الجزء الثامن
تتمه الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحیم- الحمد لله الواحد العدل
۱۲۴ و من کلام له ع فی حث أصحابه على القتال
فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ وَ أَخِّرُوا الْحَاسِرَ- وَ عَضُّوا عَلَى الْأَضْرَاسِ- فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّیُوفِ عَنِ الْهَامِ- وَ الْتَوُوا فِی أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّهِ- وَ غُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَ أَسْکَنُ لِلْقُلُوبِ- وَ أَمِیتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ- وَ رَایَتَکُمْ فَلَا تُمِیلُوهَا وَ لَا تُخِلُّوهَا- وَ لَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَیْدِی شُجْعَانِکُمْ- وَ الْمَانِعِینَ الذِّمَارَ مِنْکُمْ- فَإِنَّ الصَّابِرِینَ عَلَى نُزُولِ الْحَقَائِقِ- هُمُ الَّذِینَ یَحُفُّونَ بِرَایَاتِهِمْ- وَ یَکْتَنِفُونَهَا حِفَافَیْهَا وَ وَرَاءَهَا وَ أَمَامَهَا- لَا یَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَیُسْلِمُوهَا- وَ لَا یَتَقَدَّمُونَ عَلَیْهَا فَیُفْرِدُوهَا الدارع لابس الدرع- و الحاسر الذی لا درع علیه و لا مغفر- أمرهم ع بتقدیم المستلئم على غیر المستلئم- لأن سوره الحرب و شدتها- تلقی و تصادف الأول فالأول- فواجب أن یکون أول القوم مستلئما- و أن یعضوا على الأضراس- و قد تقدم شرح هذا و قلنا- إنه یجوز أن یبدءوهم بالحنق و الجد- و یجوز أن یرید- أن العض على الأضراس یشد شئون الدماغ و رباطاته- فلا یبلغ السیف منه مبلغه لو صادفه رخوا- و أمرهم بأن یلتووا إذا طعنوا-لأنهم إذا فعلوا ذلک- فبالحری أن یمور السنان- أی یتحرک عن موضع الطعنه- فیخرج زالفا و إذا لم یلتووا لم یمر السنان- و لم یتحرک عن موضعه فیخرق و ینفذ فیقتل- . و أمرهم بغض الأبصار فی الحرب- فإنه أربط للجأش أی أثبت للقلب- لأن الغاض بصره فی الحرب أحرى- ألا یدهش و لا یرتاع لهول ما ینظر- . و أمرهم بإماته الأصوات و إخفائها- فإنه أطرد للفشل- و هو الجبن و الخوف- و ذلک لأن الجبان یرعد و یبرق- و الشجاع صامت- . و أمرهم بحفظ رایتهم ألا یمیلوها- فإنها إذا مالت انکسر العسکر- لأنهم إنما ینظرون إلیها و إلا یخلوها من محام عنها- و إلا یجعلوها بأیدی الجبناء و ذوی الهلع منهم- کی لا یخیموا و یجبنوا عن إمساکها- . و الذمار ما وراء الرجل مما یحق علیه أن یحمیه- و سمی ذمارا لأنه یجب على أهله التذمر له أی الغضب- . و الحقائق جمع حاقه- و هی الأمر الصعب الشدید- و منه قول الله تعالى الْحَاقَّهُ مَا الْحَاقَّهُ یعنی الساعه- . و یکتنفونها یحیطون بها- و حفافاها جانباها و منه قول طرفه-
کان جناحی مضرحی تکنفا
حفافیه شکا فی العسیب بمسرد
أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ وَ آسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ- وَ لَمْ یَکِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِیهِ- فَیَجْتَمِعَعَلَیْهِ قِرْنُهُ وَ قِرْنُ أَخِیهِ- وَ ایْمُ اللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَیْفِ الْعَاجِلَهِ- لَا تَسْلَمُونَ مِنْ سَیْفِ الآْخِرَهِ- وَ أَنْتُمْ لَهَامِیمُ الْعَرَبِ وَ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ- إِنَّ فِی الْفِرَارِ مَوْجِدَهَ اللَّهِ وَ الذُّلَّ اللَّازِمَ وَ الْعَارَ الْبَاقِیَ- وَ إِنَّ الْفَارَّ لَغَیْرُ مَزِیدٍ فِی عُمُرِهِ- وَ لَا مَحْجُوزٍ بَیْنَهُ وَ بَیْنَ یَوْمِهِ- مَنْ رَائِحٌ إِلَى اللَّهِ کَالظَّمْآنِ یَرِدُ الْمَاءَ- الْجَنَّهُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِی- الْیَوْمَ تُبْلَى الْأَخْبَارُ- وَ اللَّهِ لَأَنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِیَارِهِمْ- اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ- وَ شَتِّتْ کَلِمَتَهُمْ وَ أَبْسِلْهُمْ بِخَطَایَاهُمْ من الناس من یجعل هذه الصیغه- و هی صیغه الإخبار بالفعل الماضی- فی قوله أجزأ امرؤ قرنه فی معنى الأمر- کأنه قال لیجزئ کل امرئ قرنه- لأنه إذا جاز الأمر بصیغه الإخبار فی المستقبل- جاز الأمر بصیغه الماضی و قد جاز الأول- نحو قوله تعالى وَ الْوالِداتُ یُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ- فوجب أن یجوز الثانی- و من الناس من قال معنى ذلک- هلا أجزأ امرؤ قرنه- فیکون تحضیضا محذوف الصیغه للعلم بها- و أجزأ بالهمزه أی کفى- و قرنک مقارنک فی القتال أو نحوه- . و آسى أخاه بنفسه مؤاساه بالهمز أی جعله أسوه نفسه- و یجوز واسیت زیدا بالواو و هی لغه ضعیفه- . و لم یکل قرنه إلى أخیه- أی لم یدع قرنه ینضم إلى قرن أخیه- فیصیرا معا فی مقاومه الأخ المذکور- و ذلک قبیح محرم- مثاله زید و عمرو مسلمان- و لهما قرنان کافران فی الحرب- لا یجوز لزید أن ینکل عن قرنه- فیجتمع قرنه و قرن عمرو على عمرو- . ثم أقسم ع أنهم إن سلموا من الألم النازل بهم- لو قتلوا بالسیف فی الدنیا- فإنهم لم یسلموا من عقاب الله تعالى فی الآخره- على فرارهم و تخاذلهم- و سمى ذلک سیفا على وجه الاستعاره و صناعه الکلام- لأنه قد ذکر سیف الدنیا- فجعل ذلک فی مقابلته- . و اللهامیم السادات الأجواد من الناس- و الجیاد من الخیل الواحد لهموم- و السنام الأعظم یرید شرفهم و علو أنسابهم- لأن السنام أعلى أعضاء البعیر- . و موجده الله غضبه و سخطه- . و یروى و الذل اللاذم بالذال المعجمه- و هو بمعنى اللازم أیضا- لذمت المکان بالکسر أی لزمته- . ثم ذکر أن الفرار لا یزید فی العمر- و قال الراجز
قد علمت حسناء دعجاء المقل
أن الفرار لا یزید فی الأجل
ثم قال لهم أیکم یروح إلى الله- فیکون کالظمآن یرد الماء- . ثم قال الجنه تحت أطراف العوالی- و هذا منقول رسول الله ص الجنه تحت ظلال السیوف وسمع بعض الأنصار رسول الله ص یقول یوم أحد الجنه تحت ظلال السیوف- و فی یده تمیرات یلوکها- فقال بخ بخ لیس بینی و بین الجنه إلا هذه التمیرات- ثم قذفها من یده و کسر جفن سیفه- و حمل على قریش فقاتل حتى قتل- . ثم قال الیوم تبلى الأخبار- هذا من قول الله تعالى- وَ نَبْلُوَا أَخْبارَکُمْ أی نختبر أفعالکم- .
ثم دعا على أهل الشام إن ردوا الحق- بأن یفض الله جماعتهم- أی یهزمهم و یشتت أی یفرق کلمتهم- و أن یبسلهم بخطایاهم- أی یسلمهم لأجل خطایاهم التی اقترفوها و لا ینصرهم- أبسلت فلانا إذا أسلمته إلى الهلکه فهو مبسل- قال تعالى أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أی تسلم- و قال أُولئِکَ الَّذِینَ أُبْسِلُوا بِما کَسَبُوا- أی أسلموا للهلاک لأجل ما اکتسبوه من الإثم- و هذه الألفاظ کلها لا یتلو بعضها بعضا- و إنما هی منتزعه من کلام طویل- انتزعها الرضی رحمه الله و اطرح ما عداها: إِنَّهُمْ لَنْ یَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ- دُونَ طَعْنٍ دِرَاکٍ یَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِیمُ- وَ ضَرْبٍ یَفْلِقُ الْهَامَ وَ یُطِیحُ الْعِظَامَ- وَ یُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَ الْأَقْدَامَ- وَ حَتَّى یُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسِرُ- وَ یُرْجَمُوا بِالْکَتَائِبِ تَقْفُوهَا الْحَلَائِبُ- وَ حَتَّى یُجَرَّ بِبِلَادِهِمُ الْخَمِیسُ یَتْلُوهُ الْخَمِیسُ- وَ حَتَّى تَدْعَقَ الْخُیُولُ فِی نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ- وَ بِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَ مَسَارِحِهِمْ قال الشریف الرضی رحمه الله تعالى- الدعق الدق أی تدق الخیول بحوافرها أرضهم- و نواحر أرضهم متقابلاتها- و یقال منازل بنی فلان تتناحر أی تتقابل طعن دراک أی متتابع یتلو بعضه بعضا- و یخرج منه النسیم أی لسعته- و من هذا النحو قول الشاعر-
طعنت ابن عبد القیس طعنه ثائر
لها نفذ لو لا الشعاع أضاءها
ملکت بها کفی فأنهرت فتقها
یرى قائم من دونها ما وراءها
فهذا وصف الطعنه- بأنها لاتساعها یرى الإنسان المقابل لها- ببصره ما وراءها- و أنه لو لا شعاع الدم و هو ما تفرق منه لبان منها الضوء- و أمیر المؤمنین ع أراد من أصحابه طعنات یخرج النسیم- و هو الریح اللینه منهن- . و فلقت الشیء أفلقه بکسر اللام فلقا أی شققته- و یطیح العظام یسقطها- طاح الشیء أی سقط أو هلک أو تاه فی الأرض- و أطاحه غیره و طوحه- . و یندر السواعد یسقطها أیضا- ندر الشیء یندر ندرا أی سقط- و منه النوادر و أندره غیره- و الساعد من الکوع إلى المرفق و هو الذراع- . و المناسر جمع منسر- و هو قطعه من الجیش تکون أمام الجیش الأعظم- بکسر السین و فتح المیم- و یجوز منسر بکسر المیم و فتح السین- و قیل إنها اللغه الفصحى- . و یرجموا أی یغزوا بالکتائب- جمع کتیبه و هی طائفه من الجیش- . تقفوها الحلائب أی تتبعها طوائف لنصرها و المحاماه عنها- یقال قد أحلبوا إذا جاءوا من کل أوب للنصره- و رجل محلب أی ناصر- و حالبت الرجل إذا نصرته و أعنته و قال الشاعر-
أ لهفا بقرى سحبل حین أحلبت
علینا الولایا و العدو المباسل
أی أعانت و نصرت و الخمیس الجیش- و الدعق قد فسره الرضی رحمه الله- و یجوز أن یفسر بأمر آخر- و هو الهیج و التنفیر- دعق القوم یدعقهم دعقا أی هاج منهم و نفرهم- . و نواحر أرضهم قد فسره رحمه الله أیضا- و یمکن أن یفسر بأمر آخر- و هو أن یراد به أقصى أرضهم و آخرها- من قولهم لآخر لیله فی الشهر ناحره- . و أعنان مساربهم و مسارحهم جوانبها- و المسارب ما یسرب فیه المال الراعی- و المسارح ما یسرح فیه- و الفرق بین سرح و سرب- أن السروح إنما یکون فی أول النهار- و لیس ذلک بشرط فی السروب
عود إلى أخبار صفین
و اعلم أن هذا الکلام قاله أمیر المؤمنین ع- لأصحابه فی صفین یحرضهم به- و قد ذکرنا من حدیث صفین فیما تقدم أکثره- و نحن نذکر هاهنا تتمه القصه- لیکون من وقف على ما تقدم و على هذا المذکور آنفا هنا- قد وقف على قصه صفین بأسرها- . اتفق الناس کلهم أن عمارا رضی الله عنه- أصیب مع علی ع بصفین- و قال کثیر منهم بل الأکثر- أن أویسا القرنی أصیب أیضا مع علی ع بصفین- .
و ذکر ذلک نصر بن مزاحم فی کتاب صفین- رواه عن حفص بن عمران البرجمی- عن عطاء بن السائب عن أبی البختری- و قد قال رسول الله ص فی أویس ما قال- و قال الناس کلهم إن رسول الله ص قال إن الجنه لتشتاق إلى عمار و رووا عنه ص أن عمارا جاء یستأذن علیه- فقال ائذنوا له مرحبا بالطیب المطیبوروى سلمه بن کهیل عن مجاهد أن النبی ص رأى عمارا- و هو یحمل أحجار المسجد فقال- ما لهم و لعمار یدعوهم إلى الجنه- و یدعونه إلى الناروروى الناس کافه أن رسول الله ص قال له- تقتلک الفئه الباغیه- .
و روى نصر بن مزاحم فی کتاب صفین- عن عمرو بن شمر عن مالک بن أعین- عن زید بن وهب الجهنی- أن عمار بن یاسر نادى فی صفین یوما- قبل مقتله بیوم أو یومین- أین من یبغی رضوان الله عز و جل- و لا یئوب إلى مال و لا ولد- فأتته عصابه من الناس- فقال أیها الناس اقصدوا بنا قصد هؤلاء القوم- الذین یتبعون دم عثمان- و یزعمون أنه قتل مظلوما- و الله إن کان إلا ظالما لنفسه- الحاکم بغیر ما أنزل الله- و دفع علی ع الرایه إلى هاشم بن عتبه بن أبی وقاص- و کان علیه ذلک الیوم درعان- فقال له علی ع کهیئه المازح- أیا هاشم أ ما تخشى على نفسک أن تکون أعور جبانا- قال ستعلم یا أمیر المؤمنین- و الله لألفن بین جماجم العرب لف رجل ینوی الآخره- فأخذ رمحا فهزه فانکسر- ثم أخذ آخر فوجده جاسیا فألقاه- ثم دعا برمح لین فشد به اللواء- .
قال نصر و حدثنا عمرو قال- لما دفع علی ع الرایه إلى هاشم بن عتبه- قال له رجل من أصحابه من بکر بن وائل- أقدم هاشم یکررها- ثم قال ما لک یا هاشم قد انتفخ سحرک- أعورا و جبنا- قال من هذا- قالوا فلان قال أهلها و خیر منها- إذا رأیتنی قد صرعت فخذها- ثم قال لأصحابه شدوا شسوع نعالکم و شدوا أزرکم- فإذا رأیتمونی قد هززت الرایه ثلاثا- فاعلموا أن أحدا منکم لا یسبقنی إلى الحمله- ثم نظر إلى عسکر معاویه- فرأى جمعا عظیما-
فقال من أولئک قیل أصحاب ذی الکلاع- ثم نظر فرأى جندا فقال من أولئک- قیل قریش و قوم من أهل المدینه- فقال قومی لا حاجه لی فی قتالهم- من عند هذه القبه البیضاء- قیل معاویه و جنده- قال فإنی أرى دونهم أسوده- قیل ذاک عمرو بن العاص و ابناه و موالیه- فأخذ الرایه فهزها- فقال رجل من أصحابه- البث قلیلا و لا تعجل فقال هاشم-
قد أکثرا لومی و ما أقلا
إنی شریت النفس لن أعتلا
أعور یبغی أهله محلا
قد عالج الحیاه حتى ملا
لا بد أن یفل أو یفلا
أشلهم بذی الکعوب شلا
مع ابن عم أحمد المعلى
أول من صدقه و صلى
قال نصر و حدثنا عبد العزیز بن سیاه- عن حبیب بن أبی ثابت- قال لما تناول هاشم الرایه- جعل عمار بن یاسر یحرضه على الحرب- و یقرعه بالرمح و یقول أقدم یا أعور-لا خیر فی أعور لا یأتی الفزع- . فیستحیی من عمار- و یتقدم و یرکز الرایه- فإذا رکزها عاوده عمار بالقول فیتقدم أیضا- فقال عمرو بن العاص- إنی لأرى لصاحب الرایه السوداء عملا- لئن دام على هذا لتفنین العرب الیوم- فاقتتلوا قتالا شدیدا- و عمار ینادی صبرا و الله إن الجنه تحت ظلال البیض- فکان بإزاء هاشم و عمار أبو الأعور السلمی- و لم یزل عمار بهاشم ینخسه و هو یزحف بالرایه- حتى اشتد القتال و عظم و التقى الزحفان- و اقتتلا قتالا لم یسمع السامعون بمثله- و کثرت القتلى فی الفریقین جمیعا- . و روى نصر عن عمرو بن شمر- قال حدثنی من أثق به من أهل العراق-قال لما التقینا بالقوم فی ذلک الیوم- وجدناهم خمسه صفوف- قد قیدوا أنفسهم بالعمائم- فقتلنا صفا ثم صفا- ثم خلصنا إلى الرابع- ما على الأرض شامی و لا عراقی یولی دبره- و أبو الأعور یقول-
إذا ما فررنا کان أسوأ فرارنا
صدود الخدود و ازورار المناکب
صدود الخدود و القنا متشاجر
و لا تبرح الأقدام عند التضارب
قال نصر- و التقت فی هذا الیوم همدان العراق بعک الشام- فقال قائلهم
همدان همدان و عک عک
ستعلم الیوم من الأرک
و کانت على عک الدروع و لیس علیهم رایات- فقالت همدان خدموا القوم أی اضربوا سوقهم- فقالت عک ابرکوا برک الکمل- فبرکوا کما یبرک الجمل ثم رموا الحجر- و قالوا لا نفر حتى یفر الحکر- . قال نصر- و اقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاه المغرب- ما کان صلاه القوم إلا التکبیر عند مواقیت الصلاه- . ثم إن أهل العراق کشفوا میمنه أهل الشام- فطاروا فی سواد اللیل- و کشف أهل الشام میسره أهل العراق- فاختلطوا فی سواد اللیل- و تبدلت الرایات بعضها ببعض- فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم- و لیس حوله إلا ألف رجل- فاقتلعوه و رکزوه من وراء موضعه الأول و أحاطوا به- و وجد أهل العراق لواءهم مرکوزا- و لیس حوله إلا ربیعه و علی ع بینها- و هم محیطون به- و هو لا یعلم من هم و یظنهم غیرهم- فلما أذن مؤذن علی ع الفجر- قال علی ع
یا مرحبا بالقائلین عدلا
و بالصلاه مرحبا و أهلا
ثم وقف و صلى الفجر- فلما انفتل أبصر وجوها لیست بوجوه أصحابه بالأمس- و إذا مکانه الذی هو فیه ما بین المیسره إلى القلب- فقال من القوم قالوا ربیعه- و إنک یا أمیر المؤمنین لعندنا منذ اللیله- فقالفخر طویل لک یا ربیعه- . ثم قال لهاشم بن عتبه خذ اللواء- فو الله ما رأیت مثل هذه اللیله- فخرج هاشم باللواء حتى رکزه فی القلب- . قال نصر حدثنا عمرو بن شمر عن الشعبی- قال عبى معاویه تلک اللیله أربعه آلاف و ثلاثمائه- من فارس و راجل معلمین بالخضره- و أمرهم أن یأتوا علیا ع من ورائه- ففطنت لهم همدان فواجهوهم و صمدوا إلیهم- فباتوا تلک اللیله یتحارسون- و علی ع قد أفضى به ذهابه و مجیئه إلى رایات ربیعه- فوقف بینها و هو لا یعلم- و یظن أنه فی العسکر الأشعث- فلما أصبح لم یر الأشعث و لا أصحابه- و رأى سعید بن قیس الهمدانی على مرکزه- فجاء إلى سعید رجل من ربیعه یقال له زفر- فقال له أ لست القائل بالأمس- لئن لم تنته ربیعه لتکونن ربیعه ربیعه و همدان همدان- فما أغنت همدانالبارحه- فنظر إلیه علی ع نظر منکر- و نادى منادی علی ع- أن اتعدوا للقتال و اغدوا علیه- و انهدوا إلى عدوکم- فکلهم تحرک إلا ربیعه لم تتحرک- فبعث إلیهم علی ع- أن انهدوا إلى عدوکم- فبعث إلیهم أبا ثروان- فقال إن أمیر المؤمنین ع یقرئکم السلام- و یقول لکم یا معشر ربیعه- ما لکم لا تنهدون إلى عدوکم و قد نهد الناس- قالوا کیف ننهد و هذه الخیل من وراء ظهرنا- قل لأمیر المؤمنین- فلیأمر همدان أو غیرها بمناجزتهم لننهد- فرجع أبو ثروان إلى علی ع- فأخبره فبعث إلیهم الأشتر-
فقال یا معشر ربیعه- ما منعکم أن تنهدوا و قد نهد الناس- و کان جهیر الصوت- و أنتم أصحاب کذا و أصحاب کذا- فجعل یعدد أیامهم- فقالوا لسنا نفعل- حتى ننظر ما تصنع هذه الخیل التی خلف ظهورنا- و هی أربعه آلاف- قل لأمیر المؤمنین فلیبعث إلیهم من یکفیه أمرهم- . و رایه ربیعه یومئذ مع الحضین بن المنذر- فقال لهم الأشتر فإن أمیر المؤمنین یقول لکم اکفونیها- إنکم لو بعثتم إلیهم طائفه منکم- لترکوکم فی هذه الفلاه- و فروا کالیعافیر- فوجهت حینئذ ربیعه إلیهم تیم الله- و النمر بن قاسط و عنزه- قالوا فمشینا إلیهم مستلئمین مقنعین فی الحدید- و کان عامه قتال صفین مشیا-
قال فلما أتیناهم هربوا و انتشروا انتشار الجراد- فذکرت قوله و فروا کالیعافیر- ثم رجعنا إلى أصحابنا و قد نشب القتال بینهم و بین أهل الشام- و قد اقتطع أهل الشام طائفه من أهل العراق- بعضها من ربیعه فأحاطوا بها- فلم نصل إلیها حتى حملنا على أهل الشام- فعلوناهم بالأسیاف حتى انفرجوا لنا- فأفضینا إلى أصحابنا فاستنقذناهم- و عرفناهم تحت النقع بسیماهم و علامتهم- و کانت علامه أهل العراق بصفین الصوف الأبیض- قد جعلوه فی رءوسهم و علىأکتافهم و شعارهم- یا الله یا الله یا أحد یا صمد- یا رب محمد یا رحمان یا رحیم- و کانت علامه أهل الشام خرقا صفرا- قد جعلوها على رءوسهم و أکتافهم و شعارهم-نحن عباد الله حقا حقا- یا لثارات عثمان-
قال نصر فاجتلدوا بالسیوف و عمد الحدید- فلم یتحاجزوا حتى حجز بینهم اللیل- و ما یرى رجل من هؤلاء و من هؤلاء مولیا- . قال نصر حدثنا عمر بن سعد- قال کانوا عربا یعرف بعضهم بعضا فی الجاهلیه- و إنهم لحدیثو عهد بها- فالتقوا فی الإسلام- و فیهم بقایا تلک الحمیه- و عند بعضهم بصیره الدین و الإسلام- فتضاربوا و استحیوا من الفرار- حتى کادت الحرب تبیدهم- و کانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء عسکر هؤلاء- فیستخرجون قتلاهم فیدفنونهم- . قال نصر فحدثنا عمر بن سعد- قال فبینا علی ع واقفا بین جماعه- من همدان و حمیر و غیرهم من أفناء قحطان- إذ نادى رجل من أهل الشام- من دل على أبی نوح الحمیری- فقیل له قد وجدته- فما ذا ترید قال فحسر عن لثامه- فإذا هو ذو الکلاع الحمیری و معه جماعه من أهله و رهطه- فقال لأبی نوح سر معی- قال إلى أین قال إلى أن نخرج عن الصف- قال و ما شأنک قال إن لی إلیک لحاجه- فقال أبو نوح معاذ الله أن أسیر إلیک إلا فی کتیبه- قال ذو الکلاع- بلى فسر فلک ذمه الله و ذمه رسوله و ذمه ذی الکلاع- حتى ترجع إلى خیلک-
فإنما أرید أن أسألک عن أمر فیکم تمارینا فیه- فسار أبو نوح و سار ذو الکلاع- فقال له إنما دعوتک أحدثک حدیثا- حدثناه عمرو بن العاص قدیما فی خلافه عمر بن الخطاب- ثم أذکرناه الآن به فأعاده- أنه یزعم أنه سمع رسول الله ص- قال یلتقی أهل الشام و أهل العراق- و فی إحدى الکتیبتین الحق و إمام الهدى- و معه عمار بن یاسر- فقال أبو نوح نعم و الله إنه لفینا- قال نشدتک الله أ جاد هو على قتالنا- قال أبو نوح- نعم و رب الکعبه لهو أشد على قتالکم منی- و لوددت أنکم خلق واحد- فذبحته و بدأت بک قبلهم- و أنت ابن عمی- قال ذو الکلاع ویلک علام تمنى ذلک منا- فو الله ما قطعتک فیما بینی و بینک قط- و إن رحمک لقریبه و ما یسرنی أن أقتلک-
قال أبو نوح إن الله قطع بالإسلام أرحاما قریبه- و وصل به أرحاما متباعده- و إنی قاتلک و أصحابک لأنا على الحق و أنتم على الباطل- قال ذو الکلاع- فهل تستطیع أن تأتی معی صف أهل الشام- فأنا لک جار منهم حتى تلقى عمرو بن العاص- فتخبره بحال عمار و جده فی قتالنا- لعله أن یکون صلح بین هذین الجندین- . قلت وا عجباه من قوم یعتریهم الشک- فی أمرهم لمکان عمار- و لا یعتریهم الشک لمکان علی ع- و یستدلون على أن الحق مع أهل العراق- بکون عمار بین أظهرهم- و لا یعبئون بمکان علی ع- و یحذرون من قول النبی ص تقتلک الفئه الباغیه- و یرتاعون لذلک- و لا یرتاعون لقوله ص فی علی ع اللهم وال من والاه و عاد من عاداه- و لالقوله لا یحبک إلا مؤمنو لا یبغضک إلا منافق- و هذا یدلک على أن علیا ع اجتهدت قریش کلها- من مبدإ الأمر فی إخمال ذکره و ستر فضائله- و تغطیه خصائصه حتى محی فضله و مرتبته- من صدور الناس کافه إلا قلیلا منهم- .
