خطبه ۱۳۹ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(الشورى)

۱۳۹ و من کلام له ع فی وقت الشورى

لَنْ یُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِی إِلَى دَعْوَهِ حَقٍّ- وَ صِلَهِ رَحِمٍ وَ عَائِدَهِ کَرَمٍ- فَاسْمَعُوا قَوْلِی وَ عُوا مَنْطِقِی- عَسَى أَنْ تَرَوْا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْیَوْمِ- تُنْتَضَى فِیهِ السُّیُوفُ وَ تُخَانُ فِیهِ الْعُهُودُ- حَتَّى یَکُونَ بَعْضُکُمْ أَئِمَّهً لِأَهْلِ الضَّلَالَهِ- وَ شِیعَهً لِأَهْلِ الْجَهَالَهِ هذا من جمله کلام قاله ع لأهل الشورى بعد وفاه عمر

من أخبار یوم الشورى و تولیه عثمان

و قد ذکرنا من حدیث الشورى فیما تقدم ما فیه کفایه- و نحن نذکر هاهنا ما لم نذکره هناک- و هو من روایه عوانه عن إسماعیل بن أبی خالد عن الشعبی- فی کتاب الشورى و مقتل عثمان- و قد رواه أیضا أبو بکر أحمد بن عبد العزیز الجوهری- فی زیادات کتاب السقیفه قال- لما طعن عمر جعل الأمر شورى بین سته نفر- علی بن أبی طالب و عثمان بن عفان- و عبد الرحمن بن عوف و الزبیر بن العوام- و طلحه بن عبید الله و سعد بن مالک- و کان‏طلحه یومئذ بالشام- و قال عمر إن رسول الله ص قبض- و هو عن هؤلاء راض- فهم أحق بهذا الأمر من غیرهم- و أوصى صهیب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان- و یقال إن أصله من حی من ربیعه بن نزار یقال لهم عنزه- فأمره أن یصلی بالناس حتى یرضى هؤلاء القوم رجلا منهم- و کان عمر لا یشک أن هذا الأمر صائر إلى أحد الرجلین- علی و عثمان و قال إن قدم طلحه فهو معهم- و إلا فلتختر الخمسه واحدا منها-

و روی أن عمر قبل موته- أخرج سعد بن مالک من أهل الشورى و قال- الأمر فی هؤلاء الأربعه- و دعوا سعدا على حاله أمیرا بین یدی الإمام- ثم قال و لو کان أبو عبیده بن الجراح حیا- لما تخالجتنی فیه الشکوک- فإن اجتمع ثلاثه على واحد فکونوا مع الثلاثه- و إن اختلفوا فکونوا مع الجانب الذی فیه عبد الرحمن- .

و قال لأبی طلحه الأنصاری یا أبا طلحه- فو الله لطالما أعز الله بکم الدین- و نصر بکم الإسلام اختر من المسلمین خمسین رجلا- فائت بهم هؤلاء القوم فی کل یوم مره- فاستحثوهم حتى یختاروا لأنفسهم و للأمه رجلا منهم- .

ثم جمع قوما من المهاجرین و الأنصار- فأعلمهم ما أوصى به- و کتب فی وصیته أن یولی الإمام سعد بن مالک الکوفه- و أبا موسى الأشعری لأنه کان عزل سعدا عن سخطه- فأحب أن یطلب ذلک- إلى من یقوم بالأمر من بعده استرضاء لسعد- . قال الشعبی فحدثنی من لا أتهمه من الأنصار- و قال أحمد بن عبد العزیز الجوهری- هو سهل بن سعد الأنصاری قال- مشیت وراء علی بن أبی طالب- حیث انصرف من عند عمر- و العباس بن عبد المطلب یمشی فی جانبه- فسمعته یقول للعباس ذهبت منا و الله- فقال کیف علمت قال أ لا تسمعه یقول- کونوا فی الجانب الذی فیه عبد الرحمن- لأنه ابن عمه و عبد الرحمن نظیر عثمان و هو صهره- فإذا اجتمع هؤلاء- فلو أن الرجلین‏الباقیین کانا معی لم یغنیا عنی شیئا- مع أنی لست أرجو إلا أحدهما- و مع ذلک فقد أحب عمر أن یعلمنا- أن لعبد الرحمن عنده فضلا علینا- لعمر الله ما جعل الله ذلک لهم علینا- کما لم یجعله لأولادهم على أولادنا- أما و الله لئن عمر لم یمت لأذکرته ما أتى إلینا قدیما- و لأعلمته سوء رأیه فینا و ما أتى إلینا حدیثا- و لئن مات و لیموتن- لیجتمعن هؤلاء القوم على أن یصرفوا هذا الأمر عنا- و لئن فعلوها و لیفعلن لیروننی حیث یکرهون- و الله ما بی رغبه فی السلطان و لا حب الدنیا- و لکن لإظهار العدل و القیام بالکتاب و السنه- . قال ثم التفت فرآنی وراءه- فعرفت أنه قد ساءه ذلک فقلت لا ترع أبا حسن- لا و الله لا یستمع أحد الذی سمعت منک فی الدنیا- ما اصطحبنا فیها- فو الله ما سمعه منی مخلوق حتى قبض الله علیا إلى رحمته- .

قال عوانه فحدثنا إسماعیل قال حدثنی الشعبی قال- فلما مات عمر و أدرج فی أکفانه ثم وضع لیصلى علیه- تقدم علی بن أبی طالب فقام عند رأسه- و تقدم عثمان فقام عند رجلیه- فقال علی ع هکذا ینبغی أن تکون الصلاه- فقال عثمان بل هکذا فقال عبد الرحمن ما أسرع ما اختلفتم- یا صهیب صل على عمر کما رضی أن تصلی بهم المکتوبه- فتقدم صهیب فصلى على عمر- . قال الشعبی و أدخل أهل الشورى دارا- فأقبلوا یتجادلون علیها و کلهم بها ضنین- و علیها حریص إما لدنیا و إما لآخره- فلما طال ذلک قال عبد الرحمن- من رجل منکم یخرج نفسه عن هذا الأمر- و یختار لهذه الأمه رجلا منکم- فإنی طیبه نفسی أن أخرج منها و أختار لکم- قالوا قد رضینا إلا علی بن أبی طالب فإنه اتهمه-

و قال أنظر و أرى فأقبل أبو طلحه علیه و قال- یا أبا الحسن ارض برأی عبد الرحمن- کان الأمر لک أو لغیرک- فقال علی أعطنی یا عبد الرحمن موثقا من الله لتؤثرن الحق- و لا تتبع الهوى‏و لا تمل إلى صهر و لا ذی قرابه- و لا تعمل إلا لله و لا تألو هذه الأمه أن تختار لها خیرها- قال فحلف له عبد الرحمن بالله- الذی لا إله إلا هو- لأجتهدن لنفسی و لکم و للأمه- و لا أمیل إلى هوى و لا إلى صهر و لا ذی قرابه- قال فخرج عبد الرحمن- فمکث ثلاثه أیام یشاور الناس- ثم رجع و اجتمع الناس- و کثروا على الباب لا یشکون أنه یبایع علی بن أبی طالب- و کان هوى قریش کافه ما عدا بنی هاشم فی عثمان- و هوى طائفه من الأنصار مع علی- و هوى طائفه أخرى مع عثمان- و هی أقل الطائفتین و طائفه لا یبالون أیهما بویع- .

قال فأقبل المقداد بن عمرو و الناس مجتمعون- فقال أیها الناس اسمعوا ما أقول أنا المقداد بن عمرو- إنکم إن بایعتم علیا سمعنا و أطعنا- و إن بایعتم عثمان سمعنا و عصینا- فقام عبد الله بن أبی ربیعه بن المغیره المخزومی- فنادى أیها الناس إنکم إن بایعتم عثمان سمعنا و أطعنا- و إن بایعتم علیا سمعنا و عصینا- فقال له المقداد یا عدو الله و عدو رسوله و عدو کتابه- و متى کان مثلک یسمع له الصالحون- فقال له عبد الله یا ابن الحلیف العسیف- و متى کان مثلک یجترئ على الدخول فی أمر قریش- .

فقال عبد الله بن سعد بن أبی سرح- أیها الملأ إن أردتم ألا تختلف قریش فیما بینها- فبایعوا عثمان فقال عمار بن یاسر- إن أردتم ألا یختلف المسلمون فیما بینهم فبایعوا علیا- ثم أقبل على عبد الله بن سعد بن أبی سرح فقال- یا فاسق یا ابن الفاسق أ أنت ممن یستنصحه المسلمون- أو یستشیرونه فی أمورهم- و ارتفعت الأصوات و نادى مناد لا یدرى من هو- فقریش تزعم أنه رجل من بنی مخزوم- و الأنصار تزعم أنه رجل طوال آدم مشرف على الناس- لا یعرفه أحد منهم- یا عبد الرحمن افرغ من أمرک- و امض على ما فی نفسک فإنه الصواب- .

قال الشعبی فأقبل عبد الرحمن على علی بن أبی طالب فقال- علیک عهد الله و میثاقه- و أشد ما أخذ الله على النبیین من عهد و میثاق- إن بایعتک لتعملن بکتاب الله و سنه رسوله- و سیره أبی بکر و عمر- فقال علی ع طاقتی و مبلغ علمی و جهد رأیی و الناس یسمعون- . فأقبل على عثمان فقال له مثل ذلک- فقال نعم لا أزول عنه و لا أدع شیئا منه- ثم أقبل على علی فقال له ذلک ثلاث مرات- و لعثمان ثلاث مرات- فی کل ذلک یجیب علی مثل ما کان أجاب به- و یجیب عثمان بمثل ما کان أجاب به- . فقال ابسط یدک یا عثمان فبسط یده فبایعه- و قام القوم فخرجوا- و قد بایعوا إلا علی بن أبی طالب فإنه لم یبایع- .

قال فخرج عثمان على الناس و وجهه متهلل- و خرج علی و هو کاسف البال مظلم- و هو یقول یا ابن عوف لیس هذا بأول یوم تظاهرتم علینا- من دفعنا عن حقنا و الاستئثار علینا- و إنها لسنه علینا و طریقه ترکتموها- . فقال المغیره بن شعبه لعثمان- أ ما و الله لو بویع غیرک لما بایعناه- فقال عبد الرحمن بن عوف کذبت- و الله لو بویع غیره لبایعته- و ما أنت و ذاک یا ابن الدباغه- و الله لو ولیها غیره لقلت له مثل ما قلت الآن- تقربا إلیه و طمعا فی الدنیا فاذهب لا أبا لک- . فقال المغیره لو لا مکان أمیر المؤمنین لأسمعتک ما تکره و مضیا- .

قال الشعبی فلما دخل عثمان رحله- دخل إلیه بنو أمیه حتى امتلأت بهم الدار- ثم أغلقوها علیهم- فقال أبو سفیان بن حرب- أ عندکم أحد من غیرکم قالوا لا- قال یا بنی أمیه تلقفوها تلقف الکره- فو الذی یحلف به أبو سفیان ما من عذاب و لا حساب- و لا جنه و لا نار و لا بعث و لا قیامه- .

قال فانتهره عثمان و ساءه بما قال و أمر بإخراجه- . قال الشعبی فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان- فقال له ما صنعت فو الله ما وفقت حیث تدخل رحلک قبل أن تصعد المنبر- فتحمد الله و تثنی علیه- و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنکر و تعد الناس خیرا- . قال فخرج عثمان فصعد المنبر- فحمد الله و أثنى علیه ثم قال- هذا مقام لم نکن نقومه- و لم نعد له من الکلام الذی یقام به فی مثله- و سأهیئ ذلک إن شاء الله- و لن آلو أمه محمد خیرا و الله المستعان- . ثم نزل- .

قال عوانه فحدثنی یزید بن جریر عن الشعبی عن شقیق بن مسلمه أن علی بن أبی طالب- لما انصرف إلى رحله قال لبنی أبیه- یا بنی عبد المطلب إن قومکم عادوکم بعد وفاه النبی- کعداوتهم النبی فی حیاته- و إن یطع قومکم لا تؤمروا أبدا- و و الله لا ینیب هؤلاء إلى الحق إلا بالسیف قال و عبد الله بن عمر بن الخطاب داخل إلیهم- قد سمع الکلام کله فدخل- و قال یا أبا الحسن أ ترید أن تضرب بعضهم ببعض- فقال اسکت ویحک فو الله لو لا أبوک و ما رکب منی قدیما و حدیثا- ما نازعنی ابن عفان و لا ابن عوف  فقام عبد الله فخرج- .

قال و أکثر الناس فی أمر الهرمزان و عبید الله بن عمر- و قتله إیاه و بلغ ما قال فیه علی بن أبی طالب- فقام عثمان فصعد المنبر فحمد الله و أثنى علیه- ثم قال أیها الناس إنه کان من قضاء الله- أن عبید الله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان- و هو رجل من‏المسلمین و لیس له وارث إلا الله و المسلمون- و أنا إمامکم و قد عفوت- أ فتعفون عن عبید الله ابن خلیفتکم بالأمس قالوا نعم- فعفا عنه فلما بلغ ذلک علیا تضاحک و قال- سبحان الله لقد بدأ بها عثمان- أ یعفو عن حق امرئ لیس بوالیه- تالله إن هذا لهو العجب- قالوا فکان ذلک أول ما بدا من عثمان مما نقم علیه- .

قال الشعبی و خرج المقداد من الغد- فلقی عبد الرحمن بن عوف فأخذ بیده و قال- إن کنت أردت بما صنعت وجه الله- فأثابک الله ثواب الدنیا و الآخره- و إن کنت إنما أردت الدنیا فأکثر الله مالک- فقال عبد الرحمن اسمع رحمک الله اسمع- قال لا أسمع و الله و جذب یده من یده- و مضى حتى دخل على علی ع- فقال قم فقاتل حتى نقاتل معک- قال علی فبمن أقاتل رحمک الله- و أقبل عمار بن یاسر ینادی-

یا ناعی الإسلام قم فانعه
قد مات عرف و بدا نکر

أما و الله لو أن لی أعوانا لقاتلتهم- و الله لئن قاتلهم واحد لأکونن له ثانیا-فقال علی یا أبا الیقظان و الله لا أجد علیهم أعوانا- و لا أحب أن أعرضکم لما لا تطیقون- و بقی ع فی داره و عنده نفر من أهل بیته- و لیس یدخل إلیه أحد مخافه عثمان- . قال الشعبی و اجتمع أهل الشورى- على أن تکون کلمتهم واحده على من لم یبایع- فقاموا إلى علی فقالوا قم فبایع عثمان- قال فإن لم أفعل قالوا نجاهدک- قال فمشى إلى عثمان حتى بایعه و هو یقول صدق الله و رسوله- فلما بایع أتاه عبد الرحمن بن عوف- فاعتذر إلیه و قال إن عثمان أعطانا یده و یمینه و لم تفعل أنت- فأحببت أن أتوثق للمسلمین فجعلتها فیه- فقال إیها عنک إنما آثرته بها لتنالها بعده- دق الله بینکما عطر منشم- .

قال الشعبی و قدم طلحه من الشام بعد ما بویع عثمان- فقیل له رد هذا الأمر حتى ترى فیه رأیک فقال- و الله لو بایعتم شرکم لرضیت- فکیف و قد بایعتم خیرکم- قال ثم عدا علیه بعد ذلک و صاحبه حتى قتلاه- ثم زعما أنهما یطلبان بدمه- . قال الشعبی فأما ما یذکره الناس من المناشده- وقول علی ع لأهل الشورى أ فیکم أحد قال له رسول الله ص کذا- فإنه لم یکن یوم البیعه- و إنما کان بعد ذلک بقلیل- دخل علی ع على عثمان و عنده جماعه من الناس- منهم أهل الشورى- و قد کان بلغه عنهم هنات و قوارص- فقال لهم أ فیکم أ فیکم کل ذلک یقولون لا-

قال لکنی أخبرکم عن أنفسکم- أما أنت یا عثمان ففررت یوم حنین- و تولیت یوم التقى الجمعان- و أما أنت یا طلحه فقلت- إن مات محمد لنرکضن بین خلاخیل نسائه- کما رکض بین خلاخیل نسائنا- و أما أنت یا عبد الرحمن فصاحب قراریط- و أما أنت یا سعد فتدق عن أن تذکرقال ثم خرج فقال عثمان- أ ما کان فیکم أحد یرد علیه قالوا- و ما منعک من ذلک و أنت أمیر المؤمنین و تفرقوا- قال عوانه قال إسماعیل قال الشعبی فحدثنی عبد الرحمن بن جندب عن أبیه جندب بن عبد الله الأزدی قال کنت جالسا بالمدینه حیث بویع عثمان- فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو فسمعته یقول- و الله ما رأیت مثل ما أتی إلى أهل هذا البیت- و کان عبد الرحمن بن عوف جالسا- فقال و ما أنت و ذاک یا مقداد- قال المقداد إنی و الله أحبهم لحب رسول الله ص- و إنی لأعجب من قریش و تطاولهم على الناس بفضل رسول الله- ثم انتزاعهم سلطانه من أهله- قال عبد الرحمن أما و الله لقد أجهدت نفسی‏لکم- قال المقداد أما و الله لقد ترکت رجلا من الذین- یأمرون بالحق و به یعدلون- أما و الله لو أن لی على قریش أعوانا- لقاتلتهم قتالی إیاهم ببدر و أحد- فقال عبد الرحمن ثکلتک أمک- لا یسمعن هذا الکلام الناس- فإنی أخاف أن تکون صاحب فتنه و فرقه- . قال المقداد إن من دعا إلى الحق و أهله و ولاه الأمر لا یکون صاحب فتنه- و لکن من أقحم الناس فی الباطل- و آثر الهوى على الحق فذلک صاحب الفتنه و الفرقه- .

قال فتربد وجه عبد الرحمن ثم قال- لو أعلم أنک إیای تعنی لکان لی و لک شأن- . قال المقداد إیای تهدد یا ابن أم عبد الرحمن- ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف- . قال جندب بن عبد الله فاتبعته- و قلت له یا عبد الله أنا من أعوانک فقال رحمک الله- إن هذا الأمر لا یغنی فیه الرجلان و لا الثلاثه- قال فدخلت من فوری ذلک على علی ع- فلما جلست إلیه قلت یا أبا الحسن- و الله ما أصاب قومک بصرف هذا الأمر عنک- فقال صبر جمیل و الله المستعان- .

فقلت و الله إنک لصبور- قال فإن لم أصبر فما ذا أصنع- قلت إنی جلست إلى المقداد بن عمرو آنفا و عبد الرحمن بن عوف- فقالا کذا و کذا ثم قام المقداد فاتبعته- فقلت له کذا فقال لی کذا- فقال علی ع لقد صدق المقداد فما أصنع- فقلت تقوم فی الناس فتدعوهم إلى نفسک- و تخبرهم أنک أولى بالنبی ص- و تسألهم النصر على هؤلاء المظاهرین علیک- فإن أجابک عشره من مائه شددت بهم على الباقین- فإن دانوا لک فذاک و إلا قاتلتهم و کنت أولى بالعذر- قتلت أو بقیت و کنت أعلى عند الله حجه- . فقال أ ترجو یا جندب أن یبایعنی من کل عشره واحد- قلت أرجو ذلک قال لکنی لا أرجو ذلک- لا و الله و لا من المائه واحد و سأخبرک- أن الناس إنما ینظرون‏إلى قریش- فیقولون هم قوم محمد و قبیله- و أما قریش بینها فتقول- إن آل محمد یرون لهم على الناس بنبوته فضلا- و یرون أنهم أولیاء هذا الأمر دون قریش- و دون غیرهم من الناس- و هم إن ولوه لم یخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا- و متى کان فی غیرهم تداولته قریش بینها- لا و الله لا یدفع الناس إلینا هذا الأمر طائعین أبدا- . فقلت جعلت فداک یا ابن عم رسول الله- لقد صدعت قلبی بهذا القول- أ فلا أرجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتک- و أدعو الناس إلیک فقال یا جندب لیس هذا زمان ذاک- .

قال فانصرفت إلى العراق- فکنت أذکر فضل علی على الناس- فلا أعدم رجلا یقول لی ما أکره- و أحسن ما أسمعه قول من یقول- دع عنک هذا و خذ فیما ینفعک- فأقول إن هذا مما ینفعنی و ینفعک فیقوم عنی و یدعنی- . و زاد أبو بکر أحمد بن عبد العزیز الجوهری- حتى رفع ذلک من قولی إلى الولید بن عقبه أیام ولینا- فبعث إلی فحبسنی حتى کلم فی فخلى سبیلی- . و روى الجوهری قال نادى عمار بن یاسر ذلک الیوم- یا معشر المسلمین- إنا قد کنا و ما کنا نستطیع الکلام قله و ذله- فأعزنا الله بدینه و أکرمنا برسوله- فالحمد لله رب العالمین- یا معشر قریش إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بیت نبیکم- تحولونه هاهنا مره و هاهنا مره- ما أنا آمن أن ینزعه الله منکم و یضعه فی غیرکم- کما نزعتموه من أهله و وضعتموه فی غیر أهله- . فقال له هاشم بن الولید بن المغیره- یا ابن سمیه لقد عدوت طورک و ما عرفت قدرک- ما أنت و ما رأت قریش لأنفسها- إنک لست فی شی‏ء من أمرها و إماراتها فتنح عنها- . و تکلمت قریش بأجمعها فصاحوا بعمار و انتهروه- فقال الحمد لله رب العالمین- ما زال أعوان الحق أذلاء ثم قام فانصرف

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۹

بازدیدها: ۵۰

خطبه ۱۳۸ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۳۸ و من خطبه له ع یومئ فیها إلى ذکر الملاحم

یَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى- إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى- وَ یَعْطِفُ الرَّأْیَ عَلَى الْقُرْآنِ- إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْیِ هذا إشاره إلى إمام یخلقه الله تعالى فی آخر الزمان- و هو الموعود به فی الأخبار و الآثار- و معنى یعطف الهوى- یقهره و یثنیه عن جانب الإیثار و الإراده- عاملا عمل الهدى- فیجعل الهدى قاهرا له و ظاهرا علیه- . و کذلک قوله و یعطف الرأی على القرآن- أی یقهر حکم الرأی و القیاس- و العمل بغلبه الظن عاملا عمل القرآن- . و قوله إذا عطفوا الهدى و إذا عطفوا القرآن- إشاره إلى الفرق المخالفین لهذا الإمام المشاقین له- الذین لا یعملون بالهدى بل بالهوى- و لا یحکمون بالقرآن بل بالرأی‏:

مِنْهَا- حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِکُمْ عَلَى سَاقٍ بَادِیاً نَوَاجِذُهَا- مَمْلُوءَهً أَخْلَافُهَا حُلْواً رَضَاعُهَا عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا- أَلَا وَ فِی غَدٍ وَ سَیَأْتِی غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ- یَأْخُذُ الْوَالِی مِنْ غَیْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا- وَ تَخْرُجُ لَهُ الْأَرْضُ أَفَالِیذَ کَبِدِهَا- وَ تُلْقِی إِلَیْهِ سِلْماً مَقَالِیدَهَا- فَیُرِیکُمْ کَیْفَ عَدْلُ السِّیرَهِ- وَ یُحْیِی مَیِّتَ الْکِتَابِ وَ السُّنَّهِ الساق الشده- و منه قوله تعالى یَوْمَ یُکْشَفُ عَنْ ساقٍ- . و النواجذ أقصى الأضراس- و الکلام کنایه عن بلوغ الحرب غایتها- کما أن غایه الضحک أن تبدو النواجذ- . قوله مملوءه أخلافها- و الأخلاف للناقه حلمات الضرع واحدها خلف- و کذلک و قوله حلوا رضاعها علقما عاقبتها- قد أخذه الشاعر فقال-

الحرب أول ما تکون فتیه
تسعى بزینتها لکل جهول‏

حتى إذا اشتعلت و شب ضرامها
عادت عجوزا غیر ذات حلیل‏

شمطاء جزت رأسها و تنکرت
مکروهه للشم و التقبیل‏

و هو الرضاع بالفتح و الماضی رضع بالکسر مثل سمع سماعا- و أهل نجد یقولون رضع بالفتح یرضع بالکسر رضعا- مثل ضرب یضرب ضربا و أنشدوا-

و ذموا لنا الدنیا و هم یرضعونها
أفاویق حتى ما یدر لها ثعل‏

بکسر الضاد

فصل فی الاعتراض و إیراد مثل منه

و قوله ألا و فی غد تمامه یأخذ الوالی- و بین الکلام جمله اعتراضیه- و هی قوله و سیأتی غد بما لا تعرفون- و المراد تعظیم شأن الغد الموعود بمجیئه- و مثل ذلک فی القرآن کثیر نحو قوله تعالى- فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ- وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِیمٌ- إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ- فقوله تعالى إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ- هو الجواب المتلقى به قوله- فَلا أُقْسِمُ- و قد اعترض بینهما قوله- وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِیمٌ- و اعترض بین هذا الاعتراض قوله لَوْ تَعْلَمُونَ- لأنک لو حذفته لبقی الکلام على إفادته- و هو قوله و إنه لقسم عظیم- و المراد تعظیم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم- و تأکید إجلاله فی النفوس- و لا سیما بقوله لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِیمٌ- .

و من ذلک قوله تعالى- وَ یَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ- وَ لَهُمْ ما یَشْتَهُونَ- فقوله سُبْحانَهُ اعتراض و المراد التنزیه- و کذلک قوله تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِی الْأَرْضِ- ف لَقَدْ عَلِمْتُمُ اعتراض- و المراد به تقریر إثبات البراءه من تهمه السرقه- . و کذلک قوله وَ إِذا بَدَّلْنا آیَهً مَکانَ آیَهٍ- وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما یُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ‏مُفْتَرٍ- فاعترض بین إذا و جوابها بقوله وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما یُنَزِّلُ- فکأنه أراد أن یجیبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا- .

و من ذلک قوله- وَ وَصَّیْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَیْهِ- حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِی عامَیْنِ- أَنِ اشْکُرْ لِی وَ لِوالِدَیْکَ- فاعترض بقوله- حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِی عامَیْنِ- بین وَصَّیْنَا و بین الموصى به- و فائده ذلک إذکار الولد بما کابدته أمه- من المشقه فی حمله و فصاله- . و من ذلک قوله- وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِیها- وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ- فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها- فقوله وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ- اعتراض بین المعطوف و المعطوف علیه- و المراد أن یقرر فی أنفس السامعین- أنه لا ینفع البشر کتمانهم- و إخفاؤهم لما یرید الله إظهاره- . و من الاعتراض فی الشعر قول جریر-

و لقد أرانی و الجدید إلى بلى
فی موکب بیض الوجوه کرام‏

فقوله و الجدید إلى بلى اعتراض- و المراد تعزیته نفسه عما مضى من تلک اللذات- . و کذلک قول کثیر

لو أن الباخلین و أنت منهم
رأوک تعلموا منک المطالا

فقوله و أنت منهم اعتراض- و فائدته ألا تظن أنها لیست باخله- .

و من ذلک قول الشاعر-

فلو سألت سراه الحی سلمى
على أن قد تلون بی زمانی‏

لخبرها ذوو أحساب قومی‏
و أعدائی فکل قد بلانی‏

بذبی الذم عن حسبی و مالی
و زبونات أشوس تیحان‏

و إنی لا أزال أخا حروب‏
إذا لم أجن کنت مجن جانی‏

فقوله
على أن قد تلون بی زمانی‏

اعتراض- و فائدته الإخبار عن أن السن قد أخذت منه- و تغیرت بطول العمر أوصافه- . و من ذلک قول أبی تمام-

رددت رونق وجهی فی صحیفته
رد الصقال بهاء الصارم الخذم‏

و ما أبالی و خیر القول أصدقه‏
حقنت لی ماء وجهی أم حقنت دمی‏

فقولهو خیر القول أصدقه‏اعتراض- و فائدته إثبات صدقه فی دعواه أنه لا یبالی أیهما حقن- . فأما قول أبی تمام أیضا-

و إن الغنى لی إن لحظت مطالبی
من الشعر إلا فی مدیحک أطوع‏

فإن الاعتراض فیه هو قولهإلا فی مدیحک‏- و لیس قولهإن لحظت مطالبی‏اعتراضا- کما زعم ابن الأثیر الموصلی- لأن فائده البیت معلقه علیه- لأنه لا یرید أن الغنى‏لی على کل حال أطوع من الشعر- و کیف یرید هذا و هو کلام فاسد مختل- بل مراده أن الغنى لی بشرط أن تلحظ مطالبی من الشعر أطوع لی- إلا فی مدیحک- فإن الشعر فی مدیحک أطوع لی منه- و إذا کانت الفائده معلقه بالشرط المذکور لم یکن اعتراضا- و کذلک وهم ابن الأثیر أیضا فی قول إمرئ القیس-

فلو أن ما أسعى لأدنى معیشه
کفانی و لم أطلب قلیل من المال‏

و لکنما أسعى لمجد مؤثل‏
و قد یدرک المجد المؤثل أمثالی‏

فقال إن قوله و لم أطلب اعتراض و لیس بصحیح- لأن فائده البیت مرتبطه به- و تقدیره لو سعیت لأن آکل و أشرب لکفانی القلیل- و لم أطلب الملک فکیف یکون قوله- و لم أطلب الملک اعتراضا- و من شأن الاعتراض أن یکون فضله ترد لتحسین و تکمله- و لیست فائدته أصلیه- . و قد یأتی الاعتراض و لا فائده فیه- و هو غیر مستحسن نحو قول النابغه-

یقول رجال یجهلون خلیقتی
لعل زیادا لا أبا لک غافل‏

فقوله لا أبا لک اعتراض لا معنى تحته هاهنا- و مثله قول زهیر

سئمت تکالیف الحیاه و من یعش
ثمانین حولا لا أبا لک یسأم‏

فإن جاءت لا أبا لک تعطی معنى یلیق بالموضع- فهی اعتراض جید نحو قول أبی تمام-عتابک عنی لا أبا لک و اقصدی‏- . فإنه أراد زجرها و ذمها لما أسرفت فی عتابه- .و قد یأتی الاعتراض على غایه من القبح و الاستهجان- و هو على سبیل التقدیم و التأخیر- نحو قول الشاعر-

فقد و الشک بین لی عناء
بوشک فراقهم صرد فصیح‏

تقدیره فقد بین لی صرد یصیح بوشک فراقهم و الشک عناء- فلأجل قوله و الشک عناء بین قد و الفعل الماضی- و هو بین عد اعتراضا مستهجنا- و أمثال هذا للعرب کثیر- . قوله ع یأخذ الوالی من غیرها عمالها على مساوئ أعمالها- کلام منقطع عما قبله- و قد کان تقدم ذکر طائفه من الناس ذات ملک و أمره- فذکر ع أن الوالی یعنی الإمام- الذی یخلقه الله تعالى فی آخر الزمان- یأخذ عمال هذه الطائفه على سوء أعمالهم- و على هاهنا متعلقه بیأخذ التی هی بمعنى یؤاخذ- من قولک أخذته بذنبه و آخذته و الهمز أفصح- .

و الأفالیذ جمع أفلاذ و أفلاذ جمع فلذ- و هی القطعه من الکبد- و هذا کنایه عن الکنوز التی تظهر للقائم بالأمر- و قد جاء ذکر ذلک فی خبر مرفوع فی لفظه- و قاءت له الأرض أفلاذ کبدها- و قد فسر قوله تعالى وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها- بذلک فی بعض التفاسیر- . و المقالید المفاتیح: مِنْهَا- کَأَنِّی بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَایَاتِهِ فِی ضَوَاحِی کُوفَانَ- فَعَطَفَ عَلَیْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ- وَ فَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّءُوسِ- قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ وَ ثَقُلَتْ فِی الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ بَعِیدَ الْجَوْلَهِ عَظِیمَ الصَّوْلَهِ-وَ اللَّهِ لَیُشَرِّدَنَّکُمْ فِی أَطْرَافِ الْأَرْضِ- حَتَّى لَا یَبْقَى مِنْکُمْ إِلَّا قَلِیلٌ کَالْکُحْلِ فِی الْعَیْنِ- فَلَا تَزَالُونَ کَذَلِکَ- حَتَّى تَئُوبَ إِلَى الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلَامِهَا- فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَهَ وَ الآْثَارَ الْبَیِّنَهَ- وَ الْعَهْدَ الْقَرِیبَ الَّذِی عَلَیْهِ بَاقِی النُّبُوَّهِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ الشَّیْطَانَ- إِنَّمَا یُسَنِّی لَکُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ هذا إخبار عن عبد الملک بن مروان- و ظهوره بالشام و ملکه بعد ذلک العراق- و ما قتل من العرب فیها أیام عبد الرحمن بن الأشعث- و قتله أیام مصعب بن الزبیر- .

و نعق الراعی بغنمه بالعین المهمله- و نغق الغراب بالغین المعجمه- و فحص برایاته هاهنا مفعول محذوف- تقدیره و فحص الناس برایاته أی نحاهم و قلبهم یمینا و شمالا- . و کوفان اسم الکوفه و ضواحیها ما قرب منها من القرى- و الضروس الناقه السیئه الخلق تعض حالبها- قال بشر بن أبی خازم-

عطفنا لهم عطف الضروس من الملا
بشهباء لا یمشی الضراء رقیبها

و قوله و فرش الأرض بالرءوس- غطاها بها کما یغطى المکان بالفراش- . و فغرت فاغرته کأنه یقول فتح فاه- و الکلام استعاره و فغر فعل یتعدى و لا یتعدى- و ثقلت فی الأرض وطأته کنایه عن الجور و الظلم- . بعید الجوله استعاره أیضا- و المعنى أن تطواف خیوله و جیوشه فی البلاد- أو جولان رجاله فی الحرب على الأقران طویل جدا- لا یتعقبه السکون إلا نادرا- . و بعید منصوب على الحال و إضافته غیر محضه- .

و عوازب أحلامها ما ذهب من عقولها- عزب عنه الرأی أی بعد- . و یسنی لکم طرقه أی یسهل- و العقب بکسر القاف مؤخر القدم و هی مؤنثه- . فإن قلت فإن قوله حتى تئوب- یدل على أن غایه ملکه- أن تئوب إلى العرب عوازب أحلامها- و عبد الملک مات فی ملکه و لم یزل الملک عنه- بأوبه أحلام العرب إلیها- فإن فائده حتى إلى و هی موضوعه للغایه- . قلت إن ملک أولاده ملکه أیضا- و ما زال الملک عن بنی مروان- حتى آبت إلى العرب عوازب أحلامها- و العرب هاهنا بنو العباس- و من اتبعهم من العرب أیام ظهور الدوله- کقحطبه بن شبیب الطائی و ابنیه حمید و الحسن- و کبنی رزتنی بتقدیم الراء المهمله- الذین منهم طاهر بن الحسین و إسحاق بن إبراهیم المصعبی- و عداد هم  فی خزاعه و غیرهم من العرب من شیعه بنی العباس- و قد قیل إن أبا مسلم أیضا عربی أصله- و کل هؤلاء و آبائهم کانوا مستضعفین –  مقهورین مغمورین فی دوله بنی أمیه- لم ینهض منهم ناهض و لا وثب إلى الملک واثب- إلى أن أفاء الله تعالى إلى هؤلاء- ما کان عزب عنهم من إبائهم و حمیتهم- فغاروا للدین و المسلمین من جور بنی مروان و ظلمهم- و قاموا بالأمر- و أزالوا تلک الدوله التی کرهها الله تعالى و أذن فی انتقالها- .

ثم أمرهم ع بأن یلزموا بعد زوال تلک الدوله الکتاب و السنه- و العهد القریب الذی علیه باقی النبوه- یعنی عهده و أیامه ع- و کأنه خاف من أن یکون بإخباره لهم- بأن دوله هذا الجبار ستنقضی- إذا آبت إلى العرب عوازب أحلامها- کالأمر لهم باتباع ولاه الدوله الجدیده فی کل ما تفعله- فاستظهر علیهم بهذه الوصیه و قال لهم- إذا ابتذلت الدوله فالزموا الکتاب و السنه- و العهد الذی فارقتکم علیه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۲

بازدیدها: ۷۳

خطبه ۱۳۷ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(فی شأن طلحه و الزبیر)

۱۳۷ و من کلام له ع فی شأن طلحه و الزبیر

وَ اللَّهِ مَا أَنْکَرُوا عَلَیَّ مُنْکَراً- وَ لَا جَعَلُوا بَیْنِی وَ بَیْنَهُمْ نِصْفاً- وَ إِنَّهُمْ لَیَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَکُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَکُوهُ- فَإِنْ کُنْتُ شَرِیکَهُمْ فِیهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِیبَهُمْ مِنْهُ- وَ إِنْ کَانُوا وَلُوهُ دُونِی فَمَا الطَّلِبَهُ إِلَّا قِبَلَهُمْ- وَ إِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُکْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ إِنَّ مَعِی لَبَصِیرَتِی مَا لَبَسْتُ وَ لَا لُبِسَ عَلَیَّ- وَ إِنَّهَا لَلْفِئَهُ الْبَاغِیَهُ فِیهَا الْحَمَأُ وَ الْحُمَّهُ- وَ الشُّبْهَهُ الْمُغْدَفَهُ وَ إِنَّ الْأَمْرَ لَوَاضِحٌ- وَ قَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ- وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغْبِهِ- وَ ایْمُ اللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ- لَا یَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِیٍّ- وَ لَا یَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِی حِسْیٍ النصف الإنصاف قال الفرزدق-

و لکن نصفا لو سببت و سبنی
بنو عبد شمس من قریش و هاشم‏

و هو على حذف المضاف أی ذا نصف- أی حکما منصفا عادلا یحکم بینی و بینهم- و الطلبه بکسر اللام ما طلبته من شی‏ء- و لبست على فلان الأمر و لبس علیه الأمر- کلاهما بالتخفیف- .

و الحمأ الطین الأسود قال سبحانه- مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ- و حمه العقرب سمتها- أی فی هذه الفئه الباغیه الضلال و الفساد و الضرر- و إذا أرادت العرب أن تعبر عن الضلال و الفساد قالت الحم‏ء- مثله الحمأه بالتاء- و من أمثالهم ثأطه مدت بماء- یضرب للرجل یشتد موقه و جهله و الثأطه الحمأه- و إذا أصابها الماء ازدادت فسادا و رطوبه- .

و یروى فیها الحما بألف مقصوره و هو کنایه عن الزبیر- لأن کل ما کان بسبب الرجل فهم الأحماء واحدهم حما- مثل قفا و أقفاء- و ما کان بسبب المرأه فهم الأخاتن- فأما الأصهار فیجمع الجهتین جمعا- و کان الزبیر ابن عمه رسول الله ص- و قد کان النبی ص أعلم علیا- بأن فئه من المسلمین تبغی علیه أیام خلافته- فیها بعض زوجاته و بعض أحمائه- فکنى علی ع عن الزوجه بالحمه و هی سم العقرب- و یروى و الحم‏ء یضرب مثلا لغیر الطیب و لغیر الصافی- و ظهر أن الحم‏ء الذی أخبر النبی ص بخروجه- مع هؤلاء البغاه هو الزبیر ابن عمته- و فی الحمأ أربع لغات حما مثل قفا و حم‏ء مثل کم‏ء- و حمو مثل أبو و حم مثل أب- .

قوله ع و الشبهه المغدفه أی الخفیه- و أصله المرأه تغدف وجهها بقناعها أی تستره- و روی المغدفه بکسر الدال من أغدف اللیل أی أظلم- . و زاح الباطل أی بعد و ذهب و أزاحه غیره- . و عن نصابه عن مرکزه و مقره- و منه قول بعض المحدثین- .

قد رجع الحق إلى نصابه
و أنت من دون الورى أولى به‏

– و الشغب بالتسکین تهییج الشر- شغب الحقد بالفتح شغبا- و قد جاء بالتحریک فی لغه ضعیفه و ماضیها شغب بالکسر- .و لأفرطن لهم حوضا أی لأملأن- یقال أفرطت المزاده أی ملأتها و غدیر مفرط أی ملآن- . و الماتح بنقطتین من فوق المستقی من فوق- و بالیاء مالئ الدلاء من تحت- و العب الشرب بلا مص کما تشرب الدابه- وفی الحدیث الکباد من العب و الحسی ماء کامن فی رمل یحفر عنه فیستخرج و جمعه أحساء- .

یقول ع- و الله ما أنکروا علی أمرا هو منکر فی الحقیقه- و إنما أنکروا ما الحجه علیهم فیه لا لهم- و حملهم على ذلک الحسد- و حب الاستئثار بالدنیا و التفضیل فی العطاء- و غیر ذلک مما لم یکن أمیر المؤمنین ع یراه- و لا یستجیزه فی الدین- قال و لا جعلوا بینی و بینهم نصفا- یعنی وسیطا یحکم و ینصف- بل خرجوا عن الطاعه بغته- و إنهم لیطلبون حقا ترکوه- أی یظهرون أنهم یطلبون حقا بخروجهم إلى البصره- و قد ترکوا الحق بالمدینه- .

قال و دما هم سفکوه یعنی دم عثمان- و کان طلحه من أشد الناس تحریضا علیه- و کان الزبیر دونه فی ذلک- . روی أن عثمان قال- ویلی على ابن الحضرمیه یعنى طلحه- أعطیته کذا و کذا بهارا ذهبا- و هو یروم دمی یحرض على نفسی- اللهم لا تمتعه به و لقه عواقب بغیه- . و روى الناس الذین صنفوا فی واقعه الدار- أن طلحه کان یوم قتل عثمان مقنعا بثوب- قد استتر به عن أعین الناس- یرمی الدار بالسهام- و رووا أیضا- أنه لما امتنع على الذین‏ حصروه الدخول من باب الدار- حملهم طلحه إلى دار لبعض الأنصار- فأصعدهم إلى سطحها- و تسوروا منها على عثمان داره فقتلوه- .

و رووا أیضا أن الزبیر کان یقول- اقتلوه فقد بدل دینکم- فقالوا إن ابنک یحامی عنه بالباب- فقال ما أکره أن یقتل عثمان و لو بدئ بابنی- إن عثمان لجیفه على الصراط غدا- . و قال مروان بن الحکم یوم الجمل- و الله لا أترک ثأری و أنا أراه- و لأقتلن طلحه بعثمان فإنه قتله- ثم رماه بسهم فأصاب مأبضه فنزف الدم حتى مات- .

ثم قال ع إن کنت شریکهم فی دم عثمان- فإن لهم نصیبهم منه- فلا یجوز لهم أن یطلبوا بدمه و هم شرکاء فیه- و إن کانوا ولوه دونی فهم المطلوبون إذن به لا غیرهم- . و إنما لم یذکر القسم الثالث- و هو أن یکون هو ع ولیه دونهم- لأنه لم یقل به قائل- فإن الناس کانوا على قولین فی ذلک- أحدهما أن علیا و طلحه و الزبیر مسهم لطخ من عثمان- لا بمعنى أنهم باشروا قتله- بل بمعنى الإغراء و التحریض- و ثانیهما أن علیا ع بری‏ء من ذلک- و أن طلحه و الزبیر غیر بریئین منه- .

ثم قال و إن أول عدلهم للحکم على أنفسهم یقول- إن هؤلاء خرجوا و نقضوا البیعه- و قالوا إنما خرجنا للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر- و إظهار العدل و إحیاء الحق و إماته الباطل- و أول العدل أن یحکموا على أنفسهم- فإنه یجب على الإنسان أن یقضی على نفسه ثم على غیره- و إذا کان دم عثمان قبلهم- فالواجب أن ینکروا على أنفسهم قبل إنکارهم على غیرهم- .

قال و إن معی لبصیرتی أی عقلی- ما لبست على الناس أمرهم و لا لبس الأمر علی- أی لم یلبسه رسول الله ص علی بل أوضحه لی و عرفنیه- . ثم قال و إنها للفئه الباغیه- لام التعریف فی الفئه تشعر بأن نصا قد کان عنده- أنه ستخرج علیه فئه باغیه- و لم یعین له وقتها و لا کل صفاتها- بل بعض علاماتها- فلما خرج أصحاب الجمل- و رأى تلک العلامات موجوده فیهم قال- و إنها للفئه الباغیه أی و إن هذه الفئه- أی الفئه التی وعدت بخروجها علی- و لو لا هذا لقال و إنها لفئه باغیه على التنکیر- .

ثم ذکر بعض العلامات فقال إن الأمر لواضح- کل هذا یؤکد به عند نفسه و عند غیره- أن هذه الجماعه هی تلک الفئه الموعود بخروجها- و قد ذهب الباطل و زاح و خرس لسانه بعد شغبه- . ثم أقسم لیملأن لهم حوضا هو ماتحه- و هذه کنایه عن الحرب و الهیجاء- و ما یتعقبهما من القتل و الهلاک- لا یصدرون عنه بری- أی لیس کهذه الحیاض الحقیقیه التی إذا وردها الظمآن- صدر عن ری و نقع غلیله- بل لا یصدرون عنه إلا و هم جزر السیوف- و لا یعبون بعده فی حسی لأنهم هلکوا- فلا یشربون بعده البارد العذب- . و کان عمرو بن اللیث الصفار أمیر خراسان- أنفذ جیشا لمحاربه إسماعیل بن أحمد السامانی- فانکسر ذلک الجیش و عادوا إلى عمرو بن اللیث- فغضب و لقی القواد بکلام غلیظ- فقال له بعضهم أیها الأمیر- إنه قد طبخ لک مرجل عظیم- و إنما نلنا منه لهمه یسیره و الباقی مذخور لک- فعلام تترکه اذهب إلیهم فکله- فسکت عمرو بن اللیث عنه و لم یجب- .

و مرادنا من هذه المشابهه و المناسبه بین الکنایتین: مِنْهُ- فَأَقْبَلْتُمْ إِلَیَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِیلِ عَلَى أَوْلَادِهَا- تَقُولُونَ الْبَیْعَهَ الْبَیْعَهَ- قَبَضْتُ کَفِّی فَبَسَطْتُمُوهَا- وَ نَازَعْتُکُمْ یَدِی فَجَاذَبْتُمُوهَا- اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِی وَ ظَلَمَانِی- وَ نَکَثَا بَیْعَتِی وَ أَلَّبَا النَّاسَ عَلَیَّ- فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا وَ لَا تُحْکِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا- وَ أَرِهِمَا الْمَسَاءَهَ فِیمَا أَمَّلَا وَ عَمِلَا- وَ لَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ الْقِتَالِ- وَ اسْتَأْنَیْتُ بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ- فَغَمَطَا النِّعْمَهَ وَ رَدَّا الْعَافِیَهَ العوذ النوق الحدیثات النتاج- الواحده عائذ مثل حائل و حول- و قد یقال ذلک للخیل و الظباء- و یجمع أیضا على عوذان مثل راع و رعیان- و هذه عائذه بینه العئوذ- و ذلک إذا ولدت عن قریب- و هی فی عیاذها أی بحدثان نتاجها- .

و المطافیل جمع مطفل- و هی التی زال عنها اسم العیاذ و معها طفلها- و قد تسمى المطافیل عوذا إلى أن یبعد العهد بالنتاج مجازا- و على هذا الوجه قال أمیر المؤمنین إقبال العوذ المطافیل- و إلا فالاسمان معا لا یجتمعان حقیقه- و إذا زال الأول ثبت الثانی- . قوله و ألبا الناس علی أی حرضا- یقال حسود مؤلب- .

و استثبتهما بالثاء المعجمه بثلاث- طلبت منهما أن یثوبا أی یرجعا- و سمی المنزل مثابه لأن أهله ینصرفون فی أمورهم ثم یثوبون إلیه- و یروى و لقد استتبتهما- أی طلبت منهما أن یتوبا إلى الله- من ذنبهما فی نقض البیعه- . و استأنیت بهما من الإناءه و الانتظار- . و الوقاع بکسر الواو مصدر واقعتهم فی الحرب وقاعا- مثل نازلتهم نزالا و قاتلتهم قتالا- . و غمط فلان النعمه إذا حقرها و أزرى بها غمطا- و یجوز غمط النعمه بالکسر و المصدر غیر محرک- و یقال إن الکسر أفصح من الفتح- .

یقول ع- إنکم أقبلتم مزدحمین کما تقبل النوق إلى أولادها- تسألوننی البیعه فامتنعت علیکم- حتى علمت اجتماعکم فبایعتکم- ثم دعا علی على طلحه و الزبیر- بعد أن وصفهما بالقطیعه و النکث و التألیب علیه- بأن یحل الله تعالى ما عقدا- و ألا یحکم لهما ما أبرما- و أن یریهما المساءه فیما أملا و عملا- . فأما الوصف لهما بما وصفهما به- فقد صدق ع فیه و أما دعاؤه فاستجیب له- و المساءه التی دعا بها- هی مساءه الدنیا لا مساءه الآخره- فإن الله تعالى قد وعدهما على لسان رسوله بالجنه- و إنما استوجباها بالتوبه- التی ینقلها أصحابنا رحمهم الله فی کتبهم عنهما- و لولاها لکانا من الهالکین

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن‏ أبی ‏الحدید) ج ۹ 

بازدیدها: ۲۳

خطبه ۱۳۶ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۳۶ و من کلام له ع

لَمْ تَکُنْ بَیْعَتِکُمْ إِیَّایَ فَلْتَهً- وَ لَیْسَ أَمْرِی وَ أَمْرُکُمْ وَاحِداً- إِنِّی أُرِیدُکُمْ لِلَّهِ وَ أَنْتُمْ تُرِیدُونَنِی لِأَنْفُسِکُمْ- أَیُّهَا النَّاسُ أَعِینُونِی عَلَى أَنْفُسِکُمْ- وَ ایْمُ اللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ وَ لَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخَزَامَتِهِ- حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَ إِنْ کَانَ کَارِهاً الفلته الأمر یقع عن غیر تدبر و لا رویه- و فی الکلام تعریض ببیعه أبی بکر- و قد تقدم لنا فی معنى قول عمر- کانت بیعه أبی بکر فلته وقى الله شرها کلام- . و الخزامه حلقه من شعر تجعل فی أنف البعیر- و یجعل الزمام فیها- .

و أعینونی على أنفسکم خذوها بالعدل- و أقنعوها عن اتباع الهوى- و اردعوها بعقولکم عن المسالک التی تردیها و توبقها- فإنکم إذا فعلتم ذلک أعنتمونی علیها- لأنی أعظکم و آمرکم بالمعروف- و أنهاکم عن المنکر- فإذا کبحتم أنفسکم بلجام العقل الداعی إلى ما أدعو إلیه- فقد أعنتمونی علیها- . فإن قلت ما معنى قوله أریدکم لله و تریدوننی لأنفسکم- .

قلت لأنه لا یرید من طاعتهم له- إلا نصره دین الله و القیام بحدوده و حقوقه- و لا یریدهم لحظ نفسه- و أما هم فإنهم یریدونه- لحظوظ أنفسهم من العطاء و التقریب- و الأسباب الموصله إلى منافع الدنیا- . و هذا الخطاب منه ع لجمهور أصحابه- فأما الخواص منهم- فإنهم کانوا یریدونه للأمر الذی یریدهم له- من إقامه شرائع الدین و إحیاء معالمه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی‏ الحدید) ج ۹ 

بازدیدها: ۱۵

خطبه ۱۳۵ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۳۵ و من کلام له ع- و قد وقعت بینه و بین عثمان مشاجره

فقال المغیره بن الأخنس لعثمان- أنا أکفیکه فقال أمیر المؤمنین ع للمغیره- : یَا ابْنَ اللَّعِینِ الْأَبْتَرِ- وَ الشَّجَرَهِ الَّتِی لَا أَصْلَ لَهَا وَ لَا فَرْعَ- أَنْتَ تَکْفِینِی- فَوَاللَّهِ مَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ- وَ لَا قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ- اخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللَّهُ نَوَاکَ ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَکَ- فَلَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَیْکَ إِنْ أَبْقَیْتَ هو المغیره بن الأخنس بن شریق- بن عمرو بن وهب بن علاج- بن أبی سلمه الثقفی حلیف بنی زهره- و إنما قال له أمیر المؤمنین ع یا ابن اللعین- لأن الأخنس بن شریق کان من أکابر المنافقین- ذکره أصحاب الحدیث کلهم فی المؤلفه قلوبهم- الذین أسلموا یوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم- و أعطاه رسول الله ص مائه من الإبل- من غنائم حنین یتألف بها قلبه- و ابنه أبو الحکم بن الأخنس- قتله أمیر المؤمنین ع یوم أحد کافرا فی الحرب- و هو أخو المغیره هذا- و الحقد الذی فی قلب المغیره علیه من هذه الجهه- و إنما قال له یا ابن الأبتر- لأن من کان عقبه ضالا خبیثا- فهو کمن لا عقب له بل من لا عقب له خیر منه- و یروى و لا أقام من أنت منهضه بالهمزه- . و یروى أبعد الله نوءک من أنواء النجوم- التی کانت العرب تنسب المطر إلیها- و کانوا إذا دعوا على إنسان- قالوا أبعد الله نوءک أی خیرک- .

و الجهد بالفتح الغایه- و یقال قد جهد فلان جهده بالفتح- لا یجوز غیر ذلک أی انتهى إلى غایته- و قد روی أن رسول الله ص لعن ثقیفا- . وروی أنه ع قال لو لا عروه بن مسعود للعنت ثقیفا- . و روى الحسن البصری- أن رسول الله ص لعن ثلاث بیوت- بیتان من مکه و هما بنو أمیه و بنو المغیره- و بیت من الطائف و هم ثقیف- .

وفی الخبر المشهور المرفوع و قد ذکر ثقیفا- بئست القبیله یخرج منها کذاب و مبیر- فکان کما قال ص الکذاب المختار و المبیر الحجاج- . و اعلم أن هذا الکلام لم یکن بحضره عثمان- و لکن عوانه روى عن إسماعیل بن أبی خالد عن الشعبی- أن عثمان لما کثرت شکایته من علی ع أقبل- لا یدخل إلیه من أصحاب رسول الله ص أحد إلا شکا إلیه علیا- فقال له زید بن ثابت الأنصاری- و کان من شیعته و خاصته- أ فلا أمشی إلیه فأخبره بموجدتک فیما یأتی إلیک- قال بلى- فأتاه زید و معه المغیره بن الأخنس بن شریق الثقفی- و عداده فی بنی زهره و أمه عمه عثمان بن عفان فی جماعه- فدخلوا علیه فحمد زید الله و أثنى علیه- ثم قال أما بعد فإن الله قدم لک سلفا صالحا فی الإسلام- و جعلک من الرسول بالمکان الذی أنت به- فأنت للخیر کل الخیر أهل- و أمیر المؤمنین عثمان ابن عمک- و والی هذه الأمه فله علیک حقان- حق الولایه و حق القرابه- و قد شکا إلینا أن علیا یعرض لی- و یرد أمری علی و قد مشینا إلیک نصیحه لک- و کراهیه أن یقع بینک- و بین ابن عمک أمر نکرهه لکما- .

قال فحمد علی ع الله- و أثنى علیه و صلى على رسوله- ثم قال أما بعد فو الله ما أحب الاعتراض و لا الرد علیه- إلا أن یأبى حقا لله لا یسعنی أن أقول فیه إلا بالحق- و و الله لأکفن عنه ما وسعنی الکف- .فقال المغیره بن الأخنس و کان رجلا وقاحا- و کان من شیعه عثمان و خلصائه- إنک و الله لتکفن عنه أو لتکفن- فإنه أقدر علیک منک علیه- و إنما أرسل هؤلاء القوم من المسلمین إعزازا- لتکون له الحجه عندهم علیک- فقال له علی ع یا ابن اللعین الأبتر- و الشجره التی لا أصل لها و لا فرع- أنت تکفنی فو الله ما أعز الله امرأ أنت ناصره- اخرج أبعد الله نواک- ثم اجهد جهدک- فلا أبقى الله علیک و لا على أصحابک إن أبقیتم- .

فقال له زید- إنا و الله ما جئناک لنکون علیک شهودا- و لا لیکون ممشانا إلیک حجه- و لکن مشینا فیما بینکما التماس الأجر- أن یصلح الله ذات بینکما- و یجمع کلمتکما ثم دعا له و لعثمان و قام فقاموا معه- . و هذا الخبر یدل على أن اللفظه أنت تکفنی- و لیست کما ذکره الرضی رحمه الله أنت تکفینی- لکن الرضا طبق هذه اللفظه على ما قبلها- و هو قوله أنا أکفیکه- و لا شبهه أنها روایه أخرى

فصل فی نسب ثقیف و طرف من أخبارهم

و إنما قال له و الشجره التی لا أصل لها و لا فرع- لأن ثقیفا فی نسبها طعن- فقال قوم من النسابین إنهم من هوازن- و هو القول الذی تزعمه الثقفیون- قالوا هو ثقیف و اسمه قسی بن منبه بن بکر- بن هوازن بن منصور بن عکرمه- بن خصفه بن قیس بن عیلان بن مضر- و على هذا القول جمهور الناس- . و یزعم آخرون- أن ثقیفا من إیاد بن نزار بن معد بن عدنان- و أن النخع أخوه لأبیه‏ و أمه- ثم افترقا فصار أحدهما فی عداد هوازن- و الآخر فی عداد مذحج بن مالک- بن زید بن عریب بن زید بن کهلان- بن سبإ بن یشجب بن یعرب بن قحطان- . و قد روى أبو العباس المبرد فی الکامل- لأخت الأشتر مالک بن الحارث النخعی تبکیه-

أ بعد الأشتر النخعی نرجو
مکاثره و نقطع بطن واد

و نصحب مذحجا بإخاء صدق‏
و أن ننسب فنحن ذرا إیاد

ثقیف عمنا و أبو أبینا
و إخوتنا نزار أولو السداد

قال أبو العباس و هجا یحیى بن نوفل- و کان هجاء خبیث اللسان- العریان بن الهیثم بن الأسود النخعی- و قد کان العریان تزوج امرأه اسمها زباد- مبنی على الکسر- و الزای مفتوحه بعدها باء منقوطه بواحده- و هی من ولد هانئ بن قبیصه الشیبانی- و کانت قبله تحت الولید بن عبد الملک بن مروان- فطلقها فأنکحها إیاه أخ لها یقال له زیاد- فقال یحیى بن نوفل

أ عریان ما یدری امرؤ سیل عنکم
أ من مذحج تدعون أم من إیاد

فإن قلتم من مذحج إن مذحجا
لبیض الوجوه غیر جد جعاد

و أنتم صغار الهام حدل کأنما
وجوهکم مطلیه بمداد

و إن قلتم الحی الیمانون أصلنا
و ناصرنا فی کل یوم جلاد

فأطول بأیر من معد و نزوه
نزت بإیاد خلف دار مراد

ضللتم کما ضلت ثقیف فما لکم‏
و لا لهم بین القبائل هاد

لعمر بنی شیبان إذ ینکحونه
زباد لقد ما قصروا بزباد

أ بعد ولید أنکحوا عبد مذحج
کمنزیه عیرا خلاف جواد

و أنکحها لا فی کفاء و لا غنى‏
زیاد أضل الله سعی زیاد

 قال أبو العباس و کان المغیره بن شعبه- و هو والی الکوفه صار إلى دیر هند بنت النعمان بن المنذر- و هی فیه عمیاء مترهبه- فاستأذن علیها فقیل لها أمیر هذه المدره بالباب- قالت قولوا له- من ولد جبله بن الأیهم أنت قال لا- قالت أ فمن ولد المنذر بن ماء السماء أنت- قال لا قالت فمن أنت- قال أنا المغیره بن شعبه الثقفی- قالت فما حاجتک- قال جئت خاطبا- قالت لو کنت جئتنی لجمال أو حال لأطلبنک- و لکن أردت أن تتشرف بی فی محافل العرب- فتقول نکحت ابنه النعمان بن المنذر- و إلا فأی خیر فی اجتماع أعور و عمیاء- فبعث إلیها کیف کان أمرکم- قالت سأختصر لک الجواب- أمسینا و لیس فی الأرض عربی إلا- و هو یرهبنا أو یرغب إلینا- و أصبحنا و لیس فی الأرض عربی- إلا و نحن نرهبه و نرغب إلیه- قال فما کان أبوک یقول فی ثقیف- قالت أذکر و قد اختصم إلیه رجلان منهم- أحدهما ینتهی إلى إیاد- و الآخر إلى هوازن- فقضى للإیادی و قال-

إن ثقیفا لم تکن هوازنا
و لم تناسب عامرا أو مازنا

فقال المغیره أما نحن فمن بکر بن هوازن- فلیقل أبوک ما شاء ثم انصرف- . و قال قوم آخرون- إن ثقیفا من بقایا ثمود- من العرب القدیمه التی بادت و انقرضت- .

قال أبو العباس- و قد قال الحجاج على المنبر- یزعمون أنا من بقایا ثمود- فقد کذبهم الله بقوله وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى‏- . و قال مره أخرى و لئن کنا من بقایا ثمود- لما نجا مع صالح إلا خیارهم- . و قال الحجاج یوما لأبی العسوس الطائی- أی أقدم أ نزول ثقیف الطائف- أم نزول طیئ الجبلین- فقال له أبو العسوس- إن کانت ثقیف من بکر بن هوازن- فنزول طیئ الجبلین قبلها- و إن کانت من بقایا ثمود فهی أقدم- فقال الحجاج- اتقنی فإنی سریع الخطفه للأحمق المتهور- فقال أبو العسوس- قال أبو العباس- و کان أعرابیا قحا إلا أنه لطیف الطبع- و کان الحجاج یمازحه-

یؤدبنی الحجاج تأدیب أهله
فلو کنت من أولاد یوسف ما عدا

و إنی لأخشى ضربه ثقفیه
یقد بها ممن عصاه المقلدا

على أننی مما أحاذر آمن
إذا قیل یوما قد عصى المرء و اعتدى‏

 و قتل المغیره بن الأخنس مع عثمان یوم الدار- و قد ذکرنا مقتله فیما تقدمتم الجزء الثامن- من شرح نهج البلاغه و یلیه الجزء التاسع

 الجزء التاسع

تتمه الخطب و الأوامر

تتمه خطبه ۱۳۵

ذکر أطراف مما شجر بین علی و عثمان فی أثناء خلافته

و اعلم أن هذا الکتاب یستدعی منا- أن نذکر أطرافا مما شجر بین أمیر المؤمنین ع و عثمان- أیام خلافته- إذ کان هذا الکلام الذی شرحناه من ذلک النمط- و الشی‏ء یذکر بنظیره- و عادتنا فی هذا الشرح أن نذکر الشی‏ء مع ما یناسبه- و یقتضی ذکره- . قال أحمد بن عبد العزیز الجوهری- فی کتاب أخبار السقیفه- حدثنی محمد بن منصور الرمادی عن عبد الرزاق- عن معمر عن زیاد بن جبل- عن أبی کعب الحارثی و هو ذو الإداوه- قال أبو بکر أحمد بن عبد العزیز- و إنما سمی ذا الإداوه لأنه قال- إنی خرجت فی طلب إبل ضوال- فتزودت لبنا فی إداوه- ثم قلت فی نفسی ما أنصفت ربی فأین الوضوء- فأرقت اللبن و ملأتها ماء فقلت هذا وضوء و شراب- و طفقت أبغی إبلی- فلما أردت الوضوء اصطببت من الإداوه ماء فتوضأت- ثم أردت الشرب فلما اصطببتها إذا لبن فشربت- فمکثت بذلک ثلاثا فقالت‏له أسماء النحرانیه- یا أبا کعب أ حقینا کان أم حلیبا-

قال إنک لبطاله کان یعصم من الجوع و یروی من الظمأ- أما إنی حدثت بهذا نفرا من قومی- منهم علی بن الحارث سید بنی قنان فلم یصدقنی- و قال ما أظن الذی تقول کما قلت- فقلت الله أعلم بذلک و رجعت إلى منزلی- فبت لیلتی تلک فإذا به صلاه الصبح على بابی- فخرجت إلیه فقلت رحمک الله لم تعنیت- ألا أرسلت إلی فآتیک- فإنی لأحق بذلک منک- قال ما نمت اللیله إلا أتانی آت- فقال أنت الذی تکذب من یحدث بما أنعم الله علیه- قال أبو کعب ثم خرجت حتى أتیت المدینه فأتیت عثمان بن عفان و هو الخلیفه یومئذ- فسألته عن شی‏ء من أمر دینی- و قلت یا أمیر المؤمنین- إنی رجل من أهل الیمن من بنی الحارث بن کعب- و إنی أرید أن أسألک فأمر حاجبک ألا یحجبنی- فقال یا وثاب إذا جاءک هذا الحارثی فأذن له- قال فکنت إذا جئت فقرعت الباب- قال من ذا فقلت الحارثی- فیقول ادخل فدخلت یوما فإذا عثمان جالس- و حوله نفر سکوت لا یتکلمون- کأن على رءوسهم الطیر فسلمت ثم جلست- فلم أسأله عن شی‏ء لما رأیت من حالهم و حاله- فبینا أنا کذلک إذ جاء نفر- فقالوا إنه أبى أن یجی‏ء- قال فغضب و قال أبى أن یجی‏ء- اذهبوا فجیئوا به فإن أبى فجروه جرا- .

قال فمکثت قلیلا- فجاءوا و معهم رجل آدم طوال أصلع- فی مقدم رأسه شعرات و فی قفاه شعرات- فقلت من هذا قالوا عمار بن یاسر- فقال له عثمان أنت الذی تأتیک رسلنا فتأبى أن تجی‏ء- قال فکلمه بشی‏ء لم أدر ما هو ثم خرج- فما زالواینفضون من عنده حتى ما بقی غیری فقام- فقلت و الله لا أسأل عن هذا الأمر أحدا أقول حدثنی فلان- حتى أدری ما یصنع- فتبعته حتى دخل المسجد- فإذا عمار جالس إلى ساریه- و حوله نفر من أصحاب رسول الله ص یبکون- فقال عثمان یا وثاب علی بالشرط- فجاءوا فقال فرقوا بین هؤلاء ففرقوا بینهم- . ثم أقیمت الصلاه فتقدم عثمان فصلى بهم- فلما کبر قالت امرأه من حجرتها یا أیها الناس ثم تکلمت- و ذکرت رسول الله ص و ما بعثه الله به- ثم قالت ترکتم أمر الله و خالفتم عهده… و نحو هذا- ثم صمتت و تکلمت امرأه أخرى بمثل ذلک- فإذا هما عائشه و حفصه- .

قال فسلم عثمان ثم أقبل على الناس و قال- إن هاتین لفتانتان یحل لی سبهما- و أنا بأصلهما عالم- . فقال له سعد بن أبی وقاص- أ تقول هذا لحبائب رسول الله ص فقال و فیم أنت و ما هاهنا- ثم أقبل نحو سعد عامدا لیضربه فانسل سعد- . فخرج من المسجد- فاتبعه عثمان فلقی علیا ع بباب المسجد- فقال له ع أین ترید- قال أرید هذا الذی کذا و کذا یعنی سعدا یشتمه- فقال له علی ع أیها الرجل دع عنک هذا- قال فلم یزل بینهما کلام حتى غضبا- فقال عثمان أ لست الذی خلفک رسول الله ص له یوم تبوک فقال علی أ لست الفار عن رسول الله ص یوم أحد- . قال ثم حجز الناس بینهما- قال ثم خرجت من المدینه حتى انتهیت إلى الکوفه- فوجدت أهلها أیضا وقع بینهم شر و نشبوا فی الفتنه- و ردوا سعید بن العاص فلم یدعوه یدخل إلیهم- فلما رأیت ذلک رجعت حتى أتیت بلاد قومی- .

و روى الزبیر بن بکار فی کتاب الموفقیات- عن عمه عن عیسى بن داود عن رجاله قال- قال ابن عباس رحمه الله لما بنى عثمان داره بالمدینه- أکثر الناس علیه فی ذلک فبلغه- فخطبنا فی یوم جمعه ثم صلى بنا- ثم عاد إلى المنبر فحمد الله و أثنى علیه- و صلى على رسوله ثم قال أما بعد- فإن النعمه إذا حدثت حدث لها حساد حسبها و أعداء قدرها- و إن الله لم یحدث لنا نعما لیحدث لها حساد علیها- و منافسون فیها- و لکنه قد کان من بناء منزلنا هذا- ما کان إراده جمع المال فیه و ضم القاصیه إلیه- فأتانا عن أناس منکم أنهم یقولون- أخذ فیئنا و أنفق شیئنا- و استأثر بأموالنا یمشون خمرا و ینطقون سرا- کأنا غیب عنهم و کأنهم یهابون مواجهتنا- معرفه منهم بدحوض حجتهم- فإذ غابوا عنا یروح بعضهم إلى بعض یذکرنا- و قد وجدوا على ذلک أعوانا من نظرائهم- و مؤازرین من شبابهم فبعدا بعدا و رغما رغما- ثم أنشد بیتین کأنه یومئ فیهما إلى علی ع- .

توقد بنار أینما کنت و اشتعل
فلست ترى مما تعالج شافیا

تشط فیقضی الأمر دونک أهله‏
وشیکا و لا تدعى إذا کنت نائیا

ما لی و لفیئکم و أخذ مالکم- أ لست من أکثر قریش مالا و أظهرهم من الله نعمه- أ لم أکن على ذلک قبل الإسلام و بعده- و هبونی بنیت منزلا من بیت المال- أ لیس هو لی و لکم أ لم أقم أمورکم- و إنی من وراء حاجاتکم فما تفقدون من حقوقکم شیئا- فلم لا أصنع فی الفضل ما أحببت- فلم کنت إماما إذا- . ألا و إن من أعجب العجب- أنه بلغنی عنکم أنکم تقولون لنفعلن به و لنفعلن- فبمن تفعلون لله آباؤکم- أ بنقد البقاع أم بفقع القاع- أ لست أحراکم إن دعا أن یجاب- و أقمنکم إن أمر أن یطاع-لهفی على بقائی فیکم بعد أصحابی- و حیاتی فیکم بعد أترابی یا لیتنی تقدمت قبل هذا- لکنی لا أحب خلاف ما أحبه الله لی عز و جل- إذا شئتم فإن الصادق المصدق محمدا ص- قد حدثنی بما هو کائن من أمری و أمرکم- و هذا بدء ذلک و أوله- فکیف الهرب مما حتم و قدر- أما إنه ع قد بشرنی فی آخر حدیثه بالجنه دونکم- إذا شئتم فلا أفلح من ندم- .

قال ثم هم بالنزول فبصر بعلی بن أبی طالب ع- و معه عمار بن یاسر رضی الله عنه- و ناس من أهل هواه یتناجون- فقال إیها إیها أ سرارا لا جهارا- أما و الذی نفسی بیده ما أحنق على جره- و لا أوتى من ضعف مره- و لو لا النظر لی و لکم و الرفق بی و بکم لعاجلتکم- فقد اغتررتم و أفلتم من أنفسکم- . ثم رفع یدیه یدعو و یقول- اللهم قد تعلم حبی للعافیه فألبسنیها- و إیثاری للسلامه فآتنیها- . قال فتفرق القوم عن علی ع- و قام عدی بن الخیار فقال- أتم الله علیک یا أمیر المؤمنین النعمه و زادک فی الکرامه- و الله لأن تحسد أفضل من أن تحسد- و لأن تنافس أجل من أن تنافس- أنت و الله فی حسبنا الصمیم و منصبنا الکریم- إن دعوت أجبت- و إن أمرت أطعت فقل نفعل و ادع تجب- جعلت الخیره و الشورى إلى أصحاب رسول الله ص- لیختاروا لهم و لغیرهم- و إنهم لیرون مکانک و یعرفون مکان غیرک- فاختاروک منیبین طائعین غیر مکرهین و لا مجبرین- ما غیرت و لا فارقت و لا بدلت و لا خالفت- فعلام یقدمون علیک و هذا رأیهم فیک- أنت و الله کما قال الأول

اذهب إلیک فما للحسود
إلا طلابک تحت العثار

حکمت فما جرت فی خله
فحکمک بالحق بادی المنار

فإن یسبعوک فسرا و قد
جهرت بسیفک کل الجهار

قال و نزل عثمان فأتى منزله- و أتاه الناس و فیهم ابن عباس- فلما أخذوا مجالسهم أقبل على ابن عباس- فقال ما لی و لکم یا ابن عباس- ما أغراکم بی و أولعکم بتعقب أمری- أ تنقمون علی أمر العامه- أتیت من وراء حقوقهم أم أمرکم- فقد جعلتهم یتمنون منزلتکم- لا و الله لکن الحسد و البغی- و تثویر الشر و إحیاء الفتن- و الله لقد ألقى النبی ص إلی ذلک- و أخبرنی به عن أهله واحدا واحدا- و الله ما کذبت و لا أنا بمکذوب- .

فقال ابن عباس على رسلک یا أمیر المؤمنین- فو الله ما عهدتک جهرا بسرک- و لا مظهرا ما فی نفسک فما الذی هیجک و ثورک- إنا لم یولعنا بک أمر و لم نتعقب أمرک بشی‏ء- أتیت بالکذب و تسوف علیک بالباطل- و الله ما نقمنا علیک لنا و لا للعامه- قد أوتیت من وراء حقوقنا و حقوقهم- و قضیت ما یلزمک لنا و لهم- فأما الحسد و البغی و تثویر الفتن و إحیاء الشر- فمتى رضیت به عتره النبی و أهل بیته- و کیف و هم منه و إلیه على دین الله یثورون الشر أم على الله یحیون الفتن- کلا لیس البغی و لا الحسد من طباعهم- فاتئد یا أمیر المؤمنین و أبصر أمرک و أمسک علیک- فإن حالتک الأولى خیر من حالتک الأخرى- لعمری إن کنت لأثیرا عند رسول الله- و إن کان یفضی إلیک بسره ما یطویه عن غیرک- و لا کذبت و لا أنت بمکذوب- اخسأ الشیطان عنک و لا یرکبک- و اغلب غضبک و لا یغلبک- فما دعاک إلى هذا الأمر الذی کان منک- .

قال دعانی إلیه ابن عمک علی بن أبی طالب- فقال ابن عباس و عسى أن یکذب مبلغک- قال عثمان إنه ثقه- قال ابن عباس إنه لیس بثقه من بلغ و أغرى- قال عثمان یا ابن عباس- آلله إنک ما تعلم من علی ما شکوت منه- قال اللهم لا إلا أن یقول کما یقول الناس و ینقم کما ینقمون- فمن أغراک به و أولعک بذکره دونهم- فقال عثمان إنما آفتی من أعظم الداء- الذی ینصب نفسه لرأس الأمر و هو علی ابن عمک- و هذا و الله کله من نکده و شؤمه- قال ابن عباس مهلا استثن یا أمیر المؤمنین- قل إن شاء الله فقال إن شاء الله- ثم قال إنی أنشدک یا ابن عباس الإسلام و الرحم- فقد و الله غلبت و ابتلیت بکم- و الله لوددت أن هذا الأمر کان صار إلیکم دونی- فحملتموه عنی- و کنت أحد أعوانکم علیه- إذا و الله لوجدتمونی لکم خیرا مما وجدتکم لی- و لقد علمت أن الأمر لکم- و لکن قومکم دفعوکم عنه و اختزلوه دونکم- فو الله ما أدری أ دفعوه عنکم أم دفعوکم عنه- .

قال ابن عباس مهلا یا أمیر المؤمنین- فإنا ننشدک الله و الإسلام و الرحم مثل ما نشدتنا- أن تطمع فینا و فیک عدوا- و تشمت بنا و بک حسودا- إن أمرک إلیک ما کان قولا- فإذا صار فعلا فلیس إلیک و لا فی یدیک- و إنا و الله لنخالفن إن خولفنا- و لننازعن إن نوزعنا- و ما تمنیک أن یکون الأمر صار إلینا دونک- إلا أن یقول قائل منا ما یقوله الناس- و یعیب کما عابوا- فأما صرف قومنا عنا الأمر- فعن حسد قد و الله عرفته و بغی قد و الله علمته- فالله بیننا و بین قومنا- و أما قولک إنک لا تدری أ دفعوه عنا أم دفعونا عنه- فلعمری إنک لتعرف أنه لو صار إلینا هذا الأمر- ما زدنا به فضلا إلى فضلنا و لا قدرا إلى قدرنا- و إنا لأهل الفضل و أهل القدر- و ما فضل فاضل إلا بفضلنا و لا سبق سابق إلا بسبقنا- و لو لا هدینا ما اهتدى أحد- و لا أبصروا من عمى و لا قصدوا من جور- .

فقال عثمان حتى متى یا ابن عباس- یأتینی عنکم ما یأتینی هبونی کنت بعیدا- أ ما کان لی من الحق علیکم أن أراقب و أن أناظر- بلى و رب الکعبه و لکن الفرقهسهلت لکم القول فی- و تقدمت بکم إلى الإسراع إلی و الله المستعان- . قال ابن عباس مهلا حتى ألقى علیا- ثم أحمل إلیک على قدر ما رأى- قال عثمان افعل فقد فعلت- و طالما طلبت فلا أطلب و لا أجاب و لا أعتب- . قال ابن عباس فخرجت فلقیت علیا- و إذا به من الغضب و التلظی أضعاف ما بعثمان- فأردت تسکینه فامتنع- فأتیت منزلی و أغلقت بابی و اعتزلتهما- فبلغ ذلک عثمان فأرسل إلی- فأتیته و قد هدأ غضبه فنظر إلی ثم ضحک- و قال یا ابن عباس ما أبطأ بک عنا- إن ترکک العود إلینا لدلیل على ما رأیت عند صاحبک- و عرفت من حاله فالله بیننا و بینه- خذ بنا فی غیر ذلک- .

قال ابن عباس- فکان عثمان بعد ذلک إذا أتاه عن علی شی‏ء- فأردت التکذیب عنه یقول- و لا یوم الجمعه حین أبطأت عنا و ترکت العود إلینا- فلا أدری کیف أرد علیه- . و روى الزبیر بن بکار أیضا فی الموفقیات- عن ابن عباس رحمه الله قال- خرجت من منزلی سحرا أسابق إلى المسجد و أطلب الفضیله- فسمعت خلفی حسا و کلاما فتسمعته- فإذا حس عثمان و هو یدعو و لا یرى أن أحدا یسمعه- و یقول اللهم قد تعلم نیتی فأعنی علیهم- و تعلم الذین ابتلیت بهم من ذوی رحمی و قرابتی- فأصلحنی لهم و أصلحهم لی- . قال فقصرت من خطوتی و أسرع فی مشیته- فالتقینا فسلم فرددت علیه فقال- إنی خرجت لیلتنا هذه أطلب الفضل و المسابقه إلى المسجد- فقلت إنه أخرجنی ما أخرجک فقال و الله لئن سابقت إلى الخیر- إنک لمن سابقین مبارکین- و إنی لأحبکم و أتقرب إلى الله بحبکم- فقلت یرحمک الله یا أمیر المؤمنین- إنا لنحبک و نعرف سابقتک و سنک و قرابتک و صهرک- قال یا ابن عباس فما لی و لابن عمک و ابن خالی- قلت أی بنی عمومتی و بنی أخوالک- قال اللهم اغفر أ تسأل مسأله الجاهل- .

قلت إن بنی عمومتی من بنی خئولتک کثیر- فأیهم تعنی قال أعنی علیا لا غیره- فقلت لا و الله یا أمیر المؤمنین- ما أعلم منه إلا خیرا و لا أعرف له إلا حسنا- قال و الله بالحری أن یستر دونک ما یظهره لغیرک- و یقبض عنک ما ینبسط به إلى سواک- . قال و رمینا بعمار بن یاسر فسلم فرددت علیه سلامه- ثم قال من معک قلت أمیر المؤمنین عثمان قال نعم- و سلم بکنیته و لم یسلم علیه بالخلافه فرد علیه- ثم قال عمار ما الذی کنتم فقد سمعت ذروا منه- قلت هو ما سمعت فقال عمار رب مظلوم غافل و ظالم متجاهل- قال عثمان أما إنک من شنائنا و أتباعهم- و ایم الله إن الید علیک لمنبسطه- و إن السبیل إلیک لسهله و لو لا إیثار العافیه- و لم الشعث لزجرتک زجره تکفی ما مضى و تمنع ما بقی- . فقال عمار و الله ما أعتذر من حبی علیا- و ما الید بمنبسطه و لا السبیل بسهله- إنی لازم حجه و مقیم على سنه- و أما إیثارک العافیه و لم الشعث فلازم ذلک- و أما زجری فأمسک عنه فقد کفاک معلمی تعلیمی- فقال عثمان- أما و الله إنک ما علمت من أعوان الشر الحاضین علیه- الخذله عند الخیر و المثبطین عنه- فقال عمار مهلا یا عثمان- فقد سمعت رسول الله ص یصفنی بغیر ذلک قال عثمان و متى قال یوم دخلت علیه منصرفه عن الجمعه- و لیس عنده غیرک و قد ألقى ثیابه و قعد فی فضله- فقبلت صدره و نحره و جبهته- فقال یا عمار إنک لتحبنا و إنا لنحبک- و إنک لمن الأعوان على الخیر المثبطین عن الشر- فقال عثمان أجل و لکنک غیرت و بدلت- قال فرفع عمار یده یدعو و قال أمن یا ابن عباس- اللهم من غیر فغیر به ثلاث مرات- .

قال و دخلنا المسجد فأهوى عمار إلى مصلاه- و مضیت مع عثمان إلى القبله-فدخل المحراب و قال تلبث علی إذا انصرفنا- فلما رآنی عمار وحدی أتانی- فقال أ ما رأیت ما بلغ بی آنفا- قلت أما و الله لقد أصعبت به و أصعب بک- و إن له لسنه و فضله و قرابته قال إن له لذلک- و لکن لا حق لمن لا حق علیه و انصرف- . و صلى عثمان و انصرفت معه یتوکأ علی- فقال هل سمعت ما قال عمار قلت نعم- فسرنی ذلک و ساءنی- أما مساءته إیای فما بلغ بک- و أما مسرته لی فحلمک و احتمالک- فقال إن علیا فارقنی منذ أیام على المقاربه- و إن عمارا آتیه فقائل له و قائل فابدره إلیه- فإنک أوثق عنده منه و أصدق قولا- فألق الأمر إلیه على وجهه فقلت نعم- .

و انصرفت أرید علیا ع فی المسجد فإذا هو خارج منه- فلما رآنی تفجع لی من فوت الصلاه و قال ما أدرکتها قلت بلى- و لکنی خرجت مع أمیر المؤمنین ثم اقتصصت علیه القصه- فقال أما و الله یا ابن عباس- إنه لیقرف قرحه لیحورن علیه ألمها- فقلت إن له سنه و سابقته و قرابته و صهره- قال إن ذلک له و لکن لا حق لمن لا حق علیه- . قال ثم رهقنا عمار فبش به علی و تبسم فی وجهه و سأله- فقال عمار یا ابن عباس- هل ألقیت إلیه ما کنا فیه قلت نعم- قال أما و الله إذا لقد قلت بلسان عثمان و نطقت بهواه- قلت ما عدوت الحق جهدی و لا ذلک من فعلی- و إنک لتعلم أی الحظین أحب إلی- و أی الحقین أوجب علی- .

قال فظن علی أن عند عمار غیر ما ألقیت إلیه- فأخذ بیده و ترک یدی فعلمت أنه یکره مکانی- فتخلفت عنهما و انشعب بنا الطریق- فسلکاه و لم یدعنی فانطلقت إلى منزلی- فإذا رسول عثمان یدعونی فأتیته- فأجد ببابه مروان و سعید بن العاص- .فی رجال من بنی أمیه- فأذن لی و ألطفنی و قربنی و أدنى مجلسی- ثم قال ما صنعت فأخبرته بالخبر على وجهه و ما قال الرجل- و قلت له و کتمته قوله- إنه لیقرف قرحه لیحورن علیه ألمها- إبقاء علیه و إجلالا له- و ذکرت مجی‏ء عمار و بش علی له- و ظن علی أن قبله غیر ما ألقیت علیه و سلوکهما حیث سلکا- قال و فعلا قلت نعم فاستقبل القبله- ثم قال اللهم رب السموات و الأرض- عالم الغیب و الشهاده الرحمن الرحیم- أصلح لی علیا و أصلحنی له- أمن یا ابن عباس فأمنت- ثم تحدثنا طویلا و فارقته و أتیت منزلی- .

و روى الزبیر بن بکار أیضا فی الکتاب المذکور- عن عبد الله بن عباس قال ما سمعت من أبی شیئا قط- فی أمر عثمان یلومه فیه و لا یعذره- و لا سألته عن شی‏ء من ذلک- مخافه أن أهجم منه على ما لا یوافقه- فإنا عنده لیله و نحن نتعشى- إذ قیل هذا أمیر المؤمنین عثمان بالباب- فقال ائذنوا له فدخل فأوسع له على فراشه- و أصاب من العشاء معه- فلما رفع قام من کان هناک و ثبت أنا- فحمد عثمان الله و أثنى علیه ثم قال أما بعد یا خال- فإنی قد جئتک أستعذرک من ابن أخیک علی- سبنی و شهر أمری و قطع رحمی و طعن فی دینی- و إنی أعوذ بالله منکم یا بنی عبد المطلب- إن کان لکم حق تزعمون أنکم غلبتم علیه- فقد ترکتموه فی یدی من فعل ذلک بکم- و أنا أقرب إلیکم رحما منه- و ما لمت منکم أحدا إلا علیا- و لقد دعیت أن أبسط علیه فترکته لله و الرحم- و أنا أخاف ألا یترکنی فلا أترکه- .

قال ابن عباس فحمد أبی الله و أثنى علیه- ثم قال أما بعد یا ابن أختی- فإن کنت لا تحمد علیا لنفسک فإنی لا أحمدک لعلی- و ما علی وحده قال فیک بل غیره- فلو أنک‏اتهمت نفسک للناس اتهم الناس أنفسهم لک- و لو أنک نزلت مما رقیت و ارتقوا مما نزلوا- فأخذت منهم و أخذوا منک ما کان بذلک بأس- قال عثمان فذلک إلیک یا خال و أنت بینی و بینهم- قال أ فأذکر لهم ذلک عنک قال نعم و انصرف- فما لبثنا أن قیل هذا أمیر المؤمنین قد رجع بالباب- قال أبی ائذنوا له فدخل فقام قائما و لم یجلس- و قال لا تعجل یا خال حتى أوذنک- فنظرنا فإذا مروان بن الحکم کان جالسا بالباب- ینتظره حتى خرج- فهو الذی ثناه عن رأیه الأول فأقبل علی أبی- و قال یا بنی ما إلى هذا من أمره شی‏ء- ثم قال یا بنی- أملک علیک لسانک حتى ترى ما لا بد منه- ثم رفع یدیه فقال اللهم اسبق بی ما لا خیر لی فی إدراکه- فما مرت جمعه حتى مات رحمه الله- .

