نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 237/1 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

خطبه 239 صبحی صالح

239- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) يذكر فيها آل محمد ( صلى‏ الله‏ عليه ‏وآله  )

هُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَ مَوْتُ الْجَهْلِ يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ‏ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ وَ صَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ

لَا يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ هُمْ دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ وَ وَلَائِجُ الِاعْتِصَامِ بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ وَ انْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ.

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج15  

و من خطبة له عليه السلام و هى الخطبة السابعة و الثلاثون و المأتان يذكر فيها آل محمد صلى الله عليه و آله‏

هم عيش العلم و موت الجهل. يخبركم حلمهم عن علمهم و صمتهم عن حكم (أو- حكم) منطقهم. لا يخالفون الحق و لا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام. و ولائج الاعتصام. بهم عاد الحق في نصابه، و انزاح الباطل عن مقامه، و انقطع لسانه عن منبته. عقلوا الدين عقل وعاء و رعاية، لا عقل سماع و رواية. فإن رواة العلم كثير، و رعاته قليل‏.

اللغة

(دعائم) جمع الدعامة بكسر الدال و هي عماد البيت يقال دعم الشي‏ء دعما من باب منع إذا اسنده عند ميله او لئلا يميل و (الاعتصام) التمسك. قال الله تعالى:و اعتصموا بحبل الله جميعا اى تمسكوا به. (ولائج) جمع وليجة و هى بطانة الرجل و خاصته و صاحب سره الذى يتخذه معتمدا عليه من غير أهله يكاشفه باسراره ثقة بمودته و يقال بالفارسية: دوست همراز، و منه قوله تعالى‏ و لم يتخذوا من دون الله و لا رسوله و لا المؤمنين وليجة (نصاب) الشي‏ء: أصله و حده و مرجعه و مستقره. (انزاح) من الزوح اى زال و ذهب. (وعاء) بكسر أوله و قد يضم ناقص يائي بمعنى الظرف يوعي فيه الشي‏ء سمي بذلك لأنه يجمع ما فيه من المتاع يقال: وعي الشي‏ء يعيه وعيا إذا حواه و جمعه و وعي الحديث إذا حفظه و تدبره. و قد يبدل واو وعاء بالهمزة فيقال إعاء.

ثم إن عبارة المتن في عدة من نسخ النهج من المطبوعات المصرية و الإيرانية و شروحها المتداولة هكذا: عقلوا الدين عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية.

و لكن الصواب ما ضبطناه في المتن اعنى كون كلمة «وعاء» مكان «وعاية» و وعاية تحريف و تصحيف من النساخ و لما رأوا كلمة رعاية بعدها غير و الوعاء بالوعاية ظنا منهم ان الكلام يزيد به حسنا و أن الأصل كان كما ظنوا و كم من نظير لما ذكرنا من خطاء النساخ و تحريفهم و هم يحسبون انهم يحسنون صنعا، جناس مضارع- طباق و ما علموا أن من المحسنات البديعية في كلامه عليه السلام مشابهة قوله «وعاء و رعاية» بقوله «سماع و رواية» فإن الجمع بين وعاء و سماع مما يسمى في علم البديع جناس مضارع لتقارب الهمزة و العين في المخرج نحو قوله تعالى‏ و هم ينهون عنه و ينأون عنه‏ و كقوله صلى الله عليه و آله الخيل معقود بنواصيها الخير. و الجمع بين رعاية و رواية يسمى طباقا. على أن اللغة لا تساعد ما في النسخ و كم فحصنا في كثير من كتب الأدب و المعاجم المتداولة فما وجدنا من وعي أن يأتي وعاية مصدرا أو غير مصدر.

الاعراب‏

الضميران في مقامه و منبته يرجعان إلى الباطل و يمكن أن يرجعا إلى الحق و سيعلم الوجه فيها عند الشرح إن شاء الله تعالى.

الفاء في قوله عليه السلام: فإن رواة العلم كثير فصيحة تنبي‏ء عن محذوف يدل عليه ما قبلها و كأن الجملة جواب عن سؤال مقدر و التقدير: إنما وصفهم بأنهم عقلوا الدين هكذا، فاجيب بقوله عليه السلام: لأن رواة العلم كثير و رعاته قليل.

و جاء في بعض النسخ: كلمة الواو مكان الفاء، أى و إن رواة العلم كثير و لكن الصواب ما اخترناه.

المعنى‏

قد ذكر عليه السلام قريبا من هذه الخطبة في ذيل الخطبة الخامسة و الأربعين و المأة و هو قوله عليه السلام: و اعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، و لن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، و لن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه فالتمسوا ذلك من عند أهله فانهم عيش العلم و موت الجهل هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم و صمتهم عن منطقهم و ظاهرهم‏ عن باطنهم لا يخالفون الدين و لا يختلفون فيه فهو بينهم شاهد صادق و صامت ناطق‏.

«عدة مواضع من النهج في أوصاف آل محمد صلى الله عليه و آله»

اعلم انه عليه السلام ذكر اوصاف آل محمد صلى الله عليه و آله في عدة مواضع من النهج:

(1) في آخر الخطبة الثانية: هم موضع سره و لجاء أمره و عيبة علمه و موئل حكمه و كهوف كتبه و جبال دينه بهم أقام انحناء ظهره و أذهب ارتعاد فرائصه‏.

(2) منها في ذيل تلك الخطبة أيضا: لا يقاس بال محمد صلى الله عليه و آله من هذه الأمة أحد و لا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا هم أساس الدين و عماد اليقين اليهم يفي‏ء الغالي و بهم يلحق التالي و لهم خصائص حق الولاية و فيهم الوصية و الوراثة الان إذ رجع الحق إلى أهله و نقل إلى منتقله‏.

(3) الخطبة الرابعة: بنا اهتديتم في الظلماء و تسنمتم العلياء و بنا انفجرتم عن السرار وقر سمع لم يفقه الواعية- إلى أن قال في آخرها: ما شككت في الحق مذ اريته لم يوجس موسى خيفة على نفسه اشفق من غلبة الجهال و دول الضلال اليوم تواقفنا على سبيل الحق و الباطل من وثق بماء لم يظمأ.

(4) في ذيل الخطبة الخامسة و التسعين: و إني لعلى بينة من ربي و منهاج من نبيي و إني لعلى الطريق الواضح القطه لقطا، انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم و اتبعوا اثرهم فلن يخرجوكم من هدى و لن يعيدوكم في ردى فان لبدوا فالبدوا و ان نهضوا فانهضوا و لا تسبقوهم فتضلوا و لا تتأخروا عنهم فتهلكوا. لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه و آله فما أرى أحدا منكم يشبههم لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا قد باتوا سجدا و قياما يراوحون بين جباهم و خدودهم و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم و مادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب و رجاء للثواب‏.

(5) في ذيل الخطبة الثامنة و التسعين: ألا إن مثل آل محمد صلى الله عليه و آله كمثل‏ نجوم السماء إذا خوى نجم طلع نجم فكأنكم من الله فيكم الصنائع و أراكم ما كنتم تأملون‏.

(6) في الخطبة الثانية و الأربعين و المأة: أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذبا و بغيا علينا أن رفعنا الله و وضعهم و أعطانا و حرمهم و أدخلنا و أخرجهم بنا يستعطي الهدى و يستجلي العمى إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم و لا تصلح الولاة من غيرهم‏.

(7) في ذيل الخطبة الخمسين و المأة: قد طلع طالع و لمع لامع و لاح لائح و اعتدل مائل و استبدل الله بقول قوما و بيوم يوما و انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر و إنما الأئمة قوام الله على خلقه و عرفاءه على عباده لا يدخل الجنة إلا من عرفهم و عرفوه و لا يدخل النار إلا من أنكرهم و أنكروه إن الله تعالى خصكم بالإسلام و استخلصكم له و ذلك لأنه اسم سلامة و جماع كرامة اصطفى الله تعالى منهجه و بين حججه من ظاهر علم و باطن حكم لا تفني غرائبه و لا تنقضي عجائبه فيه مرابيع النعم و مصابيح الظلم لا تفتح الخيرات إلا بمفاتحه و لا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه قد أحمى حماه و ارعى مرعاه فيه شفاء المشتفى و كفاية المكتفى‏.

(8) في ذيل الخطبة 152: نحن الشعار و الأصحاب و الخزنة و الأبواب و لا تؤتي البيوت إلا من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقا.

(9) في ذيل هذه الخطبة أيضا في فصل عليحدة: فيهم كرائم القرآن و هم كنوز الرحمان ان نطقوا صدقوا و إن صمتوا لم يسبقوا- إلى آخرها.

(10) في الخطبة 92: حتى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه و آله فأخرجه من أفضل المعادن منبتا و أعز الارومات مغرسا من الشجرة التي صدع منها انبياءه و انتجب منها امناءه، عترته خير العتر و اسرته خير الأسر و شجرته خير الشجر نبتت في حرم و بسقت في كرم لها فروع طوال و ثمرة لا تنال‏- إلى آخر الخطبة.

(11) في الخطبة 187: لا يقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة في‏ الأرض فمن عرفها و أقر بها فهو مهاجر، و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها اذنه و وعاها قلبه للايمان إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان و لا يعي حديثنا إلا صدور أمينة و أحلام رزينة أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها و تذهب بأحلام قومها.

(12) في ذيل الخطبة 188: فانه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حق ربه و حق رسوله و أهل بيته مات شهيدا و وقع أجره على الله‏. إلى آخرها.

(13) في الحكمة 147: اللهم بلى لا تخلوا الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله و بيناته و كم ذا و أين اولئك اولئك و الله الأقلون عددا و الأعظمون قدرا يحفظ الله بهم حججه و بيناته حتى يودعوها نظراءهم و يزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة و باشروا روح اليقين و استلانوا ما استوعره المترفون و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون و صحبوا الدنيا بابدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى اولئك خلفاء الله في أرضه و الدعاة إلى دينه آه آه شوقا إلى رؤيتهم.

(14) في ذيل الخطبة 145 و قد ذكرناه أولا.

(15) الخطبة 237 اعني هذه الخطبة التي نحن في صدد شرحها.

فنقول: ذكر عليه السلام في هذه الخطب آل محمد صلى الله عليه و آله بأوصاف ينبغي للقارئ العالم البصير الطالب للحق أن ينظر فيها نظر دقة و تأمل و فكرة حتى يزداده بصيرة و إيمانا و يهديه سبيل الحق و يهديه فرقانا. و المقام يناسب البحث و التحقيق في الامامة و اختيار القول الصدق و المذهب الحق.

«البحث العقلى و التحقيق العلمى في الامامة»

و اعلم ان هذه المسألة من أعظم المسائل الخلافية بين المسلمين بل لا يبعد أن يقال: إن جميع الاختلافات الدينية متفرع عليها و قال محمد الشهرستاني الأشعرى‏ المتوفى- 548 ه- في أوائل الملل و النحل: أول شبهة وقعت في الخليقة شبهة ابليس لعنه الله و مصدرها استبدادها بالرأى في مقابلة النص و اختياره الهوى في معارضة الأمر و استكباره بالمادة التي خلق منها و هي النار على مادة آدم عليه السلام و هي الطين- إلى أن قال: فأول تنازع في مرضه (يعني رسول الله صلى الله عليه و آله) عليه السلام فيما رواه محمد بن إسماعيل البخارى بإسناده عن عبد الله بن عباس قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه و آله مرضه الذى مات فيه قال: ائتوني بداوة و قرطاس اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدى فقال:

عمر إن رسول الله قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله و كثر اللغط فقال النبي عليه السلام:

قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع قال ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بيننا و بين كتاب رسول الله- إلى أن قال الشهرستاني: و أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان.

لا يخفى أن المسلمين بل ساير الأمم أيضا متفقون في افتقار الناس إلى إمام للعلم الضرورى، من أن حال الناس عند وجود الرؤساء المطاعين و انبساط أيديهم و نفوذ أوامرهم و نواهيهم و تمكنهم من الحل و العقد و القبض و البسط و الاحسان و الإسائة و غيرها مما ينتظم به امور معاشهم و مصالح معادهم لا يجوزان يكون كحالهم إذا لم يكونوا في الصلاح و الفساد و هذا مما جبل عليه الناس و استقر في عقولهم و قلوبهم و لا يصل اليه يد انكار و لا يكابر فيه أحد و لذا ترى ان العقلاء من كل قوم يلتجئون إلى نصب الرؤساء دفعا للمفاسد الناشئة على فرض عدمهم و إنما الكلام في الرؤساء و صفاتهم مما يدل عليه العقل الناصع سواء كان في ذلك سمع أو لم يكن فالمسألة يحتاج إلى تجريد للعقل و تصفية للفكر و تدقيق للنظر و مجانبة المراء و تقليد الاباء فان التقليد الداء العياء و الحذر عن التعصب و الخيلاء و الانقطاع عن الوساوس و الهواجس العامية، و حق التأمل في المسألة حتى يتضح الحق حق الوضوح. و نعم ما قال الشاعر:

و تعلم قد خسرنا أو ربحنا إذا فكرت في أصل الحساب‏

فنقول: ان العقل حاكم بحسن البعثة لاشتمالها على فوايد كثيرة و سنذكر طائفة منها من ذي قبل انشاء الله، و بوجوبها علي الله تعالى لاشتمالها على اللطف و اللطف واجب. و بأن النبي يجب أن يكون منصوصا عليه من الله تعالى و مبعوثا من عنده بالبينات و معصوما من العصيان و السهو و النسيان و منزها عن كل ما ينفر الطبع عنه، و أفضل من سائر الناس في جميع الصفات الكمالية من النفسانية و البدنية حتى تحن القلوب اليه و يتم الحجة على الناس.

ثم نعلم أن النبوة ختمت بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه و آله و شريعته نسخت سائر الشرائع و دينه هو الحق و حلاله حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة و القرآن هو المعجزة الباقية إلى قيام الساعة لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد بمعانيه و حقائقه و الفاظه‏ قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا و إذا جرنا العقل إلى هنا فنقول اولا لابد للدين من حافظ في كل عصر و ثانيا على ما علم قبل أن المستقر في العقول إذا كان للناس امام مرشد مطاع في كل عصر يخافون سطوته ينتصف للمظلوم من الظالم و يردع الظالم عن ظلمه و يحفظ الدين و يمنع الناس عن التهاوش و التحارب و ما تتسارع إليه الطباع من المراء و النزاع و يحرضهم على التناصف و التعادل و القواعد العقلية و الوظائف الدينية و يدرء المفاسد الموجبة لاختلال النظام في امورهم عنهم و يحفظ المصالح و يلم شعث الاجتماع و يدعوهم إلى وحدة الكلمة و يقوم بحماية الحوزة و رعاية البيضة و انتظام امور المعاش و المعاد و يكون لهم في كل واقعة دينية و دنيوية حصن حصين و حافظ أمين و يتوعدهم على المعاصي و يحملهم على الطاعات و يعدهم عليها و يصدع بالحق إذا تشاجر الناس في حكم من أحكام الله لكانوا إلى الصلاح اقرب و من الفساد ابعد حتى قيل: إن ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن و ما يلتئم بالسنان لا ينتظم بالبرهان و بالجملة في وجوده استجلاب منافع لا تحصى و استدفاع مضار لا تخفى.

و بعد ذلك فنقول: ان العقل يدل على أن الله تعالى مريد للطاعة و كاره للمعصية و أن الله ليس بظلام للعبيد و علمنا مع وجود ذلك الرئيس الامام المطاع‏ انه كان الناس إلى فعل الطاعة أقرب و من فعل المعصية أبعد و لنسم ما يقرب العبد إلى الطاعة و يبعده عن المعصية من غير الجاء باللطف و هل هو واجب عقلا على الله أم لا؟ إن قلنا لا يجب عليه تعالى مع ان ايقاع الطاعة و ارتفاع المعصية يتوقفان على اللطف كما علمت و مع انه تعالى يريد الأولى و يكره الثانية و يعلم أن المكلف لا يطيعه إلا باللطف فكان ناقضا لغرضه و نقض الغرض قبيح عقلا و العقلاء يذمون من اراد من غيره فعلا و هو يعلم أن ذلك الغير لا يفعل مطلوبه إلا مع اعلامه أو ارسال إليه و امثال ذلك، مما يتوقف حصول المطلوب عليه و لا يعمل ما يعلم بتوقف المطلوب عليه، فلا محيص إلا القول بوجوبه عليه تعالى عقلا و لذلك ان العقل يحكم بأن البعثة لطف فواجبة على الله تعالى على ان كل ما يعلمه الله تعالى من خير و صلاح في نظام العالم و انتظام امور بني آدم يجب منه تعالى صدوره لان علمه بوجوه الخير و النظام سبب للايجاب و الايجاد فيجب نصب الامام من الله سبحانه في كل زمان.