قال نصر فقال له أبو نوح إنک رجل غادر- و أنت فی قوم غدر- و إن لم یرد الغدر أغدروک- و إنی أن أموت أحب إلى من أن أدخل مع معاویه- فقال ذو الکلاع أنا جار لک من ذلک- ألا تقتل و لا تسلب و لا تکره على بیعه- و لا تحبس عن جندک- و إنما هی کلمه تبلغها عمرو بن العاص- لعل الله أن یصلح بذلک بین هذین الجندین- و یضع عنهم الحرب- فقال أبو نوح إنی أخاف غدراتک و غدرات أصحابک- قال ذو الکلاع أنا لک بما قلت زعیم-
قال أبو نوح اللهم إنک ترى ما أعطانی ذو الکلاع- و أنت تعلم ما فی نفسی- فاعصمنی و اختر لی و انصرنی و ادفع عنی- ثم سار مع ذی الکلاع حتى أتى عمرو بن العاص- و هو عند معاویه و حوله الناس- و عبد الله بن عمر یحرض الناس على الحرب- فلما وقفا على القوم قال ذو الکلاع لعمرو- یا أبا عبد الله هل لک فی رجل ناصح لبیب مشفق- یخبرک عن عمار بن یاسر فلا یکذبک- قال و من هو قال هو ابن عمی هذا- و هو من أهل الکوفه- فقال عمرو أرى علیک سیما أبی تراب- فقال أبو نوح على سیما محمد و أصحابه- و علیک سیما أبی جهل و سیما فرعون- فقام أبو الأعور فسل سیفه- و قال لا أرى هذا الکذاب اللئیم- یسبنا بین أظهرنا و علیه سیما أبی تراب- فقال ذو الکلاع أقسم بالله- لئن بسطت یدک إلیه لأحطمن أنفک بالسیف- ابن عمی و جاری عقدت له ذمتی- و جئت به إلیکم لیخبرکم عما تماریتم فیه- فقال له عمرو بن العاص یا أبا نوح- أذکرک بالله إلا ما صدقتنا و لم تکذبنا- أ فیکم عمار بن یاسر-
قال أبو نوح ما أنا بمخبرک حتى تخبر لم تسأل عنه- و معنا من أصحاب محمد ص عده غیره- و کلهم جاد على قتالکم-فقال عمرو سمعت رسول الله ص یقول إن عمارا تقتله الفئه الباغیه- و إنه لیس لعمار أن یفارق الحق- و لن تأکل النار من عمار شیئا- فقال أبو نوح لا إله إلا الله و الله أکبر- و الله إنه لفینا جاد على قتالکم- فقال عمرو الله الذی لا إله إلا هو إنه لجاد على قتالنا- قال نعم و الله الذی لا إله إلا هو- و لقد حدثنی یوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصره- و لقد قال لی أمس- إنکم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر- لعلمنا أنا على الحق و أنکم على باطل- و لکانت قتلانا فی الجنه و قتلاکم فی النار- قال عمرو فهل تستطیع أن تجمع بینی و بینه-
قال نعم فرکب عمرو بن العاص و ابناه- و عتبه بن أبی سفیان و ذو الکلاع- و أبو الأعور السلمی و حوشب- و الولید بن عقبه و انطلقوا- و سار أبو نوح و معه شرحبیل بن ذی الکلاع یحمیه- حتى انتهى إلى أصحابه- فذهب أبو نوح إلى عمار- فوجده قاعدا مع أصحاب له- منهم الأشتر و هاشم و ابنا بدیل- و خالد بن معمر و عبد الله بن حجل- و عبد الله بن العباس- . فقال لهم أبو نوح إنه دعانی ذو الکلاع و هو ذو رحم- فقال أخبرنی عن عمار بن یاسر أ فیکم هو- فقلت لم تسأل-فقال أخبرنی عمرو بن العاص فی إمره عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله ص یقول یلتقی أهل الشام و أهل العراق و عمار مع أهل الحق- و تقتله الفئه الباغیه- فقلت نعم إن عمارا فینا- فسألنی أ جاد هو على قتالنا- فقلت نعم و الله إنه لأجد منی فی ذلک- و لوددت أنکم خلق واحد فذبحته- و بدأت بک یا ذا الکلاع- فضحک عمار و قال أ یسرک ذلک-
قال نعمثم قال أبو نوح أخبرنی الساعه عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ص یقول تقتل عمارا الفئه الباغیه- قال عمار أ قررته بذلک- قال نعم لقد قررته بذلک فأقر-فقال عمار صدق و لیضرنه ما سمع و لا ینفعه- قال أبو نوح فإنه یرید أن یلقاک- فقال عمار لأصحابه ارکبوا فرکبوا و ساروا- قال فبعثنا إلیهم فارسا من عبد القیس- یسمى عوف بن بشر فذهب حتى إذا کان قریبا منهم- نادى أین عمرو بن العاص قالوا هاهنا- فأخبره بمکان عمار و خیله- قال عمرو قل له فلیسر إلینا-
قال عوف إنه یخاف غدارتک و فجراتک- قال عمرو ما أجرأک علی و أنت على هذه الحال- قال عوف جرأنی علیک بصری فیک و فی أصحابک- و إن شئت نابذتک الآن على سواء- و إن شئت التقیت أنت و خصماؤک و أنت کنت غادرا- فقال عمرو إنک لسفیه- و إنی باعث إلیک رجلا من أصحابی یواقفک- قال ابعث من شئت فلست بالمستوحش- و إنک لا تبعث إلا شقیا فرجع عمرو- و أنفذ إلیه أبا الأعور- فلما تواقفا تعارفا- فقال عوف إنی لأعرف الجسد و أنکر القلب- و إنی لا أراک مؤمنا و لا أراک إلا من أهل النار- قال أبو الأعور یا هذا- لقد أعطیت لسانا یکبک الله به على وجهک فی النار-
قال عوف کلا- و الله إنی لأتکلم بالحق و تتکلم بالباطل- و إنی أدعوک إلى الهدى و أقاتلک على الضلال- و أفر من النار و أنت بنعمه الله ضال- تنطق بالکذب و تقاتل على ضلاله- و تشتری العقاب بالمغفره و الضلاله بالهدى- انظر إلى وجوهنا و وجوهکم و سیمانا و سیماکم- و اسمع دعوتنا و دعوتکم- فلیس أحد منا إلا و هو أولى بالحق و بمحمد- و أقرب إلیه منکم- فقال أبو الأعور لقد أکثرت الکلام و ذهب النهار- ویحک ادع أصحابک و أدعو أصحابی- و لیأت أصحابک فی قله إن شاءوا أو کثره- فإنی أجیء من أصحابی بعدتهم- فإن شاء أصحابک فلیقلواو إن شاءوا فلیکثروا- فسار عمار فی اثنی عشر فارسا- حتى إذا کانوا بالمنصف سار عمرو بن العاص فی اثنی عشر فارسا- حتى اختلفت أعناق الخیل خیل عمار و خیل عمرو- و نزل القوم و احتبوا بحمائل سیوفهم- فتشهد عمرو بن العاص-
فقال له عمار اسکت- فلقد ترکتها و أنا أحق بها منک- فإن شئت کانت خصومه فیدفع حقنا باطلک- و إن شئت کانت خطبه- فنحن أعلم بفصل الخطاب منک- و إن شئت أخبرتک بکلمه تفصل بیننا و بینک- و تکفرک قبل القیام و تشهد بها على نفسک- و لا تستطیع أن تکذبنی فیها- فقال عمرو یا أبا الیقظان لیس لهذا جئت- إنما جئت لأنی رأیتک أطوع أهل هذا العسکر فیهم- أذکرک الله إلا کففت سلاحهم- و حقنت دماءهم و حرصت على ذلک- فعلام تقاتلوننا أ و لسنا نعبد إلها واحدا- و نصلی إلى قبلتکم و ندعو دعوتکم- و نقرأ کتابکم و نؤمن بنبیکم فقال عمار الحمد لله الذی أخرجها من فیک- أنها لی و لأصحابی القبله و الدین- و عباده الرحمن و النبی و الکتاب من دونک و دون أصحابک- الحمد لله الذی قررک لنا بذلک- و جعلک ضالا مضلا أعمى- و سأخبرک على ما أقاتلک علیه و أصحابک- إن رسول الله ص أمرنی أن أقاتل الناکثین فقد فعلت- و أمرنی أن أقاتل القاسطین و أنتم هم- و أما المارقون فلا أدری أدرکهم أو لا أیها الأبتر- أ لست تعلم
أن رسول الله ص قال من کنت مولاه فعلی مولاه- اللهم وال من والاه و عاد من عاداه- فأنا مولى الله و رسوله و علی مولای بعدهما-
قال عمرو لم تشتمنی یا أبا الیقظان و لست أشتمک- قال عمار و بم تشتمنی- أ تستطیع أن تقول أنی عصیت الله و رسوله یوما قط- قال عمرو إن فیک لمساب سوى ذلک- قال عمار إن الکریم من أکرمه الله- کنت وضیعا فرفعنی الله و مملوکا فأعتقنی الله- و ضعیفا فقوانی الله و فقیرا فأغنانی الله- قال عمرو فما ترى فی قتل عثمان- قال فتح لکم باب کل سوء- قال عمرو فعلی قتله- قال عمار بل الله رب علی قتله و علی معه- قال عمرو فکنت فیمن قتله- قال کنت مع من قتله و أنا الیوم أقاتل معهم- قال عمرو فلم قتلتموه- قال عمار إنه أراد أن یغیر دیننا فقتلناه- فقال عمرو أ لا تسمعون- قد اعترف بقتل إمامکم- فقال عمار قد قالها فرعون قبلک لقومه أَ لا تَسْتَمِعُونَ- فقام أهل الشام و لهم زجل فرکبوا خیولهم و رجعوا- و قام عمار و أصحابه فرکبوا خیولهم و رجعوا- و بلغ معاویه ما کان بینهم- فقال هلکت العرب- أن حرکتهم خفه العبد الأسود یعنی عمارا- .
قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر- قال فخرجت الخیول إلى القتال و اصطفت بعضها لبعض- و تزاحف الناس و على عمار درع بیضاء- و هو یقول أیها الناس الرواح إلى الجنه- . فقاتل القوم قتالا شدیدا لم یسمع السامعون بمثله- و کثرت القتلى حتى أن کان الرجل لیشد طنب فسطاطه- بید الرجل أو برجله- و حکى الأشعث بعد ذلک- قال لقد رأیت أخبیه صفین و أروقتها- و ما فیها خباء و لا رواق و لا فسطاط- إلا مربوطا بید إنسان أو برجله- . قال نصر و جعل أبو السماک الأسدی- یأخذ إداوه من ماء و شفره حدیده- فیطوف فی القتلى فإذا رأى رجلا جریحا و به رمق أقعده- فیقول له من أمیر المؤمنین- فإذا قالعلی غسل الدم عنه و سقاه من الماء- و إن سکت وجأه بالسکین حتى یموت و لا یسقیه- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر- قال سمعت الشعبی یقول قال الأحنف بن قیس- و الله إنی إلى جانب عمار بن یاسر- بینی و بینه رجل من بنی الشعیراء- . فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبه- فقال له عمار احمل فداک أبی و أمی- فقال له هاشم یرحمک الله یا أبا الیقظان- إنک رجل تأخذک خفه فی الحرب- و إنی إنما أزحف باللواء زحفا- أرجو أن أنال بذلک حاجتی- و إن خففت لم آمن الهلکه- و قد کان قال معاویه لعمرو ویحک- إن اللواء الیوم مع هاشم بن عتبه- و قد کان من قبل یرقل به إرقالا- و إن زحف به الیوم زحفا- إنه للیوم الأطول على أهل الشام- فإن زحف فی عنق من أصحابه- إنی لأطمع أن تقتطع- فلم یزل به عمار حتى حمل فبصر به معاویه- فوجه إلیه حماه أصحابه- و من یزن بالبأس و النجده منهم فی ناحیه- و کان فی ذلک الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص- و معه یومئذ سیفان قد تقلد بأحدهما- و هو یضرب بالآخر- فأطافت به خیول علی ع- و جعل عمرو یقول یا الله یا رحمان ابنی ابنی- فیقول معاویه اصبر فلا بأس علیه- فقال عمرو لو کان یزید بن معاویه أ صبرت- فلم یزل حماه أهل الشام تذب عن عبد الله- حتى نجا هاربا على فرسه و من معه- و أصیب هاشم فی المعرکه- .
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال و فی هذا الیوم قتل عمار بن یاسر رضی الله عنه- أصیب فی المعرکه- و قد کان قال حین نظر إلى رایه عمرو بن العاص- و الله إنها لرایه قد قاتلتها ثلاث عرکات و ما هذه بأرشدهن- ثم قال
نحن ضربناکم على تأویله
کما ضربناکم على تنزیله
ضربا یزیل الهام عن مقیله
و یذهل الخلیل عن خلیله
أو یرجع الحق إلى سبیله
ثم استسقى و قد اشتد عطشه- فأتته امرأه طویله الیدین- ما أدری أ عس معها أم إداوه فیها ضیاح من لبن- فقال حین شرب الجنه تحت الأسنه- الیوم ألقی الأحبه محمدا و حزبه- و الله لو ضربونا حتى یبلغونا سعفات هجر- لعلمنا أنا على الحق و أنهم على الباطل- ثم حمل و حمل علیه ابن حوى السکسکی و أبو العادیه- فأما أبو العادیه فطعنه- و أما ابن حوى فاحتز رأسه-و قد کان ذو الکلاع یسمع عمرو بن العاص یقول إن النبی ص یقول لعمار تقتلک الفئه الباغیه- و آخر شربک ضیاح من لبن- فقال ذو الکلاع لعمرو ویحک ما هذا- قال عمرو إنه سیرجع إلینا و یفارق أبا تراب- و ذلک قبل أن یصاب عمار- فلما أصیب عمار فی هذا الیوم أصیب ذو الکلاع- فقال عمرو لمعاویه- و الله ما أدری بقتل أیهما أنا أشد فرحا- و الله لو بقی ذو الکلاع حتى یقتل عمار- لمال بعامه قومه إلى علی و لأفسد علینا أمرنا- .
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال کان لا یزال رجل یجیء فیقول لمعاویه و عمرو- أنا قتلت عمارا فیقول له عمرو فما سمعته یقول فیخلط- حتى أقبل ابن حوى فقال أنا قتلته- فقال عمرو فما کان آخر منطقه- قال سمعته یقول الیوم ألقى الأحبه محمدا و حزبه- فقال صدقت أنت صاحبه- أما و الله ما ظفرت یداک- و لقد أسخطت ربک- . قال نصر حدثنا عمرو بن شمر- قال حدثنی إسماعیل السدی- عن عبد خیر الهمدانی- قال نظرت إلى عمار بن یاسر یوما من أیام صفین- قد رمی رمیه فأغمی علیه- فلم یصل الظهر و لا العصر- و لا المغرب و لا العشاء و لا الفجر- ثم أفاق فقضاهن جمیعا یبدأ بأول شیء فاته- ثم بالتی تلیها- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن السدی عن أبی حریث- قال أقبل غلام لعمار بن یاسر اسمه راشد- یحمل إلیه یوم قتل بشربه من لبن-فقال عمار أما إنی سمعت خلیلی رسول الله ص یقول إن آخر زادک من الدنیا شربه لبن- .