وروى أبو العباس المبرد فی الکامل عن قنبر مولى علی ع قال دخلت مع علی على عثمان فأحبا الخلوه- فأومأ إلی علی ع بالتنحی فتنحیت غیر بعید- فجعل عثمان یعاتبه و علی مطرق- فأقبل علیه عثمان و قال ما لک لا تقول- قال إن قلت لم أقل إلا ما تکره و لیس لک عندی إلا ما تحب- .

قال أبو العباس تأویل ذلک- إن قلت اعتددت علیک بمثل ما اعتددت به علی- فلذعک عتابی و عقدی ألا أفعل- و إن کنت عاتبا إلا ما تحب- . و عندی فیه تأویل آخر- و هو أنی إن قلت و اعتذرت- فأی شی‏ء حسنته من الأعذار لم یکن ذلک عندک مصدقا- و لم یکن إلا مکروها غیر مقبول- و الله تعالى یعلم أنه لیس لک عندی فی باطنی- و ما أطوی علیه جوانحی إلا ما تحب- و إن کنت لا تقبل المعاذیر التی أذکرها- بل تکرهها و تنبو نفسک عنها- .

و روى الواقدی فی کتاب الشورى عن ابن عباس رحمه الله قال شهدت عتاب عثمان لعلی ع یوما- فقال له فی بعض ما قاله- نشدتک الله أن تفتح للفرقه بابا- فلعهدی بک و أنت تطیع عتیقا- و ابن الخطاب طاعتک لرسول الله ص و لست بدون واحد منهما- و أنا أمس بک رحما و أقرب إلیک صهرا- فإن کنت تزعم أن هذا الأمر جعله رسول الله ص لک- فقد رأیناک حین توفی نازعت ثم أقررت- فإن کانا لم یرکبا من الأمر جددا- فکیف أذعنت لهما بالبیعه و بخعت بالطاعه- و إن کانا أحسنا فیما ولیا- و لم أقصر عنهما فی دینی و حسبی و قرابتی- فکن لی کما کنت لهما- .

فقال علی ع أما الفرقه فمعاذ الله أن أفتح لها بابا- و أسهل إلیها سبیلا- و لکنی أنهاک عما ینهاک الله و رسوله عنه- و أهدیک إلى رشدک و أما عتیق و ابن الخطاب- فإن کانا أخذا ما جعله رسول الله ص لی- فأنت أعلم بذلک و المسلمون- و ما لی و لهذا الأمر و قد ترکته منذ حین- فإما ألا یکون حقی بل المسلمون فیه شرع- فقد أصاب السهم الثغره- و إما أن یکون حقی دونهم فقد ترکته لهم- طبت به نفسا و نفضت یدی عنه استصلاحا- و أما التسویه بینک و بینهما- فلست کأحدهما إنهما ولیا هذا الأمر- فظلفا أنفسهما و أهلهما عنه- و عمت فیه و قومک عوم السابح فی اللجه- فارجع إلى الله أبا عمرو- و انظر هل بقی من عمرک إلا کظم‏ء الحمار- فحتى متى و إلى متى- أ لا تنهى سفهاء بنی أمیه عن أعراض المسلمین- و أبشارهم و أموالهم- و الله لو ظلم عامل من عمالک حیث تغرب الشمس- لکان إثمه مشترکا بینه و بینک
– .

قال ابن عباس فقال عثمان لک العتبى- و افعل و اعزل من عمالی کل من تکرهه‏و یکرهه المسلمون- ثم افترقا- فصده مروان بن الحکم عن ذلک- و قال یجترئ علیک الناس فلا تعزل أحدا منهم- . وروى الزبیر بن بکار أیضا فی کتابه- عن رجال أسند بعضهم عن بعض عن علی بن أبی طالب ع قال أرسل إلی عثمان فی الهاجره فتقنعت بثوبی و أتیته- فدخلت علیه و هو على سریره- و فی یده قضیب و بین یدیه مال دثر- صبرتان من ورق و ذهب- فقال دونک خذ من هذا حتى تملأ بطنک فقد أحرقتنی- فقلت وصلتک رحم إن کان هذا المال ورثته- أو أعطاکه معط أو اکتسبته من تجاره- کنت أحد رجلین- إما آخذ و أشکر أو أوفر و أجهد- و إن کان من مال الله و فیه حق المسلمین- و الیتیم و ابن السبیل- فو الله ما لک أن تعطینیه و لا لی أن آخذه- فقال أبیت و الله إلا ما أبیت- ثم قام إلی بالقضیب فضربنی- و الله ما أرد یده حتى قضى حاجته- فتقنعت بثوبی و رجعت إلى منزلی- و قلت الله بینی و بینک- إن کنت أمرتک بمعروف أو نهیت عن منکر
و- روى الزبیر بن بکار عن الزهری قال- لما أتی عمر بجوهر کسرى وضع فی المسجد- فطلعت علیه الشمس فصار کالجمر- فقال لخازن بیت المال ویحک- أرحنی من هذا و اقسمه بین المسلمین- فإن نفسی تحدثنی أنه سیکون فی هذا بلاء و فتنه بین الناس- فقال یا أمیر المؤمنین إن قسمته بین المسلمین لم یسعهم- و لیس أحد یشتریه لأن ثمنه عظیم و لکن ندعه إلى قابل- فعسى الله أن یفتح على المسلمین بمال- فیشتریه منهم من یشتریه- قال ارفعه فأدخله بیت المال- . و قتل عمر و هو بحاله- فأخذه عثمان لما ولی الخلافه فحلى به بناته- .

قال الزبیر فقال الزهری کل قد أحسن- عمر حین حرم نفسه و أقاربه و عثمان حین وصل أقاربه- .قال الزبیر و حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا سفیان بن عیینه عن إسماعیل بن أبی خالد قال جاء رجل إلى علی ع یستشفع به إلى عثمان- فقال حمال الخطایا- لا و الله لا أعود إلیه أبدا فآیسه منهو روى الزبیر أیضا عن شداد بن عثمان قال سمعت عوف بن مالک فی أیام عمر یقول: یا طاعون خذنی فقلنا له لم تقول هذا- وقد سمعت رسول الله ص یقول إن المؤمن لا یزیده طول العمر إلا خیرا

قال إنی أخاف ستا خلافه بنی أمیه- و إماره السفهاء من أحداثهم- و الرشوه فی الحکم و سفک الدم الحرام- و کثره الشرط و نشأ ینشأ یتخذون القرآن مزامیر- . و روى الزبیر عن أبی غسان عن عمر بن زیاد- عن الأسود بن قیس عن عبید بن حارثه قال- سمعت عثمان و هو یخطب- فأکب الناس حوله فقال اجلسوا یا أعداء الله- فصاح به طلحه إنهم لیسوا بأعداء الله- لکنهم عباده و قد قرءوا کتابه- . و روى الزبیر عن سفیان بن عیینه عن إسرائیل عن الحسن قال شهدت المسجد یوم جمعه- فخرج عثمان فقام رجل فقال أنشد کتاب الله- فقال عثمان اجلس أ ما لکتاب الله ناشد غیرک فجلس- ثم قام آخر فقال مثل مقالته- فقال اجلس فأبى‏أن یجلس- فبعث إلى الشرط لیجلسوه- فقام الناس فحالوا بینهم و بینه- قال ثم تراموا بالبطحاء حتى یقول القائل- ما أکاد أرى أدیم السماء من البطحاء- فنزل عثمان فدخل داره و لم یصل الجمعه

فصل فیما شجر بین عثمان و ابن عباس من الکلام بحضره علی

و روى الزبیر أیضا فی الموفقیات عن ابن عباس رحمه الله قال- صلیت العصر یوما ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان فی أیام خلافته- فی بعض أزقه المدینه وحده- فأتیته إجلالا و توقیرا لمکانه- فقال لی هل رأیت علیا قلت خلفته فی المسجد- فإن لم یکن الآن فیه فهو فی منزله- قال أما منزله فلیس فیه فابغه لنا فی المسجد- فتوجهنا إلى المسجد و إذا علی ع یخرج منه- قال ابن عباس و قد کنت أمس ذلک الیوم عند علی- فذکر عثمان و تجرمه علیه و قال- أما و الله یا ابن عباس- إن من دوائه لقطع کلامه و ترک لقائه- فقلت له یرحمک الله کیف لک بهذا- فإن ترکته ثم أرسل إلیک فما أنت صانع- قال أعتل و أعتل فمن یقسرنی قال لا أحد- . قال ابن عباس- فلما تراءینا له و هو خارج من المسجد- ظهر منه من التفلت و الطلب للانصراف ما استبان لعثمان- فنظر إلی عثمان و قال یا ابن عباس- أ ما ترى ابن خالنا یکره لقاءنا- فقلت و لم و حقک ألزم و هو بالفضل أعلم- فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام فرد علیه- فقال عثمان إن تدخل فإیاک أردنا- و إن تمض فإیاک طلبنا- فقال علی أی ذلک أحببت قال تدخل- فدخلا و أخذ عثمان بیده فأهوى به إلى القبله- فقصر عنها و جلس قبالتها فجلس عثمان إلى جانبه- فنکصت عنهما فدعوانی جمیعا فأتیتهما- فحمد عثمان الله و أثنى علیه و صلى على رسوله- ثم قال أما بعد یا بنی خالی و ابنی‏عمی- فإذ جمعتکما فی النداء فسأجمعکما فی الشکایه- عن رضای على أحدکما و وجدی على الآخر- إنی أستعذرکما من أنفسکما- و أسألکما فیئتکما- و أستوهبکما رجعتکما- فو الله لو غالبنی الناس ما انتصرت إلا بکما- و لو تهضمونی ما تعززت إلا بعزکما- و لقد طال هذا الأمر بیننا حتى تخوفت أن یجوز قدره- و یعظم الخطر فیه- و لقد هاجنی العدو علیکما و أغرانی بکما- فمنعنی الله و الرحم مما أراد- و قد خلونا فی مسجد رسول الله ص و إلى جانب قبره- و قد أحببت أن تظهرا لی رأیکما فی- و ما تنطویان لی علیه و تصدقا- فإن الصدق أنجى و أسلم و أستغفر الله لی و لکما- .

قال ابن عباس- فأطرق علی ع و أطرقت معه طویلا- أما أنا فأجللته أن أتکلم قبله- و أما هو فأراد أن أجیب عنی و عنه- ثم قلت له أ تتکلم أم أتکلم عنک قال بل تکلم عنی و عنک- فحمدت الله و أثنیت علیه و صلیت على رسوله- ثم قلت أما بعد یا ابن عمنا و عمتنا- فقد سمعنا کلامک لنا- و خلطک فی الشکایه بیننا على رضاک- زعمت- عن أحدنا و وجدک على الآخر- و سنفعل فی ذلک فنذمک و نحمدک- اقتداء منک بفعلک فینا فإنا نذم مثل تهمتک إیانا- على ما اتهمتنا علیه بلا ثقه إلا ظنا- و نحمد منک غیر ذلک من مخالفتک عشیرتک- ثم نستعذرک من نفسک استعذارک إیانا من أنفسنا- و نستوهبک فیئتک استیهابک إیانا فیئتنا- و نسألک رجعتک مسألتک إیانا رجعتنا- فإنا معا أیما حمدت و ذممت منا کمثلک فی أمر نفسک- لیس بیننا فرق و لا اختلاف- بل کلانا شریک صاحبه فی رأیه و قوله- فو الله ما تعلمنا غیر معذرین فیما بیننا و بینک- و لا تعرفنا غیر قانتین علیک- و لا تجدنا غیر راجعین إلیک- فنحن نسألک من نفسک مثل ما سألتنا من أنفسنا- و أما قولک لو غالبتنی الناس ما انتصرت إلا بکما- أو تهضمونی ما تعززت إلا بعزکما- فأین بنا و بک عن ذلک و نحن و أنت کما قال أخو کنانه-

بدا بحتر ما رام نال و إن یرم
یخض دونه غمرا من الغر رائمه‏

لنا و لهم منا و منهم على العدا
مراتب عز مصعدات سلالمه‏

و أما قولک فی هیج العدو إیاک علینا- و إغرائه لک بنا- فو الله ما أتاک العدو من ذلک شیئا- إلا و قد أتانا بأعظم منه- فمنعنا مما أراد ما منعک من مراقبه الله و الرحم- و ما أبقیت أنت و نحن إلا على أدیاننا- و أعراضنا و مروءاتنا- و لقد لعمری طال بنا و بک هذا الأمر- حتى تخوفنا منه على أنفسنا و راقبنا منه ما راقبت- . و أما مساءلتک إیانا عن رأینا فیک و ما ننطوی علیه لک- فإنا نخبرک أن ذلک إلى ما تحب- لا یعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلک- و لا یقبل منه غیره- و کلانا ضامن على صاحبه ذلک و کفیل به- و قد برأت أحدنا و زکیته و أنطقت الآخر و أسکته- و لیس السقیم منا مما کرهت بأنطق من البری‏ء فیما ذکرت- و لا البری‏ء منا مما سخطت بأظهر من السقیم فیما وصفت- فإما جمعتنا فی الرضا و إما جمعتنا فی السخط- لنجازیک بمثل ما تفعل بنا فی ذلک- مکایله الصاع بالصاع فقد أعلمناک رأینا- و أظهرنا لک ذات أنفسنا و صدقناک- و الصدق کما ذکرت أنجى و أسلم- فأجب إلى ما دعوت إلیه- و أجلل عن النقض و الغدر مسجد رسول الله ص و موضع قبره- و اصدق تنج و تسلم و نستغفر الله لنا و لک-قال ابن عباس فنظر إلی علی ع نظر هیبه- و قال دعه حتى یبلغ رضاه فیما هو فیه- فو الله لو ظهرت له قلوبنا- و بدت له سرائرنا حتى رآها بعینه کما یسمع الخبر عنها بأذنه- ما زال متجرما منتقما و الله ما أنا ملقى على وضمه- و إنی لمانع ما وراء ظهری- و إن هذا الکلام لمخالفه منه و سوء عشره- فقال عثمان مهلا أبا حسن- فو الله إنک لتعلم أن رسول الله ص وصفنی‏ بغیر ذلک- یوم یقول و أنت عنده- إن من أصحابی لقوما سالمین لهم و إن عثمان- لمنهم- إنه لأحسنهم بهم ظنا و أنصحهم لهم حبا- فقال علی ع فتصدق قوله ص بفعلک و خالف ما أنت الآن علیه- فقد قیل لک ما سمعت و هو کاف إن قبلت- قال عثمان فتثق یا أبا الحسن- قال نعم أثق و لا أظنک إلا فاعلا- قال عثمان قد وثقت و أنت ممن لا یخفر صاحبه- و لا یکذب لقیله – .

قال ابن عباس فأخذت بأیدیهما- حتى تصافحا و تصالحا و تمازحا و نهضت عنهما- فتشاورا و تآمرا و تذاکرا ثم افترقا- فو الله ما مرت ثالثه حتى لقینی کل واحد منهما- یذکر من صاحبه ما لا تبرک علیه الإبل- فعلمت أن لا سبیل إلى صلحهما بعدها- . و روى أحمد بن عبد العزیز الجوهری- فی کتاب أخبار السقیفه- عن محمد بن قیس الأسدی عن المعروف بن سوید- قال کنت بالمدینه أیام بویع عثمان- فرأیت رجلا فی المسجد جالسا- و هو یصفق بإحدى یدیه على الأخرى و الناس حوله- و یقول وا عجبا من قریش و استئثارهم بهذا الأمر- على أهل هذا البیت معدن الفضل- و نجوم الأرض و نور البلاد- و الله إن فیهم لرجلا- ما رأیت رجلا بعد رسول الله ص أولى منه بالحق- و لا أقضی بالعدل و لا آمر بالمعروف و لا أنهى عن المنکر- فسألت عنه فقیل هذا المقداد- فتقدمت إلیه و قلت أصلحک الله- من الرجل الذی تذکر- فقال ابن عم نبیک رسول الله ص علی بن أبی طالب- . قال فلبثت ما شاء الله ثم إنی لقیت أبا ذر رحمه الله- فحدثته ما قال المقداد فقال صدق- قلت فما یمنعکم أن تجعلوا هذا الأمر فیهم- قال أبى ذلک قومهم- قلت فما یمنعکم أن تعینوهم- قال مه لا تقل هذا إیاکم و الفرقه و الاختلاف- .

قال فسکت عنه ثم کان من الأمر بعد ما کان- . و ذکر شیخنا أبو عثمان الجاحظ- فی الکتاب الذی أورد فیه المعاذیر عن أحداث عثمان- أن علیا اشتکى فعاده عثمان من شکایته- فقال علی ع-

و عائده تعود لغیر ود
تود لو أن ذا دنف یموت‏

فقال عثمان و الله ما أدری أ حیاتک أحب إلی أم موتک- إن مت هاضنی فقدک- و إن حییت فتنتنی حیاتک- لا أعدم ما بقیت طاعنا یتخذک ردیئه یلجأ إلیها- . فقال علی ع- ما الذی جعلنی ردیئه للطاعنین العائبین- إنما سوء ظنک بی أحلنی من قبلک هذا المحل- فإن کنت تخاف جانبی- فلک علی عهد الله و میثاقه أن لا بأس علیک منی- ما بل بحر صوفه و إنی لک لراع- و إنی عنک لمحام- و لکن لا ینفعنی ذلک عندک- و أما قولک إن فقدی یهیضک- فکلا أن تهاض لفقدی ما بقی لک الولید و مروان- . فقام عثمان فخرج- . و قد روی أن عثمان هو الذی أنشد هذا البیت- و قد کان اشتکى فعاده علی ع فقال عثمان-

و عائده تعود بغیر نصح
تود لو أن ذا دنف یموت‏

و روى أبو سعد الآبی فی کتابه عن ابن عباس- قال وقع بین عثمان و علی‏ ع کلام- فقال عثمان ما أصنع إن کانت قریش لا تحبکم- و قد قتلتم منهم یوم بدر سبعین- کأن وجوههم شنوف الذهب- تصرع أنفهم قبل شفاههم- . و روى المذکور أیضا- أن عثمان لما نقم الناس علیه ما نقموا- قام متوکئا على مروان فخطب الناس- فقال إن لکل أمه آفه و لکل نعمه عاهه- و إن آفه هذه الأمه و عاهه هذه النعمه- قوم عیابون طعانون یظهرون لکم ما تحبون- و یسرون ما تکرهون- طغام مثل النعام یتبعون أول ناعق- و لقد نقموا علی ما نقموا على عمر مثله- فقمعهم و وقمهم- و إنی لأقرب ناصرا و أعز نفرا- فما لی لا أفعل فی فضول الأموال ما أشاء- .

و روى المذکور أیضا- أن علیا ع اشتکى فعاده عثمان- فقال ما أراک أصبحت إلا ثقیلا- قال أجل قال و الله ما أدری أ موتک أحب إلی أم حیاتک- إنی لأحب موتک و أکره أن أعیش بعدک- فلو شئت جعلت لنا من نفسک مخرجا- إما صدیقا مسالما و إما عدوا مغالبا- و إنک لکما قال أخو إیاد

جرت لما بیننا حبل الشموس فلا
یأسا مبینا نرى منها و لا طمعا

فقال علی ع- لیس لک عندی ما تخافه- و إن أجبتک لم أجبک إلا بما تکرهه- . و کتب عثمان إلى علی ع حین أحیط به- أما بعد فقد جاوز الماء الزبى- و بلغ الحزام الطبیین- و تجاوز الأمر فی قدره فطمع فی من لا یدفع عن نفسه-

فإن کنت مأکولا فکن خیر آکل
و إلا فأدرکنی و لما أمزق‏

و روى الزبیر خبر العیاده على وجه آخر- قال مرض علی ع فعاده عثمان- و معه مروان بن الحکم- فجعل عثمان یسأل علیا عن حاله و علی ساکت لا یجیبه- فقال عثمان لقد أصبحت یا أبا الحسن منی بمنزله الولد العاق لأبیه- إن عاش عقه و إن مات فجعه- فلو جعلت لنا من أمرک فرجا إما عدوا أو صدیقا- و لم تجعلنا بین السماء و الماء- أما و الله لأنا خیر لک من فلان و فلان- و إن قتلت لا تجد مثلی- فقال مروان أما و الله لا یرام ما وراءنا- حتى تتواصل سیوفنا و تقطع أرحامنا- . فالتفت إلیه عثمان- و قال اسکت لا سکت و ما یدخلک فیما بیننا- .

وروى شیخنا أبو عثمان الجاحظ عن زید بن أرقم قال سمعت عثمان و هو یقول لعلی ع- أنکرت علی استعمال معاویه و أنت تعلم أن عمر استعمله- قال علی ع نشدتک الله- أ لا تعلم أن معاویه کان أطوع لعمر من یرفأ غلامه- إن عمر کان إذا استعمل عاملا وطئ على صماخه- و إن القوم رکبوک و غلبوک- و استبدوا بالأمر دونک فسکت عثمان

أسباب المنافسه بین علی و عثمان

قلت حدثنی جعفر بن مکی الحاجب رحمه الله- قال سألت محمد بن سلیمان حاجب الحجاب- و قد رأیت أنا محمدا هذا- و کانت لی به معرفه غیر مستحکمه- و کان ظریفاأدیبا و قد اشتغل بالریاضیات من الفلسفه- و لم یکن یتعصب لمذهب بعینه- قال جعفر سألت عما عنده فی أمر علی و عثمان- فقال هذه عداوه قدیمه النسب بین عبد شمس و بین بنی هاشم- و قد کان حرب بن أمیه نافر عبد المطلب بن هاشم- و کان أبو سفیان یحسد محمدا ص و حاربه- و لم تزل الثنتان متباغضتین و إن جمعتهما المنافیه-

ثم إن رسول الله ص زوج علیا بابنته- و زوج عثمان بابنته الأخرى- و کان اختصاص رسول الله ص لفاطمه- أکثر من اختصاصه للبنت الأخرى- و للثانیه التی تزوجها عثمان بعد وفاه الأولى- و اختصاصه أیضا لعلی و زیاده قربه منه و امتزاجه به- و استخلاصه إیاه لنفسه أکثر و أعظم من اختصاصه لعثمان- فنفس عثمان ذلک علیه فتباعد ما بین قلبیهما- و زاد فی التباعد ما عساه یکون بین الأختین- من مباغضه أو مشاجره- أو کلام ینقل من إحداهما إلى الأخرى- فیتکدر قلبها على أختها- و یکون ذلک التکدیر- سببا لتکدیر ما بین البعلین أیضا- کما نشاهده فی عصرنا و فی غیره من الأعصار-

و قد قیل ما قطع من الأخوین کالزوجتین- ثم اتفق أن علیا ع قتل جماعه کثیره من بنی عبد شمس- فی حروب رسول الله ص فتأکد الشنئان- و إذا استوحش الإنسان من صاحبه استوحش صاحبه منه- ثم مات رسول الله ص- فصبا إلى علی جماعه یسیره لم یکن عثمان منهم- و لا حضر فی دار فاطمه مع من حضر من المخلفین عن البیعه- و کانت فی نفس علی ع أمور من الخلافه- لم یمکنه إظهارها فی أیام أبی بکر و عمر- لقوه عمر و شدته و انبساط یده و لسانه- فلما قتل عمر و جعل الأمر شورى بین السته- و عدل عبد الرحمن بها عن علی إلى عثمان- لم یملک علی نفسه فأظهر ما کان کامنا- و أبدى ما کان مستورا- و لم یزل الأمر یتزاید بینهما حتى شرف و تفاقم- و مع ذلک فلم یکن علی ع لینکر من أمره إلا منکرا- و لا ینهاه إلا کما تقتضی الشریعه نهیه عنه- و کان عثمان مستضعفا فی نفسه- رخوا قلیل الحزم واهی العقده- و سلم عنانه إلىمروان یصرفه کیف شاء- الخلافه له فی المعنى و لعثمان فی الاسم- فلما انتقض على عثمان أمره استصرخ علیا و لاذ به- و ألقى زمام أمره إلیه فدافع عنه حیث لا ینفع الدفاع- و ذب عنه حین لا یغنی الذب- فقد کان الأمر فسد فسادا لا یرجى صلاحه- . قال جعفر فقلت له- أ تقول إن علیا وجد من خلافه عثمان- أعظم مما وجده من خلافه أبی بکر و عمر- فقال کیف یکون ذلک و هو فرع لهما- و لولاهما لم یصل إلى الخلافه- و لا کان عثمان ممن یطمع فیها من قبل و لا یخطر له ببال- و لکن هاهنا أمر یقتضی فی عثمان زیاده المنافسه- و هو اجتماعهما فی النسب و کونهما من بنی عبد مناف- و الإنسان ینافس ابن عمه الأدنى- أکثر من منافسه الأبعد- و یهون علیه من الأبعد ما لا یهون علیه من الأقرب- .

قال جعفر فقلت له- أ فتقول لو أن عثمان خلع و لم یقتل- أ کان الأمر یستقیم لعلی ع إذا بویع بعد خلعه- فقال لا و کیف یتوهم ذلک- بل یکون انتقاض الأمور علیه- و عثمان حی مخلوع أکثر من انتقاضها علیه بعد قتله- لأنه موجود یرجى و یتوقع عوده- فإن کان محبوسا عظم البلاء و الخطب- و هتف الناس باسمه فی کل یوم بل فی کل ساعه- و إن کان مخلى سربه و ممکنا من نفسه- و غیر محول بینه و بین اختیاره لجأ إلى بعض الأطراف- و ذکر أنه مظلوم غصبت خلافته و قهر على خلع نفسه- فکان اجتماع الناس علیه أعظم و الفتنه به أشد و أغلظ- .

قال جعفر فقلت له- فما تقول فی هذا الاختلاف الواقع فی أمر الإمامه- من مبدأ الحال- و ما الذی تظنه أصله و منبعه- فقال لا أعلم لهذا أصلا إلا أمرین- أحدهما أن رسول الله ص أهمل أمر الإمامه- فلم یصرح فیه بأحد بعینه- و إنما کان هناک رمز و إیماء و کنایه و تعریض- لو أراد صاحبه أن یحتج به وقت الاختلاف- و حال المنازعهلم یقم منه صوره حجه تغنی- و لا دلاله تحسب و تکفی- و لذلک لم یحتج علی ع یوم السقیفه بما ورد فیه- لأنه لم یکن نصا جلیا یقطع العذر و یوجب الحجه- و عاده الملوک إذا تمهد ملکهم- و أرادوا العقد لولد من أولادهم أو ثقه من ثقاتهم- أن یصرحوا بذکره و یخطبوا باسمه على أعناق المنابر- و بین فواصل الخطب- و یکتبوا بذلک إلى الآفاق البعیده عنهم- و الأقطار النائیه منهم- و من کان منهم ذا سریر و حصن و مدن کثیره- ضرب اسمه على صفحات الدنانیر و الدراهم مع اسم ذلک الملک- بحیث تزول الشبهه فی أمره و یسقط الارتیاب بحاله- فلیس أمر الخلافه بهین و لا صغیر- لیترک حتى یصیر فی مظنه الاشتباه و اللبس- و لعله کان لرسول الله ص فی ذلک عذر لا نعلمه نحن- إما خشیه من فساد الأمر أو إرجاف المنافقین- و قولهم إنها لیس بنبوه و إنما هی ملک- به أوصى لذریته و سلالته- و لما لم یکن أحد من تلک الذریه فی تلک الحال صالحا- للقیام بالأمر لصغر السن جعله لأبیهم- لیکون فی الحقیقه لزوجته التی هی ابنته- و لأولاده منها من بعده- .

و أما ما تقوله المعتزله و غیرهم من أهل العدل- أن الله تعالى علم أن المکلفین یکونون على ترک الأمر- مهملا غیر معین أقرب إلى فعل الواجب و تجنب القبیح- قال و لعل رسول الله ص لم یکن یعلم فی مرضه- أنه یموت فی ذلک المرض- و کان یرجو البقاء فیمهد للإمامه قاعده واضحه- و مما یدل على ذلک أنه لما نوزع فی إحضار الدواه و الکتف- لیکتب لهم ما لا یضلون بعده- غضب و قال اخرجوا عنی- لم یجمعهم بعد الغضب ثانیه و یعرفهم رشدهم- و یهدیهم إلى مصالحهم- بل ارجأ الأمر إرجاء من یرتقب الإفاقه و ینتظر العافیه- .

قال فبتلک الأقوال المحجمه و الکنایات المحتمله- و الرموز المشتبهه مثل حدیث‏خصف النعل- و منزله هارون من موسى و من کنت مولاه- و هذا یعسوب الدین و لا فتى إلا علی و أحب خلقک إلیک…- و ما جرى هذا المجرى مما لا یفصل الأمر- و یقطع العذر و یسکت الخصم و یفحم المنازع- وثبت الأنصار فادعتها و وثب بنو هاشم فادعوها- و قال أبو بکر بایعوا عمر أو أبا عبیده- و قال العباس لعلی امدد یدک لأبایعک- و قال قوم ممن رعف به الدهر فیما بعد- و لم یکن موجودا حینئذ- إن الأمر کان للعباس لأنه العم الوارث- و إن أبا بکر و عمر غصباه حقه فهذا أحدهما- .

و أما السبب الثانی للاختلاف- فهو جعل عمر الأمر شورى فی السته- و لم ینص على واحد بعینه إما منهم أو من غیرهم- فبقی فی نفس کل واحد منهم- أنه قد رشح للخلافه و أهل للملک و السلطنه- فلم یزل ذلک فی نفوسهم و أذهانهم مصورا بین أعینهم- مرتسما فی خیالاتهم منازعه إلیه نفوسهم- طامحه نحوه عیونهم- حتى کان من الشقاق بین علی و عثمان ما کان- و حتى أفضى الأمر إلى قتل عثمان- و کان أعظم الأسباب فی قتله طلحه- و کان لا یشک أن الأمر له من بعده لوجوه- منها سابقته و منها أنه ابن عم لأبی بکر- و کان لأبی بکر فی نفوس أهل ذلک العصر منزله عظیمه- أعظم منها الآن و منها أنه کان سمحا جوادا- و قد کان نازع عمر فی حیاه أبی بکر- و أحب أن یفوض أبو بکر الأمر إلیه من بعده- فما زال یفتل فی الذروه و الغارب فی أمر عثمان- و ینکر له القلوب و یکدر علیه النفوس- و یغری أهل المدینه و الأعراب و أهل الأمصار به- و ساعده الزبیر- و کان أیضا یرجو الأمر لنفسه- و لم یکن رجاؤهما الأمر بدون رجاء علی- بل رجاؤهما کان أقوى- لأن علیا دحضه الأولان و أسقطاه- و کسرا ناموسه بین الناس فصار نسیا منسیا- و مات الأکثر ممن یعرف خصائصه- التی کانت فی أیام النبوه و فضله- و نشأ قوم لا یعرفونه و لا یرونه- إلا رجلا من عرض المسلمین- و لم یبق له مما یمت به إلا أنه ابن عم الرسول- و زوج ابنته و أبو سبطیه و نسی ما وراء ذلک کله- و اتفق له من بغضقریش و انحرافها ما لم یتفق لأحد- و کانت قریش بمقدار ذلک البغض تحب طلحه و الزبیر- لأن الأسباب الموجبه لبغضهم لم تکن موجوده فیهما- و کانا یتألفان قریشا فی أواخر أیام عثمان- و یعدانهم بالعطاء و الإفضال- و هما عند أنفسهما و عند الناس خلیفتان بالقوه لا بالفعل- لأن عمر نص علیهما و ارتضاهما للخلافه- و عمر متبع القول و مرضى الفعال- موفق مؤید مطاع نافذ الحکم فی حیاته و بعد وفاته- فلما قتل عثمان أرادها طلحه و حرص علیها- فلو لا الأشتر و قوم معه من شجعان العرب- جعلوها فی علی لم تصل إلیه أبدا-

فلما فاتت طلحه و الزبیر فتقا ذلک الفتق العظیم على علی- و أخرجا أم المؤمنین معهما و قصدا العراق و أثارا الفتنه- و کان من حرب الجمل ما قد علم و عرف- ثم کانت حرب الجمل مقدمه و تمهیدا لحرب صفین- فإن معاویه لم یکن لیفعل ما فعل- لو لا طمعه بما جرى فی البصره- ثم أوهم أهل الشام أن علیا قد فسق بمحاربه أم المؤمنین- و محاربه المسلمین و أنه قتل طلحه و الزبیر و هما من أهل الجنه- و من یقتل مؤمنا من أهل الجنه فهو من أهل النار- فهل کان الفساد المتولد فی صفین- إلا فرعا للفساد الکائن یوم الجمل- ثم نشأ من فساد صفین و ضلال معاویه- کل ما جرى من الفساد و القبیح فی أیام بنی أمیه- و نشأت فتنه ابن الزبیر فرعا من فروع یوم الدار- لأن عبد الله کان یقول- إن عثمان لما أیقن بالقتل نص علی بالخلافه- و لی بذلک شهود- و منهم مروان بن الحکم- أ فلا ترى کیف تسلسلت هذه الأمور فرعا على أصل- و غصنا من شجره و جذوه من ضرام- هکذا یدور بعضه على بعض و کله من الشورى فی السته- .

قال و أعجب من ذلک قول عمر و قد قیل له- إنک استعملت یزید بن أبی سفیان و سعید بن العاص و معاویه- و فلانا و فلانا من المؤلفه قلوبهم- من الطلقاء و أبناء الطلقاء- و ترکت أن تستعمل علیا و العباس و الزبیر و طلحه- فقال أما علی فأنبه من ذلک و أما هؤلاء النفرمن قریش- فإنی أخاف أن ینتشروا فی البلاد- فیکثروا فیها الفساد- فمن یخاف من تأمیرهم لئلا یطمعوا فی الملک- و یدعیه کل واحد منهم لنفسه- کیف لم یخف من جعلهم سته متساوین فی الشورى- مرشحین للخلافه و هل شی‏ء أقرب إلى الفساد من هذا- و قد روی أن الرشید- رأى یوما محمدا و عبد الله ابنیه یلعبان و یضحکان- فسر بذلک- فلما غابا عن عینه بکى- فقال له الفضل بن الربیع- ما یبکیک یا أمیر المؤمنین- و هذا مقام جذل لا مقام حزن- فقال أ ما رأیت لعبهما و موده بینهما- أما و الله لیتبدلن ذلک بغضا و شنفا- و لیحتلسن کل واحد منهما نفس صاحبه عن قریب- فإن الملک عقیم- و کان الرشید قد عقد الأمر لهما على ترتیب هذا بعد هذا- فکیف من لم یرتبوا فی الخلافه بل جعلوا فیها کأسنان المشط- . فقلت أنا لجعفر هذا کله تحکیه عن محمد بن سلیمان- فما تقول أنت فقال-

إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام‏

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۸-۹

بازدیدها: ۱۰۰

خطبه ۱۳۴ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قد شاوره عمر بن الخطاب فی الخروج إلى غزو الروم)

۱۳۴ و من کلام له ع- و قد شاوره عمر بن الخطاب فی الخروج إلى غزو الروم

وَ قَدْ تَوَکَّلَ اللَّهُ- لِأَهْلِ هَذَا الدِّینِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَهِ- وَ سَتْرِ الْعَوْرَهِ وَ الَّذِی نَصَرَهُمْ- وَ هُمْ قَلِیلٌ لَا یَنْتَصِرُونَ- وَ مَنَعَهُمْ وَ هُمْ قَلِیلٌ لَا یَمْتَنِعُونَ- حَیٌّ لَا یَمُوتُ- إِنَّکَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِکَ- فَتَلْقَهُمْ فَتُنْکَبْ- لَا یَکُنْ لِلْمُسْلِمِینَ کَهْفٌ دُونَ أَقْصَى بِلَادِهِمْ- لَیْسَ بَعْدَکَ مَرْجِعٌ یَرْجِعُونَ إِلَیْهِ- فَابْعَثْ إِلَیْهِمْ رَجُلًا مِحْرَباً- وَ احْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ وَ النَّصِیحَهِ- فَإِنْ أَظْهَرَ اللَّهُ فَذَاکَ مَا تُحِبُّ- وَ إِنْ تَکُنِ الْأُخْرَى- کُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ وَ مَثَابَهً لِلْمُسْلِمِینَ توکل لهم صار وکیلا- و یروى و قد تکفل أی صار کفیلا- . و الحوزه الناحیه و حوزه الملک بیضته- و یقول إنما الذی نصرهم فی الابتداء على ضعفهم- هو الله تعالى و هو حی لا یموت- فأجدر به أن ینصرهم ثانیا- کما نصرهم أولا- و قوله فتنکب مجزوم لأنه عطف على تسر- . و کهف أی و کهف یلجأ إلیه- و یروى کانفه أی جهه عاصمه- من قولک کنفت الإبل- جعلت لها کنیفا من الشجر تستتر به و تعتصم- .

و رجل محرب أی صاحب حروب- . و حفزت الرجل أحفزه- دفعته من خلفه و سقته سوقا شدیدا- . و کنت ردءا أی عونا- قال سبحانه فَأَرْسِلْهُ مَعِی رِدْءاً یُصَدِّقُنِی- . و مثابه أی مرجعا- و منه قوله تعالى مَثابَهً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً- أشار ع ألا یشخص بنفسه حذرا أن یصاب- فیذهب المسلمون کلهم لذهاب الرأس- بل یبعث أمیرا من جانبه على الناس- و یقیم هو بالمدینه فإن هزموا کان مرجعهم إلیه- . فإن قلت فما بال رسول الله ص- کان یشاهد الحروب بنفسه- و یباشرها بشخصه- قلت إن رسول الله ص کان موعودا بالنصر- و آمنا على نفسه بالوعد الإلهی- فی قوله سبحانه وَ اللَّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ- و لیس عمر کذلک- . فإن قلت فما بال أمیر المؤمنین ع- شهد حرب الجمل و صفین و النهروان بنفسه- فهلا بعث أمیرا محربا- و أقام بالمدینه ردءا و مثابه- .

قلت عن هذا جوابان- أحدهما أنه کان عالما من جهه النبی ص- أنه لا یقتل فی هذه الحروب- و یشهد لذلک الخبر المتفق علیه بین الناس کافه- یقاتل بعدی الناکثین و القاسطین و المارقین- و ثانیهما یجوز أن یکون غلب على ظنه- أن غیره لا یقوم مقامه- فی حرب هذه الفرق الخارجه علیه- و لم یجد أمیرا محربا من أهل البلاء و النصیحه- لأنه ع هکذا قال لعمر- و اعتبر هذه القیود و الشروط- فمن کان من‏ أصحابه ع محربا- لم یکن من أهل النصیحه له- و من کان من أهل النصیحه له لم یکن محربا- فدعته الضروره إلى مباشره الحرب بنفسه

غزوه فلسطین و فتح بیت المقدس

و اعلم أن هذه الغزاه هی غزاه فلسطین- التی فتح فیها بیت المقدس- و قد ذکرها أبو جعفر محمد بن جریر الطبری فی التاریخ- و قال إن علیا ع هو کان المستخلف على المدینه- لما شخص عمر إلى الشام- و إن علیا ع قال له- لا تخرج بنفسک- إنک ترید عدوا کلبا- فقال عمر- إنی أبادر بجهاد العدو موت العباس بن عبد المطلب- إنکم لو فقدتم العباس لانتقض بکم الشر- کما ینتقض الحبل- فمات العباس لست سنین خلت من إماره عثمان- و انتقض بالناس الشر- .

قال أبو جعفر- و قد کان الروم عرفوا من کتبهم- أن صاحب فتح مدینه إیلیاء و هی بیت المقدس- رجل اسمه على ثلاثه أحرف- فکان من حضر من أمراء المسلمین یسألون عن اسمه- فیعلمون أنه لیس بصاحبهم- فلما طال علیهم الأمر فی حرب الروم استمدوا عمر- و قالوا إن لم تحضر بنفسک لم یفتح علینا- فکتب إلیهم أن یلقوه برأس الجابیه- لیوم سماه لهم فلقوه و هو راکب حمارا- و کان أول من لقیه یزید بن أبی سفیان- ثم أبو عبیده بن الجراح- ثم خالد بن الولید- على الخیول و علیهم الدیباج و الحریر- فنزل عمر عن حماره و أخذ الحجاره و رماهم بها- و قال سرعان ما لفتم عن رأیکم- إیای‏تستقبلون فی هذا الزی- و إنما شبعتم منذ سنتین- سرع ما ترت بکم البطنه- و تالله لو فعلتموها على رأس المائتین- لاستبدلت بکم غیرکم- فقالوا یا أمیر المؤمنین- إنما هی یلامقه و تحتها السلاح فقال فنعم إذا- قال أبو جعفر- فلما علم الروم مقدم عمر نفسه سألوه الصلح- فصالحهم و کتب لهم کتابا على أن یؤدوا الجزیه- ثم سار إلى بیت المقدس- فقصر فرسه عن المشی- فأتی ببرذون فرکبه فهزه و هملج تحته- فنزل عنه و ضرب وجهه بردائه- و قال قبح الله من علمک هذا ردوا على فرسی- فرکبه و سار حتى انتهى إلى بیت المقدس- .

قال و لم یرکب برذونا قبله و لا بعده- و قال أعوذ بالله من الخیلاء- . قال أبو جعفر- و لقیه معاویه و علیه ثیاب دیباج- و حوله جماعه من الغلمان و الخول- فدنا منه فقبل یده- فقال ما هذا یا ابن هند- و إنک لعلى هذه الحال مترف صاحب لبوس و تنعم- و قد بلغنی أن ذوی الحاجات یقفون ببابک- فقال یا أمیر المؤمنین أما اللباس فأنا ببلاد عدو- و نحب أن یرى أثر نعمه الله علینا- و أما الحجاب فأنا نخاف من البذله جرأه الرعیه- فقال ما سألتک عن شی‏ء- إلا ترکتنی منه فی أضیق من الرواجب- إن کنت صادقا فإنه رأی لبیب- و إن کنت کاذبا فإنها خدعه أریب- . و قد روى الناس کلام معاویه لعمر على وجه آخر- قیل لما قدم عمر الشام قدمها- و هو راکب حمارا قریبا من الأرض- و معه عبد الرحمن بن عوف راکب حمار قریب أیضا- فتلقاهما معاویه فی کوکبه خشناء- فثنى ورکه و نزل و سلم بالخلافه فلم یرد علیه- .

فقال له عبد الرحمن- أحصرت الفتى یا أمیر المؤمنین فلو کلمته- قال إنک لصاحب الجیش الذی أرى قال نعم- قال مع شده احتجابک- و وقوف ذوی الحاجات ببابک- قال أجل قال لم ویحک- قال لأنا ببلاد عدو کثیر فیها جواسیسهم- فإن لم نتخذ العده و العدد استخف بنا- و هجم على عوراتنا- و أنا بعد عاملک فإن استنقصتنی نقصت- و إن استزدتنی زدت و إن استوقفتنی وقفت- فقال إن کنت کاذبا إنه لرأی أریب- و إن کنت صادقا إنه لتدبیر لبیب- ما سألتک عن شی‏ء قط إلا ترکتنی منه- فی أضیق من رواجب الضرس- لا آمرک و لا أنهاک- فلما انصرف قال عبد الرحمن- لقد أحسن الفتى فی إصدار ما أردت علیه- فقال لحسن إیراده و إصداره جشمناه ما جشمناه- .

قال أبو جعفر- شخص عمر من المدینه إلى الشام أربع مرات- و دخلها مره راکب فرس و مره راکب بعیر- و مره راکب بغل و مره راکب حمار- و کان لا یعرف و ربما استخبره الواحد- أین أمیر المؤمنین فیسکت- أو یقول سل الناس و کان یدخل الشام- و علیه سحق فرو مقلوب- و إذا حضر الناس طعامه رأوا أخشن الطعام- . قال أبو جعفر- و قدم الشام فی إحدى هذه المرات الأربع- فصادف الطاعون بها فاشیا فاستشار الناس- فکل أشار علیه بالرجوع و ألا یدخلها- إلا أبا عبیده بن الجراح- فإنه قال أ تفر من قدر الله قال نعم- أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله- لو غیرک قالها یا أبا عبیده- فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف- فروى لهمعن النبی ص أنه قال إذا کنتم ببلاد الطاعون- فلا تخرجوا منها- و إذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوها- فحمد الله على موافقه الخبر لما کان فی نفسه- و ما أشار به الناس و انصرف راجعا إلى المدینه- و مات أبو عبیده فی ذلک الطاعون- و هو الطاعون المعروف بطاعون عمواس- و کان فی سنه سبع عشره من الهجره

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۸

بازدیدها: ۲۴

خطبه ۱۳۳ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۳۳ و من کلام له ع

وَ انْقَادَتْ لَهُ الدُّنْیَا وَ الآْخِرَهُ بِأَزِمَّتِهَا- وَ قَذَفَتْ إِلَیْهِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرَضُونَ مَقَالِیدَهَا- وَ سَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَ الآْصَالِ الْأَشْجَارُ النَّاضِرَهُ- وَ قَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّیرَانُ الْمُضِیئَهُ- وَ آتَتْ أُکُلَهَا بِکَلِمَاتِهِ الثِّمَارُ الْیَانِعَهُ الضمیر فی له یرجع إلى الله تعالى- و قد کان تقدم ذکر سبحانه فی أول الخطبه- و إن لم یذکره الرضی رحمه الله- و معنى انقیاد الدنیا و الآخره له نفوذ حکمه فیهما- و شیاع قدرته و عمومها- . و أزمتها لفظه مستعاره- من انقیاد الإبل بأزمتها مع قائدها- و المقالید المفاتیح- . و معنى سجود الأشجار الناضره له- تصرفها حسب إرادته- و کونها مسخره له محکوما علیها بنفوذ قدرته فیها- فجعل ع ذلک خضوعا منها لمشیئته- و استعار لها ما هو أدل على خضوع الإنسان من جمع أفعاله- و هو السجود و منه قوله تعالى- أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ یَسْجُدُ لَهُ- مَنْ فِی السَّماواتِ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ- وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ- وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ کَثِیرٌ مِنَ النَّاسِ- .

قوله و قدحت له من قضبانها بالضم جمع قضیب و هو الغصن- و المعنى أنه بقدرته أخرج من الشجر الأخضر نارا- و النار ضد هذا الجسم المخصوص- و هذا هو قوله تعالى- الَّذِی جَعَلَ لَکُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً- فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ بعینه- . و آتت أکلها أعطت ما یؤکل منها- و هو أیضا من الألفاظ القرآنیه- . و الیانعه الناضجه و بکلماته أی بقدرته و مشیئته- و هذه اللفظه من الألفاظ المنقوله- على أحد الأقسام الأربعه المذکوره- فی کتبنا فی أصول الفقه- و هو استعمال لفظه متعارفه فی اللغه العربیه- فی معنى لم یستعملها أهل اللغه فیه- کنقل لفظه الصلاه الذی هو فی أصل اللغه- للدعاء إلى هیئات و أوضاع مخصوصه- و لم تستعمل العرب تلک اللفظه فیها- و لا یصح قول من قال المراد بذلک قوله کن- لأنه تعالى لا یجوز أن یخاطب المعدوم- و قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَیْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ- أَنْ نَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ- من باب التوسع و الاستعاره المملوء منهما القرآن- و المراد سرعه المؤاتاه و عجله الإیجاد- و أنه إذا أراد من أفعاله أمرا کان: مِنْهَا وَ کِتَابُ اللَّهِ بَیْنَ أَظْهُرِکُمْ- نَاطِقٌ لَا یَعْیَا لِسَانُهُ- وَ بَیْتٌ لَا تُهْدَمُ أَرْکَانُهُ- وَ عِزٌّ لَا تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ‏

یقال هو نازل بین أظهرهم- و بین ظهریهم و بین ظهرانیهم- بفتح النون أی نازل بینهم- فإن قلت لما ذا قالت العرب بین أظهرهم- و لم تقل بین صدورهم- قلت أرادت بذلک الإشعار بشده المحاماه عنه- و المراماه من دونه- لأن النزیل إذا حامى القوم عنه استقبلوا شبا الأسنه- و أطراف السیوف عنه بصدورهم- و کان هو محروسا مصونا عن مباشره ذلک وراء ظهورهم- . و لا یعیا لسانه لا یکل عییت بالمنطق- فأنا عیی على فعیل- و یجوز عی الرجل فی منطقه بالتشدید- فهو عی على فعل: مِنْهَا أَرْسَلَهُ عَلَى حِینِ فَتْرَهٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ تَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ- فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وَ خَتَمَ بِهِ الْوَحْیَ- فَجَاهَدَ فِی اللَّهِ الْمُدْبِرِینَ عَنْهُ وَ الْعَادِلِینَ بِهِ الضمیر فی أرسله راجع إلى النبی ص- و هو مذکور فی کلام لم یحکه جامع الکتاب- .

و الفتره زمان انقطاع الوحی- و التنازع من الألسن- أن قوما فی الجاهلیه کانوا یعبدون‏الصنم- و قوما یعبدون الشمس و قوما یعبدون الشیطان- و قوما یعبدون المسیح- فکل طائفه تجادل مخالفیها بألسنتها لتقودها إلى معتقدها- . و قفى به الرسل أتبعها به- قال سبحانه ثُمَّ قَفَّیْنا عَلى‏ آثارِهِمْ بِرُسُلِنا- و منه الکلام المقفى و سمیت قوافی الشعر- لأن بعضها یتبع بعضا- . و العادلین به الجاعلین له عدیلا أی مثلا- و هو من الألفاظ القرآنیه أیضا- قال الله تعالى بِرَبِّهِمْ یَعْدِلُونَ: مِنْهَا وَ إِنَّمَا الدُّنْیَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى- لَا یُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَیْئاً- وَ الْبَصِیرُ یَنْفُذُهَا بَصَرُهُ- وَ یَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا- فَالْبَصِیرُ مِنْهَا شَاخِصٌ- وَ الْأَعْمَى إِلَیْهَا شَاخِصٌ- وَ الْبَصِیرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ- وَ الْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ شبه الدنیا و ما بعدها بما یتصوره الأعمى- من الظلمه التی یتخیلها- و کأنها محسوسه له- و لیست بمحسوسه على الحقیقه- و إنما هی عدم الضوء- کمن یطلع فی جب ضیق- فیتخیل ظلاما فإنه لم یر شیئا- و لکن لما عدم الضوء فلم ینفذ البصر- تخیل أنه یرى الظلمه- فأما من یرى المبصرات فی الضیاء- فإن بصره ینفذ فیشاهد المحسوسات یقینا- و هذه حال الدنیا و الآخره- أهل الدنیا منتهى بصرهم دنیاهم- و یظنون أنهم یبصرون شیئا- و لیسوا بمبصرین على الحقیقه- و لا حواسهم نافذه فی شی‏ء- و أهل الآخره قد نفذت أبصارهم- فرأوا الآخره و لم یقف إحساسهم على الدنیا خاصه- فأولئک هم أصحاب الأبصار على الحقیقه- و هذا معنى شریف من معانی أصحاب الطریقه و الحقیقه- و إلیه الإشاره بقوله سبحانه- أَمْ لَهُمْ أَعْیُنٌ یُبْصِرُونَ بِها- فأما قوله فالبصیر منها شاخص- و الأعمى إلیها شاخص- فمن مستحسن التجنیس- و هذا هو الذی یسمیه أرباب الصناعه الجناس التام- فالشاخص الأول الراحل- و الشاخص الثانی من شخص بصره بالفتح- إذا فتح عینه نحو الشی‏ء مقابلا له و جعل لا یطرف

فصل فی الجناس و أنواعه

و اعلم أن الجناس على سبعه أضرب- أولها الجناس التام کهذا اللفظ- و حده أن تتساوى حروف ألفاظ الکلمتین- فی ترکیبها و فی وزنها- قالوا و لم یرد فی القرآن العزیز منه إلا موضع واحد- و هو قوله وَ یَوْمَ تَقُومُ السَّاعَهُ- یُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَیْرَ ساعَهٍ- . و عندی أن هذا لیس بتجنیس أصلا- و قد ذکرته فی کتابی المسمى- بالفلک الدائر على المثل السائر- و قلت إن الساعه فی الموضعین بمعنى واحد- و التجنیس أن یتفق اللفظ و یختلف المعنى- و لا یکون أحدهما حقیقه و الآخر مجازا- بل یکونان حقیقتین- و إن‏زمان القیامه و إن طال- لکنه عند الله فی حکم الساعه الواحده- لأن قدرته لا یعجزها أمر- و لا یطول عندها زمان- فیکون إطلاق لفظ الساعه- على أحد الموضعین حقیقه و على الآخر مجازا- و ذلک یخرج الکلام عن حد التجنیس- کما لو قلت رکبت حمارا و لقیت حمارا- و أردت بالثانی البلید- . و أیضا فلم لا یجوز أن یکون أراد بقوله- وَ یَوْمَ تَقُومُ السَّاعَهُ- الأولى خاصه من زمان البعث- فیکون لفظ الساعه مستعملا- فی الموضعین حقیقه بمعنى واحد- فیخرج عن التجنیس- و عن مشابهه التجنیس بالکلیه- . قالوا و ورد فی السنه من التجنیس التام خبر واحد- وهو قوله ص لقوم من الصحابه- کانوا یتنازعون جریر بن عبد الله البجلی فی زمام ناقته- خلوا بین جریر و الجریرفالجریر الثانی الحبل- . و جاء من ذلک فی الشعر لأبی تمام قوله-

فأصبحت غرر الإسلام مشرقه
بالنصر تضحک عن أیامک الغرر

فالغرر الأولى مستعاره من غره الوجه- و الغرر الثانیه من غره الشی‏ء- و هی أکرمه و کذلک قوله-

من القوم جعد أبیض الوجه و الندى
و لیس بنان یجتدى منه بالجعد

فالجعد الأول السید- و الثانی ضد السبط و هو من صفات البخیل- . و کذلک قوله-

بکل فتى ضرب یعرض للقنا
محیا محلى حلیه الطعن و الضرب‏

فالضرب الأول الرجل الخفیف- و الثانی مصدر ضرب- . و کذلک قوله-

عداک حر الثغور المستضامه عن
برد الثغور و عن سلسالها الحصب‏

فأحدهما جمع ثغر- و هو ما یتاخم العدو من بلاد الحرب- و الثانی للأسنان- . و من هذه القصیده-

کم أحرزت قضب الهندی مصلته
تهتز من قضب تهتز فی کثب‏

بیض إذا انتضیت من حجبها رجعت‏
أحق بالبیض أبدانا من الحجب‏

 و قد أکثر الناس فی استحسان هذا التجنیس و أطنبوا- و عندی أنه لیس بتجنیس أصلا- لأن تسمیه السیوف قضبا- و تسمیه الأغصان قضبا کله بمعنى واحد- و هو القطع فلا تجنیس إذا- و کذلک البیض للسیوف و البیض للنساء- کله بمعنى البیاض- فبطل معنى التجنیس- و أظننی ذکرت هذا أیضا فی کتاب الفلک الدائر- . قالوا و من هذا القسم قوله أیضا-

إذا الخیل جابت قسطل الخیل صدعوا
صدور العوالی فی صدور الکتائب‏

 و هذا عندی أیضا لیس بتجنیس- لأن الصدور فی الموضعین بمعنى واحد- و هو جزء الشی‏ء المتقدم البارز عن سائره- فأما قوله أیضا-

عامی و عام العیس بین ودیقه
مسجوره و تنوفه صیخود

حتى أغادر کل یوم بالفلا
للطیر عیدا من بنات العید

 فإنه من التجنیس التام- لا شبهه فی ذلک لاختلاف المعنى- فالعید الأول هو الیوم المعروف من الأعیاد- و العید الثانی فحل من فحول الإبل- . و نحو هذا قول أبی نواس-

عباس عباس إذا احتدم الوغى
و الفضل فضل و الربیع ربیع‏

و قول البحتری-

إذا العین راحت و هی عین على الهوى
فلیس بسر ما تسر الأضالع‏

فالعین الثانیه الجاسوس- و الأولى العین المبصره- و للغزى المتأخر قصیده أکثر من التجنیس التام فیها أولها-

لو زارنا طیف ذات الخال أحیانا
و نحن فی حفر الأجداث أحیانا

و قال فی أثنائها-

تقول أنت امرؤ جاف مغالطه
فقلت لا هومت أجفان أجفانا

 و قال فی مدیحها-

لم یبق غیرک إنسان یلاذ به
فلا برحت لعین الدهر إنسانا

و قد ذکر الغانمی فی کتابه من صناعه الشعر بابا- سماه رد الأعجاز على الصدور- ذکر أنه خارج عن باب التجنیس- قال مثل قول الشاعر-

و نشری بجمیل الصنع
ذکرا طیب النشر

و نفری بسیوف الهند
من أسرف فی النفر

و بحری فی شرى الحمد
على شاکله البحر

و هذا من التجنیس- و لیس بخارج عنه و لکنه تجنیس مخصوص- و هو الإتیان به فی طرفی البیت- . و عد ابن الأثیر الموصلی فی کتابه- من التجنیس قول الشاعر فی الشیب-

یا بیاضا أذرى دموعی حتى
عاد منها سواد عینی بیاضا

 و کذلک قول البحتری-

و أغر فی الزمن البهیم محجل
قد رحت منه على أغر محجل‏

و هذا عندی لیس بتجنیس لاتفاق المعنى- و العجب منه أنه بعد إیراده هذا أنکر على من قال- إن قول أبی تمام-

أظن الدمع فی خدی سیبقى
رسوما من بکائی فی الرسوم‏

 من التجنیس و قال أی تجنیس هاهنا و المعنى متفق- و لو أمعن النظر لرأى هذا مثل البیتین السابقین- . قالوا فأما الأجناس السته الباقیه- فإنها خارجه عن التجنیس التام و مشبهه به- . فمنها أن تکون الحروف متساویه فی ترکیبها- مختلفه فی وزنها- فمن ذلکقول النبی ص اللهم کما حسنت خلقی فحسن خلقی- و قول بعضهم لن تنالوا غرر المعالی- إلا برکوب الغرر- و اهتبال الغرر و قول البحتری-

و فر الحائن المغرور یرجو
أمانا أی ساعه ما أمان‏

یهاب الالتفات و قد تصدى
للحظه طرفه طرف السنان‏

 و قال آخر

قد ذبت بین حشاشه و ذماء
ما بین حر هوى و حر هواء

 و منها أن تکون الألفاظ متساویه فی الوزن- مختلفه فی الترکیب بحرف واحد لا غیر- فإن زاد على ذلک خرج من باب التجنیس- و ذلک نحو قوله تعالى- وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ ناضِرَهٌ- إِلى‏ رَبِّها ناظِرَهٌ- و کذلک قوله سبحانه- وَ هُمْ یَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ یَنْأَوْنَ عَنْهُ- و قوله تعالى ذلِکُمْ بِما کُنْتُمْ تَفْرَحُونَ- فِی الْأَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ- وَ بِما کُنْتُمْ تَمْرَحُونَ- و نحو هذاما ورد عن النبی ص من قوله الخیر معقود بنواصی الخیل إلى یوم القیامه– و قال بعضهم- لا تنال المکارم إلا بالمکاره- . و قال أبو تمام-

یمدون من أید عواص عواصم
تصول بأسیاف قواض قواضب‏

و قال البحتری-

من کل ساجی الطرف أغید أجید
و مهفهف الکشحین أحوى أحور

 و قال أیضا-

شواجر أرماح تقطع بینهم
شواجن أرحام ملوم قطوعها

و هذا البیت حسن الصنعه- لأنه قد جمع بین التجنیس الناقص و بین المقلوب- و هو أرماح و أرحام- . و منها أن تکون الألفاظ مختلفه- فی الوزن و الترکیب بحرف واحد- کقوله تعالى- وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ- إِلى‏ رَبِّکَ یَوْمَئِذٍ الْمَساقُ- و کقوله تعالى- وَ هُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً وکقول النبی ص المسلم من سلم الناس من لسانه و یده- و قول بعضهم الصدیق لا یحاسب- و العدو لا یحتسب له- هکذا ذکر ابن الأثیر هذه الأمثله- . قال و من هذا القسم قول أبی تمام-

أیام تدمى عینه تلک الدمى
حسنا و تقمر لبه الأقمار

بیض فهن إذا رمقن سوافرا
صور و هن إذا رمقن صوار

– و کذلک قوله أیضا-

بدر أطاعت فیک بادره النوى
ولعا و شمس أولعت بشماس‏

و قوله أیضا-

جهلوا فلم یستکثروا من طاعه
معروفه بعماره الأعمار

 و قوله أیضا-

إن الرماح إذا غرسن بمشهد
فجنى العوالی فی ذراه معال‏

و قوله أیضا-

إذا أحسن الأقوام أن یتطاولوا
بلا نعمه أحسنت أن تتطولا

 و قوله أیضا-

شد ما استنزلتک عن دمعک الأظعان
حتى استهل صوب العزالی‏

أی ربع یکذب الدهر عنه‏
و هو ملقى على طریق اللیالی‏

بین حال جنت علیه و حول
فهو نضو الأوحال و الأحوال‏

أی حسن فی الذاهبین تولى‏
و جمال على ظهور الجمال‏

و دلال مخیم فی ذرى الخیم
و حجل مقصر فی الحجال‏

فالبیت الثالث و الخامس هما المقصودان بالتمثیل- . و من ذلک قول علی بن جبله-

و کم لک من یوم رفعت عماده
بذات جفون أو بذات جفان‏

و کقول البحتری-

نسیم الروض فی ریح شمال
و صوب المزن فی راح شمول‏

 و کقوله أیضا-

جدیر بأن تنشق عن ضوء وجهه
ضبابه نقع تحتها الموت ناقع‏

و اعلم أن هذه الأمثله لهذا القسم- ذکرها ابن الأثیر فی کتابه- و هو عندی مستدرک- لأنه حد هذا القسم بما یختلف ترکیبه- یعنی حروفه الأصلیه- و یختلف أیضا وزنه و یکون اختلاف ترکیبه بحرف واحد- هکذا قال فی تحدیده لهذا القسم- و لیس بقمر و الأقمار تختلف بحرف واحد- و کذلک عماره و الأعمار- و کذلک العوالی و المعالی- و أما قوله تعالى وَ هُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً- فخارج عن هذا بالکلیه- لأن جمیع أمثله هذا القسم- یختلف فیه الکلمات بالحروف الزائده- و هذه الآیه اختلاف کلمتیها بحروف أصلیه- فلیست من التجنیس الذی نحن بصدده- بل هی من باب تجنیس التصحیف- کقول البحتری

و لم یکن المعتز بالله إذ سرى
لیعجز و المعتز بالله طالبه‏

ثم قال ابن الأثیر فی هذا القسم أیضا- و من ذلک قول محمد بن وهیب الحمیری-

قسمت صروف الدهر بأسا و نائلا
فمالک موتور و سیفک واتر

و هذا أیضا عندی مستدرک- لأن اللفظتین کلاهما من الوتر- و یرجعان إلى أصل واحد- إلا أن أحد اللفظین مفعول و الآخر فاعل- و لیس أحد یقول إن شاعرا لو قال فی شعره- ضارب و مضروب لکان قد جانس- . و منها القسم المکنى بالمعکوس- و هو على ضربین عکس لفظ و عکس حرف- فالأول کقولهم عادات السادات سادات العادات- و کقولهم شیم الأحرار أحرار الشیم- . و من ذلک قول الأضبط بن قریع-

قد یجمع المال غیر آکله
و یأکل المال غیر من جمعه

و یقطع الثوب غیر لابسه
و یلبس الثوب غیر من قطعه‏

و مثله قول المتنبی-

فلا مجد فی الدنیا لمن قل ماله
و لا مال فی الدنیا لمن قل مجده‏

و مثله قول الرضی رحمه الله من أبیات یذم فیها الزمان-

أسف بمن یطیر إلى المعالی
و طار بمن یسف إلى الدنایا

و مثله قول آخر-

إن اللیالی للأنام مناهل
تطوى و تنشر بینها الأعمار

فقصارهن مع الهموم طویله
و طوالهن مع السرور قصار

 و لبعض شعراء الأندلس یذکر غلامه-

غیرتنا ید الزمان
فقد شبت و التحى‏

فاستحال الضحى دجى‏
و استحال الدجى ضحى‏

 و یسمى هذا الضرب التبدیل- و قد مثله قدامه بن جعفر الکاتب بقولهم- اشکر لمن أنعم علیک- و أنعم على من شکرک- . و مثله قول النبی ص جار الدار أحق بدار الجار- قالوا و منه قوله تعالى- یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ وَ یُخْرِجُ الْمَیِّتَ مِنَ الْحَیِّ- و لا أراه منه بل هو من باب الموازنه- و مثلوه أیضابقول أمیر المؤمنین ع أما بعد فإن الإنسان یسره درک ما لم یکن لیفوته- و یسوءه فوت ما لم یکن لیدرکه– و بقول أبی تمام لأبی العمیثل‏ و أبی سعید الضریر- فإنهما قالا- لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصیده و فی افتتاحها تکلف و تعجرف- لم لا تقول ما یفهم- فقال لهما لم لا تفهمان ما یقال- . و الضرب الثانی من هذا القسم عکس الحروف- و هو کقول بعضهم- و قد أهدى لصدیق له کرسیا-

أهدیت شیئا یقل لو لا
أحدوثه الفأل و التبرک‏

کرسی تفاءلت فیه لما
رأیت مقلوبه یسرک‏

 و کقول الآخر-

کیف السرور بإقبال و آخره
إذا تأملته مقلوب إقبال‏

أی لا بقاء و کقول الآخر-

جاذبتها و الریح تجذب عقربا
من فوق خد مثل قلب العقرب‏

و طفقت الثم ثغرها فتمنعت‏
و تحجبت عنی بقلب العقرب‏

 یرید برقعا- و منها النوع المسمى المجنب- و هو أن یجمع بین کلمتین إحداهما- کالجنیبه التابعه للأخرى مثل قول بعضهم-

أبا الفیاض لا تحسب بأنی
لفقری من حلى الأشعار عار

فلی طبع کسلسال معین‏
زلال من ذرا الأحجار جار

– و هذا فی التحقیق هو الباب المسمى لزوم ما لا یلزم- و لیس من باب التجنیس- و منها المقلوب و هو ما یتساوى وزنه و ترکیبه- إلا أن حروفه تتقدم و تتأخر- مثل قول أبی تمام-

بیض الصفائح لا سود الصحائف فی
متونهن جلاء الشک و الریب‏

 و قد ورد مثل ذلک فی المنثور- نحوما روی عن النبی ص أنه یقال یوم القیامه لصاحب القرآن اقرأ و ارق- . و قد تکلمت فی کتابی المسمى بالعبقری الحسان- على أقسام الصناعه البدیعه نثرا و نظما- و بینت أن کثیرا منها یتداخل- و یقوم البعض من ذلک مقام بعض- فلیلمح من هناک مِنْهَا وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ مِنْ شَیْ‏ءٍ- إِلَّا وَ یَکَادُ صَاحِبُهُ یَشْبَعُ مِنْهُ- وَ یَمَلُّهُ إِلَّا الْحَیَاهَ فَإِنَّهُ لَا یَجِدُ فِی الْمَوْتِ رَاحَهً- وَ إِنَّمَا ذَلِکَ بِمَنْزِلَهِ الْحِکْمَهِ- الَّتِی هِیَ حَیَاهٌ لِلْقَلْبِ الْمَیِّتِ- وَ بَصَرٌ لِلْعَیْنِ الْعَمْیَاءِ- وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ- وَ رِیٌّ لِلظَّمْآنِ وَ فِیهَا الْغِنَى کُلُّهُ وَ السَّلَامَهُ- کِتَابُ اللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ- وَ تَنْطِقُونَ بِهِ وَ تَسْمَعُونَ بِهِ- وَ یَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ- وَ یَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ- وَ لَا یَخْتَلِفُ فِی اللَّهِ- وَ لَا یُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللَّهِ- قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِیمَا بَیْنَکُمْ- وَ نَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِکُمْ- وَ تَصَافَیْتُمْ عَلَى حُبِّ الآْمَالِ- وَ تَعَادَیْتُمْ فِی کَسْبِ الْأَمْوَالِ- لَقَدِ اسْتَهَامَ بِکُمُ الْخَبِیثُ وَ تَاهَ بِکُمُ الْغُرُورُ- وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِی وَ أَنْفُسِکُمْ‏هذا الفصل لیس بمنتظم من أوله إلى آخره- بل هو فصول متفرقه التقطها الرضی- من خطبه طویله على عادته- فی التقاط ما یستفصحه من کلامه ع- و إن کان کل کلامه فصیحا- و لکن کل واحد له هوى و محبه لشی‏ء مخصوص- و ضروب الناس عشاق ضروبا- . أما قوله کل شی‏ء مملول إلا الحیاه- فهو معنى قد طرقه الناس قدیما و حدیثا- قال أبو الطیب-

و لذیذ الحیاه أنفس فی النفس
و أشهى من أن یمل و أحلى‏

و إذا الشیخ قال أف فما مل‏
حیاه و لکن الضعف ملا

و قال أیضا-

أرى کلنا یبغی الحیاه لنفسه
حریصا علیها مستهاما بها صبا

فحب الجبان النفس أورده البقا
و حب الشجاع النفس أورده الحربا

 و قال أبو العلاء-

فما رغبت فی الموت کدر مسیرها
إلى الورد خمسا ثم تشربن من أجن‏

یصادفن صقرا کل یوم و لیله
و یلقین شرا من مخالبه الحجن‏

و لا قلقات اللیل باتت کأنها
من الأین و الإدلاج بعض القنا اللدن‏

ضربن ملیعا بالسنابک أربعا
إلى الماء لا یقدرن منه على معن‏

و خوف الردى آوى إلى الکهف أهله‏
و کلف نوحا و ابنه عمل السفن‏

و ما استعذبته روح موسى و آدم
و قد وعدا من بعده جنتی عدن‏

و لی من قصیده أخاطب رجلین فرا فی حرب-

عذرتکما إن الحمام لمبغض
و إن بقاء النفس للنفس محبوب‏

و یکره طعم الموت و الموت طالب‏
فکیف یلذ الموت و الموت مطلوب‏

 و قال أبو الطیب أیضا-

طیب هذا النسیم أوقر فی الأنفس
أن الحمام مر المذاق‏

و الأسى قبل فرقه الروح عجز
و الأسى لا یکون بعد الفراق‏

البحتری-

ما أطیب الأیام إلا أنها
یا صاحبی إذا مضت لم ترجع‏

 و قال آخر-

أوفى یصفق بالجناح مغلسا
و یصیح من طرب إلى الندمان‏

یا طیب لذه هذه الدنیا لنا
لو أنها بقیت على الإنسان‏

و قال آخر-

أرى الناس یهوون البقاء سفاهه
و ذلک شی‏ء ما إلیه سبیل‏

و من یأمن الأیام أما بلاؤها
فجم و أما خیرها فقلیل‏

و قال محمد بن وهیب الحمیری-و نحن بنو الدنیا خلقنا لغیرهاو ما کنت منه فهو شی‏ء محبب‏- و هذا مأخوذ منقول أمیر المؤمنین ع و قد قیل له ما أکثر حب الناس للدنیا- فقال هم أبناؤها أ یلام الإنسان على حب أمه- . و قال آخر-

یا موت ما أفجاک من نازل
تنزل بالمرء على رغمه‏

تستلب العذراء من خدرها
و تأخذ الواحد من أمه‏

 أبو الطیب-

و هی معشوقه على الغدر لا تحفظ
عهدا و لا تتمم وصلا

کل دمع یسیل منها علیها
و بفک الیدین عنها نخلى‏

شیم الغانیات فیها فلا أدری
لذا أنث اسمها الناس أم لا

فإن قلت کیف یقول إنه لا یجد فی الموت راحه- و أین هذا منقول رسول الله ص الدنیا سجن المؤمن- و جنه الکافرو منقوله ع و الله ما أرجو الراحه إلا بعد الموت- و ما ذا یعمل بالصالحین- الذین آثروا فراق هذه العاجله- و اختاروا الآخره و هو ع سیدهم و أمیرهم- قلت لا منافاه فإن الصالحین- إنما طلبوا أیضا الحیاه المستمره بعد الموت- ورسول الله ص إنما قال إن الدنیا سجن المؤمن- لأن الموت غیر مطلوب للمؤمن لذاته- إنما یطلبه للحیاه المتعقبه له- و کذلکقوله ع و الله ما أرجو الراحه إلا بعد الموت- تصریح بأن الراحه فی الحیاه التی تتعقب الموت- و هی حیاه الأبد- فلا منافاه إذا بین هذه الوجوه- و بین ما قاله ع- لأنه ما نفى إلا الراحه فی الموت نفسه- لا فی الحیاه الحاصله بعده- .

فإن قلت فقد تطرأ على الإنسان حاله- یستصعبها قیود الموت لنفسه- و لا یفکر فیما یتعقبه- من الحیاه التی تشیر إلیها و لا یخطر بباله- قلت ذاک شاذ نادر فلا یلتفت إلیه- و إنما الحکم للأعم الأغلب- و أیضا فإن ذاک لا یلتذ بالموت- و إنما یتخلص به من الألم- وأمیر المؤمنین قال ما من شی‏ء من الملذات إلا و هو مملول إلا الحیاه- و بین الملذ و المخلص من الألم فرق واضح- فلا یکون نقضا على کلامه- . فإن قلت قد ذکرت ما قیل- فی حب الحیاه و کراهیه الموت- فهل قیل فی عکس ذلک و نقیضه شی‏ء- قلت نعم فمن ذلک قول أبی الطیب-

کفى بک داء أن ترى الموت شافیا
و حسب المنایا إن یکن أمانیا

تمنیتها لما تمنیت أن ترى‏
صدیقا فأعیا أو عدوا مداجیا

و قال آخر-

قد قلت إذ مدحوا الحیاه فأسرفوا
فی الموت ألف فضیله لا تعرف‏

منها أمان لقائه بلقائه‏
و فراق کل معاشر لا ینصف‏

 و قیل لأعرابی و قد احتضر إنک میت- قال إلى أین یذهب بی قیل إلى الله- قال ما أکره أن أذهب إلى من لم أر الخیر إلا منه- . إبراهیم بن مهدی-

و إنی و إن قدمت قبلی لعالم
بأنی و إن أبطأت عنک قریب‏

و إن صباحا نلتقی فی مسائه‏
صباح إلى قلبی الغداه حبیب‏

 و قال بعض السلف- ما من مؤمن إلا و الموت خیر له من الحیاه- لأنه إن کان محسنافالله تعالى یقول- وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَیْرٌ وَ أَبْقى‏ لِلَّذِینَ آمَنُوا- و إن کان مسیئا فالله تعالى یقول- وَ لا یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا- أَنَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ- إِنَّما نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدادُوا إِثْماً- .

و قال میمون بن مهران- بت لیله عند عمر بن عبد العزیز- فرأیته یبکی و یکثر من تمنی الموت- فقلت له إنک أحییت سننا- و أمت بدعا و فی بقائک خیر للمسلمین- فما بالک تتمنی الموت- فقال أ لا أکون کالعبد الصالح- حین أقر الله له عینه و جمع له أمره قال- رَبِّ قَدْ آتَیْتَنِی مِنَ الْمُلْکِ- وَ عَلَّمْتَنِی مِنْ تَأْوِیلِ الْأَحادِیثِ- فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- أَنْتَ وَلِیِّی فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَهِ- تَوَفَّنِی مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِی بِالصَّالِحِینَ- و قالت الفلاسفه- لا یستکمل الإنسان حد الإنسانیه إلا بالموت- لأن الإنسان هو الحی الناطق المیت- . و قال بعضهم- الصالح إذا مات استراح- و الطالح إذا مات استریح منه- . و قال الشاعر-

جزى الله عنا الموت خیرا فإنه
أبر بنا من کل بر و أرأف‏

یعجل تخلیص النفوس من الأذى‏
و یدنی من الدار التی هی أشرف‏

و قال آخر-

من کان یرجو أن یعیش فإننی
أصبحت أرجو أن أموت لأعتقا

فی الموت ألف فضیله لو أنها
عرفت لکان سبیله أن یعشقا

 و قال أبو العلاء-

جسمی و نفسی لما استجمعا صنعا
شرا إلی فجل الواحد الصمد

فالجسم یعذل فیه النفس مجتهدا
و تلک تزعم أن الظالم الجسد

إذا هما بعد طول الصحبه افترقا
فإن ذاک لأحداث الزمان ید

 و قال أبو العتاهیه-

المرء یأمل أن یعیش
و طول عمر قد یضره‏

تفنى بشاشته و یبقى‏
بعد حلو العیش مره‏

و تخونه الأیام حتى
لا یرى شیئا یسره‏

کم شامت بی أن هلکت‏
و قائل لله دره‏

و قال ابن المعتز-

أ لست ترى یا صاح ما أعجب الدهرا
فذما له لکن للخالق الشکرا

لقد حبب الموت البقاء الذی أرى‏
فیا حسدا منی لمن یسکن القبرا

 فأما قوله ع و إنما ذلک بمنزله الحکمه- إلى قوله و فیها الغنى کله و السلامه- ففصل آخر غیر ملتئم بما قبله- و هو إشاره إلى کلام من کلام رسول الله ص رواه لهم- ثم حضهم على التمسک به- و الانتفاع بمواعظه- و قال إنه بمنزله الحکمه التی هی حیاه القلوب- و نور الأبصار و سمع الآذان الصم- و ری الأکباد الحری- و فیها الغنى کله و السلامه- و الحکمه المشبه کلام الرسول ص بها- هی المذکوره فی قوله تعالى- وَ مَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَهَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً- و فی قوله وَ لَقَدْ آتَیْنالُقْمانَ الْحِکْمَهَ- و فی قوله وَ آتَیْناهُ الْحُکْمَ صَبِیًّا- و هی عباره عن المعرفه بالله تعالى- و بما فی مبدعاته من الأحکام الداله على علمه- کترکیب الأفلاک و وضع العناصر مواضعها- و لطائف صنعه الإنسان و غیره من الحیوان- و کیفیه إنشاء النبات و المعادن- و ما فی العالم من القوى المختلفه- و التأثیرات المتنوعه- الراجع ذلک کله إلى حکمه الصانع و قدرته و علمه- تبارک اسمه- .

فأما قوله و کتاب الله- إلى قوله و لا یخالف بصاحبه عن الله- ففصل آخر مقطوع عما قبله- و متصل بما لم یذکره جامع نهج البلاغه- فإن قلت ما معنى قوله و لا یختلف فی الله- و لا یخالف بصاحبه عن الله- و هل بین هاتین الجملتین فرق- قلت نعم أما قوله و لا یختلف فی الله- فهو أنه لا یختلف فی الدلاله على الله و صفاته- أی لا یتناقض أی لیس فی القرآن آیات مختلفه- یدل بعضها على أنه یعلم کل المعلومات  مثلا- و تدل الأخرى على أنه لا یعلم کل المعلومات- أو یدل بعضها على أنه لا یرى- و بعضها على أنه یرى- و لیس وجودنا للآیات المشتبهه بقادح فی هذا القول- لأن آیات الجبر و التشبیه لا تدل- و إنما توهم- و نحن إنما نفینا أن یکون فیه ما یدل على الشی‏ء و نقیضه- .

و أما قوله و لا یخالف بصاحبه عن الله- فهو أنه لا یأخذ بالإنسان المعتمد علیه إلى غیر الله- أی لا یهدیه إلا إلى جناب الحق سبحانه- و لا یعرج به إلى جناب الشیطان- یقال خالفت بفلان عن فلان- إذا أخذت به غیر نحوه- و سلکت به غیر جهته- .فأما قوله قد اصطلحتم على الغل إلى آخر الفصل- فکلام مقطوع أیضا عما قبله و الغل الحقد- . و الدمن جمع دمنه و هی الحقد أیضا- و قد دمنت قلوبهم بالکسر أی ضغنت- و نبت المرعى علیها أی دامت و طال الزمان علیها- حتى صارت بمنزله الأرض الجامده الثابته التی تنبت النبات- و یجوز أن یرید بالدمن هاهنا جمع دمن- و هو البعر المجتمع کالمزبله- أو جمع دمنه و هی آثار الناس و ما سودوا من الأرض- یقال قد دمن الشاء الماء- و قد دمن القوم الأرض- فشبه ما فی قلوبهم من الغل و الحقد و الضغائن- بالمزبله المجتمعه من البعر و غیره- من سقاطه الدیار التی قد طال مکثها- حتى نبت علیها المرعى- قال الشاعر

و قد ینبت المرعى على دمن الثرى
و تبقى حزازات النفوس کما هیا

قوله ع لقد استهام بکم الخبیث- یعنی الشیطان و استهام بکم جعلکم هائمین أی استهامکم- فعداه بحرف الجر- کما تقول فی استنفرت القوم إلى الحرب- استنفرت بهم أی جعلتهم نافرین- و یمکن أن یکون بمعنى الطلب و الاستدعاء- کقولک استعلمت منه حال کذا- أی استدعیت أن یعلمنی- و استمنحت فلانا أی طلبت و استدعیت أن یعطینی- فیکون قوله و استهام بکم الخبیث- أی استدعى منکم أن تهیموا و تقعوا- فی التیه و الضلال و الحیره- . قوله و تاه بکم الغرور هو الشیطان أیضا- قال سبحانه وَ غَرَّکُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ- و تاه بکم جعلکم تائهین حائرین- ثم سأل الله أن یعینه على نفسه و علیهم- و من کلام بعض الصالحین- اللهم انصرنی على أقرب الأعداء إلی دارا- و أدناهم منی جوارا و هی نفسی

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۸

بازدیدها: ۸۸

خطبه ۱۳۲ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۳۲ و من خطبه له ع

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَ أَعْطَى- وَ عَلَى مَا أَبْلَى وَ ابْتَلَى- الْبَاطِنُ لِکُلِّ خَفِیَّهٍ- وَ الْحَاضِرُ لِکُلِّ سَرِیرَهٍ- الْعَالِمُ بِمَا تُکِنُّ الصُّدُورُ- وَ مَا تَخُونُ الْعُیُونُ- وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَیْرُهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص نَجِیبُهُ وَ بَعِیثُهُ- شَهَادَهً یُوَافِقُ فِیهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ على ما أبلى أی ما أعطى- یقال قد أبلاه الله بلاء حسنا أی أعطاه- قال زهیر-

جزى الله بالإحسان ما فعلا بکم
و أبلاهما خیر البلاء الذی یبلو

 و أما قوله و ابتلى- فالابتلاء إنزال مضره بالإنسان على سبیل الاختبار- کالمرض و الفقر و المصیبه- و قد یکون الابتلاء بمعنى الاختبار فی الخیر- إلا أنه أکثر ما یستعمل فی الشر- . و الباطن العالم یقال بطنت الأمر أی خبرته- و تکن الصدور تستر- و ما تخون العیون ما تسترق من اللحظات و الرمزات- على غیر الوجه الشرعی- . و النجیب المنجب و البعیث المبعوث‏

: مِنْهَا فَإِنَّهُ وَ اللَّهِ الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ- وَ الْحَقُّ لَا الْکَذِبُ- وَ مَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِیهِ- وَ أَعْجَلَ حَادِیهِ- فَلَا یَغُرَّنَّکَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِکَ- وَ قَدْ رَأَیْتَ مَنْ کَانَ قَبْلَکَ- مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَ حَذِرَ الْإِقْلَالَ- وَ أَمِنَ الْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ وَ اسْتِبْعَادَ أَجَلٍ- کَیْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ- وَ أَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ- مَحْمُولًا عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَایَا- یَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ- حَمْلًا عَلَى الْمَنَاکِبِ- وَ إِمْسَاکاً بِالْأَنَامِلِ- أَ مَا رَأَیْتُمُ الَّذِینَ یَأْمُلُونَ بَعِیداً- وَ یَبْنُونَ مَشِیداً وَ یَجْمَعُونَ کَثِیراً- أَصْبَحَتْ بُیُوتُهُمْ قُبُوراً- وَ مَا جَمَعُوا بُوراً- وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِینَ- وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِینَ- لَا فِی حَسَنَهٍ یَزِیدُونَ- وَ لَا مِنْ سَیِّئَهٍ یُسْتَعْتَبُونَ- فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَزَ مَهَلُهُ- وَ فَازَ عَمَلُهُ فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا- وَ اعْمَلُوا لِلْجَنَّهِ عَمَلَهَا- فَإِنَّ الدُّنْیَا لَمْ تُخْلَقْ لَکُمْ دَارَ مُقَامٍ- بَلْ خُلِقَتْ لَکُمْ مَجَازاً- لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ- فَکُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَازٍ- وَ قَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّیَالِ قوله ع فإنه و الله الجد الضمیر للأمر و الشأن- الذی خاض معهم فی ذکره و وعظهم بنزوله- ثم أوضحه بعد إجماله- فقال إنه الموت الذی دعا فأسمع و حدا فأعجل- .

و سواد الناس عامتهم- . و من هاهنا إما بمعنى الباء- أی لا یغرنک الناس بنفسک و صحتک و شبابک- فتستبعد الموت اغترارا بذلک- فتکون متعلقه بالظاهر- و إما أن تکون متعلقه بمحذوف- تقدیره متمکنا من نفسک و راکنا إلیها- .و الإقلال الفقر و طول أمل منصوب على أنه مفعول- . فإن قلت- المفعول له ینبغی أن یکون الفعل عله فی المصدر- و هاهنا لیس الأمن عله طول الأمل- بل طول الأمل عله الأمن- قلت کما یجوز أن یکون طول الأمل عله الأمن- یجوز أن یکون الأمن عله طول الأمل- أ لا ترى أن الإنسان قد یأمن المصائب- فیطول أمله فی البقاء و وجوه المکاسب- لأجل ما عنده من الأمن- و یجوز أن ینصب طول أمل على البدل- من المفعول المنصوب برأیت و هو من- و یکون التقدیر قد رأیت طول أمل من کان- و هذا بدل الاشتمال- و قد حذف منه الضمیر العائد- کما حذف من قوله تعالى- قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ…- .