فلو قلنا ان النبوة رئاسة عامة الهية في امور الدين و الدنيا و كذلك لمن يقوم مقامه نيابة عنه بعده رئاسة عامة الهية فيهما لما قلنا شططا فكل ما دل على وجوب النبوة و نصب النبي و تعيينه على الله فهو دال كذلك على القائم مقامه بعده إلا في تلقي الوحى الإلهي و لنسم القائم مقام النبي بالإمام و ان كان النبي اماما أيضا بذلك المعنى الذي اشير إليه و سيأتي البحث في تحقيق معنى الامامة و النبوة في تفسير قوله تعالى‏ و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما الاية. إنشاء الله تعالى.

و إن شئنا ثنينا عنان البيان على التفصيل و التبيين فإن من تيسر له الاستبصار في هذا الأمر الخطير فقد فاز فوزا عظيما و الا فقد خسر خسرانا مبينا فنقول: إن العقل لما دل على أن وجود الامام لطف للناس في ارتفاع القبيح و فعل الواجب و حفظ الدين و حمل الرعية على ما فيه مصالحهم و ردعهم عما فيه مفاسدهم فهل يجوزه العقل أن يكون عالما ببعض الأحكام دون بعض، و ان يكون في الناس من هو أعلم و أفضل‏ منه في الصفات الكمالية و هل يأمر الله بالطاعة المطلقة لمن يجوز عليه الخطاء و يصدر عنه الذنوب، و يسهو و ينسى، و يرتكب ما ينفر الطبع عنه، و من يكون نقص في خلقته و عيوب في بدنه ينزجر و ينفر النفس عن مصاحبته و مجالسته و مكالمته و من يكون غير منصوص عليه منه تعالى أو من نبيه؟ فهذه امور في المقام يليق ان يبحث عنها من حيث اقتضاء العقل و حكمه فان العقل هو المتبع في أمثال تلك الأمور.

فنقول: بعد ما استقرت الشريعة و ثبتت العبادة بالأحكام و أن الامام إمام في جميع الأمور و هو الحاكم الحاسم لمواد النزاع و متولي الحكم في سائر الدين و القائم مقام النبي و فرعه و خليفته و حجة في الشرع فلا بد من أن يكون موصوفا بصفات النبي و شبيها له في الصفات الكمالية و عالما بجميع الأحكام حتى يصح كونه خليفة له و يحسم به النزاع في حكم من الأحكام و في سائر الأمور و إلا فيقبح عند العقلاء خلافة من ليس بصفات المستخلف لأن غرضه لا يتم به و ذلك كما أن ملكا من الملوك إن استوزر من ليس بعارف بأمر السياسة التي بها تنتظم امور مملكته و جيوشه و رعاياه و غيرها ذمه العقلاء بل عدوه من السفهاء بل كما أن أحدنا لو يفوض صنعة إلى رجل لا يعرفها استحق اللوم و الازارء من العقلاء فكذا في المقام مع ان المقام اهم بمراتب منهما كما لا يخفى على البصير العاقل و هذا مما مجرد العقل كاف في ايجابه.

و أيضا ان أحد ما احتيج فيه إلى الامام كونه مبينا للشرع و كاشفا عن ملتبس الدين و غامضه فلابد من أن يكون في ضروب العلم كاملا غير مفتقر إلى غيره فولاة أمر الله خزنة علمه و عيبة وحيه و إلا يتطرق التغيير و التبديل في دين الله و لذا صرح الشيخ الرئيس في آخر الشفاء في الفصل في الخليفة و الامام أن الامام مستقل بالسياسة و أنه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة و العفة و حسن التدبير و أنه عارف بالشريعة حتى لا أعرف منه.

ثم إن الامامة رئاسة عامة فلو لم يكن الامام متصفا بجميع الكمالات و الفضائل و أكمل و أفضل من كل واحد من أهل زمانه و كان في الرعية من هو أفضل‏ منه للزم تقديم المفضول على الأفضل و هل يرتضى العقل بذلك؟ أ رأيت أن العقلاء لا يذمون من رجح المفضول على الفاضل؟ و هل تقدم أنت مبتدأ في فن على من مارسه و تبحر فيه؟ و هل يجوز عقلك و يرضي بان الله الحكيم يقدم المفضول المحتاج إلى التكميل على الفاضل المكمل؟ جرد نفسك عن العصبية و المراء و تقليد الأمهات و الاباء فانظر بنور البصيرة و الحجى في كلامه تعالى‏ أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون‏ و لما كان المطلوب من إرسال الرسل و انزال الكتب و نصب الحجج تعليم الناس الحكمة و تزكيتهم من الأرجاس و اقبالهم إلى عالم القدس فأى مصلحة يقتضيها التكليف في تقديم المفضول على الأفضل أليس هذا العمل نفسه بقبيح و هل القبيح إلا ما فيه مفسدة؟ أرأيت هل قدم رسول الله صلى الله عليه و آله و غيره من الأنبياء و الكملين و اولى النهى و الملوك و الأمراء مفضولا على فاضل في واقعة قط و لو فعل واحد ذلك أما يلومه العقلاء؟ هل تجد خبرا و رواية أن رسول الله صلى الله عليه و آله قدم على أمير المؤمنين علي عليه السلام غيره، و هل قدم على سلمان سلام الله عليه عثمان بن مظعون مثلا و نعلم أن رسول الله صلى الله عليه و آله لما نعيت إليه نفسه أمر اسامة على أبي بكر و عمر و حث على خروج الكل من المدينة و لعن المتخلف عن جيش اسامة فكان اسامة في أمر الحرب و سياسة الجند و تدبير العسكر أفضل منهما و إلا لما قدمه عليهما و لو كان بالفرض علي عليه السلام معهم هل يقدم رسول الله صلى الله عليه و آله اسامة على علي عليه السلام؟ ما أرى مسلما بصيرا في علي عليه السلام و اسامة أن يرضى بذلك بل يعده قبيحا جدا فانه لا يشك ذو بصيرة و دراية في أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام كان بين الصحابة كالمعقول بين المحسوس و نسبته اليهم كنسبة النور إلى الظلمات و نسبة الحياة إلى الممات فتشهد الفطرة السليمة على قبح تقديم المفضول على الفاضل.

ثم لو كان الإمام عاصيا عن أمر الله تعالى و مذنبا سواء كانت الذنوب صغيرة أو كبيرة فنقول أولا انه لما كانت العلة المحوجة إلى الإمام هي رد الظالم عن ظلمه و الانتصاف للمظلوم منه و حمل الرعية على ما فيه مصالحهم و ردعهم عما فيه مفاسدهم و نظم الشمل و جمع الكلمة فلو كان مخطئا مذنبا لاحتاج إلى آخر يردعه عن ظلمه‏ فان الذنب ظلم و ننقل الكلام إلى ذلك الاخر فان كان معصوما من الذنوب و إلا لزم عدم تناهي الأئمة.

و أيضا إن الله تعالى لعن الظالم و نهى عن الظلم و حذر عن الركون إلى الظلمة بقوله‏ و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و كذا أمر بالطاعة المطلقة للامام فلو كان الامام مذنبا لكان ظالما فيلزم التناقض في قوله تعالى عن ذلك.

و أيضا إن الامام لما كان قدوة في الدين و الدنيا مفترض الطاعة من الله و لو ارتكب المعصية تتضاد التكليف على الأمة فان اتبعته الأمة في المعصية فعصوا الله و إن خالفوه فيها فعاصية أيضا.

و أيضا لو صدرت المعصية عنه هل يجب الانكار عليه أم لا؟ فعلى الأول يلزم أن يكون مأمورا و منهيا عنه مع انه إمام آمروناه فيلزم إذا سقوط محله من القلوب فلا تنقاده النفوس في أمره و نهيه فتنفي الفائدة المطلوبة من نصبه، و على الثاني يلزم القول بعدم وجوب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر مع انهما واجبان عقلا و سمعا و أجمع الكل بوجوبهما و معلوم بالضرورة أن فعل القبيح و ترك الواجب لا يصدر إلا ممن لا يكون معصوما فان العصمة هي القوة القدسية النورية العلمية اللائحة من صبح أزل العناية الموجبة للاعتدال الخلقي و الخلقي و المزاجي المتعلقة بمثالب العصيان في الدارين الحاصلة بشدة الاتصال و كمال الارتباط بمبدء العالم و عالم الأرواح فمن بلغ إلى تلك الغاية و رزق تلك القوة لا يحوم حول العصيان و لا يتطرق إلى حريم وجوده السهو و النسيان فان تلك القوة رادعة إياه عن العصيان و ذلك العلم الحضورى و الانكشاف التام يمنعه عن السهو و النسيان فلو لم يكن الامام ذا عصمة ليصدر منه القبيح قولا و فعلا فاذن لابد أن يكون معصوما.

و نعم ما استدل المتكلم النحرير هشام بن الحكم على عصمة الامام فلنذكره لعظم فائدته في المقام.

كلام هشام بن الحكم في عصمة الامام‏

روى الشيخ الجليل محمد بن علي بن بابويه المشتهر بالصدوق في باب الأربعة من كتابه المسمى بالخصال عن محمد بن أبي عمير قال: ما سمعت و لا استفدت من هشام ابن الحكم في صحبتي له شيئا أحسن من هذا الكلام في عصمة الامام فاني سألته يوما عن الامام أهو معصوم؟ فقال: نعم، فقلت: فما صفة العصمة فيه و بأي شي‏ء يعرف؟ فقال: إن جميع الذنوب أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص و الحسد و الغضب و الشهوة فهذه منفية عنه. لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدنيا و هي تحت خاتمه لأنه خازن المسلمين فعلى ما ذا يحرص؟

و لا يجوز أن يكون حسودا لأن الإنسان إنما يحسد من فوقه و ليس فوقه أحد فكيف يحسد من هو دونه؟

و لا يجوز أن يغضب لشي‏ء من امور الدنيا إلا أن يكون غضبه لله عز و جل فان الله عز و جل قد فرض عليه إقامة الحدود و أن لا تأخذه في الله لومة لائم و لا رأفة في دينه حتى يقيم حدود الله عز و جل.

و لا يجوز أن يحب امور الدنيا لأن الله حبب اليه الاخرة كما حبب الينا الدنيا و هو ينظر إلى الاخرة كما ننظر إلى الدنيا فهل رأيت أحدا ترك وجها حسنا لوجه قبيح و طعاما طيبا لطعام مر و ثوبا لينا لثوب حسن و نعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟ انتهى كلامه رفع مقامه و لله دره.

أقول: و لا يخفى أن هذا الدليل جار في عصمة النبي صلى الله عليه و آله أيضا بل بطريق أولى.

ثم إن الشيخ الرئيس كانما أخذ من هذا ما قال في النمط التاسع من الاشارات في مقامات العارفين حيث قال في آخره: العارف هش بش بسام يبجل الصغير من تواضعه كما يبجل الكبير و ينبسط من الخامل مثل ما ينبسط من النبيه و كيف لا يهش و هو فرحان بالحق و بكل شي‏ء فانه يرى فيه الحق و كيف لا يستوى و الجميع عنده سواسية أهل الرحمة قد شغلوا بالباطل- إلى أن قال: العارف شجاع و كيف لا و هو بمعزل عن تقية الموت، و جواد و كيف لا و هو بمعزل عن محبة الباطل، و صفاح و كيف لا و نفسه أكبر من أن تخرجها زلة بشر، و نساء للأحقاد و كيف لا و ذكره مشغول بالحق- إلى آخر ما قال.

ثم إذا ثبت أن الامام حجة في الشرع و بقاء الدين و الشريعة موقوف على وجوده وجب عقلا أن ينفى عنه ما يقدح في ذلك و ينفر عنه منها السهو و النسيان و إلا فاذا حكم في واقعة و بين حكم الله لا تطمئن به القلوب لامكان السهو و النسيان فيه فاذا كان حافظا للشرع و لم يكن معصوما منهما لما آمن في الشرع من الزيادة و النقصان و التغيير و التبديل. و لم يحصل الوثوق بقوله و فعله و ذلك ينافي الغرض من التكليف، و كذلك إذا لم يكن منزها من سائر ما تنفر الطباع عنها لا تميل النفوس اليها و لا تشتاق إلى حضرته لنيل السعادات و درك الحقائق فلا يتم حجة الله على خلقه بل الفطرة السليمة و الروية المستقيمة و النفوس الكريمة تأبى عن طاعة من ارتكب ما تنفر عنه من أنواع المعاصي و الفواحش الكبائر و الصغائر و لو في سالف عمره و تاب بعد ذلك.

و أيضا لا خلاف بين المسلمين ان الامام هو المقتدا به في جميع الشريعة و إنما الخلاف في كيفيته فاذا كان هو المقتدا به في جميع الشريعة و واجب علينا الاقتداء به فلو لم يكن مأمونا منه فعل القبيح لم نأمن في جميع افعاله و لا أقل في بعضها مما يأمرنا به و يدعونا اليه في الحدود و الديات و القصاص و ساير أحكام العبادات و المعاملات أن يكون قبيحا و من هو مأمون منه فعل القبيح هو المعصوم لا غير فيجب أن يكون الامام معصوما.

ثم إذا علم معني العصمة فلابد من أن يكون الامام منصوبا من عند الله أو من رسول الله صلى الله عليه و آله أو من إمام قبله لأن العصمة أمر خفى باطنى تمييزه خارج عن طوق البشر و لا اطلاع لأحدهم عليها و لا يعلمها إلا الله تعالى على أنه لا خلاف و لا نزاع بين الأمة في أن الامامة دافعة للضرر و أنها واجبة و إنما النزاع في تفويض ذلك إلى الخلق لما في ذلك من الاختلاف الواقع في تعيين الأئمة فيؤدى إلى الضرر المطلوب زواله و لذا قال الشيخ الرئيس في آخر الهيات الشفاء في الفصل الخامس من المقالة العاشرة في الخليفة و الامام: و الاستخلاف بالنص أصوب فان ذلك لا يؤدى إلى التشعب و التشاغب و الاختلاف‏.

مسلك عقلى آخر في أمر الامامة أيضا و لما كانت هذه المسألة من أهم المسائل و اكتفى بعض الناس فيها بالاقناعيات و الخطابيات بل بالوهميات التي لا اعتداد بها في نصب الامام و أطفئوا نور العقل و عطلوه عن الحكم و القضاء و مالوا عن الجادة الوسطى و جانبوا الأدلة القطعية العلمية و الأصول اليقينية البرهانية الهمت أن أسلك طريقة اخرى عقلية في تقريرها و تحريرها عسى أن يذكر من تيسر لليسرى فنقول و بالله التوفيق و بيده أزمة التحقيق: العقول حاكمة بأن أحوال العالم كلها إنما قامت على العدالة و بأن الأنبياء بعثوا ليقوم الناس بالقسط و بالعدل قامت السماوات و الأرض و به ينتظم جميع امور الناس و به يصير المدينة مدينة فاضلة و بالعدالة المطلقة يعطى كل ذي حق حقه و به تحصل الكمالات العلمية و العملية المستلزمة لنيل السعادة الأبدية و القرب إلى عالم القدس و الايصال إلى المعبود الحق و هو سبب الفوز و النجاة في الدنيا و الاخرة و لو لا العدل لاختل نظام العالم و نظم اجتماع بني آدم و تعطل الحدود و الحقوق و استولى الهرج و المرج و فسد أمر المعاش و المعاد و لزم غيرها من المفاسد التي لا تعد و لا تحصى، فالناس يحتاجون في كل زمان إلى امام خير مطاع حافظ للدين عن التغيير و التبديل و الزيادة و النقصان و يكون هادى الأمة إلى ما فيه الفلاح و النجاح و رادعهم عن العدول عن الصراط المستقيم و الانحراف عن النهج القويم و عن الميل إلى الأهواء المردية و الاراء المغوية و سائقهم إلى طريق الاستقامة التي لا ميل فيها إلى جانبي الافراط و التفريط فان اليمين و الشمال مضلة و الوسطى هي الجادة، و معطي كل ذي حق حقه و مقيم الحدود و مؤدى الحقوق و العدل في كل شي‏ء هو وضع ذلك الشي‏ء في موضعه أي إعطاء كل ذي حق حقه بحسب استعداده و استحقاقه و إعطاء كل ذي حق حقه يحتاج إلى العلم بحقائقهم و قدر استحقاقهم و استعدادهم و الاطلاع على الكليات و الجزئيات و إحاطتها على ما هي عليه و هى غير متناهية فهي غير معلومة إلا لله تعالى و لخلفائه الذين اصطفاهم، فالإمام‏ الذي بيده أزمة العدل و الحكم و الكتاب يجب أن يكون خليفته في الأرض و خليفته منصوب من عنده و معصوم من العيوب مطلقا.