قال نصر و روى عمرو بن شمر- عن السدی أن رجلین بصفین اختصما فی سلب عمار و فی قتله- فأتیا عبد الله بن عمرو بن العاص- فقال ویحکما اخرجا عنی-فإن رسول الله ص قال ما لقریش و لعمار- یدعوهم إلى الجنه و یدعونه إلى النار- قاتله و سالبه فی النار- .قال السدی- فبلغنی أن معاویه قال لما سمع ذلک- إنما قتله من أخرجه- یخدع بذلک طغام أهل الشام- . قال نصر و حدثنا عمرو عن جابر عن أبی الزبیر- قال أتى حذیفه بن الیمان رهط من جهینه- فقالوا له یا أبا عبد الله- إن رسول الله ص استجار من أن تصطلم أمته- فأجیر من ذلک- و استجار من أن یذیق أمته بعضها بأس بعض- فمنع من ذلکفقال حذیفه إنی سمعت رسول الله ص یقول إن ابن سمیه لم یخیر بین أمرین قط إلا اختار أشدهما- یعنی عمارا فالزموا سمته- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال حمل عمار ذلک الیوم على صف أهل الشام- و هو یرتجز-
کلا و رب البیت لا أبرح أجی
حتى أموت أو أرى ما أشتهی
لا أفتأ الدهر أحامی عن علی
صهر الرسول ذی الأمانات الوفی
ینصرنا رب السماوات العلی
و یقطع الهام بحد المشرفی
یمنحنا النصر على من یبتغی
ظلما علینا جاهدا ما یأتلی
قال فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار- .قال نصر و قد کان عبد الله بن سوید الحمیری- من آل ذی الکلاع- قال لذی الکلاع- ما حدیث سمعته من ابن العاص فی عمار فأخبره- فلما قتل عمار خرج عبد الله لیلا یمشی- فأصبح فی عسکر علی ع- و کان عبد الله من عباد الله زمانه- و کاد أهل الشام أن یضطربوا- لو لا أن معاویه قال لهم- إن علیا قتل عمارا لأنه أخرجه إلى الفتنه- ثم أرسل معاویه إلى عمرو- لقد أفسدت على أهل الشام- أ کل ما سمعت من رسول الله ص تقوله- فقال عمرو قلتها و لست أعلم الغیب- و لا أدری أن صفین تکون- قلتها و عمار یومئذ لک ولی- و قد رویت أنت فیه مثل ما رویت- فغضب معاویه و تنمر لعمرو- و عزم على منعه خیره- فقال عمرو لابنه و أصحابه- لا خیر فی جوار معاویه- إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنه- و کان عمرو حمی الأنف قال-
تعاتبنی أن قلت شیئا سمعته
و قد قلت لو أنصفتنی مثله قبلی
أ نعلک فیما قلت نعل ثبیته
و تزلق بی فی مثل ما قلته نعلی
و ما کان لی علم بصفین أنها
تکون و عمار یحث على قتلی
و لو کان لی بالغیب علم کتمتها
و کایدت أقواما مراجلهم تغلی
أبى الله إلا أن صدرک واغر
علی بلا ذنب جنیت و لا ذحل
سوى أننی و الراقصات عشیه
بنصرک مدخول الهوى ذاهل العقل
فلا وضعت عنی حصان قناعها
و لا حملت وجناء ذعلبه رحلی
و لا زلت أدعى فی لؤی بن غالب
قلیلا غنائی لا أمر و لا أحلى
إن الله أرخى من خناقک مره
و نلت الذی رجیت إن لم أزر أهلی
و أترک لک الشام التی ضاق رحبها
علیک و لم یهنک بها العیش من أجلی
فأجابه معاویه-
أ الآن لما ألقت الحرب برکها
و قام بنا الأمر الجلیل على رجل
غمزت قناتی بعد ستین حجه
تباعا کأنی لا أمر و لا أحلى
أتیت بأمر فیه للشام فتنه
و فی دون ما أظهرته زله النعل
فقلت لک القول الذی لیس ضائرا
و لو ضر لم یضررک حملک لی ثقلی
تعاتبنی فی کل یوم و لیله
کأن الذی أبلیک لیس کما أبلی
فیا قبح الله العتاب و أهله
أ لم تر ما أصبحت فیه من الشغل
فدع ذا و لکن هل لک الیوم حیله
ترد بها قوما مراجلهم تغلی
دعاهم علی فاستجابوا لدعوه
أحب إلیهم من ثرى المال و الأهل
إذا قلت هابوا حومه الموت أرقلوا
إلى الموت إرقال الهلوک إلى الفحل
قال فلما أتى عمرا شعر معاویه أتاه- فأعتبه و صار أمرهما واحدا- . قال نصر- ثم إن علیا ع دعا فی هذا الیوم هاشم بن عتبه- و معه لواؤه و کان أعور- فقال له یا هاشم حتى متى- فقال هاشم لأجهدن ألا أرجع إلیک أبدا- فقال علی ع إن بإزائک ذا الکلاع- و عنده الموت الأحمر فتقدم هاشم-فلما أقبل قال معاویه من هذا المقبل- فقیل هاشم المرقال- فقال أعور بنی زهره قاتله الله- فأقبل هاشم و هو یقول-
أعور یبغی نفسه خلاصا
مثل الفنیق لابسا دلاصا
لا دیه یخشى و لا قصاصا
کل امرئ و إن کبا و حاصا
لیس یرى من یومه مناصا
فحمل صاحب لواء ذی الکلاع- و هو رجل من عذره- فقال
یا أعور العین و ما بی من عور
اثبت فإنی لست من فرعی مضر
نحن الیمانون و ما فینا خور
کیف ترى وقع غلام من عذر
ینعى ابن عفان و یلحى من عذر
سیان عندی من سعى و من أمر
فاختلفا طعنتین فطعنه هاشم فقتله- و کثرت القتلى حول هاشم- و حمل ذو الکلاع و اختلط الناس و اجتلدوا- فقتل هاشم و ذو الکلاع جمیعا- و أخذ عبد الله بن هاشم اللواء و ارتجز- فقال
یا هاشم بن عتبه بن مالک
أعزز بشیخ من قریش هالک
تحیطه الخیلان بالسنابک
فی أسود من نقعهن حالک
أبشر بحور العین فی الأرائک
و الروح و الریحان عند ذلک
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی- قال أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبه رایه أبیه- ثم قال أیها الناس- إن هاشما کان عبدا من عباد الله الذی قدر أرزاقهم-و کتب آثارهم و أحصى أعمالهم و قضى آجالهم- فدعاه الله ربه فاستجاب لأمره و سلم لأمره- و جاهد فی طاعه ابن عم رسوله- أول من آمن به و أفقههم فی دین الله- الشدید على أعداء الله المستحلین حرم الله- الذین عملوا فی البلاد بالجور و الفساد- و استحوذ علیهم الشیطان- فأنساهم ذکر الله و زین لهم الإثم و العدوان- فحق علیکم جهاد من خالف الله- و عطل حدوده و نابذ أولیاءه- جودوا بمهجکم فی طاعه الله فی هذه الدنیا- تصیبوا الآخره و المنزل الأعلى- و الأبد الذی لا یفنى- فو الله لو لم یکن ثواب و لا عقاب- و لا جنه و لا نار- لکان القتال مع علی أفضل من القتال مع معاویه- فکیف و أنتم ترجون ما ترجون- قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال لما انقضى أمر صفین- و سلم الحسن ع الأمر إلى معاویه- و وفدت علیه الوفود- أشخص عبد الله بن هاشم إلیه أسیرا- فلما مثل بین یدیه و عنده عمرو بن العاص-
قال یا أمیر المؤمنین هذا المختال ابن المرقال- فدونک الضب المضب المعر المفتون- فاقتله فإن العصا من العصیه- و إنما تلد الحیه حییه و جزاء السیئه سیئه مثلها- . فقال عبد الله- إن تقتلنی فما أنا بأول رجل خذله قومه- و أسلمه یومه- فقال عمرو یا أمیر المؤمنین- أمکنی منه أشخب أوداجه على أثباجه- فقال عبد الله فهلا کانت هذه الشجاعه منک- یا ابن العاص فی أیام صفین- و نحن ندعوک إلى النزال- و قد ابتلت أقدام الرجال من نقیع الجریال- و قد تضایقت بک المسالک- و أشرفت منها على المهالک- و ایم الله لو لا مکانک منه- لرمیتک بأحد من وقع الأشافی- فإنک لا تزال تکثر فی هوسک- و تخبط فی دهسک و تنشب فی مرسک- تخبط العشواء فی اللیله الحندس الظلماء- فأمر معاویه به إلى الحبس- فکتب عمرو إلى معاویه-
أمرتک أمرا حازما فعصیتنی
و کان من التوفیق قتل ابن هاشم
و کان أبوه یا معاویه الذی
رماک على حرب بحز الغلاصم
فقتلنا حتى جرت من دمائنا
بصفین أمثال البحور الخضارم
و هذا ابنه و المرء یشبه أصله
ستقرع إن أبقیته سن نادم
فبعث معاویه بالشعر إلى عبد الله بن هاشم- فکتب فی جوابه من السجن-
معاوی إن المرء عمرا أبت له
ضغینه صدر ودها غیر سالم
یرى لک قتلی یا ابن حرب و إنما
یرى ما یرى عمرو ملوک الأعاجم
على أنهم لا یقتلون أسیرهم
إذا کان فیه منعه للمسالم
و قد کان منا یوم صفین نفره
علیک جناها هاشم و ابن هاشم
قضى الله فیها ما قضى ثمت انقضى
و ما ما مضى إلا کأضغاث حالم
فإن تعف عنی تعف عن ذی قرابه
و إن تر قتلی تستحل محارمی
هذه روایه نصر بن مزاحم- .و روى أبو عبید الله محمد بن عمران- بن موسى بن عبید الله المرزبانی- أن معاویه لما تم له الأمر بعد وفاه علی ع- بعث زیادا على البصره- و ناد منادی معاویه أمن الأسود و الأحمر بأمان الله- إلا عبد الله بن هاشم بن عتبه- فمکث معاویه یطلبه أشد الطلب- و لا یعرف له خبرا- حتى قدم علیه رجل من أهل البصره- فقال له أنا أدلک على عبد الله بن هاشم بن عتبه- اکتب إلى زیاد فإنه عند فلانه المخزومیه- فدعا کاتبه- فکتب من معاویه بن أبی سفیان أمیر المؤمنین- إلى زیاد بن أبی سفیان- أما بعد فإذا أتاک کتابی هذا- فاعمد إلى حی بنی مخزوم- ففتشه دارا دارا- حتى تأتی إلى دار فلانه المخزومیه- فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها- فاحلق رأسه و ألبسه جبه شعر و قیده- و غل یده إلى عنقه- و احمله على قتب بعیر بغیر وطاء و لا غذاء- و أنفذ به إلی- .
قال المرزبانی فأما الزبیر بن بکار فإنه قال- إن معاویه قال لزیاد لما بعثه إلى البصره- إن عبد الله بن المرقال فی بنی ناجیه بالبصره- عند امرأه منهم یقال لها فلانه- و أنا أعزم علیک إلا حططت رحلک ببابها- ثم اقتحمت الدار و استخرجته منها و حملته إلی- . فلما دخل زیاد إلى البصره- سأل عن بنی ناجیه و عن منزل المرأه فاقتحم الدار- و استخرج عبد الله منها- فأنفذه إلى معاویه فوصل إلیه یوم الجمعه- و قد لاقى نصبا کثیرا- و من الهجیر ما غیر جسمه- و کان معاویه یأمر بطعام- فیتخذ فی کل جمعه لأشراف قریش و لأشراف الشام و وفود العراق- فلم یشعر معاویه إلا و عبد الله بین یدیه- و قد ذبل و سهم وجهه- فعرفه و لم یعرفه عمرو بن العاص- فقال معاویه یا أبا عبد الله- أ تعرف هذا الفتى قال لا- قال هذا ابن الذی کان یقول فی صفین-
أعور یبغی أهله محلا
قد عالج الحیاه حتى ملا
لا بد أن یفل أو یفلا
قال عمرو و إنه لهو دونک الضب المضب- فاشخب أوداجه- و لا ترجعه إلى أهلالعراق فإنهم أهل فتنه و نفاق- و له مع ذلک هوى یردیه و بطانه تغویه- فو الذی نفسی بیده لئن أفلت من حبائلک- لیجهزن إلیک جیشا تکثر صواهله لشر یوم لک- . فقال عبد الله و هو فی القید- یا ابن الأبتر هلا کانت هذه الحماسه عندک یوم صفین- و نحن ندعوک إلى البراز- و تلوذ بشمائل الخیل- کالأمه السوداء و النعجه القوداء- أما إنه إن قتلنی قتل رجلا کریم المخبره حمید المقدره- لیس بالجبس المنکوس و لا الثلب المرکوس- فقال عمرو دع کیت و کیت- فقد وقعت بین لحیی لهزم فروس للأعداء- یسعطک إسعاط الکودن الملجم-
قال عبد الله أکثر إکثارک- فإنی أعلمک بطرا فی الرخاء- جبانا فی اللقاء هیابه عند کفاح الأعداء- ترى أن تقی مهجتک بأن تبدی سوءتک- أ نسیت یوم صفین و أنت تدعى إلى النزال فتحید عن القتال- خوفا أن یغمرک رجال لهم أبدان شداد- و أسنه حداد ینهبون السرح- و یذلون العزیز- . قال عمر لقد علم معاویه أنی شهدت تلک المواطن- فکنت فیها کمدره الشوک- و لقد رأیت أباک فی بعض تلک المواطن تخفق أحشاؤه- و تنق أمعاؤه- قال أما و الله لو لقیک أبی فی ذلک المقام- لارتعدت منه فرائصک- و لم تسلم منه مهجتک- و لکنه قاتل غیرک فقتل دونک- . فقال معاویه أ لا تسکت لا أم لک- فقال یا ابن هند أ تقول لی هذا- و الله لئن شئت لأعرقن جبینک- و لأقیمنک و بین عینیک وسم یلین له أخدعاک- أ بأکثر من الموت تخوفنی- فقال معاویه أو تکف یا ابن أخی و أمر به إلى السجن- . فقال عمرو و ذکر الأبیات- فقال عبد الله و ذکر الأبیات أیضا- و زاد فأطرق معاویه طویلا حتى ظن أنه لن یتکلم- ثم قال
أرى العفو عن علیا قریش وسیله
إلى الله فی الیوم العبوس القماطر
و لست أرى قتلی فتى ذا قرابه
له نسب فی حی کعب و عامر
بل العفو عنه بعد ما خاب قدحه
و زلت به إحدى الجدود العواثر
و کان أبوه یوم صفین محنقا
علینا فأردته رماح یحابر
ثم قال له أ تراک فاعلا ما قال عمرو من الخروج علینا- قال لا تسل عن عقیدات الضمائر- لا سیما إذا أرادت جهادا فی طاعه الله- قال إذن یقتلک الله کما قتل أباک- قال و من لی بالشهاده- قال فأحسن معاویه جائزته- و أخذ علیه موثقا ألا یساکنه بالشام- فیفسد علیه أهله- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن السدی عن عبد خیر الهمدانی- قال قال هاشم بن عتبه یوم مقتله- أیها الناس إنی رجل ضخم- فلا یهولنکم مسقطی إذا سقطت- فإنه لا یفرغ منی أقل من نحر جزور- حتى یفرغ الجزار من جزرها- ثم حمل فصرع- فمر علیه رجل و هو صریع بین القتلى- فناداه اقرأ على أمیر المؤمنین السلام- و قل له برکات الله و رحمته علیک یا أمیر المؤمنین- أنشدک الله إلا أصبحت- و قد ربطت مقاود خیلک بأرجل القتلى- فإن الدبره تصبح غدا لمن غلب على القتلى- فأخبر الرجل علیا ع بما قاله- فسار فی اللیل بکتائبه حتى جعل القتلى خلف ظهره- فأصبح و الدبره له على أهل الشام- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن السدی عن عبد خیر- قال قاتل هاشم الحارث بن المنذر التنوخی- حمل علیه بعد أن أعیا و کل- و قتل بیده فطعنه بالرمح فشق بطنه فسقط- و بعث إلیه علی ع و هو لا یعلم أقدم بلوائک- فقال للرسول انظر إلى بطنی فإذا هو قد انشق- فجاء علی ع حتى وقف علیه- و حوله عصابه من أسلم قد صرعوا معه- و قوم من القراء فجزع علیه- و قال
جزى الله خیرا عصبه أسلمیه
صباح الوجوه صرعوا حول هاشم
یزید و سعدان و بشر و معبد
و سفیان و ابنا معبد ذی المکارم
و عروه لا یبعد نثاه و ذکره
إذا اخترطت یوما خفاف الصوارم
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن الشعبی عن أبی سلمه- أن هاشم بن عتبه استصرخ الناس عند المساء- ألا من کان له إلى الله حاجه- و من کان یرید الآخره فلیقبل- فأقبل إلیه ناس کثیر شد بهم على أهل الشام مرارا- لیس من وجه یحمل علیه إلا صبروا له- فقاتل قتالا شدیدا- ثم قال لأصحابه لا یهولنکم ما ترون من صبرهم- فو الله ما ترون منهم إلا حمیه العرب- و صبرها تحت رایاتها- و عند مراکزها- و إنهم لعلى الضلال و إنکم لعلى الحق- یا قوم اصبروا و صابروا و اجتمعوا- و امشوا بنا إلى عدونا على تؤده- رویدا و اذکروا الله و لا یسلمن رجل أخاه- و لا تکثروا الالتفات- و اصمدوا صمدهم و جالدوهم محتسبین- حتى یحکم الله بیننا و بینهم و هو خیر الحاکمین- . قال أبو سلمه- فبینا هو و عصابه من القراء یجالدون أهل الشام- إذ طلع علیهم فتى شاب- و هو یقول
أنا ابن أرباب ملوک غسان
و الدائن الیوم بدین عثمان
أنبأنا قراؤنا بما کان
أن علیا قتل ابن عفان
ثم شد لا ینثنی حتى یضرب بسیفه- ثم جعل یلعن علیا و یشتمه و یسهب فی ذمه- فقال له هاشم بن عتبه- یا هذا إن الکلام بعده الخصام- و إن لعنک سید الأبرار بعده عقاب النار- فاتق الله فإنک راجع إلى ربک- فیسألک عن هذا الموقف و عن هذا المقال- . قال الفتى إذا سألنی ربی قلت- قاتلت أهل العراق- لأن صاحبهم لا یصلی کما ذکر لی- و إنهم لا یصلون و صاحبهم قتل خلیفتنا- و هم آزروه على قتله- فقال له هاشم یا بنی و ما أنت و عثمان- إنما قتله أصحاب محمد- الذین هم أولى بالنظر فی أمور المسلمین- و إن صاحبنا کان أبعد القوم عن دمه- و أما قولک إنه لا یصلی- فهو أول من صلى مع رسول الله- و أول من آمن به- و أما قولک إن أصحابه لا یصلون- فکل من ترى معه قراء الکتاب- لا ینامون اللیل تهجدا- فاتق الله و اخش عقابه- و لا یغررک من نفسک الأشقیاء الضالون- . فقال الفتى یا عبد الله- لقد دخل قلبی وجل من کلامک- و إنی لأظنک صادقا صالحا- و أظننی مخطئا آثما- فهل لی من توبه- قال نعم ارجع إلى ربک و تب إلیه- فإنه یقبل التوبه و یعفو عن السیئات- و یحب التوابین و یحب المتطهرین- فرجع الفتى إلى صفه منکسرا نادما- فقال له قوم من أهل الشام- خدعک العراقی قال لا- و لکن نصحنی العراقی- . قال نصر و فی قتل هاشم و عمار تقول امرأه من أهل الشام-
لا تعدموا قوما أذاقوا ابن یاسر
شعوبا و لم یعطوکم بالخزائم
فنحن قتلنا الیثربی ابن محصن
خطیبکم و ابنی بدیل و هاشم
قال نصر أما الیثربی فهو عمرو بن محصن الأنصاری- و قد رثاه النجاشی شاعر أهل العراق- فقال
لنعم فتى الحیین عمرو بن محصن
إذا صارخ الحی المصبح ثوبا
إذا الخیل جالت بینها قصد القنا
یثرن عجاجا ساطعا متنصبا
لقد فجع الأنصار طرا بسید
أخی ثقه فی الصالحات مجربا
فیا رب خیر قد أفدت و جفنه
ملأت و قرن قد ترکت مسلبا
و یا رب خصم قد رددت بغیظه
فآب ذلیلا بعد أن کان مغضبا
و رایه مجد قد حملت و غزوه
شهدت إذ النکس الجبان تهیبا
حویطا على جل العشیره ماجدا
و ما کنت فی الأنصار نکسا مؤنبا
طویل عماد المجد رحبا فناؤه
خصیبا إذا ما رائد الحی أجدبا
عظیم رماد النار لم یک فاحشا
و لا فشلا یوم النزال مغلبا
و کنت ربیعا ینفع الناس سیبه
و سیفا جرازا باتک الحد مقضبا
فمن یک مسرورا بقتل ابن محصن
فعاش شقیا ثم مات معذبا
و غودر منکبا لفیه و وجهه
یعالج رمحا ذا سنان و ثعلبا
فإن یقتلوا الحر الکریم ابن محصن
فنحن قتلنا ذا الکلاع و حوشبا
و إن یقتلوا ابنی بدیل و هاشما
فنحن ترکنا منکم القرن أعضبا
و نحن ترکنا حمیرا فی صفوفکم
لدى الحرب صرعى کالنخیل مشذبا
و أفلتنا تحت الأسنه مرثد
و کان قدیما فی الفرار مدربا
و نحن ترکنا عند مختلف القنا
أخاکم عبید الله لحما ملحبا
بصفین لما ارفض عنه رجالکم
و وجه ابن عتاب ترکناه ملغبا
و طلحه من بعد الزبیر و لم ندع
لضبه فی الهیجا عریفا و منکبا
و نحن أحطنا بالبعیر و أهله
و نحن سقیناکم سماما مقشبا
قال نصر- و کان ابن محصن من أعلام أصحاب علی ع- قتل فی المعرکه و جزع علی ع لقتله- . قال و فی قتل هاشم بن عتبه- یقول أبو الطفیل عامر بن واثله الکنانی- و هو من الصحابه- و قیل إنه آخر من بقی من صحب رسول الله ص- و شهد مع علی صفین- و کان من مخلصی الشیعه-
یا هاشم الخیر جزیت الجنه
قاتلت فی الله عدو السنه
و التارکی الحق و أهل الظنه
أعظم بما فزت به من منه
صیرنی الدهر کأنی شنه
و سوف تعلو حول قبری رنه
من زوجه و حوبه و کنه
قال نصر و الحوبه القرابه- یقال لی فی بنی فلان حوبه أی قربى- . قال نصر و قال رجل من عذره من أهل الشام-
لقد رأیت أمورا کلها عجب
و ما رأیت کأیام بصفینا
لما غدوا و غدونا کلنا حنق
کما رأیت الجمال الجله الجونا
خیل تجول و أخرى فی أعنتها
و آخرون على غیظ یرامونا
ثم ابتذلنا سیوفا فی جماجمهم
و ما نساقیهم من ذاک یجزونا
کأنها فی أکف القوم لامعه
سلاسل البرق یجدعن العرانینا
ثم انصرفنا کأشلاء مقطعه
و کلهم عند قتلاهم یصلونا
قال نصر و قال رجل لعدی بن حاتم الطائی- و کان من جمله أصحاب علی ع- یا أبا طریف أ لم أسمعک تقول یوم الدار- و الله لا تحبق فیها عناق حولیه- و قد رأیت ما کان فیها- و قد کان فقئت عین عدی- و قتل بنوه- فقال أما و الله لقد حبقت فی قتله العناق و التیس الأعظم- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال بعث علی ع خیلا لیحبسوا عن معاویه مادته- فبعث معاویه الضحاک بن قیس الفهری- فی خیل إلى تلک الخیل- فأزالوهاو جاءت عیون علی ع فأخبروه بما کان- فقال لأصحابه ما ترون فیما هاهنا- فقال بعضهم نرى کذا- و قال بعضهم نرى کذا- فلما زاد الاختلاف قال علی ع اغدوا إلى القتال- فغاداهم إلى القتال- فانهزمت صفوف الشام من بین یدیه ذلک الیوم- حتى فر عتبه بن أبی سفیان عشرین فرسخا عن موضع المعرکه- فقال النجاشی فیه من قصیده أولها-
لقد أمعنت یا عتب الفرارا
و أورثک الوغى خزیا و عارا
فلا یحمد خصاک سوى طمر
إذا أجریته انهمر انهمارا
و قال کعب بن جعیل و هو شاعر أهل الشام بعد رفع المصاحف- یذکر أیام صفین و یحرض معاویه-
معاوی لا تنهض بغیر وثیقه
فإنک بعد الیوم بالذل عارف
ترکتم عبید الله بالقاع مسندا
یمج نجیعا و العروق نوازف
ألا إنما تبکی العیون لفارس
بصفین أجلت خیله و هو واقف
ینوء و تعلوه شآبیب من دم
کما لاح فی جیب القمیص اللفائف
تبدل من أسماء أسیاف وائل
و أی فتى لو أخطأته المتالف
ألا إن شر الناس فی الناس کلهم
بنو أسد إنی بما قلت عارف
و فرت تمیم سعدها و ربابها
و خالفت الجعراء فیمن یخالف
و قد صبرت حول ابن عم محمد
على الموت شهباء المناکب شارف
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم
و حتى أتیحت بالأکف المصاحف
و قد تقدم ذکر هذه الأبیات بزیاده على ما ذکرناه الآن- . قال نصر- و هجا کعب بن جعیل عتبه بن أبی سفیان و عیره بالفرار- و کان کعب من شیعه معاویه- لکنه هجا عتبه تحریضا له- فهجاه عتبه جوابا فقال له-
و سمیت کعبا بشر العظام
و کان أبوک یسمى الجعل
و إن مکانک من وائل
مکان القراد من است الجمل
قال نصر- ثم کانت بین الفریقین الوقعه المعروفه بوقعه الخمیس- حدثنا بها عمر بن سعد عن سلیمان الأعمش- عن إبراهیم النخعی- قال حدثنا القعقاع بن الأبرد الطهوی- قال و الله إنی لواقف قریبا من علی ع- بصفین یوم وقعه الخمیس- و قد التقت مذحج- و کانوا فی میمنه علی ع- و عک لخم و جذام و الأشعریون- و کانوا مستبصرین فی قتال علی ع- فلقد و الله رأیت ذلک الیوم من قتالهم- و سمعت من وقع السیوف على الرءوس- و خبط الخیول بحوافرها فی الأرض و فی القتلى- ما الجبال تهد و لا الصواعق تصعق- بأعظم من هؤلاء فی الصدور من تلک الأصوات- و نظرت إلى علی ع و هو قائم- فدنوت منه فأسمعه یقول لا حول و لا قوه إلا بالله- اللهم إلیک الشکوى و أنت المستعان- ثم نهض حین قام قائم الظهبره و هو یقول- ربنا افتح بیننا و بین قومنا بالحق- و أنت خیر الفاتحین- و حمل على الناس بنفسه- و سیفه مجرد بیده- فلا و الله ما حجز بین الناس ذلک الیوم- إلا الله رب العالمین- فی قریب من ثلث اللیل الأول- و قتلت یومئذ أعلام العرب- و کان فی رأس علی ع ثلاث ضربات- و فی وجهه ضربتان- .