و أعواد المنایا النعش- و یتعاطى به الرجال الرجال یتداولونه- تاره على أکتاف هؤلاء- و تاره على أکتاف هؤلاء- و قد فسر ذلک بقوله- حملا على المناکب و إمساکا بالأنامل- . و المشید المبنی بالشید و هو الجص- . البور الفاسد الهالک- و قوم بور أی هلکى- قال سبحانه وَ کُنْتُمْ قَوْماً بُوراً- و هو جمع واحده بائر کحائل و حول- .

و یستعتبون هاهنا یفسر بتفسیرین- على اختلاف الروایتین- فمن رواه بالضم على فعل ما لم یسم فاعله- فمعناه لا یعاتبون على فعل سیئه صدرت منهم- کما کانوا فی أیام حیاتهم- أی لا یعاتبهم الناس أو لا یستطیعون- و هم موتى أن یسیئوا إلى أحد إساءه علیها- و من رواه یستعتبون- بفتح حرف المضارعه- فهو من استعتب فلان- أی طلب أن یعتب أی یرضى- تقول استعتبته فأعتبنی- أی استرضیته فأرضانی- . و أشعر فلان التقوى قلبه جعله کالشعار له- أی یلازمه ملازمه شعار الجسد- .

و برز مهله و یروى بالرفع و النصب- فمن رواه بالرفع جعله فاعل برز- أی من فاق شوطه برز الرجل على أقرانه أی فاقهم- و المهل شوط الفرس- و من رواه بالنصب جعل برز بمعنى أبرز- أی أظهر و أبان- فنصب حینئذ على المفعولیه- . و اهتبلت غره زید أی اغتنمتها- و الهبال الصیاد الذی یهتبل الصید أن یغره- و ذئب هبل أی محتال- هبلها منصوب على المصدر- کأنه من هبل مثل غضب غضبا- أی اغتنموا و انتهزوا الفرصه- الانتهاز الذی یصلح لهذه الحال- أی لیکن هذا الاهتبال بجد و همه عظیمه- فإن هذه الحال حال عظیمه- لا یلیق بها إلا الاجتهاد العظیم- .

و کذا قوله و اعملوا للجنه عملها- أی العمل الذی یصلح أن یکون ثمرته الجنه- . و دار مقام أی دار إقامه- و المجاز الطریق یجاز علیه إلى المقصد- . و الأوفاز جمع وفز بسکون الفاء و هو العجله- و الظهور الرکاب جمع ظهر- و بنو فلان مظهرون أی لهم ظهور ینقلون علیها الأثقال- کما یقال منجبون إذا کانوا أصحاب نجائب- و الزیال المفارقه زایله مزایله و زیالا أی فارقه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۸

بازدیدها: ۴۲

خطبه ۱۳۱ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۳۱ و من کلام له ع

أَیَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَهُ وَ الْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَهُ- الشَّاهِدَهُ أَبْدَانُهُمْ وَ الْغَائِبَهُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ- أَظْأَرُکُمْ عَلَى الْحَقِّ- وَ أَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَهِ الْأَسَدِ- هَیْهَاتَ أَنْ أُطْلِعَ بِکُمْ سِرَارَ الْعَدْلِ- أَوْ أُقِیمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ- اللَّهُمَّ إِنَّکَ تَعْلَمُ- أَنَّهُ لَمْ یَکُنِ الَّذِی کَانَ مِنَّا مُنَافَسَهً فِی سُلْطَانٍ- وَ لَا الْتِمَاسَ شَیْ‏ءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ- وَ لَکِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِینِکَ- وَ نُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِی بِلَادِکَ- فَیَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِکَ- وَ تُقَامَ الْمُعَطَّلَهُ مِنْ حُدُودِکَ- اللَّهُمَّ إِنِّی أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ- وَ سَمِعَ وَ أَجَابَ- لَمْ یَسْبِقْنِی إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ ص بِالصَّلَاهِ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا یَنْبَغِی أَنْ یَکُونَ عَلَى الْفُرُوجِ- وَ الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ وَ الْأَحْکَامِ- وَ إِمَامَهِ الْمُسْلِمِینَ الْبَخِیلُ- فَتَکُونَ فِی أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ- وَ لَا الْجَاهِلُ فَیُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ- وَ لَا الْجَافِی فَیَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ- وَ لَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَیَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ- وَ لَا الْمُرْتَشِی فِی الْحُکْمِ- فَیَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ- وَ یَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ- وَ لَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّهِ فَیُهْلِکَ الْأُمَّهَ أظأرکم أعطفکم ظأرت الناقه ظأرا- و هی ناقه مظئوره- إذا عطفتها علی ولد غیرها-

و فی المثل الطعن یظأر أی یعطف علی الصلح- و ظأرت الناقه أیضا إذا عطفت على البو- یتعدى و لا یتعدى فهی ظئور- . و الوعوعه الصوت و الوعواع مثله- . و قوله هیهات أن أطلع بکم سرار العدل- یفسره الناس بمعنى هیهات أن أطلعکم- مضیئین و منورین لسرار العدل- و السرار آخر لیله فی الشهر و تکون مظلمه- و یمکن عندی أن یفسر على وجه آخر- و هو أن یکون السرار هاهنا بمعنى السرور- و هی خطوط مضیئه فی الجبهه- و قد نص أهل اللغه- على أنه یجوز سرر و سرار- و قالوا و یجمع سرار على أسره مثل حمار و أحمره- قال عنتره-

بزجاجه صفراء ذات أسره
قرنت بأزهر فی الشمال مفدم‏

 یصف الکأس- و یقول إن فیها خطوطا بیضا- و هی زجاج أصفر- و یقولون برقت أسره وجهه و أساریر وجهه- فیکون معنى کلامه ع- هیهات أن تلمع بکم لوامع العدل- و تنجلی أوضاحه و یبرق وجهه- و یمکن فیه أیضا وجه آخر- و هو أن ینصب سرار هاهنا على الظرفیه- و یکون التقدیر- هیهات أن أطلع بکم الحق- زمان استسرار العدل و استخفائه- فیکون قد حذف المفعول و حذفه کثیر- . ثم ذکر أن الحروب التی کانت منه- لم تکن طلبا للملک و لا منافسه على الدنیا- و لکن لتقام حدود الله على وجهها- و یجری أمر الشریعه و الرعیه- على ما کان یجری علیه أیام النبوه- . ثم ذکر أنه سبق المسلمین کلهم- إلى التوحید و المعرفه- و لم یسبقه بالصلاه أحد إلا رسول الله ص- و هکذا روى جمهور المحدثین- و قد تقدم ذکر ذلک- .

فإن قلت أی وجه لإدخال هذا الکلام- فی غضون مقصده فی هذه الخطبه- فإنها مبنیه على ذم أصحابه- و تقریر قاعده الإمامه- و أنه لا یجوز أن یلیها الفاسق- و أنه لا بد للإمام من صفات مخصوصه عددها ع- و کل هذا لا تعلق لسبقه إلى الإسلام- قلت بل الکلام متعلق بعضه ببعض من وجهین- أحدهما أنه لما قال- اللهم إنک تعلم أنی ما سللت السیف طلبا للملک- أراد أن یؤکد هذا القول فی نفوس السامعین- فقال أنا أول من أسلم- و لم یکن الإسلام حینئذ معروفا أصلا- و من یکون إسلامه هکذا- لا یکون قد قصد بإسلامه- إلا وجه الله تعالى و القربه إلیه- فمن تکون هذه حاله فی مبدإ أمره- کیف یخطر ببال عاقل أنه یطلب الدنیا و حطامها- و یجرد علیها السیف فی آخر عمره- و وقت انقضاء مده عمره- .

و الوجه الثانی أنه إذا کان أول السابقین- وجب أن یکون أقرب المقربین- لأنه تعالى قال- وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِکَ الْمُقَرَّبُونَ- أ لا ترى أنه إذا قال الملک- العالمون العاملون هم المختصون بنا- وجب أن یکون أعلمهم أشدهم به اختصاصا- و إذا کان ع أقرب المقربین- وجب أن تنتفی عنه الموانع السته- التی جعل کل واحد منها صادا عن الإمامه- و قاطعا عن استحقاقها- و هی البخل و الجهل و الجفاء- أی الغلظه العصبیه فی دولته- أی تقدیم قوم على قوم- و الارتشاء فی الحکم و التعطیل للسنه- و إذا انتفت عنه هذه الموانع السته- تعین أن یکون هو الإمام- لأن شروط الإمامه موجوده فیه بالاتفاق- فإذا کانت موانعها عنه منتفیه- و لم یحصل لغیره اجتماع الشروط و ارتفاع الموانع- وجب أن یکون هو الإمام- لأنه لا یجوز خلو العصر من إمام- سواء کانت هذه القضیه عقلیه أو سمعیه- .

فإن قلت أ فتراه عنی بهذا قوما بأعیانهم- قلت الإمامیه تزعم أنه رمز فی الجفاء و العصبیه- لقوم دون قوم إلى عمر- و رمز بالجهل إلى من کان قبله- و رمز بتعطیل السنه إلى عثمان و معاویه- و أما نحن فنقول إنه ع لم یعن ذلک- و إنما قال قولا کلیا غیر مخصوص- و هذا هو اللائق بشرفه ع- و قول الإمامیه دعوى لا دلیل علیها- و لا یعدم کل أحد أن یستنبط من کل کلام- ما یوافق غرضه و إن غمض- و لا یجوز أن تبنى العقائد- على مثل هذه الاستنباطات الدقیقه- . و النهمه الهمه الشدیده بالأمر- قد نهم بکذا بالضم فهو منهوم- أی مولع به حریص علیه- یقول إذا کان الإمام بخیلا- کان حرصه و جشعه على أموال رعیته- و من رواها نهمته بالتحریک- فهی إفراط الشهوه فی الطعام- و الماضی نهم بالکسر- .

قوله ع فیقطعهم بجفائه- أی یقطعهم عن حاجاتهم لغلظته علیهم- لأن الوالی إذا کان غلیظا جافیا- أتعب الرعیه و قطعهم عن مراجعته فی حاجاتهم- خوفا من بادرته و معرته- . قوله و لا الحائف للدول- أی الظالم لها و الجائر علیها- و الدول جمع دوله بالضم و هی اسم المال المتداول به- و یقال هذا الفی‏ء دوله بینهم أی یتداولونه- و المعنى أنه یجب أن یکون الإمام یقسم بالسویه- و لا یخص قوما دون قوم على وجه العصبیه- لقبیله دون قبیله أو لإنسان من المسلمین دون غیره- فیتخذ بذلک بطانه- . قوله فیقف بها دون المقاطع- المقاطع جمع مقطع و هو ما ینتهی الحق إلیه- أی لا تصل الحقوق إلى أربابها- لأجل ما أخذ من الرشوه علیها- .

فإن قلت فما باله قال فی المانع السادس- فیهلک الأمه- و کل واحد من الموانع قبله یفضی إلى هلاک الأمه- . قلت کل واحد من الموانع الخمسه- یفضی إلى هلاک بعض الأمه- و أما من یعطل السنه أصلا- فإنه لا محاله مهلک للأمه کلها- لأنه إذا عطل السنه مطلقا- عادت الجاهلیه الجهلاء کما کانت- . و قد روی و لا الخائف الدول بالخاء المعجمه- و نصب الدول أی من یخاف دول الأیام و تقلبات الدهر- فیتخذ قوما دون قوم ظهریا- و هذا معنى لا بأس به

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن‏ أبی‏ الحدید) ج ۸ 

بازدیدها: ۷۱

خطبه ۱۳۰ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(لأبی ذر رحمه الله- لما أخرج إلى الربذه)

۱۳۰ و من کلام له ع لأبی ذر رحمه الله- لما أخرج إلى الربذه

یَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّکَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ- إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوکَ عَلَى دُنْیَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِینِکَ- فَاتْرُکْ فِی أَیْدِیهِمْ مَا خَافُوکَ عَلَیْهِ- وَ اهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَیْهِ- فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ- وَ أَغْنَاکَ عَمَّا مَنَعُوکَ- وَ سَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً وَ الْأَکْثَرُ حَسَداً- وَ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِینَ کَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً- ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً- لَا یُؤْنِسَنَّکَ إِلَّا الْحَقُّ- وَ لَا یُوحِشَنَّکَ إِلَّا الْبَاطِلُ- فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْیَاهُمْ لَأَحَبُّوکَ- وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوکَ

أخبار أبی ذر الغفاری حین خروجه إلى الربذه

واقعه أبی ذر رحمه الله و إخراجه إلى الربذه- أحد الأحداث التی نقمت على عثمان- و قد روى هذا الکلام- أبو بکر أحمد بن عبد العزیز الجوهری- فی کتاب السقیفه عن عبد الرزاق عن أبیه- عن عکرمه عن ابن عباس قال- لما أخرج أبو ذر إلى الربذه أمر عثمان- فنودی فی الناس ألا یکلم أحد أبا ذر و لا یشیعه- و أمر مروان بن الحکم أن یخرج به فخرج به- و تحاماه الناس إلا علی‏بن أبی طالب ع و عقیلا أخاه- و حسنا و حسینا ع و عمارا- فإنهم خرجوا معه یشیعونه- فجعل الحسن ع یکلم أبا ذر- فقال له مروان إیها یا حسن- أ لا تعلم أن أمیر المؤمنین- قد نهى عن کلام هذا الرجل- فإن کنت لا تعلم فاعلم ذلک- فحمل علی ع على مروان- فضرب بالسوط بین أذنی راحلته- و قال تنح لحاک الله إلى النار- .

فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر- فتلظى على علی ع و وقف أبو ذر فودعه القوم- و معه ذکوان مولى أم هانئ بنت أبی طالب- . قال ذکوان فحفظت کلام القوم و کان حافظا- فقال علی ع یا أبا ذر إنک غضبت لله- إن القوم خافوک على دنیاهم و خفتهم على دینک- فامتحنوک بالقلى و نفوک إلى الفلا- و الله لو کانت السماوات و الأرض على عبد رتقا- ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا- یا أبا ذر لا یؤنسنک إلا الحق- و لا یوحشنک إلا الباطل- ثم قال لأصحابه ودعوا عمکم- و قال لعقیل ودع أخاک- . فتکلم عقیل- فقال ما عسى أن نقول یا أبا ذر- و أنت تعلم أنا نحبک و أنت تحبنا- فاتق الله فإن التقوى نجاه- و اصبر فإن الصبر کرم- و اعلم أن استثقالک الصبر من الجزع- و استبطاءک العافیه من الیأس- فدع الیأس و الجزع- .

ثم تکلم الحسن فقال یا عماه- لو لا أنه لا ینبغی للمودع أن یسکت- و للمشیع أن ینصرف لقصر الکلام و إن طال الأسف- و قد أتى القوم إلیک ما ترى- فضع عنک الدنیا بتذکر فراغها- و شده ما اشتد منها برجاء ما بعدها- و اصبر حتى تلقى نبیک ص و هو عنک راض- . ثم تکلم الحسین ع فقال یا عماه- إن الله تعالى قادر أن یغیر ما قد ترى-و الله کل یوم هو فی شأن- و قد منعک القوم دنیاهم و منعتهم دینک- فما أغناک عما منعوک- و أحوجهم إلى ما منعتهم- فاسأل الله الصبر و النصر- و استعذ به من الجشع و الجزع- فإن الصبر من الدین و الکرم- و إن الجشع لا یقدم رزقا- و الجزع لا یؤخر أجلا- .

ثم تکلم عمار رحمه الله مغضبا- فقال لا آنس الله من أوحشک- و لا آمن من أخافک- أما و الله لو أردت دنیاهم لأمنوک- و لو رضیت أعمالهم لأحبوک- و ما منع الناس أن یقولوا بقولک إلا الرضا بالدنیا- و الجزع من الموت- مالوا إلى ما سلطان جماعتهم علیه- و الملک لمن غلب فوهبوا لهم دینهم- و منحهم القوم دنیاهم- فحسروا الدنیا و الآخره- إلا ذلک هو الخسران المبین- . فبکى أبو ذر رحمه الله و کان شیخا کبیرا- و قال رحمکم الله یا أهل بیت الرحمه- إذا رأیتکم ذکرت بکم رسول الله ص- ما لی بالمدینه سکن و لا شجن غیرکم- إنی ثقلت على عثمان بالحجاز- کما ثقلت على معاویه بالشام- و کره أن أجاور أخاه و ابن خاله بالمصرین- فأفسد الناس علیهما- فسیرنی إلى بلد لیس لی به ناصر و لا دافع إلا الله- و الله ما أرید إلا الله صاحبا- و ما أخشى مع الله وحشه- .

و رجع القوم إلى المدینه فجاء علی ع إلى عثمان- فقال له ما حملک على رد رسولی و تصغیر أمری- فقال علی ع أما رسولک- فأراد أن یرد وجهی فرددته و أما أمرک فلم أصغره- . قال أ ما بلغک نهیی عن کلام أبی ذر- قال أ و کلما أمرت بأمر معصیه أطعناک فیه- قال عثمان أقد مروان من نفسک قال مم ذا- قال من شتمه و جذب راحلته- قال أما راحلته فراحلتی بها- و أما شتمه إیای- فو الله لا یشتمنی شتمه إلا شتمتک مثلها- لا أکذب علیک- .

فغضب عثمان و قال لم لا یشتمک کأنک خیر منه- قال علی إی و الله و منک ثم قام فخرج- . فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرین- و الأنصار و إلى بنی أمیه- یشکو إلیهم علیا ع فقال القوم- أنت الوالی علیه و إصلاحه أجمل- قال وددت ذاک فأتوا علیا ع- فقالوا لو اعتذرت إلى مروان و أتیته- فقال کلا أما مروان فلا آتیه و لا أعتذر منه- و لکن إن أحب عثمان أتیته- . فرجعوا إلى عثمان فأخبروه- فأرسل عثمان إلیه- فأتاه و معه بنو هاشم-فتکلم علی ع- فحمد الله و أثنى علیه- ثم قال أما ما وجدت علی فیه من کلام أبی ذر و وداعه- فو الله ما أردت مساءتک و لا الخلاف علیک- و لکن أردت به قضاء حقه- و أما مروان فإنه اعترض- یرید ردی عن قضاء حق الله عز و جل- فرددته رد مثلی مثله- و أما ما کان منی إلیک فإنک أغضبتنی- فأخرج الغضب منی ما لم أرده- .

فتکلم عثمان فحمد الله و أثنى علیه- ثم قال أما ما کان منک إلی فقد وهبته لک- و أما ما کان منک إلى مروان فقد عفا الله عنک- و أما ما حلفت علیه فأنت البر الصادق- فأدن یدک فأخذ یده فضمها إلى صدره- . فلما نهض قالت قریش و بنو أمیه لمروان- أ أنت رجل جبهک علی و ضرب راحلتک- و قد تفانت وائل فی ضرع ناقه- و ذبیان و عبس فی لطمه فرس و الأوس و الخزرج فی نسعه- أ فتحمل لعلی ع ما أتاه إلیک- فقال مروان و الله لو أردت ذلک لما قدرت علیه- .

و اعلم أن الذی علیه أکثر أرباب السیره- و علماء الأخبار و النقل- أن عثمان نفى‏أبا ذر أولا إلى الشام- ثم استقدمه إلى المدینه لما شکا منه معاویه- ثم نفاه من المدینه إلى الربذه- لما عمل بالمدینه نظیر ما کان یعمل بالشام- . أصل هذه الواقعه- أن عثمان لما أعطى مروان بن الحکم و غیره- بیوت الأموال- و اختص زید بن ثابت بشی‏ء منها- جعل أبو ذر یقول بین الناس و فی الطرقات و الشوارع- بشر الکافرین بعذاب ألیم- و یرفع بذلک صوته و یتلو قوله تعالى- وَ الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّهَ- وَ لا یُنْفِقُونَها فِی سَبِیلِ اللَّهِ- فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِیمٍ- فرفع ذلک إلى عثمان مرارا و هو ساکت- .

ثم إنه أرسل إلیه مولى من موالیه- أن انته عما بلغنی عنک- فقال أبو ذر أ و ینهانی عثمان عن قراءه کتاب الله تعالى- و عیب من ترک أمر الله تعالى- فو الله لأن أرضی الله بسخط عثمان أحب إلی و خیر لی- من أن أسخط الله برضا عثمان- . فأغضب عثمان ذلک و أحفظه فتصابر و تماسک- إلى أن قال عثمان یوما و الناس حوله- أ یجوز للإمام أن یأخذ من المال شیئا قرضا- فإذا أیسر قضى فقال کعب الأحبار لا بأس بذلک- فقال أبو ذر یا ابن الیهودیین أ تعلمنا دیننا- فقال عثمان قد کثر أذاک لی و تولعک بأصحابی- الحق بالشام فأخرجه إلیها- .

فکان أبو ذر ینکر على معاویه أشیاء یفعلها- فبعث إلیه معاویه یوما ثلاثمائه دینار- فقال أبو ذر لرسوله- إن کانت من عطائی الذی حرمتمونیه عامی هذا أقبلها- و إن کانت صله فلا حاجه لی فیها و ردها علیه- . ثم بنى معاویه الخضراء بدمشق- فقال أبو ذر یا معاویه- إن کانت هذه من مال الله فهی الخیانه- و إن کانت من مالک فهی الإسراف- و کان أبو ذر یقول بالشام- و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها- و الله ما هی فی کتاب الله و لا سنه نبیه ص-و الله إنی لأرى حقا یطفأ و باطلا یحیا- و صادقا مکذبا و أثره بغیر تقى و صالحا مستأثرا علیه- .

قال حبیب بن مسلمه الفهری لمعاویه- إن أبا ذر لمفسد علیکم الشام- فتدارک أهله إن کان لک فیه حاجه- . و روى شیخنا أبو عثمان الجاحظ- فی کتاب السفیانیه عن جلام بن جندل الغفاری- قال کنت غلاما لمعاویه على قنسرین و العواصم- فی خلافه عثمان فجئت إلیه یوما أسأله عن حال عملی- إذ سمعت صارخا على باب داره یقول- أتتکم القطار تحمل النار- اللهم العن الآمرین بالمعروف التارکین له- اللهم العن الناهین عن المنکر المرتکبین له- فازبأر معاویه و تغیر لونه و قال- یا جلام أ تعرف الصارخ- فقلت اللهم لا- قال من عذیری من جندب بن جناده- یأتینا کل یوم فیصرخ على باب قصرنا بما سمعت-

ثم قال أدخلوه علی- فجی‏ء بأبی ذر بین قوم یقودونه- حتى وقف بین یدیه- فقال له معاویه یا عدو الله و عدو رسوله- تأتینا فی کل یوم فتصنع ما تصنع- أما أنی لو کنت قاتل رجل من أصحاب محمد- من غیر إذن أمیر المؤمنین عثمان لقتلتک- و لکنی أستأذن فیک- قال جلام و کنت أحب أن أرى أبا ذر- لأنه رجل من قومی- فالتفت إلیه فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال- خفیف العارضین فی ظهره جنأ- فأقبل على معاویه- و قال ما أنا بعدو لله و لا لرسوله- بل أنت و أبوک عدوان لله و لرسوله- أظهرتما الإسلام و أبطنتما الکفر- و لقد لعنک رسول الله ص- و دعا علیک مرات ألا تشبع-سمعت رسول الله ص یقول إذا ولی الأمه الأعین الواسع البلعوم- الذی یأکل و لا یشبع- فلتأخذ الأمه حذرها منه- فقال معاویه ما أنا ذاک‏الرجل- قال أبو ذر بل أنت ذلک الرجل- أخبرنی بذلک رسول الله ص- وسمعته یقول و قد مررت به اللهم العنه و لا تشبعه إلا بالترابوسمعته ص یقول است معاویه فی النار- فضحک معاویه و أمر بحبسه- و کتب إلى عثمان فیه- .

فکتب عثمان إلى معاویه- أن احمل جندبا إلی- على أغلظ مرکب و أوعره- فوجه به مع من سار به اللیل و النهار- و حمله على شارف لیس علیها إلا قتب- حتى قدم به المدینه و قد سقط لحم فخذیه من الجهد- . فلما قدم بعث إلیه عثمان الحق بأی أرض شئت- قال بمکه قال لا- قال بیت المقدس قال لا- قال بأحد المصرین قال لا- و لکنی مسیرک إلى ربذه فسیره إلیها- فلم یزل بها حتى مات- . و فی روایه الواقدی- أن أبا ذر لما دخل على عثمان قال له-

لا أنعم الله بقین عینا
نعم و لا لقاه یوما زینا
تحیه السخط إذا التقینا

فقال أبو ذر ما عرفت اسمی قینا قط- و فی روایه أخرى لا أنعم الله بک عینا یا جنیدب- فقال أبو ذر أنا جندب- و سمانی رسول الله ص عبد الله- فاخترت اسم رسول الله ص الذی سمانی به على اسمی- فقال له عثمان أنت الذی تزعم أنا نقول ید الله مغلوله- و إن الله فقیر و نحن أغنیاء- فقال أبو ذر لو کنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده- و لکنی أشهد أنیسمعت رسول الله ص یقول إذا بلغ بنو أبی العاص ثلاثین رجلا- جعلوا مال الله دولا- و عباده خولا و دینه دخلا- .

فقال عثمان لمن حضر أ سمعتموها من رسول الله قالوا لا- قال عثمان ویلک یا أبا ذر- أ تکذب على رسول الله- فقال أبو ذر لمن حضر- أ ما تدرون أنی صدقت- قالوا لا و الله‏ما ندری- فقال عثمان ادعوا لی علیا- فلما جاء قال عثمان لأبی ذر- اقصص علیه حدیثک فی بنی أبی العاص فأعاده- فقال عثمان لعلی ع- أ سمعت هذا من رسول الله ص قال لا- و قد صدق أبو ذر- فقال کیف عرفت صدقه- قال لأنی
سمعت رسول الله ص یقول ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء- من ذی لهجه أصدق من أبی ذر- فقال من حضر- أما هذا فسمعناه کلنا من رسول الله- فقال أبو ذر أحدثکم- أنی سمعت هذا من رسول الله ص فتتهموننی- ما کنت أظن أنی أعیش- حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص- .

و روى الواقدی فی خبر آخر بإسناده- عن صهبان مولى الأسلمیین- قال رأیت أبا ذر یوم دخل به على عثمان- فقال له أنت الذی فعلت و فعلت- فقال أبو ذر نصحتک فاستغششتنی- و نصحت صاحبک فاستغشنی- قال عثمان کذبت و لکنک ترید الفتنه و تحبها- قد انغلت الشام علینا- فقال له أبو ذر اتبع سنه صاحبیک- لا یکن لأحد علیک کلام- فقال عثمان ما لک و ذلک لا أم لک- قال أبو ذر و الله ما وجدت لی عذرا- إلا الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر- فغضب عثمان- و قال أشیروا علی فی هذا الشیخ الکذاب- إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله- فإنه قد فرق جماعه المسلمین- أو أنفیه من أرض الإسلام- فتکلم علی ع و کان حاضرا- فقال أشیر علیک بما قال مؤمن آل فرعون- وَ إِنْ یَکُ کاذِباً فَعَلَیْهِ کَذِبُهُ- وَ إِنْ یَکُ صادِقاً یُصِبْکُمْ بَعْضُ الَّذِی یَعِدُکُمْ- إِنَّ اللَّهَ لا یَهْدِی مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ کَذَّابٌ- فأجابه عثمان بجواب غلیظ- و أجابه علی ع بمثله- و لم نذکر الجوابین تذمما منهما- .

قال الواقدی- ثم إن عثمان حظر على الناس- أن یقاعدوا أبا ذر أو یکلموه- فمکث‏کذلک أیاما- ثم أتى به فوقف بین یدیه- فقال أبو ذر ویحک یا عثمان- أ ما رأیت رسول الله ص- و رأیت أبا بکر و عمر هل هدیک کهدیهم- أما إنک لتبطش بی بطش جبار- فقال عثمان اخرج عنا من بلادنا- فقال أبو ذر ما أبغض إلی جوارک- فإلى أین أخرج قال حیث شئت- قال أخرج إلى الشام أرض الجهاد- قال إنما جلبتک من الشام لما قد أفسدتها- أ فأردک إلیها قال أ فأخرج إلى العراق- قال لا إنک إن تخرج إلیها تقدم على قوم- أولی شبه و طعن على الأئمه و الولاه- قال أ فأخرج إلى مصر- قال لا قال فإلى أین أخرج- قال إلى البادیه- قال أبو ذر أصیر بعد الهجره أعرابیا قال نعم- قال أبو ذر فأخرج إلى بادیه نجد- قال عثمان بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى- امض على وجهک هذا- فلا تعدون الربذه فخرج إلیها- .

وروى الواقدی أیضا عن مالک بن أبی الرجال عن موسى بن میسره أن أبا الأسود الدؤلی قال- کنت أحب لقاء أبی ذر- لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذه- فجئته فقلت له أ لا تخبرنی- أخرجت من المدینه طائعا أم أخرجت کرها- فقال کنت فی ثغر من ثغور المسلمین أغنی عنهم- فأخرجت إلى المدینه- فقلت دار هجرتی و أصحابی- فأخرجت من المدینه إلى ما ترى- ثم قال بینا أنا ذات لیله نائم فی المسجد- علی عهد رسول الله ص- إذ مر بی ع فضربنی برجله- و قال لا أراک نائما فی المسجد- فقلت بأبی أنت و أمی- غلبتنی عینی فنمت فیه- قال فکیف تصنع إذا أخرجوک منه- قلت إذا ألحق بالشام- فإنها أرض مقدسه و أرض الجهاد- قال فکیف تصنع إذا أخرجت منها- قلت أرجع إلى المسجد- قال فکیف تصنع‏إذا أخرجوک منه- قلت آخذ سیفی فأضربهم به- فقال أ لا أدلک على خیر من ذلک- انسق معهم حیث ساقوک و تسمع و تطیع- فسمعت و أطعت و أنا أسمع و أطیع- و الله لیلقین الله عثمان و هو آثم فی جنبی- .

و اعلم أن أصحابنا رحمهم الله قد رووا أخبارا کثیره- معناها أنه أخرج إلى الربذه باختیاره- . و حکى قاضی القضاه رحمه الله فی المغنی- عن شیخنا أبی علی رحمه الله- أن الناس اختلفوا فی أمر أبی ذر- و أن الروایه وردت بأنه قیل له- أ عثمان أنزلک الربذه- فقال لا بل أنا اخترت لنفسی ذلک- . و روى أبو علی أیضا: أن معاویه کتب یشکوه و هو بالشام- فکتب إلیه عثمان أن صر إلى المدینه- فلما صار إلیها- قال له ما أخرجک إلى الشام- قالإنی سمعت رسول الله ص یقول إذا بلغت عماره المدینه- موضع کذا فاخرج منها- فلذلک خرجت- فقال أی البلاد أحب إلیک بعد الشام- قال الربذه فقال صر إلیها- .

و روى الشیخ أبو علی أیضا عن زید بن وهب- قال قلت لأبی ذر و هو بالربذه- ما أنزلک هذا المنزل- قال أخبرک أنی کنت بالشام- فذکرت قوله تعالى- وَ الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّهَ- وَ لا یُنْفِقُونَها- فقال لی معاویه هذه نزلت فی أهل الکتاب- فقلت فیهم و فینا- فکتب معاویه إلى عثمان فی ذلک- فکتب إلى أن أقدم فقدمت علیه- فانثال الناس إلی کأنهم لم یعرفونی- فشکوت ذلک إلى عثمان- فخیرنی و قال انزل حیث شئت فنزلت الربذه- . و نحن نقول هذه الأخبار و إن کانت قد رویت- لکنها لیست فی الاشتهارو الکثره کتلک الأخبار- و الوجه أن یقال فی الاعتذار عن عثمان و حسن الظن بفعله- أنه خاف الفتنه و اختلاف کلمه المسلمین- فغلب على ظنه- أن إخراج أبی ذر إلى الربذه أحسم للشغب- و أقطع لأطماع من یشرئب إلى شق العصا- فأخرجه مراعاه للمصلحه- و مثل ذلک یجوز للإمام- هکذا یقول أصحابنا المعتزله- و هو الألیق بمکارم الأخلاق- فقد قال الشاعر-

إذا ما أتت من صاحب لک زله
فکن أنت محتالا لزلته عذرا

و إنما یتأول أصابنا لمن یحتمل حاله التأویل کعثمان- فأما من لم یحتمل حاله التأویل- و إن کانت له صحبه سالفه- کمعاویه و أضرابه فإنهم لا یتأولون لهم- إذا کانت أفعالهم و أحوالهم لا وجه لتأویلها- و لا تقبل العلاج و الإصلاح

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۸

بازدیدها: ۲۹

خطبه ۱۲۹ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۲۹ و من خطبه له ع فی ذکر المکاییل و الموازین

عِبَادَ اللَّهِ إِنَّکُمْ وَ مَا تَأْمُلُونَ- مِنْ هَذِهِ الدُّنْیَا أَثْوِیَاءُ مُؤَجَّلُونَ- وَ مَدِینُونَ مُقْتَضَوْنَ أَجَلٌ مَنْقُوصٌ- وَ عَمَلٌ مَحْفُوظٌ- فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَیَّعٌ وَ رُبَّ کَادِحٍ خَاسِرٌ- وَ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِی زَمَنٍ لَا یَزْدَادُ الْخَیْرُ فِیهِ إِلَّا إِدْبَاراً- وَ الشَّرُّ إِلَّا إِقْبَالًا- وَ الشَّیْطَانُ فِی هَلَاکِ النَّاسِ إِلَّا طَمَعاً- فَهَذَا أَوَانٌ قَوِیَتْ عُدَّتُهُ- وَ عَمَّتْ مَکِیدَتُهُ وَ أَمْکَنَتْ فَرِیسَتُهُ- اضْرِبْ بِطَرْفِکَ حَیْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ- فَهَلْ تُبْصِرُ إِلَّا فَقِیراً یُکَابِدُ فَقْراً- أَوْ غَنِیّاً بَدَّلَ نِعْمَهَ اللَّهِ کُفْراً- أَوْ بَخِیلًا اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللَّهِ وَفْراً- أَوْ مُتَمَرِّداً کَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً- أَیْنَ أَخْیَارُکُمْ وَ صُلَحَاؤُکُمْ- وَ أَیْنَ أَحْرَارُکُمْ وَ سُمَحَاؤُکُمْ- وَ أَیْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ فِی مَکَاسِبِهِمْ- وَ الْمُتَنَزِّهُونَ فِی مَذَاهِبِهِمْ- أَ لَیْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِیعاً- عَنْ هَذِهِ الدُّنْیَا الدَّنِیَّهِ- وَ الْعَاجِلَهِ الْمُنَغِّصَهِ- وَ هَلْ خُلِّفْتُمْ إِلَّا فِی حُثَالَهٍ- لَا تَلْتَقِی بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ- اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ وَ ذَهَاباً عَنْ ذِکْرِهِمْ- فَإِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ- ظَهَرَ الْفَسَادُ فَلَا مُنْکِرٌ مُغَیِّرٌ- وَ لَا زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ- أَ فَبِهَذَا تُرِیدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللَّهَ فِی دَارِ قُدْسِهِ- وَ تَکُونُوا أَعَزَّ أَوْلِیَائِهِ عِنْدَهُ- هَیْهَاتَ لَا یُخْدَعُ اللَّهُ عَنْ جَنَّتِهِ- وَ لَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ-لَعَنَ اللَّهُ الآْمِرِینَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِکِینَ لَهُ- وَ النَّاهِینَ عَنِ الْمُنْکَرِ الْعَامِلِینَ بِهِ أثویاء جمع ثوی و هو الضیف کقوی و أقویاء- و مؤجلون مؤخرون إلى أجل أی وقت معلوم- . و مدینون مقرضون دنت الرجل أقرضته- فهو مدین و مدیون و دنت أیضا- إذا استقرضت و صارت على دین فأنا دائن- و أنشد

ندین و یقضی الله عنا و قد نرى
مصارع قوم لا یدینون ضیعا

و مقتضون جمع مقتضى أی مطالب بأداء الدین- کمرتضون جمع مرتضى و مصطفون جمع مصطفى- . و قوله أجل منقوص أی عمر- و قد جاء عنهم أطال الله أجلک- أی عمرک و بقاءک و الدائب المجتهد ذو الجد و التعب- و الکادح الساعی- . و مثل قوله فرب دائب مضیع- و رب کادح خاسر قول الشاعر-

إذا لم یکن عون من الله للفتى
فأکثر ما یجنی علیه اجتهاده‏

 و مثله

إذا لم یکن عون من الله للفتى
أتته الرزایا من وجوه الفوائد

و هو کثیر و الأصل فیه قوله تعالى- وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ خاشِعَهٌ- عامِلَهٌ ناصِبَهٌ- تَصْلى‏ ناراً حامِیَهً- و یروى فرب دائب مضیع بغیر تشدید- .و قوله و أمکنت فریسته- أی و أمکنته فحذف المفعول- . و قوله فاضرب بطرفک لفظه فصیحه- و قد أخذها الشاعر فقال-فاضرب بطرفک حیث شئت فلن ترى إلا بخیلا…- و الوفر المال الکثیر- أی بخل و لم یؤد حق الله سبحانه فکثر ماله- . و الوقر بفتح الواو الثقل فی الأذن- و روی المنغصه بفتح الغین- . الحثاله الساقط الردی‏ء من کل شی‏ء- .

و قوله لا تلتقی بذمهم الشفتان- أی یأنف الإنسان أن یذمهم- لأنه لا بد فی الذم من إطباق أحد الشفتین على الأخرى- و کذلک فی کل الکلام- . و ذهابا عن ذکرهم أی ترفعا- یقال فلان یذهب بنفسه عن کذا أی یرفعها- . و لا زاجر مزدجر- أی لیس فی الناس من یزجر عن القبیح و ینزجر هو عنه- . و دار القدس هی الجنه و لا یخدع الله عنها- لأنه لا تخفى علیه خافیه و لا یجوز علیه النفاق و التمویه- ثم لعن الآمر بالمعروف و لا یفعله- و الناهی عن المنکر و یرتکبه و هذا من قوله تعالى- أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَکُمْ- . و لست أرى فی هذه الخطبه ذکرا- للموازین و المکاییل- التی أشار إلیها الرضی رحمه الله- اللهم إلا أن یکون قوله ع- و أین المتورعون فی مکاسبهم أو قوله ظهر الفساد- و دلالتهما على الموازین و المکاییل بعیدهنبذ من أقوال الحکماء و الصالحین

و اعلم أن هذه الخطبه قد اشتملت على کلام فصیح- و موعظه بالغه من ذکر الدنیاو ذکر أهلها- و نحن نذکر کلمات وردت- عن الحکماء و الصالحین تناسبها- على عادتنا فی إیراد الأشباه و النظائر- . قال بعض الصالحین- ما أدری کیف أعجب من الدنیا- أ من حسن منظرها و قبح مخبرها- أم من ذم الناس لها و تناحرهم علیها- قیل لبعضهم کیف أصبحت- قال آسفا على أمسی کارها لیومی متهما لغدی- .

قیل لأعرابی کیف ترى الدهر- قال خدوعا خلوبا وثوبا غلوبا- . قیل لصوفی لم ترکت الدنیا- قال لأنی منعت صفوها- و امتنعت من کدرها- . و قیل لآخر لم ترکت الدنیا- قال لأنی عدمت الوسیله إلیها إلا بعشقها- و أعشق ما أکون لها أغدر ما تکون بی- و أنشد لبشر الحافی-

قریر العین لا ولد یموت
و لا حذر یبادر ما یفوت‏

رخی البال لیس له عیال‏
خلی من حربت و من دهیت‏

قضى وطر الصبا و أفاد علما
فعاتبه التفرد و السکوت‏

و أکبر همه مما علیه‏
تذابح من ترى خلق و قوت‏

قال أبو حیان سمعت ابن القصاب الصوفی- یقول اسمع و اسکت و انظر و أعجب- قال ابن المعتز-

مل سقامی عوده
و خان دمعی مسعده‏

و ضاع من لیلی غده‏
طوبى لعین تجده‏

قلت من الدهر یده
یفنى و یبقى أبده‏

و الموت ضار أسده‏
و قاتل من یلده‏

و من الشعر القدیم المختلف فی قائله-

قصر الجدید إلى بلى
و الوصل فی الدنیا انقطاعه‏

أی اجتماع لم یعد
بتفرق منها اجتماعه‏

أم أی شعب ذی التئام
لم یبدده انصداعه‏

أم أی منتفع بشی‏ء
ثم تم له انتفاعه‏

یا بؤس للدهر الذی
ما زال مختلفا طباعه‏

قد قیل فی مثل خلا
یکفیک من شر سماعه‏

قیل لصوفی کیف ترى الدنیا- قال و ما الدنیا لا أعرف لها وجودا- قیل له فأین قلبک قال عند ربی- قیل فأین ربک قال و أین لیس هو- قال ابن عائشه کان یقال- مجالسه أهل الدیانه تجلو عن القلوب صدا الذنوب- و مجالسه ذوی المروءات تدل على مکارم الأخلاق- و مجالسه العلماء تزکی النفوس- . و من کلام بعض الحکماء الفصحاء- کن لنفسک نصیحا و استقبل توبه نصوحا- و ازهد فی دار سمها ناقع و طائرها واقع- و ارغب فی دار طالبها منجح- و صاحبها مفلح- و متى حققت و آثرت الصدق- بان لک أنهما لا یجتمعان- و أنهما کالضدین لا یصطلحان- فجرد همک فی تحصیل الباقیه- فإن الأخرى أنت فان عنها و هی فانیه عنک- و قد عرفت آثارها فی أصحابها و رفقائها- و صنعها بطلابها و عشقائها معرفه عیان- فأی حجه تبقى لک و أی حجه لا تثبت علیک- و من کلام هذا الحکیم- فإنا قد أصبحنا فی دار رابحها خاسر- و نائلها قاصر و عزیزها ذلیل و صحیحها علیل- و الداخل إلیها مخرج و المطمئن فیها مزعج- و الذائق من شرابها سکران و الواثق بسرابها ظمآن- ظاهرها غرور و باطنها شرور- و طالبها مکدود و عاشقها مجهود و تارکها محمود- العاقل من قلاها و سلا عنها- و الظریف من عافها و أنف منها- و السعید من غمض بصره عن زهرتها- و صرفه عن نضرتها- و لیس لها فضیله إلا دلالتها على نفسها- و إشارتها إلى نقصها- و لعمری إنها لفضیله لو صادفت قلبا عقولا- لا لسانا قئولا و عملا مقبولا لا لفظا منقولا- فإلى الله الشکوى من هوى مطاع- و عمر مضاع فبیده الداء و الدواء و المرض و الشفاء- .

قال أبو حره أتینا بکر بن عبد الله المری نعوده- فدخلنا علیه و قد قام لحاجته فجلسنا ننتظره- فأقبل إلینا یتهادى بین رجلین- فلما نظر إلینا سلم علینا- ثم قال رحم الله عبدا أعطی قوه فعمل بها فی طاعه الله- أو قصر به ضعف فکف عن محارم الله- . و قال بکر بن عبد الله- مثل الرجل فی الدنیا مثل رجل له ثلاثه خلان- قال له أحدهم أنا خازنک خذ منی ما شئت- فاعمل به ما شئت- و قال الآخر أنا معک أحملک و أضعک فإذا مت ترکتک- و قال الآخر أنا أصحبک أبدا حیاتک و موتک- فأما الأول فماله و أما الثانی فعشیرته- و أما الثالث فعمله- . قیل للزهری من الزاهد فی الدنیا- قال من لم یمنع الحلال شکره- و من لم یمنع الحرام صبره- .

و قال سفیان الثوری ما عبد الله بمثل العقل- و لا یکون الرجل عاقلا حتى تکون فیه عشر خصال- یکون الکبر منه مأمونا و الخیر منه مأمولا- یقتدی بمن قبله و یکون إماما لمن بعده- و حتى یکون الذل فی طاعه الله أحب إلیه- من العز فی معصیه الله- و حتى یکون الفقر فی الحلال- أحب إلیه من الغنى فی الحرام- و حتى یکون عیشه القوت- و حتى یستقل الکثیر من عمله- و یستکثر القلیل من عمل غیره- و حتى لا یتبرم بطلب الحوائج‏قبله- و العاشره و ما العاشره- بها شاد مجده و علا ذکره- أن یخرج من بیته فلا یستقبله أحد- من الناس إلا رأى أنه دونه- .

قال یونس بن حبیب- کان عندنا بالبصره جندی عابد فأحب الغزو- فلما خرج شیعته فقلت أوصنی- فقال أوصیک بتقوى الله و أوصیک بالقرآن- فإنه نور اللیل المظلم و هدى النهار المشرق- فاعمل به على ما کان من جهد و فاقه- فإن عرض بلاء فقدم مالک دون نفسک- فإن تجاوز البلاء فقدم مالک و نفسک دون دینک- و اعلم أن المحروب من حرب دینه- و المسلوب من سلب یقینه- إنه لا غنى مع النار و لا فقر مع الجنه- و إن جهنم لا یفک أسیرها و لا یستغنی فقیرها- . ابن المبارک کان فیما مضى جبار- یقتل الناس على أکل لحوم الخنازیر- فلم یزل الأمر یترقى حتى بلغ إلى عابد مشهور- فأراده على أکلها و هدده بالقتل- فشق ذلک على الناس- فقال له صاحب شرطته- إنی ذابح لک غدا جدیا- فإذا دعاک هذا الجبار لتأکل- فکل فإنما هو جدی- فلما دعاه لیأکل أبى أن یأکل- فقال أخرجوه و اضربوا عنقه- فقال له الشرطی ما منعک أن تأکل من لحم جدی- قال إنی رجل منظور إلی- و إنی کرهت أن یتأسى بی الناس فی معاصی الله- فقدمه فقتله- .

سفیان الثوری کان رجل یبکی کثیرا- فقال له أهله لو قتلت قتیلا ثم أتیت ولیه- فرآک تبکی هذا البکاء لعفا عنک- فقال قد قتلت نفسی فلعل ولیها یعفو عنی- . و کان أیوب السختیانی کثیر البکاء- و کان یغالط الناس عن بکائه- یبکی مره فیأخذ أنفه- و یقول الزکمه ربما عرضت لی و یبکی مره- فإذا استبان من حوله بکاءه- قال إن الشیخ إذا کبر مج- .

و من کلام أبی حیان التوحیدی فی البصائر- ما أقول فی عالم الساکن فیه وجل- و الصاحی بین أهله ثمل- و المقیم على ذنوبه خجل- و الراحل عنه مع تمادیه عجل- و إن دارا هذه من آفاتها و صروفها لمحقوقه بهجرانها و ترکها- و الصدوف منها خاصه- و لا سبیل لساکنها إلى دار القرار إلا بالزهد فیها- و الرضا بالطفیف منها- کبلغه الثاوی و زاد المنطلق

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۸

بازدیدها: ۲۶

خطبه ۱۲۸ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۲۸ و من کلام له ع فیما یخبر به عن الملاحم بالبصره

یَا أَحْنَفُ کَأَنِّی بِهِ وَ قَدْ سَارَ بِالْجَیْشِ- الَّذِی لَا یَکُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لَا لَجَبٌ- وَ لَا قَعْقَعَهُ لُجُمٍ وَ لَا حَمْحَمَهُ خَیْلٍ- یُثِیرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ- کَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ قال الشریف الرضی أبو الحسن رحمه الله تعالى- یومئ بذلک إلى صاحب الزنج ثُمَّ قَالَ ع- وَیْلٌ لِسِکَکِکُمُ الْعَامِرَهِ وَ الدُّورِ الْمُزَخْرَفَهِ- الَّتِی لَهَا أَجْنِحَهٌ کَأَجْنِحَهِ النُّسُورِ- وَ خَرَاطِیمُ کَخَرَاطِیمِ الْفِیَلَهِ- مِنْ أُولَئِکَ الَّذِینَ لَا یُنْدَبُ قَتِیلُهُمْ- وَ لَا یُفْقَدُ غَائِبُهُمْ- أَنَا کَابُّ الدُّنْیَا لِوَجْهِهَا- وَ قَادِرُهَا بِقَدْرِهَا وَ نَاظِرُهَا بِعَیْنِهَا اللجب الصوت- و الدور المزخرفه المزینه المموهه بالزخرف- و هو الذهب- . و أجنحه الدور التی شبهها بأجنحه النسور رواشینها- و الخراطیم میازیبها- .

و قوله لا یندب قتیلهم- لیس یرید به من یقتلونه بل القتیل منهم- و ذلک لأن أکثر الزنج الذین أشار إلیهم- کانوا عبیدا لدهاقین البصره و بناتها- و لم یکونوا ذوی زوجات و أولاد- بل کانوا على هیئه الشطار عزابا فلا نادبه لهم- . و قوله و لا یفقد غائبهم یرید به کثرتهم- و أنهم کلما قتل منهم قتیل سد مسده غیره- فلا یظهر أثر فقده- .

و قوله أنا کأب الدنیا لوجهها- مثل الکلمات المحکیه-عن عیسى ع أنا الذی کببت الدنیا على وجهها- لیس لی زوجه تموت و لا بیت یخرب- وسادی الحجر و فراشی المدر و سراجی القمرأخبار صاحب الزنج و فتنته و ما انتحله من عقائدفأما صاحب الزنج هذا فإنه ظهر فی فرات البصره- فی سنه خمس و خمسین و مائتین رجل- زعم أنه علی بن محمد بن أحمد بن عیسى- بن زید بن علی بن الحسین- بن علی بن أبی طالب ع- فتبعه الزنج الذین کانوا یکسحون السباخ فی البصره- .

و أکثر الناس یقدحون فی نسبه- و خصوصا الطالبیین و جمهور النسابین اتفقوا على‏ أنه من عبد القیس- و أنه علی بن محمد بن عبد الرحیم- و أمه أسدیه من أسد بن خزیمه- جدها محمد بن حکیم الأسدی من أهل الکوفه- أحد الخارجین مع زید بن علی بن الحسین ع- على هشام بن عبد الملک- فلما قتل زید هرب فلحق بالری- و جاء إلى القریه التی یقال لها ورزنین- فأقام بها مده- و بهذه القریه ولد علی بن محمد صاحب الزنج و بها منشؤه- و کان أبو أبیه المسمى عبد الرحیم رجلا من عبد القیس- کان مولده بالطالقان فقدم العراق- و اشترى جاریه سندیه فأولدها محمدا أباه- .

و کان علی هذا متصلا بجماعه- من حاشیه السلطان و خول بنی العباس- منهم غانم الشطرنجی و سعید الصغیر- و بشیر خادم المنتصر- و کان منهم معاشه و من قوم- من کتاب الدوله یمدحهم و یستمنحهم بشعره- و یعلم الصبیان الخط و النحو و النجوم- و کان حسن الشعر مطبوعا علیه- فصیح اللهجه بعید الهمه- تسمو نفسه إلى معالی الأمور و لا یجد إلیها سبیلا- و من شعره القصیده المشهوره التی أولها-

رأیت المقام على الاقتصاد
قنوعا به ذله فی العباد

 و من جملتها-

إذا النار ضاق بها زندها
ففسحتها فی فراق الزناد

إذا صارم قر فی غمده‏
حوى غیره السبق یوم الجلاد

 و من الشعر المنسوب إلیه-

و أنا لتصبح أسیافنا
إذا ما انتضین لیوم سفوک‏

منابرهن بطون الأکف‏
و أغمادهن رءوس الملوک‏

و من شعره فی الغزل-

و لما تبینت المنازل بالحمى
و لم أقض منها حاجه المتورد

زفرت إلیها زفره لو حشوتها
سرابیل أبدان الحدید المسرد

لرقت حواشیها و ظلت متونها
تلین کما لانت لداود فی الید

و من شعره أیضا-

و إذا تنازعنی أقول لها قری
موت یریحک أو صعود المنبر

ما قد قضى سیکون فاصطبری له‏
و لک الأمان من الذی لم یقدر

 و قد ذکر المسعودی فی کتابه المسمى مروج الذهب- أن أفعال علی بن محمد صاحب الزنج- تدل على أنه لم یکن طالبیا- و تصدق ما رمی به من دعوته فی النسب- لأن ظاهر حاله کان ذهابه إلى مذهب الأزارقه- فی قتل النساء و الأطفال و الشیخ الفانی و المریض-و قد روی أنه خطب مره- فقال فی أول خطبته- لا إله إلا الله و الله أکبر- الله أکبر لا حکم إلا لله- و کان یرى الذنوب کلها شرکا- . و من الناس من یطعن فی دینه- و یرمیه بالزندقه و الإلحاد- و هذا هو الظاهر من أمره- لأنه کان متشاغلا فی بدایته- بالتنجیم و السحر و الأصطرلابات- .

و ذکر أبو جعفر محمد بن جریر الطبری- أن علی بن محمد شخص من سامراء- و کان یعلم الصبیان بها و یمدح الکتاب- و یستمیح الناس فی سنه تسع و أربعین و مائتین إلى البحرین- فادعى بها أنه علی بن محمد بن الفضل- بن الحسن بن عبید الله بن العباس- بن علی بن أبی طالب ع- و دعا الناس بهجر إلى طاعته- فاتبعه جماعه کثیره من أهلها- و اتبعه جماعه أخرى- فکانت بسببه بین الذین اتبعوه- و الذین أبوه عصبیه قتل فیها بینهم جماعه- فانتقل عنهم لما حدث ذلک إلى الأحساء- و ضوى إلى حی من بنی تمیم- ثم من بنی سعد یقال لهم بنو الشماس- فکان بینهم مقامه- و قد کان أهل البحرین أحلوه من أنفسهم محل النبی ص- فیما ذکر حتى جبی له الخراج هنالک و نفذ حکمه فیهم- و قاتلوا أسباب السلطان لأجله- و وتر منهم جماعه کثیره فتنکروا له- فتحول عنهم إلى البادیه- و لما انتقل إلى البادیه صحبه جماعه من أهل البحرین- منهم رجل کیال من أهل الأحساء- یقال له یحیى بن محمد الأزرق- مولى بنی دارم و یحیى بن أبیثعلب- و کان تاجرا من أهل هجر- و بعض موالی بنی حنظله أسود یقال له سلیمان بن جامع- و کان قائد جیشه حیث کان بالبحرین- .

ثم تنقل فی البادیه من حی إلى حی- فذکر عنه أنه کان یقول- أوتیت فی تلک الأیام آیات من آیات إمامتی- منها أنی لقیت سورا من القرآن لم أکن أحفظها- فجرى بها لسانی فی ساعه واحده- منها سبحان و الکهف و صاد- و منها أنی ألقیت نفسی على فراشی- و جعلت أفکر فی الموضع الذی أقصد له- و أجعل مقامی به إذا نبت البادیه بی- و ضقت ذرعا بسوء طاعه أهلها- فأظلتنی سحابه فبرقت و رعدت- و اتصل صوت الرعد منها بسمعی- فخوطبت فقیل لی اقصد البصره- فقلت لأصحابی و هم یکتنفوننی- إنی أمرت بصوت من هذا الرعد بالمصیر إلى البصره- . و ذکر عنه أنه عند مصیره إلى البادیه أوهم أهلها- أنه یحیى بن عمر أبو الحسین المقتول- بناحیه الکوفه فی أیام المستعین- فاختدع بذلک قوما منهم- حتى اجتمع علیه منهم جماعه- فزحف بهم إلى موضع من البحرین- یقال له الردم فکانت بینه و بین أهله وقعه عظیمه- کانت الدبره فیها علیه و على أصحابه- قتلوا فیها قتلا ذریعا- فتفرقت عنه العرب و کرهته و تجنبت صحبته- .

فلما تفرقت العرب عنه و نبت به البادیه- شخص عنها إلى البصره فنزل بها فی بنی ضبیعه- فاتبعه بها جماعه منهم علی بن أبان المعروف بالمهلبی- من ولد المهلب بن أبی صفره- و أخواه محمد و الخلیل و غیرهم- و کان قدومه البصره فی سنه أربع و خمسین و مائتین-و عامل السلطان بها یومئذ محمد بن رجاء- و وافق ذلک فتنه أهل البصره بالبلالیه و السعدیه فطمع فی أحد الفریقین أن یمیل إلیه- فأرسل أربعه من أصحابه یدعون إلیه- و هم محمد بن سلم القصاب الهجری- و بریش القریعی و علی الضراب- و الحسین الصیدنانی- و هم الذین کانوا صحبوه بالبحرین- فلم یستجب لهم أحد من أهل البلد- و ثار علیهم الجند فتفرقوا- و خرج علی بن محمد من البصره هاربا- و طلبه ابن رجاء فلم یقدر علیه- و أخبر ابن رجاء بمیل جماعه من أهل البصره إلیه- فأخذهم فحبسهم و حبس معهم زوجه علی بن محمد- و ابنه الأکبر و جاریه له کانت حاملا- و مضى علی بن محمد لوجهه یرید بغداد و معه قوم من خاصته- منهم محمد بن سلم و یحیى بن محمد- و سلیمان بن جامع و بریش القریعی- فلما صاروا بالبطیحه- نذر بهم بعض موالی الباهلیین- کان یلی أمر البطیحه- فأخذهم و حملهم إلى محمد بن أبی عون- و هو عامل السلطان بواسط- فاحتال لابن أبی عون حتى تخلص هو و أصحابه من یده- ثم صار إلى بغداد فأقام بها سنه- و انتسب فی هذه السنه إلى محمد بن أحمد بن عیسى بن زید- و کان یزعم أنه ظهر له أیام مقامه ببغداد فی هذه السنه آیات- و عرف ما فی ضمائر أصحابه و ما یفعله کل واحد منهم- و أنه سأل ربه أن یعلمه حقیقه أمور کانت فی نفسه- فرأى کتابا یکتب له على حائط- و لا یرى شخص کاتبه- .

قال أبو جعفر و استمال ببغداد جماعه- منهم جعفر بن محمد الصوحانی- من ولد زید بن صوحان العبدی- و محمد بن القاسم و غلامان لبنی خاقان- و هما مشرق و رفیق فسمى مشرقا حمزه و کناه أبا أحمد- و سمى رفیقا جعفرا و کناه أبا الفضل- فلما انقضى عامه ذلک ببغداد- عزل محمد بن رجاء عن البصره- فوثبت رؤساء الفتنه بها من البلالیه و السعدیه-ففتحوا المحابس و أطلقوا من کان فیها- فتخلص أهله و ولده فیمن تخلص- فلما بلغه ذلک شخص عن بغداد- فکان رجوعه إلى البصره فی شهر رمضان- من سنه خمس و خمسین و مائتین- و معه علی بن أبان المهلبی- و قد کان لحق به و هو بمدینه السلام مشرق و رفیق- و أربعه أخر من خواصه- و هم یحیى بن محمد و محمد بن سلم- و سلیمان بن جامع و أبو یعقوب المعروف بجربان- فساروا جمیعا حتى نزلوا بالموضع المعروف ببرنخل- من أرض البصره فی قصر هناک- یعرف بقصر القرشی- على نهر یعرف بعمود بن المنجم- کان بنو موسى بن المنجم احتفروه- و أظهر أنه وکیل لولد الواثق- فی بیع ما یملکونه هناک من السباخ- .

قال أبو جعفر فذکر عن ریحان بن صالح- أحد غلمان الشورجیین الزنوج و هو أول من صحبه منهم- قال کنت موکلا بغلمان مولای- أنقل الدقیق إلیهم- فمررت به و هو مقیم بقصر القرشی یظهر الوکاله لأولاد الواثق- فأخذنی أصحابه و صاروا بی إلیه- و أمرونی بالتسلیم علیه بالإمره ففعلت ذلک- فسألنی عن الموضع الذی جئت منه- فأخبرته أنی أقبلت من البصره- فقال هل سمعت لنا بالبصره خبرا قلت لا- قال فخبر البلالیه و السعدیه- قلت لم أسمع لهم خبرا- فسألنی عن غلمان الشورجیین- و ما یجری لکل جماعه منهم من الدقیق و السویق و التمر- و عمن یعمل فی الشورج من الأحرار و العبید- فأعلمته ذلک فدعانی إلى ما هو علیه فأجبته- فقال لی احتل فیمن قدرت علیه من الغلمان- فأقبل بهم إلی- و وعدنی أن یقودنی على من آتیه به منهم- و أن یحسن إلی و استحلفنی ألا أعلم أحدا بموضعه- و أن أرجع إلیه فخلى سبیلی- فأتیت بالدقیق الذی معی إلى غلمان مولای-

و أخبرتهم خبره و أخذت له البیعه علیهم- و وعدتهم عنه بالإحسان و الغنى- و رجعت إلیه من غد ذلک الیوم- و قد وافاه رفیق غلام الخاقانیه-و قد کان وجهه إلى البصره- یدعو إلیه غلمان الشورج- و وافى إلیه صاحب له آخر یعرف بشبل بن سالم- قد کان دعا إلیه قوما منهم أیضا- و أحضر معه حریره کان أمره بابتیاعها لیتخذها لواء- فکتب فیها بالحمره- إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ- بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّهَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ الآیه- و کتب اسمه و اسم أبیه علیها- و علقها فی رأس مردی-

و خرج وقت السحر من لیله السبت- للیلتین بقیتا من شهر رمضان- فلما صار إلى مؤخر القصر الذی کان فیه- لقیه غلمان رجل من الشورجیین- یعرف بالعطار متوجهین إلى أعمالهم- فأمر بأخذ وکیلهم فأخذ و کتف- و استضم غلمانه إلى غلمانه- و کانوا خمسین غلاما- ثم صار إلى الموضع المعروف بالسنائی- فاتبعه الغلمان الذین کانوا فیه- و هم خمسمائه غلام فیهم الغلام المعروف بأبی حدید- و أمر بأخذ وکیلهم- و کتفه ثم مضى إلى الموضع المعروف بالسیرافی- فاتبعه من کان فیه من غلمان- و هم مائه و خمسون غلاما- منهم زریق و أبو الخنجر- ثم صار إلى الموضع المعروف بسبخه ابن عطاء- فأخذ طریفا و صبیحا الأعسر- و راشد المغربی و راشد القرمطی- و کل هؤلاء من وجوه الزنج و أعیانهم- الذین صاروا قوادا و أمراء فی جیوشهم- و أخذ معهم ثمانین غلاما- . ثم أتى إلى الموضع المعروف بغلام سهل الطحان- فاستضاف من کان به من الغلمان- ثم لم یزل یفعل مثل ذلک فی یومه- حتى اجتمع إلیه بشر کثیر من الزنج- ثم قام فیهم‏ آخر اللیل خطیبا- فمناهم و وعدهم أن یقودهم و یرئسهم- و یملکهم الأموال و الضیاع- و حلف لهم بالأیمان الغلیظه ألا یغدر بهم و لا یخذلهم- و لا یدع شیئا من الإحسان إلا أتى إلیهم- .

ثم دعا وکلاءهم فقال قد أردت ضرب أعناقکم- لما کنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان- الذین استضعفتموهم و قهرتموهم- و فعلتم بهم ما حرم الله علیکم أن تفعلوه بهم- و کلفتموهم ما لا یطیقونه- فکلمنی أصحابی فیکم فرأیت إطلاقکم- . فقالوا له أصلحک الله- إن هؤلاء الغلمان أباق- و إنهم سیهربون منک فلا یبقون علیک و لا علینا- فخذ من موالیهم مالا و أطلقهم- . فأمر الغلمان فأحضروا شطوبا- ثم بطح کل قوم وکیلهم- فضرب کل رجل منهم خمسمائه شطبه- و أحلفهم بطلاق نسائهم ألا یعلموا أحدا بموضعه- ثم أطلقهم فمضوا نحو البصره- و مضى رجل منهم حتى عبر دجیل الأهواز- فأنذر الشورجیین لیحفظوا غلمانهم- و کان هناک خمسه عشر ألف غلام زنجی- ثم سار و عبر دجیلا- و سار إلى نهر میمون بأصحابه- و اجتمع إلیه السودان من کل جهه- .

فلما کان یوم الفطر جمعهم و خطب خطبه- ذکر فیها ما کانوا علیه من سوء الحال- و أن الله تعالى قد استنقذهم من ذلک- و أنه یرید أن یرفع أقدارهم- و یملکهم العبید و الأموال و المنازل- و یبلغ بهم أعلى الأمور- ثم حلف لهم على ذلک- فلما فرغ من خطبته‏أمر الذین فهموا عنه قوله- أن یفهموه من لا فهم له من عجمهم- لتطیب بذلک أنفسهم ففعلوا ذلک- . قال أبو جعفر- فلما کان فی الیوم الثالث من شوال- وافاه الحمیری أحد عمال السلطان بتلک النواحی فی عدد کثیر- فخرج إلیه صاحب الزنج فی أصحابه فطرده و هزم أصحابه- حتى صاروا فی بطن دجله- و استأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء السودان- یعرف بأبی صالح القصیر فی ثلاثمائه من الزنج- فلما کثر من اجتمع إلیه من الزنج قود قواده- و قال لهم من أتى منکم برجل من السودان فهو مضموم إلیه- .

قال أبو جعفر- و انتهى إلیه أن قوما من أعوان السلطان هناک- منهم خلیفه بن أبی عون علی الأبله- و منهم الحمیری قد أقبلوا نحوه- فأمر أصحابه بالاستعداد لهم فاجتمعوا للحرب- و لیس فی عسکره یومئذ إلا ثلاثه أسیاف- سیفه و سیف علی بن أبان و سیف محمد بن سلم- و لحقه القوم و نادى الزنج- فبدر مفرج النوبی- و المکنى بأبی صالح و ریحان بن صالح و فتح الحجام- و قد کان فتح حینئذ یأکل و بین یدیه طبق- فلما نهض تناول ذلک الطبق- و تقدم أمام أصحابه- فلقیه رجل من عسکر أصحاب السلطان- فلما رآه فتح حمل علیه و حذفه بالطبق الذی کان فی یده- فرمى الرجل سلاحه و ولى هاربا- و انهزم القوم کلهم و کانوا أربعه آلاف- فذهبوا على وجوههم- و قتل من قتل منهم و مات بعضهم عطشا و أسر کثیر منهم- فأتى بهم صاحب الزنج فأمر بضرب أعناقهم فضربت- و حملت الرءوس على بغال- کان أخذها من الشورجیین- کانت تنقل الشورج- .

قال أبو جعفر- و مر فی طریقه بالقریه المعروفه بالمحمدیه- فخرج منها رجل من موالی الهاشمیین- فحمل على بعض السودان فقتله- و دخل القریه فقال له أصحابه- ائذن لنا فی انتهاب القریه و طلب قاتل صاحبنا- فقال لا سبیل إلى ذلک دون أن نعرف ما عند أهلها- و هل فعل القاتل ما فعل عن رأیهم- و نسائلهم أن یدفعوه إلینا- فإن فعلوا و إلا حل لنا قتالهم- و عجل المسیر من القریه فترکها و سار- . قال أبو جعفر- ثم مر على القریه المعروفه بالکرخ- فأتاه کبراؤها و أقاموا له الأنزال- و بات لیلته تلک عندهم- فلما أصبح أهدى له رجل- من أهل القریه المسماه جبى فرسا کمیتا- فلم یجد سرجا و لا لجاما- فرکبه بحبل و سنفه بحبل لیف- .

قلت هذا تصدیق قول أمیر المؤمنین ع- کأنه به قد سار فی الجیش- الذی لیس له غبار و لا لجب و لا قعقعه لجم- و لا حمحمه خیل- یثیرون الأرض بأقدامهم کأنها أقدام النعام- . قال أبو جعفر- و أول مال صار إلیه مائتا دینار و ألف درهم- لما نزل القریه المعروفه بالجعفریه- أحضر بعض رؤسائها و سأله عن المال فجحد- فأمر بضرب عنقه- فلما خاف‏ أحضر له هذا القدر- و أحضر له ثلاثه برازین- کمیتا و أشقر و أشهب- فدفع أحدها إلى محمد بن سلم- و الآخر إلى یحیى بن محمد- و الآخر إلى مشرق غلام الخاقانیه- و وجدوا فی دار لبعض الهاشمیین سلاحا فانتهبوه- فصار ذلک الیوم بأیدی بعض الزنج سیوف و آلات و أتراس- . قال أبو جعفر- ثم کانت بینه و بین من یلیه من أعوان السلطان- کالحمیری و رمیس و عقیل و غیرهم وقعات- کان الظفر فیها کلها له- و کان یأمر بقتل الأسرى- و یجمع الرءوس معه و ینقلها من منزل إلى منزل- و ینصبها أمامه إذا نزل- و أوقع الهیبه و الرهبه فی صدور الناس بکثره القتلى- و قله العفو و على الخصوص المأسورین- فإنه کان یضرب أعناقهم و لا یستبقی منهم أحدا- .

قال أبو جعفر- ثم کان له مع أهل البصره وقعه بعد ذلک- سار یریدها فی سته آلاف زنجی- فاتبعه أهل الناحیه المعروفه بالجعفریه لیحاربوه- فعسکر علیهم فقتل منهم مقتله عظیمه- أکثر من خمسمائه رجل- فلما فرغ منهم صمد نحو البصره- و اجتمع أهلها و من بها من الجند- و حاربوه حربا شدیدا- فکانت الدائره علیه- و انهزم أصحابه- و وقع کثیر منهم فی النهرین المعروفین- بنهر کثیر و نهر شیطان- و جعل یهتف بهم و یردهم و لا یرجعون- و غرق من أعیان جنده و قواده جماعه- منهم أبو الجون و مبارک البحرانی- و عطاء البربری و سلام الشامی- فلحقه قوم من جند البصره و هو على قنطره نهر کثیر- فرجع إلیهم بنفسه و سیفه فی یده- فرجعوا عنه حتى صاروا إلى الأرض- و هو یومئذ فی دراعه و عمامه و نعل و سیف- و فی یده الیسرى ترس و نزل عن القنطره- فصعدها البصریون یطلبونه فرجع إلیهم- فقتل منهم رجلا بیده على خمس مراق من القنطره- و جعل یهتف بأصحابه و یعرفهم مکانه- و لم یکن بقی معه فی ذلک الموضع من أصحابه-إلا أبو الشوک و مصلح و رفیق و مشرق غلاما الخاقانیه- و ضل أصحابه عنه و انحلت عمامته- فبقی على رأسه کور منها أو کوران- فجعل یسحبها من ورائه و یعجله المشی عن رفعها- و أسرع غلاما الخاقانیه فی الانصراف- و قصر عنهما فغابا عنه فاتبعه رجلان من أهل البصره بسیفیهما- فرجع إلیهما فانصرفا عنه- و خرج إلى الموضع الذی فیه مجمع أصحابه- و قد کانوا تحیروا فلما رأوه سکنوا- . قال أبو جعفر- ثم سأل عن رجاله و إذا قد هرب کثیر منهم- و نظر فإذا هو من جمیع أصحابه فی مقدار خمسمائه رجل- فأمر بالنفخ فی البوق الذی کانوا یجتمعون لصوته- فنفخ فیه فلم یرجع إلیه أحد- .

قال و انتهب أهل البصره سفنا کانت معه- و ظفروا بمتاع من متاعه- و کتب من کتبه و أصطرلابات کان معه- ثم تلاحق به جماعه ممن کان هرب- فأصبح و إذا معه ألف رجل- فأرسل محمد بن سلم و سلیمان بن جامع- و یحیى بن محمد إلى أهل البصره یعظهم- و یعلمهم أنه لم یخرج إلا غضبا لله و للدین- و نهیا عن المنکر- فعبر محمد بن سلم حتى توسط أهل البصره- و جعل یکلمهم و یخاطبهم- فرأوا منه غره فوثبوا علیه فقتلوه- و رجع سلیمان و یحیى إلى صاحب الزنج- فأخبراه فأمرهما بطی ذلک عن أصحابه- حتى یکون هو الذی یخبرهم- . فلما صلى بهم العصر نعى إلیهم محمد بن سلم- و قال لهم إنکم تقتلون به فی غد عشره آلاف من أهل البصره- .

قال أبو جعفر- و کان الوقعه التی کانت الدبره علیه فیها- یوم الأحد لثلاث عشرهلیله- خلون من ذی القعده سنه خمس و خمسین و مائتین- فلما کان یوم الإثنین جمع له أهل البصره و حشدوا- لما رأوا من ظهورهم علیه یوم الأحد- و انتدب لذلک رجل من أهل البصره یعرف بحماد الساجی- و کان من غزاه البحر فی الشذا- و له علم برکوبها و الحرب فیها- فجمع المطوعه و رماه الأهداف و أهل المسجد الجامع- و من خف معه من حزبی البلالیه و السعدیه- و من غیر هذه الأصناف من الهاشمیین و القرشیین- و من یحب النظر و مشاهده الحرب من سائر أصناف الناس- و شحن ثلاثه مراکب من الشذا بالرماه- و جعل الناس یزدحمون فی الشذا- حرصا على حضور ذلک المشهد- و مضى جمهور الناس رجاله- منهم من معه سلاح و منهم من لا سلاح معه بل نظاره- فدخلت السفن النهر المعروف بأم حبیب- بعد زوال الشمس من ذلک الیوم فی المد- و مرت الرجاله و النظاره على شاطئ النهر- قد سدوا ما ینفذ فیه البصر کثره و تکاثفا- فوجه صاحب الزنج صاحبه زریقا و أبا اللیث الأصبهانی- فجعلهم کمینا من الجانب الشرقی من نهر شیطان- و کان مقیما بموضع منه- و وجه صاحبیه شبلا و حسینا الحمامی- فجعلهما کمینا فی غربیه و مع کل من الکمینین جماعه- و أمر علی بن أبان المهلبی أن یتلقى القوم- فیمن بقی معه من جمعه- و أمره أن یستتر هو و أصحابه بتراسهم- و لا یثور إلیهم منه ثائر- حتى یوافیهم القوم و یخالطوهم بأسیافهم- فإذا فعلوا ذلک ثاروا إلیهم- و تقدم إلى الکمینین إذا جاوزهما الجمع- و أحسا بثوره أصحابهم إلیهم- أن یخرجا من جنبی النهر و یصیحا بالناس- .

و کان یقول لأصحابه بعد ذلک- لما أقبل إلى جمع البصره و عاینته- رأیت أمرا هائلا راعنی و ملأ صدری رهبه و جزعا- ففزعت إلى الدعاء- و لیس معی من أصحابی إلا نفر یسیر منهم مصلح- و لیس منا أحد إلا و قد خیل إلیه مصرعه- فجعل مصلح یعجبنی من‏ کثره ذلک الجمع- و جعلت أومئ إلیه أن اسکت- فلما قرب القوم منی قلت- اللهم إن هذه ساعه العسره فأعنی- فرأیت طیورا بیضا أقبلت فتلقت ذلک الجمع- فلم أستتم دعائی حتى بصرت بسمیریه- من سفنهم قد انقلبت بمن فیها فغرقوا- ثم تلتها الشذا فغرقت واحده بعد واحده- و ثار أصحابی إلى القوم- و خرج الکمینان من جنبی النهر- و صاحوا و خبطوا الناس- فغرقت طائفه و قتلت طائفه- و هربت طائفه نحو الشط طمعا فأدرکها السیف- فمن ثبت قتل و من رجع إلى الماء غرق- حتى أبید أکثر ذلک الجمع- و لم ینج منهم إلا الشرید- و کثر المفقودون بالبصره- و علا العویل من نسائهم- .

قال أبو جعفر- و هذا یوم الشذا الذی ذکره الناس فی أشعارهم- و عظموا ما فیه من القتل- فکان ممن قتل من بنی هاشم- جماعه من ولد جعفر بن سلیمان- و انصرف صاحب الزنج و جمع الرءوس و ملأ بها سفنا- و أخرجها من النهر المعروف بأم حبیب فی الجزر و أطلقها- فوافت البصره- فوقفت فی مشرعه تعرف بمشرعه القیار- فجعل الناس یأتون تلک الرءوس- فیأخذ رأس کل رجل أولیاؤه- و قوی صاحب الزنج بعد هذا الیوم- و سکن الرعب قلوب أهل البصره منه- و أمسکوا عن حربه- و کتب إلى السلطان بخبره- فوجه جعلان الترکی مددا لأهل البصره- فی جیش ذوی عده و أسلحه- .

قال أبو جعفر- و قال أصحاب علی بن محمد له- أنا قد قتلنا مقاتله أهل البصره- و لم یبق فیها إلا ضعفاؤهم و من لا حراک به- فأذن لنا فی تقحمها فنهاهم و هجن آراءهم- و قال بل نبعد عنها- فقد رعبناهم و أخفناهم- و لنقتحمها وقتا آخر- و انصرف بأصحابه إلى سبخه فی آخر أنهار البصره- تعرف بسبخه أبی قره- قریبه من النهر المعروف بالحاجر فأقام هناک- و أمر أصحابه باتخاذ الأکواخ- و هذه السبخه متوسطه النخل و القرى و العمارات- و بث أصحابه یمینا و شمالا- یعیثون و یغیرون على القرى و یقتلون الأکره- و ینهبون أموالهم و یسرقون مواشیهم- . و جاءه شخص من أهل الکتاب من الیهود یعرف بمارویه- فقبل یده و سجد له و سأله عن مسائل کثیره فأجابه عنها- فزعم الیهودی أنه یجد صفته فی التوراه- و أنه یرى القتال معه- و سأله عن علامات فی یده و جسده- ذکر أنها مذکوره فی الکتب فأقام معه- .

قال أبو جعفر- و لما صار جعلان الترکی إلى البصره بعسکره- أقام سته أشهر یحارب صاحب الزنج- فإذا التقوا لم یکن بینهم- إلا الرمی بالحجاره و النشاب- و لم یجد جعلان إلى لقائه سبیلا- لضیق الموضع بما فیه من النخل و الدغل- عن مجال الخیل-و لأن صاحب الزنج قد کان خندق على نفسه و أصحابه- . ثم إن صاحب الزنج بیت جعلان- فقتل جماعه من أصحابه- و روع الباقون روعا شدیدا- فانصرف جعلان إلى البصره- و وجه إلیه مقاتله السعدیه و البلالیه فی جمع کثیف- فواقعهم صاحب الزنج فقهرهم- و قتل منهم مقتله عظیمه و انصرفوا مفلولین- و رجع جعلان بأصحابه إلى البصره- فأقام بها معتصما بجدرانها- و ظهر عجزه للسلطان فصرفه عن حرب الزنج- و أمر سعید الحاجب بالشخوص إلى البصره لحربهم- .

قال أبو جعفر و اتفق لصاحب الزنج من السعاده- أن أربعا و عشرین مرکبا من مراکب البحر- کانت اجتمعت ترید البصره- و انتهى إلى أصحابها خبر الزنج و قطعهم السبل- و فیها أموال عظیمه للتجار- فاجتمعت آراؤهم على أن شدوا المراکب بعضها إلى بعض- حتى صارت کالجزیره یتصل أولها بآخرها- و سارت فی دجله فکان صاحب الزنج یقول- نهضت لیله إلى الصلاه- و أخذت فی الدعاء و التضرع- فخوطبت بأن قیل لی قد أظلک فتح عظیم- فالتفت فلم ألبث أن طلعت المراکب- فنهض أصحابی إلیها فی شذاتها- فلم یلبثوا أن حووها و قتلوا مقاتلتها- و سبوا ما فیها من الرقیق- و غنموا منها أموالا لا تحصى و لا یعرف قدرها- فأنهبت ذلک أصحابی ثلاثه أیام- و أمرت بما بقی منها فحیز لی- . قال أبو جعفر ثم دخل الزنج الأبله- فی شهر رجب من سنه ست و خمسین و مائتین- و ذلک أن جعلان لما تنحى إلى البصره- ألح صاحب الزنج بالسرایا على أهل الأبله- فجعل یحاربهم من ناحیه شط عثمان بالرجاله- و بما خف له من السفن من ناحیه دجله- و جعلت سرایاه تضرب إلى ناحیه نهر معقل- .

فذکر عن صاحب الزنج- أنه قال میلت بین عبادان و الأبله- فملت إلى التوجه إلى عبادان فندبت الرجال إلى ذلک- فخوطبت و قیل لی إن أقرب عدو دارا- و أولاه ألا یتشاغل عنه بغیره أهل الأبله- فرددت بالجیش الذی کنت سیرته نحو عبادان إلى الأبله- و لم یزالوا یحاربون أهلها- إلى أن اقتحموها و أضرموها نارا- و کانت مبنیه بالساج بناء متکاثفا- فأسرعت فیها النار- و نشأت ریح عاصف- فأطارت شرر ذلک الحریق إلى أن انتهى إلى شط عثمان- و قتل بالأبله خلق کثیر- و حویت الأسلاب و الأموال- على أن الذی أحرق منها کان أکثر مما انتهب- و استسلم أهل عبادان بعدها لصاحب الزنج- فإن قلوبهم ضعفت و خافوه على أنفسهم و حرمهم- فأعطوا بأیدیهم و سلموا إلیه بلدهم فدخلها أصحابه- فأخذوا من کان فیها من العبید- و حملوا ما کان فیها من السلاح- ففرقه على أصحابه و صانعه أهلها بمال کف به عنهم- .

قال أبو جعفر ثم دخل الزنج بعد عبادان- إلى الأهواز و لم یثبت لهم أهلها- فأحرقوا ما فیها و قتلوا و نهبوا و أخربوا- فکان بالأهواز إبراهیم بن محمد المدبر الکاتب- و إلیه خراجها و ضیاعها- فأسروه بعد أن ضربوه ضربه على وجهه- و حووا کل ما کان یملکه من مال و أثاث و رقیق و کراع- و اشتد خوف أهل البصره- و انتقل کثیر من أهلها عنها- و تفرقوا فی بلاد شتى- و کثرت الأراجیف من عوامها- .

قال أبو جعفر فلما دخلت سنه سبع و خمسین- أنفذ السلطان بغراج الترکی على حرب البصره- و سعید بن صالح الحاجب للقاء صاحب الزنج- و أمر بغراج بإمداده بالرجال- فلما صار سعید إلى نهر معقل- وجد هناک جیشا لصاحب الزنج- فی النهر المعروف بالمرغاب- فأوقع بهم سعید فهزمهم- و استنقذ ما فی أیدیهم من النساء و النهب- و أصابت سعیدا فی تلک الوقعه جراحات منها جراحه فی فیه- .

ثم بلغه أن جیشا لصاحب الزنج- فی الموضع المعروف بالفرات فتوجه إلیه فهزمه- و استأمن إلیه بعض قواد صاحب الزنج- حتى لقد کان المرأه من سکان ذلک الموضع- تجد الزنجی مستترا بتلک الأدغال فتقبض علیه- حتى تأتی به عسکر سعید ما به عنها امتناع- ثم قصد سعید حرب صاحب الزنج- فعبر إلیه إلى غربی دجله- فأوقع به وقعات متتالیه- کلها یکون الظفر فیها لسعید- إلى أن تهیأ لصاحب الزنج علیه- أن وجه إلى یحیى بن محمد البحرانی صاحبه- و هو إذ ذاک مقیم بنهر معقل- فی جیش من الزنج- فأمره بتوجیه ألف رجل من أصحابه- علیهم سلیمان بن جامع و أبو اللیث القائدان- و یأمرهما بقصد عسکر سعید لیلا- حتى یوقعا به وقت طلوع الفجر- من لیله عینها لهم ففعلا ذلک- و صارا إلى عسکر سعید فی ذلک الوقت- فصادفا منه غره و غفله- فأوقعا به و بأصحابه وقت طلوع الفجر- فقتل منهم مقتله عظیمه- و أصبح سعید و قد ضعف أمره- و اتصل بالسلطان خبره- فأمره بالانصراف إلى باب السلطان- و تسلیم الجیش الذی معه إلى منصور بن جعفر الخیاط- و کان إلیه یومئذ حرب الأهواز- و کوتب بحرب صاحب الزنج- و أن یصمد له فکانت بینهم وقعه کان الظفر فیها للزنج- فقتل من أصحاب منصور خلق کثیر عظیم- و حمل من الرءوس خمسمائه رأس- إلى عسکر یحیى بن محمد البحرانی القائد- فنصبت على نهر معقل- .

قال أبو جعفر ثم کانت بین الزنج- و بین أصحاب السلطان بالأهواز وقعات کثیره- تولاها علی بن أبان المهلبی- فقتل شاهین بن بسطام- و کان من أکابر أصحاب السلطان- و هزم إبراهیم بن سیما- و کان أیضا من الأمراء المشهورین- و استولى الزنج على عسکره- . قال أبو جعفر- ثم کانت الواقعه العظمى بالبصره فی هذه السنه- و ذلک أن صاحب الزنج قطع المیره عنهم فأضر ذلک بهم- و ألح بجیوشه و زنوجه علیهم بالحرب صباحا و مساء- فلما کان فی شوال من هذه السنه- أزمع على جمع أصحابه للهجوم على البصره و الجد فی خراجها- و ذلک لعلمه بضعف أهلها و تفرقهم- و إضرار الحصار بهم و خراب ما حولها من القرى- و کان قد نظر فی حساب النجوم- و وقف على انکساف القمر- اللیله الرابعه عشره من هذا الشهر- فذکر محمد بن الحسن بن سهل أنه قال- سمعته یقول اجتهدت فی الدعاء على أهل البصره- و ابتهلت إلى الله تعالى فی تعجیل خرابها- فخوطبت و قیل لی إنما البصره خبزه لک تأکلها من جوانبها- فإذا انکسر نصف الرغیف خربت البصره- فأولت انکسار نصف الرغیف- بانکساف نصف القمر المتوقع فی هذه اللیالی- و ما أخلق أمر أهل البصره أن یکون بعده- قال فکان یحدث بهذا حتى أفاض فیه أصحابه- و کثر تردده فی أسماعهم و إجالتهم إیاه بینهم- .