و كذا مستكن في القلوب و متقرر في الحكمة المتعالية أن النفس بالطبع منجذبة إلى محبة مشاهدة النور الأكمل و العلم الأتم و كلما كان الكمال أعلى و النور اسنى و العلم اتم و النفس أطهر كانت النفوس إليه أطوع و ميلها إليه أشد و أكثر، و لما كانت العصمة هي العدالة المطلقة الرادعة عن الانحراف و الظلم و كان الغرض الأقصى من الخلافة هو تكميل النفوس بانقيادها للامام فيجب أن يكون الامام معصوما حتى يتحقق الغرض المطلوب منه و غير المعصوم ناقص بالضرورة عن كمال الاعتدال في القوى الثلاث أي الحكمة و الشجاعة و العفة المستلزمة للعدالة المطلقة فاذا كان ناقصا عنه يضل عن صراط الله المستقيم و لو في حكم جزئي و الناقص المشتمل على الانحراف عن الصراط المستقيم لا يليق أن يكون واسطة الخلق إلى الحق و قائما بهدايتهم و بالجملة إن الامامة منصب إلهى يتوقف على كمال عقله النظرى و العملي و السلامة عن العيوب و العصمة عن الذنوب ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة و إلى ما حققناه و حررناه اشار طائفة من المتألهين من الحكماء في أسفارهم بأن الأرض لا يخلو من حجة إلهية قط.

قال الشيخ الرئيس في آخر الفصل الخامس من المقالة العاشرة من إلهيات الشفاء في الخليفة و الامام و وجوب طاعتهما بعد البحث عن الفضائل: و رءوس هذه الفضائل عفة و حكمة و شجاعة و مجموعها العدالة و هي خارجة عن الفضيلة النظرية و من اجتمعت له معها الحكمة النظرية فقد سعد و من فاز مع ذلك بالخواص النبوية كاد أن يصير ربا إنسانيا و كاد أن يحل عبادته بعد الله تعالى و هو سلطان العالم الأرضي و خليفة الله فيه.

بيان: إنما عبر الامام بقوله ربا إنسانيا لأن حجة الله على خلقه لما كان بشرا واسطة بين الله و عباده لابد من أن يكون مؤيدا من عند الحكيم العليم بالحكمة العملية و النظرية غير مشارك للناس على مشاركته لهم في الخلق بكرامات إلهية و امور قدسية و صفات ملكوتية فعبر الشيخ عن الجهتين أعني الجهة البشرية و الجهة الألوهية بقوله: ربا إنسانيا.

قال الشيخ شهاب الدين السهروردى: لا يخلو العالم من الخليفة الذي سماه أرباب المكاشفة و أرباب المشاهدة القطب، فله الرياسة و إن كان في غاية الخمول و إن كانت السياسة بيده كان الزمان نورانيا و إذا خلي الزمان عن تدبير مدبر إلهى كانت الظلمات غالبة.

و قال في شرح النصوص: لا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ان الخليفة ظاهر بصورة مستخلفه في خزائنه و الله يحفظ صورة خلقه في العالم فانه طلسم الحفظ من حيث مظهريته لأسمائه واسطة تدبيره بظهور تأثيرات أسمائه فيها.

و سيأتي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد: اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله و بيناته و كم ذا و أين اولئك. اولئك و الله الأقلون عددا و الأعظمون قدرا يحفظ الله بهم حججه و بيناته حتى يودعوها نظرائهم و يزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة و باشروا روح اليقين و استلانوا ما استوعره المترفون و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون و صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى اولئك خلفاء الله في أرضه و الدعاة إلى دينه.

«عدم تأثير السحر و الشعبذة و أمثالهما في الحجج الإلهية»

تنبيه: قد علم مما قدمنا في الحجج الالهية أن العقل لا يجوز تأثير السحر فيهم و غاية ما يستفاد من الأخبار المذكورة في جوامع الفريقين أن بعض الناس كلبيد ابن أعصم اليهود مثلا إنما سحر رسول الله صلى الله عليه و آله و أما أن سحره أثر فيه أثرا فممنوع فان الأصل المتبع في تلك الأمور هو العقل فما وافقه و إلا يعرض عنه. و ما ورد من تأثير السحر فيهم كما في نقل: أن رسول الله صلى الله عليه و آله مرض من سحر لبيد بن أعصم، و في آخر: كان النبي صلى الله عليه و آله يرى أنه يجامع و ليس يجامع و كان يريد الباب و لا يبصره حتي يلمسه بيده، من زيادات النقلة و الروات فان دأب الناس في أمثال‏ هذه الواقعة على زيادة ما يستغرب و يتعجب منه.

قال الطبرسي في المجمع: و هذا (يعني تأثير السحر فيه صلى الله عليه و آله) لا يجوز لأن من وصف بأنه مسحور فكأنه قد خبل عقله و قد أبى الله سبحانه ذلك في قوله‏ و قال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا و لكن يمكن أن يكون اليهودى أو بناته على ما روى اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه و اطلع الله نبيه صلى الله عليه و آله على ما فعلوه من التموية حتى استخرج (يعنى استخراج سحر لبيد من بئر ذروان) و كان ذلك دلالة على صدقه و كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم و لو قدروا على ذلك لقتلوه و قتلوا كثيرا من المؤمنين مع شدة عداوتهم لهم.

و من تدبر و تأمل فيما حررنا من وجود الامام و أوصافه عقلا درى انه يجب أن يكون عالما بالسياسة و بجميع أحكام الشريعة و كل ما يحتاج اليه الناس في تكميل نفوسهم و نظام امورهم، و أفضل من كل واحد من رعية عصره و أن وجوده لطف فيجب أن يكون منصوبا عليه و منصوبا من عند الله تعالى و معصوما عن الذنوب و منزها عن العيوب و عن كل ما يتنفر عنه الطبع السليم. فمن أخذت الفطانة بيده سعد و إلا فمن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

«التمسك بايتين و خمسة أخبار في الامام و صفاته»

و اعلم انما حداني على الاتيان بتلك الأخبار و البحث عنها ما رأيت فيها من احتجاجات أنيقة مشتملة على براهين كلية عقلية في اثبات المطلوب، لا من حيث انها أخبار أردنا ايرادها في المقام و التمسك بها تعبدا، كما أن الايتين وافيتان للرشاد و السداد لو تدبرنا فيهما بالعقل و الاجتهاد و المرجو أن ينظر فيها القارى الكريم الطالب للرشاد حق النظر و يتدبر فيها حق التدبر لعله يوفق بالوصول إلى الدين الحق فان الدين الحق واحد قال عز من قائل: فما ذا بعد الحق إلا الضلال‏- و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله‏. ثم ليعلم أن الايات و الأخبار في الدلالة على ذلك أكثر منها و لكنا اكتفينا بها روما للاختصار.

أما الايتان فاوليهما قوله عز و جل (البقرة الاية 119): و إذ ابتلى إبراهيم‏ ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين‏.

أقول: الامام هو المقتدى به كما يقال إمام الصلاة لأنه يقتدى به و يأتم به و كذلك يقال للخشبة التي يعمل عليها الاسكاف امام من حيث يحذو عليها و للشاقول الذي في يد البناء إمام من حيث إنه يبنى عليه و يقدر به و لا كلام في ان الامام الذي نصبه الله تعالى لعباده مقتدى به في جميع الشريعة و به يهتدون و الامام هادى الناس بأمر الله تعالى و كفى في ذلك شاهدا قوله تعالى في كتابه الكريم: و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا (الأنبياء- 73) و قوله تعالى: و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون‏ (السجدة- 24) حيث قرن الإمامة بالهداية التي هي بأمر الله تعالى أى الامام يهدى الناس إلى سواء السبيل بأمره تعالى و سنوضح ذلك مزيد ايضاح.

ثم انه ذكر غير واحد من المفسرين كالنيسابورى و صاحب المنار و غيرهما أن المراد بالامامة الرسالة و النبوة و قال الأول: الأكثرون على أن الامام ههنا النبي لأنه جعله إماما لكل الناس فلو لم يكن مستقلا بشرع كان تابعا لرسول و يبطل العموم، و لأن اطلاق الامام يدل على أنه إمام في كل شي‏ء و الذي يكون كذلك لا بد أن يكون نبيا، و لأن الله تعالى سماه بهذا الاسم في معرض الامتنان فينبغي أن يحمل على أجل مراتب الامامة كقوله تعالى‏ و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لا على من هو أدون ممن يستحق الاقتداء به في الدين كالخليفة و القاضي و الفقيه و امام الصلاة و لقد أنجز الله تعالى هذا الوعد فعظمه في عيون أهل الأديان كلها و قد اقتدى به من بعده من الأنبياء في اصول مللهم ثم أوحينا اليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا و كفى به فضلا أن جميع امة محمد صلى الله عليه و آله يقولون في صلاتهم: اللهم صل على محمد و آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم. (انتهى)

أقول: الصواب أن إبراهيم عليه السلام فاز بالامامة بعد ما كان نبيا و الامامة في الاية غير النبوة و ذلك لوجهين: الأول أن جاعل عمل في قوله تعالى إماما اعني‏ إن اماما مفعول ثان لقوله جاعلك و اسم الفاعل انما يعمل عمل الفعل و ينصب مفعوله و لا يضاف اليه إذا كان بمعني الحال أو الاستقبال و أما إذا كان بمعني الماضي فلا يعمل عمل الفعل كذلك و لا يقال زيد ضارب عمرا أمس نعم إذا كان صلة لأل فيعمل مطلقا كما حقق في محله.

حكى انه اجتمع الكسائي و أبو يوسف القاضي عند الرشيد فقال الكسائي:أبا يوسف لو قتل غلامك فقال رجل أنا قاتل غلامك بالإضافة، و قال آخر أنا قاتل غلامك بالتنوين فأيهما كنت تأخذ به؟ فقال القاضي كنت أخذتهما جميعا. فقال الكسائي أخطأت إنما يؤخذ بالقتل الذي جر دون النصب. و الوجه فيه أن اسم الفاعل المضاف بمعنى الماضي فيكون إقرارا و غير المضاف يحتمل الحال و الاستقبال أيضا فلا يكون إقرارا. و ما نحن فيه من قبيل الثاني كما لا يخفى.

و بالجملة إذا كان اسم الفاعل يعمل عمل فعله إذا لم يكن بمعني الماضي فالاية تدل على انه تعالى جعل ابراهيم إماما إما في الحال أو الاستقبال و على أى حال كانت النبوة حاصلة له قبل الامامة فلا يكون المراد بالامامة في الاية النبوة.

و في الكافي عن الصادق عليه السلام و في الوافي ص 17 م 2) قال إن الله تبارك و تعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا و أن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا و أن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا و أن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه (أن يجعله- خ ل) إماما فلما جمع له الأشياء قال إني جاعلك للناس إماما فمن عظمها في عين إبراهيم قال و من ذريتي قال لا ينال عهدى الظالمين قال لا يكون السفيه إمام التقى. انتهى فرتب هذه الخصال بعضها على بعض لاشتمال كل لاحق منها على سابقه مع زيادة حتى انتهى إلى الإمامة المشتملة على جميعها فهى أشرف المقامات و أفضلها.

و فيه أيضا قال أبو عبد الله عليه السلام: الأنبياء و المرسلون على أربع طبقات: فنبي منبأ في نفسه لا يعد و غيرها، و نبي يرى في النوم و يسمع الصوت و لا يعاينه في اليقظة و لم يبعث إلى أحد و عليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط عليهما السلام، و نبي يرى‏ في منامه و يسمع الصوت و يعاين الملك و قد ارسل إلى طائفة قلوا أو كثروا كيونس قال الله تعالى ليونس: و أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏ و قال: يزيدون ثلاثين ألفا و عليه إمام، و الذى يرى في منامه و يسمع الصوت و يعاين في اليقظة و هو إمام مثل اولى العزم و قد كان إبراهيم عليه السلام نبيا و ليس بامام حتى قال الله إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي فقال الله لا ينال عهدى الظالمين من عبد صنما او وثنا لا يكون إماما.

الوجه الثاني ان الاية تدل على أن الله تعالى لما ابتلاه و اختبره بانواع البلاء جعله إماما و من ابين البلاء له ذبح ولده إسماعيل كما قال تعالى‏ فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى‏- إلى أن قال- إن هذا لهو البلاء المبين‏ (الصافات 107) و وهبه الله إسماعيل في كبره كما قال في السورة المسماة باسمه‏ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق إن ربي لسميع الدعاء (إبراهيم: 43) فكان عليه السلام نبيا قبل أن كان إماما.

و كذلك نقول: إن مما ابتلاه الله تعالى به قضية ابتلائه بالأصنام و قال الله تعالى:و اذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا- إلى أن قال: فلما اعتزلهم و ما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق و يعقوب و كلا جعلنا نبيا (مريم: 51) فنص الله تعالى بانه كان حين يخاطب أباه صديقا نبيا و قال في الاية الأولى‏ و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما فلم يكن حين ابتلائه بالأصنام إماما بل كان نبيا و رزق الإمامة بعد ذلك.

فاذا ساقنا الدليل إلى أن الإمامة في الاية غير النبوة فنقول كما في المجمع:ان المستفاد من لفظ الامام أمران: أحدهما انه المقتدى به في أفعاله و أقواله، و الثاني انه الذي يقوم بتدبير الأمة و سياستها و القيام بامورها و تأديب جناتها و تولية ولاتها و إقامة الحدود على مستحقيها و محاربة من يكيدها و يعاديها، فعلى الوجه الأول‏ لا يكون نبي من الأنبياء إلا و هو إمام، و على الوجه الثاني لا يجب في كل نبي أن يكون إماما إذ يجوز أن لا يكون مأمورا بتأديب الجناة و محاربة العداة و الدفاع عن حوزة الدين و مجاهدة الكافرين.

ثم إن معنى الإمامة في الاية ليس مجرد مفهوم اللفظ منها بل هي الموهبة الالهية يهب لمن يشاء من عباده الصابرين الموقنين كما قال عز من قائل‏ و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون‏ (السجدة: 24) و إنما اطلق الصبر و لم يذكر متعلقه بأنهم صبروا فيما ذا؟ ليعم صبرهم في أنواع البلاء. فالامامة هي الولاية من الله تعالى لهداية الناس بأمر الله تعالى التي توجب لصاحبها التصرف في العالم العنصرى و تدبيره باصلاح فساده و اظهار الكمالات فيه لاختصاص صاحبها بعناية الهية توجب له قوة في نفسه لا يمنعها الاشتغال بالبدن عن الاتصال بالعالم العلوى و اكتساب العلم الغيبي منه، فبذلك التحقيق و بما بيناه في أبحاثنا الماضية يظهر جواب ما استدل النيسابورى و غيره على ان المراد بالإمام هو النبي.

ثم ان الاية تدل على أن الإمام الهادى للناس بأمره تعالى يجب أن يكون منصوصا من عند الله تعالى حيث قال تعالى: إني جاعلك للناس إماما كما لا يخفى على من له أدنى دربة في اساليب الكلام. و العجب من النيسابورى حيث قال في تفسيره: ثم القائلون بأن الإمام لا يصير إماما إلا بالنص تمسكوا بهذه الاية و أمثالها من نحو: إني جاعل في الأرض خليفة- يا داود إنا جعلناك خليفة، و منع بأن الإمام يراد به ههنا النبي سلمنا ان المراد به مطلق الإمام لكن الاية تدل على ان النص طريق الإمامة و ذلك لانزاع فيه إنما النزاع في انه لا طريق للامامة سوى النص و لا دلالة في الاية على ذلك انتهى. و بما حققناه و بيناه في المقام يظهر لك أن كلامه هذا في غاية السقوط. نعم انه أنصف في المقام و قال:

و في الاية دليل على انه عليه السلام كان معصوما عن جميع الذنوب لأنه لو صدرت عنه معصية لوجب علينا الاقتداء به و ذلك يؤدى إلى كون الفعل الواحد ممنوعا منه مندوبا إليه و ذلك محال.

قوله تعالى: و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين‏. عطف على الكاف من جاعلك و ان شئت قلت: و من ذريتي تتعلق بمحذوف تدل عليه كلمة جاعلك و من للتبعيض أى اجعل بعض ذريتي إماما كما يقال ساكرمك فتقول و زيدا و إنما طلب الإمامة لبعض ذريته لعلمه بان كلهم لا يليق بها لأن ناسا غير محصورين لا يخلو فيهم من ظالم غالبا قال الله تعالى: سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين و باركنا عليه و على إسحاق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين‏ (الصافات 115).

