کانت على إقبالها و علو جدها- بل کانت الفتوح فی أیامه أکثر و الغنائم أعظم- لو لا أنه لم یراع ناموس الشیخین- و لم یستطع أن یسلک مسلکهما- و کان مضعفا فی أصل القاعده مغلوبا علیه- و کثیر الحب لأهله- و أتیح له من مروان وزیر سوء أفسد القلوب علیه- و حمل الناس على خلعه و قتلهکلام أبی جعفر الحسنی فی الأسباب التی أوجبت محبه الناس لعلیو کان أبو جعفر رحمه الله لا یجحد الفاضل فضله- و الحدیث شجون- .
قلت له مره ما سبب حب الناس لعلی بن أبی طالب ع- و عشقهم له و تهالکهم فی هواه- و دعنی فی الجواب من حدیث الشجاعه و العلم و الفصاحه- و غیر ذلک من الخصائص التی رزقه الله سبحانه- الکثیر الطیب منها- . فضحک و قال لی کم تجمع جرامیزک علی- . ثم قال هاهنا مقدمه ینبغی أن تعلم- و هی أن أکثر الناس موتورون من الدنیا- أما المستحقون فلا ریب فی أن أکثرهم محرومون- نحو عالم یرى أنه لا حظ له فی الدنیا- و یرى جاهلا غیره مرزوقا و موسعا علیه- و شجاع قد أبلى فی الحرب و انتفع بموضعه- لیس له عطاء یکفیه و یقوم بضروراته- و یرى غیره و هو جبان فشل یفرق من ظله- مالکا لقطر عظیم من الدنیا- و قطعه وافره من المال و الرزق- و عاقل سدید التدبیر صحیح العقل قد قدر علیه رزقه- و هو یرى غیره أحمق مائقا تدر علیه الخیرات- و تتحلب علیه أخلاف الرزق- و ذی دین قویم و عباده حسنه و إخلاص و توحید- و هو محروم ضیق الرزق- و یرى غیره یهودیا أو نصرانیا أو زندیقا- کثیر المال حسن الحال- حتى إن هذه الطبقات المستحقه- یحتاجون فی أکثر الوقت- إلى الطبقات التی لا استحقاقلها- و تدعوهم الضروره إلى الذل لهم و الخضوع بین أیدیهم- إما لدفع ضرر أو لاستجلاب نفع- و دون هذه الطبقات من ذوی الاستحقاق أیضا- ما نشاهده عیانا من نجار حاذق أو بناء عالم- أو نقاش بارع أو مصور لطیف- على غایه ما یکون من ضیق رزقهم- و قعود الوقت بهم و قله الحیله لهم- و یرى غیرهم ممن لیس یجری مجراهم و لا یلحق طبقتهم- مرزوقا مرغوبا فیه- کثیر المکسب طیب العیش واسع الرزق- فهذا حال ذوی الاستحقاق و الاستعداد- و أما الذین لیسوا من أهل الفضائل کحشو العامه- فإنهم أیضا لا یخلون من الحقد على الدنیا و الذم لها- و الحنق و الغیظ منها- لما یلحقهم من حسد أمثالهم و جیرانهم- و لا یرى أحد منهم قانعا بعیشه و لا راضیا بحاله- بل یستزید و یطلب حالا فوق حاله- .
قال فإذا عرفت هذه المقدمه- فمعلوم أن علیا ع کان مستحقا محروما- بل هو أمیر المستحقین المحرومین و سیدهم و کبیرهم- و معلوم أن الذین ینالهم الضیم- و تلحقهم المذله و الهضیمه- یتعصب بعضهم لبعض و یکونون إلبا و یدا واحده- على المرزوقین الذین ظفروا بالدنیا- و نالوا مآربهم منها- لاشتراکهم فی الأمر الذی آلمهم و ساءهم- و عضهم و مضهم- و اشتراکهم فی الأنفه و الحمیه و الغضب- و المنافسه لمن علا علیهم و قهرهم- و بلغ من الدنیا ما لم یبلغوه- فإذا کان هؤلاء أعنی المحرومین- متساوین فی المنزله و المرتبه- و تعصب بعضهم لبعض- فما ظنک بما إذا کان منهم رجل عظیم القدر- جلیل الخطر کامل الشرف- جامع للفضائل محتو على الخصائص و المناقب- و هو مع ذلک محروم محدود و قد جرعته الدنیا علاقمها- و علته عللا بعد نهل من صابها و صبرها- و لقی منها برحا بارحا و جهدا جهیدا- و علا علیه من هو دونه- و حکم فیه و فی بنیه و أهله و رهطه- من لم یکن ما ناله من الإمره و السلطان فی حسابه- و لا دائرا فی خلده و لا خاطرا بباله- و لا کان أحد من الناس یرتقب ذلک له و لا یراه له- ثم کان فی آخر الأمر أن قتل هذا الرجل الجلیل فی محرابه- و قتل بنوه بعده و سبی حریمه و نساؤه- و تتبع أهله و بنو عمه بالقتل- و الطرد و التشرید و السجون- مع فضلهم و زهدهم و عبادتهم و سخائهم- و انتفاع الخلق بهم- فهل یمکن ألا یتعصب البشر کلهم مع هذا الشخص- و هل تستطیع القلوب ألا تحبه و تهواه- و تذوب فیه و تفنى فی عشقه انتصارا له- و حمیه من أجله و أنفه مما ناله- و امتعاضا مما جرى علیه- و هذا أمر مرکوز فی الطبائع و مخلوق فی الغرائز- کما یشاهد الناس على الجرف إنسانا قد وقع فی الماء العمیق- و هو لا یحسن السباحه- فإنهم بالطبع البشری یرقون علیه رقه شدیده- و قد یلقی قوم منهم أنفسهم فی الماء نحوه- یطلبون تخلیصه- لا یتوقعون على ذلک مجازاه منه بمال أو شکر- و لا ثوابا فی الآخره- فقد یکون منهم من لا یعتقد أمر الآخره- و لکنها رقه بشریه- و کان الواحد منهم یتخیل فی نفسه أنه ذلک الغریق- فکما یطلب خلاص نفسه لو کان هذا الغریق- کذلک یطلب تخلیص من هو فی تلک الحال الصعبه- للمشارکه الجنسیه- و کذلک لو أن ملکا ظلم أهل بلد من بلاده ظلما عنیفا- لکان أهل ذلک البلد یتعصب بعضهم لبعض- فی الانتصار من ذلک الملک و الاستعداء علیه- فلو کان من جملتهم رجل عظیم القدر جلیل الشأن- قد ظلمه الملک أکثر من ظلمه إیاهم- و أخذ أمواله و ضیاعه و قتل أولاده و أهله- کان لیاذهم به و انضواؤهم إلیه- و اجتماعهم و التفافهم به أعظم و أعظم- لأن الطبیعه البشریه تدعو إلى ذلک- على سبیل الإیجاب الاضطراری- و لا یستطیع الإنسان منه امتناعا- .
و هذا محصول قول النقیب أبی جعفر رحمه الله- قد حکیته و الألفاظ لی و المعنى له- لأنی لا أحفظ الآن ألفاظه بعینها- إلا أن هذا هو کان معنى قوله و فحواه رحمه الله- و کان لا یعتقد فی الصحابه- ما یعتقده أکثر الإمامیه فیهم- و یسفه رأی من یذهب فیهم إلى النفاق و التکفیر- و کان یقول حکمهم حکم مسلم مؤمن- عصى فی بعض الأفعال و خالف الأمر- فحکمه إلى الله إن شاء آخذه و إن شاء غفر له- .
قلت له مره أ فتقول أنهما من أهل الجنه- فقال إی و الله أعتقد ذلک- لأنهما إما أن یعفو الله تعالى عنهما ابتداء- أو بشفاعه الرسول ص أو بشفاعه علی ع- أو یؤاخذهما بعقاب أو عتاب ثم ینقلهما إلى الجنه- لا أستریب فی ذلک أصلا- و لا أشک فی إیمانهما برسول الله ص و صحه عقیدتهما- . فقلت له فعثمان قال و کذلک عثمان- ثم قال رحم الله عثمان- و هل کان إلا واحدا منا و غصنا من شجره عبد مناف- و لکن أهله کدروه علینا- و أوقعوا العداوه و البغضاء بینه و بیننا- . قلت له فیلزمک على ما تراه فی أمر هؤلاء- أن تجوز دخول معاویه الجنه- لأنه لم تکن منه إلا المخالفه- و ترک امتثال أمر النبوی- .
فقال کلا إن معاویه من أهل النار- لا لمخالفته علیا و لا بمحاربته إیاه- و لکن عقیدته لم تکن صحیحه و لا إیمانه حقا- و کان من رءوس المنافقین هو و أبوه- و لم یسلم قلبه قط و إنما أسلم لسانه- و کان یذکر من حدیث معاویه و من فلتات قوله- و ما حفظ عنه من کلام یقتضی فساد العقیده شیئا کثیرا- لیس هذا موضعه فأذکره- .
و قال لی مره- حاش لله أن یثبت معاویه فی جریده الشیخین الفاضلین- أبی بکر و عمر و الله ما هما إلا کالذهب الإبریز- و لا معاویه إلا کالدرهم الزائف أو قال کالدرهم القسی- ثم قال لی فما یقول أصحابکم فیهما- قلت أما الذی استقر علیه رأی المعتزله- بعد اختلاف کثیر بین قدمائهم فی التفضیل و غیره- أن علیا ع أفضل الجماعه- و أنهم ترکوا الأفضل لمصلحه رأوها- و أنه لم یکن هناک نص یقطع العذر- و إنما کانت إشاره و إیماء لا یتضمن شیء منها صریح النص- و إن علیا ع نازع ثم بایع-و جمح ثم استجاب- و لو أقام على الامتناع لم نقل بصحه البیعه و لا بلزومها- و لو جرد السیف کما جرده فی آخر الأمر- لقلنا بفسق کل من خالفه على الإطلاق کائنا من کان- و لکنه رضی بالبیعه أخیرا و دخل فی الطاعه- .