ثم ندب محمد بن یزید الدارمی- و هو أحد من کان صحبه بالبحرین- للخروج إلى‏ الأعراب و استنفار من قدر علیه منهم- فأتاه منهم بخلق کثیر- و وجه إلى البصره سلیمان بن موسى الشعرانی- فأمره بتطرق البصره و الإیقاع بأهلها- و تقدم إلى سلیمان بن موسى بتمرین الأعراب على ذلک- فلما وقع الکسوف أنهض إلیها علی بن أبان- و ضم إلیه جیشا من الزنج و طائفه من الأعراب- و أمره بإتیان البصره مما یلی بنی سعد- و کتب إلى یحیى بن محمد البحرانی فی إتیانها مما یلی نهر عدی- و ضم باقی الأعراب إلیه- فکان أول من واقع أهل البصره- علی بن أبان و بغراج الترکی- یومئذ بالبصره فی جماعه من الجند- فأقام یقاتلهم یومین- و أقبل یحیى بن محمد مما یلی قصر أنس- قاصدا نحو الجسر- فدخل علی بن أبان البلد وقت صلاه الجمعه- لثلاث عشره بقین من شوال- فأقبل یقتل الناس و یحرق المنازل و الأسواق بالنار- فتلقاه بغراج و إبراهیم بن محمد- بن إسماعیل بن جعفر بن سلیمان الهاشمی- المعروف ببریه و کان وجیها مقدما مطاعا- فی جمع عظیم فرداه فرجع فأقام لیلته تلک- ثم غاداهم و قد تفرق جند البصره- فلم یکن فی وجهه أحد یدافعه- و انحاز بغراج بمن معه- و هرب إبراهیم بن محمد الهاشمی المعروف ببریه- فوضع علی بن أبان السیف فی الناس- و جاء إلیه إبراهیم بن محمد المهلبی- و هو ابن عمه فاستأمنه لأهل البصره- فحضر أهل البصره قاطبه- فأمنهم و نادى منادیه- من أراد الأمان فلیحضر دار إبراهیم بن محمد المهلبی- فحضر أهل البصره قاطبه- حتى ملئوا الأزقه- فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصه- فأمر بأخذ السکک و الطرق علیهم- و غدر بهم و أمر الزنوج بوضع السیف فیهم- فقتل کل من شهد ذلک المشهد- .

ثم انصرف آخر نهار یومه ذلک- فأقام بقصر عیسى بن جعفر بالخربیه- . و روى أبو جعفر- قال حدثنی محمد بن الحسن بن سهل- قال حدثنی محمد بن سمعان- قال کنت یومئذ بالبصره- فمضیت مبادرا إلى منزلی لأتحصن به- و هو فی سکه المربد فلقیت أهل البصره هاربین- یدعون بالویل و الثبور- و فی آخرهم القاسم بن جعفر بن سلیمان الهاشمی- على بغل متقلدا سیفا- یصیح بالناس ویحکم تسلمون بلدکم و حرمکم- هذا عدوکم قد دخل البلد- فلم یلووا علیه و لم یسمعوا منه فمضى هاربا- و دخلت أنا منزلی- و أغلقت بابی- و أشرفت فمر بی الأعراب و رجاله الزنج- یقدمهم رجل على حصان کمیت- بیده رمح و علیه عذبه صفراء- فسألت بعد ذلک عنه فقیل لی إنه علی بن أبان- .

قال و نادى منادی علی بن أبان- من کان من آل المهلب فلیدخل دار إبراهیم بن یحیى المهلبی- فدخلت جماعه قلیله و أغلق الباب دونهم- ثم قیل للزنج دونکم الناس فاقتلوهم و لا تبقوا منهم أحدا- و خرج إلیهم أبو اللیث الأصفهانی أحد قود الزنج- فقال للزنج کیلوا- و هی العلامه التی کانوا یعرفونها- فیمن یؤمرون بقتله- فأخذ الناس السیف قال- فو الله إنی لأسمع تشهدهم و ضجیجهم و هم یقتلون- و قد ارتفعت أصواتهم بالتشهد- حتى سمعت بالطفاوه- و هو على بعد من الموضع الذی کانوا فیه- . قال ثم انتشر الزنج فی سکک البصره و شوارعها- یقتلون من وجدوا- و دخل علی بن أبان یومئذ المسجد فأحرقه- و بلغ إلى الکلاء فأحرقه إلى الجسر- و أخذت النار کل ما مرت به- من إنسان و بهیمه و أثاث و متاع- ثم ألحوا بالغدو و الرواح على من وجدوه- و یسوقونهم إلى یحیى بن محمد البحرانی- و هو نازل ببعض سکک البصره- فمن کان ذا مال قرره حتى یستخرج ماله ثم یقتله- و من کان مختلا قتله معجلا- .

قال أبو جعفر- و قد کان علی بن أبان کف بعض الکف- عن العیث بناحیه بنی سعد- و راقب قوما من المهلبیین و أتباعهم- فانتهى ذلک إلى علی بن محمد صاحب الزنج- فصرفه عن البصره- و أقر یحیى بن محمد البحرانی بها- لموافقته على رأیه فی الإثخان فی القتل و وقوع ذلک بمحبته- و کتب إلى یحیى بن محمد یأمره- بإظهار الکف لیسکن الناس و یظهر المستخفی- و من قد عرف بالیسار و الثروه- فإذا ظهر فلیؤخذوا بالدلاله على ما دفعوه و أخفوه من أموالهم- ففعل یحیى بن محمد ذلک- و کان لا یخلو فی الیوم من الأیام من جماعه یؤتى بهم- فمن عرف منهم بالیسار استنزف ما عنده ثم قتله- و من ظهرت له خلته عاجله بالقتل- حتى لم یدع أحدا ظهر له إلا قتله- .

قال أبو جعفر و حدثنی محمد بن الحسن قال- لما انتهى إلى علی بن محمد عظیم ما فعل أصحابه بالبصره- سمعته یقول دعوت على أهل البصره- فی غداه الیوم الذی دخل فیه أصحابی إلیها- و اجتهدت فی الدعاء- و سجدت و جعلت أدعو فی سجودی- فرفعت إلى البصره- فرأیتها و رأیت أصحابی یقاتلون فیها- و رأیت بین السماء و الأرض رجلا واقفا- فی صوره جعفر المعلوف المتولی- کان للاستخراج فی دیوان الخراج بسامراء- و هو قائم قد خفض یده الیسرى و رفع یده الیمنى- یرید قلب البصره- فعلمت أن الملائکه تولت إخرابها دون أصحابی- و لو کان أصحابی تولوا ذلک- ما بلغوا هذا الأمر العظیم الذی یحکى عنها- و لکن الله تعالى نصرنی بالملائکه- و أیدنی فی حروبی- و ثبت بهم من ضعف قلبه من أصحابی- قال أبو جعفر و انتسب صاحب الزنج فی هذه الأیام- إلى محمد بن محمد بن زید بن علی بن الحسین- بعد انتسابه الذی کان إلى أحمد بن عیسى بن زید- و ذلک لأنه بعد إخرابه البصره- جاء إلیه جماعه من العلویه الذین کانوا بالبصره- و أتاه فیمن أتاه منهم قوم- من ولد أحمد بن عیسى بن زید- فی جماعه من نسائهم و حرمهم- فلما خافهم ترک الانتساب إلى أحمد بن عیسى- و انتسب إلى محمد بن محمد بن زید- .

قال أبو جعفر فحدثنی محمد بن الحسن بن سهل- قال کنت حاضرا عنده و قد حضر جماعه من النوفلیین- فقال له القاسم بن إسحاق النوفلی- أنه انتهى إلینا أن الأمیر من ولد أحمد بن عیسى بن زید- فقال لست من ولد عیسى- أنا من ولد یحیى بن زید- . قال محمد بن الحسن- فانتقل من أحمد بن عیسى بن زید- إلى محمد بن محمد بن زید- ثم انتقل من محمد إلى یحیى بن زید- و هو کاذب لأن الإجماع واقع- على أن یحیى بن زید مات و لم یعقب- و لم یولد له إلا بنت واحده ماتت و هی ترضع- . فهذا ما ذکره أبو جعفر الطبری فی التاریخ الکبیر- . و ذکر علی بن الحسن المسعودی فی مروج الذهب- أن هذه الواقعه بالبصره- هلک فیها من أهلها ثلاثمائه ألف إنسان- و أن علی بن أبان المهلبی بعد فراغه من الواقعه- نصب منبرا فی الموضع المعروف ببنی یشکر- صلى فیه یوم الجمعه و خطب لعلی بن محمد صاحب الزنج- و ترحم بعد ذلک على أبی بکر و عمر- و لم یذکر عثمان و لا علیا ع فی خطبته- و لعن أبا موسى الأشعری- و عمرو بن العاص و معاویه بن أبی سفیان- قال‏و هذا یؤکد ما ذکرناه و حکیناه من رأیه- و أنه کان یذهب إلى قول الأزارقه- .

قال و استخفى من سلم من أهل البصره فی آبار الدور- فکانوا یظهرون لیلا- فیطلبون الکلاب فیذبحونها و یأکلونها- و الفأر و السنانیر- فأفنوها حتى لم یقدروا على شی‏ء منها- فصاروا إذا مات الواحد منهم أکلوه- فکان یراعی بعضهم موت بعض- و من قدر على صاحبه قتله و أکله- و عدموا مع ذلک الماء- و ذکر عن امرأه منهم أنها حضرت امرأه قد احتضرت- و عندها أختها و قد احتوشوها- ینتظرون أن تموت فیأکلوا لحمها- قالت المرأه فما ماتت حسناء- حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها فأکلناه- و لقد حضرت أختها- و نحن على شریعه عیسى بن حرب- و هی تبکی و معها رأس المیت- فقال لها قائل ویحک ما لک تبکین- فقالت اجتمع هؤلاء على أختی- فما ترکوها تموت حسناء حتى قطعوها- و ظلمونی فلم یعطونی من لحمها شیئا إلا الرأس- و إذا هی تبکی شاکیه من ظلمهم لها فی أختها- .

قال و کان مثل هذا و أکثر منه و أضعافه- و بلغ من أمر عسکره أنه ینادى فیه على المرأه- من ولد الحسن و الحسین و العباس و غیرهم من أشراف قریش- فکانت الجاریه تباع منهم بدرهمین و بثلاثه دراهم- و ینادى علیها بنسبها- هذه ابنه فلان بن فلان- و أخذ کل زنجی منهم العشرین و الثلاثین- یطؤهن الزنج و یخدمن النساء الزنجیات- کما تخدم الوصائف و لقد استغاثت إلى صاحب الزنج امرأه- من ولد الحسن بن علی ع- و کانت عند بعض الزنج و سألته- أن یعتقها مما هی فیه- أو ینقلها من عنده إلى غیره- فقال لها هو مولاک و هو أولى بک- .

قال أبو جعفر و أشخص السلطان- لحرب صاحب الزنج محمدا المعروف بالمولد- فی جیش کثیف فجاء حتى نزل الأبله- و کتب صاحب الزنج إلى یحیى بن محمد البحرانی- یأمره بالمصیر إلیه- فصار إلیه بزنوجه- و أقام على محاربته عشره أیام- ثم فتر المولد عن الحرب- و کتب علی بن محمد إلى یحیى- یأمره أن یبیته فبیته فهزمه- و دخل الزنج عسکره فغنموا ما فیه- و کتب یحیى إلى صاحب الزنج یخبره- فأمره باتباعه فاتبعه إلى الحوانیت- ثم انصرف عنه فمر بالجامده- و أوقع بأهلها- و انتهب کل ما کان فی تلک القرى- و سفک ما قدر على سفکه من الدماء- ثم عاد إلى نهر معقل- .

قال أبو جعفر- و اتصلت الأخبار بسامراء و بغداد- و بالقواد و الموالی و أهل الحضره بما جرى على أهل البصره- فقامت علیهم القیامه- و علم المعتمد أنه لا یرتق هذا الفتق- إلا بأخیه أبی أحمد طلحه بن المتوکل- و کان منصورا مؤیدا عارفا بالحرب و قیاده الجیوش- و هو الذی أخذ بغداد للمعتز- و کسر جیوش المستعین و خلعه من الخلافه- و لم یکن لبنی العباس فی هذا الباب مثله و مثل ابنه أبی العباس- فعقد له المعتمد- على دیار مضر و قنسرین و العواصم- و جلس له مستهل شهر ربیع الآخر- من سنه سبع و خمسین- فخلع علیه و على مفلح- و شخصا نحو البصره لحرب علی بن محمد- و إصلاح ما أفسده من الأعمال- و رکب المعتمد رکوبا ظاهرا- یشیع أخاه أبا أحمد إلى القریه المعروفه ببرکوارا و عاد- . قال أبو جعفر و أما صاحب الزنج- فإنه بعد هزیمه محمد المولد- أنفذ علی بن أبان المهلبی- إلى حرب منصور بن جعفر و إلى الأهواز- فکانت بینهما حروب کثیره فی أیام متفرقه- حتى کان آخرها الیوم الذی انهزم فیه أصحاب منصور- و تفرقوا عنه و أدرکت منصورا طائفه من الزنج- فلم یزل یکر علیهم حتى انقصف رمحه و نفدت سهامه- و لم یبق معه سلاح-و انتهى إلى نهر یعرف بنهر ابن مروان- فصاح بحصان کان تحته لیعبر- فوثب فقصر فانغمس فی الماء- .

و قیل إن الحصان لم یقصر فی الوثبه- و لکن رجلا من الزنج سبقه إلى النهر- فألقى نفسه فیه لعلمه أنه لا محیص لمنصور عن النهر- فلما وثب الفرس تلقاه الأسود- فنکس فغاص الفرس و منصور- ثم أطلع منصور رأسه- فنزل إلیه غلام من السودان من عرفاء مصلح- یقال له أبرون فاحتز رأسه و أخذ سلبه- فولى یارجوخ الترکی صاحب حرب خوزستان- ما کان مع منصور من العمل أصغجون الترکی- .

و قال أبو جعفر- و أما أبو أحمد فإنه شخص عن سامراء- فی جیش لم یسمع السامعون بمثله کثره و عده- قال و قد عاینت أنا ذلک الجیش- و أنا یومئذ ببغداد بباب الطاق- فسمعت جماعه من مشایخ أهل بغداد یقولون- قد رأینا جیوشا کثیره للخلفاء- فما رأینا مثل هذا الجیش أحسن عده- و أکمل عتادا و سلاحا- و أکثر عددا و جمعا- و اتبع ذلک الجیش من متسوقه أهل بغداد خلق کثیر- . قال أبو جعفر فحدثنی محمد بن الحسن بن سهل- أن یحیى بن محمد البحرانی کان مقیما بنهر معقل- قبل موافاه أبی أحمد- فاستأذن صاحب الزنج- فی المصیر إلى نهر العباس فکره ذلک-

و خاف أن یوافیه جیش من قبل السلطان- و أصحابه متفرقون فألح علیه یحیى حتى أذن له- فخرج و اتبعه أکثر أهل عسکر صاحب الزنج- و کان علی بن أبان‏  مقیما بجبى فی جمع کثیر من الزنج- و البصره قد صارت مغنما لأهل عسکر صاحب الزنج- یغادونها و یراوحونها- لنقل ما نالته أیدیهم منها إلى منازلهم- فلیس بمعسکر علی بن محمد یومئذ من أصحابه إلا القلیل- فهو على ذلک من حاله- حتى وافى أبو أحمد فی الجیش و معه مفلح- فورد جیش عظیم لم یرد على الزنج مثله- فلما وصل إلى نهر معقل- انصرف من کان هناک من الزنج- فالتحقوا بصاحبهم مرعوبین- فراعه ذلک و دعا برئیسین منهما- فسألهما عن السبب الذی له ترکا موضعهما- فأخبراه بما عاینا من عظم أمر الجیش الوارد- و کثره عدد أهله و أحکام عدتهم- و إن الذی عایناه من ذلک- لم یکن فی قوتهما الوقوف له فی العده التی کانا فیها- فسألهما هل علما من یقود هذا الجیش- فقالا قد اجتهدنا فی علم ذلک- فلم نجد من یصدقنا عنه- .

فوجه صاحب الزنج طلائعه- فی سمیریات لیعرف الخبر- فرجعت طلائعه إلیه بتعظیم أمر الجیش و تفخیمه- و لم یقف أحد منهم على من یقوده- فزاد ذلک فی جزعه و ارتیاعه- فأمر بالإرسال إلى علی بن أبان یعلمه خبر الجیش الوارد- و یأمره بالمصیر إلیه فیمن معه- و وافى جیش أبی أحمد- فأناخ بإزاء صاحب الزنج- فلما کان الیوم الذی کانت فیه الواقعه- خرج علی بن محمد یطوف فی عسکره ماشیا- و یتأمل الحال فیمن هو من حزبه- و من هو مقیم بإزائه على حزبه- و قد کانت السماء مطرت ذلک الیوم مطرا خفیفا- و الأرض ثریه تزل عنها الأقدام- فطوف ساعه من أول النهار و رجع- فدعا بدواه و قرطاس لیکتب کتابا إلى علی بن أبان- لیعلمه ما قد أظله من الجیش- و یأمره بتقدیم من قدر على تقدیمه من الرجال- فإنه لفی ذلک- إذ أتاه أبو دلف القائد أحد قواد الزنج- فقال له إن‏ القوم قد غشوک و رهقوک- و انهزم الزنج من بین أیدیهم- و لیس فی وجوههم من یردهم- فانظر لنفسک فإنهم قد انتهوا إلیک- فصاح به و انتهره-

و قال اغرب عنی فإنک کاذب فیما حکیت- إنما ذلک جزع داخل قلبک- لکثره من رأیت من الجمع- فانخلع قلبک فلست تدری ما تقول- فخرج أبو دلف من بین یدیه و أقبل یکتب- و قال لجعفر بن إبراهیم السجان ناد فی الزنج- و حرکهم للخروج إلى موضع الحرب- فقال له إنهم قد خرجوا- و قد ظفروا بسمیریتین من سفن أصحاب السلطان- فأمره بالرجوع لتحریک الرجاله- و کان من القضاء و القدر أن أصیب مفلح- و هو القائد الجلیل المرشح لقیاده الجیش بعد أبی أحمد- بسهم غرب لا یدرى من رماه فمات لوقته- و وقعت الهزیمه على أصحاب أبی أحمد- و قوی الزنج على حربهم- فقتلوا منهم جمعا کثیرا- و وافى علی بن محمد زنجه بالرءوس- قابضین علیها بأسنانهم حتى ألقوها بین یدیه- فکثرت الرءوس یومئذ حتى ملأت الفضاء- و جعل الزنج یقتسمون لحوم القتلى- و یتهادونها بینهم- و أتی بأسیر من الجیش فسأله عن رأس العسکر- فذکر أبا أحمد و مفلحا- فارتاع لذکر أبی أحمد- و کان إذا راعه أمر کذب به- و قال لیس فی الجیش إلا مفلح- لأنی لست أسمع الذکر إلا له- و لو کان فی الجیش من ذکر هذا الأسیر- لکان صوته أبعد- و لما کان مفلح إلا تابعا له و مضافا إلیه- .

قال أبو جعفر- و قد کان قبل أن یصیب السهم مفلحا- انهزم الزنج لما خرج علیهم‏ جیش أبی أحمد- و جزعوا جزعا شدیدا- و لجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبی الخصیب- و لا جسر یومئذ علیه- فغرق منهم خلق کثیر- و لم یلبث صاحب الزنج إلا یسیرا- حتى وافاه علی بن أبان فی أصحابه- فوافاه و قد استغنى عنه بهزیمه الجیش السلطانی- و تحیز أبو أحمد بالجیش إلى الأبله- لیجمع ما فرقت الهزیمه منه- و یجدد الاستعداد للحرب- ثم صار إلى نهر أبی الأسد فأقام به- . قال أبو جعفر فحدثنی محمد بن الحسن- قال فکان صاحب الزنج لا یدری کیف قتل مفلح- فلما لم یر أحدا ینتحل رمیه- ادعى أنه کان الرامی له- قال فسمعته یقول سقط بین یدی سهم من السماء- فأتانی به واح خادمی- فدفعه إلی فرمیت به فأصاب مفلحا فقتله- قال محمد و کذب فی ذلک- لأنی کنت حاضرا معه ذلک المشهد- ما زال عن فرسه حتى أتاه خبر الهزیمه- .

قال أبو جعفر- ثم إن الله تعالى أصاب صاحب الزنج- بمصیبه تعادل فرحه و سروره- بقتل مفلح عقیب قتل مفلح- و ذلک أن قائده الجلیل یحیى بن محمد البحرانی أسر و قتل- و صوره ذلک أن صاحب الزنج- کان قد کتب إلى یحیى بن محمد- یعلمه ورود هذا الجیش علیه- و یأمره بالقدوم و التحرر فی منصرفه- من أن یلقاه أحد منهم- و قد کان یحیى غنم سفنا فیها متاع و أموال- لتجار الأهواز جلیله- و حامى عنها أصحاب أصغجون الترکی فلم یغن- و هزمهم یحیى و مضى الزنج بالسفن المذکوره- یمدونها متوجهین نحو معسکر صاحب الزنج- على سمت البطیحه المعروفه ببطیحه الصحناه- و هی طریقه متعسقه وعره فیها مشاق متعبه- و إنما سلکها یحیى و أصحابه- و ترکوا الطریق الواضح- للتحاسد الذی کان بین یحیى بن محمد و علی بن أبان- فإن أصحاب یحیى أشاروا علیه ألا یسلک الطریق- التی یمر فیها على أصحاب علی بن أبان- فأصغى إلى مشورتهم فشرعوا له- الطریق المؤدی إلى البطیحه المذکوره فسلکها-

و هذه البطیحه ینتهی السائر فیها إلى نهر أبی الأسد- و قد کان أبو أحمد انحاز إلیه- لأن أهل القرى و السواد کاتبوه- یعرفونه خبر یحیى بن محمد البحرانی- و شده بأسه و کثره جمعه- و أنه ربما خرج من البطیحه إلى نهر أبی الأسد- فعسکر به و منع أبا أحمد المیره- و حال بینه و بین من یأتیه من الأعراب و غیرهم- فسبقه أبو أحمد إلى نهر أبی الأسد- و سار یحیى حتى إذا قرب من نهر أبی الأسد- وافته طلائعه فأخبرته بالجیش- و عظمت أمره و خوفته منه- فرجع من الطریق الذی کان سلکه- بمشقه شدیده نالته و نالت أصحابه- و أصابهم مرض لترددهم فی تلک البطیحه- و جعل یحیى على مقدمته سلیمان بن جامع- و سار حتى وقف على قنطره فورج نهر العباس- فی موضع ضیق تشتد فیه جریه الماء- و هو مشرف ینظر أصحابه الزنج- کیف یجرون تلک السفن التی فیها الغنائم- فمنها ما یغرق و ما یسلم- . قال أبو جعفر فحدثنی محمد بن سمعان-

قال کنت فی تلک الحال واقفا مع یحیى على القنطره- و قد أقبل علی متعجبا من شده جریه الماء- و شده ما یلقى أصحابه من تلقیه بالسفن- فقال أ رأیت لو هجم علینا عدو فی هذه الحال- من کان یکون أسوأ حالا منا- فو الله ما انقضى کلامه- حتى وافى کاشهم الترکی فی جیش- قد أنفذه معه أبو أحمد عند رجوعه- من الأبله إلى نهر أبی الأسد یتلقى به یحیى- فوقعت الصیحه و اضطربت الزنج- فنهضت متشوفا للنظر- فإذا الأعلام الحمر قد أقبلت فی الجانب الغربی- من نهر العباس و یحیى به- فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم جمله فی الماء- فعبروا إلى الجانب الشرقی- و خلا الموضع الذی فیه یحیى- فلم یبق معه إلا بضعه عشر رجلا منهم- فنهض عند ذلک فأخذ درقته و سیفه و احتزم بمندیل ثم تلقى القوم فی النفر الذین تخلفوا معه- فرشقهم أصحاب کاشهم الترکی بالسهام- حتى کثر فیهم الجراح- و جرح یحیى بأسهم ثلاثه فی عضده الیمنى و ساقه الیسرى- فلما رآه أصحابه جریحا- تفرقوا عنه و لم یعرف فیقصد له- فرجع حتى دخل بعض تلک السفن- و عبر به إلى الجانب الشرقی من النهر- و ذلک وقت الضحى و أثقلته الجراحات التی أصابته- فلما رأت الزنج شده ما نزل به- اشتد جزعهم و ضعفت قلوبهم فترکوا القتال- و کانت همتهم النجاه بأنفسهم- و حاز أصحاب السلطان تلک الغنائم التی کانت فی السفن- فی الجانب الغربی من النهر- و انفض الزنج بالجانب الشرقی عن یحیى- فجعلوا یتسللون بقیه نهارهم- بعد قتل ذریع فیهم و أسر کثیر- فلما أمسوا و أسدف اللیل- طاروا على وجوههم- فلما رأى یحیى تفرق أصحابه رکب سمیریه کانت هناک- و أقعد معه فیها متطببا- یقال له عباد و طمع فی الخلاص إلى عسکر صاحب الزنج- فسار حتى قرب من فوهه النهر- فأبصر سمیریات و شذایات لأصحاب السلطان فی فوهه النهر- فخاف أن تعترض سمیریته- و جزع من المرور بها- فعبر به الملاح إلى الجانب الغربی من النهر- فألقاه و طبیبه على الأرض فی زرع هناک- فخرج یمشی و هو مثقل- حتى ألقى نفسه فی بعض تلک المواضع- فأقام هناک لیلته تلک- فلما أصبح نزفه الدم و نهض عباد الطبیب- فجعل یمشی متشوفا أن یرى إنسانا- فرأى بعض أصحاب السلطان- فأشار لهم إلى موضع یحیى- فجاءوا حتى وقفوا علیه فأخذوه- و انتهى خبره إلى الخبیث صاحب الزنج- فجزع علیه جزعا شدیدا و عظم علیه توجعه- .

ثم حمل یحیى إلى أبی أحمد- فحمله أبو أحمد إلى المعتمد- فأدخل إلى سامراء راکب جمل- و الناس مجتمعون ینظرونه- ثم أمر المعتمد ببناء دکه عالیه- بحضره مجرى الحلیه فبنیت- و رفع للناس علیها حتى أبصره الخلائق کافه- ثم ضرب بین یدی المعتمد- و قد جلس له مائتی سوط بثمارها- ثم قطعت یداه و رجلاه من خلاف- ثم خبط بالسیوف ثم ذبح و أحرق- . قال أبو جعفر فحدثنی محمد بن الحسن- قال لما قتل یحیى البحرانی- فانتهى خبره إلى صاحب الزنج- قال لأصحابه لما عظم علی قتله و اشتد اهتمامی به- خوطبت فقیل لی قتله خیر لک إنه کان شرها- ثم أقبل على جماعه أنا فیهم- فقال من شرهه أنا غنمنا غنیمه- من بعض ما کنا نغنمه و کان فیها عقدان- فوقعا فی ید یحیى- فأخفى عنی أعظمهما خطرا- و عرض علی أخسهما- ثم استوهبه فوهبته له- فرفع إلی العقد الذی أخفاه حتى رأیته- فدعوته فقلت أحضر لی العقد الذی أخفیته- فأتانی بالعقد الذی وهبته له- و جحد أن یکون أخذ غیره- فرفع إلی العقد ثانیه- فجعلت أصفه له و أنا أراه و هو لا یراه- فبهت و ذهب فأتانی- ثم استوهبنیه فوهبته له و أمرته بالاستغفار- . قال أبو جعفر و ذکر محمد بن الحسن- أن محمد بن سمعان حدثه- أن صاحب الزنج قال فی بعض أیامه- لقد عرضت علی النبوه فأبیتها- فقیل له و لم ذاک- قال إن لها أعباء خفت ألا أطیق حملها- .

قال أبو جعفر فأما الأمیر أبو أحمد- فإنه لما صار إلى نهر أبی الأسد و أقام به- کثرت العلل فی من معه من جنده و غیرهم- و فشا فیهم الموت- فلم یزل مقیما هنالک- حتى أبل من نجا منهم من علته ثم انصرف- راجعا إلى باذاورد فعسکر به- و أمر بتجدید الآلات و إصلاح الشذوات و السمیریات- و إعطاء الجند أرزاقهم- و شحن السفن بقواده و موالیه و غلمانه- و نهض نحو عسکر الناجم- و أمر جماعه من قواده بقصد مواضع سماها لهم- من نهر أبی الخصیب و غیره- و أمر الباقین بملازمته و المحاربه معه- فی الموضع الذی یکون فیه و هم الأقلون- و عرف الزنج تفرق أصحاب أبی أحمد عنه- فکثروا فی جهته و استعرت الحرب بینه و بینهم- و کثرت القتلى و الجراح بین الفریقین- و أحرق أصحاب أبی أحمد قصورا و منازل کان الزنج ابتنوها- و استنقذوا من نساء أهل البصره جمعا کثیرا- ثم صرف الزنج سورتهم و شده حملتهم- إلى الموضع الذی به أبو أحمد- فجاءه منهم جمع لا یقاوم- بمثل العده الیسیره التی کان فیها- فرأى أن الحزم فی محاجزتهم- فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على تؤده و تمهل- ففعلوا و بقیت طائفه من جنده- و لجوا تلک الأدغال و المضایق- فخرج علیهم کمین للزنج فأوقعوا بهم- فحاموا عن أنفسهم و قتلوا عددا کثیرا- من الزنج إلى أن قتلوا بأجمعهم- و حملت رءوسهم إلى الناجم- فزاد ذلک فی قوته و عتوه و عجبه بنفسه- و انصرف أبو أحمد بالجیش إلى باذاورد- و أقام یعبئ أصحابه للرجوع إلى الزنج- فوقعت نار فی طرف من أطراف عسکره- و ذلک فی أیام عصوف الریاح فاحترق العسکر- و رحل أبو أحمد منصرفا- و ذلک فی شعبان من هذه السنه إلى واسط- .

فأقام بها إلى ربیع الأول- ثم انصرف عنها إلى سامراء- و ذلک أن المعتمد کاتبه و استقدمه-لحرب یعقوب بن اللیث الصفار أمیر خراسان- فاستخلف على حرب الناجم محمد المولد- و أما الناجم فإنه لم یعلم خبر الحریق- الذی وقع فی عسکر أبی أحمد- حتى ورد علیه رجلان من أهل عبادان فأخبراه- فأظهر أن ذلک من صنع الله تعالى له- و نصره على أعدائه- و أنه دعا الله على أبی أحمد و جیشه- فنزلت نار من السماء فأحرقتهم- . و عاد إلى العبث و اشتد طغیانه و عتوه- و أنهض علی بن أبان المهلبی و ضم إلیه أکثر الجیش- و جعل على مقدمته سلیمان بن جامع- و أضاف إلیه الجیش الذی کان مع یحیى بن محمد البحرانی- و سلیمان بن موسى الشعرانی- و أمرهم بأن یقصدوا الأهواز- و بها حینئذ أصغجون الترکی- و معه نیزک القائد- فالتقى العسکران بصحراء تعرف بدشت میسان- و اقتتلوا فظهرت الزنج- و قتل نیزک فی کثیر من أصحابه- و غرق أصغجون الترکی- و أسر کثیر من قواد السلطان- منهم الحسن بن هرثمه المعروف بالشاری و الحسن بن جعفر- و کتب علی بن أبان بالخبر إلى الناجم- و حمل إلیه أعلاما و رءوسا کثیره و أسرى- و دخل علی بن أبان الأهواز- و أقام بها بزنوجه یعیث و ینهب القرى و السواد- إلى أن ندب المعتمد على الله موسى بن بغا لحربه- فشخص عن سامراء فی ذی القعده من هذه السنه- و شیعه المعتمد بنفسه إلى خلف الحائطین- و خلع علیه هنالک فقدم أمامه عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز- و إسحاق بن کنداخ إلى البصره- و إبراهیم بن سیما إلى الباذاورد- .

قال أبو جعفر- فلما ورد عبد الرحمن بن مفلح على الأهواز- أناخ بقنطره أریق عشره أیام- ثم مضى إلى علی بن أبان المهلبی فواقعه- فهزمه علی بن أبان- فانصرف فاستعد ثم عاد لمحاربته- فأوقع به وقعه عظیمه- و قتل من الزنج قتلا ذریعا و أسر أسرى کثیره- و انهزم علی بن أبان و من معه من الزنج- حتى أتوا الموضع المعروف ببیان- فأراد الناجم ردهم فلم یرجعوا- للذعر الذی خالط قلوبهم- فلما رأى ذلک أذن لهم فی دخول عسکره- فدخلوا جمیعا- فأقاموا معه بالمدینه التی کان بناها- و وافى عبد الرحمن بن مفلح حصن مهدی لیعسکر به- فوجه إلیه الناجم علی بن أبان فواقعه فلم یقدر علیه- و مضى علی بن أبان إلى قریب من الباذاورد- و هناک إبراهیم بن سیما فواقعه إبراهیم- فهزم علی بن أبان فعاوده فهزمه إبراهیم- فمضى فی اللیل و سلک الأدغال و الآجام- حتى وافى نهر یحیى- فانتهى خبره إلى عبد الرحمن بن مفلح- فوجه إلیه طاشتمر الترکی فی جمع من الموالی- فلم یصل إلى علی بن أبان و من معه- لوعوره الموضع الذی کانوا فیه- و امتناعه بالقصب و الحلافی- فأضرمه علیهم نارا- فخرجوا منه هاربین و أسر منهم أسرى- و انصرف إلى عبد الرحمن بن مفلح بالأسرى و الظفر- و مضى علی بن أبان- فأقام بأصحابه فی الموضع المسمى بنسوخا- و انتهى الخبر بذلک إلى عبد الرحمن بن مفلح- فصار إلى العمود فأقام به- و صار علی بن أبان إلى نهر السدره- و کتب إلى الناجم یستمده- و یسأله التوجیه إلیه بالشذا- فوجه إلیه ثلاث عشره شذاه- فیها جمع کثیر من أصحابه- فسار علی بن أبان و من معه فی الشذا- و وافى عبد الرحمن بمن معه- فلم یکن بینهما قتال- و تواقف الجیشان یومهما ذلک- .

فلما کان اللیل انتخب علی بن أبان- من أصحابه جماعه یثق بجلدهم و صبرهم- و مضى و معه سلیمان بن موسى المعروف بالشعرانی- و ترک سائر عسکره مکانه لیخفى أمره- فصار من وراء عبد الرحمن ثم بیته و عسکره- فنال منه و من أصحابه نیلا ما- و انحازعبد الرحمن عنه- و ترک أربع شذوات من شذواته- فغنمها علی بن أبان- و انصرف و مضى عبد الرحمن لوجهه- حتى وافى دولاب- فأقام بها و أعد رجالا من رجاله- و ولى علیهم طاشتمر الترکی- و أنفذهم إلى علی بن أبان- فوافوه و هو فی الموضع المعروف بباب آزر- فأوقعوا به وقعه انهزم منها إلى نهر السدره- و کتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزامه عنه- فأقبل عبد الرحمن بجیشه حتى وافى العمود- فأقام به و استعد أصحابه للحرب- و هیأ شذواته و ولى علیها طاشتمر- و سار إلى فوهه نهر السدره- فواقع علی بن أبان وقعه عظیمه- انهزم منها علی بن أبان- و أخذ منه عشر شذوات- و رجع علی بن أبان إلى الناجم مفلولا مهزوما- و سار عبد الرحمن من فوره فعسکر ببیان- فکان عبد الرحمن بن مفلح و إبراهیم بن سیما- یتناوبان المصیر إلى عسکر الناجم- فیوقعان به و یخیفان من فیه- و إسحاق بن کنداجیق یومئذ بالبصره- و قد قطع المیره عن عسکر الناجم- فکان الناجم یجمع أصحابه فی الیوم الذی یخاف فیه- موافاه عبد الرحمن بن مفلح و إبراهیم بن سیما- حتى ینقضی الحرب- ثم یصرف فریقا منهم إلى ناحیه البصره- فیواقع بهم إسحاق بن کنداجیق- فأقاموا على هذه الحال بضعه عشر شهرا- إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الزنج- .

قال أبو جعفر و سبب ذلک- أن المعتمد رد أمر فارس و الأهواز و البصره و غیرها- من‏ النواحی و الأقطار إلى أخیه أبی أحمد- بعد فراغه من حرب یعقوب بن اللیث الصفار و هزیمته له- فاستخلف أبو أحمد- على حرب صاحب الزنج مسرورا البلخی- و صرف موسى بن بغا عن ذلک- و اتفق أن ابن واصل حارب عبد الرحمن بن مفلح- فأسره و قتله و قتل طاشتمر الترکی أیضا- و ذلک بناحیه رامهرمز- فاستخلف مسرور البلخی- على الحرب أبا الساج و ولی الأهواز- فکانت بینه و بین علی بن أبان المهلبی- وقعه بناحیه دولاب قتل فیها عبد الرحمن صهر أبی الساج- و انحاز أبو الساج إلى عسکر مکرم- و دخل الزنج الأهواز- فقتلوا أهلها و سبوا و أحرقوا دورها- .

قال أبو جعفر- ثم وجه صاحب الزنج جیوشه- بعد هزیمه أبی الساج إلى ناحیه البطیحه و الحوانیت و دستمیسان- قال و ذلک لأن واسطا خلت- من أکثر الجند فی وقعه أبی أحمد- و یعقوب بن اللیث- التی کانت عند دیر العاقول- فطمع الزنج فیها- فتوجه إلیها سلیمان بن جامع فی عسکر من الزنج- و أردفه الناجم بجیش آخر- مع أحمد بن مهدی فی سمیریات فیها رماه من أصحابه- أنفذه إلى نهر المرأه- و أنفذ عسکرا آخر فیه سلیمان بن موسى- فأمره أن یعسکر بالنهر المعروف بالیهودی- فکانت بین هؤلاء و بین من تخلف بهذه الأعمال- من عساکر السلطان حروب شدیده- و کانت سجالا لهم و علیهم- حتى ملکوا البطیحه و الحوانیت- و شارفوا واسطا- و بها یومئذ محمد المولد من قبل السلطان- فکانت بینه و بین سلیمان بن جامع حروب کثیره- یطول شرحها و تعداده- و أمده الناجم بالخلیل بن أبان- أخی علی بن أبان المهلبی- فی ألف و خمسمائه فارس- و معه أبو عبد الله الزنجی المعروف بالمذوب- أحد قوادهم المشهورین- فقوى سلیمان بهم- و أوقع بمحمد المولد فهزمه- و دخل واسطا فی ذی الحجه- سنه أربع و ستین و مائتین بزنوجه و قواده- فقتل منها خلقا کثیرا- و نهبها و أحرق دورها و أسواقها- و أخرب کثیرا من منازل أهلها-و ثبت للمحاماه عنها قائد کان بها- من جانب محمد بن المولد- یقال له کنجور البخاری- فحامى یومه ذلک إلى العصر ثم قتل- و کان الذی یقود الخیل یومئذ- فی عسکر سلیمان بن جامع الخلیل بن أبان- و عبد الله المعروف بالمذوب- و کان أحمد بن مهدی الجبائی فی السمیریات- و کان مهربان الزنجی فی الشذوات- و کان سلیمان بن موسى الشعرانی- و أخوه فی میمنته و میسرته- و کان سلیمان بن جامع- و هو الأمیر على الجماعه فی قواده السودان و رجالته منهم- و کان الجمیع یدا واحده- فلما قضوا وطرهم من نهب واسط و قتل أهلها- خرجوا بأجمعهم عنها فمضوا إلى جنبلاء- و أقاموا هناک یعیثون و یخربون- . و فی أوائل سنه خمس و ستین- دخلوا إلى النعمانیه و جرجرایا و جبل- فنهبوا و أخربوا و قتلوا و أحرقوا- و هرب منهم أهل السواد فدخلوا إلى بغداد- .

قال أبو جعفر فأما علی بن أبان المهلبی- فإنه استولى على معظم أعمال الأهواز- و عاث هناک و أخرب و أحرق- و کانت بینه و بین عمال السلطان و قواده- مثل أحمد بن لیثویه- و محمد بن عبد الله الکردی- و تکین البخاری و مطر بن جامع- و أغرتمش الترکی و غیرهم- و بینه و بین عمال یعقوب بن اللیث الصفار- مثل خضر بن العنبر و غیره حروب عظیمه- و وقعات کثیره و کانت سجالا- تاره له و تاره علیه- و هو فی أکثرها المستظهر علیهم- و کثرت أموال الزنج و الغنائم- التی حووها من البلاد و النواحی- و عظم أمرهم و أهم الناس شأنهم- و عظم على المعتمد و أخیه أبی أحمد خطبهم- و اقتسموا الدنیا- فکان علی بن محمد الناجم صاحب الزنج و إمامهم- مقیما بنهر أبی الخصیب- قد بنى مدینه عظیمه سماها المختاره و حصنها بالخنادق- و اجتمع إلیه فیها من الناس- ما لا ینتهی العد و الحصر إلیه رغبه و رهبه- و صارت مدینه تضاهی سامراء و بغداد- و تزید علیهما- و أمراؤه و قواده بالبصره- و أعمالها یجبون الخراج على عاده السلطان- لما کانت البصره فی یده- و کان علی بن أبان المهلبی و هو أکبر أمرائه و قواده- قد استولى على الأهواز و أعمالها- و دوخ بلادها کرامهرمز و تستر و غیرهما- و دان له الناس و جبا الخراج- و ملک أموالا لا تحصى- .

و کان سلیمان بن جامع و سلیمان بن موسى الشعرانی- و معهما أحمد بن مهدی الجبائی فی الأعمال الواسطیه- قد ملکوها و بنوا بها المدن الحصینه- و فازوا بأموالها و ارتفاعها و جبوا خراجها- و رتبوا عمالهم و قوادهم فیها- إلى أن دخلت سنه سبع و ستین و مائتین- و قد عظم الخطب و جل- و خیف على ملک بنی العباس أن یذهب و ینقرض- فلم یجد أبو أحمد الموفق- و هو طلحه بن المتوکل على الله- بدا من التوجه بنفسه- و مباشرته هذا الأمر الجلیل برأیه و تدبیره- و حضوره معارک الحرب- فندب أمامه ابنه أبا العباس- و رکب أبو أحمد إلى بستان الهادی ببغداد- و عرض أصحاب أبی العباس- و ذلک فی شهر ربیع الآخر من هذه السنه- فکانوا عشره آلاف- فرسانا و رجاله فی أحسن زی و أجمل هیئه و أکمل عده- و معهم الشذوات و السمیریات و المعابر برسم الرجاله- کل ذلک قد أحکمت صنعته- فرکب أبو العباس من بستان الهادی- و رکب أبو أحمد مشیعا له- حتى نزل القریه المعروفه بالفرک- ثم عاد و أقام أبو العباس بالفرک أیاما- حتى تکامل عدده و تلاحق به أصحابه- .

ثم رحل إلى المدائن فأقام بها أیاما- ثم رحل إلى دیر العاقول- فورد علیه کتاب نصیر المعروف بأبی حمزه- و هو من جله أصحابه- و کان صاحب الشذا و السمیریات- و قد کان قدمه على مقدمته بدجله یعلمه فیه- أن سلیمان بن جامع قد وافى- لما علم بشخوص أبی العباس و الجبائی یقدمه- فی خیلهما و رجالهما و سفنهما- حتى نزلا الجزیره التی بحضره بردودا- فوق واسط بأربعه فراسخ- و أن سلیمان بن موسى الشعرانی قد وافى نهر أبان بعسکره- عسکر البر و عسکر الماء- فرحل أبو العباس لما قرأ هذا الکتاب- حتى وافى جرجرایا ثم منها إلى فم الصلح- ثم رکب الظهر و سار حتى وافى الصلح- و وجه طلائعه لیتعرف الخبر فأتاه منهم من أخبره بموافاه القوم- و أن أولهم قریب من الصلح- و آخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط- فلما عرف ذلک عدل عن سنن الطریق- و لقی أصحابه أوائل القوم- فتطاردوا لهم عن وصیه أوصاهم أبو العباس بها- حتى طمع الزنج فیهم- و اغتروا و أمعنوا فی اتباعهم- و جعلوا یصیحون بهم- اطلبوا أمیرا للحرب فإن أمیرکم مشغول بالصید- فلما قربوا من أبی العباس بالصلح- خرج إلیهم فیمن معه من الخیل و الرجل- و أمر فصیح بأبی حمزه یا نصیر- إلى أین تتأخر عن هؤلاء الکلاب ارجع إلیهم- فرجع نصیر بشذواته و سمیریاته و فیها الرجال- و رکب أبو العباس فی سمیریه- و معه محمد بن شعیب- و حف أصحابه بالزنج من جمیع جهاتهم فانهزموا- و منح الله أبا العباس و أصحابه أکتافهم- یقتلونهم و یطردونهم- إلى أن وافوا قریه عبد الله- و هی على سته فراسخ- من الموضع الذی لقوهم فیه- و أخذوا منهم خمس شذوات و عشر سمیریات- و استأمن منهم قوم و أسر منهم أسرى- و غرق من سفنهم کثیر- فکان هذا الیوم أول الفتح على أبی العباس- .

قال أبو جعفر فلما انقضى هذا الیوم- أشار على أبی العباس قواده و أولیاؤه- أن یجعل معسکره بالموضع الذی کان انتهى إلیه- إشفاقا علیه من مقاربه القوم- فأبى إلا نزول واسط بنفسه- و لما انهزم سلیمان بن جامع و من معه- و ضرب الله وجوههم- انهزم سلیمان بن موسى الشعرانی عن نهر أبان- حتى وافى سوق الخمیس- و لحق سلیمان بن جامع بنهر الأمیر- و قد کان القوم حین لقوا أبا العباس- أجالوا الرأی بینهم فقالوا- هذا فتى حدث لم تطل ممارسته الحرب و تدربه بها- و الرأی أن نرمیه بحدنا کله- و نجتهد فی أول لقیه نلقاه فی إزالته- فلعل ذلک أن یروعه- فیکون سببا لانصرافه عنا- ففعلوا ذلک و حشدوا و اجتهدوا- فأوقع الله تعالى بهم بأسه و نقمته- و لم یتم لهم ما قدروه- و رکب أبو العباس من غد یوم الوقعه- حتى دخل واسطا فی أحسن زی- و کان ذلک یوم جمعه- فأقام حتى صلى بها صلاه الجمعه- و استأمن إلیه خلق کثیر- من أتباع الزنج و أصحابهم ثم انحدر إلى العمر- و هو على فرسخ واحد من واسط- فاتخذه معسکرا- و قد کان أبو حمزه نصیر و غیره أشاروا علیه- أن یجعل معسکره فوق واسط- حذرا علیه من الزنج فامتنع- و قال لست نازلا إلا العمر- و أمر أبا حمزه أن ینزل فوهه بردودا فوق واسط- و أعرض أبو العباس عن مشاوره أصحابه و استماع شی‏ء من آرائهم- و استبد برأی نفسه فنزل العمر- و أخذ فی بناء الشذوات و السمیریات- و جعل یراوح الزنج القتال و یغادیهم- و قد رتب خاصه غلمانه و موالیه فی سمیریات- فجعل فی کل سمیریه أمیرا منهم- .

ثم إن سلیمان استعد و حشد و فرق أصحابه- فجعلهم فی ثلاثه أوجه- فرقه أتت من نهر أبان- و فرقه من بر تمرتا و فرقه من بردودا- فلقیهم أبو العباس فلم یلبثوا أن انهزموا- فلحقت طائفه منهم بسوق الخمیس- و طائفه بمازروان و طائفه ببر تمرتا- و سلک آخرون نهر الماذیان- و اعتصم قوم منهم ببردودا- و تبعهم أصحاب أبی العباس- و جعل أبو العباس قصده القوم الذین سلکوا نهر الماذیان- فلم یرجع عنهم حتى وافى بهم برمساور ثم انصرف- فجعل یقف على القرى و المسالک- و یسأل عنها و یتعرفها- و معه الأدلاء و أرباب الخبره- حتى عرف جمیع تلک الأرض و منافذها- و ما ینتهی إلیه منالبطائح و الآجام و غیرها- و عاد إلى معسکره بالعمر- فأقام به أیاما مریحا نفسه و أصحابه- . ثم أتاه مخبر فأخبره أن الزنج قد اجتمعوا- و استعدوا لکبس عسکره- و أنهم على إتیانه من ثلاثه أوجه- و أنهم قالوا إن أبا العباس غلام یغرر بنفسه- و أجمع رأیهم على تکمین الکمناء- و المصیر إلیه من الجهات الثلاث- فحذر أبو العباس من ذلک و استعد له- و أقبلوا إلیه و قد کمنوا زهاء عشره آلاف فی بر تمرتا- و نحوا من العده فی قس هثا- و تقدم منها عشرون سمیریه إلى عسکر أبی العباس- على أن یخرج إلیهم فیهربوا بعد مناوشه یسیره- فیجیزوا أبا العباس و أصحابه إلى أن یجاوزوا الکمناء-

ثم یخرج الکمین علیهم من ورائهم- . فمنع أبو العباس أصحابه من اتباعهم لما واقعوهم- و أظهروا الکسره و العود- فعلموا أن کیدهم لم ینفذ فیه- و خرج حینئذ سلیمان و الجبائی- فی الشذا و السمیریات العظیمه- و قد کان أبو العباس أحسن تعبئه أصحابه- فأمر أبا حمزه نصیرا- أن یخرج إلیهم فی الشذا و السمیریات المرتبه فخرج إلیهم- و نزل أبو العباس فی شذاه من شذوات- قد کان سماها الغزال- و اختار لها جدافین- و أخذ معه محمد بن شعیب الاشتیام- و اختار من خاصه أصحابه و غلمانه جماعه- دفع إلیهم الرماح- و أمر الخیاله بالمسیر بإزائه على شاطئ النهر- و قال لهم لا تدعوا المسیر ما أمکنکم- إلى أن تقطعکم الأنهار- و نشبت الحرب بین الفریقین- فکانت معرکه القتال من حد قریه الرمل إلى الرصافه- حتى أذن الله فی هزیمه الزنج فانهزموا- و حاز أصحاب أبی العباس منهم أربع عشره شذاه- و أفلت سلیمان و الجبائی فی ذلک الیوم- بعد أن أشفیا على الهلاک راجلین- و أخذت دوابهما- و مضى جیش الزنج بأجمعه- لا ینثنی أحد منهم حتى وافوا طهیثا- و أسلموا ما کان معهم من أثاث و آله- و رجعأبو العباس فأقام بمعسکره بالعمر- و أصلح ما کان أخذ منهم من الشذا و السفن- و رتب الرجال فیها- و أقام الزنج بعد ذلک عشرین یوما لا یظهر منهم أحد- .

قال أبو جعفر ثم إن الجبائی صار بعد ذلک- یجی‏ء فی الطلائع کل ثلاثه أیام و ینصرف- و حفر فی طریق عسکر أبی العباس آبارا- و صیر فیها سفافید حدید- و غشاها بالبواری و أخفى مواضعها- و جعلها على سنن مسیر الخیل لیتهور فیها المجتازون بها- و جعل بواقی طرف العسکر متعرضا به- لتخرج الخیل طالبه له- فجاء یوما و طلبته الخیل کما کانت تطلبه- فقطر فرس رجل من قواد الفراعنه فی بعض تلک الآبار- فوقف أصحاب أبی العباس بما ناله من ذلک- على ما کان دبره الجبائی فحذروا ذلک- و تنکبوا سلوک تلک الطریق- . قال أبو جعفر- و ألح الزنج فی مغاداه العسکر فی کل یوم بالحرب- و عسکروا بنهر الأمیر فی جمع کثیر- و کتب سلیمان إلى الناجم یسأله إمداده بسمیریات- لکل واحده منهن أربعون مجدافا- فوافاه من ذلک فی مقدار عشرین یوما أربعون سمیریه- فیها الرجال و السیوف و التراس و الرماح- فکانت لأبی العباس معهم وقعات عظیمه- و فی أکثرها الظفر لأصحابه و الخذلان على الزنج- و لج أبو العباس فی دخول الأنهار و المضایق- حتى انتهى إلى مدینه سلیمان بن موسى الشعرانی- بنهر الخمیس التی بناها و سماها المنیعه- و خاطر أبو العباس بنفسه مرارا- و سلم بعد أن شارف العطب- و استأمن إلیه جماعه من قواد الزنج فأمنهم- و خلع علیهم و ضمهم إلى عسکره- و قتل من قواد الزنج جماعه- و تمادت الأیام بینه و بینهم- و اتصل بأبی أحمد الموفق- أن سلیمان بن موسى الشعرانی و الجبائی- و من بالأعمال الواسطیه من قواد صاحب الزنج- کاتبوا صاحبهم و سألوه إمدادهم بعلی بن أبان المهلبی- و هو المقیم حینئذ بأعمال الأهواز و المستولی علیها- و کان علی بن أبان قائد القواد و أمیر الأمراء فیهم- فکتب الناجم إلى علی بن أبان- یأمره بالمصیر بجمیع من معه إلى ناحیه سلیمان بن جامع- لیجتمعا على حرب أبی العباس- .

فصح عزم أبی أحمد على الشخوص- إلى واسط و حضور الحرب بنفسه- فخرج عن بغداد فی صفر من هذه السنه- و عسکر بالفرک و أقام بها أیاما- حتى تلاحق به عسکره- و من أراد المسیر معه- و قد أعد آله الماء- و رحل من الفرک إلى المدائن- ثم إلى دیر العاقول ثم إلى جرجرایا- ثم قنى ثم جبل ثم نزل الصلح- ثم نزل على فرسخ من واسط- . و تلقاه ابنه أبو العباس- فی جریده خیل فیها وجوه قواده- فسأله أبوه عن خبرهم فوصف له بلاءهم و نصحهم- فخلع أبو أحمد على أبی العباس- ثم على القواد الذین کانوا معه- و انصرف أبو العباس إلى معسکره بالعمر فبات به- فلما کان صبیحه الغد رجل أبو أحمد منحدرا فی الماء- و تلقاه ابنه أبو العباس فی آلات الماء- بجمیع العسکر فی هیئه الحرب- على الوضع الذی کانوا یحاربون الزنج علیه- فاستحسن أبو أحمد هیئتهم و سر بذلک- و سار أبو أحمد حتى نزل- بإزاء القریه المعروفه بقریه عبد الله و وضع العطاء- فأعطى الجیش کله أرزاقهم- و قدم ابنه أبا العباس أمامه فی السفن- و سار وراءه- فتلقاه‏ أبو العباس برءوس- و أسرى من أصحاب الشعرانی- و کان لقیهم فأمر أبو أحمد بالأسرى فضربت أعناقهم- و رحل یرید المدینه التی بناها الشعرانی- بسوق الخمیس و سماها المنیعه- .

و إنما بدأ أبو أحمد بحرب الشعرانی- قبل حرب سلیمان بن جامع- لأن الشعرانی کان وراءه- فخاف إن بدأ بابن جامع- أن یأتیه الشعرانی من ورائه- فیشغله عمن هو أمامه- فلما قرب من المدینه- خرج إلیه الزنج- فحاربوه حربا ضعیفه و انهزموا- فعلا أصحاب أبی العباس السور- و وضعوا السیف فیمن لقیهم- و تفرق الزنج و دخل أبو العباس المدینه- فقتلوا و أسروا- و حووا ما کان فیها- و أفلت الشعرانی هاربا و معه خواصه- فأتبعهم أصحاب أبی العباس- حتى وافوا بهم البطائح- فغرق منهم خلق کثیر- و لجأ الباقون إلى الآجام- و انصرف الناس- و قد استنقذ من المسلمات اللواتی کن بأیدی الزنج- فی هذه المدینه خاصه خمسه آلاف امرأه- سوى من ظفر به من الزنجیات- .

فأمر أبو أحمد بحمل النساء- اللواتی سباهن الزنج إلى واسط- و أن یدفعن إلى أولیائهن- و بات أبو أحمد بحیال المدینه ثم باکرها- و أذن للناس فی نهب ما فیها من أمتعه الزنج- فدخلت و نهب کل ما کان بها- و أمر بهدم سورها- و طم خندقها و إحراق ما کان بقی منها- و ظفر فی تلک القرى التی کانت فی ید الشعرانی- بما لا یحصى من الأرز و الحنطه و الشعیر- و قد کان الشعرانی استولى على ذلک کله و قتل أصحابه- فأمر أبو أحمد ببیعه- و صرف ثمنه فی أعطیات موالیه و غلمانه و جنده- .

و أما الشعرانی فإنه التحق هو و أخوه بالمذار- و کتب إلى الناجم یعرفه ذلک و أنه معتصم بالمذار- . قال أبو جعفر فحدثنی محمد بن الحسن بن سهل- قال حدثنی محمد بن هشام الکرنبائی المعروف بأبی واثله- قال کنت بین یدی الناجم ذلک الیوم- و هو یتحدث- إذ ورد علیه کتاب سلیمان بخبر الواقعه و ما نزل به- و انهزامه إلى المذار- فما کان إلا أن فض الکتاب- و وقعت عینه على ذکر الهزیمه- حتى انحل وکاء بطنه فنهض لحاجته ثم عاد- .

فلما استوى به مجلسه- أخذ الکتاب و تأمله- فوقعت عینه على الموضع الذی أنهضه أولا- فنهض لحاجته حتى فعل ذلک مرارا- فلم أشک فی عظم المصیبه و کرهت أن أسأله- فلما طال الأمر تجاسرت- فقلت أ لیس هذا کتاب سلیمان بن موسى- قال بلى ورد بقاصمه الظهر- ذکر أن الذین أناخوا علیه- أوقعوا به وقعه لم تبق منه و لم تذر- فکتب کتابه هذا و هو بالمذار- و لم یسلم بشی‏ء غیر نفسه- قال فأکبرت ذلک- و الله یعلم ما أخفی من السرور الذی وصل إلى قلبی- قال و صبر علی بن محمد على مکروه ما وصل إلیه- و جعل یظهر الجلد- و کتب إلى سلیمان بن جامع یحذره- مثل الذی نزل بالشعرانی- و یأمره بالتیقظ فی أمره و حفظ ما قبله- .

قال أبو جعفر- ثم لم یکن لأبی أحمد بعد ذلک هم- إلا فی طلب سلیمان بن جامع فأتته طلائعه- فأخبرته أنه بالحوانیت- فقدم أمامه ابنه أبا العباس فی عشره آلاف- فانتهى إلى الحوانیت- فلم یجد سلیمان بن جامع بها- و ألفى هناک من قواد السودان- المشتهرین بالبأس و النجده القائدین- المعروف أحدهما بشبل و الآخر بأبی الندى- و هما من قدماء أصحاب الناجم- الذین کان قودهم فی بدء مخرجه- و کان سلیمان قد خلف هذین القائدین بالحوانیت- لحفظ غلات کثیره کانوا قد أخذوها- فحاربهما أبو العباس- فقتل من رجالهما و جرح بالسهام خلقا کثیرا- و کانوا أجلد رجال سلیمان بن جامع و نخبتهم الذین یعتمد علیهم- و دامت الحرب بین أبی العباس- و بینهم ذلک الیوم إلى أن حجز اللیل بین الفریقین- و رمى أبو العباس فی ذلک الیوم کرکیا طائرا- فوقع بین الزنج و السهم فیه- فقالوا هذا سهم أبی العباس- و أصابهم منه ذعر- و استأمن فی هذا الیوم بعضهم إلى أبی العباس- فسأله عن الموضع الذی فیه سلیمان بن جامع- فأخبره أنه مقیم بمدینته التی بناها بطهیثا- فانصرف أبو العباس حینئذ- إلى أبیه بحقیقه مقام سلیمان- و أن معه هنالک جمیع أصحابه إلا شبلا و أبا الندى- فإنهما بالحوانیت لحفظ الغلات التی حووها- فأمر حینئذ أبو أحمد أصحابه بالتوجه إلى طهیثا- و وضع العطاء فأعطى عسکره- و شخص مصاعدا إلى بردودا لیخرج منها إلى طهیثا- إذ کان لا سبیل له إلیها إلا بذلک- فظن عسکره أنه هارب- و کادوا ینفضون لو لا أنهم عرفوا حقیقه الحال-

فانتهى إلى القریه بالحوذیه- و عقد جسرا على النهر المعروف بمهروذ- و عبر علیه الخیل- و سار إلى أن صار بینه و بین مدینه سلیمان- التی سماها المنصوره بطهیثا میلان- فأقام هناک بعسکره- و مطرت السماء مطرا جودا- و اشتد البرد أیام مقامه هنالک- فشغل بالمطر و البرد عن الحرب فلم یحارب- فلما فتر رکب فی نفر من قواده- و موالیه لارتیاد موضع لمجال الخیل- فانتهى إلى قریب من سور تلک المدینه- فتلقاه منهم خلق کثیر- و خرج علیه کمناء من مواضع شتى- و نشبت الحرب و اشتدت- فترجل جماعه من الفرسان- و دافعوا حتى خرجوا عن المضایق التی کانوا أوغلوها- و أسر من غلمان أبی أحمد غلام- یقال له وصیف العلمدار و عده من قواد زیرک- و قتل فی هذا الیوم أحمد بن مهدی الجبائی- أحد القواد العظماء من الزنج- رماه أبو العباس بسهم- فأصاب أحد منخریه حتى خالط دماغه- فخر صریعا و حمل من المعرکه و هو حی-

فسأل أن یحمل إلى الناجم- فحمل من هناک إلى نهر أبی الخصیب- إلى مدینه الناجم التی سماها المختاره- فوضع بین یدیه و هو على ما به- فعظمت المصیبه علیه به- إذ کان من أعظم أصحابه غناء- و أشدهم تصبرا لإطاعته- فمکث الجبائی یعالج هنالک أیاما ثم هلک- فاشتد جزع الناجم علیه و صار إلیه- فولی غسله و تکفینه و الصلاه علیه- و الوقوف على قبره إلى أن دفن- ثم أقبل على أصحابه فوعظهم- و ذکر موت الجبائی- و کانت وفاته فی لیله ذات رعود و بروق- . فقال فیما ذکر عنه- لقد سمعت وقت قبض روحه- زجل الملائکه بالدعاء له و الترحم علیه- و انصرف من دفنه منکسرا علیه الکآبه- .

قال أبو جعفر- فلما انصرف أبو أحمد ذلک الیوم من الوقعه- غاداهم بکره الغد- و عبأ أصحابه کتائب فرسانا و رجاله- و أمر بالشذا و السمیریات- أن یسار بها معه فی النهر الذی یشق مدینه طهیثا- و هو النهر المعروف بنهر المنذر و سار نحو الزنج- حتى انتهى إلى سور المدینه قریب قواد غلمانه فی المواضع- التی یخاف خروج الزنج علیه منها- و قدم الرجاله أمام الفرسان- و نزل فصلى أربع رکعات- و ابتهل إلى الله تعالى فی النصر و الدعاء للمسلمین- ثم دعا بسلاحه فلبسه- و أمر ابنه أبا العباس أن یتقدم إلى السور- و یحض الغلمان على الحرب ففعل- و قد کان سلیمان بن جامع أعد أمام سور المدینه- التی سماها المنصوره خندقا- فلما انتهى الغلمان إلیه تهیبوا عبوره- و أحجموا عنه فحرضهم قوادهم- و ترجلوا معهم فاقتحموه متجاسرین علیه-

فعبروه و انتهوا إلى الزنج- و هم مشرفون من سور مدینتهم- فوضعوا السلاح فیهم- و عبرت شرذمه من الفرسان الخندق خوضا- فلما رأى الزنج خبر هؤلاء الذین لقوهم و جرأتهم علیهم- ولوا منهزمین و اتبعهم أصحاب أبی أحمد- و دخلوا المدینه من جوانبها- و کان الزنج قد حصنوها بخمسه خنادق- و جعلوا أمام کل خندق منها سورا یمتنعون به- فجعلوا یقفون عند کل سور و خندق انتهوا إلیه- و أصحاب أبی أحمد یکشفونهم فی کل موقف وقفوه- و دخلت الشذا و السمیریات مدینتهم- مشحونه بالغلمان المقاتله- من النهر الذی یشقها بعد انهزامهم- فأغرقت کل ما مرت به لهم من شذاه أو سمیریه- و اتبعوا من تجافى النهر منهم- یقتلون و یأشرون- حتى أجلوهم عن المدینه و عما یتصل بها- و کان ذلک زهاء فرسخ- فحوى أبو أحمد ذلک کله-

و أفلت سلیمان بن جامع فی نفر من أصحابه- و استحر القتل فیهم و الأسر- و استنقذ من نساء أهل واسط و صبیانهم و ما اتصل بذلک- من القرى و نواحی الکوفه زهاء عشره آلاف- فأمر أبو أحمد بحیاطتهم و الإنفاق علیهم- و حملوا إلى واسط فدفعوا إلى أهلیهم- و احتوى أبو أحمد على کل ما کان فی تلک المدینه- من الذخائر و الأموال و الأطعمه و المواشی- فکان شیئا جلیل القدر- فأمر ببیع الغلات و غیرها من العروض- و صرفه فی أعطیات عسکره و موالیه- و أسر من نساء سلیمان و أولاده عده- و استنقذ یومئذ وصیف العلمدار- و من کان أسره الزنج معه فأخرجوا من الحبس- قد کان الزنج أعجلهم الأمر عن قتله و قتلهم-

و أقام أبو أحمد بطهیثا سبعه عشر یوما- و أمر بهدم سور المدینه و طم خنادقها- ففعل ذلک و أمر بتتبع من لجأ منهم إلى الآجام- و جعل لکل من أتاه برجل منهم جعلا- فسارع الناس إلى طلبهم- فکان إذا أتی بالواحد منهم خلع علیه و أحسن إلیه- و ضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم- و صرفهم عن طاعه صاحبهم- و ندب نصیرا صاحب الماء فی شذا و سمیریات- لطلب سلیمان بن جامع و الهاربین معه من الزنج و غیرهم- و أمره بالجد فی اتباعهم حتى یجاوز البطائح- و حتى یلح دجله المعروفه بالعوراء- و تقدم إلیه فی فتح السکور التی کان سلیمان أحدثها- لیقطع بها الشذا عن دجله- فیما بینه و بین النهر المعروف بأبی الخصیب- و تقدم إلى زیرک فی المقام بطهیثا فی جمع کثیر من العسکر- لیتراجع إلیها الذین کان سلیمان أجلاهم عنها من أهلها- فلما أحکم ما أراد إحکامه- تراجع بعسکره مزمعا على التوجه إلى الأهواز لیصلحها- و قد کان قدم أمامه ابنه أبا العباس- و قد تقدم ذکر علی بن أبان المهلبی- و کونه استولى على معظم کور الأهواز- و دوخ جیوش السلطان هناک- و أوقع بهم و غلب على معظم تلک النواحی و الأعمال- .

فلما تراجع أبو أحمد وافى بردودا فأقام بها أیاما- و أمر بإعداد ما یحتاج إلیه للمسیر على الظهر إلى الأهواز- و قدم أمامه من یصلح الطرق و المنازل- و یعد فیها المیره للجیوش التی معه- و وافاه قبل أن یرحل عن واسط زیرک منصرفا عن طهیثا- بعد أن تراجع إلى النواحی التی کان بها الزنج أهلها- و خلفهم آمنین- فأمره أبو أحمد بالاستعداد و الانحدار- فی الشذا و السمیریات فی نخبه عسکره و أنجادهم- فیصیر بهم إلى دجله العوراء فتجتمع یده و ید نصیر صاحب الماء على نقض دجله- و اتباع المنهزمین من الزنج و الإیقاع- بکل من لقوا من أصحاب سلیمان إلى أن ینتهی بهم المسیر- إلى مدینه الناجم بنهر أبی الخصیب- فإن رأوا موضع حرب حاربوه فی مدینه- و کتبوا بما یکون منهم إلى أبی أحمد- لیرد علیهم من أمره ما یعملون بحسبه- .

و استخلف أبو أحمد على من خلفه- من عسکره بواسط ابنه هارون- و أزمع على الشخوص فی خف من رجاله و أصحابه- ففعل ذلک بعد أن تقدم إلى ابنه هارون- فی أن یحذر الجیش الذی خلفه معه- فی السفن إلى مستقره بدجله- إذا وافاه کتابه بذلک- و ارتحل شاخصا من واسط الأهواز و کورها- فنزل باذبین إلى الطیب- إلى قرقوب إلى وادی السوس- و قد کان عقد له علیه جسر- فأقام به من أول النهار إلى وقت الظهر- حتى عبر عسکره أجمع- ثم سار حتى وافى السوس فنزلها- و قد کان أمر مسرورا البلخی و هو عامله على الأهواز بالقدوم- علیه فوافاهم فی جیشه و قواده- من غد الیوم الذی نزل فیه السوس-فخلع علیه و علیهم و أقام بالسوس ثلاثا- و کان ممن أسر من الزنج بطهیثا- أحمد بن موسى بن سعید البصری المعروف بالقلوص- و کان قائدا جلیلا عندهم- و أحد عدد الناجم و من قدماء أصحابه- أسر بعد أن أثخن جراحات کانت فیها منیته- فأمر أبو أحمد باحتزاز رأسه و نصبه على جسر واسط- .

قال أبو جعفر- و اتصل بالناجم خبر هذه الوقعه بطهیثا- و علم ما نیل من أصحابه- فانتقض علیه تدبیره و ضلت حیلته- فحمله الهلع إلى أن کتب إلى علی بن أبان المهلبی- و هو یومئذ مقیم بالأهواز فی زهاء ثلاثین ألفا- یأمره بترک کل ما کان قبله من المیره و الأثاث- و الإقبال إلیه بجمیع جیوشه- فوصل الکتاب إلى المهلبی- و قد أتاه الخبر بإقدام أبی أحمد إلى الأهواز و کورها- فهو لذلک طائر العقل- فقرأ الکتاب و هو یحفزه فیه حفزا بالمصیر إلیه- فترک جمیع ما کان قبله- و استخلف علیه محمد بن یحیى بن سعید الکرنبائی- فلما شخص المهلبی عنه لم یثبت و لم یقم- لما عنده من الوجل و ترادف الأخبار بوصول أبی أحمد إلیه- فأخلى ما استخلف علیه و تبع المهلبی- و بالأهواز یومئذ و نواحیها- من أصناف الحبوب و التمر و المواشی شی‏ء عظیم- فخرجوا عن ذلک کله-

و کتب الناجم أیضا إلى بهبوذ بن عبد الوهاب القائد- و إلیه یومئذ الأعمال التی بین الأهواز و فارس- یأمره بالقدوم علیه بعسکره- فترک بهبوذ ما کان قبله من الطعام و التمر و المواشی- فکان ذلک شیئا عظیما- فحوى جمع ذلک أبو أحمد- فکان قوه له على الناجم و ضعفا للناجم- . و لما رحل المهلبی عن الأهواز- بث أصحابه فی القرى- التی بینه و بین مدینه الناجم- فانتهبوها و أجلوا عنها أهلها و کانوا فی سلمهم- و تخلف خلق کثیر ممن کان مع المهلبی- من الفرسان و الرجاله عن اللحاق به- و أقاموا بنواحی الأهواز- و کتبوا یسألون أبا أحمد الأمان- لما انتهى عنه إلیهم من عفوه- عمن ظفر به من أصحاب الناجم- و کان الذی دعا الناجم إلى أمر المهلبی و بهبوذ بسرعه المصیر إلیه- خوفه موافاه أبی أحمد بجیوشه إلیه- على الحاله التی کان الزنج علیها من الوجل و شده الرعب- مع انقطاع المهلبی و بهبوذ فیمن کان معهما عنه- و لم یکن الأمر کما قدر- فإن أبا أحمد إنما کان قاصدا إلى الأهواز- فلو أقام المهلبی بالأهواز و بهبوذ بمکانه فی جیوشهما- لکان أقرب إلى دفاع جیش أبی أحمد عن الأهواز- و أحفظ للأموال و الغلات التی ترکت- بعد أن کانت الید قابضه علیها- .

قال أبو جعفر- و أقام أبو أحمد حتى أحرز الأموال- التی کان المهلبی و بهبوذ و خلفاؤهما ترکوها- و فتحت السکور التی کان الناجم أحدثها فی دجله- و أصلحت له طرقه و مسالکه- و رحل أبو أحمد عن السوس- إلى جندیسابور فأقام بها ثلاثا- و قد کانت الأعلاف ضاقت على أهل العسکر- فوجه فی طلبها و حملها- و رحل عن جندیسابور إلى تستر- فأقام بها لجبایه الأموال من کور الأهواز- و أنفذ إلى کل کوره قائدا- لیروج بذلک حمل المال- و وجه أحمد بن أبی الأصبغ- إلى محمد بن عبد الله الکردی- صاحب رامهرمز و ما یلیها من القلاع و الأعمال- و قد کان مالأ المهلبی- و حمل إلى الناجم أموالا کثیره- و أمره بإیناسه و إعلامه ما علیه رأیه فی العفو عنه و التغمد لزلته- و أن یتقدم إلیه فی حمل الأموال و المسیر إلى سوق الأهواز- بجمیع من معه من الموالی و الغلمان و الجند- لیعرضهم و یأمر بإعطائهم الأرزاق- و ینهضهم معه لحرب الناجم- ففعل و أحضرهم و عرضوا رجلا رجلا- و أعطوا ثم رحل إلى عسکر مکرم- فجعله منزله أیاما-

ثم رحل منه فوافى الأهواز- و هو یرى أنه قد تقدمه إلیها من المیره ما یحمل عساکره- فلم یکن کذلک و غلظ الأمر فی ذلک الیوم- و اضطرب الناس اضطرابا شدیدا- فأقام ثلاثه أیام ینتظر ورود المیره فلم ترد- فساءت أحوال الناس- و کاد ذلک یفرق جماعتهم- فبحث عن السبب المؤخر لورودها-فوجد الزنج قد کانوا قطعوا قنطره قدیمه أعجمیه- کانت بین سوق الأهواز و رامهرمز- یقال لها قنطره أربق فامتنع التجار- و من کان یحمل المیره من الورود- لقطع تلک القنطره فرکب أبو أحمد إلیها- و هی على فرسخین من سوق الأهواز- فجمع من کان فی العسکر من السودان- و أخذهم بنقل الصخر و الحجاره لإصلاح هذه القنطره- و بذل لهم من أموال الرعیه- فلم یرم حتى أصلحت فی یومه ذلک- و ردت إلى ما کانت علیه- فسلکها الناس و وافت القوافل بالمیره- فحیی أهل العسکر و حسنت أحوالهم- و أمر بجمع السفن لعقد الجسر على دجیل الأهواز- فجمعت من جمیع الکور-

و أقام بالأهواز أیاما حتى أصلح أصحابه أمورهم- و ما احتاجوا إلیه من آلاتهم- و حسنت أحوال دوابهم- و ذهب عنها ما کان بها من الضر بتأخر الأعلاف- و وافت کتب القوم الذین تخلفوا عن المهلبی- و أقاموا بعده بسوق الأهواز- یسألون أبا أحمد الأمان فأمنهم- فأتاه منهم نحو ألف رجل فأحسن إلیهم- و ضمهم إلى قواد غلمانه- و أجرى لهم الأرزاق- و عقد الجسر على دجیل الأهواز- و رحل بعد أن قدم جیوشه أمامه- و عبر دجیلا فأقام بالموضع المعروف بقصر المأمون ثلاثا- و قد کان قدم ابنه أبا العباس إلى نهر المبارک- من فرات البصره و کتب إلى ابنه هارون- بالانحدار إلیه لیجتمع العساکر هناک- و رحل أبو أحمد عن قصر المأمون إلى قورج العباس- و وافاه أحمد بن أبی الأصبغ هنالک- بهدایا محمد بن عبد الله الکردی صاحب رامهرمز- من دواب و مال- ثم رحل عن القورج فنزل الجعفریه- و لم یکن بها ماء- و قد کان أنفذ إلیها و هو بعد فی القورج من حفر آبارها- فأقام بها یوما و لیله و ألفى بها میرا مجموعه- فاتسع الجند بها و تزودوا منها- ثم رحل إلى المنزل المعروف بالبشیر- فألفى فیه غدیرا من ماء المطر- فأقام به یوما و لیله- و رحل إلى المبارک- و کان منزلا بعید المسافه-فتلقاه ابناه أبو العباس و هارون فی طریقه- و سلما علیه و سارا بسیره- حتى ورد بهم المبارک- و ذلک یوم السبت للنصف- من رجب سنه سبع و ستین- .

قال أبو جعفر فأما نصیر و لزیرک- فقد کانا اجتمعا بدجله العوراء- و انحدرا حتى وافیا الأبله بسفنهما و شذاهما- فاستأمن إلیهما رجل من أصحاب الناجم- فأعلمهما أنه قد أنفذ عددا کثیرا- من السمیریات و الزواریق مشحونه بالزنج- یرأسهم قائد من قواده- یقال له محمد بن إبراهیم و یکنى أبا عیسى- .

قال أبو جعفر و محمد بن إبراهیم هذا- رجل من أهل البصره- جاء به إلى الناجم صاحب شرطته المعروف بیسار- و استصلحه لکتابته فکان یکتب له حتى مات- و قد کانت ارتفعت حال أحمد بن مهدی الجبائی عند الناجم- و ولاه أکثر أعماله- فضم محمد بن إبراهیم هذا إلیه فکان کاتبه- فلما قتل الجبائی فی وقعه سلیمان الشعرائی- طمع محمد بن إبراهیم هذا فی مرتبته- و أن یحله الناجم محله- فنبذ القلم و الدواه و لبس آله الحرب- و تجرد للقتال- فأنهضه الناجم فی هذا الجیش- و أمره بالاعتراض فی دجله- لمدافعه من یردها من الجیوش- فکان یدخله أحیانا- و أحیانا یأتی بالجمع الذی معه- إلى النهر المعروف بنهر یزید- و کان معه فی ذلک الجیش- من قواد الزنج شبل بن سالم و عمرو المعروف بغلام بوذی- و أخلاط من السودان و غیرهم- فاستأمن رجل منهم-

کان فی ذلک الجیش إلى لزیرک و نصیر- و أخبرهما خبره- و أعلمهما أنه على القصد لسواد عسکر نصیر- و کان نصیر یومئذ معسکرا بنهر المرأه- و إنهم على أن یسلکوا الأنهار المعترضه- على نهر معقل و بثق شیرین حتى یوافوا الشرطه- و یخرجوا من وراء العسکر- فیکبوا على من فیه- فرجع نصیر عند وصول هذا الخبر إلیه من الأبله- مبارزا إلى عسکره- و سار لزیرک قاصدا بثق شیرین- معارضا لمحمد بن إبراهیم- فلقیه فی الطریق- فوهب الله له العلو علیه- بعد صبر من الزنج له و مجاهده شدیده- فانهزموا و لجئوا إلى النهر الذی فیه کمینهم- و هو نهر یزید فدل لزیرک علیهم- فتوغلت إلیهم سمیریاته- فقتل منهم طائفه و أسر طائفه- فکان محمد بن إبراهیم فیمن أسر- و عمرو غلام بوذی- و أخذ ما کان معهم من السمیریات- و هی نحو ثلاثین سمیریه- و أفلت شبل بن سالم فی الذین نجوا معه- فلحق بعسکر الناجم- و خرج لزیرک فی بثق شیرین سالما ظافرا- و معه الأسارى و رءوس القتلى- مع ما حوى من السمیریات و السفن- و انصرف من دجله العوراء إلى واسط- و کتب إلى أبی أحمد بالفتح- و عظم الجزع على کل من کان بدجله- و کورها من اتباع الناجم- فاستأمن إلى نصیر صاحب الماء- و هو مقیم حینئذ بنهر المرأه- زهاء ألفی رجل من الزنج و أتباعهم- .

فکتب إلى أبی أحمد بخبرهم- فأمره بقبولهم و إقرارهم على الأمان- و إجراء الأرزاق علیهم- و خلطهم بأصحابه و مناهضه العدو بهم- ثم کتب إلى نصیر یأمره- بالإقبال إلیه إلى نهر المبارک فوافاه هنالک- . و قد کان أبو العباس عند منصرفه إلى نهر المبارک- انحدر إلى عسکر الناجم فی الشذا- فأوقع بهم فی مدینته بنهر أبی الخصیب- فکانت الحرب بینهما- من أول النهار إلى آخر وقت الظهر- .

و استأمن إلیه قائد جلیل من قواد الناجم من المضمومین- کانوا إلى سلیمان بن جامع یقال له منتاب- و معه جماعه من أصحابه- فکان ذلک مما کسر من الناجم- و انصرف أبو العباس بالظفر- و خلع على منتاب الزنجی و وصله و حمله- فلما لقی أباه أخبره خبره- و ذکرإلیه خروجه إلیه فی الأمان- فأمر أبو أحمد له بخلع و صله و حملان- و کان منتاب أول من استأمن من جمله قواد الناجم- . قال أبو جعفر- و لما نزل أبو أحمد نهر المبارک- کان أول ما عمل به فی أمر الناجم- أن کتب إلیه کتابا یدعوه فیه- إلى التوبه و الإنابه إلى الله تعالى- مما ارتکب من سفک الدماء و انتهاک المحارم- و إخراب البلدان و الأمصار- و استحلال الفروج و الأموال- و انتحال ما لم یجعله الله له أهلا من النبوه و الإمامه- و یعلمه أن التوبه له مبسوطه و الأمان له موجود- فإن نزع عما هو علیه- من الأمور التی یسخطها الله تعالى-

و دخل فی جماعه المسلمین- محا ذلک ما سلف من عظیم جرائمه- و کان له به الحظ الجزیل فی دنیاه و آخرته- و أنفذ ذلک إلیه مع رسول- فالتمس الرسول إیصاله إلیه- فامتنع الزنج من قبول الکتاب- و من إیصاله إلى صاحبهم- فألقى الرسول الکتاب إلیهم إلقاء- فأخذوه و أتوا به صاحبهم- فقرأه و لم یجب عنه بشی‏ء- و رجع الرسول إلى أبی أحمد فأخبره- فأقام خمسه أیام متشاغلا بعرض السفن- و ترتیب القواد و الموالی و الغلمان فیها- و تخیر الرماه و انتخابهم للمسیر بها- . ثم سار فی الیوم السادس فی أصحابه- و معه ابنه أبو العباس إلى مدینه الناجم- التی سماها المختاره- من نهر أبی الخصیب فأشرف علیها- و تأملها فرأى منعتها- و حصانتها بالسور و الخنادق المحیطه بها- و غور الطریق المؤدی إلیها- و ما قد أعد من المجانیق‏ و العرادات و القسی الناوکیه- و سائر الآلات على سورها- فرأى ما لم یر مثله ممن تقدم من منازعی السلطان- و رأى من کثره عدد مقاتلتهم و اجتماعهم ما استغلظ أمره- .