و أفاد بعض المفسرين انه قد جرى إبراهيم على سنة الفطرة في دعائه هذا فان الانسان لما يعلم من أن بقاء ولده بقاء له يحب أن تكون ذريته على أحسن حال يكون هو عليها ليكون له حظ من البقاء جسدا و روحا. و من دعاء إبراهيم الذي حكاه الله عنه في السورة المسماة باسمه‏ رب اجعلني مقيم الصلاة و من ذريتي‏ (إبراهيم: 40) و قد راعي الأدب في طلبه فلم يطلب الإمامة لجميع ذريته بل لبعضها لأنه الممكن، و في هذا مراعاة لسنن الفطرة أيضا و ذلك من شروط الدعاء و آدابه فمن خالف في دعائه سنن الله في خليقته او في شريعته فهو شريعته فهو غير جدير بالاجابة بل هو سيئ الأدب مع الله تعالى لأنه يدعوه لأن يبطل لأجله سنته التي لا تتبدل و لا تتحول أو ينسخ شريعته بعد ختم النبوة و اتمام الدين.

و العهد في الاية الإمامة التي اعطاها الله تعالى إبراهيم و إنما سميت تلك الرياسة الالهية عهد الله لاشتمالها على كل عهد عهد به الله تعالى إلى بني آدم كقوله تعالى‏ و لقد عهدنا إلى آدم من قبل‏- و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم‏.

و من عظمها و شرافتها في عين إبراهيم سأل الإمامة لبعض ذريته فأجابه الله تعالى بأن الإمامة عهده و لا يناله الظالمون يقال: نال خيرا ينال نيلا أى أصاب و بلغ منه. و بين الله تعالى ان عهده ذو مقام منيع و درجة رفيعة لا يصل اليه يد الظالم القاصرة.

و أيضا دلت الاية على أن بعض ذريته الظالم لا ينال عهد الله لأن الظالم ليس‏ بأهل لأن يقتدى به فلم ينف الله تعالى الإمامة عن ذريته مطلقا و إلا لكان يقول:

لا ينال عهدى ذريتك مثلا بل ذكر المانع من النيل إلى ذلك المنصب الالهي مطلقا و هو الظلم و ذلك كما ترى أن الله جعل الإمامة في بعض أولاده و احفاده كاسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و موسى و هارون و داود و سليمان و أيوب و يونس و زكريا و يحيى و عيسى و الياس ثم أفضلهم و أشرفهم محمد صلى الله عليه و آله و الله تعالى اثنى عليهم في الكتاب بثناء مستطاب. فالاية تدل على ان الإمامة التي جعلها لابراهيم عليه السلام لا ينالها من كان ظالما من ذريته فعلم من الاية أمران: أحدهما أن الإمامة لا يكون إلا في ذريته، و الثاني انه لا ينالها من عند الله من هو موصوف بالظلم منهم. فعلم أن كل ظالم من ذرية إبراهيم لا يصلح أن ينال الإمامة و الولاية من قبل الله و لا يكون ممن رضي الله بامامته و ولايته و إلا لزم الكذب في خبره هذا خلف فكل ظالم تولى امور المسلمين باستيلائه و قهره و كثرة أعوانه و أنصاره لا يكون إماما من الله و لا ممن رضي الله بإمامته و الا لكان قد جعله إماما و كذا لا تكون مجعولا من رسله و لا من خواص أوليائه لنص الاية الدال على أن الله تعالى لا يجعل الإمامة و لا ينالها منه من كان ظالما.

ثم إن أصحابنا الإمامية استدلوا بهذه الاية على أن الإمام لا يكون إلا معصوما عن القبايح لأن الله سبحانه نفي أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم فمن ليس بمعصوم فهو ظالم إما لنفسه و إما لغيره و من لم يتصف بالعصمة لا يتصف بالاستقامة و الاعتدال المتصفين بهما أهل الولاية عن الله فيتحقق الميل عن الوسط و الخروج عن الصراط المستقيم فيكون من أحد الجانبين إما من المغضوب عليهم أو الضالين فان قيل: إنما نفي أن يناله ظالم في حال ظلمه فاذا تاب لا يسمى ظالما فيصح أن يناله. فالجواب أن الظالم و ان تاب فلا يخرج من أن تكون الاية قد تناولته في حال كونه ظالما فاذا نفي أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها و الاية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها فلا ينالها الظالم و ان تاب فيما بعد (قاله في المجمع).

و بالجملة ان عموم ظاهر الاية يقتضي ان الظالم في حال من الأحوال لا ينال الإمامة و من تاب بعد كفر أو فسق و إن كان بعد التوبة لا يوصف بانه ظالم فقد كان ممن تناوله الاسم و دخل تحت الاية و إذا حملناها على أن المراد بها من دام على ظلمه و استمر عليه كان هذا تخصيصا بغير دليل.

أقول: فالاية تدل على ابطال إمامة غير علي عليه السلام لانهم كانوا مشركين قبل الاسلام و عبدوا الأصنام بالاتفاق و كل مشرك ظالم و قال الله تعالى‏ إن الشرك لظلم عظيم‏ فكل ظالم لا ينال عهد الإمامة. و لذا قال الصادق عليه السلام: من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما و نعم ما نظم الحسين بن علي الكاشفي حيث قال في قصيدة فارسية له:

ذريتي سؤال خليل خدا بخوان‏ و ز لا ينال عهد جوابش بكن أدا
گردد ترا عيان كه امامت نه لائق است‏ آنرا كه بوده بيشتر عمر در خطا

و قال الزمخشرى في الكشاف في بيان قوله تعالى و لا ينال عهدي الظالمين‏:

اى من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلافي و عهدى اليه بالامامة و إنما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم و قالوا: في هذا دليل على ان الفاسق لا يصلح للامامة و كيف يصلح لها من لا يجوز حكمه و شهادته و لا تجب طاعته و لا يقبل خبره و لا يقدم للصلاة و كان أبو حنيفة يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما و حمل المال اليه و الخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالامام و الخليفة كالدوانيقي و أشباهه و قالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم و محمد ابنى عبد الله بن الحسن حتى قتل فقال: ليتني مكان ابنك، و كان يقول في المنصور و أشياعه: لو أرادوا بناء مسجد و أرادوني على عد آجره لما فعلت. و عن ابن عيينة (و عن ابن عباس- خ ل) لا يكون الظالم إماما قط و كيف يجوز نصب الظالم للامامة و الإمام إنما هو لكف الظلمة فاذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم. انتهى.

إن قلت: إن يونس صلوات الله عليه نال عهد الله الذي هو الإمامة مع أن الله تعالى حكى عنه أنه قال: سبحانك إني كنت من الظالمين (الأنبياء: 89)

أقول: ان الظلم فيه محمول على ترك الأولى كما في حق آدم صلوات الله عليه حيث قال: ربنا ظلمنا أنفسنا و بالجملة ما ورد في القرآن و الأخبار مما يوهم صدور الذنب عن الأنبياء و خلفائهم الحق محمول على ترك الأولى جمعا بين ما دل العقل عليه و بين صحة النقل لأن المتبع في اصول العقائد هو العقل و هو الأصل فيها و كل ما ثبت بدليل قاطع فلا يجوز الرجوع عنه على أن لتلك الايات و الأخبار ذكرت وجوه و محامل أتى بها العلماء في مواضعه و عليك في ذلك بكتاب تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى علم الهدى فانه شفاء العليل.

و من أحسن ما قيل في المقام: ان تلك الظواهر دالة على عظم شأنهم و علو مرتبتهم إذ معاتبة الحكيم لهم على تلك الأفعال التي هي في الحقيقة لا توجب العصيان و المخالفة دليل على أنهم في محل يقتضي تلك المعاتبة تنزيها لهم و تفخيما لأمرهم و تعظيما لشأنهم عن ملابسة ما لا يليق بمراتبهم إذ هم دائما في مرتبة الحضور الموجبة لعدم التفاتهم إلى غير الحق و كان وقوع ذلك منهم في بعض الحالات أو مع شي‏ء من الاشتغالات البدنية و الانجذاب في بعض الأحيان إلى الأمور و المادية موجبا لتلك المعاتبة.

و بالجملة ان الحجج الالهية لما كانوا في نهاية القرب من الله تعالى و كمال الاتصال بجنابه و تمام الحضور إلى حضرته و كانوا أيضا مع تلك المرتبة الشامخة في العوائق و العلائق البدنية اللازمة للبشرية رين مع الرعية للإرشاد و التبليغ قد يعرض لهم في تلك الأطوار و الشئونات البشرية امور يعدونه سيئات و إن لم تكن في الحقيقة بقبائح و سيئات فيتضرعون إلى الله تعالى بقولهم ربنا ظلمنا أنفسنا أو سبحانك إني كنت من الظالمين. فان المخلصين على خطر عظيم.

و بذلك ظهر سر الحديث المروى عن رسول الله صلى الله عليه و آله: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

ثم اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما طلب الإمامة لبعض ذريته فكان يكفي في جوابه ان يقال: نعم، مثلا لكنه لما لم يكن نصا في ان الظالم لا ينال الإمامة لأنه كان‏

يشمل حينئذ الظالم و غيره و كذا لو قال ينال عهدى المؤمنين مثلا لما كان أيضا نصا في خروج الظالم غاية ما يقال حينئذ خروجه بالمفهوم فنص بالظالم لخروجه عن نيل عهد الله تعالى اعني الإمامة بقوله لا ينال عهدى الظالمين. كما نص أيضا بأن أمر الظالم ليس برشيد و من اتبعه فجزاءه جهنم، في قوله: و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين إلى فرعون و ملائه فاتبعوا أمر فرعون و ما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار و بئس الورد المورود و أتبعوا في هذه لعنة و يوم القيامة بئس الرفد المرفود (هود: 102).

ثم إن الله تعالى ذكر في كتابه العزيز كثيرا من صفات من جعله إماما للناس بقوله:

1- لا ينال عهدي الظالمين‏. فرتبة الإمامة و درجة الولاية اعلى و ارفع من أن ينالها الظالم و بهذه الاية بين أيضا أن الإمام منصوب من عنده كما دريت.

2- إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه و هداه إلى صراط مستقيم و آتيناه في الدنيا حسنة و إنه في الآخرة لمن الصالحين‏ (النحل: 125) فمن صفات الإمام أن يكون ممن اجتباه الله فهو نص في ان الإمام يجب أن يكون منصوبا من الله تعالى و أن يكون مهديا بهدى الله تعالى إلى صراط مستقيم و أن لا يكون من المشركين. فافهم و تدبر حق التدبر.

3- إن إبراهيم لحليم أواه منيب‏ (هود: 79).

4- و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنا به عالمين‏ (الأنبياء: 54).

5- و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين‏ (الأنبياء: 75) فالامام يهدى بأمره تعالى و يوحى اليه فعل الخيرات.

6- و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون‏ (السجدة: 26).

7- و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه و لقد اصطفيناه في الدنيا

و إنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏ (البقرة: 127).

فمن اتصف بهذه الأوصاف الملكوتية و ايد بهذه التأييدات السماوية فهو إمام فطوبى لمن عقل الدين عقل رعاية و دراية.

الاية الثانية قوله تعالى‏ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شي‏ء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا (النساء آيه 57).

و الاية تدل على امور: الأول أن إطاعة الرسول صلى الله عليه و آله فيما أمر به و نهى عنه واجبة كما أن اطاعة الله تعالى واجبة فليس لأحد أن يقول: حسبنا كتاب الله فلا حاجة لنا إلى الأخبار المروية عن الرسول و العمل بها، و ذلك لأن هذا القول نفسه رد الكتاب و لو كان كتاب الله وحده كافيا لما أفرد الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه و آله بقوله عز من قائل: أطيعوا الرسول‏ بعد قوله: أطيعوا الله‏. و نظير الاية قوله تعالى:من يطع الرسول فقد أطاع الله‏ و قوله تعالى: و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا و قوله تعالى‏ و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى‏ فقد أخطا من قال: حسبنا كتاب الله و اعرض عن قول رسول الله صلى الله عليه و آله.

الأمر الثاني أن الله تعالى أوجب على الناس اطاعة أولى الأمر كما أوجب اطاعته و اطاعة رسوله فالحرى بالطالب نهج القويم أن يرى بعين العلم و المعرفة رأيه في معنى اولى الأمر و مراده عز و جل منهم فنقول: قد فسر بعضهم اولى الأمر بالأمراء و بعض آخر و منهم الفخر الرازى في تفسيره بالعلماء و لا يخفى أن المعنى الثاني عدول عن الصواب جدا فان اولى الأمر هم مالكو الأمر و مالك الأمر من بيده الحل و العقد و الأمر و النهى و التدبير و السياسة و ما فيه تنظيم امور الناس دينية كان أو دنيوية، فكيف يجوز تفسير اولى الأمر بالعلماء سيما في كلام الله الذى هو في غاية الفصاحة و نهاية البلاغة و معجزة النبوة الباقية و هل هذا الا الخروج عن مجرى الفصاحة و الورود في مورد السخافة.

أما مراده عز و جل من اولى الأمر فنقول: إنا نعلم بتا أن كثيرا من الخلفاء و الأمراء كمعاوية و يزيد و الوليد و الحجاج و آل امية و بني مروان و الخلفاء العباسيين و أمثالهم قديما و حديثا لعبوا بالدين و اتخذوا كتاب الله سخريا و فعلوا من الفواحش و المنكرات و فنون الظلم و المنهيات من سفك الدماء و أخذ أموال الرعية ظلما و شرب الخمر و نحوها. ما يتعذر عدها و تشمئز النفوس المطمئنة السليمة عن استماعها و تستقبح ذكرها، و لو نذكر معشارا من ظلمهم و سائر فواحشهم و مقابحهم مما نقل في كتب القوم و مصنفاتهم لبلغ مبلغا عظيما و هذا هو الوليد بن يزيد نذكر فعلا من أفعاله يكون أنموذجا لسائر آثاره و ان بلغ في الفسق و الفجور إلى حد لا يناله يد انكار و لا يرتاب فيه أحد و لعمرى أنى أستحيى من نقل هذه القضية الصادرة منه و لكنى أقول: ان من جانب المراء و اللداد و تقليد الاباء و الأجداد و اعرض عن الأغراض النفسانية و العصبية و نظر بعين العلم و البصيرة و تفكر ساعة في معاني الايات و الأخبار و تأمل في غرض البعثة و تكليف العباد و أراد ان يسلك مسلك السداد و الرشاد هل يرضى بأمارة من يرتكب من المعاصى و الفواحش ما يستحيى بذكره الانسان و هلا يقضى عقله بأنه لو كان الوليد و أشياعه مالكي ازمة الأمور و القائمين مقام الرسول لما كان إرسال الرسل و إنزال الكتب إلا اللهو و العبث و اللعب.

قال أبو الفرج الاصبهاني في الاغاني (ص 174 ج 19 طبع ساسي) في ترجمة عمار ذى كناز باسناده عن العمرى أنه قال: استقدمني الوليد بن يزيد بعد هشام بن عبد الملك ثم قال لي: هل عندك شي‏ء من شعر عمار ذى كناز؟ فقلت: نعم، أنا أحفظ قصيدة له و كنت لكثرة عبثي به قد حفظتها فانشدته قصيدته التي يقول فيها:

حبذا أنت يا سلامة الفين حبذا

إلى آخر القصيدة و أنا اعرضت عن الإتيان بها لشناعتها و قباحتها و اجل صحيفتي المكرمة عن أن تملأ بتلك القصائد المنسية عن ذكر الله و هي شرح كتاب علوى عجز الدهر أن يأتي بمثله.

و بالجملة قال العمرى بعد ذكر القصيدة: فضحك الوليد حتى سقط على‏

قفاه و صفق بيديه و رجليه و أمر بالشراب فاحضر و أمرني بالانشاد فجعلت انشده هذه الأبيات و اكررها عليه و هو يشرب و يصفق حتى سكر و أمر لي بحلتين و ثلاثين ألف درهم فقبضتها ثم قال: ما فعل عمار؟ فقلت حي كميت قد غشي بصره و ضعف جسمه لا حراك به فأمر له بعشرة آلاف درهم فقلت له: ألا أخبر أمير المؤمنين بشي‏ء يفعله لا ضرر عليه فيه و هو أحب إلى عمار من الدنيا بحذافيرها لو سيقت اليه؟ فقال:

و ما ذاك؟ قلت: إنه لا يزال ينصرف من الحانات و هو سكران فترفعه الشرط فيضرب الحد فقد قطع بالسياط و لا يدع الشراب و لا يكف عنه فتكتب بأن لا يعرض له فكتب إلى عامله بالعراق أن لا يرفع اليه أحد من الحرس عمارا في سكر و لا غيره إلا ضرب الرافع له حدين و أطلق عمارا. إلى آخر ما قال.