قال نصر و قد قیل إن علیا ع لم یخرج قط- و قتل فی هذا الیوم خزیمه بن ثابت ذو الشهادتین- و قتل من أهل الشام- عبد الله بن ذی الکلاع الحمیری- فقال معقل بن نهیک بن یساف الأنصاری-
یا لهف نفسی و من یشفی حزازتها
إذ أفلت الفاسق الضلیل منطلقا
و أفلت الخیل عمرو و هی شاحبه
تحت العجاج تحث الرکض و العنقا
وافت منیه عبد الله إذ لحقت
قب الخیول به أعجز بمن لحقا
و أنساب مروان فی الظلماء مستترا
تحت الدجى کلما خاف الردى أرقا
و قال مالک الأشتر-
نحن قتلنا حوشبا
لما غدا قد أعلما
و ذا الکلاع قبله
و معبدا إذ أقدما
أن تقتلوا منا أبا
الیقظان شیخا مسلما
فقد قتلنا منکم
سبعین کهلا مجرما
أضحوا بصفین و قد
لاقوا نکالا مؤثما
و قالت ضبیعه بنت خزیمه- بن ثابت ذی الشهادتین ترثی أباها رحمه الله-
عین جودی على خزیمه بالدمع
قتیل الأحزاب یوم الفرات
قتلوا ذا الشهادتین عتوا
أدرک الله منهم بالترات
قتلوه فی فتیه غیر عزل
یسرعون الرکوب فی الدعوات
نصروا السید الموفق ذا العدل
و دانوا بذاک حتى الممات
لعن الله معشرا قتلوه
و رماهم بالخزی و الآفات
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الأعمش- قال کتب معاویه إلى أبی أیوب خالد بن زید الأنصاری- صاحب منزل رسول الله ص- و کان سیدا معظما من سادات الأنصار- و کان من شیعه علی ع کتابا- و کتب إلى زیاد بن سمیه- و کان عاملا لعلی ع على بعض فارس کتابا ثانیا- فأما کتابه إلى أبی أیوب فکان سطرا واحدا- حاجیتک لا تنسى الشیباء أبا عذرها- و لا قاتل بکرها- فلم یدر أبو أیوب ما هو- قال فأتى به علیا ع فقال یا أمیر المؤمنین- إن معاویه کهف المنافقین- کتب إلی بکتاب لا أدری ما هو- قال علی ع فأین الکتاب- فدفعه إلیه فقرأه- و قال نعم هذا مثل ضربه لک- یقول لا تنسى الشیباء أبا عذرها- و الشیباء المرأه البکر لیله افتضاضها- لا تنسى بعلها الذی افترعها أبدا- و لا تنسى قاتل بکرها- و هو أول ولدها- کذلک لا أنسى أنا قتل عثمان- . و أما الکتاب الذی کتبه إلى زیاد- فإنه کان وعیدا و تهددا- فقال زیاد ویلی على معاویه- کهف المنافقین و بقیه الأحزاب- یتهددنی و یتوعدنی و بینی و بینه ابن عم محمد- معه سبعون ألفا- سیوفهم على عواتقهم- یطیعونه فی جمیع ما یأمرهم به- لا یلتفت رجل منهم وراءه حتى یموت- أما و الله لو ظفر ثم خلص إلی- لیجدننی أحمر ضرابا بالسیف- . قال نصر أحمر أی مولى- فلما ادعاه معاویه عاد عربیا منافیا- .قال نصر و روى عمرو بن شمر- أن معاویه کتب فی أسفل کتابه إلى أبی أیوب-
أبلغ لدیک أبا أیوب مألکه
أنا و قومک مثل الذئب و النقد
إما قتلتم أمیر المؤمنین فلا
ترجوا الهواده منا آخر الأبد
إن الذی نلتموه ظالمین له
أبقت حزازته صدعا على کبدی
إنی حلفت یمینا غیر کاذبه
لقد قتلتم إماما غیر ذی أود
لا تحسبوا إننی أنسى مصیبته
و فی البلاد من الأنصار من أحد
قد أبدل الله منکم خیر ذی کلع
و الیحصبیین أهل الخوف و الجند
إن العراق لنا فقع بقرقره
أو شحمه بزها شاو و لم یکد
و الشام ینزلها الأبرار بلدتها
أمن و بیضتها عریسه الأسد
فلما قرئ الکتاب على علی ع- قال لشد ما شحذکم معاویه- یا معشر الأنصار أجیبوا الرجل- فقال أبو أیوب یا أمیر المؤمنین- إنی ما أشاء أن أقول شیئا من الشعر- یعیا به الرجال إلا قلته- فقال فأنت إذا أنت- . فکتب أبو أیوب إلى معاویه- أما بعد فإنک کتبت لا تنسى الشیباء أبا عذرها و لا قاتل بکرها- فضربتها مثلا بقتل عثمان- و ما نحن و قتل عثمان- إن الذی تربص بعثمان و ثبط یزید بن أسد و أهل الشام عن نصرته لأنت- و إن الذین قتلوه لغیر الأنصار- و کتب فی آخر کتابه-
لا توعدنا ابن حرب إننا نفر
لا نبتغی ود ذی البغضاء من أحد
و اسعوا جمیعا بنی الأحزاب کلکم
لسنا نرید رضاکم آخر الأبد
نحن الذین ضربنا الناس کلهم
حتى استقاموا و کانوا عرضه الأود
و العام قصرک منا أن ثبت لنا
ضرب یزیل بین الروح و الجسد
أما علی فأنا لا نفارقه
ما رفرف الآل فی الدویه الجرد
إما تبدلت منا بعد نصرتنا
دین الرسول أناسا ساکنی الجند
لا یعرفون أضل الله سعیهم
إلا اتباعکم یا راعی النقد
فقد بغى الحق هضما شر ذی کلع
و الیحصبیون طرا بیضه البلد
قال فلما أتى معاویه کتاب أبی أیوب کسره- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال حدثنی مجالد عن الشعبی عن زیاد بن النضر الحارثی- قال شهدت مع علی ع صفین- فاقتتلنا مره ثلاثه أیام و ثلاث لیال- حتى تکسرت الرماح و نفدت السهام- ثم صرنا إلى المسایفه فاجتلدنا بها إلى نصف اللیل- حتى صرنا نحن و أهل الشام فی الیوم الثالث- یعانق بعضنا بعضا- و لقد قاتلت لیلتئذ بجمیع السلاح- فلم یبق شیء من السلاح إلا قاتلت به- حتى تحاثینا بالتراب و تکادمنا بالأفواه- حتى صرنا قیاما ینظر بعضنا إلى بعض- ما یستطیع أحد من الفریقین- أن ینهض إلى صاحبه و لا یقاتل- فلما کان نصف اللیل من اللیله الثالثه- انحاز معاویه و خیله من الصف و غلب علی ع على القتلى- فلما أصبح أقبل على أصحابه یدفهم و قد قتل کثیر منهم- و قتل من أصحاب معاویه أکثر- و قتل فیهم تلک اللیله شمر بن أبرهه- . قال نصر و حدثنا عمرو عن جابن عن تمیم- قال و الله إنی لمع علی ع- إذ أتاه علقمه بن زهیر الأنصاری- فقال یا أمیر المؤمنین- إن عمرو بن العاص یرتجز فی الصف بشعر- أ فأسمعکه قال نعم قال إنه یقول-
إذا تخازرت و ما بی من خزر
ثم کسرت العین من غیر عور
ألفیتنی ألوى بعید المستمر
ذا صوله فی المصمئلات الکبر
أحمل ما حملت من خیر و شر
کالحیه الصماء فی أصل الحجر
فقال علی اللهم العنه فإن رسولک لعنه- قال علقمه و إنه یا أمیر المؤمنین یرتجز برجز آخر- فأنشدک قال قل- فقال
أنا الغلام القرشی المؤتمن
الماجد الأبلج لیث کالشطن
ترضى بی الشام إلى أرض عدن
یا قاده الکوفه یا أهل الفتن
أضربکم و لا أرى أبا حسن
کفى بهذا حزنا من الحزن
فضحک علی ع و قال إنه لکاذب و إنه بمکانی لعالم- کما قال العربی غیر الوهی ترقعین و أنت مبصره- ویحکم أرونی مکانه لله أبوکم و خلاکم ذم- و قال محمد بن عمرو بن العاص-
لو شهدت جمل مقامی و مشهدی
بصفین یوما شاب منها الذوائب
غداه غدا أهلی العراق کأنهم
من البحر موج لجه متراکب
و جئناهم نمشی صفوفا کأننا
سحاب خریف صففته الجنائب
فطارت إلینا بالرماح کماتهم
و طرنا إلیهم و السیوف قواضب
فدارت رحانا و استدارت رحاهم
سراه نهار ما تولى المناکب
إذا قلت یوما قد ونوا برزت لنا
کتائب منهم و احجنت کتائب
و قالوا نرى من رأینا أن تبایعوا
علیا فقلنا بل نرى أن نضاربا
فأبنا و قد أردوا سراه رجالنا
و لیس لما لاقوا سوى الله حاسب
فلم أر یوما کان أکثر باکیا
و لا عارضا منهم کمیا یکالب
کأن تلألؤ البیض فینا و فیهم
تلألؤ برق فی تهامه ثاقب
و قال النجاشی یذکر علیا ع و جده فی الأمر-
إنی إخال علیا غیر مرتدع
حتى تقام حقوق الله و الحرم
أ ما ترى النقع معصوبا بلمته
کأنه الصقر فی عرنینه شمم
غضبان یحرق نابیه على حنق
کما یغط الفنیق المصعب القطم
حتى یزیل ابن حرب عن إمارته
کما تنکب تیس الحبله الحلم
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی- قال بلغ النجاشی أن معاویه تهدده- فقال
یا أیها الرجل المبدی عداوته
روئ لنفسک أی الأمر تأتمر
لا تحسبنی کأقوام ملکتهم
طوع الأعنه لما ترشح الغدر
و ما علمت بما أضمرت من حنق
حتى أتتنی به الرکبان و النذر
إذا نفست على الأنجاد مجدهم
فابسط یدیک فإن الخیر مبتدر
و اعلم بأن على الخیر من نفر
شم العرانین لا یعلوهم بشر
لا یجحد الحاسد الغضبان فضلهم
ما دام بالحزن من صمائها حجر
نعم الفتى أنت إلا أن بینکما
کما تفاضل ضوء الشمس و القمر
و لا إخالک إلا لست منتهیا
حتى یمسک من أظفاره ظفر
لا تحمدن امرأ حتى تجربه
و لا تذمن من لم یبله الخبر
إنی امرؤ قلما أثنی على أحد
حتى أرى بعض ما یأتی و ما یذر
و إن طوى معشر عنی عداوتهم
فی الصدر أو کان فی أبصارهم خزر
أجمعت عزما جرامیزی بقافیه
لا یبرح الدهر منها فیهم أثر
قال فلما بلغ معاویه هذا الشعر- قال ما أراه إلا قد قارب- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن محمد بن إسحاق- أن عبد الله بن جعفر بن أبی طالب- کان یحمل على الخیل یوما- فجاءه رجل فقال هل من فرس یا ابن ذی الجناحین- قال تلک الخیل فخذ أیتها شئت- فلما ولی قال ابن جعفر إن تصب أفضل الخیل تقتل- فما عتم أن أخذ أفضل الخیل فرکبه- ثم حمل على فارس قد کان دعاه إلى البراز فقتله الشامی- و حمل غلامان آخران من أهل العراق- حتى انتهیا إلى سرادق معاویه فقتلا عنده- و أقبلت الکتائب بعضها نحو بعض- فاقتتلت قیاما فی الرکب- لا یسمع السامع إلا وقع السیوف على البیض و الدرق- . و قال عمرو بن العاص
أ جئتم إلینا تسفکون دماءنا
و ما رمتم وعر من الأمر أعسر
لعمری لما فیه یکون حجاجنا
إلى الله أدهى لو عقلتم و أنکر
تعاورتم ضربا بکل مهند
إذا شد وردان تقدم قنبر
کتائبکم طورا تشد و تاره
کتائبنا فیها القنا و السنور
إذا ما التقوا یوما تدارک بینهم
طعان و موت فی المعارک أحمر
و قال رجل من کلب مع معاویه- یهجو أهل العراق و یوبخهم-
لقد ضلت معاشر من نزار
إذا انقادوا لمثل أبی تراب
و إنهم و بیعتهم علیا
کواشمه التغضن بالخضاب
تزین من سفاهتها یدیها
و تحسر بالیدین عن النقاب
فإیاکم و داهیه نئودا
تسیر إلیکم تحت العقاب
إذا ساروا سمعت لحافتیهم
دویا مثل تصفیق السحاب
یجیبون الصریخ إذا دعاهم
و قد طعن الفوارس بالحراب
علیهم کل سابغه دلاص
و أبیض صارم مثل الشهاب
و قال أبو حیه بن غزیه الأنصاری- و هو الذی عقر الجمل یوم البصره و اسمه عمرو-
سائل حلیله معبد عن بعلها
و حلیله اللخمی و ابن کلاع
و اسأل عبید الله عن فرساننا
لما ثوى متجدلا بالقاع
و اسأل معاویه المولى هاربا
و الخلیل تمعج و هی جد سراع
ما ذا یخبرک المخبر منهم
عنهم و عنا عند کل وقاع
إن یصدقوک یخبروک بأننا
أهل الندى قدما مجیبو الداعی
إن یصدقوک یخبروک بأننا
نحمی الحقیقه کل یوم مصاع
ندعو إلى التقوى و نرعى أهلها
برعایه المأمون لا المضیاع
و نسن للأعداء کل مثقف
لدن و کل مشطب قطاع
و قال عدی بن حاتم الطائی-
أقول لما أن رأیت المعمعه
و اجتمع الجندان وسط البلقعه
هذا علی و الهدى حقا معه
یا رب فاحفظه و لا تضیعه
فإنه یخشاک رب فارفعه
و من أراد عیبه فضعضعه
أو کاده بالبغی منک فاقمعه
و قال النعمان بن جعلان الأنصاری-
سائل بصفین عنا عند غدوتنا
أم کیف کنا إلى العلیاء نبتدر
و سل غداه لفینا الأزد قاطبه
یوم البصیره لما استجمعت مضر
لو لا الإله و عفو من أبی حسن
عنهم و ما زال منه العفو ینتظر
لما تداعت لهم بالمصر داعیه
إلا الکلاب و إلا الشاء و الحمر
کم مقعص قد ترکناه بمقفره
تعوی السباع علیه و هو منعفر
ما إن یئوب و لا ترجوه أسرته
إلى القیامه حتى ینفخ الصور
قال عمرو بن الحمق الخزاعی-
تقول عرسی لما أن رأت أرقی
ما ذا یهیجک من أصحاب صفینا
أ لست فی عصبه یهدی الإله بهم
لا یظلمون و لا بغیا یریدونا
فقلت إنی على ما کان من رشد
أخشى عواقب أمر سوف یأتینا
إداله القوم فی أمر یراد بنا
فأقنی حیاء و کفى ما تقولینا
و قال حجر بن عدی الکندی-
یا ربنا سلم لنا علیا
سلم لنا المهذب التقیا
المؤمن المسترشد الرضیا
و اجعله هادی أمه مهدیا
و احفظه رب حفظک النبیا
لا خطل الرأی و لا غبیا
فإنه کان لنا ولیا
ثم ارتضیه بعده وصیا
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی- قال قال الأحنف بن قیس فی صفین لأصحابه- هلکت العرب- قالوا له و إن غلبنا یا أبا بحر قال نعم- قالوا و إن غلبنا قال نعم- قالوا و الله ما جعلت لنا مخرجا- فقال الأحنف- إنا إن غلبناهم لم نترک بالشام رئیسا إلا ضربنا عنقه- و إن غلبونا لم یعرج بعدها رئیس عن معصیه الله أبدا- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی- قال ذکر معاویه یوما صفین بعد عام الجماعه- و تسلیم الحسن ع الأمر إلیه- فقال للولید بن عقبه- أی بنی عمک کان أفضل یوم صفین یا ولید- عند وقدان الحرب و استشاطه لظاها- حین قاتلت الرجال على الأحساب-
قال کلهم قد وصل کنفیها عند انتشار وقعتها- حتى ابتلت أثباج الرجال من الجریال- بکل لدن عسال و بکل عضب قصال- فقال عبد الرحمن بن خالد بن الولید- أما و الله لقد رأیتنا یوما من الأیام- و قد غشینا ثعبان فی مثل الطود الأرعن- قد أثار قسطلا حال بیننا و بین الأفق- و هو على أدهم شائل الغره- یعنی علیا ع یضربهم بسیفه ضرب غرائب الإبل- کاشرا عن نابه کشر المخدر الحرب- فقال معاویه نعم إنه کان یقاتل عن تره له و علیه- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی-
قال أرسل علی ع إلى معاویه- أن ابرز إلی و اعف الفریقین من القتال- فأینا قتل صاحبه کان الأمر له- فقال عمرو لقد أنصفک الرجل- فقال معاویه أنا أبارز الشجاع الأخرق- أظنک یا عمرو طمعت فیها- فلما لم یجب قال علی ع- وا نفساه أ یطاع معاویه و أعصى- ما قاتلت أمه قط أهل بیت نبیها- و هی مقره بنبیها غیر هذه الأمه- ثم إن علیا ع أمر الناس أن یحملوا على أهل الشام- فحملوا فنقضوا صفوف الشام- فقال عمرو على من هذا الرهج الساطع- قالوا على ابنیک عبد الله و محمد- فقال عمرو یا وردان قدم لوائی- فأرسل إلیه معاویه- أنه لیس على ابنیک بأس فلا تنقض الصف- و الزم موقفک فقال عمرو هیهات هیهات- .