و لما عاین الزنج أبا أحمد و أصحابه- ارتفعت أصواتهم بما ارتجت له الأرض- فأمر أبو أحمد عند ذلک ابنه أبا العباس- بالتقدم إلى سور المدینه- و رشق من علیه بالسهام ففعل و دنا- حتى ألصق شذواته بمسناه قصر الناجم- و انحاز الزنج بأسرهم إلى المواضع الذی دنت منه الشذا- و تحاشدوا و تتابعت سهامهم و حجاره منجنیقاتهم- و عراداتهم و مقالیعهم- و رمى عوامهم بالحجاره عن أیدیهم- حتى ما یقع طرف ناظر- على موضع إلا رأى فیه سهما أو حجرا- . و ثبت أبو العباس فرأى الناجم و أشیاعه- من جهدهم و اجتهادهم و صبرهم- ما لا عهد لهم بمثله من أحد ممن حاربهم- و حینئذ أمر أبو أحمد ابنه أبا العباس- بالرجوع بمن معه إلى مواقفهم لیروحوا عن أنفسهم- و یداووا جروحهم ففعلوا ذلک- و استأمن فی هذه الحال إلى أبی أحمد مقاتلان- من مقاتله السمیریات من الزنج- فأتیاه بسمیریاتهما و ما فیها من الملاحین و الآلات-

فأمر لها بخلع دیباج و مناطق محلاه بالذهب- و وصلهما بمال- و أمر للملاحین بخلع من الحریر الأحمر- و الأخضر الذی حسن موقعه منهم- و عمهم جمیعا بصلاته- و أمر بإدنائهم من الموضع الذی یراهم فیه نظراؤهم- فکان ذلک من أنجع المکاید التی کید بها صاحب الزنج- فلما رأى الباقون ما صار إلیه أصحابهم- من العفو عنهم و الإحسان إلیهم رغبوا فی الأمان- و تنافسوا فیه- فابتدر منهم جمع کثیر مسرعین نحوه- راغبین فیما شرع لهم منه- فأمر أبو أحمد لهم بمثل ما أمر به لأصحابه- فلما رأى الناجم رکون أصحاب السمیریات إلى الأمان- و رغبتهم فیه- أمر برد من کان منهم فی دجله إلى نهر أبی الخصیب- و وکل بفوهه النهر من یمنعهم الخروج-

و أمر بإظهار شذاوته الخاصه- و ندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب- و هو من أشد کماته بأسا- و أکثرهم عددا و عده- فانتدب بهبود لذلک- و خرج فی جمع کثیف من الزنج- فکانت بینه و بین أبی حمزه نصیر صاحب الماء- و بین أبی العباس بن أبی أحمد وقعات شدیده- فی کلها یظهر علیه أصحاب السلطان- ثم یعود فیرتاش و یحتشد- فیخرج فیواقعهم حتى صدقوه الحرب- و هزموه و ألجئوه إلى فناء قصر الناجم- و أصابته طعنتان و جرح بالسهام- و أوهنت أعضاءه الحجاره- و أولجوه نهر أبی الخصیب و قد أشفى على الموت- و قتل قائد جلیل معه من قواد الزنج ذو بأس و نجده- و تقدم فی الحرب یقال له عمیره- . و استأمن إلى أبی أحمد جماعه أخرى- فوصلهم و حباهم و خلع علیهم- و رکب أبو أحمد فی جمیع جیشه- و هو یومئذ فی خمسین ألف رجل- و الناجم فی ثلاثمائه ألف رجل کلهم یقاتل و یدافع- فمن ضارب بسیف و طاعن برمح- و رام بقوس و قاذف بمقلاع- و رام بعراده و منجنیق- و أضعفهم أمر الرماه بالحجاره عن أیدیهم- و هم النظاره المکثرون للسواد- و المعینون بالنعیر و الصیاح- و النساء یشرکنهم فی ذلک أیضا-

فأقام أبو أحمد بإزاء عسکر الناجم إلى أن أضحى- و أمر فنودی الأمان مبسوط للناس- أسودهم و أحمرهم- إلا لعدو الله الداعی علی بن محمد- و أمر بسهام فعلقت فیها رقاع مکتوب فیها من الأمان- مثل الذی نودی به- و وعد الناس فیها الإحسان و رمى بها إلى عسکر الناجم- فمالت إلیه قلوب خلق کثیر من أولئک- ممن لم یکن له بصیره فی اتباع الناجم- فأتاه فی ذلک الیوم جمع کثیر- یحملهم الشذا و السمیریات – فوصلهم و حباهم و قدم علیه قائدان من قواده- و کلاهما من موالیه ببغداد- أحدهما بکتمر و الآخر بغرا فی جمعمن أصحابهما- فکان ورودهما زیاده فی قوته- ثم رحل فی غد هذا الیوم بجمیع جیشه- فنزل متاخما لمدینه الناجم- فی موضع کان تخیره للنزول- فأوطن هذا الموضع و جعله معسکرا له و أقام به- و رتب قواده و رؤساء أصحابه مراتبهم- فجعل نصیرا صاحب الماء فی أول العسکر- و جعل زیرک الترکی فی موضع آخر- و علی بن جهشار حاجبه فی موضع آخر- و راشدا مولاه فی موالیه و غلمانه الأتراک- و الخزر و الروم و الدیالمه و الطبریه- و المغاربه و الزنج و الفراعنه و العجم و الأکراد- محیطا هو و أصحابه- بمضارب أبی أحمد و فساطیطه و سرادقاته- و جعل صاعد بن مخلد وزیره و کاتبه- فی جیش آخر من الموالی و الغلمان- فوق عسکر راشد- و أنزل مسرورا البلخی القائد صاحب الأهواز- فی جیش آخر على جانب من جوانب عسکره-

و أنزل الفضل و محمدا ابنی موسى بن بغا- فی جانب آخر بجیش آخر- و تلاهما القائد المعروف بموسى- و لجوا فی جیشه و أصحابه- و جعل بغراج الترکی على ساقته- فی جیش کثیف بعده عظیمه و عدد جم- و رأى أبو أحمد من حال الناجم- و حصانه موضعه و کثره جمعه ما علم معه- أنه لا بد له من الصبر علیه- و طول الأیام فی محاصرته- و تفریق جموعه و بذل الأمان لهم- و الإحسان إلى من أناب منهم- و الغلظه على من أقام على غیه منهم- و احتاج إلى الاستکثار من الشذا- و ما یحارب به فی الماء- و شرع فی بناء مدینه مماثله لمدینه الناجم- و أمر بإنفاذ الرسل- فی حمل الآلات و الصناع من البر و البحر- و إنفاذ المیر و الأزواد و الأقوات- و إیرادها إلى عسکره بالمدینه التی شرع فیها و سماها الموفقیه- و کتب إلى عماله بالنواحی فی حمل الأموال- إلى بیت ماله فی هذه المدینه- و ألا یحمل إلى بیت المال بالحضره درهم واحد- و أنفذ رسلا إلى سیراف و جنابه- فی بناء الشذاو الاستکثار منها لحاجته إلى أن یبثها- و یفرقها فی المواضع التی یقطع بها المیره عن الناجم و أصحابه- و أمر بالکتاب إلى عماله فی إنفاذ کل من یصلح- للإثبات و العرض فی الدواوین من الجند و المقاتله-

و أقام ینتظر ذلک شهرا أو نحوه- فوردت المیر متتابعه یتلو بعضها بعضا- و وردت الآلات و الصناع و بنیت المدینه- و جهز التجار صنوف التجارات فی الأمتعه- و حملوها إلیها و اتخذت بها الأسواق- و کثر بها التجار و المجهزون من کل بلد- و وردت إلیها مراکب من البحر- و قد کانت انقطعت لقطع الناجم و أصحابه سبلها- قبل ذلک بأکثر من عشر سنین- و بنى أبو أحمد فی هذه المدینه المسجد الجامع- و صلى بالناس فیه و اتخذ دور الضرب- فضرب بها الدنانیر و الدراهم- فجمعت هذه المدینه جمیع المرافق- و سیق إلیها صنوف المنافع- حتى کان ساکنوها لا یفقدون فیها شیئا- مما یوجد فی الأمصار العظیمه القدیمه- و حملت الأموال و أدر العطاء على الناس فی أوقاته- فاتسعوا و حسنت أحوالهم- و رغب الناس جمیعا فی المصیر إلى هذه و المقام بها- .

قال أبو جعفر و أمر الناجم بهبوذ بن عبد الوهاب- فعبر و الناس غارون فی سمیریات- إلى طرف عسکر أبی حمزه صاحب الماء- فأوقع به و قتل جماعه من أصحابه- و أسر جماعه و أحرق أکواخا کانت لهم- و أرسل إبراهیم بن جعفر الهمدانی- و هو من جمله قواد الناجم فی أربعه آلاف زنجی- و محمد بن أبان المکنى أبا الحسین- أخا علی بن أبان المهلبی فی ثلاثه آلاف- و القائد المعروف بالدور فی ألف و خمسمائه- لیغیروا على أطراف عسکر أبی أحمد و یوقعوا بهم- فنذر بهم أبو العباس- فنهد إلیهم فی جمع کثیف من أصحابه- و کانت بینه و بینهم حروب کان الاستظهار فیها کلها له- و استأمن إلیه جماعه منهم فخلع علیهم- و أمر أن یوقفوا بإزاء مدینه الناجم لیعاینهم أصحابه- و أقام أبو أحمد یکاید الناجم- و یبذل الأموال لأصحابه تاره- و یواقعهم و یحاربهم تاره- و یقطع المیره عنهم- فسرى بهبوذ الزنجی فی الأجلاد المنتخبین- من رجاله لیله من اللیالی- و قد تأدى إلیه خبر قیروان ورد للتجار- فیه صنوف التجارات و الأمتعه و المیر- فکمن فی النخل فلما ورد القیروان- خرج إلى أهله و هم غارون- فقتل منهم و أسر- و أخذ ما شاء أن یأخذ من الأموال- .

و قد کان أبو أحمد علم بورود ذلک القیروان- و أنفذ قائدا من قواده لبذرقته فی جمع خفیف- فلم یکن لذلک القائد ببهبوذ طاقه فانصرف عنه منهزما- . فلما انتهى إلى أبی أحمد ذلک- غلظ علیه ما نال الناس فی أموالهم و تجاراتهم- فأمر بتعویضهم و أخلف علیهم مثل الذی ذهب منهم- و رتب على فوهه النهر المعروف بنهر بیان- و هو الذی دخل القیروان فیه جیشا قویا لحراسته- .

قال أبو جعفر- ثم أنفذ الناجم جیشا علیه القائد المعروف بصندل الزنجی- و کان صندل هذا فیما ذکر- یکشف وجوه الحرائر المسلمات و رءوسهن- و یقلبهن تقلیب الإماء- فإن امتنعت منهن امرأه لطم وجهها- و دفعها إلى بعض علوج الزنج یواقعها- ثم یخرجها بعد ذلک إلى سوق الرقیق- فیبیعها بأوکس الثمن- فیسر الله تعالى قتله فی وقعه جرت بینه و بین أبی العباس- أسر و أحضر بین یدی أبی أحمد- فشده کتافا و رماه بالسهام حتى هلک- .

قال أبو جعفر ثم ندب الناجم جیشا آخر- و أمره أن یغیر على طرف من أطراف عسکر أبی أحمد- و هم غارون- فاستأمن من ذلک الجیش زنجی مذکور- یقال له مهذب-کان من فرسان الزنج و شجعانهم- فأتی به إلى أبی أحمد وقت إفطاره- فأعلمه أنه جاء راغبا فی الطاعه و الأمان- و أن الزنج على العبور فی ساعتهم تلک- إلى عسکره للبیات- و أن المندوبین لذلک أنجادهم و أبطالهم- فأمر أبو أحمد أبا العباس ابنه- أن ینهض إلیهم فی قواد عینهم له فنهضوا- فلما أحس ذلک الجیش بأنهم قد نذروا بهم- و عرفوا استئمان صاحبهم رجعوا إلى مدینتهم- .

قال أبو جعفر- ثم إن الناجم ندب أجل قواده و أکبرهم قدرا عنده- و هو علی بن أبان المهلبی- و انتخب له أهل البأس و الجلد- و أمره أن یبیت عسکر أبی أحمد- فعبر فی زهاء خمسه آلاف رجل أکثرهم الزنج- و فیهم نحو مائتی قائد من مذکوریهم و عظمائهم- فعبر لیلا إلى شرقی دجله- و عزموا على أن یفترقوا قسمین- أحدهما خلف عسکر أبی أحمد و الثانی أمامه- و یغیر الذین أمامه على أصحاب أبی أحمد- فإذا ثاروا إلیهم و استعرت الحرب- أکب أولئک الذین من وراء العسکر على من یلیهم- و هم مشاغیل بحرب من بإزائهم- و قدر الناجم و علی بن أبان- أن یتهیأ لهما من ذلک ما أحبا- فاستأمن منهم إلى أبی أحمد غلام- کان معهم من الملاحین لیلا- فأخبره خبرهم و ما اجتمعت علیه آراؤهم- فأمر ابنه أبا العباس و الغلمان و القواد- بالحذر و الاحتیاط و الجد و فرقهم فی الجهتین المذکورتین-

فلما رأى الزنج أن تدبیرهم قد انتقض- و أنه قد فطن لهم و نذر بهم- کروا راجعین فی الطریق الذی أقبلوا فیه طالبین التخلص- فسبقهم أبو العباس و لزیرک إلى فوهه النهر لیمنعوهم من عبوره- و أرسل أبو أحمد غلامه الأسود الزنجی- الذی یقال له ثابت- و کان له قیاده على السودان الذین بعسکر الموفق- فأمره أن یعترضهم- و یقف لهم فی طریقهم‏ بأصحابه- فأدرکهم و هو فی خمسمائه رجل- فواقعهم و شد عضده أبو العباس و لزیرک بمن معهما- فقتل من الزنج أصحاب الناجم خلق کثیر- و أسر منهم کثیر و أفلت الباقون فلحقوا بمدینتهم- و انصرف أبو العباس بالفتح- و قد علق رءوس الزنج- فی الشذا و صلب الأسارى أحیاء فیها- فاعترضوا بهم مدینتهم لیرهبوا أصحابهم-

فلما رأوهم رعبوا و انکسروا- و اتصل بأبی أحمد أن الناجم موه على أصحابه- و أوهم أن الرءوس المرفوعه مثل مثلها لهم أبو أحمد لیراعوا- و أن الأسارى من المستأمنه- فأمر أبو أحمد عند ذلک بجمیع الرءوس- و المسیر بها إلى إزاء قصر الناجم- و القذف بها فی منجنیق منصوب فی سفینه إلى عسکره ففعل ذلک- فلما سقطت الرءوس فی مدینتهم- عرف أولیاء القتلى رءوس أصحابهم- فظهر بکاؤهم و صراخهم- .

قال أبو جعفر و کانت لهم وقعات کثیره بعد هذه- فی أکثرها ینهزم الزنج و یظفر بهم- و طلب وجوههم الأمان- فکان ممن استأمن محمد بن الحارث القائد- و إلیه کان حفظ النهر المعروف بمنکى- و السور الذی یلی عسکر أبی أحمد- کان خروجه لیلا مع عده من أصحابه- فوصله أبو أحمد بصلات کثیره- و خلع علیه و حمله على عده دواب بحلیتها و آلاتها- و أسنى له الرزق- . و کان محمد هذا حاول إخراج زوجته معه- و هی إحدى بنات عمه- فعجزت المرأه عن اللحاق به- فأخذها الزنج فردوها إلى الناجم فحبسها مده- ثم أمر بإخراجها و النداء علیها فی السوق فبیعت- . و ممن استأمن القائد المعروف بأحمد البرذعی- کان من أشجع رجالهم و کان یکون أبدا مع المهلبی- .و کان ممن استأمن مربدا القائد- و برنکوبه و بیلویه- فخلعت علیهم الخلع و وصلوا بالصلات الکثیره- و حملوا على الخیول المحلاه- و أحسن إلى کل من جاء معهم من أصحابهم- .

قال أبو جعفر فضاقت المیر على الناجم و أصحابه- فندب شبلا القائد و أبا الندى- و هما من رؤساء قواده و قدماء أصحابه- الذین یعتمد علیهم و یثق بمناصحتهم- و أمرهما بالخروج فی عشره آلاف من الزنج و غیرهم- و القصد إلى نهر الدیر و نهر المرأه و نهر أبی الأسد- و الخروج من هذه الأنهار إلى البطیحه- و الغاره على المسلمین و أهل القرى و قطع الطرقات- و أخذ جمیع ما یقدرون علیه- من الطعام و المیره و حمله إلى مدینته- و قطعه عن الوصول إلى عسکر أبی أحمد- فندب أبو أحمد لقصدهم مولاه لزیرک فی جیش کثیف- بعضه فی الماء و بعضه على الظهر- فواقعهم فی الموضع المعروف بنهر عمر- فکانت بینه و بینهم حرب شدیده- أسفرت عن انکسارهم و خذلان الله لهم- فأخذ منهم أربعمائه سفینه و أسرى کثیرین- و أقبل بها و بهم و بالرءوس إلى عسکر أبی أحمد- .

قال أبو جعفر و ندب أبو أحمد ابنه أبا العباس- لقصد مدینه الناجم و العلو علیها- فقصدها من النهر المعروف بالغربی- و قد أعد الناجم به علی بن أبان المهلبی- فاستعرت الحرب بین الفریقین- فأمد الناجم علیا بسلیمان بن جامع- فی جمع کثیر من قواد الزنج و اتصلت الحرب- و استأمن کثیر من قواد الزنج إلى أبی العباس- و امتدت الحرب إلى بعد العصر- ثم انصرف أبو العباس- فاجتاز فی منصرفه بمدینه الناجم-

و قد انتهى إلى الموضع المعروف‏ بنهر الأتراک- فرأى فی ذلک النهر قله من الزنج الذین یحرسونه- فطمع فیهم فقصد نحوهم- و صعد جماعه من أصحابه سور المدینه- و علیه فریق من الزنج- فقتلوا من أصابوا هناک و نذر الناجم بهم- فأنجدهم بقواد من قواده- فأرسل أبو العباس إلى أبیه یستمده- فوافى من عسکر أبی أحمد من خف من الغلمان- فقوى بهم عسکر أبی العباس- . و قد کان سلیمان بن جامع- لما رأى أن أبا العباس قد أوغل فی نهر الأتراک- صعد فی جمع کثیر من الزنج- ثم استدبر أصحاب أبی العباس- و هم متشاغلون بحرب من بإزائهم على سور المدینه- فخرج علیهم من ورائهم و خفقت طبولهم- فانکشف أصحاب أبی العباس- و حملت الزنج علیهم من أمامهم- فأصیب فی هذه الوقعه جماعه من غلمان أبی أحمد و قواده-

و صار فی أیدی الزنج عده أعلام و مطارد- و حامى أبو العباس عن نفسه حتى انصرف سالما- فأطمعت هذه الوقعه الزنج و أتباعهم- و شدت قلوبهم فأجمع أبو أحمد على العبور بجیشه أجمع- و أمر بالاستعداد و التأهب- فلما تهیأ له ذلک عبر فی آخر ذی الحجه- من سنه سبع و ستین- فی أکثف جمع و أکمل عده- و فرق قواده على أقطار مدینه الناجم- و قصد هو بنفسه رکنا من أرکانها- و قد کان الناجم حصنه بابنه الذی یقال له أنکلانی- و کنفه بعلی بن أبان و سلیمان بن جامع- و إبراهیم بن جعفر الهمدانی- و حفه بالمجانیق و العرادات و القسی الناوکیه- و أعد فیه الناشبه جمع فیه أکثر جیشه- فلما التقى الجمعان أمر أبو أحمد غلمانه الناشبه- و الرامحه و السودان بالدنو من هذا الرکن- و بینه و بینهم النهر المعروف بنهر الأتراک-

و هو نهر عریض غزیر الماء- فلما انتهوا إلیه أحجموا عنه فصیح بهم- و حرضوا على العبور فعبروه سباحه- و الزنج ترمیهم بالمجانیق- و العرادات و المقالیع و الحجاره عن الأیدی- و السهام عن قسی الید و قسی الرجل- و صنوف الآلات التی یرمى عنها- فصبروا على جمیع ذلک- حتى جاوزوا النهر و انتهوا إلى السور- و لم یکن لحقهم من الفعله من کان أعده لهدمه- فتولى الغلمان تشعیث السور بما کان معهم من السلاح- و یسر الله تعالى ذلک- و سهلوا لأنفسهم السبیل إلى علوه- و حضرهم بعض السلالیم التی کانت اتخذت لذلک- فعلوا الرکن و نصبوا علیه علما- علیه مکتوب- الموفق بالله و أکبت علیهم الزنج- فحاربوا أشد حرب- و قتل من قواد أبی أحمد القائد المعروف بثابت الأسود- رمی بسهم فی بطنه فمات- و کان من جله القواد- و أحرق أصحاب الموفق ما على ذلک الرکن- من المنجنیقات و العرادات- .

و قصد أبو العباس بأصحابه جهه أخرى من جهات المدینه- لیدخلها من النهر المعروف بمنکى- فعارضه علی بن أبان فی جمع من الزنج- فظهر أبو العباس علیه و هزمه- و قتل قوما من أصحابه- و أفلت علی بن أبان المهلبی راجعا- و انتهى أبو العباس إلى نهر منکى- و هو یرى أن المدخل من ذلک الموضع سهل- فوصل إلى الخندق فوجده عریضا منیعا- فحمل أصحابه أن یعبروه فعبروه- و عبرته الرجاله سباحه- و وافوا السور فثلموا منه ثلمه و اتسع لهم دخولها فدخلوا- فلقی أولهم سلیمان بن جامع- و قد أقبل للمدافعه عن تلک الناحیه- فحاربوه و کشفوه و انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان- و هو نهر سیق بالمدینه- و صارت الدار المعروفه بدار ابن سمعان فی أیدیهم- فأحرقوا ما کان فیها و هدموها- .

فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان وقوفا طویلا- و دافعوا مدافعه شدیده- و شد بعض موالی الموفق على علی بن أبان- فأدبر عنه هاربا فقبض على مئزره- فحل على المئزر و نبذه إلى الغلام- و نجا بعد أن أشرف على الهلکه- و حمل أصحاب أبی أحمد على الزنج- فکشفوهم‏ عن نهر ابن سمعان- حتى وافوا بهم طرف المدینه- و رکب الناجم بنفسه فی جمع من خواصه- فتلقاه أصحاب الموفق فعرفوه و حملوا علیه- و کشفوا من کان معه حتى أفرد- و قرب منه بعض الرجاله حتى ضرب وجه فرسه بترسه- و کان ذلک وقت غروب الشمس- و حجز اللیل بینهم و بینه و أظلم- و هبت ریح شمال عاصف و قوی الجزر- فلصق أکثر سفن الموفق بالطین- و حرض الناجم أصحابه- فثاب منهم جمع کثیر- فشدوا على سفن الموفق- فنالوا منها نیلا و قتلوا نفرا- و صمد بهبوذ الزنجی لمسرور البلخی بنهر الغربی- فأوقع به و قتل جماعه من أصحابه و أسر أسرى- و صار فی یده دواب من دوابهم-

فکسر ذلک من نشاط أصحاب الموفق- و قد کان هرب فی هذا الیوم کثیر- من قواد صاحب الزنج- و تفرقوا على وجوههم نحو نهر الأمیر و عبادان و غیرهما- و کان ممن هرب ذلک الیوم منهم- أخو سلیمان بن موسى الشعرانی و محمد و عیسى- فمضیا یؤمان البادیه- حتى انتهى إلیهما رجوع أصحاب الموفق- و ما نیل منهم فرجعا- و هرب جماعه من العرب الذین کانوا فی عسکر الناجم- و صاروا إلى البصره- و بعثوا یطلبون الأمان من أبی أحمد- فأمنهم و وجه إلیهم السفن و حملهم إلى الموفقیه- و خلع علیهم و أجرى لهم الأرزاق و الأنزال- .

و کان ممن رغب فی الأمان من قواد الناجم القائد- المعروف بریحان بن صالح المغربی- و کانت له رئاسه و قیاده- و کان یتولى حجبه أنکلانی بن الناجم- فکتب ریحان یطلب الأمان لنفسه و لجماعه من أصحابه- فأجیب إلى ذلک- و أنفذ إلیه عدد کثیر- من الشذا و السمیریات و المعابر مع لزیرک القائد- صاحب مقدمه أبی العباس- فسلک نهر الیهودی إلى آخره- فألفى به ریحان القائد و من کان معه من أصحابه- و قد کان الموعد تقدم منه فی موافاه ذلک الموضع- فسار لزیرک به و بهم إلى دار الموفق- فأمر لریحان بخلع جلیله-و حمل على عده أفراس بآلتها و حلیتها- و أجیز بجائزه سنیه- و خلع على أصحابه و أجیزوا على أقدارهم و مراتبهم- و ضم ریحان إلى أبی العباس- و أمر بحمله و حمل أصحابه- و المصیر بهم إلى إزاء دار الناجم- فوقفوا هنالک فی الشذا- علیهم الخلع الملونه بصنوف الألوان و الذهب- حتى عاینوهم مشاهده- فاستأمن فی هذا الیوم من أصحاب ریحان- الذین کانوا تخلفوا عنه و من غیرهم جماعه- فألحقوا فی البر و الإحسان بأصحابهم- .

ثم استأمن جعفر بن إبراهیم المعروف بالسجان- فی أول یوم من سنه ثمان و ستین و مائتین- و کان أحد ثقات الناجم- ففعل به من الخلع و الإحسان ما فعل بریحان- و حمل فی سمیریه حتى وقف بإزاء قصر الناجم- حتى یراه أصحابه- و کلمهم و أخبرهم أنهم فی غرور من صاحبهم- و أعلمهم ما وقف علیه من کذبه و فجوره- فاستأمن فی هذا الیوم خلق کثیر- من قواد الزنج و غیرهم- و تتابع الناس فی طلب الأمان- و أقام أبو أحمد یجم أصحابه- و یداوی جراحهم- و لا یحارب و لا یعبر إلى الزنج إلى شهر ربیع الآخر- .

ثم عبر جیشه فی هذا الشهر المذکور- مرتبا على ما استصلحه من تفریقه فی جهات مختلفه- و أمرهم بهدم سور المدینه- و تقدم إلیهم أن یقتصروا على الهدم- و لا یدخلوا المدینه- و وکل بکل ناحیه من النواحی- التی وجه إلیها قواده سفنا فیها الرماه- و أمرهم أن یحموا بالسهام من یهدم السور من الفعله- فثلمت فی هذا الیوم من السور ثلم کثیره- و اقتحم أصحاب أبی أحمد المدینه من جمیع تلک الثلم- و هزموا من کان علیها من الزنج- و أوغلوا فی طلبهم- و اختلف بهم طرق المدینه- و تفرقت بهم السکک و الفجاج-و انتهوا إلى أبعد من المواضع- التی کانوا وصلوا إلیها فی المره التی قبلها- فتراجعت إلیهم الزنج- و خرج علیهم کمناؤهم من نواح یهتدون إلیها- و لا یعرفها جیش أبی أحمد- فتحیر جیش أبی أحمد- فقتل منهم خلق کثیر- و أصاب الزنج منهم أسلحه و أسلابا- و أقام ثلاثون دیلمیا من أصحاب أبی أحمد- یدافعون عن الناس و یحمونهم- حتى خلص إلى السفن من خلص- و قتلت الدیالمه عن آخرها- و عظم على الناس ما أصابهم فی هذا الیوم- و انصرف أبو أحمد إلى مدینته الموفقیه فجمع قواده- و عذلهم على ما کان منهم من مخالفه أمره- و الإفساد علیه فی رأیه و تدبیره- و توعدهم بأغلظ العقوبه إن عادوا لمثل ذلک- و أمر بإحصاء المقتولین من أصحابه فأتی بأسمائهم- فأقر ما کان جاریا لهم على أولادهم و أهالیهم- فحسن موقع ذلک و زاد فی صحه نیات أصحابه- لما رأوا من خیاطته خلف من أصیب فی طاعته- .

قال أبو جعفر و شرع أبو أحمد فی قطع المیره- عن مدینه الناجم من جمیع الجهات- و قد کان یجلب إلیهم من السمک- الشی‏ء العظیم من مواضع کثیره- فمنع ذلک عنهم و قتل القوم الذین کانوا یجلبونه- و أخذت علیهم الطرق- و انسد علیهم کل مسلک کان لهم- و أضر بهم الحصار- و أضعف أبدانهم و طالت المده- فکان الأسیر منهم یؤسر و المستأمن یستأمن- فیسأل عن عهده بالخبز- فیقول مذ سنه أو سنتین- و احتاج من کان منهم مقیما فی مدینه الناجم إلى الحیله لقوته- فتفرقوا فی الأنهار النائیه عن عسکرهم طلبا للقوت- و کثرت الأسارى منهم فی عسکر أبی أحمد- لأنه کان یلتقطهم بأصحابه یوما فیوما- فأمر باعتراضهم لما رأى کثرتهم- فمن کان منهم ذا قوه و جلد و نهوض بالسلاح من علیه- و أحسن إلیه و خلطه بغلمانه السودان- و عرفهم ما لهم عنده من البر و الإحسان- و من کان منهم ضعیفا لا حراک به- أو شیخا فانیا لا یطیق حمل السلاح- أو مجروحا جراحه قد أزمنته- أمر بأن یکسى ثوبین و یوصل بدارهم- و یزود و یحمل إلى عسکرالناجم- فیلقى هناک بعد أن یوصى بوصف- ما عاین من إحسان أبی أحمد إلى کل من یصیر إلیه- و أن ذلک رأیه فی جمیع من یأتیه مستأمنا أو یأسره- فتهیأ له بذلک ما أراد من استماله الزنج- حتى استشعروا المیل إلى ناحیته- و الدخول فی سلمه و طاعته- .

قال أبو جعفر- ثم کانت الوقعه التی قتل فیها بهبوذ الزنجی القائد- و جرح أبو العباس- و ذلک أن بهبوذ کان أکثر أصحاب الناجم غارات- و أشدهم تعرضا لقطع السبل و أخذ الأموال- و کان قد جمع من ذلک لنفسه مالا جلیلا- و کان کثیر الخروج فی السمیریات الخفاف- فیخترق بها الأنهار المؤدیه إلى دجله- فإذا صادف سفینه لأصحاب أبی أحمد- أخذها و استولى على أهلها- و أدخلها النهر الذی خرج منه- فإن تبعه تابع حتى توغل فی طلبه- خرج علیه من ذلک النهر قوم من أصحابه- قد أعدهم لذلک فأقطعوه و أوقعوا به- فوقع التحرز حینئذ منه و الاستعداد لغاراته- فرکب شذاه و شبهها بشذوات أبی أحمد- و نصب علیها علما مثل أعلامه- و سار بها و معه کثیر من الزنج- فأوقع بکثیر من أصحاب أبی أحمد و قتل و أسر- فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس فی جمع کثیف- فکانت بینهما وقعه شدیده- و رمی فیها أبو العباس بسهم فأصابه- و أصابت بهبوذ طعنه فی بطنه- من ید غلام من بعض سمیریات أبی العباس- فهوى إلى الماء فابتدره أصحابه- فحملوه و رجعوا به إلى عسکر الناجم- فلم یصلوا به إلا و هو میت- فعظمت الفجیعه به على الناجم و أولیائه- و اشتد علیه جزعهم و خفی موته على أبی أحمد- حتى استأمن إلیه رجل من الملاحین- فأخبره بذلک فسر- و أمر بإحضار الغلام الذی طعنه- فوصله و کساه و طوقه و زاد فی رزقه- و أمر لجمیع من کان فی تلک السمیریه بصلات و خلع- و عولج أبو العباس من جرحه مده حتى برأ- و أقام أبو أحمد فی مدینته الموفقیه- ممسکا عن حرب الزنج- محاصرا لهم بسد الأنهار و سکرها- و اعترض من یخرج منهم لجلب المیره- و منتظرا برء ولده حتى کمل بعد شهور کثیره- و انقضت سنه ثمان و ستین- .

و نقل إسحاق بن کنداجیق عن البصره و أعمالها- فولی الموصل و الجزیره و دیار ربیعه و دیار مضر- . و دخلت سنه تسع و ستین- و أبو أحمد مقیم على الحصار- فلما أمن على أبی العباس و رکب على عادته- عاود النهوض إلى حرب الناجم- . قال أبو جعفر- و قد کان بهبوذ لما هلک طمع الناجم- فی أمواله لکثرتها و وفورها- و صح عنده أنه ترک مائتی ألف دینار عینا- و من الجواهر و غیرها بمثل ذلک- فطلب المال المذکور بکل حیله- و حبس أولیاء بهبوذ و قرابته و أصحابه- و ضربهم بالسیاط و أثار دورا من دوره- و هدم أبنیه من أبنیته- طمعا فی أن یجد فی شی‏ء منها دفینا- فلم یجد من ذلک شیئا- فکان فعله هذا أحد ما أفسد قلوب أصحابه علیه- و دعاهم إلى الهرب منه و الزهد فی صحبته- فاستأمن منهم إلى أبی أحمد خلق کثیر- فوصلهم و خلع علیهم- و رأى أن یعبر دجله من الجانب الشرقی إلى الجانب الغربی- فیجعل لنفسه هناک معسکرا- و یبنی به مدینه أخرى و یضیق خناق الناجم- و یتمکن من مغاداته و مراوحته بالحرب- فقد کانت الریح العاصف تحول بینه- و بین عبور دجله فی کثیر من الأیام بالجیش- فأمر بقطع النخل المقارب لمدینه الناجم لذلک- و إصلاح موضع یتخذه معسکرا- و أن یحف بالخنادق و یحصر بالسور لیأمن بیات الزنج- و جعل على قواده نوانب لذلک- و معهم الفعله و الرجال فقابل الناجم ذلک- بأن جعل علی بن أبان المهلبی و سلیمان بن جامع- و إبراهیم بن جعفر الهمدانی نوبا للحرب- و المدافعه عن ذلک- و کان أنکلانی بن الناجم ربما حضر فی نوبه أیضا- و ضم إلیه سلیمان بن موسى بن الشعرانی-

و قد کان صار إلیه من المذار بعد الوقعه التی انهزم فیها- و علم الناجم أن أبا أحمد إذا جاوره صعب أمره- و قرب على من یرید اللحاق به- من الزنج المسافه مع ما یدخل قلوب أصحابه- بمجاورته من الرعب و الرهبه- و فی ذلک انتقاض تدبیره- و فساد جمیع أموره- فکانت الحرب بین قواد أبی أحمد- و قواد الناجم متصله- على إصلاح هذا الموضع و مدافعه الزنج عنه- . و اتفق أن عصفت الریاح یوما- و جماعه من قواد أبی أحمد- بالجانب الغربی للعمل الذی یریدونه- فانتهز الناجم الفرصه فی امتناع العبور بدجله- لعصف الریح فرماهم بجمیع جیشه و کاثرهم برجله- فلم تجد الشذوات التی مع قواد أبی أحمد سبیلا- إلى الوقوف بحیث کانت واقفه به- لحمل الریاح إیاها على الحجاره- و خوف أصحابها علیها من التکسر- و لم یجدوا سبیلا إلى العبور فی دجله- لشده الریح و اضطراب الأمواج- فأوقعت الزنج بهم فقتلوهم عن آخرهم- و أفلت منهم نفر فعبروا إلى الموفقیه- فاشتد جزع أبی أحمد و أصحابه لما نالهم- .

و لما تهیأ للزنج علیهم- و عظم بذلک اهتمامهم- و تعقب أبو أحمد الرأی- فرأى أن نزوله و مقامه بالجانب الغربی- مجاور مدینه الناجم خطأ- و أنه لا یؤمن منه حیله و انتهاز فرصه- فیوقع بالعسکر بیاتا- أو یجد مساغا إلى ما یکون له قوه- لکثره الأدغال فی ذلک الموضع و صعوبه المسالک- و أن الزنج على التوغل فی تلک المواضع الوعره الموحشه أقدر- و هو علیهم أسهل من أصحابه- فانصرف عن رأیه فی نزول الجانب الغربی- و صرف همه و قصده‏إلى هدم سور مدینه الناجم- و توسعه الطریق و المسالک لأصحابه فی دخولها- فندب القواد لذلک- و ندب الناجم قواده للمدافعه عنها- و طال الأمد و تمادت الأیام- .

فلما رأى أبو أحمد تحاشد الزنج و تعاونهم- على المنع من هدم السور- أزمع على مباشره ذلک بنفسه و حضوره إیاه- لیستدعی بذلک جد أصحابه و اجتهادهم- و یزید فی عنایتهم و هممهم- فحضر بنفسه و اتصلت الحرب- و غلظت على الفریقین- و کثر القتل و الجراح فی الحزبین- و أقام أبو أحمد أیاما کثیره- یغادیهم الحرب و یراوحهم- فکانوا لا یفترون یوما من الأیام- و صعب على أصحاب أبی أحمد ما کانوا یرومونه- و اشتدت حمایه الزنج عن مدینتهم- و باشر الناجم الحرب بنفسه- و معه نخبه أصحابه و أبطالهم- و المؤمنون أنفسهم على الصبر معه- فحاموا جهدهم حتى لقد کانوا یقفون الموقف- فیصیب أحدا منهم السهم أو الطعنه أو الضربه فیسقط- فیجذبه الذی إلى جانبه فینحیه- و یقف موقفه إشفاقا من أن یخلو موقف رجل منهم- فیدخل الخلل علیهم- .

و اتفق فی بعض الأیام شده ضباب- ستر بعض الناس عن بعض- فما یکاد الرجل یبصر صاحبه- و ظهر أصحاب أبی أحمد- و لاحت تباشیر الفتح- و دخل الجند إلى المدینه و ولجوها- و ملکوا مواضع منها و إنهم لعلى ذلک- حتى وصل سهم من سهام الزنج إلى أبی أحمد- رماه به رومی کان مع الناجم- یقال له قرطاس فأصابه فی صدره و ذلک لخمس بقین- من جمادى الأولى سنه تسع و ستین و مائتین- فستر أبو أحمد و خواصه ما ناله من ذلک عن الناس- و انصرف إلى الموفقیه آخر نهار یومه هذا- فعولج فی لیلته تلک و شدت الجراحه- و غدا على الحرب على ما ناله من ألمها- لیشد بذلک قلوب أصحابه- من أن یدخلها وهن أو ضعف- فزاد فی قوه علته- بما حمل على نفسه من الحرکه- فغلظت و عظم أمرها حتى خیف علیه العطب- و احتاج إلى علاج نفسه بأعظم ما یعالج به الجراح- و اضطرب لذلک العسکر و الجند و الرعیه- و خافوا قوه الزنج علیهم- حتى خرج عن الموفقیه جماعه من التجار- کانوا مقیمین بها لما وصل إلى قلوبهم من الرهبه- .

قال أبو جعفر- و حدثت على أبی أحمد فی حال صعوبه علته- حادثه فی سلطانه و أمور متعلقه بما بینه و بین أخیه المعتمد- فأشار علیه مشیرون من أصحابه و ثقاته- بالرحله عن معسکره إلى بغداد- و أن یخلف من یقوم مقامه فأتى ذلک- و حاذر أن یکون فیه تلافى ما قد فرق من شمل صاحب الزنج- فأقام على صعوبه علته- و غلظ الأمر الحادث فی سلطانه و صبر إلى أن عوفی- فظهر لقواده و خاصته- و قد کان أطال الاحتجاب عنهم- فقویت برؤیته منتهم- و أقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنه- فلما أبل و قوی على الرکوب و النهوض- نهض و عاود ما کان مواظبا علیه من الحرب- و جعل الناجم لما صح عنده الخبر- بما أصاب أبا أحمد یعد أصحابه العدات- و یمنیهم الأمانی- و اشتدت شوکتهم و قویت آمالهم- فلما اتصل به ظهور أبی أحمد- جعل یحلف للزنج على منبره- أن ذلک باطل لا أصل له- و أن الذی رأوه فی الشذا مثال موه و شبه علیهم- .

قلت الحادث الذی حدث على أبی أحمد من جهه سلطانه- أن أخاه المعتمد و هو الخلیفه یومئذ- فارق دار ملکه- و مستقر خلافته مغاضبا له متجنیا علیه- زاعما أنه مستبد بأموال المملکه و جبایتها- مضطهدا له مستأثرا علیه- فکاتب ابن طولون صاحب مصر- و سأله أن یأذن له فی اللحاق به- فأجابه ابن طولون إلى ذلک- فخرج من سامراء فی جماعه من قواده و موالیه قاصدا مصر- و کان أبو أحمد هو الخلیفه فی المعنى- و إنما المعتمد صورهخالیه من معانی الخلافه- لا أمر له و لا نهی و لا حل و لا عقد- و أبو أحمد هو الذی یرتب الوزراء و الکتاب- و یقود القواد و یقطع الأقطاع- و لا یراجع المعتمد فی شی‏ء من الأمور أصلا- فاتصل به خبر المعتمد فی شخوصه عن سامراء- و قصده ابن طولون- فکاتب إسحاق بن کنداحیق- و هو یومئذ على الموصل و الجزیره- فأمره أن یعترض المعتمد- و یقبض علیه و على القواد و الموالی الذین معه- و یعیدهم إلى سامراء- و کتب لإسحاق بإقطاعه ضیاع- أولئک القواد و الموالی بأجمعهم- فاعترضهم إسحاق- و قد قربوا من الرقه فأخذهم و قبض علیهم- و قیدهم بالقیود الثقیله- و دخل على المعتمد فعنفه- و هجنه و عذله فی شخوصه عن دار ملکه و ملک آبائه- و مفارقه أخیه على الحال التی هو بها- و حرب من یحاول قتله- و قتل أهل بیته و زوال ملکهم- .

ثم حملهم فی قیودهم حتى وافى بهم سامراء- فأقر المعتمد على خلافته- و منعه عن الخروج- و أرسل أبو أحمد ابنه هارون- و کاتبه صاعد بن مخلد من الموفقیه إلى سامراء- فخلعا على ابن کنداحیق خلعا جلیله- و قلد بسیفین من ذهب- و لقب ذا السیفین و هو أول من قلد بسیفین- ثم خلع علیه بعد ذلک بیوم قباء دیباج أسود- و وشاحین مرصعین بالجوهر الثمین- و توج بتاج من ذهب مرصع بنفیس الجوهر- و قلد سیفا من ذهب مرصع بالجواهر العظیمه- و شیعه إلى منزله هارون و صاعد- و قعدا على طعامه- کل ذلک مکافأه له عن صنیعه فی أمر المعتمد- فلیعجب المتعجب من همه الموفق أبی أحمد- و قوه نفسه و شده شکیمته- أن یکون بإزاء ذلک العدو- و یقتل من أصحابه کل وقت من یقتل- ثم یصاب ولده بسهم- و یصاب هو بسهم آخر فی صدره- یشارف منه على الموت- و یحدث من أخیه و هو الخلیفه ما یحدث- و لا تنکسر نفسه و لا یهی عزمه- و لا تضعف قوته و بحقما سمی المنصور الثانی- و لو لا قیامه فی حرب الزنج- لانقرض ملک أهل بیته- و لکن الله تعالى ثبته لما یریده من بقاء هذه الدوله- .

قال أبو جعفر- ثم جد الموفق فی تخریب السور و إحراق المدینه- و جد الناجم فی إعداد المقاتله- و المحاطه عن سوره و مدینته- فکانت بین الفریقین حروب عظیمه- تجل عن الوصف- و رمى الناجم سفن الموفق المقاربه- لسور مدینته بالرصاص المذاب- و المجانیق و العرادات- و أمر أبو أحمد بإعداد ظله من خشب للشذا- و إلباسها جلود الجوامیس- و تغطیه ذلک بالخیوش المطلیه- بصنوف العقاقیر و الأدویه- التی تمنع النار من الإحراق ففعل ذلک- و حورب صاحب الزنج من تحتها- فلم تعمل ناره و رصاصه المذاب فیها شیئا- و استأمن إلى أبی أحمد محمد بن سمعان- کاتب الناجم و وزیره فی شعبان من هذه السنه- فهد باستئمانه أرکان الناجم و أضعف قوته- و انتدب أبو العباس لقصد دار محمد بن یحیى الکرنبائی- و کانت بإزاء دار الناجم- و شرع فی الحیله فی إحراقها- و أحرق الموفق کثیرا- من الرواشین المظله على سور المدینه و شعثها- و علا غلمان أبی أحمد على دار الناجم و ولجوها و انتهبوها- و أضرموا النار فیها- و فعل أبو العباس بدار الکرنبائی مثل ذلک- و جرح أنکلانی بن الناجم فی بطنه جراحه شدیده- أشفى منها على التلف- و اتفق مع هذا الظفر العظیم- أن غرق أبو حمزه نصیر صاحب جیش الماء- عند ازدحام الشذوات و إکباب الزنج على الحرب- فصعب ذلک على أبی أحمد- و قوی بغرقه أمر الزنج- و انصرف أبو أحمدآخر نهار هذا الیوم- و عرضت له عله أقام فیها بقیه شعبان و شهر رمضان- و أیاما من شوال ممسکا عن حرب الزنج- إلى أن استبل من علته- .

قال أبو جعفر- فلما أحرقت دار الناجم و دور أصحابه- و شارف أن یؤخذ و عرضت لأبی أحمد هذه العله- فأمسک فیها عن الحرب- انتقل الناجم من مدینته التی بناها- بغربی نهر أبی الخصیب إلى شرقیه إلى منزل وعر- لا یخلص إلیه أحد لاشتباک القصب و الأدغال و الأحطاب فیه- و علیه خنادق من أنهار قاطعه معترضه- فقطن هناک فی خواصه- و من تخلف معه من جله أصحابه و ثقاته- و من بقی فی نصرته من الزنج- و هم حدود عشرین ألف مقاتل- و انقطعت المیره عنهم- و بان للناس ضعف أمرهم- فتأخر الجلب الذی کان یصل إلیهم- فبلغ الرطل من خبز البر عندهم عشره دراهم- فأکلوا الشعیر ثم أکلوا أصناف الحبوب- ثم لم یزل الأمر کذلک إلى أن کانوا یتبعون الناس- فإذا خلا أحد منهم بصبی أو امرأه أو رجل ذبحوه و أکلوه- ثم صار قوی الزنج یعدو على ضعیفهم- فإذا خلا به ذبحه و أکل لحمه- ثم ذبحوا أولادهم فأکلوا لحومهم- و کان الناجم لا یعاقب أحدا- ممن فعل شیئا من ذلک إلا بالحبس- و إذا تطاول حبسه أطلقه- .

و لما أبل الموفق من علته- و علم انتقال الناجم إلى شرقی نهر أبی الخصیب و اعتصامه به- أعمل فکره فی تخریب الجانب الشرقی علیه- کما فعل بالجانب الغربی- لیتمکن من قتله أو أسره- فکانت له آثار عظیمه من قطع الأدغال- و الدحال و سد الأنهار و طم الخنادق- و توسیع المسالک و إحراق الأسوار المبنیه- و إدخال الشذا و فیها المقاتله إلى حریم الناجم- و فی کل ذلک یدافع الزنج عن أنفسهم بحرب شدیده- و قتال عظیم تذهب فیها النفوس و تراق فیها الدماء- و کان الظفر فی ذلک کله لأبی أحمد- و أمر الزنج یزداد ضعفاو طالت الأیام على ذلک- إلى أن استأمن سلیمان بن موسى الشعرانی- و هو من عظمائهم و قد تقدم ذکره- فوجه یطلب الأمان من أبی أحمد- فمنعه ذلک لما کان سلف منه- من العیث و سفک الدماء بنواحی واسط- .

ثم اتصل بأبی أحمد أن جماعه من رؤساء الزنج- قد استوحشوا لمنعه الشعرانی من الأمان- فأجاب إلى إعطائه الأمان- استصلاحا بذلک غیره من رؤساء الزنج- و أمر بتوجیه الشذا إلى موضع وقع المیعاد علیه- فخرج سلیمان الشعرانی و أخوه و جماعه من قواده- فنزلوا الشذا فصاروا إلى أبی العباس- فحملهم إلى أبی أحمد- فخلع على سلیمان و من معه- و حمله على عده أفراس بسروجها و آلتها- و أنزل له و لأصحابه إنزالا سنیه- و وصله بمال جلیل و وصل أصحابه- و ضمه و ضمهم إلى أبی العباس- و أمر بإظهاره و إظهارهم فی الشذا لأصحاب الناجم- لیزدادوا ثقه بأمانته- فلم تبرح الشذا ذلک الیوم من موضعها- حتى استأمن جمع کثیر من قواد الزنج- فوصلوا و ألحقوا بإخوانهم- فی الحباء و البر و الخلع و الجوائز- فلما استأمن الشعرانی اختل ما کان الناجم- قد ضبطه به من مؤخر عسکره- و قد کان جعله على مؤخر نهر أبی الخصیب- فوهى أمره و ضعف- و قلد ما کان سلیمان یتولاه القائد المعروف بشبل بن سالم- و هو من قوادهم المشهورین- فلم یمس أبو أحمد- حتى وافاه رسول شبل بن سالم یطلب الأمان-

و یسأل أن یوقف له شذوات عند دار ابن سمعان- لیکون قصده فی اللیل إلیها و معه من یثق به من أصحابه- فأجیب إلى سؤاله- و وافى آخر اللیل و معه عیاله و ولده- و جماعه من قواده- فصاروا إلى أبی أحمد- فوصله بصله جلیله- و خلع علیه خلعا کثیره- و حمله على عده أفراس بسروجها و آلتها- و وصل أصحابه و خلع علیهم و أحسن إلیهم- و أرسله فی الشذوات- فوقفوا بحیث یراهم الناجم و أصحابه نهارا- فعظم ذلک علیه و على أولیائه- و أخلص شبل فی مناصحه أبی أحمد- فسأل أن یضم إلیه عسکر یبیت به عسکر الناجم- و یسلک إلیه من مسالک یعرفها هو- و لا یعرفها أصحاب أبی أحمد- ففعلو کبس عسکر الناجم سحرا- فأوقع بهم و هم غارون- فقتل منهم مقتله عظیمه- و أسر جمعا من قواد الزنج و انصرف بهم إلى الموفق- و ذعر الزنج من شبل و ما فعله- فامتنعوا من النوم و خافوا خوفا شدیدا- فکانوا یتحارسون بعد ذلک فی کل لیله- و لا تزال النفره تقع فی عسکرهم- لما استشعروا من الخوف- و وصل إلى قلوبهم من الوحشه- حتى لقد کان ضجیجهم و تحارسهم یسمع بالموفقیه- .

و صح عزم الموفق على العبور- لمحاربه الناجم فی الجانب الشرقی- من نهر أبی الخصیب فجلس مجلسا عاما- و أمر بإحضار قواد المستأمنه- و وجوه فرسانهم و رجالتهم من الزنج و البیضان فأدخلوا إلیه- فخطبهم و عرفهم ما کانوا علیه- من الضلاله و الجهل و انتهاک المحارم- و ما کان صاحبهم زینه لهم من معاصی الله سبحانه- و أن ذلک قد کان أحل له دماءهم- و أنه قد غفر الزله و عفا عن العقوبه و بذل الأمان- و عاد على من لجأ إلیه بالفضل و الإحسان- فأجزل الصلات و أسنى الأرزاق- و ألحقهم بالأولیاء و أهل الطاعه- و أن ما کان منه من ذلک یوجب علیهم حقه و طاعته- و أنهم لن یأتوا بشی‏ء یتعرضون به لطاعه ربهم- و الاستدعاء لرضا سلطانهم أولى بهم- من الجد فی مجاهده الناجم و أصحابه- و أنهم من الخبره بمسالک عسکر الناجم و مضایق طرق مدینته- و المعاقل التی أعدها للحرب- على ما لیس علیه من غیرهم- فهم أحرى أن یمحضوه نصحهم- و یجهدوا على الولوج إلى الناجم- و التوغل إلیه فی حصونه- حتى یمکنهم الله منه و من أشیاعه- فإذا فعلوا ذلک فلهم الإحسان و المزید- و من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله- و تصغیر منزلته و وضع مرتبته- .

فارتفعت أصواتهم جمیعا- بالدعاء للموفق و الإقرار بإحسانه- و بما هم علیه من صحه الضمائر- من السمع و الطاعه و الجد فی مجاهده عدوه- و بذل دمائهم و مهجهم فی کل ما یقربهم منه- و أن ما دعاهم إلیه قد قوى مننهم- و دلهم على ثقته بهم- و إحلاله إیاهم‏محل أولیائه- و سألوه أن یفردهم ناحیه و لا یخلطهم بعسکره- لیظهر من حسن جهادهم بین یدیه- و خلوص نیاتهم فی الحرب- و نکایتهم فی العدو و ما یعرف به طاعتهم- و إقلاعهم عما کانوا علیه من جهلهم- . فأجابهم إلى ذلک- و عرفهم حسن ما ظهر له من طاعتهم- فخرجوا من عنده مبتهجین- بما أجیبوا به من حسن القول و جمیل الوعد- . قال أبو جعفر- ثم استعد أبو أحمد و رتب جیشه- و دخل إلى عسکر الناجم بشرقی نهر أبی الخصیب- فی خمسین ألف مقاتل- من البر و البحر فرسانا و رجاله- یکبرون و یهللون و یقرءون القرآن- و لهم ضجیج و أصوات هائله- فرأى الناجم منهم ما هاله و تلقاهم بنفسه و جیشه- و ذلک فی ذی القعده سنه تسع و ستین و مائتین- .

و اشتبکت الحرب و کثر القتل و الجراح- و حامى الزنج عن صاحبهم و أنفسهم أشد محاماه و استماتوا- و صبر أصحاب أبی أحمد و صدقوا القتال- فمن الله علیهم بالنصر و انهزم الزنج- و قتل منهم خلق عظیم- و أسر منهم أسرى کثیره- فضرب أبو أحمد أعناق الأسارى فی المعرکه- و قصد بنفسه دار الناجم- فوافاها و قد لجأ الناجم إلیها- و معه أنجاد أصحابه للمدافعه عنه- . فلما لم یغنوا شیئا أسلموها و تفرقوا عنها- و دخلها غلمان الموفق- و بها بقایا ما کان سلم له من مال و أثاث- فأخذوه و انتهبوه- و أخذوا حرمه و ولده الذکور و الإناث- و تخلص الناجم بنفسه- و مضى هاربا نحو دار علی بن أبان المهلبی- لا یلوی على أهل و لا ولد و لا مال و أحرقت داره- و حمل أولاده و نساؤه إلى الموفقیه فی التوکیل- و قصد أصاب أبی أحمد دار المهلبی- و قد لجأ إلیها الناجم و أکثر الزنج- و تشاغل أصحاب أبی أحمد بنهبالأموال من دور الزنج- فاغتنم الناجم تشاغلهم بالنهب- فأمر قواده بانتهاز الفرصه و الإکباب علیهم- فخرجوا علیهم من عده مواضع- و خرج علیهم کمناء أیضا قد کانوا کمنوهم لهم- فکشفوهم و اتبعوهم- حتى وافوا بهم نهر أبی الخصیب- فقتلوا من فرسانهم و رجالتهم جماعه- و ارتجعوا بعض ما کانوا أخذوه من المال و المتاع- .

ثم تراجع الناس- و دامت الحرب إلى وقت العصر- فرأى أبو أحمد عند ذلک أن یصرف أصحابه- فأمرهم بالرجوع فرجعوا على هدوء و سکون- کی لا تکون هزیمه حتى دخلوا سفنهم- و أحجم الزنج عن أتباعهم- و عاد أبو أحمد بالجیش إلى مراکزهم- . قال أبو جعفر- و وافى إلى أبی أحمد فی هذا الشهر- کاتبه صاعد بن مخلد من سامراء فی عشره آلاف- و وافى إلیه لؤلؤ صاحب ابن طولون- و کان إلیه أمر الرقه و دیار مضر- فی عشره آلاف من نخبه الفرسان و أنجادهم- فأمر أبو أحمد لؤلؤا- أن یخرج فی عسکره فیحارب الزنج- فخرج بهم و معه من أصحاب أبی أحمد- من یدله على الطرق و المضایق- فکانت بین لؤلؤ و بین الزنج حرب شدیده- فی ذی الحجه من هذه السنه- استظهر فیها لؤلؤ علیهم- و بان من نجدته و شجاعته و إقدام أصحابه- و صبرهم على ألم الجراح و ثبات قلوبهم- ما سر أبا أحمد و ملأ قلبه- .

قال أبو جعفر- فلما دخلت سنه سبعین و مائتین- تتابعت الأمداد إلى أبی أحمد من سائر الجهات- فوصل إلیه أحمد بن دینار- فی جمع عظیم من المطوعه- من کور الأهواز و نواحیها- و قدم بعده من أهل البحرین جمع کثیر- من المطوعه زهاء ألفی رجل- یقودهم رجل من عبد القیس- و ورد بعد ذلک زهاء ألف رجل من فارس- و رئیسهم شیخ من المطوعه یکنى أبا سلمه- و کان أبو أحمد یجلس- لکل من یرد و یخلع علیه- و یقیم لأصحابه الأنزال الکثیره و یصلهم بالصلات- فعظم جیشه جدا و امتلأت بهم الأرض- و صحعزمه على لقاء الناجم بجمیع عسکره- فرتب جیوشه و قسمهم على القواد- و أمر کل واحد من القواد- أن یقصد جهه من جهات معسکر الناجم عینها له- و رکب بنفسه و رکب جیشه- و توغلوا فی مسالک شرقی نهر أبی الخصیب- و لقیهم الزنج و قد حشدوا و استقبلوا- فکانت بینهم وقعه شدیده- منحهم الله تعالى فیها أکتاف الزنج- فولوا منهزمین- فاتبعهم أصحاب أبی أحمد یقتلون و یأسرون- فقتل منهم کثیر و غرق کثیر- و حوى أصحاب أبی أحمد معسکر الناجم و مدینته- و ظفروا بعیال علی بن أبان المهلبی و داره و أمواله- فاحتووا علیها- و عبر أهله و أولاده إلى الموفقیه مع کلابهم- و مضى الناجم و معه المهلبی و ابنه أنکلانی- و سلیمان بن جامع و الهمدانی و جماعه من أکابر القواد- عامدین إلى موضع کان الناجم- قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدینته و داره- فی النهر المعروف بالسفیانی- فتقدم أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدین هذا النهر- لأن أبا أحمد دل علیه- فأوغل فی الدخول و فقده أصحابه- فظنوا أنه رجع فرجعوا کلهم- و عبروا دجله فی الشذا ظانین أنه عبر راجعا- و انتهى أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدین هذا النهر- فاقتحمه لؤلؤ بفرسه- و عبر أصحاب لؤلؤ خلفه- .

و وقف أبو أحمد فی جماعه من أصحابه عند النهر- و مضى الناجم هاربا- و لؤلؤ یتبعه فی أصحابه- حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقربری- فوصل إلیه لؤلؤ و أصحابه- فأوقعوا به و بمن معه فکشفوهم- فولوا هاربین حتى عبروا النهر المذکور- و لؤلؤ و أصحابه یطردونهم من ورائهم- حتى ألجئوهم إلى نهر آخر- فعبروه و اعتصموا بدحال وراءه فولجوها- و أشرف لؤلؤ و أصحابه علیها- فأرسل إلیه الموفق ینهاه عن اقتحامها- و یشکر سعیه و یأمره بالانصراف- فانفرد لؤلؤ هذا الیوم و أصحابه بهذا الفعل- دون أصحاب الموفق فانصرف لؤلؤ محمود الفعل- فحمله الموفق معه فی شذاته- و جدد له من البر و الکرامه و رفع المنزله- لما کان منه فی أمر الناجم- حسبما کان مستحقا له- و لهذا نادىأهل بغداد- لما أدخل إلیهم رأس الناجم- بین یدی أبی العباس ما شئتم قولوا- کان الفتح للؤلؤ- . قال أبو جعفر فجمع الموفق فی غد هذا الیوم قواده- و هو حنق علیهم لانصرافهم عنه و إفرادهم إیاه- و کان لؤلؤ و أصحابه تولوا طلب الناجم دونهم- فعنقهم و عذلهم و وبخهم على ما کان منهم- و عجزهم و أغلظ لهم- فاعتذروا إلیه بما توهموه من انصرافه- و أنهم لم یعلموا أنه قد لجج و أوغل فی طلب الناجم- و أنهم لو علموا ذلک لأسرعوا نحوه- .

ثم تحالفوا بین یدیه- و تعاقدوا ألا یبرحوا فی غد موضعهم- إذا توجهوا نحو الزنج حتى یظفرهم الله تعالى به- فإن أعیاهم ذلک أقاموا- حیث انتهى بهم النهار فی أی موضع کان- حتى یحکم الله بینهم و بینه- و سألوا الموفق أن یرد السفن إلى الموفقیه- بحیث لا یطمع طامع من العسکر- فی الالتجاء إلیها و العبور فیها- . فقبل أبو أحمد عذرهم و جزاهم الخیر عن تنصلهم- و وعدهم بالإحسان و أمرهم بالتأهب للعبور- ثم عبر بهم على ترتیب و نظام قد أحکمه و قرره- و ذلک فی یوم السبت للیلتین خلتا من صفر- من سنه سبعین و مائتین- و قد کان الناجم عاد من تلک الأنهار إلى معسکره- بعد انصراف الجیش عنه فأقام به- و أمل أن تتطاول به و بهم الأیام و تندفع عنه المناجزه- فلقیه فی هذا الیوم سرعان العسکر- و هم مغیظون محنقون من التقریع و التوبیخ اللاحقین بهم بالأمس- فأوقعوا به و بأصحابه وقعه شدیده- أزالوهم عن مواقفهم- فتفرقوا لا یلوی بعضهم على بعض- و اتبعهم الجیش یقتلون و یأسرون من لحقوا منهم- و انقطعالناجم فی جماعه من کماته من قواد الزنج- منهم المهلبی و فارقه ابنه أنکلانی و سلیمان بن جامع- فکانا فی أول الأمر مجتمعین ثم افترقا فی الهزیمه- فصادف سلیمان بن جامع قوم من قواد الموفق- فحاربوه و هو فی جمع کثیف من الزنج- فقتل جماعه من کماته و ظفر به فأسر- و حمل إلى الموفق بغیر عهد و لا عقد- فاستبشر الناس بأسر سلیمان- و کثر التکبیر و الضجیج- و أیقنوا بالفتح إذ کان أکثر أصحابه غناء- و أسر بعده إبراهیم بن جعفر الهمدانی- و کان من عظماء قواده و أکابر أمراء جیوشه- و أسر نادر الأسود المعروف بالحفار- و هو من قدماء قواد الناجم- فأمر الموفق بتقییدهم بالحدید و تصییرهم فی شذاه لأبی العباس- و معهم الرجال بالسلاح و جد الموفق فی طلب الناجم- و أمعن فی نهر أبی الخصیب حتى انتهى إلى آخره- .

فبینا هو کذلک أتاه البشیر بقتل الناجم فلم یصدق- فوافاه بشیر آخر و معه کف زعم أنها کفه- فقوی الخبر عنده بعض القوه- فلم یلبث أن أتاه غلام من غلمان لؤلؤ یرکض- و معه رأس الناجم فوضعه بین یدیه- فعرضه الموفق على من کان حاضرا تلک الحال معه- من قواد المستأمنه فعرفوه و شهدوا أنه رأس صاحبه- فخر ساجدا و سجد ابنه أبو العباس- و سجد القواد کلهم شکرا لله تعالى- و رفعوا أصواتهم بالتهلیل و التکبیر- و أمر برفع الرأس على قناه و نصبه بین یدیه فرآه الناس- و ارتفعت الأصوات و الضجیج- . قال أبو جعفر و قد قیل إنه لما أحیط بالناجم- لم یبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبی- فلما علما أنهما مقتولان افترقا- فوقف الناجم حتى وصل إلیه هذا الغلام- و معه جماعه من غلمان لؤلؤ- فمانع عن نفسه بسیفه حتى عجز عن الممانعه- فأحاطوا به و ضربوه بسیوفهم حتى سقط- و نزل هذا الغلام فاحتز رأسه- و أما المهلبی فإنه قصد النهر المعروفبنهر الأمیر- فقذف بنفسه یروم النجاه- و قبل ذلک کان ابن الناجم- و هو المعروف بأنکلانی فارق أباه- و مضى یؤم النهر المعروف بالدیناری- متحصنا فیه بالأدغال و الآجام فلم یظفر بهما ذلک الیوم- و دل الموفق علیهما بعد ذلک- .

و قیل له إن معهما جمعا من الزنج- و جماعه من جله قوادهم- فأرسل غلمانه فی طلبهما و أمرهم بالتضییق علیهما- فلما أحاطت الغلمان بهم- أیقنوا أن لا ملجأ لهم- و أعطوا بأیدیهم فظفر بهم الغلمان- و حملوهم إلى الموفق- فقتل منهم جماعه- و أمر بالاستیثاق من المهلبی- و أنکلانی بالحدید و الرجال الموکلین بهما- . قال أبو جعفر- و انصرف فی هذا الیوم و هو یوم السبت- للیلتین خلتا من صفر أبو أحمد من نهر أبی الخصیب- و رأس الناجم منصوب بین یدیه على قناه- فی شذاه یخترق به فی النهر- و الناس من جانبی النهر ینظرون إلیه- حتى وافى دجله- فخرج إلیها و الرأس بین یدیه- و سلیمان بن جامع و الهمدانی مصلوبان أحیاء- فی شذاتین عن جانبیه- حتى وافى قصره بالموفقیه- هذه روایه أبی جعفر و أکثر الناس علیهما- . و ذکر المسعودی فی کتاب مروج الذهب- أن الناجم ارتث و حمل إلى أبی أحمد و هو حی- فسلمه إلى ابنه أبی العباس- و أمر بتعذیبه فجعله کردناجا على النار- و جلده ینتفخ و یتفرقع حتى هلک- . و الروایه الأولى هی الصحیحه- و الذی جعل کردناجا هو قرطاس- الذی رمى أبا أحمدبالسهم- ذکر ذلک التنوخی فی نشوار المحاضره- قال کان الزنج یصیحون لما رمى أبو أحمد بالسهم- و تأخر لعلاج جراحته عن الحرب- ملحوه ملحوه أی قد مات و أنتم تکتمون موته- فاجعلوه کاللحم المکسود- .

قال و کان قرطاس الرامی لأبی أحمد- یصیح بأبی العباس فی الحرب- إذا أخذتنی فاجعلنی کردناجا یهزأ به- . قال فلما ظفر به أدخل فی دبره سیخا من حدید- فأخرجه من فیه و جعله على النار کردناجا- . قال أبو جعفر- ثم تتابع مجی‏ء الزنج إلى أبی أحمد فی الأمان- فحضر منهم فی ثلاثه أیام نحو سبعه آلاف زنجی- لما عرفوا قتل صاحبهم- و رأى أبو أحمد بذل الأمان لهم- کی لا یبقى منهم بقیه- یخاف معرتها فی الإسلام و أهله- و انقطعت منهم قطعه نحو ألف زنجی مالت نحو البر- فمات أکثرها عطشا- و ظفر الأعراب بمن سلم منهم- فاسترقوهم و أقام الموفق بالموفقیه- بعد قتل الناجم مده- لیزداد الناس بمقامه أنسا و أمانا- و یتراجع أهل البلاد إلیها- فقد کان الناجم أجلاهم عنها- و قدم ابنه أبو العباس إلى بغداد- و معه رأس الناجم- فدخلها یوم السبت لاثنتی عشره لیله- بقین من جمادى الأولى من هذه السنه- و رأس الناجم بین یدیه على قناه- و الناس مجتمعون یشاهدونه- . و قد روى غیر أبی جعفر- و ذکره الآبی فی مجموعه المسمى نثر الدرر- عن العلاء بن صاعد بن مخلد- قال لما حمل رأس صاحب الزنج- و دخل به المعتضد إلى بغداد دخل فی جیش‏لم یر مثله- و اشتق أسواق بغداد و الرأس بین یدیه- فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلک الدروب- رحم الله معاویه و زاد- حتى علت أصوات العامه بذلک فتغیر وجه المعتضد- و قال أ لا تسمع یا أبا عیسى ما أعجب هذا- و ما الذی اقتضى ذکر معاویه فی هذا الوقت- و الله لقد بلغ أبی إلى الموت- و ما أفلت أنا إلا بعد مشارفته و لقینا کل جهد و بلاء- حتى أنجینا هؤلاء الکلاب من عدوهم- و حصنا حرمهم و أولادهم- فترکوا أن یترحموا على العباس- و عبد الله ابنه و من ولد من الخلفاء- و ترکوا الترحم على علی بن أبی طالب- و حمزه و جعفر و الحسن و الحسین- و الله لا برحت أو أؤثر فی تأدیب هؤلاء أثرا- لا یعاودون بعد هذا الفعل مثله- ثم أمر بجمع النفاطین لیحرق الناحیه- فقلت له أیها الأمیر أطال الله بقاءک- إن هذا الیوم من أشرف أیام الإسلام- فلا تفسده بجهل عامه لا أخلاق لهم- و لم أزل أداریه و أرفق به حتى سار- .

فأما الذی یرویه الناس- من أن صاحب الزنج ملک سواد بغداد- و نزل بالمدائن- و أن الموفق أرسل إلیه من بغداد عسکرا- و أصحبهم دنان النبیذ- و أمرهم أن ینهزموا من بین یدی الزنج عند اللقاء- و یترکوا خیامهم و أثقالهم- لینتهبها الزنج و أنهم فعلوا ذلک- فظفر الزنج فیما ظفروا به- من أمتعتهم بتلک الدنان- و کانت کثیره جدا- فشربوا تلک اللیله و سکروا- و باتوا على غره- فکبسهم الموفق و بیتهم لیلا و هم سکارى- فأصاب منهم ما أراد- فباطل موضوع لا أصل له- و الذی بیتهم و هم سکارى- فنال منهم نیلا تکین البخاری- و کان على الأهواز بیت أصحاب علی بن أبان- فی سنه خمس و ستین و مائتین- و قد أتاه الخبر بأنهم تلک اللیله قد عمل النبیذ فیهم- و الصحیح أنه لم یتجاوز نهبهم و دخولهم البلاد النعمانیه- هکذا رواه الناس کلهم- .

قال أبو جعفر فأما علی بن أبان- و أنکلانی بن الناجم و من أسر معهما- فإنهم‏حملوا إلى بغداد فی الحدید و القد- فجعلوا بید محمد بن عبد الله بن طاهر- و معهم غلام للموفق یقال له فتح السعیدی- فکانوا کذلک إلى شوال- من سنه اثنتین و سبعین و مائتین- فکانت للزنج حرکه بواسط- و صاحوا أنکلانی یا منصور- و کان الموفق یومئذ بواسط- فکتب إلى محمد بن عبد الله و إلى فتح السعیدی- یأمرهما بتوجیه رءوس الزنج الذین فی الأسر إلیه- فدخل فتح السعیدی إلیهم- فجعل یخرج الأول فالأول فیذبحه على البالوعه کما تذبح الشاه- و کانوا خمسه أنکلانی بن الناجم- و علی بن أبان المهلبی و سلیمان بن جامع- و إبراهیم بن جعفر الهمدانی و نادر الأسود- و قلع رأس البالوعه و طرحت فیها أبدانهم و سد رأسها- و وجه برءوسهم إلى الموفق فنصبها بواسط- و انقطعت حرکه الزنج و یئس منهم- .

ثم کتب الموفق إلى محمد بن عبد الله بن طاهر- فی جثث هؤلاء الخمسه- فأمر بصلبهم بحضره الجسر- فأخرجوا من البالوعه- و قد انتفخوا و تغیرت روائحهم- و تقشرت جلودهم- فصلب اثنان منهم على جانب الجسر الشرقی- و ثلاثه على الجانب الغربی- و ذاک لسبع بقین من شوال من هذه السنه- و رکب محمد بن عبد الله بن طاهر- و هو أمیر بغداد یومئذ بنفسه حتى صلبوا بحضرته- و قد قال الشعراء فی وقائع الزنج- فأکثروا کالبحتری و ابن الرومی و غیرهما- فمن أراد ذلک فلیأخذه من مظانه: مِنْهَا فِی وَصْفِ الْأَتْرَاکِ- کَأَنِّی أَرَاهُمْ قَوْماً- کَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَهُ- یَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَ الدِّیبَاجَ- وَ یَعْتَقِبُونَ الْخَیْلَ الْعِتَاقَ- وَ یَکُونُ هُنَاکَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ- حَتَّى یَمْشِیَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ- وَ یَکُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ- فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ- لَقَدْ أُعْطِیتَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ عِلْمَ الْغَیْبِ- فَضَحِکَ ع وَ قَالَ لِلرَّجُلِ وَ کَانَ کَلْبِیّاً- یَا أَخَا کَلْبٍ لَیْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَیْبٍ- وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِی عِلْمٍ- وَ إِنَّمَا عِلْمُ الْغَیْبِ عِلْمُ السَّاعَهِ- وَ مَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَهِ- وَ یُنَزِّلُ الْغَیْثَ وَ یَعْلَمُ ما فِی الْأَرْحامِ- وَ ما تَدْرِی نَفْسٌ ما ذا تَکْسِبُ غَداً- وَ ما تَدْرِی نَفْسٌ بِأَیِّ أَرْضٍ تَمُوتُ الآْیَهَ- فَیَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِی الْأَرْحَامِ- مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ قَبِیحٍ أَوْ جَمِیلٍ- وَ سَخِیٍّ أَوْ بَخِیلٍ- وَ شَقِیٍّ أَوْ سَعِیدٍ- وَ مَنْ یَکُونُ لِلنَّارِ حَطَباً- أَوْ فِی الْجِنَانِ لِلنَّبِیِّینَ مُرَافِقاً- فَهَذَا عِلْمُ الْغَیْبِ الَّذِی لَا یَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ- وَ مَا سِوَى ذَلِکَ فَعِلْمٌ- عَلَّمَهُ اللَّهُ نَبِیَّهُ ص فَعَلَّمَنِیهِ- وَ دَعَا لِی بِأَنْ یَعِیَهُ صَدْرِی- وَ تَضْطَمَّ عَلَیْهِ جَوَانِحِی‏المجان جمع مجن بکسر المیم و هو الترس- و إنما سمی مجنا لأنه یستتر به- و الجنه الستره و الجمع جنن- یقال استجن بجنه أی استتر بستره- .

و المطرقه بسکون الطاء- التی قد أطرق بعضها إلى بعض- أی ضمت طبقاتها فجعل بعضها یتلو بعضا- یقال جاءت الإبل مطاریق- أی یتلو بعضها بعضا- و النعل المطرقه المخصوفه- و أطرقت بالجلد و العصب أی ألبست- و ترس مطرق و طراق النعل- ما أطرقت و خرزت به- و ریش طراق إذا کان بعضه فوق بعض- و طارق الرجل بین الثوبین- إذا لبس أحدهما علی الآخر- و کل هذا یرجع إلى مفهوم واحد- و هو مظاهره الشی‏ء بعضه بعضا- و یروى المجان المطرقه بتشدید الراء- أی کالترسه المتخذه من حدید مطرق بالمطرقه- .

و السرق شقق الحریر- و قیل لا تسمى سرقا إلا إذا کانت بیضا الواحده سرقه- . و یعتقبون الخیل- أی یجنبونها لینتقلوا من غیرها إلیها- و استحرار القتل شدته استحر و حر بمعنى- قال ابن الزبعری-حیث ألقت بقباء برکها و استحر القتل فی عبد الأشل‏- و المفلت الهارب- . یقول ع إن الأمور المستقبله على قسمین- أحدهما ما تفرد الله تعالى بعلمه- و لم یطلع علیه أحدا من خلقه- و هی الأمور الخمسه المعدوده فی الآیه المذکوره- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَهِ- وَ یُنَزِّلُ الْغَیْثَ وَ یَعْلَمُ ما فِی الْأَرْحامِ- وَ ما تَدْرِی نَفْسٌ ما ذا تَکْسِبُ غَداً- وَ ما تَدْرِی نَفْسٌ بِأَیِّ أَرْضٍ تَمُوتُ-و القسم الثانی ما یعلمه بعض البشر- بإعلام الله تعالى إیاه- و هو ما عدا هذه الخمسه- و الإخبار بملحمه الأتراک من جمله ذلک- . و تضطم علیه جوانحی تفتعل من الضم و هو الجمع- أی یجتمع علیه جوانح صدری- و یروى جوارحی وقد روی أن إنسانا قال لموسى بن جعفر ع- إنی رأیت اللیله فی منامی أنی سألتک- کم بقی من عمری- فرفعت یدک الیمنى- و فتحت أصابعها فی وجهی مشیرا إلی- فلم أعلم خمس سنین أم خمسه أشهر أم خمسه أیام- فقال و لا واحده منهن- بل ذاک إشاره إلى الغیوب الخمسه- التی استأثر الله تعالى بها فی قوله- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَهِ الآیه- .

فإن قلت لم ضحک ع- لما قال له الرجل لقد أوتیت علم الغیب- و هل هذا إلا زهو فی النفس و عجب بالحال- قلت قد روی أن رسول الله ص- ضحک فی مناسب هذه الحال- لما استسقى فسقی و أشرف درور المطر- فقام إلیه الناس- فسألوه أن یسأل الله تعالى أن یحبسه عنهم فدعا- و أشار بیده إلى السحاب- فانجاب حول المدینه کالإکلیل- و هو ع یخطب على المنبر- فضحک حتى بدت نواجده- و قال أشهد أنی رسول الله- و سر هذا الأمر أن النبی أو الولی- إذا تحدث عنده نعمه الله سبحانه- أو عرف الناس وجاهته عند الله- فلا بد أن یسر بذلک- و قد یحدث الضحک من السرور- و لیس ذلک بمذموم إذا خلا من التیه و العجب- و کان محض السرور و الابتهاج- و قد قال تعالى فی صفه أولیائه- فَرِحِینَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ- . فإن قلت فإن من جمله الخمسه- وَ ما تَدْرِی نَفْسٌ ما ذا تَکْسِبُ غَداً- و قد أعلم‏الله تعالى نبیه بأمور یکسبها فی غده- نحو قوله ستفتح مکه- و أعلم نبیه وصیه ع بما یکسبه فی غده- نحو قوله له ستقاتل بعدی الناکثین الخبر- . قلت المراد بالآیه- أنه لا تدری نفس جمیع ما تکسبه فی مستقبل زمانها- و ذلک لا ینفی جواز أن یعلم الإنسان- بعض ما یکسبه فی مستقبل زمانه

فصل فی ذکر جنکزخان و فتنه التتر

و اعلم أن هذا الغیب الذی أخبر ع عنه- قد رأیناه نحن عیانا و وقع فی زماننا- و کان الناس ینتظرونه من أول الإسلام- حتى ساقه القضاء و القدر إلى عصرنا- و هم التتار الذین خرجوا من أقاصی المشرق- حتى وردت خیلهم العراق و الشام- و فعلوا بملوک الخطا و قفجاق- و ببلاد ما وراء النهر و بخراسان- و ما والاها من بلاد العجم- ما لم تحتو التواریخ منذ خلق الله آدم- إلى عصرنا هذا على مثله- فإن بابک الخرمی لم تکن نکایته- و إن طالت مدته نحو عشرین سنه- إلا فی إقلیم واحد و هو أذربیجان- و هؤلاء دوخوا المشرق کله- و تعدت نکایتهم إلى بلاد أرمینیه و إلى الشام- و وردت خیلهم إلى العراق-

و بخت‏نصر الذی قتل الیهود إنما أخرب بیت المقدس- و قتل من کان بالشام من بنی إسرائیل- و أی نسبه بین من کان بالبیت المقدس- من بنی إسرائیل إلى البلاد و الأمصار التی أخربها هؤلاء- و إلى الناس الذین قتلوهم من المسلمین و غیرهم-و نحن نذکر طرفا من أخبارهم- و ابتداء ظهورهم على سبیل الاختصار- فنقول إنا على کثره اشتغالنا بالتواریخ- و بالکتب المتضمنه أصناف الأمم- لم نجد ذکر هذه الأمه أصلا- و لکنا وجدنا ذکر أصناف الترک- من القفجاق و الیمک و البرلو- و التفریه و الیتبه و الروس- و الخطا و القرغز و الترکمان- و لم یمر بنا فی کتاب ذکر هذه الأمه سوى کتاب واحد- و هو کتاب مروج الذهب للمسعودی- فإنه ذکرهم هکذا بهذا اللفظ التتر- و الناس الیوم یقولون التتار بألف- و هذه الأمه کانت فی أقاصی بلاد المشرق- فی جبال طمغاج من حدود الصین- و بینهم و بین بلاد الإسلام التی ما وراء النهر- ما یزید على مسیر سته أشهر- و قد کان خوارزمشاه و هو محمد بن تکش- استولى على بلاد ما وراء النهر- و قتل ملوکها من الخطا الذین کانوا ببخارى و سمرقند و بلاد ترکستان- نحو کاشغر و بلاساغون- و أفناهم و کانوا حجابا بینه و بین هذه الأمه- و شحن هذه البلاد بقواده و جنوده- و کان فی ذلک غالطا- لأن ملوک الخطا کانوا وقایه له و مجنا من هؤلاء- فلما أفناهم صار هو المتولی لحرب هؤلاء أو سلمهم- فأساء قواده و أمراؤه الذین بترکستان السیره معهم- و سدوا طرق التجاره عنهم- فانتدبت منهم طائفه نحو عشرین ألفا مجتمعه- کل بیت منها له رئیس مفرد فهم متساندون- و خرجوا إلى بلاد ترکستان- فأوقعوا بقواد خوارزمشاه و عماله هناک و ملکوا البلاد- و تراجع من بقی من عسکر خوارزمشاه- و سلم من سیف التتار إلى خوارزمشاه- فأغضى على ذلک- و رأى أن سعه ملکه تمنعه- عن مباشره حربهم بنفسه- و أن غیره من قواده لا یقوم مقامه فی ذلک- و ترک بلاد ترکستان لهم- و استقر الأمر على أن ترکستان لهم- و ما عداها من بلاد ما وراء النهر- کسمرقند و بخارى و غیرهما لخوارزمشاه- فمکثوا کذلک نحو أربع سنین- .

ثم إن المعروف بجنکزخان و الناس یلفظونه بالراء- و ذکر لی جماعه من أهل المعرفه بأحوال التتر- أنه جنکز بالزای المعجمه- عن له رأی فی النهوض إلى بلاد ترکستان- و ذلک أن جنکزخان هذا- هو رئیس التتار الأقصین فی المشرق و ابن رئیسهم- و ما زال سلفه رؤساء تلک الجهه- و کان شجاعا عاقلا موفقا منصورا فی الحرب- و إنما عن له هذا الرأی- لأنه رأى أن طائفه من التتار لا ملک لهم- و إنما یقوم بکل فرقه منهم مدبر لها من أنفسها- قد نهضت فملکت بلاد ترکستان على جلالتها- غار من ذلک و أراد الرئاسه العامه لنفسه- و أحب الملک و طمع فی البلاد- فنهض بمن معه من أقاصی الصین- حتى صار إلى حدود أعمال ترکستان- فحاربه التتار الذین هناک- و منعوه عن تطرق البلاد- فلم یکن لهم به طاقه- و هزمهم و قتل کثیرا منهم- و ملک بلاد ترکستان بأجمعها- و صار کالمجاور لبلاد خوارزمشاه- و إن کان بینهما مسافه بعیده- و صار بینه و بین خوارزمشاه سلم و مهادنه- إلا أنها هدنه على دخن- .

فمکثت الحال على ذلک یسیرا- ثم فسدت بما کان یصل إلى خوارزمشاه- على ألسنه التجار من الأخبار- و أن جنکزخان على عزم النهوض إلى سمرقند و ما یلیها- و أنه فی التأهب و الاستعداد- فلو داراه لکان أولى له- لکنه شرع فسد طرق التجار القاصدین إلیهم- فتعذرت علیهم الکسوات- و منع عنهم المیره و الأقوات التی تجلب و تحمل- من أعمال ما وراء النهر إلى ترکستان- فلو اقتنع بذلک لکان قریبا- لکنه أنهى إلیه نائبه بالمدینه المعروفه بأوتران- و هی آخر ولایته بما وراء النهر- أن جنکزخان قد سیر جماعه من تجار التتار- و معهم شی‏ء عظیم من الفضه إلى سمرقند- لیشتروا له و لأهله و بنی عمه کسوه و ثیابا و غیر ذلک- .

فبعث إلیه خوارزمشاه یأمره بقتل أولئک التجار- و أخذ ما معهم من الفضه و إنفاذها إلیه- فقتلهم و سیر إلیه الفضه- و کان ذلک شیئا کثیرا جدا- ففرقه خوارزمشاه على تجار سمرقند و بخارى- و أخذ ثمنه منهم لنفسه- ثم علم أنه قد أخطأ- فأرسل إلى نائبه بأوتران- یأمره أن ینفذ جواسیس من عنده إلیهم- لیخبروه بعدتهم فمضت الجواسیس- و سلکت مفاوز و جبالا کثیره- و عادوا إلیه بعد مده- فأخبروه بکثره عددهم- و أنهم لا یبلغهم الإحصاء و لا یدرکهم- و أنهم من أصبر الناس على القتال لا یعرفون الفرار- و یعملون ما یحتاجون إلیه من السلاح بأیدیهم- و أن خیلهم لا تحتاج إلى الشعیر- بل تأکل نبات الأرض و عروق المراعی- و أن عندهم من الخیل و البقر ما لا یحصى- و أنهم یأکلون المیته و الکلاب و الخنازیر- و هم أصبر خلق الله على الجوع و العطش و الشقاء- و ثیابهم من أخشن الثیاب مسا- و منهم من یلبس جلود الکلاب و الدواب المیته- و أنهم أشبه شی‏ء بالوحش و السباع- .

فأنهی ذلک کله إلى خوارزمشاه- فندم على قتل أصحابهم- و على خرق الحجاب بینه و بینهم و أخذ أموالهم- و غلب علیه الفکر و الوجل- فأحضر الشهاب الخیوفی- و هو فقیه فاضل کبیر المحل عنده- لا یخالف ما یشیر به- فقال له قد حدث أمر عظیم لا بد من الفکر فیه- و إجاله الرأی فیما نفعل- و ذلک أنه قد تحرک إلینا خصم- من الترک فی عدد لا یحصى- فقال له عساکرک کثیره- و تکاتب الأطراف و تجمع الجنود- و یکون من ذلک نفیر عام- فإنه یجب على المسلمین کافه مساعدتک بالأموال و الرجال- ثم تذهب بجمیع العساکر إلى جانب سیحون- و هو نهر کبیر یفصل بین بلاد الترک- و بین بلاد خوارزمشاه فتکون هناک- فإذا جاء العدو و قد سار مسافه بعیده- لقیناه و نحن جامون مستریحون- و قد مسه و عساکره النصب و اللغوب- .

فجمع خوارزمشاه أمراءه- و من عنده من أرباب المشوره فاستشارهم- فقالوا لا بل الرأی أن نترکهم لیعبروا سیحون إلینا- و یسلکوا هذه الجبال و المضایق- فإنهم جاهلون بطرقها و نحن عارفون بها- فنظهر علیهم و نهلکهم عن آخرهم- . فکانوا على ذلک حتى وصل رسول- من جنکزخان و معه جماعه- یتهدد خوارزمشاه- و یقول تقتل أصحابی و تجاری- و تأخذ مالی منهم استعد للحرب- فإنی واصل إلیک بجمع لا قبل لک به- . فلما أدى هذه الرساله إلى خوارزمشاه- أمر بقتل الرسول فقتل- و حلق لحى الجماعه الذین کانوا معه- و أعادهم إلى صاحبهم جنکزخان- لیخبروه بما فعل بالرسول و یقولوا له- إن خوارزمشاه یقول لک إنی سائر إلیک- فلا حاجه لک أن تسیر إلی- فلو کنت فی آخر الدنیا لطلبتک حتى أقتلک- و أفعل بک و بأصحابک ما فعلت برسلک- .

و تجهز خوارزمشاه و سار بعد نفوذ الرسول- مبادرا لسبق خبره- و یکبس التتار على غره- فقطع مسیره أربعه أشهر فی شهر واحد- و وصل إلى بیوتهم و خرکاواتهم- فلم یر فیها إلا النساء و الصبیان و الأثقال- فأوقع بهم و غنم الجمیع و سبى النساء و الذریه- . و کان سبب غیبوبه التتار عن بیوتهم- أنهم ساروا إلى محاربه ملک من ملوک الترک- یقال له کشلوخان فقاتلوه فهزموه- و غنموا أمواله و عادوا- فلقیهم الخبر فی طریقهم بما فعل خوارزمشاه بمخلفیهم- فأغذوا السیر فأدرکوه- و هو على الخروج من بیوتهم‏بعد فراغه من الغنیمه- فواقعوه و تصافوا للحرب ثلاثه أیام بلیالیها- لا یفترون نهارا و لا لیلا- فقتل من الفریقین ما لا یعد- و لم ینهزم منهم أحد- .

أما المسلمون فصبروا حمیه للدین- و علموا أنهم إن انهزموا لم یبق للإسلام باقیه- ثم إنهم لا ینجون بل یؤخذون و یؤسرون- لبعدهم عن بلاد یمتنعون بها- و أما التتار فصبروا لاستنقاذ أموالهم و أهلهم- و اشتد الخطب بین الطائفتین- حتى أن أحدهم کان ینزل عن فرسه- و یقاتل قرنه راجلا مضاربه بالسکاکین- و جرى الدم على الأرض- حتى کانت الخیل تزلق فیه لکثرته- و لم یحضر جنکزخان بنفسه هذه الوقعه- و إنما کان فیها قاآن ولده- فأحصی من قتل من المسلمین- فکانوا عشرین ألفا- و لم یحص عده من قتل من التتار- .