و في المجلس التاسع من أمالي الشريف المرتضى: أن وليد بن يزيد بن عبد الملك ابن مروان كان مشهورا بالالحاد متظاهرا بالعناد غير محتشم في اطراح الدين أحدا و لا مراقب فيه بشرا و قد عزم على أن يبنى فوق البيت الحرام قبة يشرب عليها الخمور و يشرف على الطواف و نشر يوما المصحف و كان خطه كانه إصبع و جعل يرميه بالسهام و هو يقول:

تذكرني الحساب و لست أدرى‏ أ حقا ما تقول من الحساب‏
فقل لله يمنعني طعامي‏ و قل لله يمنعني شرابي‏

و فتح المصحف يوما فرأي فيه‏ و استفتحوا و خاب كل جبار عنيد «إبراهيم: 15» فاتخذ المصحف غرضا و رماه بالنبل حتى مزقه و هو يقول:

أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
فان لاقيت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني وليد

و هذا هو الحجاج هدم الكعبة و قتل من المؤمنين و المتقين و أولياء الله و عباده مما لا يحصى و فعل في إمارته ما فعل من أنواع الظلم بلغت إلى حد التواتر و يضرب بها المثل السائر فلو كان مراده عز و جل من اولي الأمر مطلق من تولى أمر المسلمين للزم التناقض في حكمه تعالى و ذلك لأنه تعالى جعل مثلا الكعبة البيت الحرام قياما للناس فلو أمر الناس باطاعة الحجاج في أفعاله فأمرهم بهدم الكعبة فيجب عليهم هدم الكعبة مع أن الله حرم عليهم هتك حرمتها و هل هذا الا التناقض و كذا في أفعال الوليد، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

و نعلم قطعا ان الله تعالى عادل في حكمه و فعله و قوله و ليس بظلام للعبيد فتعالى عن أن يوجب اطاعة الأمراء الظلمة و هو تعالى يقول‏ و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار … ثم لا تنصرون‏- و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم‏- و لعنة الله على الظالمين* و غيرها من الايات بهذا المضمون. فالعقل الناصع يحكم بأن مراده تعالى من الاية ليس مطلق اولى الأمر و لا تشمل الظالمين منهم قضاء لحق البرهان العقلي، جل جناب الرب أن يوجب على الناس اتباع هؤلاء الظلمة و اتباعهم و ما أحلى قول الشاعر:

إذا كان الغراب دليل قوم‏ فمأواهم محل الهالكينا

و ما أجاد قول العنصري بالفارسي:

هر كه را رهبرى كلاغ كند بى گمان دل بدخمه داغ كند

ثم نقول: ان غير المعصوم ظالم و الظالم لا يصلح لان يكون من اولى الأمر فان الظالم واضع للشي‏ء في غير موضعه و غير المعصوم كذلك فلا يؤمن في الشرع من الزيادة و النقصان و التغيير و التبديل فلابد من أن يكون أولو الأمر معصومين.

ثم نقول: العصمة ملكة تمنع عن الفجور مع القدرة عليها و تحصل بالعلم بمثالب المعاصى و مناقب الطاعات و تتأكد بتتابع الوحى بالأوامر و النواهي فعلى الله تعالى أن يعرف اولى الأمر لأنه خارج عن طوق البشر و وسعهم فان العصمة أمر باطنى لا يعلمها إلا الله على أنا نقول كما ان الملوك مثلا إذا امروا الناس باطاعة الأمراء و القضاة فمعلوم بالضرورة و مستقر في النفوس ان مرادهم بذلك وجوب اطاعة الأمراء و القضاة الذين نصبهم و عينهم على الناس لا غير و كذا في المقام نقول ان الله لا يأمر باطاعة كل من صار أو جعل أمير المسلمين و لو ظلما و زورا بل باطاعة الأمراء الذين عينهم الله تعالى و نصبهم لذلك.

الامر الثالث أن الزمان لا يخلو من إمام معصوم منصوب من عند الله تبارك و تعالى لأنه عز و جل أوجب اطاعة اولى الأمر و نعلم بالضرورة أن امره تعالى في ذلك ليس مقصورا في زمن النبي صلى الله عليه و آله لأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة و هو خاتم النبيين فكما أن إطاعة الله و رسوله لا يختص بزمانه صلى الله عليه و آله بل هما واجبتان إلى قيام الساعة فكذا إطاعة اولي الأمر المقرونة باطاعتهما و حيث ان الأمر باطاعة المعدوم قبيح ففي كل عصر لابد من صاحب أمر حتى يصلح الأمر باطاعته و هذا لا يصدق إلا على الأئمة من آل محمد أوجب الله طاعتهم بالإطلاق بالبرهان الذي قدمنا.

و في المجمع: بعد ما نقل القولين في معنى اولى الأمر أحدهما الأمراء و الاخر العلماء قال: و أما أصحابنا فانهم رووا عن الباقر و الصادق عليهما السلام أن اولى الأمر هم الأئمة من آل محمد صلى الله عليه و آله أوجب الله طاعتهم بالاطلاق كما أوجب طاعته و طاعة رسوله و لا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الاطلاق الا من ثبتت عصمته و علم أن باطنه كظاهره و أمن منه الغلط و الأمر بالقبيح و ليس ذلك بحاصل في الأمراء و لا العلماء سواهم، جل الله أن يأمر بطاعة من يعصيه أو بالانقياد للمختلقين في القول و الفعل لأنه محال أن يطاع المختلفون كما أنه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه. و مما يدل على ذلك أيضا ان الله تعالى لم يقرن طاعة اولى الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسوله بطاعته الا و اولو الأمر فوق الخلق جميعا كما أن الرسول صلى الله عليه و آله فوق اولى الأمر و فوق سائر الخلق و هذه صفة أئمة الهدى من آل محمد الذين ثبتت امامتهم و عصمتهم و اتفقت الأمة على علو رتبتهم و عدالتهم.

ثم نقول: لما علم ان الأئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام قائمون مقام الرسول و حجج في الشرع فكما في زمن الرسول صلى الله عليه و آله ان تنازع الناس في شي‏ء من امور الدين يجب عليهم الرد إلى الله و الرسول و كذلك بعد وفاته يجب عليهم الرد إلى المعصومين القائمين مقامه و الذين هم الخلفاء في امته و الحافظون لشريعته بأمره فالرد إليهم مثل الرد إلى الرسول صلى الله عليه و آله و اكد سبحانه ذلك و عظمه بقوله عز من‏ قائل‏ إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا أى الرد إلى الله و الرسول و القائمين مقام الرسول خير لكم و أحسن من تأويلكم.

و ان قلت: كما أن الأمراء المنصوبين من الرسول صلى الله عليه و آله في زمنه كمعاذ بن جبل ارسله واليا إلى اليمن و غيره من الولاة الذين كانت اطاعتهم واجبة على الناس بأمر رسول الله صلى الله عليه و آله لم يكونوا معصومين من الذنوب و الخطأ و السهو و النسيان و غيرها كذلك الحكم في اولي الأمر بعده فما اوجب عصمة اولى الأمر الذين بعده صلى الله عليه و آله؟

أقول: هذا قياس مع الفارق جدا و بينهما بون بعيد و امد مديد و ذلك لأن في عهد رسول الله صلى الله عليه و آله لو تنازع الناس في شي‏ء من امور الدين و اقبل أمر مشتبه للحكام و القضاة و الولاة المنصوبين منه صلى الله عليه و آله في أحكام الله لكان رسول الله صلى الله عليه و آله يكشف عنه و يزيل الشبهة و يقضى بالفصل و يصدع بالحق كما امرهم الله برد التنازع إلى الله و الرسول في الاية و أما بعد وفاته صلى الله عليه و آله لو لم يكن صاحب الأمر القائم مقامه في كل عصر معصوما و منصوبا من الله و رسوله لو أقبل تنازع في الدين فمن يزيل الشبهة و يبيد الغائلة؟ و كذا الكلام في الأمراء و الحكام من قبل الإمام فان الإمام عالم بجميع الأحكام، فبوجوده يرتفع التشاجر و يقلع التنازع.

«رواية جابر بن عبد الله في نزول الاية»

عن جابر بن عبد الله قال: لما نزل قوله تعالى‏ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم‏ قلت: يا رسول الله عرفنا الله و رسوله فمن اولى الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتكم؟ فقال: هم خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين بعدي أولهم علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم عد تسعة من ولد الحسين.

الحديث الأول‏

روى ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني رضوان الله عليه في باب أن الأرض لا تخلو من حجة من الكافي بإسناده عن جعفر بن محمد عن كرام قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام، و قال: ان آخر من يموت الإمام‏ لئلا يحتج أحد على الله تعالى انه تركه بغير حجة لله عليه.

أقول: أتى أيضا بعدة روايات اخر عنه عليه السلام تقرب من الحديث المذكور مفادا كقوله عليه السلام: لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة، و قوله عليه السلام:

لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما، و غيرهما و الغرض منها أن العناية الإلهية كما اقتضت وجود هذا العالم و خلقة بني آدم فهي يقتضى صلاحه و الصلاح انما يثم و يدوم بوجود انسان رباني مؤيد بروح القدس و مسدد بنور الله و معصوم من كل ما يقدح في الغرض من وجوده، يقوم بحجج الله و يؤديها إلى أهلها عند الاحتياج اليها و يعرفهم الطريق إلى الله و معالم الدين و به يتصل فيض الباري على الخلق إذ هو الواسطة بين الله و عباده و لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما ذلك الإمام يجب على الاخر الاقتداء به في استكمال نفسه و الاهتداء إلى جناب ربه حتى يتم الحجة عليه و لا يحتج على الله انه تركه بغير حجة لله عليه ان الله تعالى أجل و أعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل و قال عز من قائل:

و لو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل و نخزى‏ (طه آية 134) و قال تعالى: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏ (النساء آية 163) فتابى العناية الالهية الأزلية عن ان يترك عباده بلا هاد و مرشد فان الله ليس بظلام للعبيد.

ثم قال عليه السلام: ان آخر من يموت الإمام و ذلك لما علم أن الله تعالى عن أن يظلم أحدا فلو بقى في الأرض رجل واحد بلا حجة إلهية لزم الظلم في حقه فالحكمة الكاملة الالهية و رحمته الواسعة تقتضى بقاء وجود الحجة بعد الخلق حتى لا يبقى واحد بلا إمام و الإمام آخر من يموت كما اقتضت وجود الحجة قبل ايجاد الخلق و لذا خلق الخليفة أولا ثم خلق الخليفة كما قال: إني جاعل في الأرض خليفة و لذا قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام في حديث آخر مروي في الكافي أيضا:

الحجة قبل الخلق و مع الخلق و بعد الخلق، فارجع البصر كرتين أيها الطالب للرشاد و الباغى للسداد في هذا الحديث الذي كانه عقل تمثل بالألفاظ و اقم و استقم‏

الحديث الثاني‏

في الكافي أيضا باسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول:ان الأرض لا تخلو إلا و فيها امام كى ما إن زاد المؤمنون شيئا ردهم و ان نقصوا شيئا أتمه لهم.

أقول: و كذا جاءت روايات اخر فيه أيضا تقرب منه مضمونا، منها ما روى عبد الله بن سليمان العامري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما زالت الأرض إلا و لله فيها الحجة يعرف الحلال و الحرام و يدعو الناس إلى سبيل الله، و منها عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: ان الله لم يدع الأرض بغير عالم و لو لا ذلك لم يعرف الحق من الباطل و الغرض ان الإمام يجب أن يكون عالما بجميع الأحكام الإلهية و عارفا بالحلال و الحرام بحيث لا يشذ عنه حكم جزئي منها فانه لو لم يكن متصفا بهذه الصفة لما يقدر أن يرد شيئا إن زاده المؤمنون أو أتمه ان نقصوه فيلزم التغيير و التبديل و الزيادة و النقصان في دين الله فلا يكمل نظام النوع الانساني به بل يلزم الهرج و المرج المهلكان فالامام مستجمع للغاية القصوى من الصدق و الامانة و بالغا في العلوم الربانية و المعارف الالهية و تمهيد المصالح الدينية و الدنيوية مرتبة النهاية على أن العقل حاكم بقبح استكفاء الأمر و توليته من لا يعلمه و تعالى الله عن ذلك، فالامام لكونه حافظا للدين و مقتدا الناس في جميع الاحكام الظاهرية و الباطنية و الكلية و الجزئية و الدنيوية و الأخروية و العبادية و غيرها يجب أن يكون عالما بجميعها كما هو الحكم الصريح للعقل السليم، و ليس لأحد أن يقول انه إمام فيما يعلم دون ما لا يعلم لظهور قبح هذا القول و شناعتها و المفاسد التالية عليه مما يدركها من كان له أدنى بصيرة في معنى الإمام و غرض وجوده في الأنام. فاذا علم بحكم العقل أن الإمام يجب أن يكون مقتدا به في جميع الشريعة وجب أن يكون معصوما لأنه لو لم يكن معصوما لم نأمن في بعض أفعاله أن يكون قبيحا و الفرض ان الاقتداء به واجب علينا و الله تعالى الحكيم لا يوجب علينا الاقتداء بما هو قبيح، على أن الإمام إذا كان داعي الناس إلى سبيل الله و المبين الحلال و الحرام و حافظ الدين عن‏

الزيادة و النقصان يستلزم العلم باعطاء كل ذي حق حقه بحسب استحقاقه و هو كما حققناه قبل يستلزم الاطلاع على الكليات و الجزئيات مما يحتاج اليها الناس و هي غير متناهية فهي غير معلومة إلا لله تعالى و لخلفائه المعصومين المنصوبين من عنده‏.

الحديث الثالث‏

قال الشريف المرتضى علم الهدى في المجلس الثاني عشر من أماليه: روى أن هشام بن الحكم قدم البصرة فأتى حلقة عمرو بن عبيد فجلس فيها و عمرو لا يعرفه فقال لعمرو: أليس قد جعل الله لك عينين؟ قال: بلى. قال: و لم؟ قال:

لأنظر بهما في ملكوت السماوات و الأرض فاعتبره قال: و جعل لك فما؟ قال:

نعم، قال: و لم؟ قال: لأذوق الطعام و اجيب الداعي. ثم عدد عليه الحواس كلها، ثم قال: و جعل لك قلبا؟ قال: نعم، قال: و لم؟ قال: لتؤدى اليه الحواس ما أدركته فيميز بينها. قال: فأنت لم يرض لك ربك تعالى إذ خلق لك خمس حواس حتى جعل لها إماما ترجع اليه أترضى لهذا الخلق الذين جشأ بهم العالم ألا يجعل لهم إماما يرجعون إليه؟ فقال له عمرو: ارتفع حتى ننظر في مسألتك و عرفه ثم دار هشام في حلق البصرة فما أمسى حتى اختلفوا.

أقول: و رواه الكليني قدس سره مفصلا في الكافي باسناده عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة من أصحابه منهم حمران بن اعين و محمد ابن النعمان و هشام بن سالم و الطيار و جماعة فيهم هشام بن الحكم و هو شاب فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد و كيف سألته؟

قال هشام: يا ابن رسول الله إني اجلك و أستحييك و لا يعمل لساني بين يديك.

فقال أبو عبد الله عليه السلام: إذا أمرتكم بشي‏ء فافعلوا قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك على فخرجت اليه و دخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فاذا أنا بحلقة عظيمة فيها عمرو بن عبيد و عليه شملة سوداء متزر بها من صوف و شملة مرتد بها و الناس يسألونه فاستفرجت الناس فأفرجوا لى ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت: أيها العالم إني‏

رجل غريب تأذن لي في مسألة؟ فقال لي: نعم، فقلت له: ألك عين؟ فقال:

يا بني أي شي‏ء هذا من السؤال و شي‏ء تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت: هكذا مسألتي.

فقال: يا بني سل و ان كانت مسألتك حمقاء. قلت: أجبني فيها؟ قال لي: سل.

قلت: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أرى بها الألوان و الأشخاص قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أشم به الرائحة. قلت: ألك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم.

قلت: فلك اذن؟ قال: نعم، قلت فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت. قلت:

ألك قلب؟ قال نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: اميز به كل ما ورد على هذه الجوارح و الحواس. قلت: أو ليس في هذه الجوارح غني عن القلب؟ فقال: لا، قلت:

و كيف ذلك و هي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شي‏ء شمتة أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردته إلى القلب فتستيقن اليقين و تبطل الشك، قال هشام: فقلت له: فانما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: لابد من القلب و إلا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم، فقلت له: يا أبا مروان فالله تعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح و يتيقن ما شكت فيه و يترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم و شكهم و اختلافهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم و حيرتهم و يقيم لك إماما لجوارحك ترد اليه حيرتك و شكك؟ قال: فسكت و لم يقل لي شيئا ثم التفت إلي فقال: أنت هشام بن الحكم؟ فقلت: لا، فقال: أمن جلسائه؟ قلت: لا، قال: فمن أين أنت؟ قال: قلت: من أهل الكوفة. قال:

فاذن أنت هو ثم ضمني اليه و أقعدني في مجلسه و زال عن مجلسه و ما نطق حتى قمت. قال: فضحك أبو عبد الله عليه السلام و قال: يا هشام من علمك هذا؟ قلت: شي‏ء أخذته منك فقال: هذا و الله مكتوب في صحف إبراهيم و موسى.