و بالجمله أصحابنا یقولون- إن الأمر کان له و کان هو المستحق و المتعین- فإن شاء أخذه لنفسه و إن شاء ولاه غیره- فلما رأیناه قد وافق على ولایه غیره- اتبعناه و رضینا بما رضی- فقال قد بقی بینی و بینکم قلیل- أنا أذهب إلى النص و أنتم لا تذهبون إلیه- . فقلت له إنه لم یثبت النص عندنا بطریق یوجب العلم- و ما تذکرونه أنتم صریحا فأنتم تنفردون بنقله- و ما عدا ذلک من الأخبار التی نشارککم فیها- فلها تأویلات معلومه- . فقال لی و هو ضجر یا فلان- لو فتحنا باب التأویلات لجاز أن یتناول قولنا- لا إله إلا الله محمد رسول الله- دعنی من التأویلات البارده- التی تعلم القلوب و النفوس أنها غیر مراده- و أن المتکلمین تکلفوها و تعسفوها- فإنما أنا و أنت فی الدار و لا ثالث لنا- فیستحیی أحدنا من صاحبه أو یخافه- .
فلما بلغنا إلى هذا الموضع- دخل قوم ممن کان یخشاه- فترکنا ذلک الأسلوب من الحدیث و خضنا فی غیره سیاسه علی و معاویه و إیراد کلام للجاحظ فی ذلک فأما القول فی سیاسه معاویه- و أن شنأه علی ع و مبغضیه- زعموا أنها خیر من سیاسه أمیر المؤمنین- فیکفینا فی الکلام على ذلک ما قاله شیخنا أبو عثمان- و نحن نحکیه بألفاظه- .
قال أبو عثمان- و ربما رأیت بعض من یظن بنفسه العقل- و التحصیل و الفهم و التمییز و هو من العامه- و یظن أنه من الخاصه- یزعم أن معاویه کان أبعد غورا و أصح فکرا- و أجود رویه و أبعد غایه و أدق مسلکا- و لیس الأمر کذلک- و سأرمی إلیک بجمله تعرف بها موضع غلطه- و المکان الذی دخل علیه الخطأ من قبله- . کان علی ع لا یستعمل فی حربه- إلا ما وافق الکتاب و السنه- و کان معاویه یستعمل خلاف الکتاب و السنه- کما یستعمل الکتاب و السنه- و یستعمل جمیع المکاید حلالها و حرامها- و یسیر فی الحرب بسیره ملک الهند إذا لاقى کسرى- و خاقان إذا لاقى رتبیل- و علی ع یقول لا تبدءوهم بالقتال حتى یبدءوکم- و لا تتبعوا مدبرا و لا تجهزوا على جریح- و لا تفتحوا بابا مغلقا- هذه سیرته فی ذی الکلاع و فی أبی الأعور السلمی- و فی عمرو بن العاص و حبیب بن مسلمه- و فی جمیع الرؤساء- کسیرته فی الحاشیه و الحشو و الأتباع و السفله- و أصحاب الحروب- إن قدروا على البیات بیتوا- و إن قدروا على رضخ الجمیع بالجندل و هم نیام فعلوا- و إن أمکن ذلک فی طرفه عین لم یؤخروه إلى ساعه- و إن کان الحرق أعجل من الغرق لم یقتصروا على الغرق- و لم یؤخروا الحرق إلى وقت الغرق- و إن أمکن الهدم لم یتکلفوا الحصار- و لم یدعوا أن ینصبوا المجانیق و العرادات- و النقب و التسریب و الدبابات و الکمین- و لم یدعوا دس السموم- و لا التضریب بین الناس بالکذب- و طرح الکتب فی عساکرهم بالسعایات- و توهیم الأمور و إیحاش بعض من بعض- و قتلهم بکل آله و حیله- کیف وقع القتل و کیف دارت بهم الحال- فمن اقتصر حفظک الله- من التدبیر على ما فی الکتاب و السنه- کان قد منع نفسه الطویل العریض من التدبیر- و ما لا یتناهى من المکاید- و الکذب حفظک الله أکثر من الصدق- و الحرام أکثر عددا من الحلال- و لو سمى إنسان إنسانا باسمه لکان قد صدق- و لیس له اسم غیره- و لو قال هو شیطان أو کلب أو حمار أو شاه أو بعیر- أو کل ما خطر على البال لکان کاذبا فی ذلک- و کذلک الإیمان و الکفر- و کذلک الطاعه و المعصیه و کذلک الحق و الباطل- و کذلک السقم و الصحه و کذلک الخطأ و الصواب- فعلی ع کان ملجما بالورع عن جمیع القول- إلا ما هو لله عز و جل رضا- و ممنوع الیدین من کل بطش إلا ما هو لله رضا- و لا یرى الرضا إلا فیما یرضاه الله و یحبه- و لا یرى الرضا إلا فیما دل علیه الکتاب و السنه- دون ما یعول علیه أصحاب الدهاء و النکراء- و المکاید و الآراء- فلما أبصرت العوام کثره نوادر معاویه فی المکاید- و کثره غرائبه فی الخداع و ما اتفق له و تهیأ على یده- و لم یرو ذلک من علی ع- ظنوا بقصر عقولهم و قله علومهم- أن ذاک من رجحان عند معاویه و نقصان عند علی ع- فانظر بعد هذا کله هل یعد له من الخدع إلا رفع المصاحف- ثم انظر هل خدع بها إلا من عصى رأی علی ع و خالف أمره- .
فإن زعمت أنه قال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت- و لیس فی هذا اختلفنا- و لا عن غراره أصحاب علی ع- و عجلتهم و تسرعهم و تنازعهم دفعنا- و إنما کان قولنا فی التمیز بینهما فی الدهاء و النکراء- و صحه العقل و الرأی و البزلاء- على أنا لا نصف الصالحین بالدهاء و النکراء- لا نقول ما کان أنکر أبا بکر بن أبی قحافه- و ما کان أنکر عمر بن الخطاب- و لا یقول أحد عنده شیء من الخیر- کان رسول الله ص أدهى العرب و العجم- و أنکر قریش و أمکر کنانه- لأن هذه الکلمه إنما وضعت فی مدیح أصحاب الأرب- و من یتعمق فی الرأی فی توکید الدنیا- و زبرجها و تشدید أرکانها- فأما أصحاب الآخره الذین یرون الناس- لا یصلحون على تدبیر البشر- و إنما یصلحون على تدبیر خالق البشر- فإن هؤلاء لا یمدحون بالدهاء و النکراء- و لم یمنعوا هذا إلا لیعطوا أفضل منه- أ لا ترى أن المغیره بن شعبه- و کان أحد الدهاه- حین رد على عمرو بن العاص قوله فی عمر بن الخطاب- و عمرو بن العاص أحد الدهاه أیضا- أ أنت کنت تفعل أو توهم عمر شیئا فیلقنه عنک- ما رأیت عمر مستخلیا بأحد- إلا رحمته کائنا من کان ذلک الرجل- کان عمر و الله أعقل من أن یخدع- و أفضل من أن یخدع- و لم یذکره بالدهاء و النکراء- هذا مع عجبه بإضافه الناس ذلک إلیه- و لکنه قد علم أنه إذا أطلق على الأئمه الألفاظ- التی لا تصلح فی أهل الطهاره- کان ذلک غیر مقبول منه فهذا هذا- .
و کذلک کان حکم قول معاویه للجمیع- أخرجوا إلینا قتله عثمان و نحن لکم سلم- فاجهد کل جهدک- و استعن بمن شایعک إلى أن تتخلص- إلى صواب رأی فی ذلک الوقت أضله علی- حتى تعلم أن معاویه خادع- و أن علیا ع کان المخدوع- . فإن قلت فقد بلغ ما أراد و نال ما أحب- فهل رأیت کتابنا وضع- إلا على أن علیا کان قد امتحن فی أصحابه و فی دهره- بما لم یمتحن إمام قبله من الاختلاف و المنازعه- و التشاح من الرئاسه و التسرع و العجله- و هل أتی ع إلا من هذا المکان- أ و لسنا قد فرغنا من هذا الأمر- و قد علمنا أن ثلاثه نفر تواطئوا على قتل ثلاثه نفر- فانفرد ابن ملجم بالتماس ذلک من علی ع- و انفرد البرک الصریمی- بالتماس ذلک من عمرو بن العاص- و انفرد الآخر و هو عمرو بن بکر التمیمی- بالتماس ذلک من معاویه فکان من الاتفاق أو من الامتحان- أن کان علی من بینهم هو المقتول- . و فی قیاس مذهبکم- أن تزعموا أن سلامه عمرو و معاویه- إنما کانت بحزم منهما- و أن قتل علی ع إنما هو من تضییع منه- فإذ قد تبین لکم أنه من الابتلاء و الامتحان فی نفسه- بخلاف الذی قد شاهدتموه فی عدوه- فکل شیء سوى ذلک فإنما هو تبع للنفس- .