اللیث یحمی شبلیه
ما خیره بعد ابنیه
ثم تقدم باللواء فأدرکه رسول معاویه- فقال إنه لیس على ابنیک بأس فلا تحملن-فقال قل له إنک لم تلدهما و إنی أنا ولدتهما- و بلغ مقدم الصفوف- فقال له الناس مکانک- إنه لا بأس على ابنیک إنهما فی مکان حریز- فقال أسمعونی أصواتهما حتى أعلم- أ حیان هما أم قتیلان- و نادى یا وردان قدم لواءک قید قوس- فقدم لواءه- فأرسل علی ع إلى أهل الکوفه أن احملوا- و إلى أهل البصره أن احملوا- فحمل الناس من کل جانب- فاقتتلوا قتالا شدیدا- و خرج رجل من أهل الشام- فقال من یبارز فبرز إلیه رجل من أهل العراق- فاقتتلا ساعه- و ضرب العراقی الشامی على رجله فاسقط قدمه- فقاتل و لم یسقط إلى الأرض- فضربه العراقی أخرى- فاسقط یده فرمى الشامی سیفه إلى أهل الشام- و قال دونکم سیفی هذا- فاستعینوا به على قتال عدوکم- فاشتراه معاویه من أولیائه بعشره آلاف درهم- .
قال نصر و حدثنا مالک الجهنی- عن زید بن وهب- أن علیا ع مر على جماعه من أهل الشام بصفین- منهم الولید بن عقبه- و هم یشتمونه و یقصبونه- فأخبر بذلک فوقف على ناس من أصحابه- و قال انهدوا إلیهم- و علیکم السکینه و الوقار و سیما الصالحین- أقرب بقوم من الجهل- قائدهم و مؤدبهم معاویه- و ابن النابغه و أبو الأعور السلمی- و ابن أبی معیط شارب الحرام- و المحدود فی الإسلام و هم أولاء- یقصبوننی و یشتموننی- و قبل الیوم ما قاتلونی و شتمونی- و أنا إذ ذاک ادعوهم إلى الإسلام- و هم یدعوننی إلى عباده الأصنام- فالحمد لله و لا إله إلا الله- لقدیما ما عادانی الفاسقون- إن هذا لهو الخطب الجلل- إن فساقا کانوا عندنا غیر مرضیین- و على الإسلام و أهله متخوفین- أصبحوا و قد خدعوا شطر هذه الأمه- و أشربوا فی قلوبهم حب الفتنه- و استمالوا أهواءهم بالإفک و البهتان- و نصبوا لنا الحرب- و جدوا فی إطفاء نور الله- و الله متم نوره و لو کره الکافرون- اللهم فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم- و شتت کلمتهم و أبلسهم بخطایاهم- فإنه لا یذل من والیت- و لا یعز من عادیت- . قال نصر و کان علی ع- إذا أراد الحمله هلل و کبر- ثم قال
من أی یومی من الموت أفر
أ یوم لم یقدر أو یوم قدر
فجعل معاویه لواءه الأعظم- مع عبد الرحمن بن خالد بن الولید- فأمر علی ع جاریه بن قدامه السعدی أن یلقاه بأصحابه- و أقبل عمرو بن العاص بعده فی خیل و معه لواء ثان- فتقدم حتى خالط صفوف العراق- فقال علی ع لابنه محمد- امش نحو هذا اللواء رویدا- حتى إذا أشرعت الرماح فی صدورهم- فأمسک یدک حتى یأتیک أمری- ففعل و قد کان أعد علی ع مثلهم مع الأشتر- فلما أشرع محمد الرماح فی صدور القوم- أمر علی ع الأشتر أن یحمل فحمل- فأزالهم عن مواقفهم- و أصاب منهم رجالا- و اقتتل الناس قتالا شدیدا- فما صلى من أراد الصلاه إلا إیماء- فقال النجاشی فی ذلک الیوم یذکر الأشتر-
و لما رأینا اللواء العقاب
یقحمه الشانئ الأخزر
کلیث العرین خلال العجاج
و أقبل فی خیله الأبتر
دعونا لها الکبش کبش العراق
و قد أضمر الفشل العسکر
فرد اللواء على عقبه
و فاز بحظوتها الأشتر
کما کان یفعل فی مثلها
إذا ناب معصوصب منکر
فإن یدفع الله عن نفسه
فحظ العراق به الأوفر
إذا الأشتر الخیر خلى العراق
فقد ذهب العرف و المنکر
و تلک العراق و من عرفت
کفقع تضمنه القرقر
قال نصر و حدثنا محمد بن عتبه الکندی- قال حدثنی شیخ من حضرموت شهد مع علی ع صفین- قال کان منا رجل یعرف بهانئ بن فهد- و کان شجاعا فخرج رجل من أهل الشام یدعو إلى البراز- فلم یخرج إلیه أحد- فقال هانئ سبحان الله- ما یمنعکم أن یخرج منکم رجل إلى هذا- فو الله لو لا أنی موعوک- و أنی أجد ضعفا شدیدا لخرجت إلیه- فما رد أحد علیه فقام و شد علیه سلاحه لیخرج- فقال له أصحابه یا سبحان الله- أنت موعوک وعکه شدیده فکیف تخرج- قال و الله لأخرجن و لو قتلنی فخرج- فلما رآه عرفه و إذا الرجل من قومه من حضرموت- یقال له یعمر بن أسد الحضرمی- فقال یا هانئ ارجع- فإنه إن یخرج إلى رجل غیرک أحب إلی- فإنی لا أحب قتلک- قال هانئ سبحان الله- ارجع و قد خرجت لا و الله لأقاتلن الیوم حتى أقتل- و لا أبالی قتلتنی أنت أو غیرک- ثم مشى نحوه-
و قال اللهم فی سبیلک و نصرا لابن عم رسولک- و اختلفا ضربتین فقتله هانئ- و شد أصحاب یعمر بن أسد على هانئ- فشد أصحاب هانئ علیهم- فاقتتلوا و انفرجوا عن اثنین و ثلاثین قتیلا- ثم إن علیا ع أرسل إلى جمیع العسکر أن احملوا- فحمل الناس کلهم على رایاتهم- کل منهم یحمل على من بإزائه- فتجالدوا بالسیوف و عمد الحدید- لا یسمع إلا صوت ضرب الهامات- کوقع المطارق على السنادین- و مرت الصلوات کلها- فلم یصل أحد إلا تکبیرا عند مواقیت الصلاه- حتى تفانوا و رق الناس- و خرج رجل من بین الصفین- لا یعلم من هو- فقال أیها الناس أ خرج فیکم المحلقون- فقیل لا فقال إنهم سیخرجون- ألسنتهم أحلى من العسل- و قلوبهم أمر من الصبر- لهم حمه کحمه الحیات- ثم غاب الرجل فلم یعلم من هو-
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدی- قال اختلط أمر الناس تلک اللیله- و زال أهل الرایات عن مراکزهم- و تفرق أصحاب علی ع عنه- فأتى ربیعه لیلا فکان فیهم- و تعاظم الأمر جدا- و أقبل عدی بن حاتم- یطلب علیا ع فی موضعه الذی ترکه فیه فلم یجده- فطاف یطلبه فأصابه بین رماح ربیعه- فقال یا أمیر المؤمنین أما إذ کنت حیا- فالأمر أمم ما مشیت إلیک إلا على قتیل- و ما أبقت هذه الوقعه لهم عمیدا- فقاتل حتى یفتح الله علیک- فإن فی الناس بقیه بعد- و أقبل الأشعث یلهث جزعا- فلما رأى علیا ع هلل فکبر- و قال یا أمیر المؤمنین- خیل کخیل و رجال کرجال- و لنا الفضل علیهم إلى ساعتنا هذه- فعد إلى مکانک الذی کنت فیه- فإن الناس إنما یظنونک حیث ترکوک- و أرسل سعید بن قیس الهمدانی إلى علی ع- إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم و فینا فضل- فإن أردت أن نمد أحدا أمددناه- فأقبل علی ع على ربیعه- فقال أنتم درعی و رمحی- قال فربیعه تفخر بهذا الکلام إلى الیوم فقال عدی بن حاتم- یا أمیر المؤمنین إن قوما أنست بهم- و کنت فی هذه الجوله فیهم لعظیم حقهم- و الله إنهم لصبر عند الموت أشداء عند القتال- فدعا علی ع بفرس رسول الله ص الذی کان یقال له المرتجز- فرکبه ثم تقدم أمام الصفوف- ثم قال بل البغله بل البغله- فقدمت له بغله رسول الله ص- و کانت الشهباء فرکبها- ثم تعصب بعمامه رسول الله ص و کانت سوداء- ثم نادى أیها الناس من یشر نفسه الله یربح- إن هذا لیوم له ما بعده- إن عدوکم قد مسه القرح کما مسکم- فانتدبوا لنصره دین الله- فانتدب له ما بین عشره آلاف إلى اثنی عشر ألفا- قد وضعوا سیوفهم على عواتقهم- فشد بهم على أهل الشام و هو یقول-
دبوا دبیب النمل لا تفوتوا
و أصبحوا فی حربکم و بیتوا
حتى تنالوا الثأر أو تموتوا
أو لا فإنی طالما عصیت
قد قلتموا لو جئتنا فجیت
لیس لکم ما شئتم و شیت
بل ما یرید المحیی الممیت
و تبعه عدی بن حاتم بلوائه و هو یقول-
أ بعد عمار و بعد هاشم
و ابن بدیل فارس الملاحم
نرجو البقاء ضل حلم الحالم
لقد عضضنا أمس بالأباهم
فالیوم لا نقرع سن نادم
لیس امرؤ من حتفه بسالم
و حمل و حمل الأشتر بعدهما فی أهل العراق کافه- فلم یبق لأهل الشام صف إلا انتقض- و أهمد أهل العراق ما أتوا علیه- حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاویه- و علی ع یضرب الناس بسیفه قدما قدما- و یقول
أضربهم و لا أرى معاویه
الأخزر العین العظیم الحاویه
هوت به النار أم هاویه
فدعا معاویه بفرسه لینجو علیه- فلما وضع رجله فی الرکاب توقف و تلوم قلیلا- ثم أنشد قول عمرو بن الأطنابه-
أبت لی عفتی و أبى بلائی
و أخذ الحمد بالثمن الربیح
و إقدامی على المکروه نفسی
و ضربی هامه البطل المشیح
و قولی کلما جشأت و جاشت
مکانک تحمدی أو تستریحی
لأدفع عن مآثر صالحات
و أحمی بعد عن عرض صحیح
بذی شطب کلون الملح صاف
و نفس ما تقر على القبیح
ثم قال یا عمرو بن العاص الیوم صبر و غدا فخر- قال صدقت إنک و ما أنت فیه- کقول القائل-
ما علتی و أنا جلد نابل
و القوس فیها وتر عنابل
تزل عن صفحتها المعابل
الموت حق و الحیاه باطل
فثنى معاویه رجله من الرکاب- و نزل و استصرخ بعک و الأشعریین- فوقفوا دونه و جالدوا عنه- حتى کره کل من الفریقین صاحبه و تحاجز الناس- .
قال نصر- جاء رجل إلى معاویه بعد انقضاء صفین و خلوص الأمر له- فقال یا أمیر المؤمنین إن لی علیک حقا- قال و ما هو قال حق عظیم- قال ویحک ما هو- قال أ تذکر یوما قدمت فرسک لتفر- و قد غشیک أبو تراب و الأشتر- فلما أردت أن تستوثبه و أنت على ظهره- أمسکت بعنانک و قلت لک أین تذهب- أنه للؤم بک أن تسمح العرب بنفوسها لک شهرین- و لا تسمح لها بنفسک ساعه و أنت ابن ستین- و کم عسى أن تعیش فی الدنیا بعد هذه السن إذا نجوت- فتلومت فی نفسک ساعه- ثم أنشدت شعرا لا أحفظه ثم نزلت- فقال ویحک فإنک لأنت هو- و الله ما أحلنی هذا المحل إلا أنت- و أمر له بثلاثین ألف درهم- .
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن النخعی عن ابن عباس- قال تعرض عمرو بن العاص لعلی ع یوما من أیام صفین- و ظن أنه یطمع منه فی غره فیصیبه- فحمل علیه علی ع- فلما کاد أن یخالطه أذرى نفسه عن فرسه- و رفع ثوبه و شغر برجله فبدت عورته- فصرف ع وجهه عنه و ارتث- و قام معفرا بالتراب هاربا على رجلیه معتصما بصفوفه- فقال أهل العراق یا أمیر المؤمنین- أفلت الرجل فقال أ تدرون من هو قالوا لا- قال فإنه عمرو بن العاص- تلقانی بسوءته فصرفت وجهی عنه- و رجع عمرو إلى معاویه- فقال ما صنعت یا أبا عبد الله- فقال لقینی علی فصرعنی- قال احمد الله و عورتک- و الله إنی لأظنک لو عرفته لما أقحمت علیه- و قال معاویه فی ذلک
ألا لله من هفوات عمرو
یعاتبنی على ترکی برازی
فقد لاقى أبا حسن علیا
فآب الوائلی مآب خازی
فلو لم یبد عورته لطارت
بمهجته قوادم أی بازی
فإن تکن المنیه أخطأته
فقد غنى بها أهل الحجاز
فغضب عمرو- و قال ما أشد تعظیمک علیا أبا تراب فی أمری- هل أنا إلا رجل لقیه ابن عمه فصرعه- أ فترى السماء لذلک دما- قال لا و لکنها معقبه لک خزیا- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال لما اشتد الأمر و عظم على أهل الشام- قال معاویه لأخیه عتبه بن أبی سفیان- الق الأشعث فإنه إن رضی رضیت العامه- و کان عتبه فصیحا- فخرج فنادى الأشعث- فقال الأشعث سلوا من هو المنادی- قالوا عتبه بن أبی سفیان-
قال غلام مترف و لا بد من لقائه- فخرج إلیه فقال ما عندک یا عتبه- فقال أیها الرجل- إن معاویه لو کان لاقیا رجلا غیر علی للقیک- إنک رأس أهل العراق و سید أهل الیمن- و قد سلف من عثمان إلیک ما سلف من الصهر و العمل- و لست کأصحابک- أما الأشتر فقتل عثمان- و أما عدی فحرض علیه- و أما سعید بن قیس فقلد علیا دیته- و أما شریح و زحر بن قیس فلا یعرفان غیر الهوى- و إنک حامیت عن أهل العراق تکرما- و حاربت أهل الشام حمیه- و قد بلغنا منک و بلغت منا ما أردت- و إنا لا ندعوک إلى ترک علی و نصره معاویه- و لکنا ندعوک إلى البقیه التی فیها صلاحک و صلاحنا- فتکلم الأشعث- فقال یا عتبه أما قولک إن معاویه لا یلقى إلا علیا-فلو لقینی و الله لما عظم عنی و لا صغرت عنه- و إن أحب أن أجمع بینه و بین علی فعلت- و أما قولک إنی رأس أهل العراق و سید أهل الیمن- فإن الرأس المتبع و السید المطاع هو علی بن أبی طالب- و أما ما سلف من عثمان إلی- فو الله ما زادنی صهره شرفا و لا عمله عزا- و أما عیبک أصحابی- فإنه لا یقربک منی و لا یباعدنی عنهم- و أما محاماتی عن أهل العراق فمن نزل بیتا حماه- و أما البقیه فلستم بأحوج إلیها منا- و سترى رأینا فیها- . فلما عاد عتبه إلى معاویه- و أبلغه قوله قال له لا تلقه بعدها- فإن الرجل عظیم عند نفسه- و إن کان قد جنح للسلم- و شاع فی أهل العراق ما قاله عتبه للأشعث- و ما رده الأشعث علیه- فقال النجاشی یمدحه-
یا ابن قیس و حارث و یزید
أنت و الله رأس أهل العراق
أنت و الله حیه تنفث السم
قلیل منها غناء الراقی
أنت کالشمس و الرجال نجوم
لا یرى ضوءها مع الإشراق
قد حمیت العراق بالأسل السمر
و بالبیض کالبروق الرقاق
و سعرت القتال فی الشام بالبیض
المواضی و بالرماح الدقاق
لا ترى غیر أذرع و أکف
و رءوس بهامها أفلاق
کلما قلت قد تصرمت الهیجا
سقیتهم بکأس دهاق
قد قضیت الذی علیک من الحق
و سارت به القلاس المناقی
أنت حلو لمن تقرب بالود
و للشانئین مر المذاق
بئسما ظنه ابن هند و من مثلک
فی الناس عند ضیق الخناق
قال نصر فقال معاویه- لما یئس من جهه الأشعث لعمرو بن العاص- إن رأس الناس بعد علی هو عبد الله بن العباس- فلو کتبت إلیه کتابا لعلک ترققه- و لعله لو قال شیئا لم یخرج علی منه- و قد أکلتنا الحرب- و لا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاک أهل الشام- فقال عمرو إن ابن عباس لا یخدع- و لو طمعت فیه لطمعت فی علی- قال معاویه على ذلک فاکتب- فکتب عمرو إلیه- أما بعد- فإن الذی نحن فیه و أنتم لیس بأول أمر قاده البلاء- و أنت رأس هذا الجمع بعد علی- فانظر فیما بقی و دع ما مضى- فو الله ما أبقت هذه الحرب لنا- و لا لکم حیاه و لا صبرا- فاعلم أن الشام لا تهلک إلا بهلاک العراق- و أن العراق لا تهلک إلا بهلاک الشام- فما خیرنا بعد هلاک أعدادنا منکم- و ما خیرکم بعد هلاک أعدادکم منا- و لسنا نقول لیت الحرب عادت- و لکنا نقول لیتها لم تکن- و إن فینا من یکره اللقاء- کما أن فیکم من یکرهه- و إنما هو أمیر مطاع و مأمور مطیع- أو مؤتمن مشاور و هو أنت- فأما الأشتر الغلیظ الطبع القاسی القلب- فلیس بأهل أن یدعى فی الشورى- و لا فی خواص أهل النجوى- و کتب فی أسفل الکتاب-
طال البلاء و ما یرجى له آسی
بعد الإله سوى رفق ابن عباس
قولا له قول من یرجو مودته
لا تنس حظک إن الخاسر الناسی
انظر فدى لک نفسی قبل قاصمه
للظهر لیس لها راق و لا آس
إن العراق و أهل الشام لن یجدوا
طعم الحیاه مع المستغلق القاسی
یا ابن الذی زمزم سقیا الحجیج له
أعظم بذلک من فخر على الناس
إنی أرى الخیر فی سلم الشام لکم
و الله یعلم ما بالسلم من بأس
فیها التقى و أمور لیس یجهلها
إلا الجهول و ما نوکى کأکیاس
فلما وصل الکتاب إلى ابن عباس- عرضه على أمیر المؤمنین ع فضحک- و قال قاتل الله ابن العاص- ما أغراه بک یا عبد الله- أجبه و لیرد إلیه شعره الفضل بن العباس- فإنه شاعر فکتب ابن عباس إلى عمرو- أما بعد- فإنی لا أعلم أحدا من العرب أقل حیاء منک- إنه مال بک معاویه إلى الهوى- فبعته دینک بالثمن الیسیر- ثم خبطت الناس فی عشوه- طمعا فی الدنیا فأعظمتها إعظام أهل الدنیا- ثم تزعم أنک تتنزه عنها تنزه أهل الورع- فإن کنت صادقا فارجع إلى بیتک- و دع الطمع فی مصر و الرکون إلى الدنیا الفانیه- و اعلم أن هذه الحرب ما معاویه فیها کعلی- بدأها علی بالحق- و انتهى فیها إلى العذر- و بدأها معاویه بالبغی و انتهى فیها إلى السرف- و لیس أهل العراق فیها کأهل الشام- بایع أهل العراق علیا و هو خیر منهم- و بایع أهل الشام معاویه و هم خیر منه- و لست أنا و أنت فیها سواء- أردت الله و أردت مصر- و قد عرفت الشیء الذی باعدک منی- و لا أعرف الشیء الذی قربک من معاویه- فإن ترد شرا لا نسبقک به- و إن ترد خیرا لا تسبقنا إلیه و السلام- . ثم دعا أخاه الفضل فقال یا ابن أم أجب عمرا- فقال الفضل
یا عمرو حسبک من مکر و وسواس
فاذهب فلیس لداء الجهل من آس
إلا تواتر طعن فی نحورکم
یشجی النفوس و یشفی نخوه الرأس
أما علی فإن الله فضله
بفضل ذی شرف عال على الناس
إن تعقلوا الحرب نعقلها مخیسه
أو تبعثوها فإنا غیر إنکاس
قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبه
هذا بهذا و ما بالحق من بأس
ثم عرض الشعر و الکتاب على علی ع- فقال لا أراه یجیبک بعدها أبدا بشیء إن کان یعقل- و إن عاد عدت علیه- فلما انتهى الکتاب إلى عمرو بن العاص عرضه على معاویه- فقال إن قلب ابن عباس و قلب علی قلب واحد- و کلاهما ولد عبد المطلب- و إن کان قد خشن فلقد لان- و إن کان قد تعظم أو عظم صاحبه- فلقد قارب و جنح إلى السلم- .