بيان الغرض من احتجاج هشام بن الحكم على عمرو بن عبيد وجوب اللطف على الله تعالى فانه كما اقتضى لطفه خلق القلب إماما لقوى الجوارح و الأعضاء ترجع إليه و ليست في غنى عنه فكذلك اقتضى جعل إمام للناس يرجعون‏ اليه في كل ما يحتاجون اليه. و وصف المسألة بالحمقاء تجوز كقولهم نهاره صائم و التصغير للتحقير.

ثم إن المراد بالقلب في الايات و الأخبار هو اللطيفة الربانية القدسية يعبر بالقوة العقلية و بالعقل و بالروح و بالنفس الناطقة أيضا و في الفارسية بروان و قد ذكر الشيخ- كما في الفصل الاخر من الباب الخامس من السفر الرابع من الأسفار- في بعض رسائله بلغة الفرس بهذه العبارة: روح بخارى را جان گويند و نفس ناطقه را روان، لا الجسم اللحمي الصنوبري الذي في الحيوانات العجم أيضا و إنما قال عليه السلام: هذا و الله مكتوب في صحف إبراهيم و موسى لأن الحكم العقلي لا يتغير بمضي الدهور و لا يتبدل بتبدل الزمان و لا يختلف باختلاف الامم فهذا الحكم الكلي العقلي الالهي مكتوب في الصحف الأولى صحف إبراهيم و موسى و مستكن في عقول الناس و الخلق جبلوا عليه أزلا و أبدا.

ثم إن ما تدركه هذه القوى صور صرفة و تصورات محضة لا توصل إلى معرفة الغائبات فلابد للتصديق و اليقين و الايصال إلى معرفة الغائبات من أن تكون قوة اخرى حاكمة عليها و تلك القوة الحاكمة هو العقل و تلك القوى من شئونه في الحقيقة تنشأ منه بل هي تفاصيل ذاته و شروح هويته و هو أصلها و متنها و لولاه لفسدت القوى و انهدم البدن و كذا لو لا الحجة لساخت الأرض بأهله.

و قول هشام: شي‏ء أخذته منك، كان هشام من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السلام و اقتبس من مشكاة وجودهما علوما جمة و الف كتبا كثيرة قيمة و كان ثقة في الروايات حسن التحقيق بهذا الأمر و كان ممن فتق الكلام في الإمامة و هذب المذهب بالنظر و كان حاذقا بصناعة الكلام و كان في مبدء أمره من الجهمية ثم لقى الصادق عليه السلام فاستبصر بهديه و لحق به.

و قد أشار إلى هذا الاحتجاج أبو عبد الله عليه السلام في ذيل احتجاجه على أبي شاكر الديصاني في حدوث العالم و نقله الشيخ المفيد في الارشاد قال: روى أن أبا شاكر الديصاني وقف ذات يوم في مجلس أبي عبد الله عليه السلام فقال له، إنك لأحد النجوم‏

الزواهر و كان آباؤك بدورا بواهر و امهاتك عقيلات عباهر و عنصرك من أكرم العناصر و إذا ذكر العلماء فعليك تثني الخناصر خبرنا أيها البحر الزاخر ما الدليل علي حدوث العالم- إلى أن قال: فقال أبو شاكر: دللت يا أبا عبد الله فأوضحت و قلت فأحسنت و ذكرت فأوجزت و قد علمت أنا لا نقبل إلا ما أدركناه بأبصارنا أو سمعناه باذاننا أو ذقناه بأفواهنا أو شممناه بأنوفنا أو لمسناه ببشرتنا فقال أبو عبد الله عليه السلام: ذكرت الحواس الخمس و هي لا تنفع في الاستنباط إلا بدليل كما لا تقطع الظلمة بغير مصباح.

الحديث الرابع‏

في الكافي بإسناده إلى هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء و الرسل؟ قال: انا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا و عن جميع ما خلق و كان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه و لا يلامسوه فيباشرهم و يباشروه و يحاجهم و يحاجوه ثبت أن له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه و عباده و يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما به بقاؤهم و في تركه فناؤهم فثبت الامرون و الناهون عن الحكيم العليم في خلقه و المعبرون عنه جل و عز و هم الأنبياء و صفوته من خلقه حكماء مؤدبين في الحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب في شي‏ء من أحوالهم (و أفعالهم- خ ل) مؤيدون عند الحكيم العليم بالحكمة ثم ثبت ذلك في كل دهر و زمان مما أتت به الرسل و الأنبياء من الدلائل و البراهين لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته و جواز عدالته.

أقول: الغرض من هذا الحديث العقلي البرهاني المشتمل على مسائل عظيمة و فوائد مهمة أن الأرض ما دامت باقية لا تخلو من حجة يهدى الناس إلى سبيل الرشاد و السداد و يستنقذ عباد الله من الجهالة و حيرة الضلالة مبتنيا على مقدمات عقلية و ليس الغرض من الاتيان بهذه الأحاديث كما اشرنا إليه آنفا التمسك بها تعبدا حتى يلزم الدور بل لما رأينا من أنها احتجاجات على اساس عقلى برهاني‏

اردنا ذكره لانجاز المقصود و الايصال إلى المطلوب و بالفرض لو لم تكن أمثال هذا الحديث صادرة عنهم عليهم السلام لكان استدلالات تامة و احتجاجات وافية في المقصود و هذه الأحاديث و امثالها معاضدات للعقل في حكمه و ارشادات له في قضائه و نحن بعون الله نأتي في بيان الحديث بطائفة من المطالب المختارة الحكمية العقلية ليزداد الطالب بصيرة إلى الفلاح و هداية إلى النجاة و النجاح.

قوله عليه السلام: انا لما اثبتنا ان لنا خالقا صانعا. فيه اشارة إلى معرفة الله تعالى بالعقل و النظر و البرهان لا بتقليد الاباء و الأمهات و العلماء و الأساتيذ و غيرهم.

قوله عليه السلام: متعاليا عنا و عن جميع ما خلق. فان ما سواه تعالى مخلوقه و معلوله ممكن في ذاته و محتاج في وجوده و بقائه إلى جنابه فان الممكن في اتصافه بالوجود يحتاج إلى جاعل مرجح يخرجه من العدم و يجعله متصفا بالوجود فان كل عرضى معلل و لما كانت العلة المحوجة إليه تعالى هو الامكان و ان الامكان لا يزول عن الممكن الموجود أيضا فمفتقر إلى علته في بقائه و وجود العلة فوق وجود المعلول في وجوده و جميع صفاته و متعال عن التجسم و التعلق بالمواد و الأجسام و عن كل حد و صمة يتطرق في معلولاته.

قوله عليه السلام: و كان ذلك الصانع حكيما متعاليا، فإن إتقان صنعه في مخلوقه على قدر لائق لكل شي‏ء و النظام الأكمل الأتم المشهور في الكون المحير للعقول و الأمور الغريبة الحاصلة في خلق السماوات و الأرض و العجائب المودعة في بنية الانسان و الحيوان و النبات تدل على كمال حكمة بارئه فان الحكمة هو العدل و الحق و الصواب و الحكيم هو العالم الذى يضع الأشياء مواضعها، أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق السموات و الأرض إلا بالحق، الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير، و بالعدل قامت السماوات و الأرض. ثم ان الصانع الحكيم لا يترك الناس سدى و لا يهملهم فلابد من أن يكون له سفراء في خلقه.

قوله عليه السلام: لم يجز أن يشاهده خلقه اه: فان ما تدركه الأبصار و يباشره الانسان بالحواس الجسم و الجسمانيات أو المتجسم و المتجسد و المتمثل من المجردات و ما يقرب منها كالأجنة و هو عز و جل متعال عن ذلك علوا كبيرا.

قوله عليه السلام: ثبت أن له سفراء في خلقه- إلى آخره. دليل على وجوب بعثة الأنبياء و هذا الطريق هو الذي أتى به الحكماء في اسفارهم في وجوب إرسال الرسل على الله تعالى بل هو امتن و أدق و أكمل منه.

و اعلم انه ذهب ارباب الملل و أكثر الفلاسفة إلى حسن بعثة الأنبياء خلافا للبراهمة من الهند و من يحذو حذوهم فانهم منعوا من حسنها و قالوا إن ما يجي‏ء به الرسول إن خالف العقل فهو مردود و إن وافق ففي العقل غنية عنه فلا وجه لحسنها.

و هذا القول باطل لأن العقل لا يدرك جميع ما يصلح له و ينفعه و يضره على البسط و التفصيل بل كثيرا منها على الاجمال و الابهام أيضا، على أن الفوائد التي ذكرها المتكلمون و الحكماء في حسن بعثة الأنبياء ترد ما ذهب إليه البراهمة قال المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد:

البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد كمعاضدة العقل فيما يدل عليه و استفادة الحكم فيما لا يدل و ازاحة الخوف و استفادة الحسن و القبح و المنافع و المضار و حفظ النوع الانسانى و تكميل أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفة و تعليمهم الصنائع الخفية و الأخلاق و السياسات و الاخبار بالعقاب و الثواب فيحصل اللطف للمكلف.

ثم على تقدير حسنها هل هي واجبة هي الحكمة قال العدلية اعني الإمامية و المعتزلة: نعم، و منعت الأشاعرة من وجوبها بناء على أصلهم الفاسد.

ثم تقرير الطريق الذي اتى به الحكماء على الاجمال هو أن نقول كلما كان صلاح النوع مطلوبا لله تعالى كانت الشريعة واجبة و كلما كانت الشريعة واجبة كانت البعثة واجبة فكلما كان صلاح النوع مطلوبا فالبعثة واجبة و على التفصيل ما ذكره زينون الكبير تلميذ ارسطاطاليس في رسالته في المبدأ و المعاد و ما ذكره الشيخ في المقالة العاشرة من إلهيات الشفاء من الفصل الثاني إلى الخامس و في‏

الاشارة الاولى من النمط التاسع من الاشارات و التنبيهات و غيرهم من الحكماء الشامخين في مؤلفاتهم الحكمية و نأتي بما في الاشارات و شرحه للعلامة الطوسي فانهما وافيان في المقصود مع جزالة اللفظ و رزانة النظم قال الشيخ:

لما لم يكن الانسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه و بمعاوضة و معارضة تجريان بينهما يفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير و كان مما يتعسر ان أمكن، وجب أن يكون بين الناس معاملة و عدل يحفظه شرع يفرضه شارع متميز باستحقاق الطاعة لاختصاصه بايات تدل على أنها من عند ربه و وجب أن يكون للمحسن و المسي‏ء جزاء من عنده القدير الخبير فوجب معرفة المجازي و الشارع و مع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففرضت عليهم العبادة المذكورة للمعبود و كررت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير حتى استمرت الدعوة إلى العدل المقيم لحياة النوع ثم لمستعمليها بعد النفع العظيم في الدنيا الأجر الجزيل في الأخرى ثم زيد للعارفين من مستعمليها المنفعة التي خصوا بها فيما هم مولون وجوههم شطره فانظر إلى الحكمة ثم إلى الرحمة و النعمة تلحظ جنابا تبهرك عجائبه ثم أقم و استقم.

و قال المحقق الطوسي في شرحه: اثبت النبوة و الشريعة و ما يتعلق بهما على طريقة الحكماء و ذلك مبني على قواعد و تقريرها أن نقول: الانسان لا يستقل وحده بامور معاشه لأنه يحتاج إلى غذاء و مسكن و سلاح لنفسه و لمن يعوله من أولاده الصغار و غيرهم و كلها صناعية لا يمكن أن يرتبها صانع واحد إلا في مدة لا يمكن أن يعيش تلك المدة فاقدا إياها أو يتعسر إن أمكن لكنها تتيسر لجماعة يتعاونون و يتشاركون في تحصيلها يفزع كل واحد منهم لصاحبه عن ذلك فيتم بمعارضة و هي أن يعمل كل واحد مثل ما يعمله الاخر، و معاوضة و هي أن يعطى كل واحد صاحبه من عمله بازاء ما يأخذه منه من عمله فاذن الانسان بالطبع محتاج في تعيشه إلى الاجتماع مؤد إلى صلاح حاله و هو المراد من قولهم الانسان مدنى بالطبع، و التمدن في اصطلاحهم هو هذا الاجتماع فهذه قاعدة.

ثم نقول: و اجتماع الناس على التعاون لا ينتظم إلا إذا كان بينهم معاملة و عدل لأن كل واحد يشتهى ما يحتاج إليه و يغضب على من يزاحمه في ذلك و تدعوه شهوته و غضبه إلى الجور على غيره فيقع من ذلك الهرج و يختل أمر الاجتماع أما إذا كان معاملة و عدل متفق عليهما لم يكن كذلك فاذن لابد منهما و المعاملة و العدل لا يتناولان الجزئيات الغير المحصورة إلا إذا كانت لها قوانين كلية و هى الشرع فاذن لابد من شريعة، و الشريعة في اللغة مورد الشاربة و انما سمى المعنى المذكور بها لاستواء الجماعة في الانتفاع منه و هذه قاعدة ثانية.

ثم نقول: و الشرع لابد له من واضع يقنن تلك القوانين و يقررها على الوجه الذى ينبغي و هو الشارع، ثم إن الناس لو تنازعوا في وضع الشرع لوقع الهرج المحذور منه فاذن يجب أن يمتاز الشارع منهم باستحقاق الطاعة ليطيعه الباقون في قبول الشريعة. و استحقاق الطاعة إنما يتقرر بايات تدل على كون تلك الشريعة من عند ربه، و تلك الايات هي معجزاته و هي إما قولية و إما فعلية و الخواص للقولية أطوع، و العوام للفعلية أطوع. و لا يتم الفعلية مجردة عن القولية لأن النبوة و الاعجاز لا يحصلان من غير دعوة إلى خير فاذن لابد من شارع هو نبي ذو معجزة و هذه قاعدة ثالثة.

ثم ان العوام و ضعفاء العقول يستحقرون اختلال عدل النافع في امور معاشهم بحسب النوع عند استيلاء الشوق عليهم إلى ما يحتاجون إليه بحسب الشخص فيقدمون على مخالفة الشرع، و إذا كان للمطيع و العاصي ثواب و عقاب أخرويان يحملهم الرجاء و الخوف على الطاعة و ترك المعصية، فالشريعة لا تنتظم بدون ذلك انتظامها به فاذن وجب أن يكون للمحسن و للمسي‏ء جزاء من عند الاله القدير على مجازاتهم، الخبير بما يبدونه أو يخفونه من أفكارهم و أقوالهم و أفعالهم و وجب أن يكون معرفة المجازي و الشارع واجبة على الممتثلين للشريعة في الشريعة، و المعرفة العامية قلما تكون يقينية فلا تكون ثابتة فوجب أن يكون معها سبب حافظ لها و هو التذكار المقرون بالتكرار و المشتمل عليهما إنما تكون عبادة مذكرة للمعبود مكررة في أوقات متتالية كالصلوات و ما يجرى مجراها فاذن يجب أن‏ يكون النبي داعيا إلى التصديق بوجود خالق مدبر خبير، و إلى الايمان بشارع مبعوث من قبله صادق، و إلى الاعتراف بوعد و وعيد اخرويين، و إلى القيام بعبادات يذكر فيها الخالق بنعوت جلاله، و إلى الانقياد لقوانين شرعية يحتاج إليها الناس في معاملاتهم حتى يستمر بذلك الدعوة إلى العدل المقيم لحياة النوع و هذه قاعدة رابعة.

ثم إن جميع ذلك مقدر في العناية الأولى لاحتياج الخلق إليه فهو موجود في جميع الأوقات و الأزمنة و هو المطلوب و هو نفع لا يتصور نفع اعم منه.

و قد اضيف لممتثلي الشرع إلى هذا النفع العظيم الدنياوي الأجر الجزيل الأخروي حسب ما وعدوه و اضيف للعارفين منهم إلى النفع العاجل و الأجر الاجل الكمال الحقيقي المذكور، فانظر إلى الحكمة و هي تبقية النظام على هذا الوجه، ثم إلى الرحمة و هو إيفاء الأجر الجزيل بعد النفع العظيم، و إلى النعمة و هي الابتهاج الحقيقي المضاف إليهما، تلحظ جناب مفيض هذه الخيرات جنابا تبهرك عجائبه أي تغلبك و تدهشك. ثم أقم أي أقم الشرع، و استقم أي في التوجه إلى ذلك الجناب المقدس.