هذا آخر کلام أبی عثمان فی هذا الموضع- و من تأمله بعین الإنصاف- و لم یتبع الهوى علم صحه جمیع ما ذکره- و أن أمیر المؤمنین دفع من اختلاف أصحابه- و سوء طاعتهم له- و لزومه سنن الشریعه و منهج العدل- و خروج معاویه و عمرو بن العاص عن قاعده الشرع- فی استماله الناس إلیهم بالرغبه و الرهبه- إلى ما لم یدفع إلیه غیره- فلو لا أنه ع کان عارفا بوجوه السیاسه- و تدبیر أمر السلطان و الخلافه حاذقا فی ذلک- لم یجتمع علیه إلا القلیل من الناس- و هم أهل الآخره خاصه- الذین لا میل لهم إلى الدنیا- فلما وجدناه دبر الأمر حین ولیه- و اجتمع علیه من العساکر و الأتباع ما یتجاوز العد و الحصر- و قاتل بهم أعداءه الذین حالهم حالهم- فظفر فی أکثر حروبه- و وقف الأمر بینه و بین معاویه على سواء- و کان هو الأظهر و الأقرب إلى الانتصار علمنا أنه من معرفه تدبیر الدول و السلطان بمکان مکین
ذکر أقوال من طعن فی سیاسه علی و الرد علیها
و قد تعلق من طعن فی سیاسته بأمور- منها قولهم لو کان حین بویع له بالخلافه فی المدینه- أقر معاویه على الشام إلى أن یستقر الأمر له و یتوطد- و یبایعه معاویه و أهل الشام ثم یعزله بعد ذلک- لکان قد کفی ما جرى بینهما من الحرب- . و الجواب- أن قرائن الأحوال حینئذ قد کان علم أمیر المؤمنین ع- منها أن معاویه لا یبایع له و إن أقره على ولایه الشام- بل کان إقراره له على إمره الشام أقوى لحال معاویه- و آکد فی الامتناع من البیعه- لأنه لا یخلو صاحب السؤال إما أن یقول- کان ینبغی أن یطالبه بالبیعه- و یقرن إلى ذلک تقلیده بالشام- فیکون الأمران معا- أو یتقدم منه ع المطالبه بالبیعه- أو یتقدم منه إقراره على الشام- و تتأخر المطالبه بالبیعه إلى وقت ثان- فإن کان الأول- فمن الممکن أن یقرأ معاویه على أهل الشام تقلیده بالإمره- فیؤکد حاله عندهم و یقرر فی أنفسهم- لو لا أنه أهل لذلک لما اعتمده علی ع معه- ثم یماطله بالبیعه و یحاجزه عنها- و إن کان الثانی فهو الذی فعله أمیر المؤمنین ع- و إن کان الثالث فهو کالقسم الأول- بل هو آکد فیما یریده معاویه من الخلاف و العصیان- و کیف یتوهم من یعرف السیر أن معاویه کان یبایع له- لو أقره على الشام و بینه و بینه ما لا تبرک الإبل علیه- من الترات القدیمه- و الأحقاد و هو الذی قتل حنظله أخاه و الولید خاله- و عتبه جده فی مقام واحد- ثم ما جرى بینهما فی أیام عثمان- حتى أغلظ کل واحد منهما لصاحبه و حتى تهدده معاویه- و قال له إنی شاخص إلى الشام- و تارک عندک هذا الشیخ یعنی عثمان- و الله لئنانحصت منه شعره واحده لأضربنک بمائه ألف سیف- و قد ذکرنا شیئا مما جرى بینهما فیما تقدم- .
و أما قول ابن عباس له ع وله شهرا و اعزله دهرا- و ما أشار به المغیره بن شعبه فإنهما ما توهماه- و ما غلب على ظنونهما و خطر بقلوب هما- و علی ع کان أعلم بحاله مع معاویه- و أنها لا تقبل العلاج و التدبیر- و کیف یخطر ببال عارف بحال معاویه و نکره و دهائه- و ما کان فی نفسه من علی ع من قتل عثمان- و من قبل قتل عثمان- أنه یقبل إقرار علی ع له على الشام- و ینخدع بذلک و یبایع و یعطی صفقه یمینه- إن معاویه لأدهى من أن یکاد بذلک- و إن علیا ع لأعرف بمعاویه- ممن ظن أنه لو استماله بإقراره لبایع له- و لم یکن عند علی ع دواء لهذا المرض إلا السیف- لأن الحال إلیه کانت تئول لا محاله فجعل الآخر أولا- .
و أنا أذکر فی هذا الموضع خبرا- رواه الزبیر بن بکار فی الموفقیات لیعلم من یقف علیه- أن معاویه لم یکن لینجذب إلى طاعه علی ع أبدا- و لا یعطیه البیعه- و أن مضادته له و مباینته إیاه کمضاده السواد للبیاض- لا یجتمعان أبدا و کمباینه السلب للإیجاب- فإنها مباینه لا یمکن زوالها أصلا- قال الزبیر- حدثنی محمد بن زکریا بن بسطام- قال حدثنی محمد بن یعقوب بن أبی اللیث- قال حدثنی أحمد بن محمد بن الفضل بن یحیى المکی- عن أبیه عن جده الفضل بن یحیى- عن الحسن بن عبد الصمد- عن قیس بن عرفجه- قال لما حصر عثمان أبرد مروان بن الحکم بخبره بریدین- أحدهما إلى الشام و الآخر إلى الیمن- و بها یومئذ یعلى بن منیه و مع کل واحد منهما کتاب- فیه أن بنی أمیه فی الناس کالشامه الحمراء- و أن الناس قد قعدوا لهم برأس کل محجه- و على کل طریق فجعلوهم مرمى العر و العضیهه- و مقذف القشب و الأفیکه- و قد علمتم أنها لم تأت عثمان إلا کرها- تجبذ من ورائها- و إنی خائف إن قتل أن تکون من بنی أمیه بمناط الثریا- إن لم نصر کرصیف الأساس المحکم- و لئن وهى عمود البیت لتتداعین جدرانه- و الذی عیب علیه إطعامکما الشام و الیمن- و لا شک أنکما تابعاه إن لم تحذرا- و أما أنا فمساعف کل مستشیر- و معین کل مستصرخ و مجیب کل داع- أتوقع الفرصه فأثب وثبه الفهد أبصر غفله مقتنصه- و لو لا مخافه عطب البرید و ضیاع الکتب- لشرحت لکما من الأمر ما لا تفزعان معه إلى أن یحدث الأمر- فجدا فی طلب ما أنتما ولیاه- و على ذلک فلیکن العمل إن شاء الله- و کتب فی آخره-
و ما بلغت عثمان حتى تخطمت
رجال و دانت للصغار رجال
لقد رجعت عودا على بدء کونها
و إن لم تجدا فالمصیر زوال
سیبدی مکنون الضمائر قولهم
و یظهر منهم بعد ذاک فعال
فإن تقعدا لا تطلبا ما ورثتما
فلیس لنا طول الحیاه مقال
نعیش بدار الذل فی کل بلده
و تظهر منا کأبه و هزال
فلما ورد الکتاب على معاویه- أذن فی الناس الصلاه جامعه- ثم خطبهم خطبه المستنصر المستصرخ- . و فی أثناء ذلک ورد علیه قبل أن یکتب الجواب- کتاب مروان بقتل عثمان- و کانت نسخته وهب الله لک أبا عبد الرحمن قوه العزم- و صلاح النیه و من علیک بمعرفه الحق و اتباعه- فإنی کتبت إلیک هذا الکتاب- بعد قتل عثمان أمیر المؤمنینو أی قتله قتل- نحر کما ینحر البعیر الکبیر عند الیأس- من أن ینوء بالحمل- بعد أن نقبت صفحته بطی المراحل و سیر الهجیر- و إنی معلمک من خبره غیر مقصر و لا مطیل- إن القوم استطالوا مدته و استقلوا ناصره- و استضعفوه فی بدنه- و أملوا بقتله بسط أیدیهم فیما کان قبضه عنهم- و اعصوصبوا علیه فظل محاصرا- قد منع من صلاه الجماعه و رد المظالم- و النظر فی أمور الرعیه حتى کأنه هو فاعل لما فعلوه- فلما دام ذلک أشرف علیهم فخوفهم الله و ناشدهم- و ذکرهم مواعید رسول الله ص له و قوله فیه- فلم یجحدوا فضله و لم ینکروه- ثم رموه بأباطیل اختلقوها لیجعلوا ذلک ذریعه إلى قتله- فوعدهم التوبه مما کرهوا- و وعدهم الرجعه إلى ما أحبوا فلم یقبلوا ذلک- و نهبوا داره و انتهکوا حرمته- و وثبوا علیه فسفکوا دمه- و انقشعوا عنه انقشاع سحابه قد أفرغت ماءها- منکفئین قبل ابن أبی طالب- انکفاء الجراد إذا أبصر المرعى- فأخلق ببنی أمیه أن یکونوا من هذا الأمر- بمجرى العیوق إن لم یثأره ثائر- فإن شئت أبا عبد الرحمن أن تکونه فکنه و السلام- . فلما ورد الکتاب على معاویه أمر بجمع الناس- ثم خطبهم خطبه أبکى منها العیون- و قلقل القلوب حتى علت الرنه و ارتفع الضجیج- و هم النساء أن یتسلحن- ثم کتب إلى طلحه بن عبید الله و الزبیر بن العوام- و سعید بن العاص و عبد الله بن عامر بن کریز- و الولید بن عقبه و یعلى بن منیه و هو اسم أمه- و إنما اسم أبیه أمیه- .
فکان کتاب طلحه- أما بعد فإنک أقل قریش فی قریش وترا- مع صباحه وجهک و سماحه کفک و فصاحه لسانک- فأنت بإزاء من تقدمک فی السابقه- و خامس المبشرین بالجنه و لک یوم أحد و شرفه و فضله- فسارع رحمک الله إلى ما تقلدک الرعیه من أمرها- مما لا یسعک التخلف عنه- و لا یرضى الله منک إلا بالقیام به- فقد أحکمت لک الأمرقبلی- و الزبیر فغیر متقدم علیک بفضل- و أیکما قدم صاحبه فالمقدم الإمام- و الأمر من بعده للمقدم له- سلک الله بک قصد المهتدین- و وهب لک رشد الموفقین و السلام- . و کتب إلى الزبیر أما بعد- فإنک الزبیر بن العوام بن أبی خدیجه- و ابن عمه رسول الله ص و حواریه و سلفه- و صهر أبی بکر و فارس المسلمین- و أنت الباذل فی الله مهجته بمکه عند صیحه الشیطان- بعثک المنبعث فخرجت کالثعبان المنسلخ- بالسیف المنصلت تخبط خبط الجمل الردیع- کل ذلک قوه إیمان و صدق یقین- و سبقت لک من رسول الله ص البشاره بالجنه- و جعلک عمر أحد المستخلفین على الأمه- و اعلم یا أبا عبد الله- أن الرعیه أصبحت کالغنم المتفرقه لغیبه الراعی- فسارع رحمک الله إلى حقن الدماء و لم الشعث- و جمع الکلمه و صلاح ذات البین قبل تفاقم الأمر و انتشار الأمه- فقد أصبح الناس على شفا جرف هار عما قلیل ینهار- إن لم یرأب- فشمر لتألیف الأمه و ابتغ إلى ربک سبیلا- فقد أحکمت الأمر على من قبلی لک و لصاحبک- على أن الأمر للمقدم ثم لصاحبه من بعده- و جعلک الله من أئمه الهدى و بغاه الخیر و التقوى و السلام- .