قال نصر و قال معاویه- لأکتبن إلى ابن عباس کتابا أستعرض فیه عقله- و أنظر ما فی نفسه فکتب إلیه- أما بعد فإنکم معشر بنی هاشم- لستم إلى أحد أسرع بالمساءه منکم إلى أنصار ابن عفان- حتى أنکم قتلتم طلحه و الزبیر- لطلبهما دمه و استعظامهما ما نیل منه- فإن کان ذلک منافسه لبنی أمیه فی السلطان- فقد ولیها عدی و تیم فلم تنافسوهم- و أظهرتم لهم الطاعه- و قد وقع من الأمر ما ترى- و أکلت هذه الحروب بعضها بعضا- حتى استوینا فیها- فما یطمعکم فینا یطمعنا فیکم- و ما یؤیسنا منکم یؤیسکم منا- و لقد رجونا غیر ما کان- و خشینا دون ما وقع- و لست ملاقینا الیوم بأحد من حد أمس- و لا غدا بأحد من حد الیوم- و قد قنعنا بما فی أیدینا من ملک الشام- فاقنعوا بما فی أیدیکم من ملک العراق- و أبقوا على قریش- فإنما بقی من رجالها سته- رجلان بالشام و رجلان بالعراق و رجلان بالحجاز- فأما اللذان بالشام فأنا و عمرو- و أما اللذان بالعراق فأنت و علی- و أما اللذان بالحجاز فسعد و ابن عمر- فاثنان من السته ناصبان لک و اثنان واقفان فیک- و أنت رأس هذا الجمع- و لو بایع لک الناس بعد عثمان- کنا إلیک أسرع منا إلى علی- .
فلما وصل الکتاب إلى ابن عباس أسخطه- و قال حتى متى یخطب ابن هند إلى عقلی- و حتى متى أجمجم على ما فی نفسی- و کتب إلیه أما بعد فقد أتانی کتابک و قرأته- فأما ما ذکرت من سرعتنا إلیک- بالمساءه إلى أنصار ابن عفان- و کراهتنا لسلطان بنی أمیه- فلعمری لقد أدرکت فی عثمان حاجتک- حین استنصرک فلم تنصره- حتى صرت إلى ما صرت إلیه- و بینی و بینک فی ذلک ابن عمک و أخو عثمان- و هو الولید بن عقبه- و أما طلحه و الزبیر فإنهما أجلبا علیه و ضیقا خناقه- ثم خرجا ینقضان البیعه و یطلبان الملک- فقاتلناهما على النکث- کما قاتلناک على البغی- و أما قولک إنه لم یبق من قریش غیر سته- فما أکثر رجالها و أحسن بقیتها- و قد قاتلک من خیارها من قاتلک- و لم یخذلنا إلا من خذلک- و أما إغراؤک إیانا بعدی و تیم- فإن أبا بکر و عمر خیر من عثمان- کما أن عثمان خیر منک- و قد بقی لک منا ما ینسیک ما قبله و تخاف ما بعده- و أما قولک لو بایع الناس لی لاستقاموا- فقد بایع الناس علیا و هو خیر منی فلم یستقیموا له- و ما أنت و الخلافه یا معاویه- و إنما أنت طلیق و ابن طلیق- و الخلافه للمهاجرین الأولین- و لیس الطلقاء منها فی شیء و السلام- . فلما وصل الکتاب إلى معاویه قال هذا عملی بنفسی- لا أکتب و الله إلیه کتابا سنه کامله- و قال
دعوت ابن عباس إلى جل حظه
و کان امرأ أهدی إلیه رسائلی
فأخلف ظنی و الحوادث جمه
و ما زاد أن أغلى علیه مراجلی
فقل لابن عباس أراک مخوفا
بجهلک حلمی إننی غیر غافل
فأبرق و أرعد ما استطعت فإننی
إلیک بما یشجیک سبط الأنامل
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال عقد معاویه یوما من أیام صفین- الرئاسه على الیمن من قریش- قصد بذلک إکرامهم و رفع منازلهم- منهم عبید الله بن عمر بن الخطاب- و محمد و عتبه ابنا أبی سفیان- و بسر بن أبی أرطاه- و عبد الرحمن بن خالد بن الولید- و ذلک فی الوقعات الأولى من صفین- فغم ذلک أهل الیمن- و أرادوا ألا یتأمر علیهم أحد إلا منهم- فقام إلیه رجل من کنده- یقال له عبد الله بن الحارث السکونی- فقال أیها الأمیر إنی قد قلت شیئا فاسمعه- و ضعه منی على النصیحه قال هات- فأنشده
معاوی أحییت فینا الإحن
و أحدثت بالشام ما لم یکن
عقدت لبسر و أصحابه
و ما الناس حولک إلا الیمن
فلا تخلطن بنا غیرنا
کما شیب بالماء صفو اللبن
و إلا فدعنا على حالنا
فإنا و إنا إذا لم نهن
ستعلم أن جاش بحر العراق
و أبدى نواجذه فی الفتن
و شد علی بأصحابه
و نفسک إذ ذاک عند الذقن
بأنا شعارک دون الدثار
و أنا الرماح و أنا الجنن
و أنا السیوف و أنا الحتوف
و أنا الدروع و أنا المجن
قال فبکى لها معاویه- و نظر إلى وجوه أهل الیمن- فقال أ عن رضاکم یقول ما قال- قالوا لا مرحبا بما قال- إنما الأمر إلیک فاصنع ما أحببت- فقال معاویه إنما خلطت بکم أهل ثقتی- و من کان لی فهو لکم و من کان لکم فهو لی- فرضی القوم و سکتوا- فلما بلغ أهل الکوفه مقال عبد الله بن الحارث لمعاویه- فیمن عقد له من رءوس أهل الشام- قام الأعور الشنی إلى علی ع- فقال یا أمیر المؤمنین- إنا لا نقول لک کما قال صاحب أهل الشام لمعاویه- و لکن نقول زاد الله فی سرورک و هداک- نظرت بنور الله- فقدمت رجالا و أخرت رجالا- علیک أن تقول و علینا أن نفعل- أنت الإمام- فإن هلکت فهذان من بعدک یعنی حسنا و حسینا ع- و قد قلت شیئا فاسمعه- قال هات فأنشده-
أبا حسن أنت شمس النهار
و هذان فی الحادثات القمر
و أنت و هذان حتى الممات
بمنزله السمع بعد البصر
و أنتم أناس لکم سوره
تقصر عنها أکف البشر
یخبرنا الناس عن فضلکم
و فضلکم الیوم فوق الخبر
عقدت لقوم أولی نجده
من أهل الحیاء و أهل الخطر
مسامیح بالموت عند اللقاء
منا و إخواننا من مضر
و من حی ذی یمن جله
یقیمون فی النائبات الصعر
فکل یسرک فی قومه
و من قال لا فبفیه الحجر
و نحن الفوارس یوم الزبیر
و طلحه إذ قیل أودى غدر
ضربناهم قبل نصف النهار
إلى اللیل حتى قضینا الوطر
و لم یأخذ الضرب إلا الرءوس
و لم یأخذ الطعن إلا الثغر
فنحن أولئک فی أمسنا
و نحن کذلک فیما غبر
قال فلم یبق أحد من الرؤساء- إلا و أهدى إلى الشنی أو أتحفه- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال لما تعاظمت الأمور على معاویه- قبل قتل عبید الله بن عمر بن الخطاب- دعا عمرو بن العاص و بسر بن أبی أرطاه- و عبید الله بن عمر بن الخطاب- و عبد الرحمن بن خالد بن الولید- فقال لهم إنه قد غمنی مقام رجال من أصحاب علی- منهم سعید بن قیس الهمدانی فی قومه- و الأشتر فی قومه- و المرقال و عدی بن حاتم- و قیس بن سعد فی الأنصار- و قد علمتم أن یمانیتکم وقتکم بأنفسها أیاما کثیره- حتى لقد استحییت لکم- و أنتم عدتهم من قریش- و أنا أحب أن یعلم الناس أنکم أهل غناء- و قد عبأت لکل رجل منهم رجلا منکم- فاجعلوا ذلک إلی قالوا ذاک إلیک- قال فأنا أکفیکم غدا سعید بن قیس و قومه- و أنت یا عمرو للمرقال أعور بنی زهره- و أنت یا بسر لقیس بن سعید- و أنت یا عبید الله للأشتر- و أنت یا عبد الرحمن لأعور طیء یعنی عدی بن حاتم- و قد جعلتها نوبا فی خمسه أیام- لکل رجل منکم یوم- فکونوا على أعنه الخیل قالوا نعم- فأصبح معاویه فی غده فلم یدع فارسا إلا حشده- ثم قصد لهمدان بنفسه- و ارتجز فقال
لن تمنع الحرمه بعد العام
بین قتیل و جریح دام
سأملک العراق بالشآم
أنعى ابن عفان مدى الأیام
فطعن فی أعرض الخیل ملیا- ثم إن همدان تنادت بشعارها- و أقحم سعید بن قیس فرسه على معاویه- و اشتد القتال حتى حجز بینهم اللیل- فهمدان تذکر أن سعیدا کاد یقتنصه- إلا أنه فاته رکضا- و قال سعید فی ذلک
یا لهف نفسی فاتنی معاویه
فوق طمر کالعقاب هاویه
و الراقصات لا یعود ثانیه
قال نصر و انصرف معاویه ذلک الیوم و لم یصنع شیئا- و غدا عمرو بن العاص فی الیوم الثانی فی حماه الخیل- فقصد المرقال- و مع المرقال لواء علی ع الأعظم فی حماه الناس- و کان عمرو من فرسان قریش- فارتجز عمرو فقال
لا عیش إن لم ألق یوما هاشما
ذاک الذی جشمنی المجاشما
ذاک الذی یشتم عرضی ظالما
ذاک الذی إن ینج منی سالما
یکن شجى حتى الممات لازما
فطعن فی أعراض الخیل مزبدا و حمل المرقال علیه- و ارتجز فقال
لا عیش إن لم ألق یوما عمرا
ذاک الذی أحدث فینا الغدرا
أو یبدل الله بأمر أمرا
لا تجزعی یا نفس صبرا صبرا
ضربا هذا ذیک و طعنا شزرا
یا لیت ما تجنی یکون القبرا
فطاعن عمرا حتى رجع- و انصرف الفریقان بعد شده القتال- و لم یسر معاویه ذلک- و غدا بسر بن أبی أرطاه- فی الیوم الثالث فی حماه الخیل- فلقی قیس بن سعد بن عباده فی کمأه الأنصار- فاشتدت الحرب بینهما- و برز قیس کأنه فنیق مقرم- و هو یقول
أنا ابن سعد زانه عباده
و الخزرجیون کمأه ساده
لیس فراری فی الوغى بعاده
إن الفرار للفتى قلاده
یا رب أنت لقنی الشهاده
فالقتل خیر من عناق غاده
حتى متى تثنى لی الوساده
و طاعن خیل بسر و برز بسر فارتجز و قال-
أنا ابن أرطاه العظیم القدر
مردد فی غالب و فهر
لیس الفرار من طباع بسر
إن أرجع الیوم بغیر وتر
و قد قضیت فی العدو نذری
یا لیت شعری کم بقی من عمری
و یطعن بسر قیسا و یضربه قیس بالسیف- فرده على عقبیه و رجع القوم جمیعا و لقیس الفضل- و تقدم عبید الله بن عمر بن الخطاب فی الیوم الرابع- لم یترک فارسا مذکورا إلا جمعه- و استکثر ما استطاع- فقال له معاویه- إنک الیوم تلقى أفعى أهل العراق فارفق و اتئد- فلقیه الأشتر أمام الخیل مزبدا- و کان الأشتر إذا أراد القتال أزبد- و هو یقول
یا رب قیض لی سیوف الکفره
و اجعل وفاتی بأکف الفجره
فالقتل خیر من ثیاب الحبره
لا تعدل الدنیا جمیعا وبره
و لا بعوضا فی ثواب البرره
و شد على الخیل خیل الشام فردها- فاستحیا عبید الله و برز أمام الخیل- و کان فارسا شجاعا و قال-
أنعى ابن عفان و أرجو ربی
ذاک الذی یخرجنی من ذنبی
ذاک الذی یکشف عنی کربی
أن ابن عفان عظیم الخطب
یأبى له حبی بکل قلبی
إلا طعانی دونه و ضربی
حسبی الذی أنویه حسبی حسبی
فحمل علیه الأشتر و طعنه و اشتد الأمر- و انصرف القوم و للأشتر الفضل- فغم ذلک معاویه- و غدا عبد الرحمن بن خالد فی الیوم الخامس- و کان رجاء معاویه أن ینال حاجته- فقواه بالخیل و السلاح- و کان معاویه یعده ولدا- فلقیه عدی بن حاتم فی کمأه مذحج و قضاعه- فبرز عبد الرحمن أمام الخیل و قال-
قل لعدی ذهب الوعید
أنا ابن سیف الله لا مزید
و خالد یزینه الولید
ذاک الذی قیل له الوحید
ثم حمل فطعن الناس- فقصده عدی بن حاتم و سدد إلیه الرمح- و قال
أرجو إلهی و أخاف ذنبی
و لست أرجو غیر عفو ربی
یا ابن الولید بغضکم فی قلبی
کالهضب بل فوق قنان الهضب
فلما کاد أن یخالطه بالرمح- توارى عبد الرحمن فی العجاج- و استتر بأسنه أصحابه و اختلط القوم- ثم تحاجزوا و رجع عبد الرحمن مقهورا- و انکسر معاویه- و بلغ أیمن بن خزیم ما لقی معاویه و أصحابه- فشمت بهم و کان ناسکا من أنسک أهل الشام- و کان معتزلا للحرب فی ناحیه عنها- فقال
معاوی إن الأمر لله وحده
و إنک لا تسطیع ضرا و لا نفعا
عبأت رجالا من قریش لعصبه
یمانیه لا تستطیع لها دفعا
فکیف رأیت الأمر إذ جد جده
لقد زادک الأمر الذی جئته جدعا
تعبی لقیس أو عدی بن حاتم
و الأشتر یا للناس أغمارک الجدعا
و تجعل للمرقال عمرا و إنه
للیث لقی من دون غایته ضبعا
و إن سعیدا إذ برزت لرمحه
لفارس همدان الذی یشعب الصدعا
ملی بضرب الدارعین بسیفه
إذا الخیل أبدت من سنابکها نقعا
رجعت فلم تظفر بشیء تریده
سوى فرس أعیت و أبت بها ظلعا
فدعهم فلا و الله لا تستطیعهم
مجاهره فاعمل لقهرهم خدعا
قال و إن معاویه أظهر لعمرو شماته- و جعل یقرعه و یوبخه- و قال لقد أنصفتکم- إذ لقیت سعید بن قیس فی همدان و فررتم- و إنک لجبان یا عمرو- فغضب عمرو- و قال فهلا برزت إلى علی إذ دعاک إن کنت شجاعا کما تزعم- و قال
تسیر إلى ابن ذی یزن سعید
و تترک فی العجاجه من دعاکا
فهل لک فی أبی حسن علی
لعل الله یمکن من قفاکا
دعاک إلى البراز فلم تجبه
و لو نازلته تربت یداکا
و کنت أصم إذ ناداک عنها
و کان سکوته عنها مناکا
فآب الکبش قد طحنت رحاه
بنجدته و ما طحنت رحاکا
فما أنصفت صحبک یا ابن هند
أ تفرقه و تغضب من کفاکا
فلا و الله ما أضمرت خیرا
و لا أظهرت لی إلا هواکا
قال و إن القرشیین استحیوا ما صنعوا- و شمت بهم الیمانیه من أهل الشام- فقال معاویه یا معشر قریش- و الله لقد قربکم لقاء القوم إلى الفتح- و لکن لا مرد لأمر الله و مم تستحیون- إنما لقیتم کباش العراق- فقتلتم منهم و قتلوا منکم- و ما لکم علی من حجه- لقد عبأت نفسی لسیدهم و شجاعهم سعید بن قیس- فانقطعوا عن معاویه أیاما- فقال معاویه فی ذلک-
لعمری لقد أنصفت و النصف عادتی
و عاین طعنا فی العجاج المعاین
و لو لا رجائی أن تئوبوا بنهزه
و أن تغسلوا عارا وعته الکنائن
لنادیت للهیجا رجالا سواکم
و لکنما تحمى الملوک البطائن
أ تدرون من لاقیتم فل جیشکم
لقیتم لیوثا أصحرتها العرائن
لقیتم صنادید العراق و من بهم
إذا جاشت الهیجاء تحمى الظعائن
و ما کان منکم فارس دون فارس
و لکنه ما قدر الله کائن
فلما سمع القوم ما قاله معاویه أتوه فاعتذروا إلیه- و استقاموا إلیه على ما یحب- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال لما اشتد القتال و عظم الخطب- أرسل معاویه إلى عمرو بن العاص- إن قدم عکا و الأشعریین إلى من بإزائهم- فبعث عمرو إلیه أن بإزاء عک همدان- فبعث إلیه معاویه أن قدم عکا- فأتاهم عمرو فقال یا معشر عک- إن علیا قد عرف أنکم حی أهل الشام- فعبأ لکم حی أهل العراق همدان-فاصبروا و هبوا إلی جماجمکم ساعه من النهار- فقد بلغ الحق مقطعه- فقال ابن مسروق العکی أمهلنی حتى آتی معاویه- فأتاه فقال یا معاویه- اجعل لنا فریضه ألفی رجل فی ألفین ألفین- و من هلک فابن عمه مکانه لنقر الیوم عینک- فقال لک ذلک فرجع ابن مسروق إلى أصحابه- فأخبرهم الخبر- فقالت عک نحن لهمدان- ثم تقدمت عک و نادى سعید بن قیس- یا همدان إن تقدموا- فشدت همدان على عک رجاله- فأخذت السیوف أرجل عک- فنادى ابن مسروقیا لعک برکا کبرک الکمل- فبرکوا تحت الحجف- فشجرتهم همدان بالرماح- و تقدم شیخ من همدان و هو یقول-
یا لبکیل لخمها و حاشد
نفسی فداکم طاعنوا و جالدوا
حتى تخر منکم القماحد
و أرجل یتبعها سواعد
بذاک أوصى جدکم و الوالد
و قام رجل من عک- فارتجز فقال
تدعون همدان و ندعو عکا
بکوا الرجال یا لعک بکا
إن خدم القوم فبرکا برکا
لا تدخلوا الیوم علیکم شکا
قد محک القوم فزیدوا محکا
قال فالتقى القوم جمیعا بالرماح- و صاروا إلى السیوف و تجالدوا حتى أدرکهم اللیل- فقالت همدان یا معشر عک- نحن نقسم بالله أننا لا ننصرف حتى تنصرفوا- و قالت عک مثل ذلک- فأرسل معاویه إلى عک- أن أبروا قسم إخوتکم و هلموا- فانصرفت عک فلما انصرفت انصرفت همدان- فقال عمرو یا معاویه- و الله لقد لقیت أسد أسدا- لم أر و الله کهذا الیوم قط لو أن معک حیا کعک- أو مع علی حی کهمدان لکان الفناء- و قال عمرو فی ذلک-
إن عکا و حاشدا و بکیلا
کأسود الضراء لاقت أسودا
و جثا القوم بالقنا و تساقوا
بظباه السیوف موتا عتیدا
ازورار المناکب الغلب بالشم
و ضرب المسومین الخدودا
لیس یدرون ما الفرار و لو کان
فرارا لکان ذاک سدیدا
یعلم الله ما رأیت من القوم
ازورارا و لا رأیت صدودا
غیر ضرب فوق الطلى و على الهام
و قرع الحدید یعلو الحدیدا
و لقد قال قائل خدموا السوق
فخرت هناک عک قعودا
کبروک الجمال أثقلها الحمل
فما تستقل إلا وئیدا
قال و لما اشترطت علک و الأشعریون على معاویه- ما اشترطوا من الفریضه و العطاء فأعطاهم- لم یبق من أهل العراق أحد- فی قلبه مرض إلا طمع فی معاویه- و شخص ببصره إلیه- حتى فشا ذلک فی الناس- و بلغ علیا ع فساءه- .