و إذا علم ذلك فلنرجع إلى بيان سائر فقرات الحديث، قوله عليه السلام: يعبرون عنه إلى خلقه و عباده. قال الجوهرى في الصحاح: عبرت عن فلان إذا تكلمت عنه، و المراد أن الأصل الأول فيما يسنه هذا السان المعدل الالهي هو إيقاظ فطرة الناس من نوم الغفلة عن مبدء العالم عز و جل و إنارة عقولهم من أنوار المعرفة به تعالى و إثارة نفوسهم إلى الوصول ببابه و الحضور إلى جنابه فان الايمان بالله أصل شجرة الدين و أساس بنيان السنة و الشريعة و سائر الأصول و الفروع متفرع عليه فمن عرف الله حق معرفته عرف ان له صفات عليا و أسماء حسنى لائقة بذاته و انه تعالى واجب الوجود لا يشارك شيئا من الأشياء في ماهيته و قيوم برى‏ء عن جميع انحاء التعلق بالغير و أنه تعالى لم يخلق العالم و آدم عبثا فان العبث قبيح لا يتعاطاه المبدأ الحكيم، و المبدأ الحكيم تعالى عن أن يترك الناس حياري و لا يهديهم سبيل الخير و الهدى و ما يوجب لهم عنده الزلفى، فلابد من وجوب التكليف في الحكمة و إلا لكان مغريا بالقبيح تعالى عن ذلك لأنه خلق في العبد الشهوة و الميل إلى القبائح و النفرة و التأبي عن الحسن فلو لم يقرر عبده عقله و لم يكلفه بوجوب الواجب و قبح القبيح و يعده و يتوعده لكان مغريا له بالقبيح و الاغراء بالقبيح قبيح و التكليف لا يتم إلا بالإعلام و هو لا يتم إلا بارسال الرسل المؤدبين بادابه المؤيدين من عنده بامور قدسية و كرامات الهية و معجزات و خوارق عادات.

و بالجملة من هدى عقله إلى جناب الرب هدى إلى ما يتفرع عليه فقد افلح و سعد و فاز و لذا ترى من سنة الأنبياء أن أول ما لقنوا عباد الله كلمة لا إله إلا الله و المروي عن خاتمهم صلى الله عليه و آله قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.

نعم لا يجب على السان تلقين جميع الناس معرفته تعالى على الوجه الذي لا يفهمه إلا الأوحدى من الناس الحكيم المتأله المرتاض في الفنون و العلوم فان معاشر الأنبياء بعثوا ليكلموا الناس على قدر عقولهم، و لا ريب أن الادراكات و النيل إلى المعارف و العلوم يتفاوت بحسب مراتب الناس في صفاء نفوسهم و صقالتها قال الشيخ في إلهيات الشفاء:

و يكون الأصل الأول فيما يسنه تعريفه إياهم أن لهم صانعا واحدا قادرا و أنه عالم بالسر و العلانية و أنه من حقه أن يطاع أمره فانه يجب أن يكون الأمر لمن له الخلق، و أنه قد أعد لمن أطاعه المعاد المسعد و لمن عصاه المعاد المشقي حتى يتلقى الجمهور رسمه المنزل على لسانه من الاله و الملائكة بالسمع و الطاعة و لا ينبغي له أن يشغلهم بشي‏ء من معرفة الله فوق معرفة أنه واحد حق لا شبيه له.

فأما ان يعدي بهم إلى أن يكلفهم أن يصدقوا بوجوده و هو غير مشار إليه في مكان و لا منقسم بالقول و لا خارج العالم و لا داخله و لا شي‏ء من هذا الجنس، فقد عظم عليهم الشغل و شوش فيما بين أيديهم الدين و أوقعهم فيما لا تخلص عنه إلا لمن كان المعان الموفق الذي يشذ وجوده و يندر كونه، فانه لا يمكنهم أن يتصوروا هذه الأحوال على وجهها إلا بكد و إنما يمكن القليل منهم أن يتصوروا حقيقة هذا التوحيد و التنزيه فلا يلبثوا أن يكذبوا بمثل هذا الموجود و يقعوا في تنازع و ينصرفوا إلى المباحثات و المقايسات بمثل التي تصدهم عن أعمالهم المدنية، و ربما أوقعهم في آراء مخالفة لصلاح المدينة و منافية لواجب الحق و كثرت فيهم الشكوك و الشبه و صعب الأمر على السان في ضبطهم فما كل بميسر له في الحكمة الالهية و لا السان يصلح له أن يظهر أن عنده حقيقة يكتمها عن العامة بل يجب أن لا يرخص في تعرض شي‏ء من ذلك. بل يجب أن يعرفهم جلال الله تعالى و عظمته برموز و أمثلة من الأشياء التي هي عندهم جليلة و عظيمة و يلقى إليهم مع هذا هذا القدر أعني انه لا نظير له و لا شريك له و لا شبيه.

و كذلك يجب أن يقرر عندهم أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته و يسكن إليه نفوسهم و يضرب للسعادة و الشقاوة أمثالا مما يفهمونه و يتصورونه. و أما الحق في ذلك فلو يلوح لهم منه إلا أمرا مجملا و هو أن ذلك شي‏ء لا عين رأت و لا أذن سمعته و أن هناك من اللذة ما هو ملك عظيم و من الألم ما هو عذاب مقيم.

و كذا قال زينون الكبير تلميذ ارسطاطا ليس في رسالته في المبدأ و المعاد:النبي يضع السنن و الشرائع و يأخذ الأمة بالترغيب و الترهيب يعرفهم أن لهم الها مجازيا لهم على أفعالهم يثيب الخير و يعاقب على الشر و لا يكلفهم بعلم ما لا يحتملونه فان هذه الرتبة هي رتبة العلم أعلى من أن يصل إليها كل أحد. ثم قال: قال معلمي ارسطاطاليس حكاية عن معلمه افلاطن: إن شاهق المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كل طائر و سرادق البصيرة أحجب من أن يحوم حوله كل سائر.

أقول: و كأن الشيخ الرئيس قد لاحظ عبارة زينون فيما قاله في آخر النمط التاسع من الاشارات: جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحدا بعد واحد.

قوله عليه السلام: و يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما به بقاؤهم و في تركه فناؤهم ذلك لما مر آنفا من أن الانسان مدني بالطبع محتاج في تعيشه و بقائه إلى اجتماع فلا بد لهم من سان معدل يدبر امورهم و يعلمهم طريق المعيشة في الدنيا و النجاة من العذاب في العقبى و لو لا هذا السان لوقع الهرج و اختل أمر الاجتماع و لزم مفاسد كثيرة اخرى. ذكر بعضها من قبل و نعم ما قال الشيخ في الشفاء:

فالحاجة إلى هذا الانسان في أن يبقى نوع الناس و يتحصل وجوده أشد من الحاجة إلى انبات الشعر على الأشفار على الحاجبين و تقعير الأخمص من القدمين و اشياء اخرى من المنافع التي لا ضرورة فيها في البقاء بل أكثر ما لها أنها ينفع في البقاء، و وجود الإنسان الصالح لأن يسن و يعدل ممكن فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضى تلك المنافع و لا تقتضى هذه التى هى اسها، و لا أن يكون المبدأ الأول و الملائكة بعده يعلم ذلك و لا يعلم هذا، و لا أن يكون ما يعلمه في نظام الخير الممكن وجوده الضرورى حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد بل كيف يجوز أن لا يوجد، و ما هو متعلق بوجوده مبنى على وجوده موجود فواجب إذن أن يوجد نبى.

ثم ان في قوله عليه السلام: يدلونهم على مصالحهم، إشارة إلى ما ذهب إليه العدلية من أن الأحكام الالهية متفرعة على مصالح و المفاسد لا كما مال اليه الأشعرى.

قوله عليه السلام: فثبتت الامرون و الناهون عن الحكيم العليم في خلقه و المعبرون عنه جل و عز. هذه نتيجة ما قدم عليه السلام من المقدمات البرهانية العقلية المستحكمة المباني: الأولى أن لنا صانعا، و الثانية انه متعال عن أوصاف مخلوقه. فلم يجز أن يشاهده خلقه و يباشروه فلا بد من وسائط، الثالثة انه حكيم عالم بوجوه الخير و المنفعة في النظام و سبيل المصلحة للخلائق في المعيشة و القوم و البقاء و الدوام و الحكيم لا يخل بالواجب، الرابعة ان الانسان مدنى بالطبع فلابد له من سان معدل.

قوله عليه السلام: هم الأنبياء و صفوته من خلقه إلى قوله: ثم ثبت. بين عليه السلام في هذه الفقرات أمرين: الأول ان النبي لابد أن يكون بشرا حيث قال: على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب. الثاني انه مع البشرية يجب أن يكون متميزا من سائر الناس باوصاف قدسية خلقا و خلقا حيث قال: غير مشاركين‏ للناس في شي‏ء من أحوالهم.

أما الأول اعنى كونه من جنس البشر فلوجوه: الأول انس الناس به فان الجنس إلى الجنس يميل و لنعم ما نظم العارف الرومي في المقام:

يك زنى آمد به پيش مرتضى‏ گفت شد بر ناودان طفلى مرا
گرش مى ‏خوانم نمى ‏آيد بدست‏ ور هلم ترسم كه او افتد به پست‏
نيست عاقل تا كه دريابد چو ما گر بگويم كز خطر پيش من آ
هم اشارت را نمى ‏داند بدست‏ ور بداند نشنود اين هم بد است‏
بس نمودم شير پستان را بدو او همى گرداند از من چشم و رو
از براى حق شماييد اى مهان‏ دستگير اين جهان و آن جهان‏
زود درمان كن كه مى ‏لرزد دلم‏ كه بدرد از ميوه دل بگسلم‏
گفت طفلى را برآور هم ببام‏ تا به بيند جنس خود را آن غلام‏
سوى جنس آيد سبك زان ناودان‏ جنس بر جنس است عاشق جاودان‏
زن چنان كرد و چو ديد آن طفل او جنس خود خوش خوش بدو آورد رو
سوى بام آمد ز متن ناودان‏ جاذب هر جنس را همجنس دان‏
غژغژان آمد بسوى طفل طفل‏ وارهيد از اوفتادن سوى سفل‏
زان شدستند از بشر پيغمبران‏ تا بجنسيت رهند از ناودان‏
پس بشر فرمود خود را مثلكم‏ تا بجنس آيند و كم گردند گم‏
ز ان كه جنسيت بغايت جاذبست‏ جاذبش جنس است هر جا طالبست‏

و الوجه الثاني الناس في حالتهم العادية لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته التي خلق عليها لانه روحاني الذات و القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك بل الجن ما لم يتجسما و يتمثلا بالأجسام الكثيفة و الأمثال المرئية و ان كانا يرانا كما قال تعالى في الشيطان‏ إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم‏ بل ابصارنا لا تقوى على رؤية بعض الأجسام من عالمنا هذا أيضا كالهواء و العناصر البسيطة التي يتألف منها الهواء فكيف تقدر على رؤية ما هو ألطف من الهواء كالجن‏ و ما هو ألطف من الجن كالملك و ما هو ألطف منه.

ثم لو فرض أن يتمثل الملك أو يتجسد أو يتجسم بحيث عاينه الناس لكان في صورة البشر أيضا للوجهين المتقدمين قال عز من قائل: و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون‏. و لذلك كان جبرئيل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه و آله في صورة دحية الكلبي. و الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم في صورة الضيفان حتى قدم إليهم عجلا جسدا و كذلك الذين أتوا لوطا و كذلك لما تسور المحراب على داود الملكان كانا في صورة رجلين يختصمان إليه و جبرئيل تمثل لمريم بشرا سويا نعم يمكن للأنبياء ان يروا بقوتهم القدسية الملائكة و اشباههم على صورتهم الأصلية كما جاءت عدة روايات ان خاتمهم صلى الله عليه و آله رأى جبرئيل على صورته الأصلية مرتين و سيأتي الكلام في ذلك في خواص الأنبياء.

الوجه الثالث النبي لو كان ملكا و إن تجسم بشرا لما يتم الحجة على الناس و لا يسلمه العقول و لا تنقاده النفوس لانه ان ظهرت أية معجزة منه لقالوا لو كان لنا مثل ما كان لك من القدرة و القوة و العلم و غيرها من الصفات القاهرة على صفات البشر لفعلنا مثل فعلك فتقوى الشبهات من هذه الجهة و بذلك علم ضعف ما تخيل ضعفاء العقول من الناس أن الأنبياء إذا كانوا من طائفة الملائكة من حيث إن علومهم أكثر و قدرتهم أشد و مهابتهم أعظم و امتيازهم عن الخلق أكمل و الشبهات و الشكوك في نبوتهم و رسالتهم أقل و الحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكل شي‏ء كان أشد إفضاء إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى.

و هذه الوجوه الثلاثة ما أجاب بها رسول الله صلى الله عليه و آله مشركى القريش لما جادلوه و احتجوا عليه بقولهم: لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك و نشاهده و لو اراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا كما هو المروي في الاحتجاج للطبرسي رضوان الله عليه و البحار و كثير من كتب الحديث: ان رسول الله صلى الله عليه و آله كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة إذا اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي و أبو البختري بن هشام و أبو جهل بن هشام‏ و العاص بن وائل السهمي و عبد الله بن أبي أمية المخزومي و كان معهم جمع ممن يليهم كثير و رسول الله صلى الله عليه و آله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله و يؤدي إليهم عن الله أمره و نهيه فقال المشركون بعضهم لبعض: لقد استفحل أمر محمد و عظم خطبه فتعالوا نبدأ بتقريعه و تبكيته و توبيخه و الاحتجاج عليه و ابطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه و يصغر قدره عندهم فلعله ينزع عما هو فيه من غيه و باطله و تمرده و طغيانه، فان انتهى و إلا عاملنا بالسيف الباتر. قال أبو جهل: فمن الذي يلي كلامه و مجادلته؟ قال عبد الله بن أبي امية المخزومي: أنا إلى ذلك، أ فما ترضاني له قرنا حسيبا و مجادلا كفيا؟ قال أبو جهل: بلى. فأتوه بأجمعهم فابتدأ عبد الله بن أبي امية المخزومي فقال:

يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة و قلت مقالا هائلا زعمت أنك رسول الله رب العالمين و ما ينبغي لرب العالمين و خالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا تأكل مما نأكل و تمشى في الأسواق كما نمشي- و ساق الحديث إلى أن قال- قال المخزومي: و لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك و نشاهده بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا ما أنت يا محمد إلا مسحورا و لست نبيا- و ساق الحديث إلى أن قال:

ثم قال رسول الله صلى الله عليه و آله: و أما قولك: «و لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك و نشاهده بل لو اراد أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث لنا ملكا لا بشرا مثلنا» و الملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لا عيان منه و لو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر لانه إنما كان يظهر لكم بصورة البشر الذي قد ألفتموه لتفهموا عنه مقالته و تعرفوا خطابه و مراده فكيف كنتم تعلمون صدق الملك و ان ما يقوله حق؟ بل إنما بعث الله بشرا و أظهر على يده المعجزات التي ليست في طبايع البشر الذين قد علمتم ضمائر قلوبهم فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنه معجزة و أن ذلك شهادة من الله بالصدق له و لو ظهر لكم ملك و ظهر على يده ما تعجز عنه البشر لم يكن في ذلك ما يدلكم ان ذلك لكم‏ ليس في طبايع سائر أجناسه من الملائكة حتى يصير ذلك معجزا ألا ترون أن الطيور التي تطير ليس ذلك منها بمعجز لأن لها أجناسا تقع منها مثل طيرانها و لو أن آدميا طار كطيرانها كان ذلك معجزا فالله عز و جل سهل عليكم الأمر و جعله بحيث يقوم عليكم حجته و أنتم تقترحون عمل الصعب الذي لا حجة فيه.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه و آله: و أما قولك: «ما أنت إلا رجل مسحور» فكيف أكون كذلك و قد تعلمون انه في صحة التميز و العقل فوقكم فهل جربتم على منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خزية أو ذلة أو كذبة أو خيانة أو خطأ من القول أو سفها من الرأى أ تظنون أن رجلا يعتصم طول هذه المدة بحول نفسه و قوتها أو بحول الله و قوته- إلى آخر الحديث بطوله.