و کتب إلى مروان بن الحکم- أما بعد فقد وصل إلی کتابک بشرح خبر أمیر المؤمنین- و ما رکبوه به و نالوه منه جهلا بالله و جراءه علیه- و استخفافا بحقه- و لأمانی لوح الشیطان بها فی شرک الباطل- لیدهدههم فی أهویات الفتن و وهدات الضلال- و لعمری لقد صدق علیهم ظنه و لقد اقتنصهم بأنشوطه فخه- فعلى رسلک أبا عبد الله یمشى الهوینى و یکون أولا- فإذا قرأت کتابی هذا فکن کالفهد لا یصطاد إلا غیله- و لا یتشازر إلا عن حیله-و کالثعلب لا یفلت إلا روغانا- و أخف نفسک منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأکف- و امتهن نفسک امتهان من ییأس القوم- من نصره و انتصاره- و ابحث عن أمورهم بحث الدجاجه عن حب الدخن عند فقاسها- و أنغل الحجاز فإنی منغل الشام و السلام- .
و کتب إلى سعید بن العاص- أما بعد فإن کتاب مروان ورد علی من ساعه وقعت النازله- تقبل به البرد بسیر المطی الوجیف- تتوجس توجس الحیه الذکر خوف ضربه الفأس- و قبضه الحاوی- و مروان الرائد لا یکذب أهله- فعلام الإفکاک یا ابن العاص و لات حین مناص- ذلک أنکم یا بنی أمیه- عما قلیل تسألون أدنى العیش من أبعد المسافه- فینکرکم من کان منکم عارفا- و یصد عنکم من کان لکم واصلا- متفرقین فی الشعاب تتمنون لمظه المعاش- إن أمیر المؤمنین عتب علیه فیکم و قتل فی سبیلکم- ففیم القعود عن نصرته و الطلب بدمه و أنتم بنو أبیه- ذوو رحمه و أقربوه و طلاب ثأره- أصبحتم متمسکین بشظف معاش زهید- عما قلیل ینزع منکم عند التخاذل و ضعف القوى- فإذا قرأت کتابی هذا فدب دبیب البرء فی الجسد النحیف- و سر سیر النجوم تحت الغمام- و احشد حشد الذره فی الصیف لانجحارها فی الصرد- فقد أیدتکم بأسد و تیم و کتب فی الکتاب-
تالله لا یذهب شیخی باطلا
حتى أبیر مالکا و کاهلا
القاتلین الملک الحلاحلا
خیر معد حسبا و نائلا
و کتب إلى عبد الله بن عامر أما بعد فإن المنبر مرکب ذلول سهل الریاضه- لا ینازعک اللجام- و هیهات ذلک إلا بعد رکوب أثباج المهالک- و اقتحام أمواج المعاطب- و کأنی بکم یا بنی أمیه شعاریر کالأوارک تقودها الحداه- أو کرخم الخندمه تذرق خوف العقاب- فثب الآن رحمک الله قبل أن یستشری الفساد- و ندب السوط جدید و الجرح لما یندمل- و من قبل استضراء الأسد و التقاء لحییه على فریسته- و ساور الأمر مساوره الذئب الأطلس کسیره القطیع- و نازل الرأی و انصب الشرک و ارم عن تمکن- و ضع الهناء مواضع النقب- و اجعل أکبر عدتک الحذر و أحد سلاحک التحریض- و اغض عن العوراء و سامح اللجوج- و استعطف الشارد و لاین الأشوس- و قو عزم المرید و بادر العقبه و ازحف زحف الحیه- و اسبق قبل أن تسبق و قم قبل أن یقام لک- و اعلم أنک غیر متروک و لا مهمل- فإنی لکم ناصح أمین و السلام- . و کتب فی أسفل الکتاب-
علیک سلام الله قیس بن عاصم
و رحمته ما شاء أن یترحما
تحیه من أهدى السلام لأهله
إذا شط دارا عن مزارک سلما
فما کان قیس هلکه هلک واحد
و لکنه بنیان قوم تهدما
و کتب إلى الولید بن عقبه- یا ابن عقبه کن الجیش- و طیب العیش أطیب من سفع سموم الجوزاء- عند اعتدال الشمس فی أفقها- إن عثمان أخاک أصبح بعیدا منک- فاطلب لنفسک ظلا تستکن به- إنی أراک على التراب رقودا- و کیف بالرقاد بک لا رقاد لک- فلو قد استتب هذا الأمر لمریده ألفیت کشرید النعام- یفزع من ظل الطائر- و عن قلیل تشرب الرنق و تستشعر الخوف- أراک فسیح الصدر مسترخی اللبب- رخو الحزام قلیل الاکتراث- و عن قلیل یجتث أصلک و السلام- . و کتب فی آخر الکتاب-
اخترت نومک أن هبت شآمیه
عند الهجیر و شربا بالعشیات
على طلابک ثأرا من بنی حکم
هیهات من راقد طلاب ثارات
و کتب إلى یعلى بن أمیه- حاطک الله بکلاءته و أیدک بتوفیقه- کتبت إلیک صبیحه ورد علی کتاب مروان- بخبر قتل أمیر المؤمنین و شرح الحال فیه- و إن أمیر المؤمنین طال به العمر حتى نقصت قواه- و ثقلت نهضته و ظهرت الرعشه فی أعضائه- فلما رأى ذلک أقوام- لم یکونوا عنده موضعا للإمامه و الأمانه و تقلید الولایه- وثبوا به و ألبوا علیه- فکان أعظم ما نقموا علیه و عابوه به- ولایتک الیمن و طول مدتک علیها- ثم ترامى بهم الأمر حالا بعد حال-حتى ذبحوه ذبح النطیحه مبادرا بها الفوت- و هو مع ذلک صائم معانق المصحف یتلو کتاب الله- فیه عظمت مصیبه الإسلام بصهر الرسول و الإمام المقتول- على غیر جرم سفکوا دمه و انتهکوا حرمته- و أنت تعلم أن بیعته فی أعناقنا و طلب ثأره لازم لنا- فلا خیر فی دنیا تعدل بنا عن الحق- و لا فی إمره توردنا النار- و إن الله جل ثناؤه لا یرضى بالتعذیر فی دینه- فشمر لدخول العراق- .
فأما الشام فقد کفیتک أهلها و أحکمت أمرها- و قد کتبت إلى طلحه بن عبید الله أن یلقاک بمکه- حتى یجتمع رأیکما على إظهار الدعوه- و الطلب بدم عثمان أمیر المؤمنین المظلوم- و کتبت إلى عبد الله بن عامر یمهد لکم العراق- و یسهل لکم حزونه عقابها- . و اعلم یا ابن أمیه أن القوم قاصدوک بادئ بدء- لاستنطاف ما حوته یداک من المال- فاعلم ذلک و اعمل على حسبه إن شاء الله- . و کتب فی أسفل الکتاب-
ظل الخلیفه محصورا یناشدهم
بالله طورا و بالقرآن أحیانا
و قد تألف أقوام على حنق
عن غیر جرم و قالوا فیه بهتانا
فقام یذکرهم وعد الرسول له
و قوله فیه إسرارا و إعلانا
فقال کفوا فإنی معتب لکم
و صارف عنکم یعلى و مروانا
فکذبوا ذاک منه ثم ساوره
من حاض لبته ظلما و عدوانا
قال فکتب إلیه مروان جوابا عن کتابه- أما بعد فقد وصل کتابک- فنعم کتاب زعیم العشیره و حامی الذمار- و أخبرکأن القوم على سنن استقامه إلا شظایا شعب- شتت بینهم مقولی على غیر مجابهه- حسب ما تقدم من أمرک- و إنما کان ذلک رسیس العصاه- و رمی أخدر من أغصان الدوحه- و لقد طویت أدیمهم على نغل یحلم منه الجلد- کذبت نفس الظان بنا ترک المظلمه و حب الهجوع- إلا تهویمه الراکب العجل حتى تجذ جماجم و جماجم- جذ العراجین المهدله حین إیناعها و أنا على صحه نیتی- و قوه عزیمتی و تحریک الرحم لی و غلیان الدم منی- غیر سابقک بقول و لا متقدمک بفعل- و أنت ابن حرب طلاب الترات و آبی الضیم- . و کتابی إلیک و أنا کحرباء السبسب فی الهجیر- ترقب عین الغزاله- و کالسبع المفلت من الشرک یفرق من صوت نفسه- منتظرا لما تصح به عزیمتک و یرد به أمرک- فیکون العمل به و المحتذى علیه- . و کتب فی أسفل الکتاب-
أ یقتل عثمان و ترقا دموعنا
و نرقد هذا اللیل لا نتفزع
و نشرب برد الماء ریا و قد مضى
على ظمأ یتلو القرآن و یرکع
فإنی و من حج الملبون بیته
و طافوا به سعیا و ذو العرش یسمع
سأمنع نفسی کل ما فیه لذه
من العیش حتى لا یرى فیه مطمع
و أقتل بالمظلوم من کان ظالما
و ذلک حکم الله ما عنه مدفع