فلما جاءت اللیله الرابعه افترقوا- فنزل بعضهم مقابل بعض- فلما أظلم اللیل أوقد التتار نیرانهم و ترکوها بحالها- و ساروا راجعین إلى جنکزخان ملکهم- و أما المسلمون فرجعوا و معهم محمد خوارزمشاه- فلم یزالوا سائرین حتى وافوا بخارى- و علم خوارزمشاه أنه لا طاقه له بجنکزخان- لأن طائفه من عسکره لم یلقوا خوارزمشاه- بجمیع عساکره بهم- فکیف إذا حشدوا و جاءوا على بکره أبیهم- و ملکهم جنکزخان بینهم- . فاستعد للحصار و أرسل إلى سمرقند- یأمر قواده المقیمین بها بالاستعداد للحصار- و جمع الذخائر للامتناع و المقام من وراء الأسوار- و جعل فی بخارى عشرین ألف فارس یحمونها- و فی سمرقند خمسین ألفا- و تقدم إلیهم بحفظ البلاد حتى یعبر هو إلى خوارزم و خراسان- فیجمع العساکر- و یستنجد بالمسلمین و الغزاه المطوعه و یعود إلیهم- .

ثم رحل إلى خراسان فعبر جیحون- و کانت هذه الوقعه فی سنه ست عشره و ستمائه- فنزل بالقرب من بلخ- فعسکر هناک و استنفر الناس- . و أما التتار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا- یطلبون بلاد ما وراء النهر- فوصلوا إلى بخارى بعد خمسه أشهر- من رحیل خوارزمشاه عنها و حصروها- فقاتلوا العسکر المرابط بها ثلاثه أیام قتالا متتابعا- فلم یکن للعسکر الخوارزمی بهم قوه- ففتحوا أبواب المدینه لیلا- و خرجوا بأجمعهم عائدین إلى خراسان- فأصبح أهل بخارى و لیس عندهم من العسکر أحد أصلا- فضعفت نفوسهم- فأرسلوا قاضی بخارى لیطلب الأمان للرعیه- فأعطاه التتار الأمان- و قد کان بقی فی قلعه بخارى خاصه طائفه- من عسکر خوارزمشاه معتصمون بها- .

فلما رأى أهل بخارى بذلهم للأمان- فتحوا أبواب المدینه- و ذلک فی رابع ذی الحجه من سنه ست عشره و ستمائه- فدخل التتار بخارى- و لم یتعرضوا لأحد من الرعیه بل قالوا لهم- کل ما لخوارزمشاه عندکم- من ودیعه أو ذخیره أخرجوه إلینا- و ساعدونا على قتال من بالقلعه- و لا بأس علیکم- و أظهروا فیهم العدل و حسن السیره- و دخل جنکزخان بنفسه إلى البلد- و أحاط بالقلعه و نادى منادیه فی البلدان- لا یتخلف أحد و من تخلف قتل- فحضر الناس بأسرهم- فأمرهم بطم الخندق- فطموه بالأخشاب و الأحطاب و التراب- ثم زحفوا نحو القلعه- و کان عده من بها من الجند الخوارزمیه أربعمائه إنسان- فبذلوا جهدهم- و منعوا القلعه عشره أیام- إلى أن وصل النقابون إلى سور القلعه- فنقبوه و دخلوا القلعه- فقتلوا کل من بها من الجند و غیرهم- .

فلما فرغوا منها أمر جنکزخان- أن یکتب له وجوه البلد و رؤساؤهم ففعل ذلک- فلما عرضوا علیه أمر بإحضارهم فأحضروا- فقال لهم أرید منکم الفضه النقره- التی باعها إیاکم خوارزمشاه- فإنها لی و من أصحابی أخذت- فکان کل من عنده شی‏ء منها یحضره- فلما فرغ من ذلک أمرهم- بالخروج عن البلد بأنفسهم خاصه- فخرجوا مجردین عن أموالهم- لیس مع کل واحد منهم- إلا ثیابه التی على جسده- فأمر بقتلهم فقتلوا عن آخرهم- و أمر حینئذ بنهب البلد فنهب کل ما فیه- و سبیت النساء و الأطفال- و عذبوا الناس بأنواع العذاب فی طلب المال- ثم رحلوا عنه نحو سمرقند- و قد تحققوا عجز خوارزمشاه عنهم- و استصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى- أسارى مشاه على أقبح صوره- و کل من أعیا و عجز عن المشی قتلوه- .

فلما قاربوا سمرقند قدموا الخیاله- و ترکوا الرجاله و الأسارى و الأثقال وراءهم- حتى یلتحقوا بهم شیئا فشیئا- لیرعبوا قلوب أهل البلد- فلما رأى أهل سمرقند سوادهم استعظموهم- فلما کان الیوم الثانی وصل الأسارى- و الرجاله و الأثقال- و مع کل عشره من الأسارى علم- فظن أهل البلد أن الجمیع عسکر مقاتله- فأحاطوا بسمرقند- و فیها خمسون ألفا من الخوارزمیه- و ما لا یحصى کثره من عوام البلد- فأحجم العسکر الخوارزمی عن الخروج إلیهم- و خرجت العامه بالسلاح- فأطمعهم التتار فی أنفسهم- و قهقروا عنهم و قد کمنوا لهم کمناء- فلما جاوزوا الکمین- خرج علیهم من ورائهم- و شد علیهم من ورائهم جمهور التتار- فقتلوهم عن آخرهم- .

فلما رأى من تخلف بالبلد ذلک- ضعفت قلوبهم- و خیلت للجند الخوارزمی أنفسهم-أنهم إن استأمنوا إلى التتار أبقوا علیهم- للمشارکه فی جنسیه الترکیه- فخرجوا بأموالهم و أهلیهم إلیهم مستأمنین- فأخذوا سلاحهم و خیلهم- ثم وضعوا السیف فیهم- فقتلوهم کلهم ثم نادوا فی البلد- برئت الذمه ممن لم یخرج و من خرج فهو آمن- فخرج الناس إلیهم بأجمعهم- فاختلطوا علیهم و وضعوا فیهم السیف- و عذبوا الأغنیاء منهم- و استصفوا أموالهم و دخلوا سمرقند- فأخربوها و نقضوا دورها- و کانت هذه الوقعه فی المحرم سنه سبع عشره و ستمائه- .

و کان خوارزمشاه مقیما بمنزله الأول- کلما اجتمع له جیش سیره إلى سمرقند- فیرجع و لا یقدم على الوصول إلیها- فلما قضوا وطرا من سمرقند- سیر جنکزخان عشرین ألف فارس- و قال لهم اطلبوا خوارزمشاه أین کان- و لو تعلق بالسماء حتى تدرکوه و تأخذوه- و هذه الطائفه تسمیها التتار المغربه- لأنها سارت نحو غرب خراسان- و هم الذین أوغلوا فی البلاد- و مقدمهم جرماغون نسیب جنکزخان- . و حکی أن جنکزخان کان قد أمر على هذا الجیش- ابن عم له شدید الاختصاص به- یقال له متکلى‏نویره و أمره بالجد و سرعه المسیر- فلما ودعه عطف متکلى‏نویره هذا- فدخل إلى خرکاه- فیها امرأه له کان یهواها لیودعها- فاتصل ذلک بجنکزخان- فصرفه فی تلک الساعه عن إماره الجیش-

و قال من یثنی عزمه امرأه لا یصلح لقیاده الجیوش- و رتب مکانه جرماغون- فساروا و قصدوا من جیحون موضعا- یسمى بنج‏آب أی خمسه میاه و هو یمنع العبور- فلم یجدوا به سفنا- فعملوا من الخشب مثل الأحواض الکبار- و لبسوه جلود البقر و وضعوا فیه أسلحتهم- و أقحموا خیولهم الماء و أمسکوا بأذنابها-و تلک الأحواض مشدوده إلیها- فکان الفرس یجذب الرجل- و الرجل یجذب الحوض- فعبروا کلهم ذلک الماء دفعه واحده- فلم یشعر خوارزمشاه بهم- إلا و هم معه على أرض واحده- و کان جیشه قد ملئ رعبا منهم- فلم یقدروا على الثبات- فتفرقوا أیدی سبأ و طلب کل فریق منهم جهه- و رحل خوارزمشاه فی نفر من خواصه- لا یلوی على شی‏ء و قصد نیسابور- فلما دخلها اجتمع علیه بعض عسکره فلم یستقر- حتى وصل جرماغون إلیه- و کان لا یتعرض فی مسیره بنهب و لا قتل- بل یطوی المنازل طیا- یطلب خوارزمشاه و لا یمهله لیجمع عسکرا- فلما عرف قرب التتار منه- هرب من نیسابور إلى مازندران- فدخلها و رحل جرماغون خلفه- و لم یعرج على نیسابور- بل قصد مازندران- فخرج خوارزمشاه عنها- فکان کلما رحل عن منزل نزله التتار- حتى وصل إلى بحر طبرستان- فنزل هو و أصحابه فی سفن- و وصل التتار فلما عرفوا نزوله البحر رجعوا و أیسوا منه- .

و هؤلاء الذین ملکوا عراق العجم و أذربیجان- فأقاموا بناحیه تبریز إلى یومنا هذا- . ثم اختلف فی أمر خوارزمشاه- فقوم یحکون أنه أقام بقلعه له- فی بحر طبرستان منیعه فتوفی بها- و قوم یحکون أنه غرق فی البحر- و قوم یحکون أنه غرق و نجا عریانا- فصعد إلى قریه من قرى طبرستان فعرفه أهلها- فجاءوا و قبلوا الأرض بین یدیه- و أعلموا عاملهم به فجاء إلیه و خدمه- فقال له خوارزمشاه- احملنی فی مرکب إلى الهند- فحمله إلى شمس الدین أنلیمش ملک الهند- و هو نسیبه من جهه زوجته- والده منکبونی بن خوارزمشاه الملک جلال الدین- فإنها هندیه من أهل بیت الملک- فیقال إنه وصل إلى أنلیمش- و قد تغیرعقله مما اعتراه من خوف التتار- أو لأمر سلطه الله تعالى علیه- فکان یهذی بالتتار بکره و عشیه- و کل وقت و کل ساعه- و یقول هو ذا هم قد خرجوا من هذا الباب- قد هجموا من هذه الدرجه- و یرعد و یحول لونه و یختل کلامه و حرکاته- . و حکى لی فقیه خراسانی- وصل إلى بغداد یعرف بالبرهان- قال کان أخی معه و کان ممن یثق خوارزمشاه به و یختصه- قال لهج خوارزمشاه لما تغیر عقله بکلمه- کان یقولها قرا تتر کلدی یکررها- و تفسیرها التتر السود قد جاءوا- و فی التتر صنف سود یشبهون الزنج- لهم سیوف عریضه جدا على غیر صوره هذه السیوف- یأکلون لحوم الناس- فکان خوارزمشاه قد أهتر و أغری بذکرهم- .

و حدثنی البرهان قال رقی به شمس الدین أنلیمش إلى قلعه- من قلاع الهند حصینه عالیه شاهقه لا یعلوها الغیم أبدا- و إنما تمطر السحب من تحتها- و قال له هذه القلعه لک و ذخائرها أموالک- فکن فیها وادعا آمنا إلى أن یستقیم طالعک- فالملوک ما زالوا هکذا- یدبر طالعهم ثم یقبل- فقال له لا أقدر على الثبات فیها و المقام بها- لأن التتر سوف یطلبوننی- و یقدمون إلى هاهنا- و لو شاءوا لوضعوا سروج خیلهم- واحدا على واحد تحت القلعه- فبلغت إلى ذروتها و صعدوا علیها- فأخذونی قبضا بالید- فعلم أنلیمش أن عقله قد تغیر- و أن الله تعالى قد بدل ما به من نعمه- فقال فما الذی ترید- قال أرید أن تحملنی فی البحر المعروف ببحر المعبر إلى کرمان- فحمله فی نفر یسیر من ممالیکه إلى کرمان- ثم خرج منها إلى أطراف بلاد فارس- فمات هناک فی قریه من قرى فارس- و أخفی موته لئلا یقصده التتر و تطلب جثته- .

و جمله الأمر أن حاله مشتبهه ملتبسه- لم یتحقق على یقین- و بقی الناس بعد هلاکه نحو سبع سنین ینتظرونه- . و یذهب کثیر منهم إلى أنه حی مستتر- إلى أن ثبت عند الناس کافه أنه هلک- . فأما جرماغون- فإنه لما یئس من الظفر بخوارزمشاه- عاد من ساحل البحر إلى مازندران- فملکها فی أسرع وقت- مع حصانتها و صعوبه الدخول إلیها و امتناع قلاعها- فإنها لم تزل ممتنعه على قدیم الوقت- حتى أن المسلمین لما ملکوا بلاد الأکاسره- من العراق إلى أقصى خراسان- بقیت أعمال مازندران بحالها تؤدی الخراج- و لا یقدر المسلمون على دخولها- إلى أیام سلیمان بن عبد الملک- . و لما ملکت التتار مازندران- قتلوا فیها و نهبوا و سلبوا- ثم سلکوا نحو الری- فصادفوا فی الطریق والده خوارزمشاه و نساءه- و معهن أموال بیت خوارزمشاه و ذخائرهم- التی ما لا یسمع بمثلها من الأعلاق النفیسه- و هن قاصدات نحو الری- لیعتصمن ببعض القلاع المنیعه- فاستولى التتار علیهن و على ما معهن بأسره- و سیروه کله إلى جنکزخان بسمرقند- و صمدوا صمد الری- و قد کان اتصل بهم- أن محمدا خوارزمشاه قصدها- کما یتسامع الناس بالأراجیف الصحیحه و الباطله- فوصلوها على حین غفله من أهلها- فلم یشعر بهم عسکر الری- إلا و قد ملکوها و نهبوها و سبوا الحرم- و استرقوا الغلمان و فعلوا کل قبیح منکر فیها- و لم یقیموا بها- و مضوا مسرعین فی طلب خوارزمشاه- فنهبوا فی طریقهم ما مروا به من المدن و القرى- و أحرقوا و خربوا- و قتلوا الذکران و الإناث- و لم یبقوا على شی‏ء و قصدوا نحو همذان- فخرج إلیهم رئیسها- و معه أموال جلیله قد جمعها من أهل همذان- عینا و عروضا و خیلا- و طلب منهم الأمان لأهل البلد- فأمنوهم و لم یعرضوا لهم و ساروا إلى زنجان و استباحوها- و إلى قزوین فاعتصم أهلها منهم بقصبه مدینتهم- فدخلوها بالسیف عنوه- و قاتلهم أهلها قتالا شدیدا بالسکاکین- و هم معتادون بقتال السکین من حروبهم مع الإسماعیلیه- فقتل من الفریقین ما لا یحصى-

و یقال إن القتلى بلغت أربعین ألفا من أهل قزوین خاصه- . ثم هجم على التتار البرد الشدید و الثلج المتراکم- فساروا إلى أذربیجان فنهبوا القرى- و قتلوا من وقف بین أیدیهم- و أخربوا و أحرقوا- حتى وصلوا إلى تبریز- و بها صاحب أذربیجان أزبک بن البهلوان بن أیلدکر- فلم یخرج إلیهم و لا حدث نفسه بقتالهم- لاشتغاله بما کان علیه من اللهو- و إدمان الشرب لیلا و نهارا- فأرسل إلیهم و صالح لهم على مال و ثیاب و دواب- و حمل الجمیع إلیهم- فساروا من عنده یطلبون ساحل البحر- لأنه مشتى صالح لهم و المراعی به کثیره- فوصلوا إلى موقان- و هی المنزل الذی نزلته الخرمیه فی أیام المعتصم- و قد ذکره الطائیان فی أشعارهما فی غیر موضع- و الناس الیوم یقولون بالغین المعجمه عوض القاف- و قد کانوا تطرقوا فی طریقهم بعض أعمال الکرج- فخرج إلیهم منهم عشره آلاف مقاتل- فحاربوهم و هزموهم و قتلوا أکثرهم- . فلما استقروا بموقان- راسلت الکرج أزبک بن البهلوان- فی الاتفاق على حربهم- و راسلوا موسى بن أیوب المعروف بالأشرف- و کان صاحب خلاط و إرمینیه بمثل ذلک- و ظنوا أنهم یصبرون إلى أیام الربیع و انحسار الثلوج- فلم یصبروا و صاروا من موقان فی صمیم الشتاء نحو بلاد الکرج- فخرجت إلیهم الکرج- و اقتتلوا قتالا شدیدا فلم یثبتوا للتتار- و انهزموا أقبح هزیمه- و قتل منهم من لا یحصى- فکانت هذه الوقعه فی ذی الحجه- من سنه سبع عشره و ستمائه- .

ثم توجهوا إلى المراغه فی أول سنه ثمانی عشره- فملکوها فی صفر- و کانت لامرأه من بقایا ملوک المراغه تدبرها هی و وزراؤها- فنصبوا علیها المجانیق- و قدموا أسارى المسلمین بین أیدیهم- و هذه عادتهم یتترسون بهم فی الحروب- فیصیبهم حدها و یسلمون هم من مضرتها- فملکوها عنوه و وضعوا السیف فی أهلها- و نهبوا ما یصلح لهم و أحرقوا ما لا یصلح لهم- و خذل الناس عنهم- حتى کان الواحد منهم یقتل بیده مائه إنسان- و السیوف فی أیدیهم لا یقدر أحد منهم- أن یحرک یده بسیفه نحو ذلک التتری- خذلان صب على الناس و أمر سمائی اقتضاه- .

ثم عادوا إلى همذان- فطالبوا أهلها بمثل المال الذی بذلوه لهم فی الدفعه الأولى- فلم یکن فی الناس فضل لذلک- لأنه کان عظیما جدا- فقام إلى رئیس همذان جماعه من أهلها- و أسمعوه کلاما غلیظا- فقالوا أفقرتنا أولا- و ترید أن تستصفینا دفعه ثانیه- ثم لا بد للتتار أن یقتلونا- فدعنا نجاهدهم بالسیف و نموت کراما- ثم وثبوا على شحنه کان للتتار بهمذان فقتلوه- و اعتصموا بالبلد فحصرهم التتار فیه- فقلت علیهم المیره و عدمت الأقوات- و أضر ذلک بأهل همذان- و لم ینل التتار مضره من عدم القوت- لأنهم لا یأکلون إلا اللحم و الخیل معهم کثیره- و معهم غنم عظیمه یسوقونها حیث شاءوا- و خیلهم لا تأکل الشعیر و لا تأکل إلا نبات الأرض- تحفر بحوافرها الأرض عن العروق فتأکلها- .

فاضطر رئیس همذان و أهلها إلى الخروج إلیهم- فخرجوا و التحمت الحرب بینهم أیاما- و فقد رئیس همذان- هرب فی سرب قد کان أعده- إلى موضع اعتصم به ظاهر البلد- و لم یعلم حقیقه حاله- فتحیر أهل همذان بعد فقده و دخلوا المدینه- و اجتمعت کلمتهم على القتال فی قصبه البلد إلى أن یموتوا- و کان التتار قد عزموا على الرحیل عنهم- لکثره من قتل منهم- فلما لم یروا أحدا یخرج إلیهم من البلد- طمعوا و استدلوا على ضعف أهله- فقصدوهم و قاتلوهم-و ذلک فی شهر رجب من سنه ثمانی عشره و ستمائه- و دخلوا المدینه بالسیف- و قاتلهم الناس فی الدروب- و بطل السلاح للازدحام- و اقتتلوا بالسکاکین- فقتل من الفریقین ما لا یحصى- و ظهر التتار على المسلمین فأفنوهم قتلا- و لم یسلم منهم إلا من کان له نفق فی الأرض یستخفی فیه- ثم ألقوا النار فی البلد فأحرقوها- و رحلوا إلى مدینه أردبیل و أعمال أذربیجان- فملکوا أردبیل و قتلوا فیها فأکثروا- .

ثم ساروا إلى تبریز- و کان بها شمس الدین عثمان الطغرائی- قد جمع کلمه أهلها- بعد مفارقه صاحب أذربیجان أزبک بن البهلوان للبلاد- خوفا من التتار و مقامه بنقجوان- فقوى الطغرائی نفوس الناس على الامتناع- و حذرهم عاقبه التخاذل و حصن البلد- فلما وصل التتار- و رأوا اجتماع کلمه المسلمین و حصانه البلد- طلبوا منهم مالا و ثیابا- فاستقر الأمر بینهم على شی‏ء معلوم- فسیروه إلیهم- فلما أخذوه رحلوا إلى بیلقان- فقاتلهم أهلها- فملکها التتار فی شهر رمضان من هذه السنه- و وضعوا فیهم السیف حتى أفنوهم أجمعین- ثم ساروا إلى مدینه کنجه- و هی أم بلاد أران- و أهلها ذوو شجاعه و بأس و جلد- لمقاومتهم الکرج و تدربهم بالحرب- فلم یقدر التتار علیهم- و أرسلوا إلیهم یطلبون مالا و ثیابا فأرسلوه إلیهم- فساروا عنهم فقصدوا الکرج- و قد أعدوا لهم- فلما صافوهم هرب الکرج و أخذهم السیف- فلم یسلم إلا الشرید- و نهبت بلادهم و أخربت- و لم یوغل التتار فی بلاد الکرج- لکثره مضایقها و دربنداتها- فقصدوا دربند شروان- فحصروا مدینه شماخی- و صعدوا سورها فی السلالیم- و ملکوا البلد بعد حرب شدیده- و قتلوا فیه فأکثروا- .

فلما فرغوا أرادوا عبور الدربند- فلم یقدموا علیه- فأرسلوا إلى شروانشاه ملک الدربند- فطالبوه بإنفاذ رسول یسعى بینه و بینهم فی الصلح- فأرسل إلیهم عشره من ثقاته- فلما وصلوا إلیهم جمعوهم- ثم قتلوا واحدا منهم بحضور الباقین- و قالوا للتسعه إن أنتم عرفتمونا طریقا نعبر فیه فلکم الأمان- و إلا قتلناکم کما قتلنا صاحبکم- فقالوا لهم لا طریق فی هذا الدربند- و لکن نعرفکم موضعا- هو أسهل المواضع لعبور الخیل- .

و ساروا بین أیدیهم إلیه- فعبروا الدربند و ترکوه وراء ظهورهم- و ساروا فی تلک البلاد- و هی مملوءه من طرائق مختلفه- منهم اللان و اللکر و أصناف من الترک- فنهبوها و قتلوا الکثیر من ساکنیها- و رحلوا إلى اللان و هم أمم کثیره- و قد وصلهم خبرهم و جمعوا و حذروا- و انضاف إلیهم جموع من قفجاق- فقاتلوهم فلم یظفر أحد العسکرین بالآخر- فأرسل التتار إلى قفجاق- أنتم إخواننا و جنسنا واحد- و اللان لیسوا من جنسکم لتنصروهم- و لا دینهم دینکم- و نحن نعاهدکم ألا نعرض لکم- و نحمل إلیکم من المال- و الثیاب ما یستقر بیننا و بینکم- على أن تنصرفوا إلى بلادکم- .

فاستقر الأمر بینهم على مال و ثیاب- حملها التتار إلیهم- و فارقت قفجاق اللان- فأوقع التتار باللان فقتلوهم- و نهبوا أموالهم و سبوا نساءهم- فلما فرغوا منهم ساروا إلى بلاد قفجاق- و هم آمنون متفرقون- لما استقر بینهم و بین التتار من الصلح- فلم یشعروا بهم إلا و قد طرقوهم- و دخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول- و أخذوا منهم أضعاف ما حملوا إلیهم- و سمع ما کان بعید الدار من قفجاق بما جرى- .
ففروا عن غیر قتال فأبعدوا- فبعضهم بالغیاض و بعضهم بالجبال- و بعضهم لحقوا ببلاد الروس- و أقام التتار فی بلاد قفجاق- و هی أرض کثیره المراعی فی الشتاء- و فیها أیضا أماکن بارده فی الصیف کثیره المراعی- و هی غیاض على ساحل البحر- .

ثم سارت طائفه منهم إلى بلاد الروس- و هی بلاد کثیره عظیمه و أهلها نصارى- و ذلک فی سنه عشرین و ستمائه- فاجتمع الروس و قفجاق عن منعهم عن البلاد- فلما قاربهم التتار و عرفوا اجتماعهم- رجعوا القهقرى إیهاما للروس- أن ذلک عن خوف و حذر- فجدوا فی اتباعهم- و لم یزل التتار راجعین- و أولئک یقفون آثارهم اثنی عشر یوما- .

ثم رجعت التتار على الروس و قفجاق- فأثخنوا فیهم قتلا و أسرا- و لم یسلم منهم إلا القلیل- و من سلم نزل فی المراکب- و خرج فی البحر إلى الساحل الشامی- و غرق بعض المراکب- . و هذه الوقائع کلها تولاها التتر المغربه- الذین قادهم جرماغون- فأما ملکهم الأکبر جنکزخان- فإنه کان فی هذه المده بسمرقند ما وراء النهر- فقسم أصحابه أقساما- فبعث قسما منهم إلى فرغانه و أعمالها فملکوها- و بعث قسما آخر إلى ترمذ و ما یلیها فملکوها- و بعث قسما آخر إلى بلخ- و ما یلیها من أعمال خراسان- فأما بلخ فإنهم أمنوا أهلها- و لم یتعرضوا لها بنهب و لا قتل- و جعلوا فیها شحنه- و کذلک فاریاب و کثیر من المدن- إلا أنهم أخذوا أهلها- یقاتلون بهم من یمتنع علیهم- حتى وصلوا إلى الطالقان و هی عده بلاد- و فیها قلعه حصینه و بها رجال أنجاد- فأقاموا على حصارها شهورا فلم یفتحوها- فأرسلوا إلى جنکزخان یعرفونه عجزهم عنها- فسار بنفسه و عبر جیحون- و معه من الخلائق ما لا یحصى- فنزل على هذه القلعه- و بنى حولها شبه قلعه أخرى من طین و تراب و خشب و حطب- و نصب علیها المنجنیقات- و رمى القلعه بها فلما رأى أهلها ذلک فتحوها- و خرجوا و حملوا حمله واحده- فقتل منهم من قتل و سلم من سلم- و خرج السالمون فسلکوا تلک الجبال و الشعاب- ناجین بأنفسهم و دخل التتار القلعه- فنهبوا الأموال و الأمتعه- و سبوا النساء و الأطفال- .

ثم سیر جنکزخان جیشا عظیما- مع أحد أولاده إلى مدینه مرو- و بها مائتا ألف من المسلمین- فکانت بین التتار- و بینهم حروب عظیمه شدیده- صبر فیها المسلمون ثم انهزموا- و دخلوا البلد و أغلقوا أبوابه- فحاصره التتار حصارا طویلا- ثم أمنوا متقدم البلد- فلما خرج إلیهم فی الأمان- خلع علیه ابن جنکزخان و أکرمه- و عاهده ألا یتعرض لأحد من أهل مرو- ففتح الناس الأبواب- فلما تمکنوا منهم- استعرضوهم بالسیف عن آخرهم- فلم یبقوا منهم باقیه- بعد أن استصفوا أرباب الأموال- عقیب عذاب شدید عذبوهم به- .

ثم ساروا إلى نیسابور- ففعلوا به ما فعلوا بمرو من القتل و الاستئصال- ثم عمدوا إلى طوس- فنهبوها و قتلوا أهلها- و أخرجوا المشهد الذی به علی بن موسى الرضا ع- و الرشید هارون بن المهدی- و ساروا إلى هراه فحصروها- ثم أمنوا أهلها- فلما فتحوها قتلوا بعضهم- و جعلوا على الباقین شحنه- فلما بعدوا وثب أهل هراه على الشحنه فقتلوه- فعاد علیهم عسکر من التتار- فاستعرضوهم بالسیف- فقتلوهم عن آخرهم- . ثم عادوا إلى طالقان- و بها ملکهم الأکبر جنکزخان- فسیر طائفه منهم إلى خوارزم- و جعل فیها مقدم أصحابه و کبراءهم- لأن خوارزم حینئذ کانت مدینه الملک- و بها عسکر کثیر من الخوارزمیه- و عوام البلد معروفون بالبأس و الشجاعه- فساروا و وصلوا إلیها فالتقى الفئتان- و اقتتلوا أشد قتال سمع به- و دخل المسلمون البلد- و حصرتهم التتار خمسه أشهر- و أرسل التتار إلى جنکزخان یطلبون المدد- فأمدهم بجیش من جیوشه- فلما وصل قویت منتهم به- و زحفوا إلى البلد زحفا متتابعا فملکوا طرفا منه- و ولجوا المدینه فقاتلهم المسلمون داخل البلد- فلم یکن لهم به طاقه- فملکوه و قتلوا کل من فیه- فلما فرغوا منه و قضوا- وطرهم من القتل و النهب- فتحوا السکر الذی یمنعماء جیحون عن خوارزم- فدخل الماء البلد فغرق کله- و انهدمت الأبنیه فبقی بحرا- و لم یسلم من أهل خوارزم أحد البته- فإن غیره من البلاد کان یسلم نفر یسیر من أهلها- و أما خوارزم فمن وقف للسیف قتل- و من استخفى غرقه الماء أو أهلکه الهدم- فأصبحت خوارزم یبابا- .

فلما فرغ التتر من هذه البلاد- سیروا جیشا إلى غزنه- و بها حینئذ جلال الدین منکبری بن محمد خوارزمشاه مالکها- و قد اجتمع إلیه من سلم من عسکر أبیه و غیرهم- فکانوا نحو ستین ألفا- و کان الجیش الذی سار إلیهم التتار اثنی عشر ألفا- فالتقوا فی حدود غزنه- و اقتتلوا قتالا شدیدا ثلاثه أیام- ثم أنزل الله النصر على المسلمین- فانهزم التتر و قتلهم المسلمون- کیف شاءوا و تحیز الناجون منهم إلى الطالقان- و بها جنکزخان و أرسل جلال الدین إلیه رسولا- یطلب منه أن یعین موضعا للحرب- فاتفقوا على أن یکون الحرب بکابل- فأرسل جنکزخان إلیها جیشا- و سار جلال الدین إلیها بنفسه و تصافوا هناک- فکان الظفر للمسلمین- و هرب التتار فالتجئوا إلى الطالقان- و جنکزخان مقیم بها أیضا- و غنم المسلمون منهم غنائم عظیمه- فجرت بینهم فتنه عظیمه فی الغنائم- و ذلک- لأن أمیرا من أمرائهم اسمه بغراق- کان قد أبلی فی حرب التتر هذه- جرت بینه و بین أمیر- یعرف بملک خان نسیب خوارزمشاه مقاوله- أفضت إلى أن قتل أخ لبغراق- فغضب و فارق جلال الدین فی ثلاثین ألفا- فتبعه جلال الدین و استرضاه و استعطفه- فلم یرجع فضعف جانب جلال الدین بذلک- فبینا هو کذلک وصله الخبر- أن جنکزخان قد سار إلیه من الطالقان بنفسه و جیوشه- فعجز عن مقاومته- و علم أنه لا طاقه له به- فسار نحو بلاد الهند و عبر نهر السند- و ترک غزنه شاغره کالفریسه للأسد- فوصل إلیهاجنکزخان فملکها- و قتل أهلها و سبى نساءها- و أخرب القصور و ترکها کأمس الغابر- .

ثم کانت لهم بعد ملک غزنه و استباحتها- وقائع کثیره مع ملوک الروم بنی قلج‏أرسلان- لم یوغلوا فیها فی البلاد- و إنما کانوا یتطرقونها- و ینهبون ما تاخمهم منها- و أذعن لهم ملوک فارس و کرمان و التیز و مکران بالطاعه- و حملوا إلیهم الإتاوه- و لم یبق فی البلاد الناطقه باللسان الأعجمی بلد- إلا حکم فیه سیفهم أو کتابهم- فأکثر البلاد قتلوا أهلها- و سبق السیف فیهم العذل- و الباقی أدى الإتاوه إلیهم رغما- و أعطى الطاعه صاغرا- و رجع جنکزخان إلى ما وراء النهر و توفی هناک- .

و قام بعده ابنه قاآن مقامه- و ثبت جرماغون فی مکانه بأذربیجان- و لم یبق لهم إلا أصبهان- فإنهم نزلوا علیها مرارا- فی سنه سبع و عشرین و ستمائه و حاربهم أهلها- و قتل من الفریقین مقتله عظیمه- و لم یبلغوا منها غرضا- حتى اختلف أهل أصبهان- فی سنه ثلاث و ثلاثین و ستمائه و هم طائفتان- حنفیه و شافعیه- و بینهم حروب متصله و عصبیه ظاهره- فخرج قوم من أصحاب الشافعی- إلى من یجاورهم و یتاخمهم من ممالک التتار- فقالوا لهم اقصدوا البلد حتى نسلمه إلیکم- فنقل ذلک إلى قاآن بن جنکزخان بعد وفاه أبیه- و الملک یومئذ منوط بتدبیره- فأرسل جیوشا من المدینه المستجده- التی بنوها و سموها قراحرم- فعبرت جیحون مغربه- و انضم إلیها قوم ممن أرسله- جرماغون على هیئه المدد لهم- فنزلوا على أصفهان- فی سنه ثلاث و ثلاثین المذکوره و حصروها- فاختلف سیفا الشافعیه و الحنفیه فی المدینه- حتى قتل کثیر منهم- و فتحت أبواب المدینه- و فتحها الشافعیه على عهد بینهم- و بین التتار أن یقتلوا الحنفیه- و یعفوا عن الشافعیه- فلما دخلوا البلد بدءوا بالشافعیه- فقتلوهم قتلا ذریعا- و لم یقفوا مع العهد الذی عهدوه لهم- ثم قتلوا الحنفیه ثم قتلوا سائر الناس- و سبوا النساء و شقوا بطون الحبالى- و نهبوا الأموال و صادروا الأغنیاء- ثم أضرموا النار فأحرقوا أصبهان- حتى صارت تلولا من الرماد- .

فلما لم یبق لهم بلد من بلاد العجم- إلا و قد دوخوه- صمدوا نحو إربل فی سنه أربع و ثلاثین و ستمائه- و قد کانوا طرقوها مرارا- و تحیفوا بعض نواحیها فلم یوغلوا فیها- و الأمیر المرتب بها یومئذ باتکین الرومی- فنزل علیها فی ذی القعده- من هذه السنه منهم نحو ثلاثین ألف فارس- أرسلهم جرماغون- و علیهم مقدم کبیر من رؤسائهم یعرف بجکتای- فغاداها القتال و رواحها- و بها عسکر جم من عساکر الإسلام- فقتل من الفریقین خلق کثیر- و استظهر التتار و دخلوا المدینه- و هرب الناس إلى القلعه- فاعتصموا بها و حصرهم التتار- و طال الحصار حتى هلک الناس فی القلعه عطشا- و طلب باتکین منهم- أن یصالحوه عن المسلمین بمال یؤدیه إلیهم- فأظهروا الإجابه- فلما أرسل إلیهم ما تقرر بینهم و بینه- أخذوا المال و غدروا به- و حملوا على القلعه بعد ذلک حملات عظیمه- و زحفوا إلیها زحفا متتابعا- و علقوا علیها المنجنیقات الکثیره- و سیر المستنصر بالله الخلیفه جیوشه- مع مملوکه و خادم حضرته- و أخص ممالیکه به شرف الدین إقبال الشرامی- فساروا إلى تکریت- فلما عرف التتر شخوصهم رحلوا عن إربل- بعد أن قتلوا منها ما لا یحصى- و أخربوها و ترکوها کجوف حمار- و عادوا إلى تبریز و بها مقام جرماغون- و قد جعلها دار ملکه- .

فلما رحلوا عن إربل- عاد العسکر البغدادی إلى بغداد- و کانت للتتار بعد ذلک نهضات و سرایا کثیره إلى بلاد الشام- قتلوا و نهبوا و سبوا فیها- حتى انتهت خیولهم إلى حلب فأوقعوا بها- و صانعهم عنها أهلها و سلطانها- ثم عمدوا إلى بلاد کیخسرو صاحب الروم- و ذلک بعد أن هلک جرماغون- و قام عوضه المعروف ببابایسیجو- و کانقد جمع لهم ملک الروم قضه و قضیضه- و جیشه و لفیفه- و استکثر من الأکراد العتمریه- و من عساکر الشام و جند حلب- فیقال إنه جمع مائه ألف فارس و راجل- فلقیه التتار فی عشرین ألفا- فجرت بینه و بینهم حروب شدیده- قتلوا فیها مقدمته- و کانت المقدمه کلها أو أکثرها من رجال حلب- و هم أنجاد أبطال فقتلوا عن آخرهم- و انکسر العسکر الرومی- و هرب صاحب الروم حتى انتهى إلى قلعه له- على البحر تعرف بأنطاکیه- فاعتصم بها و تمزقت جموعه- و قتل منهم عدد لا یحصى- و دخلت التتار إلى المدینه المعروفه بقیساریه- ففعلوا فیها أفاعیل منکره- من القتل و النهب و التحریق- و کذلک بالمدینه المعروفه بسیواس و غیرها- من کبار المدن الرومیه- و بخع لهم صاحب الروم بالطاعه- و أرسل إلیهم یسألهم قبول المال و المصانعه- فضربوا علیه ضریبه یؤدیها إلیهم کل سنه- و رجعوا عن بلاده- .

و أقاموا على جمله السکون و الموادعه- للبلاد الإسلامیه کلها- إلى أن دخلت سنه ثلاث و أربعین و ستمائه- فاتفق أن بعض أمراء بغداد- و هو سلیمان بن برجم- و هو مقدم الطائفه المعروفه بالإیواء- و هی من الترکمان قتل شحنه من شحنهم- فی بعض قلاع الجبل یعرف بخلیل بن بدر- فأثار قتله أن سار من تبریز عشره آلاف غلام منهم- یطوون المنازل و یسبقون خبرهم- و مقدمهم المعروف بجکتای الصغیر- فلم یشعر الناس ببغداد إلا و هم على البلد- و ذلک فی شهر ربیع الآخر- من هذه السنه فی فصل الخریف- و قد کان الخلیفه المستعصم بالله- أخرج عسکره إلى ظاهر سور بغداد- على سبیل الاحتیاط- و کان التتر قد بلغهم ذلک إلا أن جواسیسهم غرتهم- و أوقعت فی أذهانهم- أنه لیس خارج السور إلا خیام مضروبه- و فساطیط مضروبه لا رجال تحتها- و أنکم متى أشرفتم علیهم ملکتم سوادهم و ثقلهم- و یکون قصارى أمر قوم قلیلین تحتها- أن ینهزموا إلى البلد- و یعتصموا بجدرانه- فأقبلتالتتر على هذا الظن- و سارت على هذا الوهم- فلما قربوا من بغداد- و شارفوا الوصول إلى المعسکر- أخرج المستعصم بالله الخلیفه مملوکه- و قائد جیوشه شرف الدین إقبالا الشرابی إلى ظاهر السور- و کان خروجه فی ذلک الیوم- من لطف الله تعالى بالمسلمین- فإن التتار لو وصلوا و هو بعد لم یخرج لاضطرب العسکر- لأنهم کانوا یکونون بغیر قائد و لا زعیم- بل کل واحد منهم أمیر نفسه و آراؤهم مختلفه- لا یجمعهم رأی واحد- و لا یحکم علیها حاکم واحد- فکانوا فی مظنه الاختلاف و التفرق- و الاضطراب و التشتت- فکان خروج شرف الدین إقبال الشرابی- فی الیوم السادس عشر من هذا الشهر المذکور- و وصلت التتر إلى سور البلد فی الیوم السابع عشر- فوقفوا بإزاء عساکر بغداد صفا واحدا- و ترتب العسکر البغدادی ترتیبا منتظما- و رأى التتر من کثرتهم- و جوده سلاحهم و عددهم و خیولهم- ما لم یکونوا یظنونه و لا یحسبونه- و انکشف ذلک الوهم- الذی أوهمهم جواسیسهم عن الفساد و البطلان- .

و کان مدبر أمر الدوله و الوزاره فی هذا الوقت- هو الوزیر مؤید الدین محمد بن أحمد بن العلقمی- و لم یحضر الحرب- بل کان ملازما دیوان الخلافه بالحضره- لکنه کان یمد العسکر الإسلامی من آرائه و تدبیراته- بما ینتهون إلیه و یقفون عنده- فحملت التتار على عسکر بغداد حملات متتابعه- ظنوا أن واحده منها تهزمهم- لأنهم قد اعتادوا أنه لا یقف عسکر- من العساکر بین أیدیهم- و أن الرعب و الخوف منهم یکفی- و یغنی عن مباشرتهم الحرب بأنفسهم- فثبت لهم عسکر بغداد أحسن ثبوت- و رشقوهم بالسهام و رشقت التتار أیضا بسهامها- و أنزل الله سکینته على عسکر بغداد- و أنزل بعد السکینه نصره- فما زال العسکر البغدادی تظهر علیه أمارات القوه- و تظهر على التتار أمارات الضعف و الخذلان- إلى أن حجز اللیل بین الفریقین- و لم یصطدم الفیلقان- و إنماکانت مناوشات و حملات خفیفه- لا تقتضی الاتصال و الممازجه- و رشق بالنشاب شدید- .

فلما أظلم اللیل أوقد التتار نیرانا عظیمه- و أوهموا أنهم مقیمون عندها- و ارتحلوا فی اللیل راجعین إلى جهه بلادهم- فأصبح العسکر البغدادی- فلم یر منهم عینا و لا أثرا- و ما زالوا یطوون المنازل- و یقطعون القرى عائدین- حتى دخلوا الدربند و لحقوا ببلادهم- . و کان ما جرى من دلائل النبوه- لأن الرسول ص وعد هذه المله- بالظهور و البقاء إلى یوم القیامه- و لو حدث على بغداد منهم حادثه- کما جرى على غیرها من البلاد- لانقرضت مله الإسلام و لم یبق لها باقیه- . و إلى أن بلغنا من هذا الشرح إلى هذا الموضع- لم یذعر العراق منهم ذاعر بعد تلک النوبه التی قدمنا ذکرها- .

قلت و قد لاح لی من فحوى کلام أمیر المؤمنین ع- أنه لا بأس على بغداد و العراق منهم- و أن الله تعالى یکفی هذه المملکه شرهم- و یرد عنها کیدهم- و ذلک من قوله ع- و یکون هناک استحرار قتل- فأتى بالکاف و هی إذا وقعت عقیب الإشاره أفادت البعد- تقول للقریب هنا و للبعید هناک- و هذا منصوص علیه فی العربیه- و لو کان لهم استحرار قتل فی العراق- لما قال هناک بل کان یقول هنا- لأنه ع خطب بهذه الخطبه فی البصره- و معلوم أن البصره و بغداد شی‏ء واحد و بلد واحد- لأنهما جمیعا من إقلیم العراق- و ملکهما ملک واحد- فیلمح هذا الموضع فإنه لطیف- .

و کتبت إلى مؤید الدین الوزیر- عقیب هذه الوقعه التی نصر فیها الإسلام- و رجع التتر مخذولین ناکصین على أعقابهم- أبیاتا أنسب إلیه الفتح- و أشیر إلى أنه هو الذی قام بذلک- و إن لم یکن حاضرا له بنفسه- و أعتذر إلیه عن الإغباب بمدیحه- فقد کانت الشواغل و القواطع تصد عن الانتصاب لذلک-

أبقى لنا الله الوزیر و حاطه
بکتائب من نصره و مقانب‏

و امتد وارف ظله لنزیله‏
وصفت متون غدیره للشارب‏

یا کالئ الإسلام إذ نزلت به
فرغاء تشهق بالنجیع السالب‏

فی خطه بهماء دیمومیه
لا یهدى فیها السلیک للاحب‏

لا یمتطی سلساتها مرهوبه
الإبساس جلس لا تدر لعاصب‏

فرجت غمرتها بقلب ثابت‏
فی حمله ذعرى و رأی ثاقب‏

ما غبت ذاک الیوم عن تدبیرها
کم حاضر یعصى بسیف الغائب‏

عمر الذی فتح العراق و إنما
سعد حسام فی یمین الضارب‏

أثنی علیک ثناء غیر موارب
و أجید فیک المدح غیر مراقب‏

و أنا الذی یهواک حبا صادقا
متقادما و لرب حب کاذب‏

حبا ملأت به شعاب جوانحی
یفعا و ها أنا ذو عذار شائب‏

إن القریض و إن أغب متیم
بکم و رب مجانب کمواظب‏

و لقد یخالصک القصی و ربما
یمنى بود مماذق متقارب‏

سدت مسالکه هموم جعجعت
بالفکر حتى لا یبض لحالب‏

و من العناء مغلب فی حظه‏
یبغی مغالبه القضاء الغالب‏

– و هی طویله و إنما ذکرنا منها ما اقتضته الحال

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۸

بازدیدها: ۲۸۸

خطبه ۱۲۷ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۲۷ و من کلام له ع قاله للخوارج أیضا

فَإِنْ أَبَیْتُمْ إِلَّا أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّی أَخْطَأْتُ وَ ضَلَلْتُ- فَلِمَ تُضَلِّلُونَ عَامَّهَ أُمَّهِ مُحَمَّدٍ ص بِضَلَالِی- وَ تَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِی- وَ تُکَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبِی- سُیُوفُکُمْ عَلَى عَوَاتِقِکُمْ- تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ الْبُرْءِ وَ السُّقْمِ- وَ تَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ یُذْنِبْ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص رَجَمَ الزَّانِیَ الْمُحْصَنَ- ثُمَّ صَلَّى عَلَیْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ- وَ قَتَلَ الْقَاتِلَ وَ وَرَّثَ مِیرَاثَهُ أَهْلَهُ- وَ قَطَعَ یَدَ السَّارِقِ وَ جَلَدَ الزَّانِیَ غَیْرَ الْمُحْصَنِ- ثُمَّ قَسَمَ عَلَیْهِمَا مِنَ الْفَیْ‏ءِ وَ نَکَحَا الْمُسْلِمَاتِ- فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص بِذُنُوبِهِمْ- وَ أَقَامَ حَقَّ اللَّهِ فِیهِمْ- وَ لَمْ یَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ- وَ لَمْ یُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَیْنِ أَهْلِهِ- ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ- وَ مَنْ رَمَى بِهِ الشَّیْطَانُ مَرَامِیَهُ وَ ضَرَبَ بِهِ تِیهَهُ- وَ سَیَهْلِکُ فِیَّ صِنْفَانِ- مُحِبٌّ مُفْرِطٌ یَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَیْرِ الْحَقِّ- وَ مُبْغِضٌ مُفْرِطٌ یَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَیْرِ الْحَقِّ- وَ خَیْرُ النَّاسِ فِیَّ حَالًا النَّمَطُ الْأَوْسَطُ فَالْزَمُوهُ- وَ الْزَمُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ- فَإِنَّ یَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَهِ- وَ إِیَّاکُمْ وَ الْفُرْقَهَ- فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّیْطَانِ- کَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ- أَلَا مَنْ دَعَا إِلَى هَذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ- وَ لَوْ کَانَ تَحْتَ عِمَامَتِی هَذِهِ- فَإِنَّمَا حُکِّمَ‏ الْحَکَمَانِ لِیُحْیِیَا مَا أَحْیَا الْقُرْآنُ- وَ یُمِیتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ- وَ إِحْیَاؤُهُ الِاجْتِمَاعُ عَلَیْهِ- وَ إِمَاتَتُهُ الِافْتِرَاقُ عَنْهُ- فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَیْهِمْ اتَّبَعْنَاهُمْ- وَ إِنْ جَرَّهُمْ إِلَیْنَا اتَّبَعُونَا- فَلَمْ آتِ لَا أَبَا لَکُمْ بُجْراً- وَ لَا خَتَلْتُکُمْ عَنْ أَمْرِکُمْ- وَ لَا لَبَّسْتُهُ عَلَیْکُمْ- إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْیُ مَلَئِکُمْ عَلَى اخْتِیَارِ رَجُلَیْنِ- أَخَذْنَا عَلَیْهِمَا أَلَّا یَتَعَدَّیَا الْقُرْآنَ فَتَاهَا عَنْهُ- وَ تَرَکَا الْحَقَّ وَ هُمَا یُبْصِرَانِهِ- وَ کَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَیَا عَلَیْهِ- وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَیْهِمَا فِی الْحُکُومَهِ بِالْعَدْلِ- وَ الصَّمْدِ لِلْحَقِّ سُوءَ رَأْیِهِمَا وَ جَوْرَ حُکْمِهِمَا لیس لقائل أن یقول له ع معتذرا عن الخوارج- إنهم إنما ضللوا عامه أمه محمد ص- و حکموا بخطئهم و کفرهم و قتلهم بالسیف خبطا- لأنهم وافقوک فی تصویب التحکیم- و هو عندهم کفر فلم یؤاخذوهم بذنبک کما قلت لهم- و ذلک لأن أمیر المؤمنین ع ما قال هذه المقاله- إلا لمن رأى منهم استعراض العامه- و قتل الأطفال حتى البهائم- فقد کان منهم قوم فعلوا ذلک- و قد سبق منا شرح أفعالهم و وقائعهم بالناس- و قالوا إن الدار دار کفر لا یجوز الکف- عن أحد من أهلها- فهؤلاء هم الذین وجه أمیر المؤمنین ع إلیهم خطابه و إنکاره- دون غیرهم من فرق الخوارج

مذهب الخوارج فی تکفیر أهل الکبائر

و اعلم أن الخوارج کلها تذهب إلى تکفیر أهل الکبائر- و لذلک کفروا علیا ع- و من اتبعه على تصویب التحکیم- و هذا الاحتجاج الذی احتج به علیهم‏لازم و صحیح- لأنه لو کان صاحب الکبیره کافرا- لما صلى علیه رسول الله ص و لا ورثه من المسلم- و لا مکنه من نکاح المسلمات- و لا قسم علیه من الفی‏ء و لأخرجه عن لفظ الإسلام- . و قد احتجت الخوارج لمذهبها بوجوه- منها قوله تعالى- وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ- مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا- وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمِینَ- قالوا فجعل تارک الحج کافرا- . و الجواب أن هذه الآیه مجمله لأنه تعالى لم یبین- وَ مَنْ کَفَرَ بما ذا- فیحتمل أن یرید تارک الحج- و یحتمل أن یرید تارک اعتقاد وجوبه- على من استطاع إلیه سبیلا- فلا بد من الرجوع إلى دلاله- و الظاهر أنه أراد لزوم الکفر لمن کفر- باعتقاد کون الحج غیر واجب أ لا تراه فی أول الآیه قال- وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ- فأنبأ عن اللزوم- ثم قال وَ مَنْ کَفَرَ بلزوم ذلک- و نحن نقول- إن من لم یقل لله على الناس حج البیت فهو کافر- .

و منها قوله تعالى إِنَّهُ لا یَیْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ- إِلَّا الْقَوْمُ الْکافِرُونَ- قالوا و الفاسق لفسقه و إصراره علیه- آیس من روح الله فکان کافرا- . و الجواب أنا لا نسلم أن الفاسق آیس من روح الله- مع تجویزه تلافی أمره بالتوبه و الإقلاع- و إنما یکون الیأس مع القطع و لیس هذه صفه الفاسق- فأما الکافر الذی یجحد الثواب و العقاب- فإنه آیس من روح الله- لأنه لا تخطر له التوبه و الإقلاع- و یقطع على حسن معتقده- .
و منها قوله تعالى- وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ- فَأُولئِکَ هُمُ الْکافِرُونَ- و کل مرتکب للذنوب فقد حکم بغیر ما أنزل الله- و لم یحکم بما أنزل الله- .

و الجواب أن هذا مقصور على الیهود- لأن ذکرهم هو المقدم فی الآیه- قال سبحانه و تعالى سَمَّاعُونَ لِلْکَذِبِ أَکَّالُونَ لِلسُّحْتِ- ثم قال عقیب قوله- هُمُ الْکافِرُونَ وَ قَفَّیْنا عَلى‏ آثارِهِمْ بِعِیسَى ابْنِ مَرْیَمَ- فدل على أنها مقصوره على الیهود- . و منها قوله تعالى- فَأَنْذَرْتُکُمْ ناراً تَلَظَّى- لا یَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى- الَّذِی کَذَّبَ وَ تَوَلَّى- قالوا و قد اتفقنا مع المعتزله- على أن الفاسق یصلى النار فوجب أن یسمى کافرا- .

و الجواب أن قوله تعالى ناراً نکره فی سیاق الإثبات- فلا تعم و إنما تعم النکره فی سیاق النفی- نحو قولک ما فی الدار من رجل- و غیر ممتنع أن یکون فی الآخره نار مخصوصه- لا یصلاها إلا الذین کذبوا و تولوا- و یکون للفساق نار أخرى غیرها- . و منها قوله تعالى- وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَهٌ بِالْکافِرِینَ- قالوا و الفاسق تحیط به جهنم فوجب أن یکون کافرا- . و الجواب أنه لم یقل سبحانه- و إن جهنم لا تحیط إلا بالکافرین- و لیس یلزم من کونها محیطه بقوم ألا تحیط بقوم سواهم- . و منها قوله سبحانه یَوْمَ تَبْیَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ- فَأَمَّا الَّذِینَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ- أَ کَفَرْتُمْ بَعْدَ إِیمانِکُمْ- فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما کُنْتُمْ تَکْفُرُونَ- قالواو الفاسق لا یجوز أن یکون ممن ابیضت وجوههم- فوجب أن یکون ممن اسودت- و وجب أن یسمى کافرا لقوله بِما کُنْتُمْ تَکْفُرُونَ- . و الجواب أن هذه القسمه لیست متقابله- فیجوز أن یکون المکلفون ثلاثه أقسام- بیض الوجوه و سود الوجوه- و صنف آخر ثالث بین اللونین و هم الفساق- .

و منها قوله تعالى وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ مُسْفِرَهٌ- ضاحِکَهٌ مُسْتَبْشِرَهٌ- وَ وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ عَلَیْها غَبَرَهٌ تَرْهَقُها قَتَرَهٌ- أُولئِکَ هُمُ الْکَفَرَهُ الْفَجَرَهُ- قالوا و الفاسق على وجهه غبره- فوجب أن یکون من الکفره و الفجره- . و الجواب أنه یجوز أن یکون الفساق قسما ثالثا- لا غبره على وجوههم- و لا هی مسفره ضاحکه- بل على ما کانت علیه فی دار الدنیا- . و منها قوله تعالى- ذلِکَ جَزَیْناهُمْ بِما کَفَرُوا- وَ هَلْ نُجازِی إِلَّا الْکَفُورَ- قالوا و الفاسق لا بد أن یجازى- فوجب أن یکون کفورا- .

و الجواب أن المراد بذلک- و هل نجازی بعقاب الاستئصال إلا الکفور- لأن الآیه وردت فی قصه أهل سبإ- لکونهم استؤصلوا بالعقوبه- . و منها أنه تعالى قال- إِنَّ عِبادِی لَیْسَ لَکَ عَلَیْهِمْ سُلْطانٌ- إِلَّا مَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْغاوِینَ- و قال فی آیه أخرى- إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِینَ یَتَوَلَّوْنَهُ- وَ الَّذِینَ هُمْ بِهِ مُشْرِکُونَ- فجعل الغاوی الذی یتبعه مشرکا- . و الجواب أنا لا نسلم أن لفظه إنما تفید الحصر- و أیضا فإنه عطف قوله-وَ الَّذِینَ هُمْ بِهِ مُشْرِکُونَ- على قوله الَّذِینَ یَتَوَلَّوْنَهُ- فوجب أن یثبت التغایر بین الفریقین- و هذا مذهبنا لأن الذین یتولونه هم الفساق- و الذین هم به مشرکون هم الکفار- .

و منها قوله تعالى- وَ أَمَّا الَّذِینَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ- إلى قوله تعالى- وَ قِیلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ- الَّذِی کُنْتُمْ بِهِ تُکَذِّبُونَ- فجعل الفاسق مکذبا- . و الجواب أن المراد به الذین فسقوا عن الدین- أی خرجوا عنه بکفرهم- و لا شبهه أن من کان فسقه من هذا الوجه فهو کافر مکذب- و لا یلزم منه أن کل فاسق على الإطلاق- فهو مکذب و کافر- .

و منها قوله تعالى- وَ لکِنَّ الظَّالِمِینَ بِآیاتِ اللَّهِ یَجْحَدُونَ- قالوا فأثبت الظالم جاحدا و هذه صفه الکفار- . و الجواب أن المکلف قد یکون ظالما بالسرقه و الزنا- و إن کان عارفا بالله تعالى- و إذا جاز إثبات ظالم لیس بکافر- و لا جاحد بآیات الله تعالى- جاز إثبات فاسق لیس بکافر- . و منها قوله تعالى- وَ مَنْ کَفَرَ بَعْدَ ذلِکَ- فَأُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ- . و الجواب أن هذه الآیه تدل على أن الکافر فاسق- و لا تدل على أن الفاسق کافر- . و منها قوله تعالى- فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِینُهُ- فَأُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِینُهُ- فَأُولئِکَ الَّذِینَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِی جَهَنَّمَ خالِدُونَ- تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِیها کالِحُونَ- أَ لَمْ تَکُنْ آیاتِی تُتْلى‏ عَلَیْکُمْ- فَکُنْتُمْ بِها تُکَذِّبُونَ- .

فنص سبحانه على أن من تخف موازینه یکون مکذبا- و الفاسق تخف موازینه- فکان مکذبا و کل مکذب کافر- . الجواب أن ذلک لا یمنع من قسم ثالث- و هم الذین لا تخف موازینهم و لا تثقل و هم الفساق- و لا یلزم من کون کل من خفت موازینه یدخل النار- ألا یدخل النار إلا من خفت موازینه- . و منها قوله تعالى- هُوَ الَّذِی خَلَقَکُمْ فَمِنْکُمْ کافِرٌ وَ مِنْکُمْ مُؤْمِنٌ- و هذا یقتضی أن من لا یکون مؤمنا فهو کافر- و الفاسق لیس بمؤمن- فوجب أن یکون کافرا- . و الجواب أن من هاهنا للتبعیض- و لیس فی ذکر التبعیض نفی الثالث- کما أن قوله وَ مِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلى‏ رِجْلَیْنِ- وَ مِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلى‏ أَرْبَعٍ- لا ینفی وجود دابه تمشی على أکثر- من أربع کبعض الحشرات- . ثم نعود إلى الشرح- قوله ع و من رمى به الشیطان مرامیه- أی أضله کأنه رمى به مرمى بعیدا- فضل عن الطریق و لم یهتد إلیها- . قوله و ضرب به تیهه أی حیره و جعله تائها- . ثم قال ع یهلک فی رجلان- فأحدهما من أفرط حبه له و اعتقاده فیه- حتى ادعى له الحلول کما ادعت النصارى ذلک فی المسیح ع- و الثانی من أفرط بغضه له حتى حاربه أو لعنه- أو برئ منه أو أبغضه- هذه المراتب الأربع و البغض أدناها- و هو موبق مهلک- و فی الخبر الصحیح المتفق علیه أنه لا یحبه إلا مؤمن- و لا یبغضه إلا منافق- و حسبک بهذا الخبر ففیه وحده کفایه

فصل فی ذکر الغلاه من الشیعه و النصیریه و غیرهم

فأما الغلاه فیه فهالکون- کما هلک الغلاه فی عیسى ع- وقد روى المحدثون أن رسول الله ص قال له ع فیک مثل من عیسى ابن مریم- أبغضته الیهود فبهتت أمه- و أحبته النصارى فرفعته فوق قدره- و قد کان أمیر المؤمنین عثر على قوم من أصحابه خرجوا من حد محبته- باستحواذ الشیطان علیهم أن کفروا بربهم- و جحدوا ما جاء به نبیهم- فاتخذوه ربا و ادعوه إلها- و قالوا له أنت خالقنا و رازقنا- فاستتابهم و استأنى و توعدهم فأقاموا على قولهم- فحفر لهم حفرا دخن علیهم فیها- طمعا فی رجوعهم فأبوا فحرقهم- و قال

أ لا ترونی قد حفرت حفرا
أنی إذا رأیت أمرا منکرا
أوقدت ناری و دعوت قنبرا

وروى أبو العباس أحمد بن عبید الله بن عمار الثقفی عن محمد بن سلیمان بن حبیب المصیصی المعروف بنوین و روی أیضا عن علی بن محمد النوفلی عن مشیخته أن علیا ع مر بقوم- و هم یأکلون فی شهر رمضان نهارا- فقال أ سفر أم مرضى- قالوا لا و لا واحده منهما- قال فمن أهل الکتاب أنتم- فتعصمکم الذمه و الجزیه- قالوا لا- قال فما بال الأکل فی نهار رمضان- فقاموا إلیه فقالوا أنت أنت- یؤمون إلى ربوبیته- فنزل ع عن فرسه- فألصق خده بالأرض- و قال ویلکم إنما أنا عبد من عبید الله- فاتقوا الله و ارجعوا إلى الإسلام- فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على کفرهم- فنهض إلیهم و قال شدوهم وثاقا- و علی بالفعله و النار و الحطب- ثم أمربحفر بئرین فحفرتا- إحداهما سربا و الأخرى مکشوفه- و ألقى الحطب فی المکشوفه- و فتح بینهما فتحا- و ألقى النار فی الحطب فدخن علیهم- و جعل یهتف بهم- و یناشدهم لیرجعوا إلى الإسلام- فأبوا فأمر بالحطب و النار فألقى علیهم- فأحرقوا- فقال الشاعر

لترم بی المنیه حیث شاءت
إذا لم ترمنی فی الحفرتین‏

إذا ما حشتا حطبا بنار
فذاک الموت نقدا غیر دین‏

قال فلم یبرح ع حتى صاروا حمما- . ثم استترت هذه المقاله سنه أو نحوها- ثم ظهر عبد الله بن سبإ و کان یهودیا- یتستر بالإسلام بعد وفاه أمیر المؤمنین ع فأظهرها- و اتبعه قوم فسموا السبئیه- و قالوا إن علیا ع لم یمت و إنه فی السماء- و الرعد صوته و البرق صوته- و إذا سمعوا صوت الرعد- قالوا السلام علیک یا أمیر المؤمنین- و قالوا فی رسول الله ص أغلظ قول- و افتروا علیه أعظم فریه- فقالوا کتم تسعه أعشار الوحی- فنعى علیهم قولهم- الحسن بن علی بن محمد بن الحنفیه رضی الله عنه فی رسالته- التی یذکر فیها الإرجاء- رواها عنه سلیمان بن أبی شیخ- عن الهیثم بن معاویه- عن عبد العزیز بن أبان- عن عبد الواحد بن أیمن المکی- قال شهدت الحسن بن علی بن محمد بن الحنفیه- یملی هذه الرساله فذکرها و قال فیها- و من قول هذه السبئیه- هدینا لوحی ضل عنه الناس و علم خفی عنهم- و زعموا أن رسول الله ص کتم تسعه أعشار الوحی- و لو کتم ص شیئا مما أنزل الله علیه- لکتم شأن امرأه زید- و قوله تعالى تَبْتَغِی مَرْضاتَ أَزْواجِکَ- .

ثم ظهر المغیره بن سعید مولى بجیله- فأراد أن یحدث لنفسه مقاله یستهوی بها قوما- و ینال بها ما یرید الظفر به من الدنیا- فغلا فی علی ع- و قال لو شاء علی لأحیا عادا و ثمود و قرونا بین ذلک کثیرا- . و روى علی بن محمد النوفلی- قال جاء المغیره بن سعید- فاستأذن على أبی جعفر محمد بن علی بن الحسین- و قال له أخبر الناس أنی أعلم الغیب- و أنا أطعمک العراق- فزجره أبو جعفر زجرا شدیدا- و أسمعه ما کره فانصرف عنه- فأتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفیه رحمه الله- فقال له مثل ذلک- و کان أبو هاشم أیدا- فوثب علیه فضربه ضربا شدیدا أشفى به على الموت- فتعالج حتى برئ- ثم أتى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن رحمه الله- و کان محمد سکیتا- فقال له کما قال للرجلین- فسکت محمد فلم یجبه- فخرج و قد طمع فیه بسکوته-

و قال أشهد أن هذا هو المهدی- الذی بشر به رسول الله ص- و أنه قائم أهل البیت- و ادعى أن علی بن الحسین ع- أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن- ثم قدم المغیره الکوفه و کان مشعبذا- فدعا الناس إلى قوله- و استهواهم و استغواهم- فاتبعه خلق کثیر- و ادعى على محمد بن عبد الله أنه أذن له- فی خنق الناس و إسقائهم السموم- و بث أصحابه فی الأسفار یفعلون ذلک بالناس- فقال له بعض أصحابه- إنا نخنق من لا نعرف- فقال لا علیکم إن کان من أصحابکم عجلتموه إلى الجنه- و إن کان من عدوکم عجلتموه إلى النار- و لهذا السبب کان المنصور یسمی محمد بن عبد الله الخناق- و ینحله ما ادعاه علیه المغیره- .

ثم تفاقم أمر الغلاه بعد المغیره- و أمعنوا فی الغلو- فادعوا حلول الذات الإلهیه المقدسه- فی قوم من سلاله أمیر المؤمنین ع- و قالوا بالتناسخ و جحدوا البعث و النشور- و أسقطوا الثواب و العقاب- و قال قوم منهم- إن الثواب و العقاب إنما هو ملاذ هذه الدنیا و مشاقها- و تولدت من هذه المذاهب القدیمه- التی قال بها سلفهم مذاهب أفحش منها قال بها خلفهم- حتى صاروا إلى المقاله المعروفه بالنصیریه- و هی التی أحدثها محمد بن نصیر النمیری- و کان من أصحاب الحسن العسکری ع- و المقاله المعروفه بالإسحاقیه- و هی التی أحدثها إسحاق بن زید بن الحارث- و کان من أصحاب عبد الله بن معاویه- بن عبد الله بن جعفر بن أبی طالب- کان یقول بالإباحه و إسقاط التکالیف- و یثبت لعلی ع شرکه مع رسول الله ص فی النبوه على وجه- غیر هذا الظاهر الذی یعرفه الناس- و کان محمد بن نصیر- من أصحاب الحسن بن علی بن محمد بن الرضا- فلما مات ادعى وکاله لابن الحسن- الذی تقول الإمامیه بإمامته- ففضحه الله تعالى بما أظهره- من الإلحاد و الغلو و القول بتناسخ الأرواح- ثم ادعى أنه رسول الله و نبی من قبل الله تعالى- و أنه أرسله علی بن محمد بن الرضا- و جحد إمامه الحسن العسکری و إمامه ابنه- و ادعى بعد ذلک الربوبیه و قال بإباحه المحارم- . و للغلاه أقوال کثیره طویله عریضه- و قد رأیت أنا جماعه منهم- و سمعت أقوالهم و لم أر فیهم محصلا- و لا من یستحق أن یخاطب- و سوف أستقصی ذکر فرق الغلاه و أقوالهم- فی الکتاب الذی کنت متشاغلا بجمعه- و قطعنی عنه اهتمامی بهذا الشرح- و هو الکتاب المسمى بمقالات الشیعه إن شاء الله تعالى- .

قوله ع و الزموا السواد الأعظم و هو الجماعه- وقد جاء فی الخبر عن‏ رسول الله ص هذه اللفظه التی ذکرها ع و هی ید الله على الجماعه و لا یبالی بشذوذ من شذ- و جاء فی معناها کثیر نحوقوله ع الشیطان مع الواحد و هو من الاثنین أبعد و قوله لا تجتمع أمتی على خطإو قوله سألت الله ألا تجتمع أمتی على خطإ فأعطانیها وقوله ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسنوقوله لا تجتمع أمتی على ضلاله- و سألت ربی ألا تجتمع أمتی على ضلاله فأعطانیها- و لم یکن الله لیجمع أمتی على ضلال و لا خطإوقوله ع علیکم بالسواد الأعظموقوله من خرج من الجماعه قید شبر- فقد خلع ربقه الإسلام عن عنقهوقوله من فارق الجماعه مات میته جاهلیهوقوله من سره بحبوحه الجنه فیلزم الجماعه- .

و الأخبار فی هذا المعنى کثیره جدا- . ثم قال ع- من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه یعنی الخوارج- و کان شعارهم أنهم یحلقون وسط رءوسهم- و یبقى الشعر مستدیرا حوله کالإکلیل- . قال و لو کان تحت عمامتی هذه- أی لو اعتصم و احتمى بأعظم الأشیاء حرمه- فلا تکفوا عن قتله- . ثم ذکر أنه إنما حکم الحکمان- لیحییا ما أحیاه القرآن- أی لیجتمعا على ما شهد القرآن باستصوابه و استصلاحه- و یمیتا ما أماته القرآن- أی لیفترقا و یصدا و ینکلا- عما کرهه القرآن و شهد بضلاله- . و البجر بضم الباء الشر العظیم- قال الراجز أرمی علیها و هی شی‏ء بجر أی داهیه- . و لا ختلتکم أی خدعتکم- ختله و خاتله أی خدعه- و التخاتل التخادع- و لا لبسته علیکم أی جعلته مشتبها ملتبسا- ألبست علیهم الأمر ألبسه بالکسر- . و الملأ الجماعه من الناس و الصمد القصد- . قال سبق شرطنا سوء رأیهما- لأنا اشترطنا علیهما فی کتاب الحکومه ما لا مضره علینا- مع تأمله فیما فعلاه من اتباع الهوى و ترک النصیحه للمسلمین

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۸

بازدیدها: ۲۷

خطبه ۱۲۶ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۲۶ و من کلام له ع- لما عوقب على التسویه فی العطاء- و تصییره الناس أسوه فی العطاء- من غیر تفضیل أولی السابقات و الشرف

أَ تَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ- فِیمَنْ وُلِّیتُ عَلَیْهِ- وَ اللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِیرٌ- وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ فِی السَّمَاءِ نَجْماً- وَ لَوْ کَانَ الْمَالُ لِی لَسَوَّیْتُ بَیْنَهُمْ- فَکَیْفَ وَ إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ- ثُمَّ قَالَ ع- أَلَا وَ إِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِی غَیْرِ حَقِّهِ تَبْذِیرٌ وَ إِسْرَافٌ- وَ هُوَ یَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِی الدُّنْیَا- وَ یَضَعُهُ فِی الآْخِرَهِ- وَ یُکْرِمُهُ فِی النَّاسِ وَ یُهِینُهُ عِنْدَ اللَّهِ- وَ لَمْ یَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِی غَیْرِ حَقِّهِ وَ عِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ- إِلَّا حَرَمَهُ اللَّهُ شُکْرَهُمْ- وَ کَانَ لِغَیْرِهِ وُدُّهُمْ- فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ یَوْماً- فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِیلٍ- وَ أَلْأَمُ خَدِینٍ أصل تأمرونی تأمروننی بنونین- فأسکن الأولى و أدغم- قال تعالى أَ فَغَیْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّی أَعْبُدُ أَیُّهَا الْجاهِلُونَ- .

و لا أطور به لا أقربه و لا تطر حولنا- أی لا تقرب ما حولنا- و أصله من طوار الدار و هو ما کان ممتدا معها من الفناء- . و قوله ما سمر سمیر یعنی الدهر- أی ما أقام الدهر و ما بقی- و الأشهر فی المثل ما سمر ابنا سمیر- قالوا السمیر الدهر و ابناه اللیل و النهار- و قیل ابنا سمیر اللیل و النهار لأنه یسمر فیهما- و یقولون لا أفعله السمر و القمر- أی ما دام الناس یسمرون فی لیله قمراء- و لا أفعله سمیر اللیالی أی أبدا قال الشنفری-

هنالک لا أرجو حیاه تسرنی
سمیر اللیالی مبسلا بالجرائر

 قوله و ما أم نجم فی السماء نجما أی قصد و تقدم- لأن النجوم تتبع بعضها بعضا- فلا بد من تقدم و تأخر- فلا یزال النجم یقصد نجما غیره- و لا یزال النجم یتقدم نجما غیره- . و الخدین الصدیق- یقول ع کیف تأمروننی أن أطلب النصر من الله- بأن أجور على قوم ولیت علیهم- یعنی الذین لا سوابق لهم و لا شرف- و کان عمر ینقصهم فی العطاء عن غیرهم- .

ثم قال ع- لو کان المال لی و أنا أفرقه بینهم لسویت- فکیف و إنما هو مال الله و فیئه- ثم ذکر أن إعطاء المال فی غیر حقه تبذیر و إسراف- و قد نهى الله عنه و أنه یرفع صاحبه عند الناس- و یضعه عند الله- و أنه لم یسلک أحد هذه المسلک- إلا حرمه الله ود الذین یتحبب إلیهم بالمال- و لو احتاج إلیهم یوما عند عثره یعثرها لم یجدهم- .

و اعلم أن هذه مسأله فقهیه- و رأی علی ع و أبی بکر فیها واحد- و هو التسویه بین المسلمین فی قسمه الفی‏ء و الصدقات- و إلى هذا ذهب الشافعی رحمه الله- و أما عمر فإنه لما ولی الخلافه فضل بعض الناس على بعض- ففضل السابقین على غیرهم- و فضل المهاجرین من قریش على غیرهم من المهاجرین- و فضل المهاجرین کافه على الأنصار کافه- و فضل العرب على العجم- و فضل الصریح على المولى- و قد کان أشار على أبی بکر أیام خلافته بذلک- فلم یقبل و قال إن لم یفضل أحدا على أحد- و لکنه قال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساکِینِ- و لم یخص قوما دون قوم- فلما أفضت إلیه الخلافه- عمل بما کان أشار به أولا- و قد ذهب کثیر من فقهاء المسلمین إلى قوله- و المسأله محل اجتهاد- و للإمام أن یعمل بما یؤدیه إلیه اجتهاده- و إن کان اتباع علی ع عندنا أولى- لا سیما إذا عضده موافقه أبی بکر على المسأله- و إن صح الخبر أن رسول الله ص سوى- فقد صارت المسأله منصوصا علیها- لأن فعله ع کقوله

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن‏ أبی‏ الحدید) ج ۸ 

بازدیدها: ۱۸

خطبه ۱۲۵ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۱۲۵ و من کلام له ع فی الخوارج- لما أنکروا تحکیم الرجال- و یذم فیه أصحابه فی التحکیم

إِنَّا لَمْ نُحَکِّمِ الرِّجَالَ- وَ إِنَّمَا حَکَّمْنَا الْقُرْآنَ هَذَا الْقُرْآنُ- إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَیْنَ الدَّفَّتَیْنِ- لَا یَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ- وَ إِنَّمَا یَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ- وَ لَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ- إلَى أَنْ نُحَکِّمَ بَیْنَنَا الْقُرْآنَ- لَمْ نَکُنِ الْفَرِیقَ الْمُتَوَلِّیَ- عَنْ کِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- وَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ- فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ- فَرَدُّهُ إِلَى اللَّهِ أَنْ نَحْکُمَ بِکِتَابِهِ- وَ رَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ- فَإِذَا حُکِمَ بِالصِّدْقِ فِی کِتَابِ اللَّهِ- فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ- وَ إِنْ حُکِمَ بِسُنَّهِ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ وَ أَوْلَاهُمْ بِهَا- وَ أَمَّا قَوْلُکُمْ- لِمَ جَعَلْتَ بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُمْ أَجَلًا فِی التَّحْکِیمِ- فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِکَ لِیَتَبَیَّنَ الْجَاهِلُ- وَ یَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ- وَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ یُصْلِحَ فِی هَذِهِ الْهُدْنَهِ- أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّهِ- وَ لَا تُؤْخَذَ بِأَکْظَامِهَا- فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَیُّنِ الْحَقِّ- وَ تَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَیِّ- إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ- مَنْ کَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَیْهِ- وَ إِنْ نَقَصَهُ وَ کَرَثَهُ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ إِنْ جَرَّ إِلَیْهِ وَ زَادَهُ- فَأَیْنَ یُتَاهُ بِکُمْ- وَ مِنْ أَیْنَ أُتِیتُمْ-اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِیرِ إِلَى قَوْمٍ حَیَارَى- عَنِ الْحَقِّ لَا یُبْصِرُونَهُ- وَ مُوزَعِینَ بِالْجَوْرِ لَا یَعْدِلُونَ عَنْهُ- جُفَاهٍ عَنِ الْکِتَابِ- نُکُبٍ عَنِ الطَّرِیقِ- مَا أَنْتُمْ بِوَثِیقَهٍ یُعْلَقُ بِهَا- وَ لَا زَوَافِرَ عِزٍّ یُعْتَصَمُ إِلَیْهَا- لَبِئْسَ حُشَاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ- أُفٍّ لَکُمْ- لَقَدْ لَقِیتُ مِنْکُمْ بَرْحاً یَوْماً أُنَادِیکُمْ- وَ یَوْماً أُنَاجِیکُمْ- فَلَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ- وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَهٍ عِنْدَ النَّجَاءِ دفتا المصحف جانباه اللذان یکنفانه- و کان الناس یعملونهما قدیما من خشب- و یعملونهما الآن من جلد- یقول ع لا اعتراض علی فی التحکیم- و قول الخوارج حکمت الرجال دعوى غیر صحیحه- و إنما حکمت القرآن- و لکن القرآن لا ینطق بنفسه- و لا بد له ممن یترجم عنه- و الترجمان بفتح التاء و ضم الجیم- هو مفسر اللغه بلسان آخر- و یجوز ضم التاء لضمه الجیم- قال الراجز

کالترجمان لقی الأنباطا

ثم قال لما دعینا إلى تحکیم الکتاب- لم نکن القوم الذین قال الله تعالى فی حقهم- وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِیَحْکُمَ بَیْنَهُمْ- إِذا فَرِیقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ بل أجبنا إلى ذلک- و عملنا بقول الله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ‏ءٍ- فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ- و قال معنى ذلک أن نحکم بالکتاب و السنه- فإذا عمل الناس بالحق فی هذه الواقعه- و اطرحوا الهوى و العصبیه- کنا أحق بتدبیر الأمه- و بولایه الخلافه من المنازع لنا علیها-فإن قلت إنه ع لم یقل هکذا- و إنما قال إذا حکم بالصدق فی کتاب الله- فنحن أولى به- و إذا حکم بالسنه فنحن أحق بها- . قلت إنه رفع نفسه ع- أن یصرح بذکر الخلافه فکنی عنها- و قال نحن إذا حکم بالکتاب و السنه أولى بالکتاب و السنه- و یلزم من کونه أولى بالکتاب و السنه من جمیع الناس- أن یکون أولى بالخلافه من جمیع الناس- فدل على ما کنى عنه بالأمر المستلزم له- .

فإن قلت- إذا کان الرجال الذین یترجمون القرآن و یفسرونه- و قد کلفوا أن یحکموا فی واقعه أهل العراق و أهل الشام- بما یدلهم القرآن علیه- یجوز أن یختلفوا فی تفسیر القرآن و تأویله- فیدعی صاحب أهل العراق- من تفسیره ما یستدل به على مراده- و یدعی وکیل أهل الشام ما یقابل ذلک و یناقضه- بطریق الشبهه التی تمسکوا بها من دم عثمان- و من کون الإجماع لم یحصل على بیعه أمیر المؤمنین ع- احتاج الحکمان حینئذ- إلى أن یحکم بینهما حکمان آخران-

و القول فیهما کالقول فی الأول إلى ما لا نهایه له- و إنما کان یکون التحکیم قاطعا للشغب- لو کان القرآن ینص بالصریح الذی لا تأویل فیه- إما على أمیر المؤمنین ع- و إما على معاویه و لا نص صریح فیه- بل الذی فیه یحتمل التأویل و التجاذب- فما الذی یفید التحکیم و الحال تعود لا محاله جذعه- قلت لو تأمل الحکمان الکتاب حق التأمل- لوجدا فیه النص الصریح- على صحه خلافه أمیر المؤمنین ع- لأن فیه النص الصریح على أن الإجماع حجه- و معاویه لم یکن مخالفا فی هذه المقدمه و لا أهل الشام- و إذا کان الإجماع حجه- فقد وقع الإجماع لما توفی رسول الله ص- على أن اختیار خمسه من صلحاء المسلمین لواحد منهم و بیعته- توجب لزوم طاعته و صحه خلافته- و قد بایع أمیر المؤمنین عخمسه من صلحاء الصحابه بل خمسون- فوجب أن تصح خلافته- و إذا صحت خلافته نفذت أحکامه- و لم یجب علیه أن یقید بعثمان- إلا أن حضر أولیاؤه عنده- طائعین له مبایعین ملتزمین لأحکامه- ثم بعد ذلک یطلبون القصاص من أقوام بأعیانهم- یدعون علیهم دم المقتول- فقد ثبت أن الکتاب لو تؤمل حق التأمل- لکان الحق مع أهل العراق- و لم یکن لأهل الشام من الشبهه- ما یقدح فی استنباطهم المذکور- .

ثم قال ع فأما ضربی للأجل فی التحکیم- فإنما فعلته لأن الأناه و التثبت من الأمور المحموده- أما الجاهل فیعلم فیه ما جهله- و أما العالم فیثبت فیه على ما علمه- فرجوت أن یصلح الله فی ذلک الأجل- أمر هذه الأمه المفتونه- . و لا تؤخذ بأکظامها جمع کظم و هو مخرج النفس- یقول کرهت أن أعجل القوم عن التبین و الاهتداء- فیکون إرهاقی لهم و ترکی للتنفیس عن خناقهم- و عدولی عن ضرب الأجل بینی- و بینهم أدعى إلى استفسادهم- و أحرى أن یرکبوا غیهم و ضلالهم- و لا یقلعوا عن القبیح الصادر عنهم- . ثم قال أفضل الناس من آثر الحق و إن کرثه- أی اشتد علیه و بلغ منه المشقه- . و یجوز أکرثه بالألف على الباطل- و إن انتفع به و أورثه زیاده- . ثم قال فأین یتاه بکم- أی أین تذهبون فی التیه یعنی فی الحیره- و روی فأنى یتاه بکم- . و من أین أتیتم- أی کیف دخل علیکم الشیطان أو الشبهه- و من أی المداخل دخل اللبس علیکم- .

ثم أمرهم بالاستعداد للمسیر إلى حرب أهل الشام- و ذکر أنهم موزعون بالجورأی ملهمون- قال تعالى رَبِّ أَوْزِعْنِی أَنْ أَشْکُرَ نِعْمَتَکَ- أی ألهمنی أوزعته بکذا و هو موزع به- و الاسم و المصدر جمیعا الوزع بالفتح- و استوزعت إلیه تعالى شکره فأوزعنی- أی استلهمته فألهمنی- . و لا یعدلون عنه لا یترکونه إلى غیره- و روی لا یعدلون به أی لا یعدلون بالجور شیئا آخر- أی لا یرضون إلا بالظلم و الجور- و لا یختارون علیهما غیرهما- .