قال نصر و جاء عدی بن حاتم یلتمس علیا ع- ما یطأ إلا على قتیل أو قدم أو ساعد- فوجده تحت رایات بکر بن وائل- فقال یا أمیر المؤمنین أ لا تقوم حتى نقاتل إلى أن نموت- فقال له علی ع- ادن فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه- فقال ویحک إن عامه من معی الیوم یعصینی- و إن معاویه فیمن یطیعه و لا یعصیه- قال نصر و جاء المنذر بن أبی حمیصه الوادعی- و کان شاعر همدان و فارسها علیا ع- فقال یا أمیر المؤمنین- إن عکا و الأشعریین طلبوا- إلى معاویه الفرائض و العطاء فأعطاهم- فباعوا الدین بالدنیا- و إنا قد رضینا بالآخره من الدنیا- و بالعراق من الشام و بک من معاویه- و الله لآخرتنا خیر من دنیاهم- و لعراقنا خیر من شامهم- و لإمامنا أهدى من إمامهم- فاستفتحنا بالحرب و ثق منا بالنصر- و احملنا على الموت- و أنشده
إن عکا سألوا الفرائض و الأشعر
سألوا جوائزا بثنیه
ترکوا الدین للعطاء و للفرض
فکانوا بذاک شر البریه
و سألنا حسن الثواب من الله
و صبرا على الجهاد و نیه
فلکل ما سأله و نواه
کلنا یحسب الخلاف خطیه
و لأهل العراق أحسن فی الحرب
إذا ما تدانت السمهریه
و لأهل العراق أحمل للثقل
إذا عمت البلاد بلیه
لیس منا من لم یکن فی الله
ولیا یا ذا الولاء و الوصیه
فقال علی ع حسبک الله یرحمک الله- و أثنى علیه و على قومه خیرا- و انتهى شعره إلى معاویه- فقال و الله لأستمیلن بالدنیا ثقات علی- و لأقسمن فیهم الأموال حتى تغلب دنیای آخرته- . قال نصر فلما أصبح الناس غدوا على مصافهم- و أصبح معاویه یدور فی أحیاء الیمن- و قال عبوا إلى کل فارس مذکور فیکم- أتقوى به على هذا الحی من همدان-فخرجت خیل عظیمه- فلما رآها علی ع و عرف أنها عیون الرجال- فنادى یا لهمدان فأجابه سعید بن قیس- فقال له علی ع احمل- فحمل حتى خالط الخیل بالخیل و اشتد القتال- و حطمتهم همدان حتى ألحقتهم بمعاویه- فقال معاویه ما لقیت من همدان- و جزع جزعا شدیدا- و أسرع القتل فی فرسان الشام- و جمع علی ع همدان- فقال لهم یا معشر همدان- أنتم درعی و رمحی و مجنی- یا همدان ما نصرتم إلا الله و لا أجبتم غیره- فقال سعید بن قیس- أجبنا الله و أجبناک- و نصرنا رسول الله فی قبره- و قاتلنا معک من لیس مثلک فارمنا حیث شئت- .قال نصر و فی هذا الیوم قال علی عو لو کنت بوابا على باب جنهلقلت لهمدان ادخلی بسلام- فقال علی ع لصاحب لواء همدان- اکفنی أهل حمص- فإنی لم ألق من أحد ما لقیت منهم
– فتقدم و تقدمت همدان- و شدوا شده واحده على أهل حمص فضربوهم ضربا شدیدا متدارکا- بالسیوف و عمد الحدید- حتى ألجئوهم إلى قبه معاویه- و ارتجز من همدان رجل عداده فی أرحب فقال-
قد قتل الله رجال حمص
غروا بقول کذب و خرص
حرصا على المال و أی حرص
قد نکص القوم و أی نکص
عن طاعه الله و فحوى النص
قال نصر فحدثنا عمر بن سعد- قال لما ردت خیول معاویه أسف- فجرد سیفه و حمل فی کماه أصحابه- فحملت علیه فوارس همدان- ففاز منها رکضا و انکسرت کماته- و رجعت همدان إلى مراکزها- فقال حجر بن قحطان الهمدانی- یخاطب سعید بن قیس-
ألا ابن قیس قرت العین إذا رأت
فوارس همدان بن زید بن مالک
على عارفات للقاء عوابس
طوال الهوادی مشرفات الحوارک
معوده للطعن فی ثغراتها
یجلن فیحطمن الحصى بالسنابک
عباها علی لابن هند و خیله
فلو لم یفتها کان أول هالک
و کانت له فی یومه عند ظنه
و فی کل یوم کاسف الشمس حالک
و کانت بحمد الله فی کل کربه
حصونا و عزا للرجال الصعالک
فقل لأمیر المؤمنین أن ادعنا
متى شئت إنا عرضه للمهالک
و نحن حطمنا السمر فی حی حمیر
و کنده و الحی الخفاف السکاسک
و عک و لخم شائلین سیاطهم
حذار العوالی کالإماء العوارک
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن رجاله- أن معاویه دعا یوما بصفین مروان بن الحکم- فقال له إن الأشتر قد غمنی و أقلقنی- فاخرج بهذه الخیل فی یحصب و الکلاعیین- فالقه فقال مروان ادعا لهما عمرا- فإنه شعارک دون دثارک- قال فأنت نفسی دون وریدی- قال لو کنت کذلک ألحقتنی به فی العطاء- و ألحقته بی فی الحرمان- و لکنک أعطیته ما فی یدک و منیته ما فی ید غیرک- فإن غلبت طاب له المقام- و إن غلبت خف علیه الهرب- فقال معاویه سیغنی الله عنک- قال أما إلى الیوم فلم یغن- فدعا معاویه عمرا فأمره بالخروج إلى الأشتر- فقال أما إنی لا أقول لک ما قال مروان- قال و کیف نقوله و قد قدمتک و أخرته- و أدخلتک و أخرجته- قال أما و الله إن کنت فعلت- لقد قدمتنی کافیا و أدخلتنی ناصحا- و قد أکثر القوم علیک فی أمر مصر- و إن کان لا یرضیهم إلا رجوعک- فیما وثقت لی به منها فارجع فیه- ثم قام فخرج فی تلک الخیل- فلقیه الأشتر أمام القوم و قد علم أنه سیلقاه- و هو یرتجز و یقول
یا لیت شعری کیف لی بعمرو
ذاک الذی أوجبت فیه نذری
ذاک الذی أطلبه بوتری
ذاک الذی فیه شفاء صدری
من بائعی یوما بکل عمری
یعلی به عند اللقاء قدری
أجعله فیه طعام النسر
أو لا فربی عاذری بعذری
فلما سمع عمرو هذا الرجز فشل و جبن- و استحیا أن یرجع و أقبل نحو الصوت- و قال
یا لیت شعری کیف لی بمالک
کم کاهل جببته و حارک
و فارس قتلته و فاتک
و مقدم آب بوجه حالک
ما زلت دهری عرضه المهالک
فغشیه الأشتر بالرمح- فراغ عمرو عنه فلم یصنع الرمح شیئا- و لوى عمرو عنان فرسه- و جعل یده على وجهه- و جعل یرجع راکضا نحو عسکره- فنادى غلام من یحصب- یا عمرو علیک العفاء ما هبت الصبا- یا آل حمیر إنا لکم ما کان معکم هاتوا اللواء- فأخذه و تقدم و کان غلاما حدثا- فقال
إن یک عمرو قد علاه الأشتر
بأسمر فیه سنان أزهر
فذاک و الله لعمری مفخر
یا عمرو تکفیک الطعان حمیر
و الیحصبی بالطعان أمهر
دون اللواء الیوم موت أحمر
فنادى الأشتر ابنه إبراهیم- خذ اللواء فغلام لغلام- و تقدم فأخذ إبراهیم اللواء- و قال
یا أیها السائل عنی لا ترع
أقدم فإنی من عرانین النخع
کیف ترى طعن العراقی الجذع
أطیر فی یوم الوغى و لا أفع
ما ساءکم سر و ما ضر نفع
أعددت ذا الیوم لهول المطلع
و یحمل على الحمیری فالتقاه الحمیری بلوائه و رمحه- فلم یبرحا یطعن کل واحد منهما صاحبه- حتى سقط الحمیری قتیلا- و شمت مروان بعمرو- و غضب القحطانیون على معاویه- و قالوا تولى علینا من لا یقاتل معنا- ول رجلا منا و إلا فلا حاجه لنا فیک- و قال شاعرهم
معاوی إما تدعنا لعظیمه
یلبس من نکرائها الغرض بالحقب
فول علینا من یحوط ذمارنا
من الحمیریین الملوک على العرب
و لا تأمرنا بالتی لا نریدها
و لا تجعلنا بالهوى موضع الذنب
و لا تغضبنا و الحوادث جمه
علیک فیفشو الیوم فی یحصب الغضب
فإن لنا حقا عظیما و طاعه
و حبا دخیلا فی المشاش و فی العصب
فقال لهم معاویه- و الله لا أولى علیکم بعد هذا الیوم إلا رجلا منکم-قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال لما أسرع أهل العراق فی أهل الشام- قال لهم معاویه هذا یوم تمحیص- و إن لهذا الیوم ما بعده- و قد أسرعتم فی القوم کما أسرعوا فیکم- فاصبروا و موتوا کراما- و حرض علی ع أصحابه- فقام إلیه الأصبغ بن نباته- و قال یا أمیر المؤمنین- قدمنی فی البقیه من الناس- فإنک لا تفقد لی الیوم صبرا و لا نصرا- أما أهل الشام فقد أصبنا- و أما نحن ففینا بعض البقیه ائذن لی فأتقدم- فقال له تقدم على اسم الله و البرکه- فتقدم و أخذ الرایه و مضى بها و هو یقول-
إن الرجاء بالقنوط یدمغ
حتى متى یرجو البقاء الأصبغ
أ ما ترى أحداث دهر تنبغ
فادبغ هواک و الأدیم یدبغ
و الرفق فیما قد ترید أبلغ
الیوم شغل و غدا لا تفرغ
فما رجع إلى علی ع حتى خضب سیفه دما و رمحه- و کان شیخا ناسکا عابدا- و کان إذا لقی القوم بعضهم بعضا یغمد سیفه- و کان من ذخائر علی ع ممن قد بایعه على الموت- و کان علی ع یضن به عن الحرب و القتال- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر- قال نادى الأشتر یوما أصحابه- فقال أ ما من رجل یشری نفسه لله- فخرج أثال بن حجل بن عامر المذحجی- فنادى بین العسکرین هل من مبارز- فدعا معاویه و هو لا یعرفه- أباه حجل بن عامر المذحجی- فقال دونک الرجل- قال و کان مستبصرین فی رأیهما- فبرز کل واحد منهما إلى صاحبه- فبدره بطعنه و طعنه الغلام- و انتسبا فإذا هو ابنه- فنزلا فاعتنق کلواحد منهما صاحبه و بکیا- فقال له الأب یا بنی هلم إلى الدنیا- فقال له الغلام یا أبی هلم إلى الآخره- ثم قال یا أبت- و الله لو کان من رأیی الانصراف إلى أهل الشام- لوجب علیک أن یکون من رأیک لی أن تنهانی وا سوأتاه- فما ذا أقول لعلی و للمؤمنین الصالحین- کن على ما أنت علیه- و أنا على ما أنا علیه- فانصرف حجل إلى صف الشام- و انصرف ابنه أثال إلى أهل العراق- فخبر کل واحد منهما أصحابه- و قال فی ذلک حجل-
إن حجل بن عامر و أثالا
أصبحا یضربان فی الأمثال
أقبل الفارس المدجج فی النقع
أثال یدعو یرید نزالی
دون أهل العراق یخطر کالفحل
على ظهر هیکل ذیال
فدعانی له ابن هند و ما زال
قلیلا فی صحبه أمثالی
فتناولته ببادره الرمح
و أهوى بأسمر عسال
فأطعنا و ذاک من حدث الدهر
عظیم فتى لشیخ بجال
شاجرا بالقناه صدر أبیه
و عزیز علی طعن أثال
لا أبالی حین اعترضت أثالا
و أثال کذاک لیس یبالی
فافترقنا على السلامه و النفس
یقیها مؤخر الآجال
لا یرانی على الهدى و أراه
من هدای على سبیل ضلال
فلما انتهى شعره إلى أهل العراق- قال أثال ابنه مجیبا له-
إن طعنی وسط العجاجه حجلا
لم یکن فی الذی نویت عقوقا
کنت أرجو به الثواب من الله
و کونی مع النبی رفیقا
لم أزل أنصر العراق على الشام
أرانی بفعل ذاک حقیقا
قال أهل العراق إذ عظم الخطب
و نق المبارزون نقیقا
من فتى یسلک الطریق إلى الله
فکنت الذی سلکت الطریقا
حاسر الرأس لا أرید سوى الموت
أرى الأعظم الجلیل دقیقا
فإذا فارس تقحم فی الروع
خدبا مثل السحوق عتیقا
فبدانی حجل ببادره الطعن
و ما کنت قبلها مسبوقا
فتلقیته بعالیه الرمح
کلانا یطاول العیوقا
أحمد الله ذا الجلاله و القدره
حمدا یزیدنی توفیقا
إذ کففت السنان عنه و لم أدن
قتیلا منه و لا ثغروقا
قلت للشیخ لست أکفر نعماک
لطیف الغذاء و التفنیقا
غیر أنی أخاف أن تدخل النار
فلا تعصنی و کن لی رفیقا
و کذا قال لی فغرب تغریبا
و شرقت راجعا تشریقا
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر بالإسناد المذکور- أن معاویه دعا النعمان بن بشیر بن سعد الأنصاری- و مسلمه بن مخلد الأنصاری- و لم یکن معه من الأنصار غیرهما- فقال یا هذان- لقد غمنی ما لقیت من الأوس و الخزرج- واضعی سیوفهم على عواتقهم یدعون إلى النزال- حتى لقد جبنوا أصحابی الشجاع منهم و الجبان- و حتى و الله ما أسأل عنفارس من أهل الشام- إلا قیل قتله الأنصار- أما و الله لألقینهم بحدی و حدیدی- و لأعبین لکل فارس منهم فارسا ینشب فی حلقه- و لأرمینهم بأعدادهم من قریش- رجال لم یغذهم التمر و الطفیشل- یقولون نحن الأنصار- قد و الله آووا و نصروا- و لکن أفسدوا حقهم بباطلهم- فغضب النعمان- و قال یا معاویه لا تلومن الأنصار- فی حب الحرب و السرعه نحوها- فإنهم کذلک کانوا فی الجاهلیه- و أما دعاؤهم إلى النزال- فقد رأیتهم مع رسول الله ص یفعلون ذلک کثیرا- و أما لقاؤک إیاهم فی أعدادهم من قریش- فقد علمت ما لقیت قریش منهم قدیما- فإن أحببت أن ترى فیهم مثل ذلک آنفا فافعل- و أما التمر و الطفیشل فإن التمر کان لنا- فلما ذقتموه شارکتمونا فیه- و أما الطفیشل فکان للیهود- فلما أکلناه غلبناهم علیه- کما غلبت قریش على السخینه- .
ثم تکلم مسلمه بن مخلد- فقال یا معاویه- إن الأنصار لا تعاب أحسابها و لا نجداتها- و أما غمهم إیاک فقد و الله غمونا- و لو رضینا ما فارقونا و لا فارقنا جماعتهم- و إن فی ذلک ما فیه من مباینه العشیره- و لکنا حملنا ذلک لک- و رجونا منک عوضه- و أما التمر و الطفیشل- فإنهما یجران علیک السخینه و الخرنوب- . قال و انتهى هذا الکلام إلى الأنصار- فجمع قیس بن سعد الأنصار- ثم قام فیهم خطیبا- فقال إن معاویه قال ما بلغکم- و أجابه عنکم صاحباکم- و لعمری إن غظتم معاویه الیوم- لقد غظتموه أمس- و إن وترتموه فی الإسلام فلقد وترتموه فی الشرک- و ما لکم إلیه من ذنب أعظم من نصر هذا الدین- فجدوا الیوم جدا تنسونه به ما کان أمس- و جدوا غدا جدا تنسونه به ما کان الیوم- فأنتم مع هذا اللواء الذی کان یقاتل عن یمینه جبریل- و عن یساره میکائیل- و القوم مع لواء أبی جهل و الأحزاب- فأما التمر فإنا لم نغرسه- و لکن غلبنا علیه من غرسه- و أما الطفیشل فلو کان طعامنا لسمینا به- کما سمیت قریش بسخینه- ثم قال سعد فی ذلک-
یا ابن هند دع التوثب فی الحرب
إذا نحن بالجیاد سرینا
نحن من قد علمت فادن إذا شئت
بمن شئت فی العجاج إلینا
إن تشأ فارس له فارس منا
و إن شئت باللفیف التقینا
أی هذین ما أردت فخذه
لیس منا و لیس منک الهوینى
ثم لا نسلخ العجاجه حتى
تنجلی حربنا لنا أو علینا
لیت ما تطلب الغداه أتانا
أنعم الله بالشهاده عینا
فلما أتى شعره و کلامه معاویه- دعا عمرو بن العاص- فقال ما ترى فی شتم الأنصار- قال أرى أن توعدهم و لا تشتمهم- ما عسى أن تقول لهم إذا أردت ذمهم- فذم أبدانهم و لا تذم أحسابهم- فقال إن قیس بن سعد یقوم کل یوم خطیبا- و أظنه و الله یفنینا غدا إن لم یحبسه عنا حابس الفیل- فما الرأی قال الصبر و التوکل- و أرسل إلى رءوس الأنصار مع علی- فعاتبهم و أمرهم أن یعاتبوه- فأرسل معاویه إلى أبی مسعود و البراء بن عازب- و خزیمه بن ثابت- و الحجاج بن غزیه و أبی أیوب- فعاتبهم فمشوا إلى قیس بن سعد- و قالوا له إن معاویه لا یحب الشتم- فکف عن شتمه- فقال إن مثلی لا یشتم- و لکنی لا أکف عن حربه حتى ألقى الله- قال و تحرکت الخیل غدوه- فظن قیس أن فیها معاویه- فحمل على رجل یشبهه- فضربه بالسیف فإذا هو لیس به- ثم حمل على آخر یشبهه أیضا فقنعه بالسیف- .
فلما تحاجز الفریقان- شتمه معاویه شتما قبیحا- و شتم الأنصار فغضب النعمان و مسلمه- فأرضاهما بعد أن هما أن ینصرفا إلى قومهما- . ثم إن معاویه سأل النعمان أن یخرج إلى قیس- فیعاتبه و یسأله السلم- فخرج النعمان فوقف بین الصفین- و نادى یا قیس بن سعد أنا النعمان بن بشیر- فخرج إلیه و قال هیه یا نعمان ما حاجتک- قال یا قیس- إنه قد أنصفکم من دعاکم إلى ما رضی لنفسه- یا معشر الأنصار- إنکم أخطأتم فی خذل عثمان یوم الدار- و قتلتم أنصاره یوم الجمل- و أقحمتم خیولکم على أهل الشام بصفین- فلو کنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم علیا- لکانت واحده بواحده- و لکنکم لم ترضوا أن تکونوا کالناس- حتى أعلمتم فی الحرب- و دعوتم إلى البراز- ثم لم ینزل بعلی حطب قط إلا هونتم علیه المصیبه- و وعدتموه الظفر- و قد أخذت الحرب منا و منکم ما قد رأیتم- فاتقوا الله فی البقیه- . فضحک قیس- و قال ما کنت أظنک یا نعمان محتویا على هذه المقاله- إنه لا ینصح أخاه من غش نفسه- و أنت الغاش الضال المضل- أما ذکرک عثمان- فإن کانت الأخبار تکفیک فخذ منی واحده- قتل عثمان من لست خیرا منه- و خذله من هو خیر منک- و أما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النکث- و أما معاویه- فو الله لو اجتمعت علیه العرب قاطبه لقاتلته الأنصار- و أما قولک إنا لسنا کالناس- فنحن فی هذه الحرب کما کنا مع رسول الله- نتقی السیوف بوجوهنا- و الرماح بنحورنا- حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم کارهون- و لکن انظر یا نعمان- هل ترى مع معاویه إلا طلیقا- أو أعرابیا أو یمانیا مستدرجا بغرور- انظر أین المهاجرون و الأنصار- و التابعون لهم بإحسان- الذین رضی الله عنهم و رضوا عنه- ثم انظر هل ترى مع معاویه أنصاریا- غیرک و غیر صویحبک- و لستما و الله ببدریین و لا عقبیین و لا أحدیین- و لا لکما سابقه فی الإسلام- و لا آیه فی القرآن- و لعمری لئن شغبت علینا لقد شغب علینا أبوک- .