و کتب إلیه عبد الله بن عامر-أما بعد فإن أمیر المؤمنین کان لنا الجناح الحاضنه- تأوی إلیها فراخها تحتها- فلما أقصده السهم صرنا کالنعام الشارد- و لقد کنت مشترک الفکر ضال الفهم- ألتمس دریئه أستجن بها من خطأ الحوادث- حتى وقع إلی کتابک- فانتبهت من غفله طال فیها رقادی- فأنا کواجد المحجه کان إلى جانبها حائرا- و کأنی أعاین ما وصفت من تصرف الأحوال- . و الذی أخبرک به أن الناس فی هذا الأمر- تسعه لک و واحد علیک- و و الله للموت فی طلب العز أحسن من الحیاه فی الذله- و أنت ابن حرب فتى الحروب- و نضار بنی عبد شمس- و الهمم بک منوطه و أنت منهضها- فإذا نهضت فلیس حین قعود- و أنا الیوم على خلاف ما کانت علیه عزیمتی من طلب العافیه و حب السلامه- قبل قرعک سویداء القلب بسوط الملام- و لنعم مؤدب العشیره أنت- و إنا لنرجوک بعد عثمان- و ها أنا متوقع ما یکون منک لأمتثله- و أعمل علیه إن شاء الله- . و کتب فی أسفل الکتاب-
لا خیر فی العیش فی ذل و منقصه
و الموت أحسن من ضیم و من عار
إنا بنو عبد شمس معشر أنف
غر جحاجحه طلاب أوتار
و الله لو کان ذمیا مجاورنا
لیطلب العز لم نقعد عن الجار
فکیف عثمان لم یدفن بمزبله
على القمامه مطروحا بها عار
فازحف إلی فإنی زاحف لهم
بکل أبیض ماضی الحد بتار
و کتب إلیه الولید بن عقبه- أما بعد فإنک أسد قریش عقلا- و أحسنهم فهما و أصوبهم رأیا- معک حسنالسیاسه و أنت موضع الرئاسه- تورد بمعرفه و تصدر عن منهل روی- مناوئک کالمنقلب من العیوق- یهوی به عاصف الشمال إلى لجه البحر- . کتبت إلی تذکر طیب الخیش و لین العیش- فملء بطنی علی حرام إلا مسکه الرمق- حتى أفری أوداج قتله عثمان فری الأهب بشباه الشفار- و أما اللین فهیهات إلا خیفه المرتقب یرتقب غفله الطالب- إنا على مداجاه و لما تبد صفحاتنا بعد- و لیس دون الدم بالدم مزحل- إن العار منقصه و الضعف ذل- أ یخبط قتله عثمان زهره الحیاه الدنیا- و یسقون برد المعین- و لما یمتطوا الخوف و یستحلسوا الحذر- بعد مسافه الطرد و امتطاء العقبه الکئود فی الرحله- لا دعیت لعقبه إن کان ذلک حتى أنصب لهم حربا- تضع الحوامل لها أطفالها- قد ألوت بنا المسافه و وردنا حیاض المنایا- و قد عقلت نفسی على الموت عقل البعیر- و احتسبت أنی ثانی عثمان أو أقتل قاتله- فعجل علی ما یکون من رأیک- فإنا منوطون بک متبعون عقبک- و لم أحسب الحال تتراخى بک إلى هذه الغایه- لما أخافه من إحکام القوم أمرهم- و کتب فی أسفل الکتاب-
نومی علی محرم إن لم أقم
بدم ابن أمی من بنی العلات
قامت علی إذا قعدت و لم أقم
بطلاب ذاک مناحه الأموات
عذبت حیاض الموت عندی بعد ما
کانت کریهه مورد النهلات
و کتب إلیه یعلى بن أمیه-إنا و أنتم یا بنی أمیه کالحجر لا یبنى بغیر مدر- و کالسیف لا یقطع إلا بضاربه- . وصل کتابک بخبر القوم و حالهم- فلئن کانوا ذبحوه ذبح النطیحه بودر بها الموت- لینحرن ذابحه نحر البدنه وافى بها الهدی الأجل- ثکلتنی من أنا ابنها إن نمت عن طلب وتر عثمان- أو یقال لم یبق فیه رمق- إنی أرى العیش بعد قتل عثمان مرا- إن أدلج القوم فإنی مدلج- و أما قصدهم ما حوته یدی من المال- فالمال أیسر مفقود إن دفعوا إلینا قتله عثمان- و إن أبوا ذلک أنفقنا المال على قتالهم- و إن لنا و لهم لمعرکه نتناحر فیها نحر القدار النقائع- عن قلیل تصل لحومها- . و کتب فی أسفل الکتاب-
لمثل هذا الیوم أوصى الناس
لا تعط ضیما أو یخر الراس
قال فکل هؤلاء کتبوا إلى معاویه یحرضونه- و یغرونه و یحرکونه و یهیجونه- إلا سعید بن العاص- فإنه کتب بخلاف ما کتب به هؤلاء- کان کتابه أما بعد فإن الحزم فی التثبت- و الخطأ فی العجله و الشؤم فی البدار- و السهم سهمک ما لم ینبض به الوتر- و لن یرد الحالب فی الضرع اللبن- ذکرت حق أمیر المؤمنین علینا و قرابتنا منه- و أنه قتل فینا- فخصلتان ذکرهما نقص و الثالثه تکذب- و أمرتنا بطلب دم عثمان- فأی جهه تسلک فیها أبا عبد الرحمن- ردمت الفجاج و أحکم الأمر علیک و ولی زمامه غیرک- فدع مناوأه من لو کان افترش فراشه صدر الأمر- لم یعدل به غیره- و قلت کأنا عن قلیل لا نتعارف- فهل نحن إلا حی من قریش- إن لم تنلنا الولایه لم یضق عنا الحق- إنها خلافه منافیه و بالله أقسم قسما مبرورا- لئن صحت عزیمتک على ما ورد به کتابک- لألفینک بین الحالین طلیحا- و هبنی إخالک بعد خوض الدماء تنال الظفر- هل فی ذلک عوض من رکوب المأثم و نقص الدین- .
أما أنا فلا على بنی أمیه و لا لهم- أجعل الحزم داری و البیت سجنی- و أتوسد الإسلام و أستشعر العافیه- فاعدل أبا عبد الرحمن زمام راحلتک إلى محجه الحق- و استوهب العافیه لأهلک- و استعطف الناس على قومک- و هیهات من قبولک ما أقول- حتى یفجر مروان ینابیع الفتن تأجج فی البلاد- و کأنی بکما عند ملاقاه الأبطال تعتذران بالقدر- و لبئس العاقبه الندامه- و عما قلیل یضح لک الأمر و السلام- . هذا آخر ما تکاتب القوم به- و من وقف علیه علم- أن الحال لم یکن حالا یقبل العلاج و التدبیر- و أنه لم یکن بد من السیف- و أن علیا ع کان أعرف بما عمل- .
و قد أجاب ابن سنان- فی کتابه الذی سماه العادل عن هذا السؤال- فقال قد علم الناس کافه أنه ع فی قصه الشورى- عرض علیه عبد الرحمن بن عوف- أن یعقد له الخلافه على أن یعمل بکتاب الله و سنه رسوله- و سیره أبی بکر و عمر- فلم یستجب إلى ذلک- و قال بل على أن أعمل بکتاب الله و سنه رسوله- و أجتهد رأیی- . و قد اختلف الناس فی ذلک- فقالت الشیعه إنما لم یدخل تحت الشرط- لأنه لم یستصوب سیرتهما- و قال غیرهم إنما امتنع لأنه مجتهد- و المجتهد لا یقلد المجتهد- فأیهما أقرب على القولین جمیعا إثما و أیسر وزرا- أن یقر معاویه على ولایه الشام مده- إلى أن تتوطد خلافته- مع ما ظهر من جور معاویه و عداوته- و مد یده إلى الأموال و الدماء أیام سلطانه- أو أن یعاهد عبد الرحمن على العمل بسیره أبی بکر و عمر- ثم یخالف بعض أحکامها إذا استقر الأمر له و وقع العقد- و لا ریب أن أحدا لا یخفى علیه فضل ما بینالموضعین- و فضل ما بین الإثمین- فمن لا یجیب إلى الخلافه- و الاستیلاء على جمیع بلاد الإسلام- إذا تسمح بلفظه یتلفظ بها- یجوز أن یتأولها أو یوری فیها- کیف یستجیب إلى إقرار الجائر- و تقویه یده مع تمکینه فی سلطانه- لتحصل له طاعه أهل الشام و استضافه طرف من الأطراف- و کأن معنى قول القائل هلا أقر معاویه على الشام- هو هلا کان ع متهاونا بأمر الدین- راغبا فی تشدید أمر الدنیا- .
و الجواب عن هذا ظاهر و جهل السائل عنه واضح- . و اعلم أن حقیقه الجواب هو أن علیا ع- کان لا یرى مخالفه الشرع لأجل السیاسه- سواء أ کانت تلک السیاسه دینیه أو دنیویه- أما الدنیویه فنحو أن یتوهم الإمام فی إنسان- أنه یروم فساد خلافته- من غیر أن یثبت ذلک علیه یقینا- فإن علیا ع لم یکن یستحل قتله و لا حبسه- و لا یعمل بالتوهم و بالقول غیر المحقق- و أما الدینیه فنحو ضرب المتهم بالسرقه- فإنه أیضا لم یکن یعمل به- بل یقول إن یثبت علیه بإقرار أو بینه أقمت علیه الحد و إلا لم أعترضه- و غیر علی ع قد کان منهم من یرى خلاف هذا الرأی- و مذهب مالک بن أنس العمل على المصالح المرسله- و أنه یجوز للإمام أن یقتل ثلث الأمه لإصلاح الثلثین- و مذهب أکثر الناس أنه یجوز العمل بالرأی و بغالب الظن- و إذا کان مذهبه ع ما قلناه و کان معاویه عنده فاسقا- و قد سبق عنده مقدمه أخرى یقینیه- هی أن استعمال الفاسق لا یجوز- و لم یکن ممن یرى تمهید قاعده الخلافه- بمخالفه الشریعه- فقد تعین مجاهرته بالعزل و إن أفضى ذلک إلى الحرب- .