قوله جفاه عن الکتاب- جمع جاف و هو النابی عن الشی‏ء- أی قد نبوا عن الکتاب لا یلائمهم و لا یناسبونه- تقول جفا السرج عن ظهر الفرس- إذا نبا و ارتفع و أجفیته أنا- و یجوز أن یرید أنهم أعراب جفاه- أی أجلاف لا أفهام لهم- . قوله نکب عن الطریق أی عادلون جمع ناکب- نکب ینکب عن السبیل بضم الکاف نکوبا- . قوله و ما أنتم بوثیقه أی بذی وثیقه- فحذف المضاف و الوثیقه الثقه- یقال قد أخذت فی أمر فلان بالوثیقه- أی بالثقه و الثقه مصدر- . و الزوافر العشیره و الأنصار- و یقال هم زافرتهم عند السلطان- للذین یقومون بأمره عنده- . و قوله یعتصم إلیها أی بها- فأناب إلى مناب الباء کقول طرفه-

و إن یلتق الحی الجمیع تلاقنی
إلى ذروه البیت الرفیع المصمد

و حشاش النار ما تحش به أی توقد- قال الشاعر

أ فی أن أحش الحرب فیمن یحشها
ألام و فی ألا أقر المخازیا

و روی حشاش بالفتح کالشیاع- و هو الحطب الذی یلقى فی النار قبل الجزل- و روی حشاش بضم الحاء و تشدید الشین- جمع حاش و هو الموقد للنار- . قوله أف لکم من الألفاظ القرآنیه- و فیها لغات أف بالکسر و بالضم و بالفتح- و أف منونا بالثلاث أیضا- و یقال أفا و تفا و هو إتباع له و أفه و تفه- و المعنى استقذار المعنی بالتأفیف- . قوله لقد لقیت منکم برحا أی شده- یقال لقیت منهم برحا بارحا أی شده و أذى- قال الشاعر

أ جدک هذا عمرک الله کلما
دعاک الهوى برح لعینک بارح‏

و یروى ترحا أی حزنا- . ثم ذکر أنه ینادیهم جهارا طورا- و یناجیهم سرا طورا- فلا یجدهم أحرارا عند ندائه- أی لا ینصرون و لا یجیبون- و لا یجدهم ثقاتا و ذوی أمانه عند المناجاه- أی لا یکتمون السر- . و النجاء المناجاه مصدر ناجیته نجاء- مثل ضاربته ضرابا و صارعته صراعا

شرح‏ نهج‏ البلاغه(ابن‏ أبی ‏الحدید) ج ۸ 

بازدیدها: ۳۹

خطبه ۱۲۴ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

الجزء الثامن

تتمه الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحیم- الحمد لله الواحد العدل

۱۲۴ و من کلام له ع فی حث أصحابه على القتال

فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ وَ أَخِّرُوا الْحَاسِرَ- وَ عَضُّوا عَلَى الْأَضْرَاسِ- فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّیُوفِ عَنِ الْهَامِ- وَ الْتَوُوا فِی أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّهِ- وَ غُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَ أَسْکَنُ لِلْقُلُوبِ- وَ أَمِیتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ- وَ رَایَتَکُمْ فَلَا تُمِیلُوهَا وَ لَا تُخِلُّوهَا- وَ لَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَیْدِی شُجْعَانِکُمْ- وَ الْمَانِعِینَ الذِّمَارَ مِنْکُمْ- فَإِنَّ الصَّابِرِینَ عَلَى نُزُولِ الْحَقَائِقِ- هُمُ الَّذِینَ یَحُفُّونَ بِرَایَاتِهِمْ- وَ یَکْتَنِفُونَهَا حِفَافَیْهَا وَ وَرَاءَهَا وَ أَمَامَهَا- لَا یَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَیُسْلِمُوهَا- وَ لَا یَتَقَدَّمُونَ عَلَیْهَا فَیُفْرِدُوهَا الدارع لابس الدرع- و الحاسر الذی لا درع علیه و لا مغفر- أمرهم ع بتقدیم المستلئم على غیر المستلئم- لأن سوره الحرب و شدتها- تلقی و تصادف الأول فالأول- فواجب أن یکون أول القوم مستلئما- و أن یعضوا على الأضراس- و قد تقدم شرح هذا و قلنا- إنه یجوز أن یبدءوهم بالحنق و الجد- و یجوز أن یرید- أن العض على الأضراس یشد شئون الدماغ و رباطاته- فلا یبلغ السیف منه مبلغه لو صادفه رخوا- و أمرهم بأن یلتووا إذا طعنوا-لأنهم إذا فعلوا ذلک- فبالحری أن یمور السنان- أی یتحرک عن موضع الطعنه- فیخرج زالفا و إذا لم یلتووا لم یمر السنان- و لم یتحرک عن موضعه فیخرق و ینفذ فیقتل- . و أمرهم بغض الأبصار فی الحرب- فإنه أربط للجأش أی أثبت للقلب- لأن الغاض بصره فی الحرب أحرى- ألا یدهش و لا یرتاع لهول ما ینظر- . و أمرهم بإماته الأصوات و إخفائها- فإنه أطرد للفشل- و هو الجبن و الخوف- و ذلک لأن الجبان یرعد و یبرق- و الشجاع صامت- . و أمرهم بحفظ رایتهم ألا یمیلوها- فإنها إذا مالت انکسر العسکر- لأنهم إنما ینظرون إلیها و إلا یخلوها من محام عنها- و إلا یجعلوها بأیدی الجبناء و ذوی الهلع منهم- کی لا یخیموا و یجبنوا عن إمساکها- . و الذمار ما وراء الرجل مما یحق علیه أن یحمیه- و سمی ذمارا لأنه یجب على أهله التذمر له أی الغضب- . و الحقائق جمع حاقه- و هی الأمر الصعب الشدید- و منه قول الله تعالى الْحَاقَّهُ مَا الْحَاقَّهُ یعنی الساعه- . و یکتنفونها یحیطون بها- و حفافاها جانباها و منه قول طرفه-

کان جناحی مضرحی تکنفا
حفافیه شکا فی العسیب بمسرد

أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ وَ آسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ- وَ لَمْ یَکِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِیهِ- فَیَجْتَمِعَ‏عَلَیْهِ قِرْنُهُ وَ قِرْنُ أَخِیهِ- وَ ایْمُ اللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَیْفِ الْعَاجِلَهِ- لَا تَسْلَمُونَ مِنْ سَیْفِ الآْخِرَهِ- وَ أَنْتُمْ لَهَامِیمُ الْعَرَبِ وَ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ- إِنَّ فِی الْفِرَارِ مَوْجِدَهَ اللَّهِ وَ الذُّلَّ اللَّازِمَ وَ الْعَارَ الْبَاقِیَ- وَ إِنَّ الْفَارَّ لَغَیْرُ مَزِیدٍ فِی عُمُرِهِ- وَ لَا مَحْجُوزٍ بَیْنَهُ وَ بَیْنَ یَوْمِهِ- مَنْ رَائِحٌ إِلَى اللَّهِ کَالظَّمْآنِ یَرِدُ الْمَاءَ- الْجَنَّهُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِی- الْیَوْمَ تُبْلَى الْأَخْبَارُ- وَ اللَّهِ لَأَنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِیَارِهِمْ- اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ- وَ شَتِّتْ کَلِمَتَهُمْ وَ أَبْسِلْهُمْ بِخَطَایَاهُمْ من الناس من یجعل هذه الصیغه- و هی صیغه الإخبار بالفعل الماضی- فی قوله أجزأ امرؤ قرنه فی معنى الأمر- کأنه قال لیجزئ کل امرئ قرنه- لأنه إذا جاز الأمر بصیغه الإخبار فی المستقبل- جاز الأمر بصیغه الماضی و قد جاز الأول- نحو قوله تعالى وَ الْوالِداتُ یُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ- فوجب أن یجوز الثانی- و من الناس من قال معنى ذلک- هلا أجزأ امرؤ قرنه- فیکون تحضیضا محذوف الصیغه للعلم بها- و أجزأ بالهمزه أی کفى- و قرنک مقارنک فی القتال أو نحوه- . و آسى أخاه بنفسه مؤاساه بالهمز أی جعله أسوه نفسه- و یجوز واسیت زیدا بالواو و هی لغه ضعیفه- . و لم یکل قرنه إلى أخیه- أی لم یدع قرنه ینضم إلى قرن أخیه- فیصیرا معا فی‏ مقاومه الأخ المذکور- و ذلک قبیح محرم- مثاله زید و عمرو مسلمان- و لهما قرنان کافران فی الحرب- لا یجوز لزید أن ینکل عن قرنه- فیجتمع قرنه و قرن عمرو على عمرو- . ثم أقسم ع أنهم إن سلموا من الألم النازل بهم- لو قتلوا بالسیف فی الدنیا- فإنهم لم یسلموا من عقاب الله تعالى فی الآخره- على فرارهم و تخاذلهم- و سمى ذلک سیفا على وجه الاستعاره و صناعه الکلام- لأنه قد ذکر سیف الدنیا- فجعل ذلک فی مقابلته- . و اللهامیم السادات الأجواد من الناس- و الجیاد من الخیل الواحد لهموم- و السنام الأعظم یرید شرفهم و علو أنسابهم- لأن السنام أعلى أعضاء البعیر- . و موجده الله غضبه و سخطه- . و یروى و الذل اللاذم بالذال المعجمه- و هو بمعنى اللازم أیضا- لذمت المکان بالکسر أی لزمته- . ثم ذکر أن الفرار لا یزید فی العمر- و قال الراجز

قد علمت حسناء دعجاء المقل
أن الفرار لا یزید فی الأجل‏

ثم قال لهم أیکم یروح إلى الله- فیکون کالظمآن یرد الماء- . ثم قال الجنه تحت أطراف العوالی- و هذا منقول رسول الله ص الجنه تحت ظلال السیوف وسمع بعض الأنصار رسول الله ص یقول یوم أحد الجنه تحت ظلال السیوف- و فی یده تمیرات یلوکها- فقال بخ بخ لیس بینی و بین الجنه إلا هذه التمیرات- ثم قذفها من یده و کسر جفن سیفه- و حمل على قریش فقاتل حتى قتل- . ثم قال الیوم تبلى الأخبار- هذا من قول الله تعالى- وَ نَبْلُوَا أَخْبارَکُمْ أی نختبر أفعالکم- .

ثم دعا على أهل الشام إن ردوا الحق- بأن یفض الله جماعتهم- أی یهزمهم و یشتت أی یفرق کلمتهم- و أن یبسلهم بخطایاهم- أی یسلمهم لأجل خطایاهم التی اقترفوها و لا ینصرهم- أبسلت فلانا إذا أسلمته إلى الهلکه فهو مبسل- قال تعالى أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أی تسلم- و قال أُولئِکَ الَّذِینَ أُبْسِلُوا بِما کَسَبُوا- أی أسلموا للهلاک لأجل ما اکتسبوه من الإثم- و هذه الألفاظ کلها لا یتلو بعضها بعضا- و إنما هی منتزعه من کلام طویل- انتزعها الرضی رحمه الله و اطرح ما عداها: إِنَّهُمْ لَنْ یَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ- دُونَ طَعْنٍ دِرَاکٍ یَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِیمُ- وَ ضَرْبٍ یَفْلِقُ الْهَامَ وَ یُطِیحُ الْعِظَامَ- وَ یُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَ الْأَقْدَامَ- وَ حَتَّى یُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسِرُ- وَ یُرْجَمُوا بِالْکَتَائِبِ تَقْفُوهَا الْحَلَائِبُ- وَ حَتَّى یُجَرَّ بِبِلَادِهِمُ الْخَمِیسُ یَتْلُوهُ الْخَمِیسُ- وَ حَتَّى تَدْعَقَ الْخُیُولُ فِی نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ- وَ بِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَ مَسَارِحِهِمْ قال الشریف الرضی رحمه الله تعالى- الدعق الدق أی تدق الخیول بحوافرها أرضهم- و نواحر أرضهم متقابلاتها- و یقال منازل بنی فلان تتناحر أی تتقابل طعن دراک أی متتابع یتلو بعضه بعضا- و یخرج منه النسیم أی لسعته- و من هذا النحو قول الشاعر-

طعنت ابن عبد القیس طعنه ثائر
لها نفذ لو لا الشعاع أضاءها

ملکت بها کفی فأنهرت فتقها
یرى قائم من دونها ما وراءها

فهذا وصف الطعنه- بأنها لاتساعها یرى الإنسان المقابل لها- ببصره ما وراءها- و أنه لو لا شعاع الدم و هو ما تفرق منه لبان منها الضوء- و أمیر المؤمنین ع أراد من أصحابه طعنات یخرج النسیم- و هو الریح اللینه منهن- . و فلقت الشی‏ء أفلقه بکسر اللام فلقا أی شققته- و یطیح العظام یسقطها- طاح الشی‏ء أی سقط أو هلک أو تاه فی الأرض- و أطاحه غیره و طوحه- . و یندر السواعد یسقطها أیضا- ندر الشی‏ء یندر ندرا أی سقط- و منه النوادر و أندره غیره- و الساعد من الکوع إلى المرفق و هو الذراع- . و المناسر جمع منسر- و هو قطعه من الجیش تکون أمام الجیش الأعظم- بکسر السین و فتح المیم- و یجوز منسر بکسر المیم و فتح السین- و قیل إنها اللغه الفصحى- . و یرجموا أی یغزوا بالکتائب- جمع کتیبه و هی طائفه من الجیش- . تقفوها الحلائب أی تتبعها طوائف لنصرها و المحاماه عنها- یقال قد أحلبوا إذا جاءوا من کل أوب للنصره- و رجل محلب أی ناصر- و حالبت الرجل إذا نصرته و أعنته و قال الشاعر-

أ لهفا بقرى سحبل حین أحلبت
علینا الولایا و العدو المباسل‏

أی أعانت و نصرت و الخمیس الجیش- و الدعق قد فسره الرضی رحمه الله- و یجوز أن یفسر بأمر آخر- و هو الهیج و التنفیر- دعق القوم یدعقهم دعقا أی هاج منهم و نفرهم- . و نواحر أرضهم قد فسره رحمه الله أیضا- و یمکن أن یفسر بأمر آخر- و هو أن یراد به أقصى أرضهم و آخرها- من قولهم لآخر لیله فی الشهر ناحره- . و أعنان مساربهم و مسارحهم جوانبها- و المسارب ما یسرب فیه المال الراعی- و المسارح ما یسرح فیه- و الفرق بین سرح و سرب- أن السروح إنما یکون فی أول النهار- و لیس ذلک بشرط فی السروب

عود إلى أخبار صفین

و اعلم أن هذا الکلام قاله أمیر المؤمنین ع- لأصحابه فی صفین یحرضهم به- و قد ذکرنا من حدیث صفین فیما تقدم أکثره- و نحن نذکر هاهنا تتمه القصه- لیکون من وقف على ما تقدم و على هذا المذکور آنفا هنا- قد وقف على قصه صفین بأسرها- . اتفق الناس کلهم أن عمارا رضی الله عنه- أصیب مع علی ع بصفین- و قال کثیر منهم بل الأکثر- أن أویسا القرنی أصیب أیضا مع علی ع بصفین- .

و ذکر ذلک نصر بن مزاحم فی کتاب صفین- رواه عن حفص بن عمران البرجمی- عن عطاء بن السائب عن أبی البختری- و قد قال رسول الله ص فی أویس ما قال- و قال الناس کلهم إن رسول الله ص قال إن الجنه لتشتاق إلى‏ عمار و رووا عنه ص أن عمارا جاء یستأذن علیه- فقال ائذنوا له مرحبا بالطیب المطیبوروى سلمه بن کهیل عن مجاهد أن النبی ص رأى عمارا- و هو یحمل أحجار المسجد فقال- ما لهم و لعمار یدعوهم إلى الجنه- و یدعونه إلى الناروروى الناس کافه أن رسول الله ص قال له- تقتلک الفئه الباغیه- .

و روى نصر بن مزاحم فی کتاب صفین- عن عمرو بن شمر عن مالک بن أعین- عن زید بن وهب الجهنی- أن عمار بن یاسر نادى فی صفین یوما- قبل مقتله بیوم أو یومین- أین من یبغی رضوان الله عز و جل- و لا یئوب إلى مال و لا ولد- فأتته عصابه من الناس- فقال أیها الناس اقصدوا بنا قصد هؤلاء القوم- الذین یتبعون دم عثمان- و یزعمون أنه قتل مظلوما- و الله إن کان إلا ظالما لنفسه- الحاکم بغیر ما أنزل الله- و دفع علی ع الرایه إلى هاشم بن عتبه بن أبی وقاص- و کان علیه ذلک الیوم درعان- فقال له علی ع کهیئه المازح- أیا هاشم أ ما تخشى على نفسک أن تکون أعور جبانا- قال ستعلم یا أمیر المؤمنین- و الله لألفن بین جماجم العرب لف رجل ینوی الآخره- فأخذ رمحا فهزه فانکسر- ثم أخذ آخر فوجده جاسیا فألقاه- ثم دعا برمح لین فشد به اللواء- .

قال نصر و حدثنا عمرو قال- لما دفع علی ع الرایه إلى هاشم بن عتبه- قال‏ له رجل من أصحابه من بکر بن وائل- أقدم هاشم یکررها- ثم قال ما لک یا هاشم قد انتفخ سحرک- أعورا و جبنا- قال من هذا- قالوا فلان قال أهلها و خیر منها- إذا رأیتنی قد صرعت فخذها- ثم قال لأصحابه شدوا شسوع نعالکم و شدوا أزرکم- فإذا رأیتمونی قد هززت الرایه ثلاثا- فاعلموا أن أحدا منکم لا یسبقنی إلى الحمله- ثم نظر إلى عسکر معاویه- فرأى جمعا عظیما-

فقال من أولئک قیل أصحاب ذی الکلاع- ثم نظر فرأى جندا فقال من أولئک- قیل قریش و قوم من أهل المدینه- فقال قومی لا حاجه لی فی قتالهم- من عند هذه القبه البیضاء- قیل معاویه و جنده- قال فإنی أرى دونهم أسوده- قیل ذاک عمرو بن العاص و ابناه و موالیه- فأخذ الرایه فهزها- فقال رجل من أصحابه- البث قلیلا و لا تعجل فقال هاشم-

قد أکثرا لومی و ما أقلا
إنی شریت النفس لن أعتلا

أعور یبغی أهله محلا
قد عالج الحیاه حتى ملا

لا بد أن یفل أو یفلا
أشلهم بذی الکعوب شلا

مع ابن عم أحمد المعلى
أول من صدقه و صلى‏

قال نصر و حدثنا عبد العزیز بن سیاه- عن حبیب بن أبی ثابت- قال لما تناول هاشم الرایه- جعل عمار بن یاسر یحرضه على الحرب- و یقرعه بالرمح و یقول أقدم یا أعور-لا خیر فی أعور لا یأتی الفزع‏- . فیستحیی من عمار- و یتقدم و یرکز الرایه- فإذا رکزها عاوده عمار بالقول فیتقدم أیضا- فقال عمرو بن العاص- إنی لأرى لصاحب الرایه السوداء عملا- لئن دام على هذا لتفنین العرب الیوم- فاقتتلوا قتالا شدیدا- و عمار ینادی صبرا و الله إن الجنه تحت ظلال البیض- فکان بإزاء هاشم و عمار أبو الأعور السلمی- و لم یزل عمار بهاشم ینخسه و هو یزحف بالرایه- حتى اشتد القتال و عظم و التقى الزحفان- و اقتتلا قتالا لم یسمع السامعون بمثله- و کثرت القتلى فی الفریقین جمیعا- . و روى نصر عن عمرو بن شمر- قال حدثنی من أثق به من أهل العراق-قال لما التقینا بالقوم فی ذلک الیوم- وجدناهم خمسه صفوف- قد قیدوا أنفسهم بالعمائم- فقتلنا صفا ثم صفا- ثم خلصنا إلى الرابع- ما على الأرض شامی و لا عراقی یولی دبره- و أبو الأعور یقول-

إذا ما فررنا کان أسوأ فرارنا
صدود الخدود و ازورار المناکب‏

صدود الخدود و القنا متشاجر
و لا تبرح الأقدام عند التضارب‏

قال نصر- و التقت فی هذا الیوم همدان العراق بعک الشام- فقال قائلهم

همدان همدان و عک عک
ستعلم الیوم من الأرک‏

و کانت على عک الدروع و لیس علیهم رایات- فقالت همدان خدموا القوم أی اضربوا سوقهم- فقالت عک ابرکوا برک الکمل- فبرکوا کما یبرک الجمل ثم رموا الحجر- و قالوا لا نفر حتى یفر الحکر- . قال نصر- و اقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاه المغرب- ما کان صلاه القوم إلا التکبیر عند مواقیت الصلاه- . ثم إن أهل العراق کشفوا میمنه أهل الشام- فطاروا فی سواد اللیل- و کشف أهل الشام میسره أهل العراق- فاختلطوا فی سواد اللیل- و تبدلت الرایات بعضها ببعض- فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم- و لیس حوله إلا ألف رجل- فاقتلعوه و رکزوه من‏ وراء موضعه الأول و أحاطوا به- و وجد أهل العراق لواءهم مرکوزا- و لیس حوله إلا ربیعه و علی ع بینها- و هم محیطون به- و هو لا یعلم من هم و یظنهم غیرهم- فلما أذن مؤذن علی ع الفجر- قال علی ع

یا مرحبا بالقائلین عدلا
و بالصلاه مرحبا و أهلا

ثم وقف و صلى الفجر- فلما انفتل أبصر وجوها لیست بوجوه أصحابه بالأمس- و إذا مکانه الذی هو فیه ما بین المیسره إلى القلب- فقال من القوم قالوا ربیعه- و إنک یا أمیر المؤمنین لعندنا منذ اللیله- فقالفخر طویل لک یا ربیعه- . ثم قال لهاشم بن عتبه خذ اللواء- فو الله ما رأیت مثل هذه اللیله- فخرج هاشم باللواء حتى رکزه فی القلب- . قال نصر حدثنا عمرو بن شمر عن الشعبی- قال عبى معاویه تلک اللیله أربعه آلاف و ثلاثمائه- من فارس و راجل معلمین بالخضره- و أمرهم أن یأتوا علیا ع من ورائه- ففطنت لهم همدان فواجهوهم و صمدوا إلیهم- فباتوا تلک اللیله یتحارسون- و علی ع قد أفضى به ذهابه و مجیئه إلى رایات ربیعه- فوقف بینها و هو لا یعلم- و یظن أنه فی العسکر الأشعث- فلما أصبح لم یر الأشعث و لا أصحابه- و رأى سعید بن قیس الهمدانی على مرکزه- فجاء إلى سعید رجل من ربیعه یقال له زفر- فقال له أ لست القائل بالأمس- لئن لم تنته ربیعه لتکونن ربیعه ربیعه و همدان همدان- فما أغنت همدان‏البارحه- فنظر إلیه علی ع نظر منکر- و نادى منادی علی ع- أن اتعدوا للقتال و اغدوا علیه- و انهدوا إلى عدوکم- فکلهم تحرک إلا ربیعه لم تتحرک- فبعث إلیهم علی ع- أن انهدوا إلى عدوکم- فبعث إلیهم أبا ثروان- فقال إن أمیر المؤمنین ع یقرئکم السلام- و یقول لکم یا معشر ربیعه- ما لکم لا تنهدون إلى عدوکم و قد نهد الناس- قالوا کیف ننهد و هذه الخیل من وراء ظهرنا- قل لأمیر المؤمنین- فلیأمر همدان أو غیرها بمناجزتهم لننهد- فرجع أبو ثروان إلى علی ع- فأخبره فبعث إلیهم الأشتر-

فقال یا معشر ربیعه- ما منعکم أن تنهدوا و قد نهد الناس- و کان جهیر الصوت- و أنتم أصحاب کذا و أصحاب کذا- فجعل یعدد أیامهم- فقالوا لسنا نفعل- حتى ننظر ما تصنع هذه الخیل التی خلف ظهورنا- و هی أربعه آلاف- قل لأمیر المؤمنین فلیبعث إلیهم من یکفیه أمرهم- . و رایه ربیعه یومئذ مع الحضین بن المنذر- فقال لهم الأشتر فإن أمیر المؤمنین یقول لکم اکفونیها- إنکم لو بعثتم إلیهم طائفه منکم- لترکوکم فی هذه الفلاه- و فروا کالیعافیر- فوجهت حینئذ ربیعه إلیهم تیم الله- و النمر بن قاسط و عنزه- قالوا فمشینا إلیهم مستلئمین مقنعین فی الحدید- و کان عامه قتال صفین مشیا-

قال فلما أتیناهم هربوا و انتشروا انتشار الجراد- فذکرت قوله و فروا کالیعافیر- ثم رجعنا إلى أصحابنا و قد نشب القتال بینهم و بین أهل الشام- و قد اقتطع أهل الشام طائفه من أهل العراق- بعضها من ربیعه فأحاطوا بها- فلم نصل إلیها حتى حملنا على أهل الشام- فعلوناهم بالأسیاف حتى انفرجوا لنا- فأفضینا إلى أصحابنا فاستنقذناهم- و عرفناهم تحت النقع بسیماهم و علامتهم- و کانت علامه أهل العراق بصفین الصوف الأبیض- قد جعلوه فی رءوسهم و على‏أکتافهم و شعارهم- یا الله یا الله یا أحد یا صمد- یا رب محمد یا رحمان یا رحیم- و کانت علامه أهل الشام خرقا صفرا- قد جعلوها على رءوسهم و أکتافهم و شعارهم-نحن عباد الله حقا حقا- یا لثارات عثمان-

قال نصر فاجتلدوا بالسیوف و عمد الحدید- فلم یتحاجزوا حتى حجز بینهم اللیل- و ما یرى رجل من هؤلاء و من هؤلاء مولیا- . قال نصر حدثنا عمر بن سعد- قال کانوا عربا یعرف بعضهم بعضا فی الجاهلیه- و إنهم لحدیثو عهد بها- فالتقوا فی الإسلام- و فیهم بقایا تلک الحمیه- و عند بعضهم بصیره الدین و الإسلام- فتضاربوا و استحیوا من الفرار- حتى کادت الحرب تبیدهم- و کانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء عسکر هؤلاء- فیستخرجون قتلاهم فیدفنونهم- . قال نصر فحدثنا عمر بن سعد- قال فبینا علی ع واقفا بین جماعه- من همدان و حمیر و غیرهم من أفناء قحطان- إذ نادى رجل من أهل الشام- من دل على أبی نوح الحمیری- فقیل له قد وجدته- فما ذا ترید قال فحسر عن لثامه- فإذا هو ذو الکلاع الحمیری و معه جماعه من أهله و رهطه- فقال لأبی نوح سر معی- قال إلى أین قال إلى أن نخرج عن الصف- قال و ما شأنک قال إن لی إلیک لحاجه- فقال أبو نوح معاذ الله أن أسیر إلیک إلا فی کتیبه- قال ذو الکلاع- بلى فسر فلک ذمه الله و ذمه رسوله‏ و ذمه ذی الکلاع- حتى ترجع إلى خیلک-

فإنما أرید أن أسألک عن أمر فیکم تمارینا فیه- فسار أبو نوح و سار ذو الکلاع- فقال له إنما دعوتک أحدثک حدیثا- حدثناه عمرو بن العاص قدیما فی خلافه عمر بن الخطاب- ثم أذکرناه الآن به فأعاده- أنه یزعم أنه سمع رسول الله ص- قال یلتقی أهل الشام و أهل العراق- و فی إحدى الکتیبتین الحق و إمام الهدى- و معه عمار بن یاسر- فقال أبو نوح نعم و الله إنه لفینا- قال نشدتک الله أ جاد هو على قتالنا- قال أبو نوح- نعم و رب الکعبه لهو أشد على قتالکم منی- و لوددت أنکم خلق واحد- فذبحته و بدأت بک قبلهم- و أنت ابن عمی- قال ذو الکلاع ویلک علام تمنى ذلک منا- فو الله ما قطعتک فیما بینی و بینک قط- و إن رحمک لقریبه و ما یسرنی أن أقتلک-

قال أبو نوح إن الله قطع بالإسلام أرحاما قریبه- و وصل به أرحاما متباعده- و إنی قاتلک و أصحابک لأنا على الحق و أنتم على الباطل- قال ذو الکلاع- فهل تستطیع أن تأتی معی صف أهل الشام- فأنا لک جار منهم حتى تلقى عمرو بن العاص- فتخبره بحال عمار و جده فی قتالنا- لعله أن یکون صلح بین هذین الجندین- . قلت وا عجباه من قوم یعتریهم الشک- فی أمرهم لمکان عمار- و لا یعتریهم الشک لمکان علی ع- و یستدلون على أن الحق مع أهل العراق- بکون عمار بین أظهرهم- و لا یعبئون بمکان علی ع- و یحذرون من قول النبی ص تقتلک الفئه الباغیه- و یرتاعون لذلک- و لا یرتاعون لقوله ص فی علی ع اللهم وال من والاه و عاد من عاداه- و لالقوله لا یحبک إلا مؤمن‏و لا یبغضک إلا منافق- و هذا یدلک على أن علیا ع اجتهدت قریش کلها- من مبدإ الأمر فی إخمال ذکره و ستر فضائله- و تغطیه خصائصه حتى محی فضله و مرتبته- من صدور الناس کافه إلا قلیلا منهم- .

قال نصر فقال له أبو نوح إنک رجل غادر- و أنت فی قوم غدر- و إن لم یرد الغدر أغدروک- و إنی أن أموت أحب إلى من أن أدخل مع معاویه- فقال ذو الکلاع أنا جار لک من ذلک- ألا تقتل و لا تسلب و لا تکره على بیعه- و لا تحبس عن جندک- و إنما هی کلمه تبلغها عمرو بن العاص- لعل الله أن یصلح بذلک بین هذین الجندین- و یضع عنهم الحرب- فقال أبو نوح إنی أخاف غدراتک و غدرات أصحابک- قال ذو الکلاع أنا لک بما قلت زعیم-

قال أبو نوح اللهم إنک ترى ما أعطانی ذو الکلاع- و أنت تعلم ما فی نفسی- فاعصمنی و اختر لی و انصرنی و ادفع عنی- ثم سار مع ذی الکلاع حتى أتى عمرو بن العاص- و هو عند معاویه و حوله الناس- و عبد الله بن عمر یحرض الناس على الحرب- فلما وقفا على القوم قال ذو الکلاع لعمرو- یا أبا عبد الله هل لک فی رجل ناصح لبیب مشفق- یخبرک عن عمار بن یاسر فلا یکذبک- قال و من هو قال هو ابن عمی هذا- و هو من أهل الکوفه- فقال عمرو أرى علیک سیما أبی تراب- فقال أبو نوح على سیما محمد و أصحابه- و علیک سیما أبی جهل و سیما فرعون- فقام أبو الأعور فسل سیفه- و قال لا أرى هذا الکذاب اللئیم- یسبنا بین أظهرنا و علیه سیما أبی تراب- فقال ذو الکلاع أقسم بالله- لئن بسطت یدک إلیه لأحطمن أنفک بالسیف- ابن عمی و جاری عقدت له ذمتی- و جئت به إلیکم لیخبرکم عما تماریتم فیه- فقال له عمرو بن العاص یا أبا نوح- أذکرک بالله إلا ما صدقتنا و لم تکذبنا- أ فیکم عمار بن یاسر-

قال أبو نوح ما أنا بمخبرک حتى تخبر لم تسأل عنه- و معنا من أصحاب محمد ص عده غیره- و کلهم جاد على قتالکم-فقال عمرو سمعت رسول الله ص یقول إن‏ عمارا تقتله الفئه الباغیه- و إنه لیس لعمار أن یفارق الحق- و لن تأکل النار من عمار شیئا- فقال أبو نوح لا إله إلا الله و الله أکبر- و الله إنه لفینا جاد على قتالکم- فقال عمرو الله الذی لا إله إلا هو إنه لجاد على قتالنا- قال نعم و الله الذی لا إله إلا هو- و لقد حدثنی یوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصره- و لقد قال لی أمس- إنکم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر- لعلمنا أنا على الحق و أنکم على باطل- و لکانت قتلانا فی الجنه و قتلاکم فی النار- قال عمرو فهل تستطیع أن تجمع بینی و بینه-

قال نعم فرکب عمرو بن العاص و ابناه- و عتبه بن أبی سفیان و ذو الکلاع- و أبو الأعور السلمی و حوشب- و الولید بن عقبه و انطلقوا- و سار أبو نوح و معه شرحبیل بن ذی الکلاع یحمیه- حتى انتهى إلى أصحابه- فذهب أبو نوح إلى عمار- فوجده قاعدا مع أصحاب له- منهم الأشتر و هاشم و ابنا بدیل- و خالد بن معمر و عبد الله بن حجل- و عبد الله بن العباس- . فقال لهم أبو نوح إنه دعانی ذو الکلاع و هو ذو رحم- فقال أخبرنی عن عمار بن یاسر أ فیکم هو- فقلت لم تسأل-فقال أخبرنی عمرو بن العاص فی إمره عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله ص یقول یلتقی أهل الشام و أهل العراق و عمار مع أهل الحق- و تقتله الفئه الباغیه- فقلت نعم إن عمارا فینا- فسألنی أ جاد هو على قتالنا- فقلت نعم و الله إنه لأجد منی فی ذلک- و لوددت أنکم خلق واحد فذبحته- و بدأت بک یا ذا الکلاع- فضحک عمار و قال أ یسرک ذلک-

قال نعمثم قال أبو نوح أخبرنی الساعه عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ص یقول تقتل عمارا الفئه الباغیه- قال عمار أ قررته بذلک- قال نعم لقد قررته بذلک فأقر-فقال عمار صدق و لیضرنه ما سمع و لا ینفعه- قال أبو نوح فإنه یرید أن یلقاک- فقال عمار لأصحابه ارکبوا فرکبوا و ساروا- قال فبعثنا إلیهم فارسا من عبد القیس- یسمى عوف بن بشر فذهب حتى إذا کان قریبا منهم- نادى أین عمرو بن العاص قالوا هاهنا- فأخبره بمکان عمار و خیله- قال عمرو قل له فلیسر إلینا-

قال عوف إنه یخاف غدارتک و فجراتک- قال عمرو ما أجرأک علی و أنت على هذه الحال- قال عوف جرأنی علیک بصری فیک و فی أصحابک- و إن شئت نابذتک الآن على سواء- و إن شئت التقیت أنت و خصماؤک و أنت کنت غادرا- فقال عمرو إنک لسفیه- و إنی باعث إلیک رجلا من أصحابی یواقفک- قال ابعث من شئت فلست بالمستوحش- و إنک لا تبعث إلا شقیا فرجع عمرو- و أنفذ إلیه أبا الأعور- فلما تواقفا تعارفا- فقال عوف إنی لأعرف الجسد و أنکر القلب- و إنی لا أراک مؤمنا و لا أراک إلا من أهل النار- قال أبو الأعور یا هذا- لقد أعطیت لسانا یکبک الله به على وجهک فی النار-

قال عوف کلا- و الله إنی لأتکلم بالحق و تتکلم بالباطل- و إنی أدعوک إلى الهدى و أقاتلک على الضلال- و أفر من النار و أنت بنعمه الله ضال- تنطق بالکذب و تقاتل على ضلاله- و تشتری العقاب بالمغفره و الضلاله بالهدى- انظر إلى وجوهنا و وجوهکم و سیمانا و سیماکم- و اسمع دعوتنا و دعوتکم- فلیس أحد منا إلا و هو أولى بالحق و بمحمد- و أقرب إلیه منکم- فقال أبو الأعور لقد أکثرت الکلام و ذهب النهار- ویحک ادع أصحابک و أدعو أصحابی- و لیأت أصحابک فی قله إن شاءوا أو کثره- فإنی أجی‏ء من أصحابی بعدتهم- فإن شاء أصحابک فلیقلواو إن شاءوا فلیکثروا- فسار عمار فی اثنی عشر فارسا- حتى إذا کانوا بالمنصف سار عمرو بن العاص فی اثنی عشر فارسا- حتى اختلفت أعناق الخیل خیل عمار و خیل عمرو- و نزل القوم و احتبوا بحمائل سیوفهم- فتشهد عمرو بن العاص-

فقال له عمار اسکت- فلقد ترکتها و أنا أحق بها منک- فإن شئت کانت خصومه فیدفع حقنا باطلک- و إن شئت کانت خطبه- فنحن أعلم بفصل الخطاب منک- و إن شئت أخبرتک بکلمه تفصل بیننا و بینک- و تکفرک قبل القیام و تشهد بها على نفسک- و لا تستطیع أن تکذبنی فیها- فقال عمرو یا أبا الیقظان لیس لهذا جئت- إنما جئت لأنی رأیتک أطوع أهل هذا العسکر فیهم- أذکرک الله إلا کففت سلاحهم- و حقنت دماءهم و حرصت على ذلک- فعلام تقاتلوننا أ و لسنا نعبد إلها واحدا- و نصلی إلى قبلتکم و ندعو دعوتکم- و نقرأ کتابکم و نؤمن بنبیکم فقال عمار الحمد لله الذی أخرجها من فیک- أنها لی و لأصحابی القبله و الدین- و عباده الرحمن و النبی و الکتاب من دونک و دون أصحابک- الحمد لله الذی قررک لنا بذلک- و جعلک ضالا مضلا أعمى- و سأخبرک على ما أقاتلک علیه و أصحابک- إن رسول الله ص أمرنی أن أقاتل الناکثین فقد فعلت- و أمرنی أن أقاتل القاسطین و أنتم هم- و أما المارقون فلا أدری أدرکهم أو لا أیها الأبتر- أ لست تعلم
أن رسول الله ص قال من کنت مولاه فعلی مولاه- اللهم وال من والاه و عاد من عاداه- فأنا مولى الله و رسوله و علی مولای بعدهما-

قال عمرو لم تشتمنی یا أبا الیقظان و لست أشتمک- قال عمار و بم تشتمنی- أ تستطیع أن تقول أنی عصیت الله و رسوله یوما قط- قال عمرو إن فیک لمساب سوى ذلک- قال عمار إن الکریم من أکرمه‏ الله- کنت وضیعا فرفعنی الله و مملوکا فأعتقنی الله- و ضعیفا فقوانی الله و فقیرا فأغنانی الله- قال عمرو فما ترى فی قتل عثمان- قال فتح لکم باب کل سوء- قال عمرو فعلی قتله- قال عمار بل الله رب علی قتله و علی معه- قال عمرو فکنت فیمن قتله- قال کنت مع من قتله و أنا الیوم أقاتل معهم- قال عمرو فلم قتلتموه- قال عمار إنه أراد أن یغیر دیننا فقتلناه- فقال عمرو أ لا تسمعون- قد اعترف بقتل إمامکم- فقال عمار قد قالها فرعون قبلک لقومه أَ لا تَسْتَمِعُونَ- فقام أهل الشام و لهم زجل فرکبوا خیولهم و رجعوا- و قام عمار و أصحابه فرکبوا خیولهم و رجعوا- و بلغ معاویه ما کان بینهم- فقال هلکت العرب- أن حرکتهم خفه العبد الأسود یعنی عمارا- .

قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر- قال فخرجت الخیول إلى القتال و اصطفت بعضها لبعض- و تزاحف الناس و على عمار درع بیضاء- و هو یقول أیها الناس الرواح إلى الجنه- . فقاتل القوم قتالا شدیدا لم یسمع السامعون بمثله- و کثرت القتلى حتى أن کان الرجل لیشد طنب فسطاطه- بید الرجل أو برجله- و حکى الأشعث بعد ذلک- قال لقد رأیت أخبیه صفین و أروقتها- و ما فیها خباء و لا رواق و لا فسطاط- إلا مربوطا بید إنسان أو برجله- . قال نصر و جعل أبو السماک الأسدی- یأخذ إداوه من ماء و شفره حدیده- فیطوف فی القتلى فإذا رأى رجلا جریحا و به رمق أقعده- فیقول له من أمیر المؤمنین- فإذا قال‏علی غسل الدم عنه و سقاه من الماء- و إن سکت وجأه بالسکین حتى یموت و لا یسقیه- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر- قال سمعت الشعبی یقول قال الأحنف بن قیس- و الله إنی إلى جانب عمار بن یاسر- بینی و بینه رجل من بنی الشعیراء- . فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبه- فقال له عمار احمل فداک أبی و أمی- فقال له هاشم یرحمک الله یا أبا الیقظان- إنک رجل تأخذک خفه فی الحرب- و إنی إنما أزحف باللواء زحفا- أرجو أن أنال بذلک حاجتی- و إن خففت لم آمن الهلکه- و قد کان قال معاویه لعمرو ویحک- إن اللواء الیوم مع هاشم بن عتبه- و قد کان من قبل یرقل به إرقالا- و إن زحف به الیوم زحفا- إنه للیوم الأطول على أهل الشام- فإن زحف فی عنق من أصحابه- إنی لأطمع أن تقتطع- فلم یزل به عمار حتى حمل فبصر به معاویه- فوجه إلیه حماه أصحابه- و من یزن بالبأس و النجده منهم فی ناحیه- و کان فی ذلک الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص- و معه یومئذ سیفان قد تقلد بأحدهما- و هو یضرب بالآخر- فأطافت به خیول علی ع- و جعل عمرو یقول یا الله یا رحمان ابنی ابنی- فیقول معاویه اصبر فلا بأس علیه- فقال عمرو لو کان یزید بن معاویه أ صبرت- فلم یزل حماه أهل الشام تذب عن عبد الله- حتى نجا هاربا على فرسه و من معه- و أصیب هاشم فی المعرکه- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال و فی هذا الیوم قتل عمار بن یاسر رضی الله عنه- أصیب فی المعرکه- و قد کان قال حین نظر إلى رایه عمرو بن العاص- و الله إنها لرایه قد قاتلتها ثلاث عرکات و ما هذه بأرشدهن- ثم قال

نحن ضربناکم على تأویله
کما ضربناکم على تنزیله‏

ضربا یزیل الهام عن مقیله‏
و یذهل الخلیل عن خلیله‏
أو یرجع الحق إلى سبیله‏

ثم استسقى و قد اشتد عطشه- فأتته امرأه طویله الیدین- ما أدری أ عس معها أم إداوه فیها ضیاح من لبن- فقال حین شرب الجنه تحت الأسنه- الیوم ألقی الأحبه محمدا و حزبه- و الله لو ضربونا حتى یبلغونا سعفات هجر- لعلمنا أنا على الحق و أنهم على الباطل- ثم حمل و حمل علیه ابن حوى السکسکی و أبو العادیه- فأما أبو العادیه فطعنه- و أما ابن حوى فاحتز رأسه-و قد کان ذو الکلاع یسمع عمرو بن العاص یقول إن النبی ص یقول لعمار تقتلک الفئه الباغیه- و آخر شربک ضیاح من لبن- فقال ذو الکلاع لعمرو ویحک ما هذا- قال عمرو إنه سیرجع إلینا و یفارق أبا تراب- و ذلک قبل أن یصاب عمار- فلما أصیب عمار فی هذا الیوم أصیب ذو الکلاع- فقال عمرو لمعاویه- و الله ما أدری بقتل أیهما أنا أشد فرحا- و الله لو بقی ذو الکلاع حتى یقتل عمار- لمال بعامه قومه إلى علی و لأفسد علینا أمرنا- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال کان لا یزال رجل یجی‏ء فیقول لمعاویه و عمرو- أنا قتلت عمارا فیقول له عمرو فما سمعته یقول فیخلط- حتى أقبل ابن حوى‏ فقال أنا قتلته- فقال عمرو فما کان آخر منطقه- قال سمعته یقول الیوم ألقى الأحبه محمدا و حزبه- فقال صدقت أنت صاحبه- أما و الله ما ظفرت یداک- و لقد أسخطت ربک- . قال نصر حدثنا عمرو بن شمر- قال حدثنی إسماعیل السدی- عن عبد خیر الهمدانی- قال نظرت إلى عمار بن یاسر یوما من أیام صفین- قد رمی رمیه فأغمی علیه- فلم یصل الظهر و لا العصر- و لا المغرب و لا العشاء و لا الفجر- ثم أفاق فقضاهن جمیعا یبدأ بأول شی‏ء فاته- ثم بالتی تلیها- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن السدی عن أبی حریث- قال أقبل غلام لعمار بن یاسر اسمه راشد- یحمل إلیه یوم قتل بشربه من لبن-فقال عمار أما إنی سمعت خلیلی رسول الله ص یقول إن آخر زادک من الدنیا شربه لبن- .

قال نصر و روى عمرو بن شمر- عن السدی أن رجلین بصفین اختصما فی سلب عمار و فی قتله- فأتیا عبد الله بن عمرو بن العاص- فقال ویحکما اخرجا عنی-فإن رسول الله ص قال ما لقریش و لعمار- یدعوهم إلى الجنه و یدعونه إلى النار- قاتله و سالبه فی النار- .قال السدی- فبلغنی أن معاویه قال لما سمع ذلک- إنما قتله من أخرجه- یخدع بذلک طغام أهل الشام- . قال نصر و حدثنا عمرو عن جابر عن أبی الزبیر- قال أتى حذیفه بن الیمان رهط من جهینه- فقالوا له یا أبا عبد الله- إن رسول الله ص استجار من أن تصطلم أمته- فأجیر من ذلک- و استجار من أن یذیق أمته بعضها بأس بعض- فمنع من ذلکفقال حذیفه إنی سمعت رسول الله ص یقول إن ابن سمیه لم یخیر بین أمرین قط إلا اختار أشدهما- یعنی عمارا فالزموا سمته- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال حمل عمار ذلک الیوم على صف أهل الشام- و هو یرتجز-

کلا و رب البیت لا أبرح أجی
حتى أموت أو أرى ما أشتهی‏

لا أفتأ الدهر أحامی عن علی‏
صهر الرسول ذی الأمانات الوفی‏

ینصرنا رب السماوات العلی
و یقطع الهام بحد المشرفی‏

یمنحنا النصر على من یبتغی‏
ظلما علینا جاهدا ما یأتلی‏

قال فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار- .قال نصر و قد کان عبد الله بن سوید الحمیری- من آل ذی الکلاع- قال لذی الکلاع- ما حدیث سمعته من ابن العاص فی عمار فأخبره- فلما قتل عمار خرج عبد الله لیلا یمشی- فأصبح فی عسکر علی ع- و کان عبد الله من عباد الله زمانه- و کاد أهل الشام أن یضطربوا- لو لا أن معاویه قال لهم- إن علیا قتل عمارا لأنه أخرجه إلى الفتنه- ثم أرسل معاویه إلى عمرو- لقد أفسدت على أهل الشام- أ کل ما سمعت من رسول الله ص تقوله- فقال عمرو قلتها و لست أعلم الغیب- و لا أدری أن صفین تکون- قلتها و عمار یومئذ لک ولی- و قد رویت أنت فیه مثل ما رویت- فغضب معاویه و تنمر لعمرو- و عزم على منعه خیره- فقال عمرو لابنه و أصحابه- لا خیر فی جوار معاویه- إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنه- و کان عمرو حمی الأنف قال-

تعاتبنی أن قلت شیئا سمعته
و قد قلت لو أنصفتنی مثله قبلی‏

أ نعلک فیما قلت نعل ثبیته‏
و تزلق بی فی مثل ما قلته نعلی‏

و ما کان لی علم بصفین أنها
تکون و عمار یحث على قتلی‏

و لو کان لی بالغیب علم کتمتها
و کایدت أقواما مراجلهم تغلی‏

أبى الله إلا أن صدرک واغر
علی بلا ذنب جنیت و لا ذحل‏

سوى أننی و الراقصات عشیه
بنصرک مدخول الهوى ذاهل العقل‏

فلا وضعت عنی حصان قناعها
و لا حملت وجناء ذعلبه رحلی‏

و لا زلت أدعى فی لؤی بن غالب‏
قلیلا غنائی لا أمر و لا أحلى‏

إن الله أرخى من خناقک مره
و نلت الذی رجیت إن لم أزر أهلی‏

و أترک لک الشام التی ضاق رحبها
علیک و لم یهنک بها العیش من أجلی‏

فأجابه معاویه-

أ الآن لما ألقت الحرب برکها
و قام بنا الأمر الجلیل على رجل‏

غمزت قناتی بعد ستین حجه
تباعا کأنی لا أمر و لا أحلى‏

أتیت بأمر فیه للشام فتنه
و فی دون ما أظهرته زله النعل‏

فقلت لک القول الذی لیس ضائرا
و لو ضر لم یضررک حملک لی ثقلی‏

تعاتبنی فی کل یوم و لیله
کأن الذی أبلیک لیس کما أبلی‏

فیا قبح الله العتاب و أهله‏
أ لم تر ما أصبحت فیه من الشغل‏

فدع ذا و لکن هل لک الیوم حیله
ترد بها قوما مراجلهم تغلی‏

دعاهم علی فاستجابوا لدعوه
أحب إلیهم من ثرى المال و الأهل‏

إذا قلت هابوا حومه الموت أرقلوا
إلى الموت إرقال الهلوک إلى الفحل‏

قال فلما أتى عمرا شعر معاویه أتاه- فأعتبه و صار أمرهما واحدا- . قال نصر- ثم إن علیا ع دعا فی هذا الیوم هاشم بن عتبه- و معه لواؤه و کان أعور- فقال له یا هاشم حتى متى- فقال هاشم لأجهدن ألا أرجع إلیک أبدا- فقال علی ع إن بإزائک ذا الکلاع- و عنده الموت الأحمر فتقدم هاشم-فلما أقبل قال معاویه من هذا المقبل- فقیل هاشم المرقال- فقال أعور بنی زهره قاتله الله- فأقبل هاشم و هو یقول-

أعور یبغی نفسه خلاصا
مثل الفنیق لابسا دلاصا

لا دیه یخشى و لا قصاصا
کل امرئ و إن کبا و حاصا
لیس یرى من یومه مناصا

فحمل صاحب لواء ذی الکلاع- و هو رجل من عذره- فقال

یا أعور العین و ما بی من عور
اثبت فإنی لست من فرعی مضر

نحن الیمانون و ما فینا خور
کیف ترى وقع غلام من عذر

ینعى ابن عفان و یلحى من عذر
سیان عندی من سعى و من أمر

فاختلفا طعنتین فطعنه هاشم فقتله- و کثرت القتلى حول هاشم- و حمل ذو الکلاع و اختلط الناس و اجتلدوا- فقتل هاشم و ذو الکلاع جمیعا- و أخذ عبد الله بن هاشم اللواء و ارتجز- فقال

یا هاشم بن عتبه بن مالک
أعزز بشیخ من قریش هالک‏

تحیطه الخیلان بالسنابک‏
فی أسود من نقعهن حالک‏

أبشر بحور العین فی الأرائک
و الروح و الریحان عند ذلک‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی- قال أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبه رایه أبیه- ثم قال أیها الناس- إن هاشما کان عبدا من عباد الله الذی قدر أرزاقهم-و کتب آثارهم و أحصى أعمالهم و قضى آجالهم- فدعاه الله ربه فاستجاب لأمره و سلم لأمره- و جاهد فی طاعه ابن عم رسوله- أول من آمن به و أفقههم فی دین الله- الشدید على أعداء الله المستحلین حرم الله- الذین عملوا فی البلاد بالجور و الفساد- و استحوذ علیهم الشیطان- فأنساهم ذکر الله و زین لهم الإثم و العدوان- فحق علیکم جهاد من خالف الله- و عطل حدوده و نابذ أولیاءه- جودوا بمهجکم فی طاعه الله فی هذه الدنیا- تصیبوا الآخره و المنزل الأعلى- و الأبد الذی لا یفنى- فو الله لو لم یکن ثواب و لا عقاب- و لا جنه و لا نار- لکان القتال مع علی أفضل من القتال مع معاویه- فکیف و أنتم ترجون ما ترجون- قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال لما انقضى أمر صفین- و سلم الحسن ع الأمر إلى معاویه- و وفدت علیه الوفود- أشخص عبد الله بن هاشم إلیه أسیرا- فلما مثل بین یدیه و عنده عمرو بن العاص-

قال یا أمیر المؤمنین هذا المختال ابن المرقال- فدونک الضب المضب المعر المفتون- فاقتله فإن العصا من العصیه- و إنما تلد الحیه حییه و جزاء السیئه سیئه مثلها- . فقال عبد الله- إن تقتلنی فما أنا بأول رجل خذله قومه- و أسلمه یومه- فقال عمرو یا أمیر المؤمنین- أمکنی منه أشخب أوداجه على أثباجه- فقال عبد الله فهلا کانت هذه الشجاعه منک- یا ابن العاص فی أیام صفین- و نحن ندعوک إلى النزال- و قد ابتلت أقدام الرجال من نقیع الجریال- و قد تضایقت بک المسالک- و أشرفت منها على المهالک- و ایم الله لو لا مکانک منه- لرمیتک بأحد من وقع الأشافی- فإنک لا تزال تکثر فی‏ هوسک- و تخبط فی دهسک و تنشب فی مرسک- تخبط العشواء فی اللیله الحندس الظلماء- فأمر معاویه به إلى الحبس- فکتب عمرو إلى معاویه-

أمرتک أمرا حازما فعصیتنی
و کان من التوفیق قتل ابن هاشم‏

و کان أبوه یا معاویه الذی‏
رماک على حرب بحز الغلاصم‏

فقتلنا حتى جرت من دمائنا
بصفین أمثال البحور الخضارم‏

و هذا ابنه و المرء یشبه أصله‏
ستقرع إن أبقیته سن نادم‏

فبعث معاویه بالشعر إلى عبد الله بن هاشم- فکتب فی جوابه من السجن-

معاوی إن المرء عمرا أبت له
ضغینه صدر ودها غیر سالم‏

یرى لک قتلی یا ابن حرب و إنما
یرى ما یرى عمرو ملوک الأعاجم‏

على أنهم لا یقتلون أسیرهم
إذا کان فیه منعه للمسالم‏

و قد کان منا یوم صفین نفره
علیک جناها هاشم و ابن هاشم‏

قضى الله فیها ما قضى ثمت انقضى
و ما ما مضى إلا کأضغاث حالم‏

فإن تعف عنی تعف عن ذی قرابه
و إن تر قتلی تستحل محارمی‏

هذه روایه نصر بن مزاحم- .و روى أبو عبید الله محمد بن عمران- بن موسى بن عبید الله المرزبانی- أن معاویه لما تم له الأمر بعد وفاه علی ع- بعث زیادا على البصره- و ناد منادی معاویه أمن الأسود و الأحمر بأمان الله- إلا عبد الله بن هاشم بن عتبه- فمکث معاویه یطلبه أشد الطلب- و لا یعرف له خبرا- حتى قدم علیه رجل من أهل البصره- فقال له أنا أدلک على عبد الله بن هاشم بن عتبه- اکتب إلى زیاد فإنه عند فلانه المخزومیه- فدعا کاتبه- فکتب من معاویه بن أبی سفیان أمیر المؤمنین- إلى زیاد بن أبی سفیان- أما بعد فإذا أتاک کتابی هذا- فاعمد إلى حی بنی مخزوم- ففتشه دارا دارا- حتى تأتی إلى دار فلانه المخزومیه- فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها- فاحلق رأسه و ألبسه جبه شعر و قیده- و غل یده إلى عنقه- و احمله على قتب بعیر بغیر وطاء و لا غذاء- و أنفذ به إلی- .

قال المرزبانی فأما الزبیر بن بکار فإنه قال- إن معاویه قال لزیاد لما بعثه إلى البصره- إن عبد الله بن المرقال فی بنی ناجیه بالبصره- عند امرأه منهم یقال لها فلانه- و أنا أعزم علیک إلا حططت رحلک ببابها- ثم اقتحمت الدار و استخرجته منها و حملته إلی- . فلما دخل زیاد إلى البصره- سأل عن بنی ناجیه و عن منزل المرأه فاقتحم الدار- و استخرج عبد الله منها- فأنفذه إلى معاویه فوصل إلیه یوم الجمعه- و قد لاقى نصبا کثیرا- و من الهجیر ما غیر جسمه- و کان معاویه یأمر بطعام- فیتخذ فی کل جمعه لأشراف قریش و لأشراف الشام و وفود العراق- فلم یشعر معاویه إلا و عبد الله بین یدیه- و قد ذبل و سهم وجهه- فعرفه و لم یعرفه عمرو بن العاص- فقال معاویه یا أبا عبد الله- أ تعرف هذا الفتى قال لا- قال هذا ابن الذی کان یقول فی صفین-

أعور یبغی أهله محلا
قد عالج الحیاه حتى ملا
لا بد أن یفل أو یفلا

قال عمرو و إنه لهو دونک الضب المضب- فاشخب أوداجه- و لا ترجعه إلى أهل‏العراق فإنهم أهل فتنه و نفاق- و له مع ذلک هوى یردیه و بطانه تغویه- فو الذی نفسی بیده لئن أفلت من حبائلک- لیجهزن إلیک جیشا تکثر صواهله لشر یوم لک- . فقال عبد الله و هو فی القید- یا ابن الأبتر هلا کانت هذه الحماسه عندک یوم صفین- و نحن ندعوک إلى البراز- و تلوذ بشمائل الخیل- کالأمه السوداء و النعجه القوداء- أما إنه إن قتلنی قتل رجلا کریم المخبره حمید المقدره- لیس بالجبس المنکوس و لا الثلب المرکوس- فقال عمرو دع کیت و کیت- فقد وقعت بین لحیی لهزم فروس للأعداء- یسعطک إسعاط الکودن الملجم-

قال عبد الله أکثر إکثارک- فإنی أعلمک بطرا فی الرخاء- جبانا فی اللقاء هیابه عند کفاح الأعداء- ترى أن تقی مهجتک بأن تبدی سوءتک- أ نسیت یوم صفین و أنت تدعى إلى النزال فتحید عن القتال- خوفا أن یغمرک رجال لهم أبدان شداد- و أسنه حداد ینهبون السرح- و یذلون العزیز- . قال عمر لقد علم معاویه أنی شهدت تلک المواطن- فکنت فیها کمدره الشوک- و لقد رأیت أباک فی بعض تلک المواطن تخفق أحشاؤه- و تنق أمعاؤه- قال أما و الله لو لقیک أبی فی ذلک المقام- لارتعدت منه فرائصک- و لم تسلم منه مهجتک- و لکنه قاتل غیرک فقتل دونک- . فقال معاویه أ لا تسکت لا أم لک- فقال یا ابن هند أ تقول لی هذا- و الله لئن شئت لأعرقن جبینک- و لأقیمنک و بین عینیک وسم یلین له أخدعاک- أ بأکثر من الموت تخوفنی- فقال معاویه أو تکف یا ابن أخی و أمر به إلى السجن- . فقال عمرو و ذکر الأبیات- فقال عبد الله و ذکر الأبیات أیضا- و زاد فأطرق معاویه طویلا حتى ظن أنه لن یتکلم- ثم قال‏

أرى العفو عن علیا قریش وسیله
إلى الله فی الیوم العبوس القماطر

و لست أرى قتلی فتى ذا قرابه
له نسب فی حی کعب و عامر

بل العفو عنه بعد ما خاب قدحه
و زلت به إحدى الجدود العواثر

و کان أبوه یوم صفین محنقا
علینا فأردته رماح یحابر

ثم قال له أ تراک فاعلا ما قال عمرو من الخروج علینا- قال لا تسل عن عقیدات الضمائر- لا سیما إذا أرادت جهادا فی طاعه الله- قال إذن یقتلک الله کما قتل أباک- قال و من لی بالشهاده- قال فأحسن معاویه جائزته- و أخذ علیه موثقا ألا یساکنه بالشام- فیفسد علیه أهله- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن السدی عن عبد خیر الهمدانی- قال قال هاشم بن عتبه یوم مقتله- أیها الناس إنی رجل ضخم- فلا یهولنکم مسقطی إذا سقطت- فإنه لا یفرغ منی أقل من نحر جزور- حتى یفرغ الجزار من جزرها- ثم حمل فصرع- فمر علیه رجل و هو صریع بین القتلى- فناداه اقرأ على أمیر المؤمنین السلام- و قل له برکات الله و رحمته علیک یا أمیر المؤمنین- أنشدک الله إلا أصبحت- و قد ربطت مقاود خیلک بأرجل القتلى- فإن الدبره تصبح غدا لمن غلب على القتلى- فأخبر الرجل علیا ع بما قاله- فسار فی اللیل بکتائبه حتى جعل القتلى خلف ظهره- فأصبح و الدبره له على أهل الشام- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن السدی عن عبد خیر- قال قاتل هاشم الحارث بن المنذر التنوخی- حمل علیه بعد أن أعیا و کل- و قتل بیده فطعنه بالرمح فشق بطنه فسقط- و بعث إلیه علی ع و هو لا یعلم أقدم بلوائک- فقال للرسول انظر إلى بطنی فإذا هو قد انشق- فجاء علی ع حتى وقف علیه- و حوله عصابه من أسلم قد صرعوا معه- و قوم من القراء فجزع علیه- و قال

جزى الله خیرا عصبه أسلمیه
صباح الوجوه صرعوا حول هاشم‏

یزید و سعدان و بشر و معبد
و سفیان و ابنا معبد ذی المکارم‏

و عروه لا یبعد نثاه و ذکره
إذا اخترطت یوما خفاف الصوارم‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن الشعبی عن أبی سلمه- أن هاشم بن عتبه استصرخ الناس عند المساء- ألا من کان له إلى الله حاجه- و من کان یرید الآخره فلیقبل- فأقبل إلیه ناس کثیر شد بهم على أهل الشام مرارا- لیس من وجه یحمل علیه إلا صبروا له- فقاتل قتالا شدیدا- ثم قال لأصحابه لا یهولنکم ما ترون من صبرهم- فو الله ما ترون منهم إلا حمیه العرب- و صبرها تحت رایاتها- و عند مراکزها- و إنهم لعلى الضلال و إنکم لعلى الحق- یا قوم اصبروا و صابروا و اجتمعوا- و امشوا بنا إلى عدونا على تؤده- رویدا و اذکروا الله و لا یسلمن رجل أخاه- و لا تکثروا الالتفات- و اصمدوا صمدهم و جالدوهم محتسبین- حتى یحکم الله بیننا و بینهم و هو خیر الحاکمین- . قال أبو سلمه- فبینا هو و عصابه من القراء یجالدون أهل الشام- إذ طلع علیهم فتى شاب- و هو یقول

أنا ابن أرباب ملوک غسان
و الدائن الیوم بدین عثمان‏

أنبأنا قراؤنا بما کان
أن علیا قتل ابن عفان‏

ثم شد لا ینثنی حتى یضرب بسیفه- ثم جعل یلعن علیا و یشتمه و یسهب فی ذمه- فقال له هاشم بن عتبه- یا هذا إن الکلام بعده الخصام- و إن لعنک سید الأبرار بعده عقاب النار- فاتق الله فإنک راجع إلى ربک- فیسألک عن هذا الموقف و عن هذا المقال- . قال الفتى إذا سألنی ربی قلت- قاتلت أهل العراق- لأن صاحبهم لا یصلی کما ذکر لی- و إنهم لا یصلون و صاحبهم قتل خلیفتنا- و هم آزروه على قتله- فقال له هاشم یا بنی و ما أنت و عثمان- إنما قتله أصحاب محمد- الذین هم أولى بالنظر فی أمور المسلمین- و إن صاحبنا کان أبعد القوم عن دمه- و أما قولک إنه لا یصلی- فهو أول من صلى مع رسول الله- و أول من آمن به- و أما قولک إن أصحابه لا یصلون- فکل من ترى معه قراء الکتاب- لا ینامون اللیل تهجدا- فاتق الله و اخش عقابه- و لا یغررک من نفسک الأشقیاء الضالون- . فقال الفتى یا عبد الله- لقد دخل قلبی وجل من کلامک- و إنی لأظنک صادقا صالحا- و أظننی مخطئا آثما- فهل لی من توبه- قال نعم ارجع إلى ربک و تب إلیه- فإنه یقبل التوبه و یعفو عن السیئات- و یحب التوابین و یحب المتطهرین- فرجع الفتى إلى صفه منکسرا نادما- فقال له قوم من أهل الشام- خدعک العراقی قال لا- و لکن نصحنی العراقی- . قال نصر و فی قتل هاشم و عمار تقول امرأه من أهل الشام-

لا تعدموا قوما أذاقوا ابن یاسر
شعوبا و لم یعطوکم بالخزائم‏

فنحن قتلنا الیثربی ابن محصن
خطیبکم و ابنی بدیل و هاشم‏

قال نصر أما الیثربی فهو عمرو بن محصن الأنصاری- و قد رثاه النجاشی شاعر أهل العراق- فقال

لنعم فتى الحیین عمرو بن محصن
إذا صارخ الحی المصبح ثوبا

إذا الخیل جالت بینها قصد القنا
یثرن عجاجا ساطعا متنصبا

لقد فجع الأنصار طرا بسید
أخی ثقه فی الصالحات مجربا

فیا رب خیر قد أفدت و جفنه
ملأت و قرن قد ترکت مسلبا

و یا رب خصم قد رددت بغیظه
فآب ذلیلا بعد أن کان مغضبا

و رایه مجد قد حملت و غزوه
شهدت إذ النکس الجبان تهیبا

حویطا على جل العشیره ماجدا
و ما کنت فی الأنصار نکسا مؤنبا

طویل عماد المجد رحبا فناؤه‏
خصیبا إذا ما رائد الحی أجدبا

عظیم رماد النار لم یک فاحشا
و لا فشلا یوم النزال مغلبا

و کنت ربیعا ینفع الناس سیبه‏
و سیفا جرازا باتک الحد مقضبا

فمن یک مسرورا بقتل ابن محصن
فعاش شقیا ثم مات معذبا

و غودر منکبا لفیه و وجهه‏
یعالج رمحا ذا سنان و ثعلبا

فإن یقتلوا الحر الکریم ابن محصن
فنحن قتلنا ذا الکلاع و حوشبا

و إن یقتلوا ابنی بدیل و هاشما
فنحن ترکنا منکم القرن أعضبا

و نحن ترکنا حمیرا فی صفوفکم‏
لدى الحرب صرعى کالنخیل مشذبا

و أفلتنا تحت الأسنه مرثد
و کان قدیما فی الفرار مدربا

و نحن ترکنا عند مختلف القنا
أخاکم عبید الله لحما ملحبا

بصفین لما ارفض عنه رجالکم
و وجه ابن عتاب ترکناه ملغبا

و طلحه من بعد الزبیر و لم ندع‏
لضبه فی الهیجا عریفا و منکبا

و نحن أحطنا بالبعیر و أهله
و نحن سقیناکم سماما مقشبا

قال نصر- و کان ابن محصن من أعلام أصحاب علی ع- قتل فی المعرکه و جزع علی ع لقتله- . قال و فی قتل هاشم بن عتبه- یقول أبو الطفیل عامر بن واثله الکنانی- و هو من الصحابه- و قیل إنه آخر من بقی من صحب رسول الله ص- و شهد مع علی صفین- و کان من مخلصی الشیعه-

یا هاشم الخیر جزیت الجنه
قاتلت فی الله عدو السنه‏

و التارکی الحق و أهل الظنه‏
أعظم بما فزت به من منه‏

صیرنی الدهر کأنی شنه
و سوف تعلو حول قبری رنه‏
من زوجه و حوبه و کنه‏

قال نصر و الحوبه القرابه- یقال لی فی بنی فلان حوبه أی قربى- . قال نصر و قال رجل من عذره من أهل الشام-

لقد رأیت أمورا کلها عجب
و ما رأیت کأیام بصفینا

لما غدوا و غدونا کلنا حنق‏
کما رأیت الجمال الجله الجونا

خیل تجول و أخرى فی أعنتها
و آخرون على غیظ یرامونا

ثم ابتذلنا سیوفا فی جماجمهم‏
و ما نساقیهم من ذاک یجزونا

کأنها فی أکف القوم لامعه
سلاسل البرق یجدعن العرانینا

ثم انصرفنا کأشلاء مقطعه
و کلهم عند قتلاهم یصلونا

قال نصر و قال رجل لعدی بن حاتم الطائی- و کان من جمله أصحاب علی ع- یا أبا طریف أ لم أسمعک تقول یوم الدار- و الله لا تحبق فیها عناق حولیه- و قد رأیت ما کان فیها- و قد کان فقئت عین عدی- و قتل بنوه- فقال أما و الله لقد حبقت فی قتله العناق و التیس الأعظم- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال بعث علی ع خیلا لیحبسوا عن معاویه مادته- فبعث معاویه الضحاک بن قیس الفهری- فی خیل إلى تلک الخیل- فأزالوهاو جاءت عیون علی ع فأخبروه بما کان- فقال لأصحابه ما ترون فیما هاهنا- فقال بعضهم نرى کذا- و قال بعضهم نرى کذا- فلما زاد الاختلاف قال علی ع اغدوا إلى القتال- فغاداهم إلى القتال- فانهزمت صفوف الشام من بین یدیه ذلک الیوم- حتى فر عتبه بن أبی سفیان عشرین فرسخا عن موضع المعرکه- فقال النجاشی فیه من قصیده أولها-

لقد أمعنت یا عتب الفرارا
و أورثک الوغى خزیا و عارا

فلا یحمد خصاک سوى طمر
إذا أجریته انهمر انهمارا

و قال کعب بن جعیل و هو شاعر أهل الشام بعد رفع المصاحف- یذکر أیام صفین و یحرض معاویه-

معاوی لا تنهض بغیر وثیقه
فإنک بعد الیوم بالذل عارف‏

ترکتم عبید الله بالقاع مسندا
یمج نجیعا و العروق نوازف‏

ألا إنما تبکی العیون لفارس
بصفین أجلت خیله و هو واقف‏

ینوء و تعلوه شآبیب من دم‏
کما لاح فی جیب القمیص اللفائف‏

تبدل من أسماء أسیاف وائل
و أی فتى لو أخطأته المتالف‏

ألا إن شر الناس فی الناس کلهم‏
بنو أسد إنی بما قلت عارف‏

و فرت تمیم سعدها و ربابها
و خالفت الجعراء فیمن یخالف‏

و قد صبرت حول ابن عم محمد
على الموت شهباء المناکب شارف‏

فما برحوا حتى رأى الله صبرهم
و حتى أتیحت بالأکف المصاحف‏

و قد تقدم ذکر هذه الأبیات بزیاده على ما ذکرناه الآن- . قال نصر- و هجا کعب بن جعیل عتبه بن أبی سفیان و عیره بالفرار- و کان کعب من شیعه معاویه- لکنه هجا عتبه تحریضا له- فهجاه عتبه جوابا فقال له-

و سمیت کعبا بشر العظام
و کان أبوک یسمى الجعل‏

و إن مکانک من وائل‏
مکان القراد من است الجمل‏

قال نصر- ثم کانت بین الفریقین الوقعه المعروفه بوقعه الخمیس- حدثنا بها عمر بن سعد عن سلیمان الأعمش- عن إبراهیم النخعی- قال حدثنا القعقاع بن الأبرد الطهوی- قال و الله إنی لواقف قریبا من علی ع- بصفین یوم وقعه الخمیس- و قد التقت مذحج- و کانوا فی میمنه علی ع- و عک لخم و جذام و الأشعریون- و کانوا مستبصرین فی قتال علی ع- فلقد و الله رأیت ذلک الیوم من قتالهم- و سمعت من وقع السیوف على الرءوس- و خبط الخیول بحوافرها فی الأرض و فی القتلى- ما الجبال تهد و لا الصواعق تصعق- بأعظم من هؤلاء فی الصدور من تلک الأصوات- و نظرت إلى علی ع و هو قائم- فدنوت منه فأسمعه یقول لا حول و لا قوه إلا بالله- اللهم إلیک الشکوى و أنت المستعان- ثم نهض حین قام قائم الظهبره و هو یقول- ربنا افتح بیننا و بین قومنا بالحق- و أنت خیر الفاتحین- و حمل على الناس بنفسه- و سیفه مجرد بیده- فلا و الله ما حجز بین الناس ذلک الیوم- إلا الله رب العالمین- فی قریب من ثلث اللیل‏ الأول- و قتلت یومئذ أعلام العرب- و کان فی رأس علی ع ثلاث ضربات- و فی وجهه ضربتان- .

قال نصر و قد قیل إن علیا ع لم یخرج قط- و قتل فی هذا الیوم خزیمه بن ثابت ذو الشهادتین- و قتل من أهل الشام- عبد الله بن ذی الکلاع الحمیری- فقال معقل بن نهیک بن یساف الأنصاری-

یا لهف نفسی و من یشفی حزازتها
إذ أفلت الفاسق الضلیل منطلقا

و أفلت الخیل عمرو و هی شاحبه
تحت العجاج تحث الرکض و العنقا

وافت منیه عبد الله إذ لحقت
قب الخیول به أعجز بمن لحقا

و أنساب مروان فی الظلماء مستترا
تحت الدجى کلما خاف الردى أرقا

و قال مالک الأشتر-

نحن قتلنا حوشبا
لما غدا قد أعلما

و ذا الکلاع قبله‏
و معبدا إذ أقدما

أن تقتلوا منا أبا
الیقظان شیخا مسلما

فقد قتلنا منکم‏
سبعین کهلا مجرما

أضحوا بصفین و قد
لاقوا نکالا مؤثما

و قالت ضبیعه بنت خزیمه- بن ثابت ذی الشهادتین ترثی أباها رحمه الله-

عین جودی على خزیمه بالدمع
قتیل الأحزاب یوم الفرات‏

قتلوا ذا الشهادتین عتوا
أدرک الله منهم بالترات‏

قتلوه فی فتیه غیر عزل
یسرعون الرکوب فی الدعوات‏

نصروا السید الموفق ذا العدل‏
و دانوا بذاک حتى الممات‏

لعن الله معشرا قتلوه
و رماهم بالخزی و الآفات‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الأعمش- قال کتب معاویه إلى أبی أیوب خالد بن زید الأنصاری- صاحب منزل رسول الله ص- و کان سیدا معظما من سادات الأنصار- و کان من شیعه علی ع کتابا- و کتب إلى زیاد بن سمیه- و کان عاملا لعلی ع على بعض فارس کتابا ثانیا- فأما کتابه إلى أبی أیوب فکان سطرا واحدا- حاجیتک لا تنسى الشیباء أبا عذرها- و لا قاتل بکرها- فلم یدر أبو أیوب ما هو- قال فأتى به علیا ع فقال یا أمیر المؤمنین- إن معاویه کهف المنافقین- کتب إلی بکتاب لا أدری ما هو- قال علی ع فأین الکتاب- فدفعه إلیه فقرأه- و قال نعم هذا مثل ضربه لک- یقول لا تنسى الشیباء أبا عذرها- و الشیباء المرأه البکر لیله افتضاضها- لا تنسى بعلها الذی افترعها أبدا- و لا تنسى قاتل بکرها- و هو أول ولدها- کذلک لا أنسى أنا قتل عثمان- . و أما الکتاب الذی کتبه إلى زیاد- فإنه کان وعیدا و تهددا- فقال زیاد ویلی على معاویه- کهف المنافقین و بقیه الأحزاب- یتهددنی و یتوعدنی و بینی و بینه ابن عم محمد- معه سبعون ألفا- سیوفهم على عواتقهم- یطیعونه فی جمیع ما یأمرهم به- لا یلتفت رجل منهم وراءه حتى یموت- أما و الله لو ظفر ثم خلص إلی- لیجدننی أحمر ضرابا بالسیف- . قال نصر أحمر أی مولى- فلما ادعاه معاویه عاد عربیا منافیا- .قال نصر و روى عمرو بن شمر- أن معاویه کتب فی أسفل کتابه إلى أبی أیوب-

أبلغ لدیک أبا أیوب مألکه
أنا و قومک مثل الذئب و النقد

إما قتلتم أمیر المؤمنین فلا
ترجوا الهواده منا آخر الأبد

إن الذی نلتموه ظالمین له
أبقت حزازته صدعا على کبدی‏

إنی حلفت یمینا غیر کاذبه
لقد قتلتم إماما غیر ذی أود

لا تحسبوا إننی أنسى مصیبته
و فی البلاد من الأنصار من أحد

قد أبدل الله منکم خیر ذی کلع‏
و الیحصبیین أهل الخوف و الجند

إن العراق لنا فقع بقرقره
أو شحمه بزها شاو و لم یکد

و الشام ینزلها الأبرار بلدتها
أمن و بیضتها عریسه الأسد

فلما قرئ الکتاب على علی ع- قال لشد ما شحذکم معاویه- یا معشر الأنصار أجیبوا الرجل- فقال أبو أیوب یا أمیر المؤمنین- إنی ما أشاء أن أقول شیئا من الشعر- یعیا به الرجال إلا قلته- فقال فأنت إذا أنت- . فکتب أبو أیوب إلى معاویه- أما بعد فإنک کتبت لا تنسى الشیباء أبا عذرها و لا قاتل بکرها- فضربتها مثلا بقتل عثمان- و ما نحن و قتل عثمان- إن الذی تربص بعثمان‏ و ثبط یزید بن أسد و أهل الشام عن نصرته لأنت- و إن الذین قتلوه لغیر الأنصار- و کتب فی آخر کتابه-

لا توعدنا ابن حرب إننا نفر
لا نبتغی ود ذی البغضاء من أحد

و اسعوا جمیعا بنی الأحزاب کلکم‏
لسنا نرید رضاکم آخر الأبد

نحن الذین ضربنا الناس کلهم
حتى استقاموا و کانوا عرضه الأود

و العام قصرک منا أن ثبت لنا
ضرب یزیل بین الروح و الجسد

أما علی فأنا لا نفارقه
ما رفرف الآل فی الدویه الجرد

إما تبدلت منا بعد نصرتنا
دین الرسول أناسا ساکنی الجند

لا یعرفون أضل الله سعیهم
إلا اتباعکم یا راعی النقد

فقد بغى الحق هضما شر ذی کلع‏
و الیحصبیون طرا بیضه البلد

قال فلما أتى معاویه کتاب أبی أیوب کسره- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال حدثنی مجالد عن الشعبی عن زیاد بن النضر الحارثی- قال شهدت مع علی ع صفین- فاقتتلنا مره ثلاثه أیام و ثلاث لیال- حتى تکسرت الرماح و نفدت السهام- ثم صرنا إلى المسایفه فاجتلدنا بها إلى نصف اللیل- حتى صرنا نحن و أهل الشام فی الیوم الثالث- یعانق بعضنا بعضا- و لقد قاتلت لیلتئذ بجمیع السلاح- فلم یبق شی‏ء من السلاح إلا قاتلت به- حتى تحاثینا بالتراب و تکادمنا بالأفواه- حتى صرنا قیاما ینظر بعضنا إلى بعض- ما یستطیع أحد من الفریقین- أن ینهض إلى صاحبه و لا یقاتل- فلما کان نصف اللیل من اللیله الثالثه- انحاز معاویه و خیله من الصف و غلب علی ع على القتلى- فلما أصبح أقبل على أصحابه یدفهم و قد قتل کثیر منهم- و قتل من أصحاب معاویه أکثر- و قتل فیهم تلک اللیله شمر بن أبرهه- . قال نصر و حدثنا عمرو عن جابن عن تمیم- قال و الله إنی لمع علی ع- إذ أتاه علقمه بن زهیر الأنصاری- فقال یا أمیر المؤمنین- إن عمرو بن العاص یرتجز فی الصف بشعر- أ فأسمعکه قال نعم قال إنه یقول-

إذا تخازرت و ما بی من خزر
ثم کسرت العین من غیر عور

ألفیتنی ألوى بعید المستمر
ذا صوله فی المصمئلات الکبر

أحمل ما حملت من خیر و شر
کالحیه الصماء فی أصل الحجر

فقال علی اللهم العنه فإن رسولک لعنه- قال علقمه و إنه یا أمیر المؤمنین یرتجز برجز آخر- فأنشدک قال قل- فقال

أنا الغلام القرشی المؤتمن
الماجد الأبلج لیث کالشطن‏

ترضى بی الشام إلى أرض عدن‏
یا قاده الکوفه یا أهل الفتن‏

أضربکم و لا أرى أبا حسن
کفى بهذا حزنا من الحزن‏

فضحک علی ع و قال إنه لکاذب و إنه بمکانی لعالم- کما قال العربی غیر الوهی ترقعین و أنت مبصره- ویحکم أرونی مکانه لله أبوکم و خلاکم ذم- و قال محمد بن عمرو بن العاص-

لو شهدت جمل مقامی و مشهدی
بصفین یوما شاب منها الذوائب‏

غداه غدا أهلی العراق کأنهم‏
من البحر موج لجه متراکب‏

و جئناهم نمشی صفوفا کأننا
سحاب خریف صففته الجنائب‏

فطارت إلینا بالرماح کماتهم‏
و طرنا إلیهم و السیوف قواضب‏

فدارت رحانا و استدارت رحاهم
سراه نهار ما تولى المناکب‏

إذا قلت یوما قد ونوا برزت لنا
کتائب منهم و احجنت کتائب‏

و قالوا نرى من رأینا أن تبایعوا
علیا فقلنا بل نرى أن نضاربا

فأبنا و قد أردوا سراه رجالنا
و لیس لما لاقوا سوى الله حاسب‏

فلم أر یوما کان أکثر باکیا
و لا عارضا منهم کمیا یکالب‏

کأن تلألؤ البیض فینا و فیهم‏
تلألؤ برق فی تهامه ثاقب‏

و قال النجاشی یذکر علیا ع و جده فی الأمر-

إنی إخال علیا غیر مرتدع
حتى تقام حقوق الله و الحرم‏

أ ما ترى النقع معصوبا بلمته‏
کأنه الصقر فی عرنینه شمم‏

غضبان یحرق نابیه على حنق
کما یغط الفنیق المصعب القطم‏

حتى یزیل ابن حرب عن إمارته‏
کما تنکب تیس الحبله الحلم‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی- قال بلغ النجاشی أن معاویه تهدده- فقال

یا أیها الرجل المبدی عداوته
روئ لنفسک أی الأمر تأتمر

لا تحسبنی کأقوام ملکتهم‏
طوع الأعنه لما ترشح الغدر

و ما علمت بما أضمرت من حنق
حتى أتتنی به الرکبان و النذر

إذا نفست على الأنجاد مجدهم‏
فابسط یدیک فإن الخیر مبتدر

و اعلم بأن على الخیر من نفر
شم العرانین لا یعلوهم بشر

لا یجحد الحاسد الغضبان فضلهم‏
ما دام بالحزن من صمائها حجر

نعم الفتى أنت إلا أن بینکما
کما تفاضل ضوء الشمس و القمر

و لا إخالک إلا لست منتهیا
حتى یمسک من أظفاره ظفر

لا تحمدن امرأ حتى تجربه‏
و لا تذمن من لم یبله الخبر

إنی امرؤ قلما أثنی على أحد
حتى أرى بعض ما یأتی و ما یذر

و إن طوى معشر عنی عداوتهم‏
فی الصدر أو کان فی أبصارهم خزر

أجمعت عزما جرامیزی بقافیه
لا یبرح الدهر منها فیهم أثر

قال فلما بلغ معاویه هذا الشعر- قال ما أراه إلا قد قارب- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن محمد بن إسحاق- أن عبد الله بن جعفر بن أبی طالب- کان یحمل على الخیل یوما- فجاءه رجل فقال هل من فرس یا ابن ذی الجناحین- قال تلک الخیل فخذ أیتها شئت- فلما ولی قال ابن جعفر إن تصب أفضل الخیل تقتل- فما عتم أن أخذ أفضل الخیل فرکبه- ثم حمل على فارس قد کان دعاه إلى البراز فقتله الشامی- و حمل غلامان آخران من أهل العراق- حتى انتهیا إلى سرادق معاویه فقتلا عنده- و أقبلت الکتائب بعضها نحو بعض- فاقتتلت قیاما فی الرکب- لا یسمع السامع إلا وقع السیوف على البیض و الدرق- . و قال عمرو بن العاص

أ جئتم إلینا تسفکون دماءنا
و ما رمتم وعر من الأمر أعسر

لعمری لما فیه یکون حجاجنا
إلى الله أدهى لو عقلتم و أنکر

تعاورتم ضربا بکل مهند
إذا شد وردان تقدم قنبر

کتائبکم طورا تشد و تاره
کتائبنا فیها القنا و السنور

إذا ما التقوا یوما تدارک بینهم
طعان و موت فی المعارک أحمر

و قال رجل من کلب مع معاویه- یهجو أهل العراق و یوبخهم-

لقد ضلت معاشر من نزار
إذا انقادوا لمثل أبی تراب‏

و إنهم و بیعتهم علیا
کواشمه التغضن بالخضاب‏

تزین من سفاهتها یدیها
و تحسر بالیدین عن النقاب‏

فإیاکم و داهیه نئودا
تسیر إلیکم تحت العقاب‏

إذا ساروا سمعت لحافتیهم
دویا مثل تصفیق السحاب‏

یجیبون الصریخ إذا دعاهم‏
و قد طعن الفوارس بالحراب‏

علیهم کل سابغه دلاص
و أبیض صارم مثل الشهاب‏

و قال أبو حیه بن غزیه الأنصاری- و هو الذی عقر الجمل یوم البصره و اسمه عمرو-
سائل حلیله معبد عن بعلها
و حلیله اللخمی و ابن کلاع‏

و اسأل عبید الله عن فرساننا
لما ثوى متجدلا بالقاع‏

و اسأل معاویه المولى هاربا
و الخلیل تمعج و هی جد سراع‏

ما ذا یخبرک المخبر منهم‏
عنهم و عنا عند کل وقاع‏

إن یصدقوک یخبروک بأننا
أهل الندى قدما مجیبو الداعی‏

إن یصدقوک یخبروک بأننا
نحمی الحقیقه کل یوم مصاع‏

ندعو إلى التقوى و نرعى أهلها
برعایه المأمون لا المضیاع‏

و نسن للأعداء کل مثقف
لدن و کل مشطب قطاع‏

و قال عدی بن حاتم الطائی-

أقول لما أن رأیت المعمعه
و اجتمع الجندان وسط البلقعه‏

هذا علی و الهدى حقا معه‏
یا رب فاحفظه و لا تضیعه‏

فإنه یخشاک رب فارفعه
و من أراد عیبه فضعضعه‏
أو کاده بالبغی منک فاقمعه‏

و قال النعمان بن جعلان الأنصاری-

سائل بصفین عنا عند غدوتنا
أم کیف کنا إلى العلیاء نبتدر

و سل غداه لفینا الأزد قاطبه
یوم البصیره لما استجمعت مضر

لو لا الإله و عفو من أبی حسن
عنهم و ما زال منه العفو ینتظر

لما تداعت لهم بالمصر داعیه
إلا الکلاب و إلا الشاء و الحمر

کم مقعص قد ترکناه بمقفره
تعوی السباع علیه و هو منعفر

ما إن یئوب و لا ترجوه أسرته‏
إلى القیامه حتى ینفخ الصور

قال عمرو بن الحمق الخزاعی-

تقول عرسی لما أن رأت أرقی
ما ذا یهیجک من أصحاب صفینا

أ لست فی عصبه یهدی الإله بهم‏
لا یظلمون و لا بغیا یریدونا

فقلت إنی على ما کان من رشد
أخشى عواقب أمر سوف یأتینا

إداله القوم فی أمر یراد بنا
فأقنی حیاء و کفى ما تقولینا

و قال حجر بن عدی الکندی-

یا ربنا سلم لنا علیا
سلم لنا المهذب التقیا

المؤمن المسترشد الرضیا
و اجعله هادی أمه مهدیا

و احفظه رب حفظک النبیا
لا خطل الرأی و لا غبیا

فإنه کان لنا ولیا
ثم ارتضیه بعده وصیا

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی- قال قال الأحنف بن قیس فی صفین لأصحابه- هلکت العرب- قالوا له و إن غلبنا یا أبا بحر قال نعم- قالوا و إن غلبنا قال نعم- قالوا و الله ما جعلت لنا مخرجا- فقال الأحنف- إنا إن غلبناهم لم نترک بالشام رئیسا إلا ضربنا عنقه- و إن غلبونا لم یعرج بعدها رئیس عن معصیه الله أبدا- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی- قال ذکر معاویه یوما صفین بعد عام الجماعه- و تسلیم الحسن ع الأمر إلیه- فقال للولید بن عقبه- أی بنی عمک‏ کان أفضل یوم صفین یا ولید- عند وقدان الحرب و استشاطه لظاها- حین قاتلت الرجال على الأحساب-

قال کلهم قد وصل کنفیها عند انتشار وقعتها- حتى ابتلت أثباج الرجال من الجریال- بکل لدن عسال و بکل عضب قصال- فقال عبد الرحمن بن خالد بن الولید- أما و الله لقد رأیتنا یوما من الأیام- و قد غشینا ثعبان فی مثل الطود الأرعن- قد أثار قسطلا حال بیننا و بین الأفق- و هو على أدهم شائل الغره- یعنی علیا ع یضربهم بسیفه ضرب غرائب الإبل- کاشرا عن نابه کشر المخدر الحرب- فقال معاویه نعم إنه کان یقاتل عن تره له و علیه- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی-

قال أرسل علی ع إلى معاویه- أن ابرز إلی و اعف الفریقین من القتال- فأینا قتل صاحبه کان الأمر له- فقال عمرو لقد أنصفک الرجل- فقال معاویه أنا أبارز الشجاع الأخرق- أظنک یا عمرو طمعت فیها- فلما لم یجب قال علی ع- وا نفساه أ یطاع معاویه و أعصى- ما قاتلت أمه قط أهل بیت نبیها- و هی مقره بنبیها غیر هذه الأمه- ثم إن علیا ع أمر الناس أن یحملوا على أهل الشام- فحملوا فنقضوا صفوف الشام- فقال عمرو على من هذا الرهج الساطع- قالوا على ابنیک عبد الله و محمد- فقال عمرو یا وردان قدم لوائی- فأرسل إلیه معاویه- أنه لیس على ابنیک بأس فلا تنقض الصف- و الزم موقفک فقال عمرو هیهات هیهات- .