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن مالک بن أعین عن زید بن وهب- قال کان فارس أهل الشام الذی لا ینازع- عوف بن مجزأه المرادی المکنى أبا أحمر- و کان فارس أهل الکوفه العکبر بن جدیر الأسدی- فقام العکبر إلى علی ع- و کان منطیقا فقال یا أمیر المؤمنین- إن فی أیدینا عهدا من الله لا نحتاج فیه إلى الناس- قد ظننا بأهل الشام الصبر و ظنوا بنا- فصبرنا و صبروا- و قد عجبت من صبر أهل الدنیا لأهل الآخره- و صبر أهل الحق على أهل الباطل و رغبه أهل الدنیا- ثم قرأت آیه من کتاب الله فعلمت أنهم مفتونون- الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ یُتْرَکُوا- أَنْ یَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا یُفْتَنُونَ- وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ- فَلَیَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِینَ صَدَقُوا- وَ لَیَعْلَمَنَّ الْکاذِبِینَ- فقال له ع خیرا- و خرج الناس إلى مصافهم- و خرج عوف بن مجزأه المرادی نادرا من الناس- و کذا کان یصنع- و قد کان قتل نفرا من أهل العراق مبارزه- فنادى یا أهل العراق- هل من رجل عصاه سیفه یبارزنی- و لا أغرکم من نفسی أنا عوف بن مجزأه- فنادى الناس بالعکبر- فخرج إلیه منقطعا عن أصحابه لیبارزه فقال عوف-
بالشام أمن لیس فیه خوف
بالشام عدل لیس فیه حیف
بالشام جود لیس فیه سوف
أنا ابن مجزاه و اسمی عوف
هل من عراقی عصاه سیف
یبرز لی و کیف لی و کیف
فقال له العکبر-
الشام محل و العراق ممطر
بها إمام طاهر مطهر
و الشام فیها أعور و معور
أنا العراقی و اسمی عکبر
ابن جدیر و أبوه المنذر
ادن فإنی فی البراز قسور
فاطعنا فصرعه العکبر و قتله- و معاویه على التل فی وجوه قریش- و نفر قلیل من الناس- فوجه العکبر فرسه- یملأ فروجه رکضا- و یضربه بالسوط مسرعا نحو التل- فنظر معاویه إلیه فقال- هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن- فاسألوه فأتاه رجل و هو فی حمو فرسه- فناداه فلم یجبه و مضى مبادرا- حتى انتهى إلى معاویه- فجعل یطعن فی أعراض الخیل و رجا- أن ینفرد بمعاویه فیقتله- فاستقبله رجال قتل منهم قوما- و حال الباقون بینه و بین معاویه بسیوفهم و رماحهم- فلما لم یصل إلیه قال- أولى لک یا ابن هند أنا الغلام الأسدی- و رجع إلى صف العراق و لم یکلم- فقال له علی ع- ما دعاک إلى ما صنعت- لا تلق نفسک إلى التهلکه- قال یا أمیر المؤمنین- أردت غره ابن هند فحیل بینی و بینه- و کان العکبر شاعرا فقال-
قتلت المرادی الذی کان باغیا
ینادی و قد ثار العجاج نزال
یقول أنا عوف بن مجزاه و المنى
لقاء ابن مجزاه بیوم قتال
فقلت له لما علا القوم صوته
منیت بمشبوح الیدین طوال
فأوجرته فی ملتقى الحرب صعده
ملأت بها رعبا صدور رجال
فغادرته یکبو صریعا لوجهه
ینوء مرارا فی مکر مجال
و قدمت مهری راکضا نحو صفهم
أصرفه فی جریه بشمالی
أرید به التل الذی فوق رأسه
معاویه الجانی لکل خبال
فقام رجال دونه بسیوفهم
و قام رجال دونه بعوالی
فلو نلته نلت التی لیس بعدها
و فزت بذکر صالح و فعال
و لو مت فی نیل المنى ألف موته
لقلت إذا ما مت لست أبالی
قال فانکسر أهل الشام لقتل عوف المرادی- و هدر معاویه دم العکبر- فقال العکبر ید الله فوق یده- فأین الله جل جلاله و دفاعه عن المؤمنین- . قال نصر و روى عمر بن سعد- عن الحارث بن حصین عن أبی الکنود- قال جزع أهل الشام على قتلاهم جزعا شدیدا- و قال معاویه بن خدیج- قبح الله ملکا یملکه المرء بعد حوشب و ذی الکلاع- و الله لو ظفرنا بأهل الدنیا- بعد قتلهما بغیر مئونه ما کان ظفرا- و قال یزید بن أسد لمعاویه- لا خیر فی أمر لا یشبه آخره أوله- لا یدمى جریح و لا یبکى قتیل- حتى تنجلی هذه الفتنه- فإن یکن الأمر لک أدمیت و بکیت على قرار- و إن یکن لغیرک فما أصبت به أعظم- فقال معاویه یا أهل الشام- ما جعلکم أحق بالجزع على قتلاکم- من أهل العراق على قتلاهم- و الله ما ذو الکلاع فیکم بأعظم من عمار بن یاسر فیهم- و لا حوشب فیکم بأعظم من هاشم فیهم- و ما عبید الله بن عمر فیکم بأعظم من ابن بدیل فیهم- و ما الرجال إلا أشباه و ما التمحیص إلا من عند الله- فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثه- قتل عمارا و کان فتاهم و قتل هاشما و کان حمزتهم- و قتل ابن بدیل و هو الذی فعل الأفاعیل- و بقی الأشتر و الأشعث و عدی بن حاتم- فأما الأشعث فإنما حمى عنه مصره- و أما الأشتر و عدی فغضبا و الله للفتنه- أقاتلهما غدا إن شاء الله تعالى- فقال معاویه بن خدیج- إن یکن الرجال عندک أشباها- فلیست عندنا کذلک و غضب- و قال شاعر الیمن یرثی ذا الکلاع و حوشبا-
معاوی قد نلنا و نیلت سراتنا
و جدع أحیاء الکلاع و یحصب
فذو کلع لا یبعد الله داره
و کل یمان قد أصیب بحوشب
هما ما هما کانا معاوی عصمه
متى قلت کانا عصمه لا أکذب
و لو قبلت فی هالک بذل فدیه
فدیتهما بالنفس و الأم و الأب
و روى نصر عن عمر بن سعد- عن عبید الرحمن بن کعب- قال لما قتل عبد الله بن بدیل یوم صفین- مر به الأسود بن طهمان الخزاعی- و هو بآخر رمق- فقال له عز علی و الله مصرعک- أما و الله لو شهدتک لآسیتک- و لدافعت عنک- و لو رأیت الذی أشعرک-لأحببت ألا أزایله و لا یزایلنی- حتى أقتله أو یلحقنی بک- ثم نزل إلیه فقال رحمک الله- یا عبد الله و الله إن کان جارک لیأمن بوائقک- و إن کنت لمن الذاکرین الله کثیرا- أوصنی رحمک الله- قال أوصیک بتقوى الله- و أن تناصح أمیر المؤمنین- و تقاتل معه حتى یظهر الحق أو تلحق بالله- و أبلغ أمیر المؤمنین عنی السلام- و قل له قاتل على المعرکه حتى تجعلها خلف ظهرک- فإنه من أصبح و المعرکه خلف ظهره- کان الغالب- . ثم لم یلبث أن مات- فأقبل أبو الأسود إلى علی ع فأخبره- فقال رحمه الله جاهد معنا عدونا فی الحیاه- و نصح لنا فی الوفاه- .
قال نصر- و قد روی نحو هذا عن عبد الرحمن بن کلده- حدثنی محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبی بحر- عن عبد الرحمن بن حاطب- قال خرجت التمس أخی سویدا فی قتلى صفین- فإذا رجل صریع فی القتلى- قد أخذ بثوبی فالتفت- فإذا هو عبد الرحمن بن کلده- فقلت إنا لله و إنا إلیه راجعون- هل لک فی الماء و معی إداوه- فقال لا حاجه لی فیه قد أنفذ فی السلاح و خرقنی- فلست أقدر على الشراب- هل أنت مبلغ عنی أمیر المؤمنین رساله أرسلک بها- قلت نعم قال إذا رأیته فاقرأ علیه السلام- و قل له یا أمیر المؤمنین- احمل جرحاک إلى عسکرک- حتى تجعلهم من وراء ظهرک- فإن الغلبه لمن فعل ذلک- ثم لم أبرح حتى مات- فخرجت حتى أتیت أمیر المؤمنین ع- فقلت له إن عبد الرحمن بن کلده یقرأ علیک السلام- قال و أین هو قلت وجدته و قد أنفذه السلاح و خرقه- فلم یستطع شرب الماء- و لم أبرح حتى مات- فاسترجع ع فقلت قد أرسلنی إلیک برساله- قال و ما هی قلت إنه یقول احمل جرحاک إلى عسکرک- و اجعلهم وراء ظهرک فإن الغلبه لمن فعل ذلک- فقال صدق فنادى منادیه فی العسکر- أن احملوا جرحاکم من بین القتلى إلى معسکرکم ففعلوا- . قال نصر و حدثنی عمرو بن شمر- عن جابر عن عامر- عن صعصعه بن صوحان- أن أبرهه بن الصباح الحمیری قام بصفین- فقال ویحکم یا معشر أهل الیمن- إنی لأظن الله قد أذن بفنائکم- ویحکم خلوا بین الرجلین فلیقتتلا- فأیهما قتل صاحبه ملنا معه جمیعا- و کان أبرهه من رؤساء أصحاب معاویه- فبلغ قوله علیا ع- فقال صدق أبرهه- و الله ما سمعت بخطبه منذ وردت الشام- أنا بها أشد سرورا منی بهذه الخطبه-
قال و بلغ معاویه کلام أبرهه- فتأخر آخر الصفوف- و قال لمن حوله إنی لأظن أبرهه مصابا فی عقله- فأقبل أهل الشام یقولون- و الله إن أبرهه لأکملنا دینا و عقلا و رأیا و بأسا- و لکن الأمیر کره مبارزه علی- و سمع ما دار من الکلام- أبو داود عروه بن داود العامری- و کان من فرسان معاویه- فقال إن کان معاویه کره مبارزه أبی حسن- فأنا أبارزه ثم خرج بین الصفین- فنادى أنا أبو داود فابرز إلی یا أبا حسن- فتقدم علی ع نحوه فناداه الناس- ارجع یا أمیر المؤمنین عن هذا الکلب فلیس لک بخطر- فقال و الله ما معاویه الیوم بأغیظ لی منه- دعونی و إیاه- ثم حمل علیه فضربه فقطعه قطعتین- سقطت إحداهما یمنیه و الأخرى شامیه- فارتج العسکران لهول الضربه- و صرخ ابن عم لأبی داود وا سوء صباحاه- و قبح الله البقاء بعد أبی داود- و حمل على علی ع فطعنه فضرب الرمح فبرأه- ثم قنعه ضربه فألحقه بأبی داود- و معاویه واقف على التل یبصر و یشاهد- فقال تبا لهذه الرجال و قبحا- أ ما فیهم من یقتل هذا مبارزه أو غیله- أو فی اختلاط الفیلق و ثوران النقع- فقال الولید بن عقبه- ابرز إلیه أنت فإنک أولى الناس بمبارزته- فقال و الله لقد دعانی إلى البراز- حتى لقد استحییت من قریش و إنی و الله لا أبرز إلیه- ما جعل العسکر بین یدی الرئیس إلا وقایه له- فقال عتبه بن أبی سفیان- الهوا عن هذا کأنکم لم تسمعوا نداءه- فقد علمتم أنه قتل حریثا- و فضح عمرا و لا أرى أحدا یتحکک به إلا قتله- فقال معاویه لبسر بن أرطاه- أ تقوم لمبارزته فقال ما أحد أحق بها منک- أما إذ بیتموه فأنا له- قال معاویه إنک ستلقاه غدا فی أول الخیل- و کان عند بسر ابن عم له- قدم من الحجاز یخطب ابنته فأتى بسرا- فقال له إنی سمعت أنک وعدت من نفسک أن تبارز علیا- أ ما تعلم أن الوالی من بعد معاویه عتبه- ثم بعده محمد أخوه- و کل من هؤلاء قرن علی- فما یدعوک إلى ما أرى- قال الحیاء خرج منی کلام- فأنا أستحیی أن أرجع عنه- فضحک الغلام و قال-
تنازله یا بسر إن کنت مثله
و إلا فإن اللیث للشاء آکل
کأنک یا بسر بن أرطاه جاهل
بآثاره فی الحرب أو متجاهل
معاویه الوالی و صنواه بعده
و لیس سواء مستعار و ثاکل
أولئک هم أولى به منک إنه
علی فلا تقربه أمک هابل
متى تلقه فالموت فی رأس رمحه
و فی سیفه شغل لنفسک شاغل
و ما بعده فی آخر الخیل عاطف
و لا قبله فی أول الخیل حامل
فقال بسر هل هو إلا الموت- لا بد من لقاء الله فغدا علی ع منقطعا من خیله- و یده فی ید الأشتر- و هما یتسایران رویدا- یطلبان التل لیقفا علیه- إذ برز له بسر مقنعا فی الحدید- لا یعرف فناداه أبرز إلی أبا حسن- فانحدر إلیه على تؤده غیر مکترث به-حتى إذا قاربه طعنه و هو دارع- فألقاه إلى الأرض- و منع الدرع السنان أن یصل إلیه- فاتقاه بسر بعورته- و قصد أن یکشفها یستدفع بأسه- فانصرف عنه ع مستدبرا له فعرفه الأشتر حین سقط- فقال یا أمیر المؤمنین- هذا بسر بن أرطاه- هذا عدو الله و عدوک- فقال دعه علیه لعنه الله أ بعد أن فعلها- فحمل ابن عم بسر من أهل الشام شاب- على علی ع و قال-
أردیت بسرا و الغلام ثائره
أردیت شیخا غاب عنه ناصره
و کلنا حام لبسر واتره
فلم یلتفت إلیه علی ع و تلقاه الأشتر فقال له-
فی کل یوم رجل شیخ شاغره
و عوره وسط العجاج ظاهره
تبرزها طعنه کف واتره
عمرو و بسر منیا بالفاقره
فطعنه الأشتر فکسر صلبه- و قام بسر من طعنه علی ع مولیا- و فرت خیله و ناداه علی ع- یا بسر معاویه کان أحق بها منک- فرجع بسر إلى معاویه- فقال له معاویه ارفع طرفک- فقد أدال الله عمرا منک- قال الشاعر فی ذلک-
أ فی کل یوم فارس تندبونه
له عوره تحت العجاجه بادیه
یکف بها عنه علی سنانه
و یضحک منها فی الخلاء معاویه
بدت أمس من عمرو فقنع رأسه
و عوره بسر مثلها حذو حاذیه
فقولا لعمرو و ابن أرطاه أبصرا
سبیلیکما لا تلقیا اللیث ثانیه
و لا تحمدا إلا الحیا و خصاکما
هما کانتا للنفس و الله واقیه
فلولاهما لم تنجوا من سنانه
و تلک بما فیها عن العود ناهیه
متى تلقیا الخیل المغیره صبحه
و فیها علی فاترکا الخیل ناحیه
و کونا بعیدا حیث لا تبلغ القنا
و نار الوغى إن التجارب کافیه
و إن کان منه بعد للنفس حاجه
فعودا إلى ما شئتما هی ما هیه
قال فکان بسر بعد ذلک الیوم- إذا لقی الخیل التی فیها علی ینتحی ناحیه- و تحامى فرسان الشام بعدها علیا ع- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن الأجلح بن عبد الله الکندی- عن أبی جحیفه- قال جمع معاویه کل قرشی بالشام- و قال لهم العجب یا معشر قریش- أنه لیس لأحد منکم فی هذه الحرب فعال- یطول بها لسانه غدا ما عدا عمرا- فما بالکم أین حمیه قریش- فغضب الولید بن عقبه- و قال أی فعال ترید- و الله ما نعرف فی أکفائنا من قریش العراق- من یغنی غناءنا باللسان و لا بالید- فقال معاویه بلى إن أولئک وقوا علیا بأنفسهم- قال الولید کلا بل وقاهم علی بنفسه- قال ویحکم- أ ما فیکم من یقوم لقرنه منهم مبارزه و مفاخره- فقال مروان- أما البراز فإن علیا لا یأذن لحسن- و لا لحسین و لا لمحمد بنیه فیه- و لا لابن عباس و إخوته- و یصلى بالحرب دونهم- فلأیهم نبارز- و أما المفاخره فبما ذا نفاخرهم- بالإسلام أم بالجاهلیه- فإن کان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوه- و إن کان بالجاهلیه فالملک فیه للیمن- فإن قلنا قریش قالوا لنا عبد المطلب- .
فقال عتبه بن أبی سفیان الهوا عن هذا- فإنی لاق بالغداه جعده بن هبیره- فقال معاویه بخ بخ قومه بنو مخزوم- و أمه أم هانئ بنت أبی طالب کفء کریم- و کثر العتاب و الخصام بین القوم- حتى أغلظوا لمروان و أغلظ لهم- فقال مروان أما و الله- لو لا ما کان منی إلى علی ع فی أیام عثمان- و مشهدی بالبصره لکان لی فی علی رأی- یکفی امرأ ذا حسب و دین- و لکن و لعل- و نابذ معاویه الولید بن عقبه دون القوم- فأغلظ له الولید- فقال معاویه- إنک إنما تجترئ علی بنسبک من عثمان- و لقد ضربک الحد و عزلک عن الکوفه- .
ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا- و أرضاهم معاویه من نفسه- و وصلهم بأموال جلیله- و بعث معاویه إلى عتبه- فقال ما أنت صانع فی جعده- قال ألقاه الیوم و أقاتله غدا- و کان لجعده فی قریش شرف عظیم- و کان له لسان- و کان من أحب الناس إلى علی ع- فغدا علیه عتبه- فنادى أبا جعده أبا جعده- فاستأذن علیا ع فی الخروج إلیه- فأذن له و اجتمع الناس- فقال عتبه یا جعده- و الله ما أخرجک علینا- إلا حب خالک و عمک عامل البحرین- و إنا و الله ما نزعم- أن معاویه أحق بالخلافه من علی- لو لا أمره فی عثمان- و لکن معاویه أحق بالشام لرضا أهلها به- فاعفوا لنا عنها- فو الله ما بالشام رجل به طرق- إلا و هو أجد من معاویه فی القتال- و لیس بالعراق رجل له مثل جد علی فی الحرب- و نحن أطوع لصاحبنا منکم لصاحبکم- و ما أقبح بعلی- أن یکون فی قلوب المسلمین أولى الناس بالناس- حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب- فقال جعده أما حبی لخالی- فلو کان لک خال مثله لنسیت أباک- و أما ابن أبی سلمه فلم یصب أعظم من قدره- و الجهاد أحب إلی من العمل- و أما فضل علی على معاویه فهذا ما لا یختلف فیه اثنان- و أما رضاکم الیوم بالشام- فقد رضیتم بها أمس فلم نقبل- و أما قولک لیس بالشام أحد إلا و هو أجد من معاویه- و لیس بالعراق رجل مثل جد علی- فهکذا ینبغی أن یکون مضى بعلی یقینه- و قصر بمعاویه شکه- و قصد أهل الحق خیر من جهد أهل الباطل- و أما قولک نحن أطوع لمعاویه منکم لعلی- فو الله ما نسأله إن سکت- و لا نرد علیه إن قال- و أما قتل العرب- فإن الله کتب القتل و القتال- فمن قتله الحق فإلى الله- . فغضب عتبه- و فحش على جعده فلم یجبه و أعرض عنه- فلما انصرف عنه جمع خیله فلم یستبق منها شیئا- و جل أصحابه السکون و الأزد و الصدف- و تهیأ جعده بما استطاع و التقوا- فصبر القوم جمیعا- و باشر جعده یومئذ القتال بنفسه- و جزع عتبه فأسلم خیله- و أسرع هاربا إلى معاویه- فقال له فضحک جعده و هزمتک- لا تغسل رأسک منها أبدا- فقال و الله لقد أعذرت- و لکن أبى الله أن یدیلنا منهم- فما أصنع و حظی جعده بعدها عند علی ع- و قال النجاشی فیما کان من فحش عتبه على جعده-
إن شتم الکریم یا عتب خطب
فاعلمنه من الخطوب عظیم
أمه أم هانئ و أبوه
من معد و من لؤی صمیم
ذاک منها هبیره بن أبی وهب
أقرت بفضا مخزوم
کان فی حربکم یعد بألف
حین یلقى بها القروم القروم
و ابنه جعده الخلیفه منه
هکذا تنبت الفروع الأروم
کل شیء تریده فهو فیه
حسب ثاقب و دین قویم
و خطیب إذا تمعرت الأوجه
یشجى به الألد الخصیم
و حلیم إذا الحبی حلها الجهل
و خفت من الرجال الحلوم
و شکیم الحروب قد علم الناس
إذا حل فی الحروب الشکیم
و صحیح الأدیم من نغل العیب
إذا کان لا یصح الأدیم
حامل للعظیم فی طلب الحمد
إذا عظم الصغیر اللئیم
ما عسى أن تقول للذهب الأحمر
عیبا هیهات منک النجوم
کل هذا بحمد ربک فیه
و سوى ذاک کان و هو فطیم
و قال الأعور الشنی فی ذلک- یخاطب عتبه بن أبی سفیان-
ما زلت تظهر فی عطفیک أبهه
لا یرفع الطرف منک التیه و الصلف
لا تحسب القوم إلا فقع قرقره
أو شحمه بزها شاو لها نطف
حتى لقیت ابن مخزوم و أی فتى
أحیا مآثر آباء له سلفوا
إن کان رهط أبی وهب جحاجحه
فی الأولین فهذا منهم خلف
أشجاک جعده إذ نادى فوارسه
حاموا عن الدین و الدنیا فما وقفوا
هلا عطفت على قوم بمصرعه
فیها السکون و فیها الأزد و الصدف
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی- قال کان رجل من أهل الشام-یقال له الأصبغ بن ضرار الأزدی- من مسالح معاویه و طلائعه- فندب له علی ع الأشتر- فأخذه أسیرا من غیر قتال- فجاء به لیلا فشده وثاقا- و ألقاه عند أصحابه ینتظر به الصباح- و کان الأصبغ شاعرا مفوها- فأیقن بالقتل و نام أصحابه- فرفع صوته فأسمع الأشتر- و قال
ألا لیت هذا اللیل أصبح سرمدا
على الناس لا یأتیهم بنهار
یکون کذا حتى القیامه إننی
أحاذر فی الإصباح یوم بواری
فیا لیل أطبق إن فی اللیل راحه
و فی الصبح قتلی أو فکاک إساری
و لو کنت تحت الأرض ستین وادیا
لما رد عنی ما أخاف حذاری
فیا نفس مهلا إن للموت غایه
فصبرا على ما ناب یا ابن ضرار
أ أخشى و لی فی القوم رحم قریبه
أبى الله أن أخشى و مالک جاری
و لو أنه کان الأسیر ببلده
أطاع بها شمرت ذیل إزاری
و لو کنت جار الأشعث الخیر فکنی
و قل من الأمر المخوف فراری
و جار سعید أو عدی بن حاتم
و جار شریح الخیر قر قراری
و جار المرادی الکریم و هانئ
و زحر بن قیس ما کرهت نهاری
و لو أننی کنت الأسیر لبعضهم
دعوت فتى منهم ففک إساری
أولئک قومی لا عدمت حیاتهم
و عفوهم عنی و ستر عواری
قال فغدا به الأشتر إلى علی ع- فقال یا أمیر المؤمنین إن هذا رجل من مسالح معاویه- أصبته أمس و بات عندنا اللیل- فحرکنا بشعره و له رحم- فإن کان فیه القتل فاقتله- و إن ساغ لک العفو عنه فهبه لنا- فقال هو لک یا مالک- و إذا أصبت منهم أسیرا فلا تقتله- فإن أسیر أهل القبله لا یقتل- . فرجع به الأشتر إلى منزله و خلى سبیله
شرح نهج البلاغه(ابن أبی الحدید) ج ۸
بازدیدها: ۲۷۶