فهذا هو الجواب الحقیقی- و لو لم یکن هذا هو الجواب الحقیقی- لکان لقائل أنیقول لابن سنان- القول فی عدوله عن الدخول تحت شرط عبد الرحمن- کالقول فی عدوله عن إقرار معاویه على الشام فإن من ذهب إلى تغلیطه فی أحد الموضعین- له أن یذهب إلى تغلیطه فی الموضع الآخر- . قال ابن سنان و جواب آخر- و هو أنا قد علمنا أن أحد الأحداث- التی نقمت على عثمان- و أفضت بالمسلمین إلى حصاره و قتله- تولیه معاویه الشام مع ما ظهر من جوره و عدوانه و مخالفه أحکام الدین فی سلطانه- و قد خوطب عثمان فی ذلک- فاعتذر بأن عمر ولاه قبله فلم یقبل المسلمون عذره- و لا قنعوا منه إلا بعزله حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى- و کان علی ع من أکثر المسلمین لذلک کراهیه- و أعرفهم بما فیه من الفساد فی الدین- . فلو أنه ع افتتح عقد الخلافه له- بتولیته معاویه الشام و إقراره فیه- أ لیس کان یبتدئ فی أول أمره- بما انتهى إلیه عثمان فی آخره- فأفضى إلى خلعه و قتله- و لو کان ذلک فی حکم الشریعه سائغا و الوزر فیه مأمونا- لکان غلطا قبیحا فی السیاسه- و سببا قویا للعصیان و المخالفه- و لم یکن یمکنه ع أن یقول للمسلمین- إن حقیقه رأیی عزل معاویه عند استقرار الأمر- و طاعه الجمهور لی- و إن قصدی بإقراره على الولایه مخادعته و تعجیل طاعته- و مبایعه الأجناد الذین قبله- ثم أستأنف بعد ذلک فیه ما یستحقه من العزل- و أعمل فیه بموجب العدل- لأن إظهاره ع لهذا العزم کان یتصل خبره بمعاویه- فیفسد التدبیر الذی شرع فیه- و ینتقض الرأی الذی عول علیه- .
و منها قولهم- إنه ترک طلحه و الزبیر حتى خرجا إلى مکه- و أذن لهما فی العمره و ذهب عنه الرأی فی ارتباطهما قبله- و منعهما من البعد عنه- .
و الجواب عنه- أنه قد اختلف الرواه- فی خروج طلحه و الزبیر من المدینه- هل کان بإذن علی ع أم لا- فمن قال إنهما خرجا عن غیر إذنه و لا علمه فسؤاله ساقط- و من قال إنهما استأذناه فی العمره و أذن لهما- فقد روی أنه قال و الله ما تریدان العمره- و إنما تریدان الغدره- و خوفهما بالله من التسرع إلى الفتنه- و ما کان یجوز له فی الشرع أن یحبسهما و لا فی السیاسه- أما فی الشرع فلأنه محظور أن یعاقب الإنسان بما لم یفعل- و على ما یظن منه و یجوز ألا یقع- و أما فی السیاسه فلأنه لو أظهر التهمه لهما- و هما من أفاضل السابقین و جله المهاجرین- لکان فی ذلک من التنفیر عنه ما لا یخفى- و من الطعن علیه ما هو معلوم- بأن یقال إنه لیس من إمامته على ثقه- فلذلک یتهم الرؤساء و لا یأمن الفضلاء- لا سیما و طلحه کان أول من بایعه- و الزبیر لم یزل مشتهرا بنصرته- فلو حبسهما و أظهر الشک فیهما لم یسکن أحد إلى جهته- و لنفر الناس کلهم عن طاعته- .
فإن قالوا فهلا استصلحهما و ولاهما- و ارتبطهما بالإجابه إلى أغراضهما- . قیل لهم فحوى هذا أنکم تطلبون من أمیر المؤمنین ع- أن یکون فی الإمامه مغلوبا على رأیه- مفتاتا علیه فی تدبیره- فیقر معاویه على ولایه الشام غصبا- و یولی طلحه و الزبیر مصر و العراق کرها- و هذا شیء ما دخل تحته أحد ممن قبله- و لا رضوا أن یکون لهم من الإمامه الاسم و من الخلافه اللفظ- و لقد حورب عثمان و حصر على أن یعزل بعض ولاته- فلم یجب إلى ذلک- فکیف تسومون علیا ع أن یفتتح أمره بهذه الدنیه- و یرضى بالدخول تحت هذه الخطه و هذا ظاهر- .
و منها تعلقهم بتولیه أمیر المؤمنین ع- محمد بن أبی بکر مصر- و عزله قیس بن سعد عنها- حتى قتل محمد بها و استولى معاویه علیها- .
و الجواب أنه لیس یمکن أن یقال- إن محمدا رحمه الله لم یکن بأهل لولایه مصر- لأنه کان شجاعا زاهدا فاضلا صحیح العقل و الرأی- و کان مع ذلک من المخلصین فی محبه أمیر المؤمنین ع- و المجتهدین فی طاعته- و ممن لا یتهم علیه و لا یرتاب بنصحه و هو ربیبه و خریجه- و یجری مجرى أحد أولاده ع لتربیته له و إشفاقه علیه- . ثم کان المصریون على غایه المحبه له و الإیثار لولایته- و لما حاصروا عثمان- و طالبوه بعزل عبد الله بن سعد بن أبی سرح عنهم- اقترحوا تأمیر محمد بن أبی بکر علیهم- فکتب له عثمان بالعهد على مصر و صار مع المصریین- حتى تعقبه کتاب عثمان إلى عبد الله بن سعد فی أمره- و أمر المصریین بما هو معروف فعادوا جمیعا- و کان من قتل عثمان ما کان- فلم یکن ظاهر الرأی و وجه التدبیر- إلا تولیه محمد بن أبی بکر على مصر- لما ظهر من میل المصریین إلیه و إیثارهم له- و استحقاقه لذلک بتکامل خصال الفضل فیه- فکان الظن قویا باتفاق الرعیه على طاعته- و انقیادهم إلى نصرته و اجتماعهم على محبته- فکان من فساد الأمر و اضطرابه علیه حتى کان ما کان- و لیس ذلک یعیب على أمیر المؤمنین ع- فإن الأمور إنما یعتمدها الإمام- على حسب ما یظن فیها من المصلحه- و لا یعلم الغیب إلا الله تعالى- . و قد ولى رسول الله ص فی مؤته جعفرا فقتل- و ولى زیدا فقتل و ولى عبد الله بن رواحه فقتل- و هزم الجیش و عاد من عاد منهم إلى المدینه بأسوإ حال- فهل لأحد أن یعیب رسول الله ص بهذا- و یطعن فی تدبیره- .
و منها قولهم- إن جماعه من أصحابه ع فارقوه و صاروا إلى معاویه- کعقیل بن أبی طالب أخیه و النجاشی شاعره- و رقبه بن مصقله أحد الوجوه من أصحابه- و لو لا أنهکان یوحشهم و لا یستمیلهم- لم یفارقوه و یصیروا إلى عدوه- و هذا یخالف حکم السیاسه- و ما یجب من تألف قلوب الأصحاب و الرعیه- . و الجواب أنا أولا لا ننکر- أن یکون کل من رغب فی حطام الدنیا و زخرفها- و أحب العاجل من ملاذها و زینتها- یمیل إلى معاویه الذی یبذل منها کل مطلوب- و یسمح بکل مأمول و یطعم خراج مصر عمرو بن العاص- و یضمن لذی الکلاع و حبیب بن مسلمه- ما یوفی على الرجاء و الاقتراح- و علی ع لا یعدل فیما هو أمین علیه من مال المسلمین- عن قضیه الشریعه و حکم المله- حتى یقول خالد بن معمر السدوسی لعلباء بن الهیثم- و هو یحمله على مفارقه علی ع و اللحاق بمعاویه- اتق الله یا علباء فی عشیرتک- و انظر لنفسک و لرحمک- ما ذا تؤمل عند رجل أردته- على أن یزید فی عطاء الحسن و الحسین- دریهمات یسیره ریثما یرأبان بها ظلف عیشهما- فأبى و غضب فلم یفعل- .
فأما عقیل فالصحیح الذی اجتمع ثقات الرواه علیه- أنه لم یجتمع مع معاویه إلا بعد وفاه أمیر المؤمنین ع- و لکنه لازم المدینه و لم یحضر حرب الجمل و صفین- و کان ذلک بإذن أمیر المؤمنین ع- و قد کتب عقیل إلیه بعد الحکمین- یستأذنه فی القدوم علیه الکوفه بولده و بقیه أهله- فأمره ع بالمقام- و قد روی فی خبر مشهور- أن معاویه وبخ سعید بن العاص على تأخیره عنه فی صفین- فقال سعید لو دعوتنی لوجدتنی قریبا- و لکنی جلست مجلس عقیل و غیره من بنی هاشم- و لو أوعبنا لأوعبوا- .
و أما النجاشی فإنه شرب الخمر فی شهر رمضان- فأقام علی ع الحد علیهو زاده عشرین جلده- فقال النجاشی ما هذه العلاوه- قال لجرأتک على الله فی شهر رمضان- فهرب النجاشی إلى معاویه- . و أما رقبه بن مصقله- فإنه ابتاع سبی بنی ناجیه و أعتقهم- و ألط بالمال و هرب إلى معاویه- فقال ع فعل فعل الساده و أبق إباق العبید- و لیس تعطیل الحدود و إباحه حکم الدین- و إضاعه مال المسلمین من التألف و السیاسه- لمن یرید وجه الله تعالى و التلزم بالدین- و لا یظن بعلی ع التساهل و التسامح فی صغیر من ذلک و لا کبیر- . و منها شبهه الخوارج و هی التحکیم- و قد یحتج به على أنه اعتمد ما لا یجوز فی الشرع- و قد یحتج به على أنه اعتمد ما لیس بصواب فی تدبیر الأمر- أما الأول فقولهم إنه حکم الرجال فی دین الله- و الله سبحانه یقول إِنِ الْحُکْمُ إِلَّا لِلَّهِ- و أما الثانی فقولهم إنه کان قد لاح له النصر- و ظهرت أمارات الظفر بمعاویه- و لم یبق إلا أن یأخذ برقبته فترک التصمیم على ذلک- و أخلد إلى التحکیم- و ربما قالوا إن تحکیمه یدل على شک منه فی أمره- و ربما قالوا کیف رضی بحکومه أبی موسى و هو فاسق عنده- بتثبیطه أهل الکوفه عنه فی حرب البصره- و کیف رضی بتحکیم عمرو بن العاص و هو أفسق الفاسقین- .