اللیث یحمی شبلیه
ما خیره بعد ابنیه‏

ثم تقدم باللواء فأدرکه رسول معاویه- فقال إنه لیس على ابنیک بأس فلا تحملن-فقال قل له إنک لم تلدهما و إنی أنا ولدتهما- و بلغ مقدم الصفوف- فقال له الناس مکانک- إنه لا بأس على ابنیک إنهما فی مکان حریز- فقال أسمعونی أصواتهما حتى أعلم- أ حیان هما أم قتیلان- و نادى یا وردان قدم لواءک قید قوس- فقدم لواءه- فأرسل علی ع إلى أهل الکوفه أن احملوا- و إلى أهل البصره أن احملوا- فحمل الناس من کل جانب- فاقتتلوا قتالا شدیدا- و خرج رجل من أهل الشام- فقال من یبارز فبرز إلیه رجل من أهل العراق- فاقتتلا ساعه- و ضرب العراقی الشامی على رجله فاسقط قدمه- فقاتل و لم یسقط إلى الأرض- فضربه العراقی أخرى- فاسقط یده فرمى الشامی سیفه إلى أهل الشام- و قال دونکم سیفی هذا- فاستعینوا به على قتال عدوکم- فاشتراه معاویه من أولیائه بعشره آلاف درهم- .

قال نصر و حدثنا مالک الجهنی- عن زید بن وهب- أن علیا ع مر على جماعه من أهل الشام بصفین- منهم الولید بن عقبه- و هم یشتمونه و یقصبونه- فأخبر بذلک فوقف على ناس من أصحابه- و قال انهدوا إلیهم- و علیکم السکینه و الوقار و سیما الصالحین- أقرب بقوم من الجهل- قائدهم و مؤدبهم معاویه- و ابن النابغه و أبو الأعور السلمی- و ابن أبی معیط شارب الحرام- و المحدود فی الإسلام و هم أولاء- یقصبوننی و یشتموننی- و قبل الیوم ما قاتلونی و شتمونی- و أنا إذ ذاک ادعوهم إلى الإسلام- و هم یدعوننی إلى عباده الأصنام- فالحمد لله و لا إله إلا الله- لقدیما ما عادانی الفاسقون- إن هذا لهو الخطب الجلل- إن فساقا کانوا عندنا غیر مرضیین- و على الإسلام‏ و أهله متخوفین- أصبحوا و قد خدعوا شطر هذه الأمه- و أشربوا فی قلوبهم حب الفتنه- و استمالوا أهواءهم بالإفک و البهتان- و نصبوا لنا الحرب- و جدوا فی إطفاء نور الله- و الله متم نوره و لو کره الکافرون- اللهم فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم- و شتت کلمتهم و أبلسهم بخطایاهم- فإنه لا یذل من والیت- و لا یعز من عادیت- . قال نصر و کان علی ع- إذا أراد الحمله هلل و کبر- ثم قال

من أی یومی من الموت أفر
أ یوم لم یقدر أو یوم قدر

فجعل معاویه لواءه الأعظم- مع عبد الرحمن بن خالد بن الولید- فأمر علی ع جاریه بن قدامه السعدی أن یلقاه بأصحابه- و أقبل عمرو بن العاص بعده فی خیل و معه لواء ثان- فتقدم حتى خالط صفوف العراق- فقال علی ع لابنه محمد- امش نحو هذا اللواء رویدا- حتى إذا أشرعت الرماح فی صدورهم- فأمسک یدک حتى یأتیک أمری- ففعل و قد کان أعد علی ع مثلهم مع الأشتر- فلما أشرع محمد الرماح فی صدور القوم- أمر علی ع الأشتر أن یحمل فحمل- فأزالهم عن مواقفهم- و أصاب منهم رجالا- و اقتتل الناس قتالا شدیدا- فما صلى من أراد الصلاه إلا إیماء- فقال النجاشی فی ذلک الیوم یذکر الأشتر-

و لما رأینا اللواء العقاب
یقحمه الشانئ الأخزر

کلیث العرین خلال العجاج‏
و أقبل فی خیله الأبتر

دعونا لها الکبش کبش العراق
و قد أضمر الفشل العسکر

فرد اللواء على عقبه‏
و فاز بحظوتها الأشتر

کما کان یفعل فی مثلها
إذا ناب معصوصب منکر

فإن یدفع الله عن نفسه‏
فحظ العراق به الأوفر

إذا الأشتر الخیر خلى العراق
فقد ذهب العرف و المنکر

و تلک العراق و من عرفت‏
کفقع تضمنه القرقر

قال نصر و حدثنا محمد بن عتبه الکندی- قال حدثنی شیخ من حضرموت شهد مع علی ع صفین- قال کان منا رجل یعرف بهانئ بن فهد- و کان شجاعا فخرج رجل من أهل الشام یدعو إلى البراز- فلم یخرج إلیه أحد- فقال هانئ سبحان الله- ما یمنعکم أن یخرج منکم رجل إلى هذا- فو الله لو لا أنی موعوک- و أنی أجد ضعفا شدیدا لخرجت إلیه- فما رد أحد علیه فقام و شد علیه سلاحه لیخرج- فقال له أصحابه یا سبحان الله- أنت موعوک وعکه شدیده فکیف تخرج- قال و الله لأخرجن و لو قتلنی فخرج- فلما رآه عرفه و إذا الرجل من قومه من حضرموت- یقال له یعمر بن أسد الحضرمی- فقال یا هانئ ارجع- فإنه إن یخرج إلى رجل غیرک أحب إلی- فإنی لا أحب قتلک- قال هانئ سبحان الله- ارجع و قد خرجت لا و الله لأقاتلن الیوم حتى أقتل- و لا أبالی قتلتنی أنت أو غیرک- ثم مشى نحوه-

و قال اللهم فی سبیلک و نصرا لابن عم رسولک- و اختلفا ضربتین فقتله هانئ- و شد أصحاب یعمر بن أسد على هانئ- فشد أصحاب هانئ علیهم- فاقتتلوا و انفرجوا عن اثنین و ثلاثین قتیلا- ثم إن علیا ع أرسل إلى جمیع العسکر أن احملوا- فحمل الناس کلهم على رایاتهم- کل منهم‏ یحمل على من بإزائه- فتجالدوا بالسیوف و عمد الحدید- لا یسمع إلا صوت ضرب الهامات- کوقع المطارق على السنادین- و مرت الصلوات کلها- فلم یصل أحد إلا تکبیرا عند مواقیت الصلاه- حتى تفانوا و رق الناس- و خرج رجل من بین الصفین- لا یعلم من هو- فقال أیها الناس أ خرج فیکم المحلقون- فقیل لا فقال إنهم سیخرجون- ألسنتهم أحلى من العسل- و قلوبهم أمر من الصبر- لهم حمه کحمه الحیات- ثم غاب الرجل فلم یعلم من هو-

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدی- قال اختلط أمر الناس تلک اللیله- و زال أهل الرایات عن مراکزهم- و تفرق أصحاب علی ع عنه- فأتى ربیعه لیلا فکان فیهم- و تعاظم الأمر جدا- و أقبل عدی بن حاتم- یطلب علیا ع فی موضعه الذی ترکه فیه فلم یجده- فطاف یطلبه فأصابه بین رماح ربیعه- فقال یا أمیر المؤمنین أما إذ کنت حیا- فالأمر أمم ما مشیت إلیک إلا على قتیل- و ما أبقت هذه الوقعه لهم عمیدا- فقاتل حتى یفتح الله علیک- فإن فی الناس بقیه بعد- و أقبل الأشعث یلهث جزعا- فلما رأى علیا ع هلل فکبر- و قال یا أمیر المؤمنین- خیل کخیل و رجال کرجال- و لنا الفضل علیهم إلى ساعتنا هذه- فعد إلى مکانک الذی کنت فیه- فإن الناس إنما یظنونک حیث ترکوک- و أرسل سعید بن قیس الهمدانی إلى علی ع- إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم و فینا فضل- فإن أردت أن نمد أحدا أمددناه- فأقبل علی ع على ربیعه- فقال أنتم درعی و رمحی- قال فربیعه تفخر بهذا الکلام إلى الیوم فقال عدی بن حاتم- یا أمیر المؤمنین إن قوما أنست بهم- و کنت فی هذه الجوله فیهم لعظیم حقهم- و الله إنهم لصبر عند الموت أشداء عند القتال- فدعا علی ع بفرس رسول الله ص الذی کان یقال له المرتجز- فرکبه ثم تقدم أمام الصفوف- ثم قال بل البغله بل البغله- فقدمت له بغله رسول الله ص- و کانت الشهباء فرکبها- ثم تعصب بعمامه رسول الله ص و کانت سوداء- ثم نادى أیها الناس من یشر نفسه الله یربح- إن هذا لیوم له ما بعده- إن عدوکم قد مسه القرح کما مسکم- فانتدبوا لنصره دین الله- فانتدب له ما بین عشره آلاف إلى اثنی عشر ألفا- قد وضعوا سیوفهم على عواتقهم- فشد بهم على أهل الشام و هو یقول-

دبوا دبیب النمل لا تفوتوا
و أصبحوا فی حربکم و بیتوا

حتى تنالوا الثأر أو تموتوا
أو لا فإنی طالما عصیت‏

قد قلتموا لو جئتنا فجیت
لیس لکم ما شئتم و شیت‏
بل ما یرید المحیی الممیت‏

و تبعه عدی بن حاتم بلوائه و هو یقول-

أ بعد عمار و بعد هاشم
و ابن بدیل فارس الملاحم‏

نرجو البقاء ضل حلم الحالم‏
لقد عضضنا أمس بالأباهم‏

فالیوم لا نقرع سن نادم
لیس امرؤ من حتفه بسالم‏

و حمل و حمل الأشتر بعدهما فی أهل العراق کافه- فلم یبق لأهل الشام صف إلا انتقض- و أهمد أهل العراق ما أتوا علیه- حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاویه- و علی ع یضرب الناس بسیفه قدما قدما- و یقول‏

أضربهم و لا أرى معاویه
الأخزر العین العظیم الحاویه
هوت به النار أم هاویه

فدعا معاویه بفرسه لینجو علیه- فلما وضع رجله فی الرکاب توقف و تلوم قلیلا- ثم أنشد قول عمرو بن الأطنابه-

أبت لی عفتی و أبى بلائی
و أخذ الحمد بالثمن الربیح‏

و إقدامی على المکروه نفسی‏
و ضربی هامه البطل المشیح‏

و قولی کلما جشأت و جاشت
مکانک تحمدی أو تستریحی‏

لأدفع عن مآثر صالحات‏
و أحمی بعد عن عرض صحیح‏

بذی شطب کلون الملح صاف
و نفس ما تقر على القبیح‏

ثم قال یا عمرو بن العاص الیوم صبر و غدا فخر- قال صدقت إنک و ما أنت فیه- کقول القائل-

ما علتی و أنا جلد نابل
و القوس فیها وتر عنابل‏

تزل عن صفحتها المعابل‏
الموت حق و الحیاه باطل‏

فثنى معاویه رجله من الرکاب- و نزل و استصرخ بعک و الأشعریین- فوقفوا دونه و جالدوا عنه- حتى کره کل من الفریقین صاحبه و تحاجز الناس- .

قال نصر- جاء رجل إلى معاویه بعد انقضاء صفین و خلوص الأمر له- فقال یا أمیر المؤمنین إن لی علیک حقا- قال و ما هو قال حق عظیم- قال ویحک ما هو- قال أ تذکر یوما قدمت فرسک لتفر- و قد غشیک أبو تراب و الأشتر- فلما أردت أن تستوثبه و أنت على ظهره- أمسکت بعنانک و قلت لک أین تذهب- أنه للؤم بک أن تسمح العرب بنفوسها لک شهرین- و لا تسمح لها بنفسک ساعه و أنت ابن ستین- و کم عسى أن تعیش فی الدنیا بعد هذه السن إذا نجوت- فتلومت فی نفسک ساعه- ثم أنشدت شعرا لا أحفظه ثم نزلت- فقال ویحک فإنک لأنت هو- و الله ما أحلنی هذا المحل إلا أنت- و أمر له بثلاثین ألف درهم- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن النخعی عن ابن عباس- قال تعرض عمرو بن العاص لعلی ع یوما من أیام صفین- و ظن أنه یطمع منه فی غره فیصیبه- فحمل علیه علی ع- فلما کاد أن یخالطه أذرى نفسه عن فرسه- و رفع ثوبه و شغر برجله فبدت عورته- فصرف ع وجهه عنه و ارتث- و قام معفرا بالتراب هاربا على رجلیه معتصما بصفوفه- فقال أهل العراق یا أمیر المؤمنین- أفلت الرجل فقال أ تدرون من هو قالوا لا- قال فإنه عمرو بن العاص- تلقانی بسوءته فصرفت وجهی عنه- و رجع عمرو إلى معاویه- فقال ما صنعت یا أبا عبد الله- فقال لقینی علی فصرعنی- قال احمد الله و عورتک- و الله إنی لأظنک لو عرفته لما أقحمت علیه- و قال معاویه فی ذلک

ألا لله من هفوات عمرو
یعاتبنی على ترکی برازی‏

فقد لاقى أبا حسن علیا
فآب الوائلی مآب خازی‏

فلو لم یبد عورته لطارت‏
بمهجته قوادم أی بازی‏

فإن تکن المنیه أخطأته
فقد غنى بها أهل الحجاز

فغضب عمرو- و قال ما أشد تعظیمک علیا أبا تراب فی أمری- هل أنا إلا رجل لقیه ابن عمه فصرعه- أ فترى السماء لذلک دما- قال لا و لکنها معقبه لک خزیا- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال لما اشتد الأمر و عظم على أهل الشام- قال معاویه لأخیه عتبه بن أبی سفیان- الق الأشعث فإنه إن رضی رضیت العامه- و کان عتبه فصیحا- فخرج فنادى الأشعث- فقال الأشعث سلوا من هو المنادی- قالوا عتبه بن أبی سفیان-

قال غلام مترف و لا بد من لقائه- فخرج إلیه فقال ما عندک یا عتبه- فقال أیها الرجل- إن معاویه لو کان لاقیا رجلا غیر علی للقیک- إنک رأس أهل العراق و سید أهل الیمن- و قد سلف من عثمان إلیک ما سلف من الصهر و العمل- و لست کأصحابک- أما الأشتر فقتل عثمان- و أما عدی فحرض علیه- و أما سعید بن قیس فقلد علیا دیته- و أما شریح و زحر بن قیس فلا یعرفان غیر الهوى- و إنک حامیت عن أهل العراق تکرما- و حاربت أهل الشام حمیه- و قد بلغنا منک و بلغت منا ما أردت- و إنا لا ندعوک إلى ترک علی و نصره معاویه- و لکنا ندعوک إلى البقیه التی فیها صلاحک و صلاحنا- فتکلم الأشعث- فقال یا عتبه أما قولک إن معاویه لا یلقى إلا علیا-فلو لقینی و الله لما عظم عنی و لا صغرت عنه- و إن أحب أن أجمع بینه و بین علی فعلت- و أما قولک إنی رأس أهل العراق و سید أهل الیمن- فإن الرأس المتبع و السید المطاع هو علی بن أبی طالب- و أما ما سلف من عثمان إلی- فو الله ما زادنی صهره شرفا و لا عمله عزا- و أما عیبک أصحابی- فإنه لا یقربک منی و لا یباعدنی عنهم- و أما محاماتی عن أهل العراق فمن نزل بیتا حماه- و أما البقیه فلستم بأحوج إلیها منا- و سترى رأینا فیها- . فلما عاد عتبه إلى معاویه- و أبلغه قوله قال له لا تلقه بعدها- فإن الرجل عظیم عند نفسه- و إن کان قد جنح للسلم- و شاع فی أهل العراق ما قاله عتبه للأشعث- و ما رده الأشعث علیه- فقال النجاشی یمدحه-

یا ابن قیس و حارث و یزید
أنت و الله رأس أهل العراق‏

أنت و الله حیه تنفث السم‏
قلیل منها غناء الراقی‏

أنت کالشمس و الرجال نجوم
لا یرى ضوءها مع الإشراق‏

قد حمیت العراق بالأسل السمر
و بالبیض کالبروق الرقاق‏

و سعرت القتال فی الشام بالبیض
المواضی و بالرماح الدقاق‏

لا ترى غیر أذرع و أکف‏
و رءوس بهامها أفلاق‏

کلما قلت قد تصرمت الهیجا
سقیتهم بکأس دهاق‏

قد قضیت الذی علیک من الحق‏
و سارت به القلاس المناقی‏

أنت حلو لمن تقرب بالود
و للشانئین مر المذاق‏

بئسما ظنه ابن هند و من مثلک‏
فی الناس عند ضیق الخناق‏

قال نصر فقال معاویه- لما یئس من جهه الأشعث لعمرو بن العاص- إن رأس الناس بعد علی هو عبد الله بن العباس- فلو کتبت إلیه کتابا لعلک ترققه- و لعله لو قال شیئا لم یخرج علی منه- و قد أکلتنا الحرب- و لا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاک أهل الشام- فقال عمرو إن ابن عباس لا یخدع- و لو طمعت فیه لطمعت فی علی- قال معاویه على ذلک فاکتب- فکتب عمرو إلیه- أما بعد- فإن الذی نحن فیه و أنتم لیس بأول أمر قاده البلاء- و أنت رأس هذا الجمع بعد علی- فانظر فیما بقی و دع ما مضى- فو الله ما أبقت هذه الحرب لنا- و لا لکم حیاه و لا صبرا- فاعلم أن الشام لا تهلک إلا بهلاک العراق- و أن العراق لا تهلک إلا بهلاک الشام- فما خیرنا بعد هلاک أعدادنا منکم- و ما خیرکم بعد هلاک أعدادکم منا- و لسنا نقول لیت الحرب عادت- و لکنا نقول لیتها لم تکن- و إن فینا من یکره اللقاء- کما أن فیکم من یکرهه- و إنما هو أمیر مطاع و مأمور مطیع- أو مؤتمن مشاور و هو أنت- فأما الأشتر الغلیظ الطبع القاسی القلب- فلیس بأهل أن یدعى فی الشورى- و لا فی خواص أهل النجوى- و کتب فی أسفل الکتاب-

طال البلاء و ما یرجى له آسی
بعد الإله سوى رفق ابن عباس‏

قولا له قول من یرجو مودته‏
لا تنس حظک إن الخاسر الناسی‏

انظر فدى لک نفسی قبل قاصمه
للظهر لیس لها راق و لا آس‏

إن العراق و أهل الشام لن یجدوا
طعم الحیاه مع المستغلق القاسی‏

یا ابن الذی زمزم سقیا الحجیج له
أعظم بذلک من فخر على الناس‏

إنی أرى الخیر فی سلم الشام لکم‏
و الله یعلم ما بالسلم من بأس‏

فیها التقى و أمور لیس یجهلها
إلا الجهول و ما نوکى کأکیاس‏

فلما وصل الکتاب إلى ابن عباس- عرضه على أمیر المؤمنین ع فضحک- و قال قاتل الله ابن العاص- ما أغراه بک یا عبد الله- أجبه و لیرد إلیه شعره الفضل بن العباس- فإنه شاعر فکتب ابن عباس إلى عمرو- أما بعد- فإنی لا أعلم أحدا من العرب أقل حیاء منک- إنه مال بک معاویه إلى الهوى- فبعته دینک بالثمن الیسیر- ثم خبطت الناس فی عشوه- طمعا فی الدنیا فأعظمتها إعظام أهل الدنیا- ثم تزعم أنک تتنزه عنها تنزه أهل الورع- فإن کنت صادقا فارجع إلى بیتک- و دع الطمع فی مصر و الرکون إلى الدنیا الفانیه- و اعلم أن هذه الحرب ما معاویه فیها کعلی- بدأها علی بالحق- و انتهى فیها إلى العذر- و بدأها معاویه بالبغی و انتهى فیها إلى السرف- و لیس أهل العراق فیها کأهل الشام- بایع أهل العراق علیا و هو خیر منهم- و بایع أهل الشام معاویه و هم خیر منه- و لست أنا و أنت فیها سواء- أردت الله و أردت مصر- و قد عرفت الشی‏ء الذی باعدک منی- و لا أعرف الشی‏ء الذی قربک من معاویه- فإن ترد شرا لا نسبقک به- و إن ترد خیرا لا تسبقنا إلیه و السلام- . ثم دعا أخاه الفضل فقال یا ابن أم أجب عمرا- فقال الفضل

یا عمرو حسبک من مکر و وسواس
فاذهب فلیس لداء الجهل من آس‏

إلا تواتر طعن فی نحورکم‏
یشجی النفوس و یشفی نخوه الرأس‏

أما علی فإن الله فضله
بفضل ذی شرف عال على الناس‏

إن تعقلوا الحرب نعقلها مخیسه
أو تبعثوها فإنا غیر إنکاس‏

قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبه
هذا بهذا و ما بالحق من بأس‏

ثم عرض الشعر و الکتاب على علی ع- فقال لا أراه یجیبک بعدها أبدا بشی‏ء إن کان یعقل- و إن عاد عدت علیه- فلما انتهى الکتاب إلى عمرو بن العاص عرضه على معاویه- فقال إن قلب ابن عباس و قلب علی قلب واحد- و کلاهما ولد عبد المطلب- و إن کان قد خشن فلقد لان- و إن کان قد تعظم أو عظم صاحبه- فلقد قارب و جنح إلى السلم- .

قال نصر و قال معاویه- لأکتبن إلى ابن عباس کتابا أستعرض فیه عقله- و أنظر ما فی نفسه فکتب إلیه- أما بعد فإنکم معشر بنی هاشم- لستم إلى أحد أسرع بالمساءه منکم إلى أنصار ابن عفان- حتى أنکم قتلتم طلحه و الزبیر- لطلبهما دمه و استعظامهما ما نیل منه- فإن کان ذلک منافسه لبنی أمیه فی السلطان- فقد ولیها عدی و تیم فلم تنافسوهم- و أظهرتم لهم الطاعه- و قد وقع من الأمر ما ترى- و أکلت هذه الحروب بعضها بعضا- حتى استوینا فیها- فما یطمعکم فینا یطمعنا فیکم- و ما یؤیسنا منکم یؤیسکم منا- و لقد رجونا غیر ما کان- و خشینا دون ما وقع- و لست ملاقینا الیوم بأحد من حد أمس- و لا غدا بأحد من حد الیوم- و قد قنعنا بما فی أیدینا من ملک الشام- فاقنعوا بما فی أیدیکم من ملک العراق- و أبقوا على قریش- فإنما بقی من رجالها سته- رجلان بالشام و رجلان بالعراق و رجلان بالحجاز- فأما اللذان بالشام فأنا و عمرو- و أما اللذان بالعراق فأنت‏ و علی- و أما اللذان بالحجاز فسعد و ابن عمر- فاثنان من السته ناصبان لک و اثنان واقفان فیک- و أنت رأس هذا الجمع- و لو بایع لک الناس بعد عثمان- کنا إلیک أسرع منا إلى علی- .

فلما وصل الکتاب إلى ابن عباس أسخطه- و قال حتى متى یخطب ابن هند إلى عقلی- و حتى متى أجمجم على ما فی نفسی- و کتب إلیه أما بعد فقد أتانی کتابک و قرأته- فأما ما ذکرت من سرعتنا إلیک- بالمساءه إلى أنصار ابن عفان- و کراهتنا لسلطان بنی أمیه- فلعمری لقد أدرکت فی عثمان حاجتک- حین استنصرک فلم تنصره- حتى صرت إلى ما صرت إلیه- و بینی و بینک فی ذلک ابن عمک و أخو عثمان- و هو الولید بن عقبه- و أما طلحه و الزبیر فإنهما أجلبا علیه و ضیقا خناقه- ثم خرجا ینقضان البیعه و یطلبان الملک- فقاتلناهما على النکث- کما قاتلناک على البغی- و أما قولک إنه لم یبق من قریش غیر سته- فما أکثر رجالها و أحسن بقیتها- و قد قاتلک من خیارها من قاتلک- و لم یخذلنا إلا من خذلک- و أما إغراؤک إیانا بعدی و تیم- فإن أبا بکر و عمر خیر من عثمان- کما أن عثمان خیر منک- و قد بقی لک منا ما ینسیک ما قبله و تخاف ما بعده- و أما قولک لو بایع الناس لی لاستقاموا- فقد بایع الناس علیا و هو خیر منی فلم یستقیموا له- و ما أنت و الخلافه یا معاویه- و إنما أنت طلیق و ابن طلیق- و الخلافه للمهاجرین الأولین- و لیس الطلقاء منها فی شی‏ء و السلام- . فلما وصل الکتاب إلى معاویه قال هذا عملی بنفسی- لا أکتب و الله إلیه کتابا سنه کامله- و قال‏

دعوت ابن عباس إلى جل حظه
و کان امرأ أهدی إلیه رسائلی‏

فأخلف ظنی و الحوادث جمه
و ما زاد أن أغلى علیه مراجلی‏

فقل لابن عباس أراک مخوفا
بجهلک حلمی إننی غیر غافل‏

فأبرق و أرعد ما استطعت فإننی‏
إلیک بما یشجیک سبط الأنامل‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال عقد معاویه یوما من أیام صفین- الرئاسه على الیمن من قریش- قصد بذلک إکرامهم و رفع منازلهم- منهم عبید الله بن عمر بن الخطاب- و محمد و عتبه ابنا أبی سفیان- و بسر بن أبی أرطاه- و عبد الرحمن بن خالد بن الولید- و ذلک فی الوقعات الأولى من صفین- فغم ذلک أهل الیمن- و أرادوا ألا یتأمر علیهم أحد إلا منهم- فقام إلیه رجل من کنده- یقال له عبد الله بن الحارث السکونی- فقال أیها الأمیر إنی قد قلت شیئا فاسمعه- و ضعه منی على النصیحه قال هات- فأنشده

معاوی أحییت فینا الإحن
و أحدثت بالشام ما لم یکن‏

عقدت لبسر و أصحابه‏
و ما الناس حولک إلا الیمن‏

فلا تخلطن بنا غیرنا
کما شیب بالماء صفو اللبن‏

و إلا فدعنا على حالنا
فإنا و إنا إذا لم نهن‏

ستعلم أن جاش بحر العراق
و أبدى نواجذه فی الفتن‏

و شد علی بأصحابه‏
و نفسک إذ ذاک عند الذقن‏

بأنا شعارک دون الدثار
و أنا الرماح و أنا الجنن‏

و أنا السیوف و أنا الحتوف‏
و أنا الدروع و أنا المجن‏

قال فبکى لها معاویه- و نظر إلى وجوه أهل الیمن- فقال أ عن رضاکم یقول ما قال- قالوا لا مرحبا بما قال- إنما الأمر إلیک فاصنع ما أحببت- فقال معاویه إنما خلطت بکم أهل ثقتی- و من کان لی فهو لکم و من کان لکم فهو لی- فرضی القوم و سکتوا- فلما بلغ أهل الکوفه مقال عبد الله بن الحارث لمعاویه- فیمن عقد له من رءوس أهل الشام- قام الأعور الشنی إلى علی ع- فقال یا أمیر المؤمنین- إنا لا نقول لک کما قال صاحب أهل الشام لمعاویه- و لکن نقول زاد الله فی سرورک و هداک- نظرت بنور الله- فقدمت رجالا و أخرت رجالا- علیک أن تقول و علینا أن نفعل- أنت الإمام- فإن هلکت فهذان من بعدک یعنی حسنا و حسینا ع- و قد قلت شیئا فاسمعه- قال هات فأنشده-

أبا حسن أنت شمس النهار
و هذان فی الحادثات القمر

و أنت و هذان حتى الممات‏
بمنزله السمع بعد البصر

و أنتم أناس لکم سوره
تقصر عنها أکف البشر

یخبرنا الناس عن فضلکم‏
و فضلکم الیوم فوق الخبر

عقدت لقوم أولی نجده
من أهل الحیاء و أهل الخطر

مسامیح بالموت عند اللقاء
منا و إخواننا من مضر

و من حی ذی یمن جله
یقیمون فی النائبات الصعر

فکل یسرک فی قومه‏
و من قال لا فبفیه الحجر

و نحن الفوارس یوم الزبیر
و طلحه إذ قیل أودى غدر

ضربناهم قبل نصف النهار
إلى اللیل حتى قضینا الوطر

و لم یأخذ الضرب إلا الرءوس
و لم یأخذ الطعن إلا الثغر

فنحن أولئک فی أمسنا
و نحن کذلک فیما غبر

قال فلم یبق أحد من الرؤساء- إلا و أهدى إلى الشنی أو أتحفه- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال لما تعاظمت الأمور على معاویه- قبل قتل عبید الله بن عمر بن الخطاب- دعا عمرو بن العاص و بسر بن أبی أرطاه- و عبید الله بن عمر بن الخطاب- و عبد الرحمن بن خالد بن الولید- فقال لهم إنه قد غمنی مقام رجال من أصحاب علی- منهم سعید بن قیس الهمدانی فی قومه- و الأشتر فی قومه- و المرقال و عدی بن حاتم- و قیس بن سعد فی الأنصار- و قد علمتم أن یمانیتکم وقتکم بأنفسها أیاما کثیره- حتى لقد استحییت لکم- و أنتم عدتهم من قریش- و أنا أحب أن یعلم الناس أنکم أهل غناء- و قد عبأت لکل رجل منهم رجلا منکم- فاجعلوا ذلک إلی قالوا ذاک إلیک- قال فأنا أکفیکم غدا سعید بن قیس و قومه- و أنت یا عمرو للمرقال أعور بنی زهره- و أنت یا بسر لقیس بن سعید- و أنت یا عبید الله للأشتر- و أنت یا عبد الرحمن لأعور طی‏ء یعنی عدی بن حاتم- و قد جعلتها نوبا فی خمسه أیام- لکل رجل منکم یوم- فکونوا على أعنه الخیل قالوا نعم- فأصبح معاویه فی غده فلم یدع فارسا إلا حشده- ثم قصد لهمدان بنفسه- و ارتجز فقال

لن تمنع الحرمه بعد العام
بین قتیل و جریح دام‏

سأملک العراق بالشآم‏
أنعى ابن عفان مدى الأیام‏

فطعن فی أعرض الخیل ملیا- ثم إن همدان تنادت بشعارها- و أقحم سعید بن قیس فرسه على معاویه- و اشتد القتال حتى حجز بینهم اللیل- فهمدان تذکر أن سعیدا کاد یقتنصه- إلا أنه فاته رکضا- و قال سعید فی ذلک

یا لهف نفسی فاتنی معاویه
فوق طمر کالعقاب هاویه
و الراقصات لا یعود ثانیه

قال نصر و انصرف معاویه ذلک الیوم و لم یصنع شیئا- و غدا عمرو بن العاص فی الیوم الثانی فی حماه الخیل- فقصد المرقال- و مع المرقال لواء علی ع الأعظم فی حماه الناس- و کان عمرو من فرسان قریش- فارتجز عمرو فقال

لا عیش إن لم ألق یوما هاشما
ذاک الذی جشمنی المجاشما

ذاک الذی یشتم عرضی ظالما
ذاک الذی إن ینج منی سالما
یکن شجى حتى الممات لازما

فطعن فی أعراض الخیل مزبدا و حمل المرقال علیه- و ارتجز فقال

لا عیش إن لم ألق یوما عمرا
ذاک الذی أحدث فینا الغدرا

أو یبدل الله بأمر أمرا
لا تجزعی یا نفس صبرا صبرا

ضربا هذا ذیک و طعنا شزرا
یا لیت ما تجنی یکون القبرا

فطاعن عمرا حتى رجع- و انصرف الفریقان بعد شده القتال- و لم یسر معاویه ذلک- و غدا بسر بن أبی أرطاه- فی الیوم الثالث فی حماه الخیل- فلقی قیس بن سعد بن عباده فی کمأه الأنصار- فاشتدت الحرب بینهما- و برز قیس کأنه فنیق مقرم- و هو یقول

أنا ابن سعد زانه عباده
و الخزرجیون کمأه ساده‏

لیس فراری فی الوغى بعاده‏
إن الفرار للفتى قلاده‏

یا رب أنت لقنی الشهاده
فالقتل خیر من عناق غاده‏
حتى متى تثنى لی الوساده‏

و طاعن خیل بسر و برز بسر فارتجز و قال-

أنا ابن أرطاه العظیم القدر
مردد فی غالب و فهر

لیس الفرار من طباع بسر
إن أرجع الیوم بغیر وتر

و قد قضیت فی العدو نذری
یا لیت شعری کم بقی من عمری‏

و یطعن بسر قیسا و یضربه قیس بالسیف- فرده على عقبیه و رجع القوم جمیعا و لقیس الفضل- و تقدم عبید الله بن عمر بن الخطاب فی الیوم الرابع- لم یترک فارسا مذکورا إلا جمعه- و استکثر ما استطاع- فقال له معاویه- إنک الیوم تلقى أفعى أهل العراق فارفق و اتئد- فلقیه الأشتر أمام الخیل مزبدا- و کان الأشتر إذا أراد القتال أزبد- و هو یقول

یا رب قیض لی سیوف الکفره
و اجعل وفاتی بأکف الفجره‏

فالقتل خیر من ثیاب الحبره‏
لا تعدل الدنیا جمیعا وبره‏
و لا بعوضا فی ثواب البرره‏

و شد على الخیل خیل الشام فردها- فاستحیا عبید الله و برز أمام الخیل- و کان فارسا شجاعا و قال-

أنعى ابن عفان و أرجو ربی
ذاک الذی یخرجنی من ذنبی‏

ذاک الذی یکشف عنی کربی‏
أن ابن عفان عظیم الخطب‏

یأبى له حبی بکل قلبی
إلا طعانی دونه و ضربی‏
حسبی الذی أنویه حسبی حسبی‏

فحمل علیه الأشتر و طعنه و اشتد الأمر- و انصرف القوم و للأشتر الفضل- فغم ذلک معاویه- و غدا عبد الرحمن بن خالد فی الیوم الخامس- و کان رجاء معاویه أن ینال حاجته- فقواه بالخیل و السلاح- و کان معاویه یعده ولدا- فلقیه عدی بن حاتم فی کمأه مذحج و قضاعه- فبرز عبد الرحمن أمام الخیل و قال-

قل لعدی ذهب الوعید
أنا ابن سیف الله لا مزید

و خالد یزینه الولید
ذاک الذی قیل له الوحید

ثم حمل فطعن الناس- فقصده عدی بن حاتم و سدد إلیه الرمح- و قال

أرجو إلهی و أخاف ذنبی
و لست أرجو غیر عفو ربی‏

یا ابن الولید بغضکم فی قلبی‏
کالهضب بل فوق قنان الهضب‏

فلما کاد أن یخالطه بالرمح- توارى عبد الرحمن فی العجاج- و استتر بأسنه أصحابه و اختلط القوم- ثم تحاجزوا و رجع عبد الرحمن مقهورا- و انکسر معاویه- و بلغ أیمن بن خزیم ما لقی معاویه و أصحابه- فشمت بهم و کان ناسکا من أنسک أهل الشام- و کان معتزلا للحرب فی ناحیه عنها- فقال‏

معاوی إن الأمر لله وحده
و إنک لا تسطیع ضرا و لا نفعا

عبأت رجالا من قریش لعصبه
یمانیه لا تستطیع لها دفعا

فکیف رأیت الأمر إذ جد جده
لقد زادک الأمر الذی جئته جدعا

تعبی لقیس أو عدی بن حاتم‏
و الأشتر یا للناس أغمارک الجدعا

و تجعل للمرقال عمرا و إنه
للیث لقی من دون غایته ضبعا

و إن سعیدا إذ برزت لرمحه‏
لفارس همدان الذی یشعب الصدعا

ملی بضرب الدارعین بسیفه
إذا الخیل أبدت من سنابکها نقعا

رجعت فلم تظفر بشی‏ء تریده‏
سوى فرس أعیت و أبت بها ظلعا

فدعهم فلا و الله لا تستطیعهم
مجاهره فاعمل لقهرهم خدعا

قال و إن معاویه أظهر لعمرو شماته- و جعل یقرعه و یوبخه- و قال لقد أنصفتکم- إذ لقیت سعید بن قیس فی همدان و فررتم- و إنک لجبان یا عمرو- فغضب عمرو- و قال فهلا برزت إلى علی إذ دعاک إن کنت شجاعا کما تزعم- و قال
تسیر إلى ابن ذی یزن سعید
و تترک فی العجاجه من دعاکا

فهل لک فی أبی حسن علی‏
لعل الله یمکن من قفاکا

دعاک إلى البراز فلم تجبه
و لو نازلته تربت یداکا

و کنت أصم إذ ناداک عنها
و کان سکوته عنها مناکا

فآب الکبش قد طحنت رحاه
بنجدته و ما طحنت رحاکا

فما أنصفت صحبک یا ابن هند
أ تفرقه و تغضب من کفاکا

فلا و الله ما أضمرت خیرا
و لا أظهرت لی إلا هواکا

قال و إن القرشیین استحیوا ما صنعوا- و شمت بهم الیمانیه من أهل الشام- فقال معاویه یا معشر قریش- و الله لقد قربکم لقاء القوم إلى الفتح- و لکن لا مرد لأمر الله و مم تستحیون- إنما لقیتم کباش العراق- فقتلتم منهم و قتلوا منکم- و ما لکم علی من حجه- لقد عبأت نفسی لسیدهم و شجاعهم سعید بن قیس- فانقطعوا عن معاویه أیاما- فقال معاویه فی ذلک-

لعمری لقد أنصفت و النصف عادتی
و عاین طعنا فی العجاج المعاین‏

و لو لا رجائی أن تئوبوا بنهزه
و أن تغسلوا عارا وعته الکنائن‏

لنادیت للهیجا رجالا سواکم
و لکنما تحمى الملوک البطائن‏

أ تدرون من لاقیتم فل جیشکم‏
لقیتم لیوثا أصحرتها العرائن‏

لقیتم صنادید العراق و من بهم
إذا جاشت الهیجاء تحمى الظعائن‏

و ما کان منکم فارس دون فارس‏
و لکنه ما قدر الله کائن‏

فلما سمع القوم ما قاله معاویه أتوه فاعتذروا إلیه- و استقاموا إلیه على ما یحب- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال لما اشتد القتال و عظم الخطب- أرسل معاویه إلى عمرو بن العاص- إن قدم عکا و الأشعریین إلى من بإزائهم- فبعث عمرو إلیه أن بإزاء عک همدان- فبعث إلیه معاویه أن قدم عکا- فأتاهم عمرو فقال یا معشر عک- إن علیا قد عرف أنکم حی أهل الشام- فعبأ لکم حی أهل العراق همدان-فاصبروا و هبوا إلی جماجمکم ساعه من النهار- فقد بلغ الحق مقطعه- فقال ابن مسروق العکی أمهلنی حتى آتی معاویه- فأتاه فقال یا معاویه- اجعل لنا فریضه ألفی رجل فی ألفین ألفین- و من هلک فابن عمه مکانه لنقر الیوم عینک- فقال لک ذلک فرجع ابن مسروق إلى أصحابه- فأخبرهم الخبر- فقالت عک نحن لهمدان- ثم تقدمت عک و نادى سعید بن قیس- یا همدان إن تقدموا- فشدت همدان على عک رجاله- فأخذت السیوف أرجل عک- فنادى ابن مسروقیا لعک برکا کبرک الکمل‏- فبرکوا تحت الحجف- فشجرتهم همدان بالرماح- و تقدم شیخ من همدان و هو یقول-

یا لبکیل لخمها و حاشد
نفسی فداکم طاعنوا و جالدوا

حتى تخر منکم القماحد
و أرجل یتبعها سواعد
بذاک أوصى جدکم و الوالد

و قام رجل من عک- فارتجز فقال

تدعون همدان و ندعو عکا
بکوا الرجال یا لعک بکا

إن خدم القوم فبرکا برکا
لا تدخلوا الیوم علیکم شکا
قد محک القوم فزیدوا محکا

قال فالتقى القوم جمیعا بالرماح- و صاروا إلى السیوف و تجالدوا حتى أدرکهم اللیل- فقالت همدان یا معشر عک- نحن نقسم بالله أننا لا ننصرف حتى تنصرفوا- و قالت عک مثل ذلک- فأرسل معاویه إلى عک- أن أبروا قسم إخوتکم و هلموا- فانصرفت عک فلما انصرفت انصرفت همدان- فقال عمرو یا معاویه- و الله لقد لقیت أسد أسدا- لم أر و الله کهذا الیوم قط لو أن معک حیا کعک- أو مع علی حی کهمدان لکان الفناء- و قال عمرو فی ذلک-

إن عکا و حاشدا و بکیلا
کأسود الضراء لاقت أسودا

و جثا القوم بالقنا و تساقوا
بظباه السیوف موتا عتیدا

ازورار المناکب الغلب بالشم
و ضرب المسومین الخدودا

لیس یدرون ما الفرار و لو کان‏
فرارا لکان ذاک سدیدا

یعلم الله ما رأیت من القوم
ازورارا و لا رأیت صدودا

غیر ضرب فوق الطلى و على الهام‏
و قرع الحدید یعلو الحدیدا

و لقد قال قائل خدموا السوق
فخرت هناک عک قعودا

کبروک الجمال أثقلها الحمل‏
فما تستقل إلا وئیدا

قال و لما اشترطت علک و الأشعریون على معاویه- ما اشترطوا من الفریضه و العطاء فأعطاهم- لم یبق من أهل العراق أحد- فی قلبه مرض إلا طمع فی معاویه- و شخص ببصره إلیه- حتى فشا ذلک فی الناس- و بلغ علیا ع فساءه- .

قال نصر و جاء عدی بن حاتم یلتمس علیا ع- ما یطأ إلا على قتیل أو قدم أو ساعد- فوجده تحت رایات بکر بن وائل- فقال یا أمیر المؤمنین أ لا تقوم حتى نقاتل إلى أن نموت- فقال له علی ع- ادن فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه- فقال ویحک إن عامه من معی الیوم یعصینی- و إن معاویه فیمن یطیعه و لا یعصیه- قال نصر و جاء المنذر بن أبی حمیصه الوادعی- و کان شاعر همدان و فارسها علیا ع- فقال یا أمیر المؤمنین- إن عکا و الأشعریین طلبوا- إلى معاویه الفرائض و العطاء فأعطاهم- فباعوا الدین بالدنیا- و إنا قد رضینا بالآخره من الدنیا- و بالعراق من الشام و بک من معاویه- و الله لآخرتنا خیر من دنیاهم- و لعراقنا خیر من شامهم- و لإمامنا أهدى من إمامهم- فاستفتحنا بالحرب و ثق منا بالنصر- و احملنا على الموت- و أنشده

إن عکا سألوا الفرائض و الأشعر
سألوا جوائزا بثنیه‏

ترکوا الدین للعطاء و للفرض‏
فکانوا بذاک شر البریه‏

و سألنا حسن الثواب من الله
و صبرا على الجهاد و نیه‏

فلکل ما سأله و نواه‏
کلنا یحسب الخلاف خطیه‏

و لأهل العراق أحسن فی الحرب
إذا ما تدانت السمهریه‏

و لأهل العراق أحمل للثقل‏
إذا عمت البلاد بلیه‏

لیس منا من لم یکن فی الله
ولیا یا ذا الولاء و الوصیه

فقال علی ع حسبک الله یرحمک الله- و أثنى علیه و على قومه خیرا- و انتهى شعره إلى معاویه- فقال و الله لأستمیلن بالدنیا ثقات علی- و لأقسمن فیهم الأموال حتى تغلب دنیای آخرته- . قال نصر فلما أصبح الناس غدوا على مصافهم- و أصبح معاویه یدور فی أحیاء الیمن- و قال عبوا إلى کل فارس مذکور فیکم- أتقوى به على هذا الحی من همدان-فخرجت خیل عظیمه- فلما رآها علی ع و عرف أنها عیون الرجال- فنادى یا لهمدان فأجابه سعید بن قیس- فقال له علی ع احمل- فحمل حتى خالط الخیل بالخیل و اشتد القتال- و حطمتهم همدان حتى ألحقتهم بمعاویه- فقال معاویه ما لقیت من همدان- و جزع جزعا شدیدا- و أسرع القتل فی فرسان الشام- و جمع علی ع همدان- فقال لهم یا معشر همدان- أنتم درعی و رمحی و مجنی- یا همدان ما نصرتم إلا الله و لا أجبتم غیره- فقال سعید بن قیس- أجبنا الله و أجبناک- و نصرنا رسول الله فی قبره- و قاتلنا معک من لیس مثلک فارمنا حیث شئت- .قال نصر و فی هذا الیوم قال علی ع‏و لو کنت بوابا على باب جنهلقلت لهمدان ادخلی بسلام‏- فقال علی ع لصاحب لواء همدان- اکفنی أهل حمص- فإنی لم ألق من أحد ما لقیت منهم
– فتقدم و تقدمت همدان- و شدوا شده واحده على أهل حمص فضربوهم ضربا شدیدا متدارکا- بالسیوف و عمد الحدید- حتى ألجئوهم إلى قبه معاویه- و ارتجز من همدان رجل عداده فی أرحب فقال-

قد قتل الله رجال حمص
غروا بقول کذب و خرص‏

حرصا على المال و أی حرص‏
قد نکص القوم و أی نکص‏
عن طاعه الله و فحوى النص‏

قال نصر فحدثنا عمر بن سعد- قال لما ردت خیول معاویه أسف- فجرد سیفه و حمل فی کماه أصحابه- فحملت علیه فوارس همدان- ففاز منها رکضا و انکسرت کماته- و رجعت همدان إلى مراکزها- فقال حجر بن قحطان الهمدانی- یخاطب سعید بن قیس-

ألا ابن قیس قرت العین إذا رأت
فوارس همدان بن زید بن مالک‏

على عارفات للقاء عوابس‏
طوال الهوادی مشرفات الحوارک‏

معوده للطعن فی ثغراتها
یجلن فیحطمن الحصى بالسنابک‏

عباها علی لابن هند و خیله‏
فلو لم یفتها کان أول هالک‏

و کانت له فی یومه عند ظنه
و فی کل یوم کاسف الشمس حالک‏

و کانت بحمد الله فی کل کربه
حصونا و عزا للرجال الصعالک‏

فقل لأمیر المؤمنین أن ادعنا
متى شئت إنا عرضه للمهالک‏

و نحن حطمنا السمر فی حی حمیر
و کنده و الحی الخفاف السکاسک‏

و عک و لخم شائلین سیاطهم
حذار العوالی کالإماء العوارک‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن رجاله- أن معاویه دعا یوما بصفین مروان بن الحکم- فقال له إن الأشتر قد غمنی و أقلقنی- فاخرج بهذه الخیل فی یحصب و الکلاعیین- فالقه فقال مروان ادعا لهما عمرا- فإنه شعارک دون دثارک- قال فأنت نفسی دون وریدی- قال لو کنت کذلک ألحقتنی به فی العطاء- و ألحقته بی فی الحرمان- و لکنک أعطیته ما فی یدک و منیته ما فی ید غیرک- فإن غلبت طاب له المقام- و إن غلبت خف علیه الهرب- فقال معاویه سیغنی الله عنک- قال أما إلى الیوم فلم یغن- فدعا معاویه عمرا فأمره بالخروج إلى الأشتر- فقال أما إنی لا أقول لک ما قال مروان- قال و کیف نقوله و قد قدمتک و أخرته- و أدخلتک و أخرجته- قال أما و الله إن کنت فعلت- لقد قدمتنی کافیا و أدخلتنی ناصحا- و قد أکثر القوم علیک فی أمر مصر- و إن کان لا یرضیهم‏ إلا رجوعک- فیما وثقت لی به منها فارجع فیه- ثم قام فخرج فی تلک الخیل- فلقیه الأشتر أمام القوم و قد علم أنه سیلقاه- و هو یرتجز و یقول

یا لیت شعری کیف لی بعمرو
ذاک الذی أوجبت فیه نذری‏

ذاک الذی أطلبه بوتری‏
ذاک الذی فیه شفاء صدری‏

من بائعی یوما بکل عمری
یعلی به عند اللقاء قدری‏

أجعله فیه طعام النسر
أو لا فربی عاذری بعذری‏

فلما سمع عمرو هذا الرجز فشل و جبن- و استحیا أن یرجع و أقبل نحو الصوت- و قال

یا لیت شعری کیف لی بمالک
کم کاهل جببته و حارک‏

و فارس قتلته و فاتک‏
و مقدم آب بوجه حالک‏
ما زلت دهری عرضه المهالک‏

فغشیه الأشتر بالرمح- فراغ عمرو عنه فلم یصنع الرمح شیئا- و لوى عمرو عنان فرسه- و جعل یده على وجهه- و جعل یرجع راکضا نحو عسکره- فنادى غلام من یحصب- یا عمرو علیک العفاء ما هبت الصبا- یا آل حمیر إنا لکم ما کان معکم هاتوا اللواء- فأخذه و تقدم و کان غلاما حدثا- فقال‏

إن یک عمرو قد علاه الأشتر
بأسمر فیه سنان أزهر

فذاک و الله لعمری مفخر
یا عمرو تکفیک الطعان حمیر

و الیحصبی بالطعان أمهر
دون اللواء الیوم موت أحمر

فنادى الأشتر ابنه إبراهیم- خذ اللواء فغلام لغلام- و تقدم فأخذ إبراهیم اللواء- و قال

یا أیها السائل عنی لا ترع
أقدم فإنی من عرانین النخع‏

کیف ترى طعن العراقی الجذع‏
أطیر فی یوم الوغى و لا أفع‏

ما ساءکم سر و ما ضر نفع
أعددت ذا الیوم لهول المطلع‏

و یحمل على الحمیری فالتقاه الحمیری بلوائه و رمحه- فلم یبرحا یطعن کل واحد منهما صاحبه- حتى سقط الحمیری قتیلا- و شمت مروان بعمرو- و غضب القحطانیون على معاویه- و قالوا تولى علینا من لا یقاتل معنا- ول رجلا منا و إلا فلا حاجه لنا فیک- و قال شاعرهم

معاوی إما تدعنا لعظیمه
یلبس من نکرائها الغرض بالحقب‏

فول علینا من یحوط ذمارنا
من الحمیریین الملوک على العرب‏

و لا تأمرنا بالتی لا نریدها
و لا تجعلنا بالهوى موضع الذنب‏

و لا تغضبنا و الحوادث جمه
علیک فیفشو الیوم فی یحصب الغضب‏

فإن لنا حقا عظیما و طاعه
و حبا دخیلا فی المشاش و فی العصب‏

فقال لهم معاویه- و الله لا أولى علیکم بعد هذا الیوم إلا رجلا منکم-قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال لما أسرع أهل العراق فی أهل الشام- قال لهم معاویه هذا یوم تمحیص- و إن لهذا الیوم ما بعده- و قد أسرعتم فی القوم کما أسرعوا فیکم- فاصبروا و موتوا کراما- و حرض علی ع أصحابه- فقام إلیه الأصبغ بن نباته- و قال یا أمیر المؤمنین- قدمنی فی البقیه من الناس- فإنک لا تفقد لی الیوم صبرا و لا نصرا- أما أهل الشام فقد أصبنا- و أما نحن ففینا بعض البقیه ائذن لی فأتقدم- فقال له تقدم على اسم الله و البرکه- فتقدم و أخذ الرایه و مضى بها و هو یقول-

إن الرجاء بالقنوط یدمغ
حتى متى یرجو البقاء الأصبغ‏

أ ما ترى أحداث دهر تنبغ‏
فادبغ هواک و الأدیم یدبغ‏

و الرفق فیما قد ترید أبلغ
الیوم شغل و غدا لا تفرغ‏

فما رجع إلى علی ع حتى خضب سیفه دما و رمحه- و کان شیخا ناسکا عابدا- و کان إذا لقی القوم بعضهم بعضا یغمد سیفه- و کان من ذخائر علی ع ممن قد بایعه على الموت- و کان علی ع یضن به عن الحرب و القتال- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر- قال نادى الأشتر یوما أصحابه- فقال أ ما من رجل یشری نفسه لله- فخرج أثال بن حجل بن عامر المذحجی- فنادى بین العسکرین هل من مبارز- فدعا معاویه و هو لا یعرفه- أباه حجل بن عامر المذحجی- فقال دونک الرجل- قال و کان مستبصرین فی رأیهما- فبرز کل واحد منهما إلى صاحبه- فبدره بطعنه و طعنه الغلام- و انتسبا فإذا هو ابنه- فنزلا فاعتنق کل‏واحد منهما صاحبه و بکیا- فقال له الأب یا بنی هلم إلى الدنیا- فقال له الغلام یا أبی هلم إلى الآخره- ثم قال یا أبت- و الله لو کان من رأیی الانصراف إلى أهل الشام- لوجب علیک أن یکون من رأیک لی أن تنهانی وا سوأتاه- فما ذا أقول لعلی و للمؤمنین الصالحین- کن على ما أنت علیه- و أنا على ما أنا علیه- فانصرف حجل إلى صف الشام- و انصرف ابنه أثال إلى أهل العراق- فخبر کل واحد منهما أصحابه- و قال فی ذلک حجل-

إن حجل بن عامر و أثالا
أصبحا یضربان فی الأمثال‏

أقبل الفارس المدجج فی النقع‏
أثال یدعو یرید نزالی‏

دون أهل العراق یخطر کالفحل
على ظهر هیکل ذیال‏

فدعانی له ابن هند و ما زال‏
قلیلا فی صحبه أمثالی‏

فتناولته ببادره الرمح
و أهوى بأسمر عسال‏

فأطعنا و ذاک من حدث الدهر
عظیم فتى لشیخ بجال‏

شاجرا بالقناه صدر أبیه
و عزیز علی طعن أثال‏

لا أبالی حین اعترضت أثالا
و أثال کذاک لیس یبالی‏

فافترقنا على السلامه و النفس
یقیها مؤخر الآجال‏

لا یرانی على الهدى و أراه‏
من هدای على سبیل ضلال‏

فلما انتهى شعره إلى أهل العراق- قال أثال ابنه مجیبا له-

إن طعنی وسط العجاجه حجلا
لم یکن فی الذی نویت عقوقا

کنت أرجو به الثواب من الله‏
و کونی مع النبی رفیقا

لم أزل أنصر العراق على الشام
أرانی بفعل ذاک حقیقا

قال أهل العراق إذ عظم الخطب‏
و نق المبارزون نقیقا

من فتى یسلک الطریق إلى الله
فکنت الذی سلکت الطریقا

حاسر الرأس لا أرید سوى الموت‏
أرى الأعظم الجلیل دقیقا

فإذا فارس تقحم فی الروع
خدبا مثل السحوق عتیقا

فبدانی حجل ببادره الطعن‏
و ما کنت قبلها مسبوقا

فتلقیته بعالیه الرمح
کلانا یطاول العیوقا

أحمد الله ذا الجلاله و القدره
حمدا یزیدنی توفیقا

إذ کففت السنان عنه و لم أدن
قتیلا منه و لا ثغروقا

قلت للشیخ لست أکفر نعماک‏
لطیف الغذاء و التفنیقا

غیر أنی أخاف أن تدخل النار
فلا تعصنی و کن لی رفیقا

و کذا قال لی فغرب تغریبا
و شرقت راجعا تشریقا

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر بالإسناد المذکور- أن معاویه دعا النعمان بن بشیر بن سعد الأنصاری- و مسلمه بن مخلد الأنصاری- و لم یکن معه من الأنصار غیرهما- فقال یا هذان- لقد غمنی ما لقیت من الأوس و الخزرج- واضعی سیوفهم على عواتقهم یدعون إلى النزال- حتى لقد جبنوا أصحابی الشجاع منهم و الجبان- و حتى و الله ما أسأل عن‏فارس من أهل الشام- إلا قیل قتله الأنصار- أما و الله لألقینهم بحدی و حدیدی- و لأعبین لکل فارس منهم فارسا ینشب فی حلقه- و لأرمینهم بأعدادهم من قریش- رجال لم یغذهم التمر و الطفیشل- یقولون نحن الأنصار- قد و الله آووا و نصروا- و لکن أفسدوا حقهم بباطلهم- فغضب النعمان- و قال یا معاویه لا تلومن الأنصار- فی حب الحرب و السرعه نحوها- فإنهم کذلک کانوا فی الجاهلیه- و أما دعاؤهم إلى النزال- فقد رأیتهم مع رسول الله ص یفعلون ذلک کثیرا- و أما لقاؤک إیاهم فی أعدادهم من قریش- فقد علمت ما لقیت قریش منهم قدیما- فإن أحببت أن ترى فیهم مثل ذلک آنفا فافعل- و أما التمر و الطفیشل فإن التمر کان لنا- فلما ذقتموه شارکتمونا فیه- و أما الطفیشل فکان للیهود- فلما أکلناه غلبناهم علیه- کما غلبت قریش على السخینه- .

ثم تکلم مسلمه بن مخلد- فقال یا معاویه- إن الأنصار لا تعاب أحسابها و لا نجداتها- و أما غمهم إیاک فقد و الله غمونا- و لو رضینا ما فارقونا و لا فارقنا جماعتهم- و إن فی ذلک ما فیه من مباینه العشیره- و لکنا حملنا ذلک لک- و رجونا منک عوضه- و أما التمر و الطفیشل- فإنهما یجران علیک السخینه و الخرنوب- . قال و انتهى هذا الکلام إلى الأنصار- فجمع قیس بن سعد الأنصار- ثم قام فیهم خطیبا- فقال إن معاویه قال ما بلغکم- و أجابه عنکم صاحباکم- و لعمری إن غظتم‏ معاویه الیوم- لقد غظتموه أمس- و إن وترتموه فی الإسلام فلقد وترتموه فی الشرک- و ما لکم إلیه من ذنب أعظم من نصر هذا الدین- فجدوا الیوم جدا تنسونه به ما کان أمس- و جدوا غدا جدا تنسونه به ما کان الیوم- فأنتم مع هذا اللواء الذی کان یقاتل عن یمینه جبریل- و عن یساره میکائیل- و القوم مع لواء أبی جهل و الأحزاب- فأما التمر فإنا لم نغرسه- و لکن غلبنا علیه من غرسه- و أما الطفیشل فلو کان طعامنا لسمینا به- کما سمیت قریش بسخینه- ثم قال سعد فی ذلک-

یا ابن هند دع التوثب فی الحرب
إذا نحن بالجیاد سرینا

نحن من قد علمت فادن إذا شئت‏
بمن شئت فی العجاج إلینا

إن تشأ فارس له فارس منا
و إن شئت باللفیف التقینا

أی هذین ما أردت فخذه‏
لیس منا و لیس منک الهوینى‏

ثم لا نسلخ العجاجه حتى
تنجلی حربنا لنا أو علینا

لیت ما تطلب الغداه أتانا
أنعم الله بالشهاده عینا

فلما أتى شعره و کلامه معاویه- دعا عمرو بن العاص- فقال ما ترى فی شتم الأنصار- قال أرى أن توعدهم و لا تشتمهم- ما عسى أن تقول لهم إذا أردت ذمهم- فذم أبدانهم و لا تذم أحسابهم- فقال إن قیس بن سعد یقوم کل یوم خطیبا- و أظنه و الله یفنینا غدا إن لم یحبسه عنا حابس الفیل- فما الرأی قال الصبر و التوکل- و أرسل‏ إلى رءوس الأنصار مع علی- فعاتبهم و أمرهم أن یعاتبوه- فأرسل معاویه إلى أبی مسعود و البراء بن عازب- و خزیمه بن ثابت- و الحجاج بن غزیه و أبی أیوب- فعاتبهم فمشوا إلى قیس بن سعد- و قالوا له إن معاویه لا یحب الشتم- فکف عن شتمه- فقال إن مثلی لا یشتم- و لکنی لا أکف عن حربه حتى ألقى الله- قال و تحرکت الخیل غدوه- فظن قیس أن فیها معاویه- فحمل على رجل یشبهه- فضربه بالسیف فإذا هو لیس به- ثم حمل على آخر یشبهه أیضا فقنعه بالسیف- .

فلما تحاجز الفریقان- شتمه معاویه شتما قبیحا- و شتم الأنصار فغضب النعمان و مسلمه- فأرضاهما بعد أن هما أن ینصرفا إلى قومهما- . ثم إن معاویه سأل النعمان أن یخرج إلى قیس- فیعاتبه و یسأله السلم- فخرج النعمان فوقف بین الصفین- و نادى یا قیس بن سعد أنا النعمان بن بشیر- فخرج إلیه و قال هیه یا نعمان ما حاجتک- قال یا قیس- إنه قد أنصفکم من دعاکم إلى ما رضی لنفسه- یا معشر الأنصار- إنکم أخطأتم فی خذل عثمان یوم الدار- و قتلتم أنصاره یوم الجمل- و أقحمتم خیولکم على أهل الشام بصفین- فلو کنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم علیا- لکانت واحده بواحده- و لکنکم لم ترضوا أن تکونوا کالناس- حتى أعلمتم فی الحرب- و دعوتم‏ إلى البراز- ثم لم ینزل بعلی حطب قط إلا هونتم علیه المصیبه- و وعدتموه الظفر- و قد أخذت الحرب منا و منکم ما قد رأیتم- فاتقوا الله فی البقیه- . فضحک قیس- و قال ما کنت أظنک یا نعمان محتویا على هذه المقاله- إنه لا ینصح أخاه من غش نفسه- و أنت الغاش الضال المضل- أما ذکرک عثمان- فإن کانت الأخبار تکفیک فخذ منی واحده- قتل عثمان من لست خیرا منه- و خذله من هو خیر منک- و أما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النکث- و أما معاویه- فو الله لو اجتمعت علیه العرب قاطبه لقاتلته الأنصار- و أما قولک إنا لسنا کالناس- فنحن فی هذه الحرب کما کنا مع رسول الله- نتقی السیوف بوجوهنا- و الرماح بنحورنا- حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم کارهون- و لکن انظر یا نعمان- هل ترى مع معاویه إلا طلیقا- أو أعرابیا أو یمانیا مستدرجا بغرور- انظر أین المهاجرون و الأنصار- و التابعون لهم بإحسان- الذین رضی الله عنهم و رضوا عنه- ثم انظر هل ترى مع معاویه أنصاریا- غیرک و غیر صویحبک- و لستما و الله ببدریین و لا عقبیین و لا أحدیین- و لا لکما سابقه فی الإسلام- و لا آیه فی القرآن- و لعمری لئن شغبت علینا لقد شغب علینا أبوک- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن مالک بن أعین عن زید بن وهب- قال کان فارس أهل الشام الذی لا ینازع- عوف بن مجزأه المرادی المکنى أبا أحمر- و کان فارس أهل الکوفه العکبر بن جدیر الأسدی- فقام العکبر إلى علی ع- و کان‏ منطیقا فقال یا أمیر المؤمنین- إن فی أیدینا عهدا من الله لا نحتاج فیه إلى الناس- قد ظننا بأهل الشام الصبر و ظنوا بنا- فصبرنا و صبروا- و قد عجبت من صبر أهل الدنیا لأهل الآخره- و صبر أهل الحق على أهل الباطل و رغبه أهل الدنیا- ثم قرأت آیه من کتاب الله فعلمت أنهم مفتونون- الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ یُتْرَکُوا- أَنْ یَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا یُفْتَنُونَ- وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ- فَلَیَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِینَ صَدَقُوا- وَ لَیَعْلَمَنَّ الْکاذِبِینَ- فقال له ع خیرا- و خرج الناس إلى مصافهم- و خرج عوف بن مجزأه المرادی نادرا من الناس- و کذا کان یصنع- و قد کان قتل نفرا من أهل العراق مبارزه- فنادى یا أهل العراق- هل من رجل عصاه سیفه یبارزنی- و لا أغرکم من نفسی أنا عوف بن مجزأه- فنادى الناس بالعکبر- فخرج إلیه منقطعا عن أصحابه لیبارزه فقال عوف-

بالشام أمن لیس فیه خوف
بالشام عدل لیس فیه حیف‏

بالشام جود لیس فیه سوف‏
أنا ابن مجزاه و اسمی عوف‏

هل من عراقی عصاه سیف
یبرز لی و کیف لی و کیف‏

فقال له العکبر-

الشام محل و العراق ممطر
بها إمام طاهر مطهر

و الشام فیها أعور و معور
أنا العراقی و اسمی عکبر

ابن جدیر و أبوه المنذر
ادن فإنی فی البراز قسور

فاطعنا فصرعه العکبر و قتله- و معاویه على التل فی وجوه قریش- و نفر قلیل من الناس- فوجه العکبر فرسه- یملأ فروجه رکضا- و یضربه بالسوط مسرعا نحو التل- فنظر معاویه إلیه فقال- هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن- فاسألوه فأتاه رجل و هو فی حمو فرسه- فناداه فلم یجبه و مضى مبادرا- حتى انتهى إلى معاویه- فجعل یطعن فی أعراض الخیل و رجا- أن ینفرد بمعاویه فیقتله- فاستقبله رجال قتل منهم قوما- و حال الباقون بینه و بین معاویه بسیوفهم و رماحهم- فلما لم یصل إلیه قال- أولى لک یا ابن هند أنا الغلام الأسدی- و رجع إلى صف العراق و لم یکلم- فقال له علی ع- ما دعاک إلى ما صنعت- لا تلق نفسک إلى التهلکه- قال یا أمیر المؤمنین- أردت غره ابن هند فحیل بینی و بینه- و کان العکبر شاعرا فقال-

قتلت المرادی الذی کان باغیا
ینادی و قد ثار العجاج نزال‏

یقول أنا عوف بن مجزاه و المنى‏
لقاء ابن مجزاه بیوم قتال‏

فقلت له لما علا القوم صوته
منیت بمشبوح الیدین طوال‏

فأوجرته فی ملتقى الحرب صعده
ملأت بها رعبا صدور رجال‏

فغادرته یکبو صریعا لوجهه
ینوء مرارا فی مکر مجال‏

و قدمت مهری راکضا نحو صفهم‏
أصرفه فی جریه بشمالی‏

أرید به التل الذی فوق رأسه
معاویه الجانی لکل خبال‏

فقام رجال دونه بسیوفهم‏
و قام رجال دونه بعوالی‏

فلو نلته نلت التی لیس بعدها
و فزت بذکر صالح و فعال‏

و لو مت فی نیل المنى ألف موته
لقلت إذا ما مت لست أبالی‏

قال فانکسر أهل الشام لقتل عوف المرادی- و هدر معاویه دم العکبر- فقال العکبر ید الله فوق یده- فأین الله جل جلاله و دفاعه عن المؤمنین- . قال نصر و روى عمر بن سعد- عن الحارث بن حصین عن أبی الکنود- قال جزع أهل الشام على قتلاهم جزعا شدیدا- و قال معاویه بن خدیج- قبح الله ملکا یملکه المرء بعد حوشب و ذی الکلاع- و الله لو ظفرنا بأهل الدنیا- بعد قتلهما بغیر مئونه ما کان ظفرا- و قال یزید بن أسد لمعاویه- لا خیر فی أمر لا یشبه آخره أوله- لا یدمى جریح و لا یبکى قتیل- حتى تنجلی هذه الفتنه- فإن یکن الأمر لک أدمیت‏ و بکیت على قرار- و إن یکن لغیرک فما أصبت به أعظم- فقال معاویه یا أهل الشام- ما جعلکم أحق بالجزع على قتلاکم- من أهل العراق على قتلاهم- و الله ما ذو الکلاع فیکم بأعظم من عمار بن یاسر فیهم- و لا حوشب فیکم بأعظم من هاشم فیهم- و ما عبید الله بن عمر فیکم بأعظم من ابن بدیل فیهم- و ما الرجال إلا أشباه و ما التمحیص إلا من عند الله- فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثه- قتل عمارا و کان فتاهم و قتل هاشما و کان حمزتهم- و قتل ابن بدیل و هو الذی فعل الأفاعیل- و بقی الأشتر و الأشعث و عدی بن حاتم- فأما الأشعث فإنما حمى عنه مصره- و أما الأشتر و عدی فغضبا و الله للفتنه- أقاتلهما غدا إن شاء الله تعالى- فقال معاویه بن خدیج- إن یکن الرجال عندک أشباها- فلیست عندنا کذلک و غضب- و قال شاعر الیمن یرثی ذا الکلاع و حوشبا-

معاوی قد نلنا و نیلت سراتنا
و جدع أحیاء الکلاع و یحصب‏

فذو کلع لا یبعد الله داره‏
و کل یمان قد أصیب بحوشب‏

هما ما هما کانا معاوی عصمه
متى قلت کانا عصمه لا أکذب‏

و لو قبلت فی هالک بذل فدیه
فدیتهما بالنفس و الأم و الأب‏

و روى نصر عن عمر بن سعد- عن عبید الرحمن بن کعب- قال لما قتل عبد الله بن بدیل یوم صفین- مر به الأسود بن طهمان الخزاعی- و هو بآخر رمق- فقال له عز علی و الله مصرعک- أما و الله لو شهدتک لآسیتک- و لدافعت عنک- و لو رأیت الذی أشعرک-لأحببت ألا أزایله و لا یزایلنی- حتى أقتله أو یلحقنی بک- ثم نزل إلیه فقال رحمک الله- یا عبد الله و الله إن کان جارک لیأمن بوائقک- و إن کنت لمن الذاکرین الله کثیرا- أوصنی رحمک الله- قال أوصیک بتقوى الله- و أن تناصح أمیر المؤمنین- و تقاتل معه حتى یظهر الحق أو تلحق بالله- و أبلغ أمیر المؤمنین عنی السلام- و قل له قاتل على المعرکه حتى تجعلها خلف ظهرک- فإنه من أصبح و المعرکه خلف ظهره- کان الغالب- . ثم لم یلبث أن مات- فأقبل أبو الأسود إلى علی ع فأخبره- فقال رحمه الله جاهد معنا عدونا فی الحیاه- و نصح لنا فی الوفاه- .

قال نصر- و قد روی نحو هذا عن عبد الرحمن بن کلده- حدثنی محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبی بحر- عن عبد الرحمن بن حاطب- قال خرجت التمس أخی سویدا فی قتلى صفین- فإذا رجل صریع فی القتلى- قد أخذ بثوبی فالتفت- فإذا هو عبد الرحمن بن کلده- فقلت إنا لله و إنا إلیه راجعون- هل لک فی الماء و معی إداوه- فقال لا حاجه لی فیه قد أنفذ فی السلاح و خرقنی- فلست أقدر على الشراب- هل أنت مبلغ عنی أمیر المؤمنین رساله أرسلک بها- قلت نعم قال إذا رأیته فاقرأ علیه السلام- و قل له یا أمیر المؤمنین- احمل جرحاک إلى عسکرک- حتى تجعلهم من وراء ظهرک- فإن الغلبه لمن فعل ذلک- ثم لم أبرح حتى مات- فخرجت حتى أتیت أمیر المؤمنین ع- فقلت له إن عبد الرحمن بن کلده یقرأ علیک السلام- قال و أین هو قلت وجدته و قد أنفذه السلاح و خرقه- فلم یستطع شرب الماء- و لم أبرح حتى مات- فاسترجع ع فقلت قد أرسلنی إلیک برساله- قال و ما هی قلت إنه یقول احمل جرحاک إلى عسکرک- و اجعلهم وراء ظهرک فإن الغلبه لمن فعل ذلک- فقال صدق فنادى منادیه فی العسکر- أن احملوا جرحاکم من بین القتلى إلى معسکرکم ففعلوا- . قال نصر و حدثنی عمرو بن شمر- عن جابر عن عامر- عن صعصعه بن صوحان- أن أبرهه بن الصباح الحمیری قام بصفین- فقال ویحکم یا معشر أهل الیمن- إنی لأظن الله قد أذن بفنائکم- ویحکم خلوا بین الرجلین فلیقتتلا- فأیهما قتل صاحبه ملنا معه جمیعا- و کان أبرهه من رؤساء أصحاب معاویه- فبلغ قوله علیا ع- فقال صدق أبرهه- و الله ما سمعت بخطبه منذ وردت الشام- أنا بها أشد سرورا منی بهذه الخطبه-

قال و بلغ معاویه کلام أبرهه- فتأخر آخر الصفوف- و قال لمن حوله إنی لأظن أبرهه مصابا فی عقله- فأقبل أهل الشام یقولون- و الله إن أبرهه لأکملنا دینا و عقلا و رأیا و بأسا- و لکن الأمیر کره مبارزه علی- و سمع ما دار من الکلام- أبو داود عروه بن داود العامری- و کان من فرسان معاویه- فقال إن کان معاویه کره مبارزه أبی حسن- فأنا أبارزه ثم خرج بین الصفین- فنادى أنا أبو داود فابرز إلی یا أبا حسن- فتقدم علی ع نحوه فناداه الناس- ارجع یا أمیر المؤمنین عن هذا الکلب فلیس لک بخطر- فقال و الله ما معاویه الیوم بأغیظ لی منه- دعونی و إیاه- ثم حمل علیه فضربه فقطعه قطعتین- سقطت إحداهما یمنیه و الأخرى شامیه- فارتج العسکران لهول الضربه- و صرخ ابن عم لأبی داود وا سوء صباحاه- و قبح الله البقاء بعد أبی داود- و حمل على علی ع فطعنه فضرب الرمح فبرأه- ثم قنعه ضربه فألحقه بأبی داود- و معاویه واقف على التل یبصر و یشاهد- فقال تبا لهذه الرجال و قبحا- أ ما فیهم من یقتل هذا مبارزه أو غیله- أو فی اختلاط الفیلق و ثوران النقع- فقال الولید بن عقبه- ابرز إلیه أنت فإنک أولى الناس بمبارزته- فقال و الله لقد دعانی إلى البراز- حتى لقد استحییت من قریش و إنی و الله لا أبرز إلیه- ما جعل العسکر بین یدی الرئیس إلا وقایه له- فقال عتبه بن أبی سفیان- الهوا عن هذا کأنکم لم تسمعوا نداءه- فقد علمتم أنه قتل حریثا- و فضح عمرا و لا أرى أحدا یتحکک به إلا قتله- فقال معاویه لبسر بن أرطاه- أ تقوم لمبارزته فقال ما أحد أحق بها منک- أما إذ بیتموه فأنا له- قال معاویه إنک ستلقاه غدا فی أول الخیل- و کان عند بسر ابن عم له- قدم من الحجاز یخطب ابنته فأتى بسرا- فقال له إنی سمعت أنک وعدت من نفسک أن تبارز علیا- أ ما تعلم أن الوالی من بعد معاویه عتبه- ثم بعده محمد أخوه- و کل من هؤلاء قرن علی- فما یدعوک إلى ما أرى- قال الحیاء خرج منی کلام- فأنا أستحیی أن أرجع عنه- فضحک الغلام و قال-

تنازله یا بسر إن کنت مثله
و إلا فإن اللیث للشاء آکل‏

کأنک یا بسر بن أرطاه جاهل‏
بآثاره فی الحرب أو متجاهل‏

معاویه الوالی و صنواه بعده
و لیس سواء مستعار و ثاکل‏

أولئک هم أولى به منک إنه‏
علی فلا تقربه أمک هابل‏

متى تلقه فالموت فی رأس رمحه
و فی سیفه شغل لنفسک شاغل‏

و ما بعده فی آخر الخیل عاطف‏
و لا قبله فی أول الخیل حامل‏

فقال بسر هل هو إلا الموت- لا بد من لقاء الله فغدا علی ع منقطعا من خیله- و یده فی ید الأشتر- و هما یتسایران رویدا- یطلبان التل لیقفا علیه- إذ برز له بسر مقنعا فی الحدید- لا یعرف فناداه أبرز إلی أبا حسن- فانحدر إلیه على تؤده غیر مکترث به-حتى إذا قاربه طعنه و هو دارع- فألقاه إلى الأرض- و منع الدرع السنان أن یصل إلیه- فاتقاه بسر بعورته- و قصد أن یکشفها یستدفع بأسه- فانصرف عنه ع مستدبرا له فعرفه الأشتر حین سقط- فقال یا أمیر المؤمنین- هذا بسر بن أرطاه- هذا عدو الله و عدوک- فقال دعه علیه لعنه الله أ بعد أن فعلها- فحمل ابن عم بسر من أهل الشام شاب- على علی ع و قال-

أردیت بسرا و الغلام ثائره
أردیت شیخا غاب عنه ناصره‏
و کلنا حام لبسر واتره‏

فلم یلتفت إلیه علی ع و تلقاه الأشتر فقال له-

فی کل یوم رجل شیخ شاغره
و عوره وسط العجاج ظاهره‏

تبرزها طعنه کف واتره‏
عمرو و بسر منیا بالفاقره‏

فطعنه الأشتر فکسر صلبه- و قام بسر من طعنه علی ع مولیا- و فرت خیله و ناداه علی ع- یا بسر معاویه کان أحق بها منک- فرجع بسر إلى معاویه- فقال له معاویه ارفع طرفک- فقد أدال الله عمرا منک- قال الشاعر فی ذلک-

أ فی کل یوم فارس تندبونه
له عوره تحت العجاجه بادیه‏

یکف بها عنه علی سنانه‏
و یضحک منها فی الخلاء معاویه‏

بدت أمس من عمرو فقنع رأسه
و عوره بسر مثلها حذو حاذیه‏

فقولا لعمرو و ابن أرطاه أبصرا
سبیلیکما لا تلقیا اللیث ثانیه‏

و لا تحمدا إلا الحیا و خصاکما
هما کانتا للنفس و الله واقیه‏

فلولاهما لم تنجوا من سنانه‏
و تلک بما فیها عن العود ناهیه‏

متى تلقیا الخیل المغیره صبحه
و فیها علی فاترکا الخیل ناحیه‏

و کونا بعیدا حیث لا تبلغ القنا
و نار الوغى إن التجارب کافیه‏

و إن کان منه بعد للنفس حاجه
فعودا إلى ما شئتما هی ما هیه‏

قال فکان بسر بعد ذلک الیوم- إذا لقی الخیل التی فیها علی ینتحی ناحیه- و تحامى فرسان الشام بعدها علیا ع- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن الأجلح بن عبد الله الکندی- عن أبی جحیفه- قال جمع معاویه کل قرشی بالشام- و قال لهم العجب یا معشر قریش- أنه لیس لأحد منکم فی هذه الحرب فعال- یطول بها لسانه غدا ما عدا عمرا- فما بالکم أین حمیه قریش- فغضب الولید بن عقبه- و قال أی فعال ترید- و الله ما نعرف فی أکفائنا من قریش العراق- من یغنی غناءنا باللسان و لا بالید- فقال معاویه بلى إن أولئک وقوا علیا بأنفسهم- قال الولید کلا بل وقاهم علی بنفسه- قال ویحکم- أ ما فیکم من یقوم لقرنه منهم مبارزه و مفاخره- فقال مروان- أما البراز فإن علیا لا یأذن لحسن- و لا لحسین و لا لمحمد بنیه فیه- و لا لابن عباس و إخوته- و یصلى بالحرب دونهم- فلأیهم نبارز- و أما المفاخره فبما ذا نفاخرهم- بالإسلام أم بالجاهلیه- فإن کان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوه- و إن کان بالجاهلیه فالملک فیه للیمن- فإن قلنا قریش قالوا لنا عبد المطلب- .

فقال عتبه بن أبی سفیان الهوا عن هذا- فإنی لاق بالغداه جعده بن هبیره- فقال معاویه بخ بخ قومه بنو مخزوم- و أمه أم هانئ بنت أبی طالب کف‏ء کریم- و کثر العتاب و الخصام بین القوم- حتى أغلظوا لمروان و أغلظ لهم- فقال مروان أما و الله- لو لا ما کان منی إلى علی ع فی أیام عثمان- و مشهدی بالبصره لکان لی فی علی رأی- یکفی امرأ ذا حسب و دین- و لکن و لعل- و نابذ معاویه الولید بن عقبه دون القوم- فأغلظ له الولید- فقال معاویه- إنک إنما تجترئ علی بنسبک من عثمان- و لقد ضربک الحد و عزلک عن الکوفه- .

ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا- و أرضاهم معاویه من نفسه- و وصلهم بأموال جلیله- و بعث معاویه إلى عتبه- فقال ما أنت صانع فی جعده- قال ألقاه الیوم و أقاتله غدا- و کان لجعده فی قریش شرف عظیم- و کان له لسان- و کان من أحب الناس إلى علی ع- فغدا علیه عتبه- فنادى أبا جعده أبا جعده- فاستأذن علیا ع فی الخروج إلیه- فأذن له و اجتمع الناس- فقال عتبه یا جعده- و الله ما أخرجک علینا- إلا حب خالک و عمک عامل البحرین- و إنا و الله ما نزعم- أن معاویه أحق بالخلافه من علی- لو لا أمره فی عثمان- و لکن معاویه أحق بالشام لرضا أهلها به- فاعفوا لنا عنها- فو الله ما بالشام رجل به طرق- إلا و هو أجد من معاویه فی القتال- و لیس بالعراق رجل له مثل جد علی فی الحرب- و نحن أطوع لصاحبنا منکم لصاحبکم- و ما أقبح بعلی- أن یکون فی قلوب المسلمین أولى الناس بالناس- حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب- فقال جعده أما حبی لخالی- فلو کان لک خال مثله لنسیت أباک- و أما ابن أبی سلمه فلم یصب أعظم من قدره- و الجهاد أحب إلی من العمل- و أما فضل علی على معاویه فهذا ما لا یختلف فیه اثنان- و أما رضاکم الیوم بالشام- فقد رضیتم بها أمس فلم نقبل- و أما قولک لیس بالشام أحد إلا و هو أجد من معاویه- و لیس بالعراق رجل مثل جد علی- فهکذا ینبغی أن یکون مضى بعلی یقینه- و قصر بمعاویه شکه- و قصد أهل الحق خیر من جهد أهل الباطل- و أما قولک نحن أطوع لمعاویه منکم لعلی- فو الله ما نسأله إن سکت- و لا نرد علیه إن قال- و أما قتل العرب- فإن الله کتب القتل و القتال- فمن قتله الحق فإلى الله- . فغضب عتبه- و فحش على جعده فلم یجبه و أعرض عنه- فلما انصرف عنه جمع خیله فلم یستبق منها شیئا- و جل أصحابه السکون و الأزد و الصدف- و تهیأ جعده بما استطاع و التقوا- فصبر القوم جمیعا- و باشر جعده یومئذ القتال بنفسه- و جزع عتبه فأسلم خیله- و أسرع هاربا إلى معاویه- فقال له فضحک جعده و هزمتک- لا تغسل رأسک منها أبدا- فقال و الله لقد أعذرت- و لکن أبى الله أن یدیلنا منهم- فما أصنع و حظی جعده بعدها عند علی ع- و قال النجاشی فیما کان من فحش عتبه على جعده-

إن شتم الکریم یا عتب خطب
فاعلمنه من الخطوب عظیم‏

أمه أم هانئ و أبوه‏
من معد و من لؤی صمیم‏

ذاک منها هبیره بن أبی وهب
أقرت بفضا مخزوم‏

کان فی حربکم یعد بألف‏
حین یلقى بها القروم القروم‏

و ابنه جعده الخلیفه منه
هکذا تنبت الفروع الأروم‏

کل شی‏ء تریده فهو فیه
حسب ثاقب و دین قویم‏

و خطیب إذا تمعرت الأوجه‏
یشجى به الألد الخصیم‏

و حلیم إذا الحبی حلها الجهل
و خفت من الرجال الحلوم‏

و شکیم الحروب قد علم الناس‏
إذا حل فی الحروب الشکیم‏

و صحیح الأدیم من نغل العیب
إذا کان لا یصح الأدیم‏

حامل للعظیم فی طلب الحمد
إذا عظم الصغیر اللئیم‏

ما عسى أن تقول للذهب الأحمر
عیبا هیهات منک النجوم‏

کل هذا بحمد ربک فیه‏
و سوى ذاک کان و هو فطیم‏

و قال الأعور الشنی فی ذلک- یخاطب عتبه بن أبی سفیان-

ما زلت تظهر فی عطفیک أبهه
لا یرفع الطرف منک التیه و الصلف‏

لا تحسب القوم إلا فقع قرقره
أو شحمه بزها شاو لها نطف‏

حتى لقیت ابن مخزوم و أی فتى
أحیا مآثر آباء له سلفوا

إن کان رهط أبی وهب جحاجحه
فی الأولین فهذا منهم خلف‏

أشجاک جعده إذ نادى فوارسه
حاموا عن الدین و الدنیا فما وقفوا

هلا عطفت على قوم بمصرعه
فیها السکون و فیها الأزد و الصدف‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبی- قال کان رجل من أهل الشام-یقال له الأصبغ بن ضرار الأزدی- من مسالح معاویه و طلائعه- فندب له علی ع الأشتر- فأخذه أسیرا من غیر قتال- فجاء به لیلا فشده وثاقا- و ألقاه عند أصحابه ینتظر به الصباح- و کان الأصبغ شاعرا مفوها- فأیقن بالقتل و نام أصحابه- فرفع صوته فأسمع الأشتر- و قال

ألا لیت هذا اللیل أصبح سرمدا
على الناس لا یأتیهم بنهار

یکون کذا حتى القیامه إننی‏
أحاذر فی الإصباح یوم بواری‏

فیا لیل أطبق إن فی اللیل راحه
و فی الصبح قتلی أو فکاک إساری‏

و لو کنت تحت الأرض ستین وادیا
لما رد عنی ما أخاف حذاری‏

فیا نفس مهلا إن للموت غایه
فصبرا على ما ناب یا ابن ضرار

أ أخشى و لی فی القوم رحم قریبه
أبى الله أن أخشى و مالک جاری‏

و لو أنه کان الأسیر ببلده
أطاع بها شمرت ذیل إزاری‏

و لو کنت جار الأشعث الخیر فکنی‏
و قل من الأمر المخوف فراری‏

و جار سعید أو عدی بن حاتم
و جار شریح الخیر قر قراری‏

و جار المرادی الکریم و هانئ‏
و زحر بن قیس ما کرهت نهاری‏

و لو أننی کنت الأسیر لبعضهم
دعوت فتى منهم ففک إساری‏

أولئک قومی لا عدمت حیاتهم‏
و عفوهم عنی و ستر عواری‏

قال فغدا به الأشتر إلى علی ع- فقال یا أمیر المؤمنین إن هذا رجل من مسالح معاویه- أصبته أمس و بات عندنا اللیل- فحرکنا بشعره و له رحم- فإن کان فیه القتل فاقتله- و إن ساغ لک العفو عنه فهبه لنا- فقال هو لک یا مالک- و إذا أصبت منهم أسیرا فلا تقتله- فإن أسیر أهل القبله لا یقتل- . فرجع به الأشتر إلى منزله و خلى سبیله

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۸

بازدیدها: ۲۷۶