و الجواب أما تحکیم الرجال فی الدین فلیس بمحظور- فقد أمر الله تعالى بالتحکیم بین المرأه و زوجها- فقال وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَیْنِهِما- فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَکَماًمِنْ أَهْلِها – و قال فی جزاء الصید یَحْکُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ- . و أما قولهم کیف ترک التصمیم بعد ظهور أمارات النصر- فقد تواتر الخبر بأن أصحابه لما رفع أهل الشام المصاحف- عند ظهور أهل العراق علیهم و مشارفه هلاک معاویه و أصحابه- انخدعوا برفع المصاحف- و قالوا لا یحل لنا التصمیم على حربهم- و لا یجوز لنا إلا وضع السلاح و رفع الحرب- و الرجوع إلى المصاحف و حکمها- فقال لهم إنها خدیعه و إنها کلمه حق یراد بها باطل- و أمرهم بالصبر و لو ساعه واحده فأبوا ذلک- و قالوا أرسل إلى الأشتر فلیعد فأرسل إلیه- فقال کیف أعود و قد لاحت أمارات النصر و الظفر- فقالوا له ابعث إلیه مره أخرى فبعث إلیه- فأعاد الجواب بنحو قوله الأول- و سأل أن یمهل ساعه من النهار- فقالوا إن بینک و بینه وصیه ألا یقبل- فإن لم تبعث إلیه من یعیده- و إلا قتلناک بسیوفنا کما قتلنا عثمان- أو قبضنا علیک و أسلمناک إلى معاویه- فعاد الرسول إلى الأشتر- فقال أ تحب أن تظفر أنت هاهنا و تکسر جنود الشام- و یقتل أمیر المؤمنین ع فی مضربه- قال أ و قد فعلوها لا بارک الله فیهم- أ بعد أن أخذت بمخنق معاویه و رأى الموت عیانا أرجع- ثم عاد فشتم أهل العراق و سبهم و قال لهم و قالوا له- ما هو منقول مشهور و قد ذکرنا الکثیر منه فیما تقدم- . فإذا کانت الحال وقعت هکذا- فأی تقصیر وقع من أمیر المؤمنین ع- و هل ینسب المغلوب على أمره- المقهور على رأیه إلى تقصیر أو فساد تدبیر- .
و بهذا نجیب عن قولهم- إن التحکیم یدل على الشک فی أمره- لأنه إنما یدل على ذلک لو ابتدأ هو به- فأما إذا دعاه إلى ذلک غیره و استجاب إلیه أصحابه- فمنعهم و أمرهمأن یمروا على وتیرتهم و شأنهم فلم یفعلوا- و بین لهم أنها مکیده فلم یتبینوا- و خاف أن یقتل أو یسلم إلى عدوه- فإنه لا یدل تحکیمه على شکه- بل یدل على أنه قد دفع بذلک ضررا عظیما عن نفسه- و رجا أن یحکم الحکمان بالکتاب- فتزول الشبهه عمن طلب التحکیم من أصحابه- .
و أما تحکیمه عمرا مع ظهور فسقه فإنه لم یرض به- و إنما رضی به مخالفه و کرهه هو فلم یقبل منه- و قد قیل إنه أجاب ابن عباس رحمه الله عن هذا- فقال للخوارج أ لیس قد قال الله تعالى- فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَکَماً مِنْ أَهْلِها- أ رأیتم لو کانت المرأه یهودیه فبعثت حکما من أهلها- أ کنا نسخط ذلک- . و أما أبو موسى فقد کرهه أمیر المؤمنین ع- و أراد أن یجعل بدله عبد الله بن عباس- فقال أصحابه لا یکون الحکمان من مضر- فقال فالأشتر فقالوا و هل أضرم النار إلا الأشتر- و هل جر ما ترى إلا حکومه الأشتر- و لکن أبا موسى فأباه فلم یقبلوا منه و أثنوا علیه- و قالوا لا نرضى إلا به فحکمه على مضض- .
و منها قولهم ترک الرأی لما دعاه العباس- وقت وفاه الرسول ص إلى البیعه- و قال له امدد یدک أبایعک- فیقول الناس عم رسول الله ص بایع ابن عمه- فلا یختلف علیک اثنان فلم یفعل- و قال و هل یطمع فیها طامع غیری- فما راعه إلا الضوضاء و اللغط فی باب الدار- یقولون قد بویع أبو بکر بن أبی قحافه- .
الجواب أن صواب الرأی و فساده- فیما یرجع إلى مثل هذه الواقعه- یستندان إلى ما قد کان غلب على الظن- و لا ریب أنه ع لم یغلب على ظنه- أن أحدا یستأثر علیه بالخلافه- لأحوال قد کان مهدها له رسول الله ص- و ما توهم إلا أنه ینتظر- و یرتقب خروجه من البیت و حضوره- و لعله قد کان یخطر له أنه إما أن یکون هو الخلیفه- أو یشاور فی الخلافه إلى من یفوض- و ما کان یتوهم أنه یجری الأمر على ما جرى من الفلته- عند ثوران تلک الفتنه- و لا یشاور هو و لا العباس و لا أحد من بنی هاشم- و إنما کان یکون تدبیره فاسدا- لو کان یحاذر خروج الأمر عنه و یتوهم ذلک و یغلب على ظنه- إن لم یبادر تحصیله بالبیعه المعجله- فی الدار من وراء الأبواب و الأغلاق و إلا فاته- ثم یهمل ذلک و لا یفعله و قد صرح هو بما عنده- فقال و هل یطمع فیها طامع غیری- ثم قال إنی أکره البیعه هاهنا و أحب أن أصحر بها- فبین أنه یستهجن أن یبایع سرا خلف الحجب و الجدران- و یحب أن یبایع جهره بمحضر من الناس کما قال- حیث طلبوا منه بعد قتل عثمان أن یبایعهم فی داره- فقال لا بل فی المسجد- و لا یعلم و لا خطر له ما فی ضمیر الأیام- و ما یحدث الوقت من وقوع ما لا یتوهم العقلاء- و أرباب الأفکار وقوعه- .
و منها قولهم- إنه قصر فی طلب الخلافه عند بیعه أبی بکر- و قد کان اجتمع له من بنی هاشم و بنی أمیه- و غیرهم من أفناء الناس- من یتمکن بهم من المنازعه و طلب الخلافه- فقصر عن ذلک لا جبنا لأنه کان أشجع البشر- و لکن قصور تدبیر و ضعف رأی- و لهذا أکفرته الکاملیه و أکفرت الصحابه- فقالوا کفرت الصحابه لترکهم بیعته- و کفر هو بترک المنازعه لهم- .
و الجواب أما على مذهبنا فإنه لم یکن ع منصوصا علیه- و إنما کان یدعیها بالأفضلیه و القرابه و السابقه- و الجهاد و نحو ذلک من الخصائص- فلما وقعت بیعه أبی بکر- رأى هو علی ع أن الأصلح للإسلام ترک النزاع- و أنه یخاف من النزاع حدوث فتنه تحل معاقد المله- و تزعزع أرکانها- فحضر و بایع طوعا و وجب علینا بعد مبایعته- و رضاه أن نرضى بمن رضی هو ع و نطیع من أطاعه- لأنه القدوه و أفضل من ترکه ص بعده- . و أما الإمامیه- فلهم عن ذلک جواب آخر معروف من قواعدهم- .
و منها قولهم- إنه قصر فی الرأی حیث دخل فی الشورى- لأنه جعل نفسه بدخوله فیها نظیرا لعثمان و غیره من الخمسه- و قد کان الله تعالى رفعه عنهم و على من کان قبلهم- فوهن بذلک قدره و طأطأ من جلالته- أ لا ترى أنه یستهجن و یقبح- من أبی حنیفه و الشافعی رحمهما الله- أن یجعلا أنفسهما نظراء لبعض من بدأ طرفا من الفقه- و یستهجن و یقبح من سیبویه و الأخفش- أن یوازیا أنفسهما بمن یعلم أبوابا یسیره من النحو- .
الجواب أنه ع و إن کان أفضل من أصحاب الشورى- فإنه کان یظن أن ولی الأمر أحدهم بعد عمر- لا یسیر سیره صالحه و أن تضطرب بعض أمور الإسلام- و قد کان یثنی على سیره عمر و یحمدها- فواجب علیه بمقتضى ظنه أن یدخل معهم فیما أدخله عمر فیه- توقعا لأن یفضی الأمر إلیه فیعمل بالکتاب و السنه- و یحیی معالم رسول الله ص- و لیس اعتماد ما یقتضیه الشرع مما یوجب نقصا فی الرأی- فلا تدبیر أصح و لا أسد من تدبیر الشرع- .
و منها قولهم- إنه ما أصاب حیث أقام بالمدینه و عثمان محصور- و قد کان یجب فی الرأی أن یخرج عنها- بحیث لا تنوط بنو أمیه به دم عثمان- فإنه لو کان بعیدا عن المدینه- لکان من قذفهم إیاه بذلک أبعد و عنه أنزه- . و الجواب أنه لم یکن یخطر له مع براءته من دم عثمان- أن أهل الفساد من بنی أمیه یرمونه بأمره- و الغیب لا یعلمه إلا الله- و کان یرى مقامه بالمدینه- أدعى إلى انتصار عثمان على المحاصرین له- فقد حضر هو بنفسه مرارا و طرد الناس عنه- و أنفذ إلیه ولدیه و ابن أخیه عبد الله- و لو لا حضور علی ع بالمدینه لقتل عثمان- قبل أن یقتل بمده- و ما تراخی أمره و تأخر قتله- إلا لمراقبه الناس له حیث شاهدوه ینتصر له و یحامی عنه- . و منها قولهم کان یجب فی مقتضى الرأی حیث قتل عثمان- أن یغلق بابه و یمنع الناس من الدخول إلیه- فإن العرب کانت تضطرب اضطرابه ثم تئول إلیه- لأنه تعین للأمر بحکم الحال الحاضره فلم یفعل- و فتح بابه و ترشح للأمر و بسط له یده- فلذلک انتقضت علیه العرب من أقطارها- .
و الجواب أنه ع کان یرى- أن القیام بالأمر یومئذ فرض علیه لا یجوز له الإخلال به- لعدم من یصلح فی ظنه للخلافه- فما کان یجوز له أن یغلق بابه و یمتنع- و ما الذی کان یومئذ أن یبایع الناس طلحه أو الزبیر- أو غیرهما ممن لا یراه أهلا للأمر- فقد کان عبد الله بن الزبیر- یومئذ یزعم أن عثمان عهد إلیه بالخلافه و هو محصور- و کان مروان یطمع أن ینحاز إلى طرف من الأطراف- فیخطب لنفسه بالخلافه- و له من بنی أمیه شیعه و أصحاب- بشبهه أنه ابن عم عثمان- و أنه کان یدبر أمر الخلافه على عهده- و کان معاویه یرجو أن ینال الخلافه- لأنه من بنی أمیه و ابن عم عثمان- و أمیر الشام عشرین سنه- و قد کان قوم من بنی أمیه یتعصبون لأولاد عثمان المقتول- و یرومون إعاده الخلافه فیهم-و ما کان یسوغ لعلی ع فی الدین- إذا طلبه المسلمون للخلافه أن یمتنع عنها- و یعلم أنها ستصیر إذا امتنع إلى هؤلاء فلذلک فتح بابه- و امتنع امتناع من یحاول أن یعلم ما فی قلوب الناس- هل لرغبتهم إلیه حقیقه أم لا- فلما رأى منهم التصمیم وافق لوجوب الموافقه علیه- وقد قال فی خطبته لو لا حضور الحاضر و وجوب الحجه بوجود الناصر- … لألقیت حبلها على غاربها و لسقیت آخرها بکأس أولها- و هذا تصریح بما قلناه- .
و منها قولهم هلا إذ ملک شریعه الفرات على معاویه- بعد أن کان معاویه ملکها علیه و منعه و أهل العراق منها- منع معاویه و أهل الشام منها فکان یأخذهم قبضا بالأیدی- فإنه لم یصبر على منعهم عن الماء بل فسح لهم فی الورود- و هذا یخالف ما یقتضیه تدبیر الحرب- . الجواب أنه ع لم یکن یستحل ما استحله معاویه- من تعذیب البشر بالعطش- فإن الله تعالى ما أمر فی أحد من العصاه- الذین أباح دماءهم بذلک- و لا فسح فیه فی نحو القصاص أو حد الزانی المحصن- أو قتل قاطع الطریق أو قتال البغاه و الخوارج- و ما کان أمیر المؤمنین ممن یترک حکم الله و شریعته- و یعتمد ما هو محرم فیها- لأجل الغلبه و القهر و الظفر بالعدو- و لذلک لم یکن یستحل البیات و لا الغدر و لا النکث- و أیضا فمن الجائز أن یکون ع غلب على ظنه- أن أهل الشام إن منعوا من الماء- کان ذلک أدعى لهم إلى الحملات الشدیده- المنکره على عسکره و أن یضعوا فیهم السیوف- فیأتوا علیهم و یکسروهم بشده حنقهم- و قوه داعیهم إلى ورود الماء- فإن ذلک من أشد الدواعی- إلى أن یستمیت القوم و یستقتلوا- و من الذی یقف بین یدی جیش عظیم- عرمرم قد اشتد بهم العطش- و هم یرون الماء کبطون الحیات- لا یحول بینهم و بینه إلا قوم مثلهم- بل أقل منهم عده و أضعف عده- و لذلک لما حال معاویه بین أهل العراق و بین الماء- و قال لأمنعنهم وروده فأقتلهم بشفار الظمأ-
قال له عمرو بن العاص خل بین القوم و بین الماء- فلیسوا ممن یرى الماء و یصبر عنه- فقال لا و الله لا أخلی لهم عنه فسفه رأیه و قال- أ تظن أن ابن أبی طالب و أهل العراق- یموتون بإزائک عطشا- و الماء بمقعد الأزر و سیوفهم فی أیدیهم- فلج معاویه و قال لا أسقیهم قطره کما قتلوا عثمان عطشا- فلما مس أهل العراق العطش- أشار علی ع إلى الأشعث أن احمل- و إلى الأشتر أن احمل- فحملا بمن معهما فضربا أهل الشام ضربا أشاب الولید- و فر معاویه و من رأى رأیه و تابعه على قوله عن الماء- کما تفر الغنم خالطتها السباع- و کان قصارى أمره- و منتهى همته أن یحفظ رأسه و ینجو بنفسه- و ملک أهل العراق علیهم الماء و دفعوهم عنه- فصاروا فی البر القفر- و صار علی ع و أصحابه على شریعه الفرات مالکین لها- فما الذی کان یؤمن علیا ع لو أعطش القوم- أن یذوق هو و أصحابه منهم مثل ما أذاقهم- و هل بعد الموت بالعطش أمر یخافه الإنسان- و هل یبقى له ملجأ إلا السیف یحمل به- فیضرب خصمه إلى أن یقتل أحدهما- .
و منها قولهم- أخطأ حیث محا اسمه بالخلافه من صحیفه الحکومه- فإن ذلک مما وهنه عند أهل العراق- و قوى الشبهه فی نفوس أهل الشام- . و الجواب أنه ع احتذى فی ذلک لما دعی إلیه- و اقترحه الخصم علیه فعل رسول الله ص فی صحیفه الحدیبیه- حیث محا اسمه من النبوه لما قال له سهیل بن عمرو- لو علمنا أنک رسول الله لما حاربناک- و لا منعناک عن البیت- و قد قال له ص و هو یومئذ کاتب تلک الصحیفه- ستدعى إلى مثلها فتجیب- و هذا من أعلام نبوته ص و من دلائل صدقه- و مثله جرى له حذو القذه بالقذه- .
و منها قولهم- إنه کان غیر مصیب فی ترک الاحتراس- فقد کان یعلم کثره أعدائه و لم یکن یحترس منهم- و کان یخرج لیلا فی قمیص و رداء وحده- حتى کمن له ابن ملجم فی المسجد فقتله- و لو کان احترس و حفظ نفسه و لم یخرج إلا فی جماعه- و لو خرج لیلا کانت معه أضواء و شرطه لم یوصل إلیه- . و الجواب أن هذا إن کان قادحا فی السیاسه و التدبیر- فلیکن قادحا فی تدبیر عمر و سیاسته- و هو عند الناس فی الطبقه العلیا فی السیاسه- و صحه التدبیر- و لیکن قادحا فی تدبیر معاویه- فقد ضربه الخارجی بالسیف لیله ضرب أمیر المؤمنین ع- فجرحه و لم یأت على نفسه- و معاویه عند هؤلاء سدید التدبیر- و لیکن قادحا فی صحه تدبیر رسول الله ص- فقد کان یخرج وحده فی المدینه لیلا و نهارا- مع کثره أعدائه- و قد کان یأکل ما دعی إلیه و لا یحترس- حتى أکل من یهودیه شاه مشویه قد سمته فیها فمرض- و خیف علیه التلف- و لما برأ لم تزل تنتقض علیه حتى مات منها- وقال عند موته إنی میت من تلک الأکله
– و لم تکن العرب فی ذلک الزمان تحترس- و لا تعرف الغیله و الفتک-
و کان ذلک عندهم قبیحا یعیر به فاعله- لأن الشجاعه غیر ذلک و الغیله فعل العجزه من الرجال- و لأن علیا ع کانت هیبته قد تمکنت فی صدور الناس- فلم یکن یظن أن أحدا یقدم علیه غیله- أو مبارزه فی حرب- فقد کان بلغ من الذکر بالشجاعه مبلغا عظیما- لم یبلغه أحد من الناس- لا من تقدم و لا من تأخر- حتى کانت أبطال العرب تفزع باسمه- أ لا ترى إلى عمرو بن معدیکرب و هو شجاع العرب- الذی تضرب به الأمثال-
کتب إلیه عمر بن الخطاب فی أمر أنکره علیه- و غدر تخوفه منه- أما و الله لئن أقمت على ما أنت علیه- لأبعثن إلیک رجلا تستصغر معه نفسک یضع سیفه على هامتک فیخرجه من بین فخذیک- فقال عمرو لما وقف على الکتاب هددنی بعلی و الله- و لهذا قال شبیب بن بجره لابن ملجم- لما رآه یشد الحریر على بطنه و صدره- ویلک ما تریدأن تصنع قال أقتل علیا- قال هبلتک الهبول لقد جئت شیئا إدا- کیف تقدر على ذلک- فاستبعد أن یتم لابن ملجم ما عزم علیه- و رآه مراما وعرا- و الأمر فی هذا و أمثاله مسند إلى غلبات الظنون- فمن غلبت على ظنه السلامه مع الاسترسال- لم یجب علیه الاحتراس- و إنما یجب الاحتراس على من یغلب على ظنه العطب- إن لم یحترس- . فقد بان بما أوضحناه فساد قول من قال- إن تدبیره ع و سیاسته لم تکن صالحه- و بان أنه أصح الناس تدبیرا و أحسنهم سیاسه- و إنما الهوى و العصبیه لا حیله فیهما
شرح نهج البلاغه(ابن أبی الحدید) ج ۱۰
بازدیدها: ۱۶۷