أما الأمر الثاني اعني أن النبي مع البشرية يجب أن يكون متميزا عن سائر الناس باوصاف قدسية، فاشار عليه السلام إليها بقوله: ان الأنبياء صفوته من خلقه أولا، و انهم حكماء مؤدبين في الحكمة ثانيا، و مبعوثين بها ثالثا، و غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب في شي‏ء من أحوالهم رابعا، مؤيدون عند الحكيم العليم بالحكمة خامسا. و هذه امور لابد للناظر من البحث عنها و النيل إلى حقيقة مغزاها.

و اعلم أن الأنبياء لكونهم سفراء له تعالى إلى خلقه و امناءه على وحيه و خلفاءه لابد من أن يكونوا متصفين بالأوصاف القدسية الالهية و متخلقين بالأخلاق الربوبية فان الخليفة لابد و أن يكون موصوفا بصفات المستخلف حتى يتحقق له اسم الخلافة و العناية الأزلية تأبى بعث من لم يكن كذلك لبعده عن الاتصاف بصفات الحق و الاتصال بحضرة القدس. و قد قال الحكماء و منهم الشيخ في الشفاء ان النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن يصير عالما عقليا مرتسما فيها صور الكل و النظام المعقول في الكل و الخير الفائض في الكل و أفضل الناس من استكملت نفسه عقلا بالفعل محصلا و للأخلاق التي تكون فضائل عملية و أفضل هؤلاء هو المستعد لمرتبة النبوة و هو الذي في قواه النفسانية خصائل ثلاث: أن يعلم جميع المعلومات أو أكثرها من عند الله، و أن يطيعه مادة الكائنات باذن الله، و أن يسمع كلام الله و يرى ملائكة الله.

أما العلم بجميع المعلومات و الاطلاع على الأمور الغايبة من غير كسب و فكر فيحصل من صفاء جوهر النفس و شدة صقالتها و نورانيتها الموصل لها إلى المبادي العالية و شدة الاتصال بها.

و أما اطاعة مادة الكائنات فبسبب شدة انسلاخهم عن النواسيت الانسانية تدوم عليهم الاشراقات العلوية بسبب الاستضاءة بضوء القدس و الإلف بسنا المجد فتطيعهم المادة العنصرية القابلة للصور المفارقة فيتأثر المواد عن أنفسهم كما يتأثر أبدانهم عنها، فلهذا يكون دعاؤهم مسموعا في العالم الأعلى و القضاء السابق و يتمكن في أنفسهم نور خلاق به يقدرون على بعض الأشياء التي يعجز عنها غيرهم.

قال الله تعالى في عيسى بن مريم عليهما السلام‏ و رسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله و أبرئ الأكمه و الأبرص و أحي الموتى بإذن الله و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين‏ (آل عمران. الاية 44).

و أما الخصلة الثالثة فلأن الأنبياء لهم نفوس مقدسة قلت شواغلها عن الحواس الظاهرة فتخلصت بذلك عن المادة الجسمانية فلم يكن بينها و بين الأنوار حجب و لا شواغل لأنها من لوازم المادة فإذا تخلصت النفس عن تعلقاتها كانت مشاهدة للأنوار و المفارقات البرئية عن الشوائب المادية و اللواحق الغريبة و لذا يكونون مشاهدين للملائكة على صورهم بقوتهم القدسية، سامعين لكلامهم، قابلين لكلام الله تعالى بطريق الوحى و معلوم أن المادة التي تقبل هذه الخصائل و الكمالات تقع في قليل من الأمزجة و لذا قال عليه السلام: إن الأنبياء و صفوته من خلقه، فمزاجهم اعدل الأمزجة الانسانية و نفسهم الفائضة من الأول تعالى ألطف و أشد و أقوى و أوسع وجودا من غيرها، فهم غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب‏ في شي‏ء من أحوالهم، و قوله عليه السلام: في شي‏ء من أحوالهم تتعلق بقوله غير مشاركين للناس.

و اعلم أن الله جعل المزاج الانساني أعدل الأمزجة لتستوكره نفسه الناطقة التي هي أشرف النفوس و لابد أن يكون وكرها لائقا لها و قال المعلم الثاني أبو نصر الفارابي في المختصر الموسوم بعيون المسائل كما نقله عنه المحقق الطوسي في آخر النمط الثاني من شرحه على الاشارات: حكمة الباري تعالى في الغاية لأنه خلق الأصول (يعني بها العناصر) و أظهر منها الأمزجة المختلفة و خص كل مزاج بنوع من الأنواع و جعل كل مزاج كان أبعد عن الاعتدال سبب كل نوع كان أبعد عن الكمال و جعل النوع الأقرب من الاعتدال مزاج البشر حتى يصلح لقبول النفس الناطقة انتهى.

و كما أن النفس الناطقة مميزة عن سائر النفوس باثار و أفعال تخص بها و لابد أن يكون مزاجها المتعلق بها اعدل من غيره كذلك الأنبياء الذين غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب في شي‏ء من أحوالهم و أفعالهم لابد من أن يكون مزاجهم أعدل الأمزجة الانسانية اللائق بنفوسهم القدسية.

و لما كان الأنبياء عليهم السلام بعضهم أفضل من بعض كما قال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات‏ الاية (البقرة: 255) فلابد من أن يكونوا متفاوتين في اعتدال المزاج و صفاء النفس الناطقة القدسية و سعتها الوجودية و كذا الكلام في خاتمهم الذي هو أكمل موجود في النوع الانساني و اوتى جوامع الكلم التي هي امهات الحقائق الالهية و الكونية، و لذا كان الروح المحمدي صلى الله عليه و آله أول دليل على ربه لأن الرب لا يظهر إلا بمربوبه و مظهره و كمالات الذات بأجمعها انما تظهر بوجوده الأكمل. و المروي عنه صلى الله عليه و آله: و الله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني.

قوله عليه السلام: حكماء مؤدبين في الحكمة. أي أدبهم الله تعالى في الحكمة يقال: أدبه إذا هذبه و راض أخلاقه و أد به في أمر إذا علمه و راضه حتى تأدب فيه و في الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير نقلا عن ابن عدي في الكامل عن‏ ابن مسعود انه صلى الله عليه و آله قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي. و من حيث انهم عليهم السلام حكماء مؤدبين في الحكمة و الحكمة هو العدل و الوسط في كل أمر فهم على الجادة الوسطى التي ليست النجاة إلا بالاستقامة فيها فمن اقتدى بهم و اقتفى آثارهم فقد هدى إلى الصراط المستقيم فان الحجج الالهية في الحقيقة موازين للناس و نبي كل امة هو ميزان تلك الأمة لأن ميزان كل شي‏ء بحسبه هو المعيار الذي يعرف به قدره و حده و صحته و سقمه و زيادته و نقصانه و استواؤه فقد يكون ذلك الشي‏ء من الأجسام فميزانه ما وضع من جنسه من الأحجار و غيرها كالمد و المن و المكاييل و الزرع و غيرها لتعيين وزن ذلك الشي‏ء و تقديره و قد يكون ذلك الشي‏ء من الكلمات فيوزن صحتها و اعتلالها بميزانه الذي هو الفاء و العين و اللام كما بين في علم الصرف. و علم المنطق يكون ميزانا لتمييز النتيجة الصحيحة من السقيمة، و علم العروض ميزانا للأشعار، و ميزان الناس ما يوزن به قدر كل امرء و قيمته على حسب أعماله و أخلاقه و عقائده و صفاته و حيث ان الأنبياء بعثوا على الحق و لا يميلون عن العدل مقدار قطمير و لا يصدر منهم سهو و لا نسيان فهم معيار الحق و ميزان الصدق و فيصل الأمور فمن تأسي بهم و حذا حذوهم فقد فاز فوزا عظيما و إلا فقد خسر خسرانا مبينا.

و بما ذكرنا علم ما في الكافي عن الامام الصادق عليه السلام من انه سئل عن قول الله‏ و نضع الموازين القسط ليوم القيامة (الأنبياء: 48)؟ قال: هم الأنبياء و الأوصياء و كذا في رواية اخرى عنه عليه السلام: نحن الموازين القسط.

قوله عليه السلام: مؤيدون عند الحكيم العليم بالحكمة، أى كما انهم مؤدبون في الحكمة كذلك مؤيدون بالحكمة من عنده تعالى تدل على صدق مقالته و جواز عدالته ليميز الخبيث من الطيب و الحق من الباطل فلو لم يكونوا مؤيدين بها من عنده تعالى بالحكمة أعني بالبينات و المعجزات القولية و الفعلية لما يفصل بين النبي و المتنبي، قال عز من قائل‏ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط (الحديد: 26).

قوله عليه السلام: ثم ثبت ذلك- إلى آخره لما هدينا العقل بتلك المقدمات إلى هذا المطلب الاسنى فدل على أن الأرض لا تخلو في كل دهر و زمان من لدن خلق البشر إلى قيام القيامة من حجة الهية و دريت أن الخليفة في الأول قبل الخليفة و في الاخر بعدها لئلا يحتج أحد على الله تعالى انه تركه بغير حجة لله عليه.

الحديث الخامس‏

في الكافي بإسناده إلى منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن الله أجل و أكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله قال: صدقت قلت: إن من عرف أن له ربا فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا و سخطا و أنه لا يعرف رضاه و سخطه إلا بوحي أو رسول فمن لم يأته الوحي فينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة و أن لهم الطاعة المفترضة فقلت للناس: أليس تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و آله كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت: فحين مضى عليه السلام من كان الحجة؟ قالوا: القرآن فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجى و القدرى و الزنديق الذى لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم فما قال فيه من شي‏ء كان حقا فقلت لهم: من قيم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم و عمر يعلم و حذيفة يعلم، قلت:

كله؟ قالوا: لا، فلم أجد أحدا يقال: انه يعرف القرآن كله إلا عليا عليه السلام و إذا كان الشي‏ء بين القوم فقال هذا: لا أدرى و قال هذا: لا أدرى و قال هذا: لا أدري و قال هذا: أنا أدرى فأشهد أن عليا كان قيم القرآن و كانت طاعته مفروضة و كان الحجة على الناس بعد رسول الله و أن ما قال في القرآن فهو حق فقال:رحمك الله- إلى آخر الحديث.

بيان هذا الحديث مشتمل على مطالب عقلية مهدت للزوم الحجة على الناس ما دامت الأرض باقية يأمرهم بالخير و الصلاح و يهديهم إلى سبيل الرشاد و لابد أن يكون معه علم بالله و آياته. و تلك المطالب رتبت على اسلوب بديع و أساس متين الأول أن الله أجل و أكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله و ما أحسن هذا القول و أحلاه و يعلم منه أن منصور بن حازم كان حازما حاذقا في اصول العقائد و غرضه من ذلك إما أن معرفة الله تعالى فطرى غريزي فطرة الله التي فطر الناس عليها و العقل وحده كاف في معرفته عز و جل و هو القائد إلى جنابه و اصول صفاته فلا يحتاج الإنسان في معرفته تعالى إلى خلقه بما اعطاه من العقل يسلكه إلى الصراط المستقيم قال عز من قائل‏ و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها فهو تعالى أجل و أكرم من أن يعرف بخلقه بل يعرف بالعقل الذي اعطاه خلقه.

و إما أن الله جل جلاله هو الغني القائم بالذات واجب الوجود في ذاته و صفاته و ما سواه ممكن مفتقر إليه و مستند به تعالى ظاهر بظهوره و موجود بوجوده‏ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد و هو تعالى لارتفاع مكانه و جلال كبريائه و شدة وجوده و بساطته أجل من أن يعرف بخلقه على انه تعالى لا حد عليه و لا ضد و لا ند حتى يعرف بها بل هو سبب كل شي‏ء و علته فهو الأول عند اولى الأبصار، فإن أول ما يعرف من عرفان كل شي‏ء هو الله تعالى قال سيد الموحدين علي أمير المؤمنين عليه السلام: ما عرفت شيئا إلا و قد عرفت الله قبله و قال عليه السلام: اعرفوا الله بالله.

و من كلام مولانا سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك. و قال أيضا: تعرفت لكل شي‏ء فما جهلك شي‏ء و قال:تعرفت إلى في كل شي‏ء فرأيتك ظاهرا في كل شي‏ء فأنت الظاهر لكل شي‏ء.

فهو تعالى أجل و أكرم من أن يعرف ذاته و من جهة خلقه بل لا يعرف غيره على الحقيقة إلا به.

و إما أنه تعالى أجل و أكرم من أن يدرك عامة الناس لطائف صنعه و دقائق حكمته و مصلحته في فعله و قوله بل الخلق يعرفونها بالله تعالى اى بارساله الرسل و انزاله الكتب و الظاهر أن خير الوجوه أوسطها.

و المطلب الثاني أن من عرف ان له ربا عرف ان لذلك الرب صفات قدوسية متعالية لائقة بجنابه فلما عرف ذلك بنور العقل السليم و العقل السليم يشتاق التقرب إلى جنابه و يطلب ما يوصله ببابه لأن الانسان جبل‏ على النيل إلى السعادة و الميل عن الشقاوة سيما السعادة الدائمة الأبدية التي لا تحصل إلا بالتخلق بأخلاق الله و الاتصاف بصفاته العليا و ليس كل طريق و فعل و قول بمقرب الناس إليه تعالى بالضرورة فيحتاج إلى هاد يهديه سبل الخير و ما فيه رضوانه تعالى و ما فيه سخطه و لا يتأتى ذلك إلا بالوحى و لا يوحى إلى كل واحد من آحاد الناس لعدم قابلية كل واحد لذلك فان للنبوة صفات خاصة لا يتحملها إلا الأوحدى من الناس المؤيد من عند الله تبارك و تعالى كما حقق في محله فالعقل السليم يطلب من الله تعالى ارسال الرسل فلو لا البعثة لكان الله تعالى ظالما لعباده فاذا اوحى الله تعالى ما فيه خير البرية و سعادته و ما يوجب رضوانه تعالى و سخطه إلى رسول بالبراهين و المعجزات و البينات فيأخذ الناس معالم دينه و معارف شريعته من الرسول قال عز من قائل‏ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و قال تعالى‏ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن‏.

المطلب الثالث ان الحجة على الناس بعد خاتم النبيين من هو؟ و هذا المطلب في المقام هو الأهم لأن المسلمين اتفقوا في وجود من يكون حافظا للشرع من الزيادة و النقصان و للأمة من الظلم و الطغيان كما علم على ما بيناه في المباحث السالفة و انما الكلام في ذلك الحجة بعد النبي صلى الله عليه و آله و هو إما الكتاب أو السنة المتواترة أو الخبر الواحد أو الاجماع أو القياس أو البراءة الأصلية أو الاستصحاب أو العالم القائم مقام النبي و الأخير أيضا على وجهين: إما العالم مطلقا أو العالم المعصوم من الذنوب، المنزه من العيوب، المنصوب من عند علام الغيوب، المؤيد بتأييدات سماوية، المهدي بهداية الهية و هذه وجوه محتملة في المقام لابد للبصير الناقد أن ينظر فيها و يبحث عنها.

فنقول: أما الكتاب فهو كما قال منصور بن حازم يخاصم به المرجى و القدرى و الزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته فالقرآن لا يكون حجة إلا بقيم.

و نزيدك بيانا في المقام حتى يتبين الحق فنقول: لا ريب ان لله تعالى في كل واقعة و في كل ما يحتاج إليه الناس في معاشهم و معادهم حكما و هي امور غير متناهية و كذا لا ريب أن الله تعالى نزل القرآن تبيانا لكل شي‏ء كما نص به عز من قائل في سورة النحل آية 92 و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي‏ء و هدى و رحمة و بشرى للمسلمين‏. و في الأنعام آية 39: ما فرطنا في الكتاب من شي‏ء. و في ذلك روى ثقة الاسلام الكليني قدس سره في اصول الكافي بإسناده عن مرازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال إن الله تعالى انزل في القرآن تبيان كل شي‏ء حتى و الله ما نزل الله شيئا يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا انزل في القرآن إلا و قد أنزله الله فيه.

و فيه أيضا بإسناده إلى عمرو بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول ان الله تعالى لم يدع شيئا يحتاج إليه الامة إلا أنزله في كتابه و بينه لرسوله صلى الله عليه و آله و جعل لكل شي‏ء حدا و جعل عليه دليلا يدل عليه و جعل على من تعدي ذلك الحد حدا. و كذا غيرهما من الأخبار الاخر في ذلك الباب.

و كذا لا ريب ان القرآن لم يبين تلك الفروع و الأحكام الجزئية و كل ما يحتاج إليه الناس في امورهم الدينية و الدنيوية على التفصيل و البسط و هذا لا ينافي قوله عز و جل في الايتين المذكورتين لأن الكتاب مشتمل على اصول كلية يستنبط منها الأحكام الجزئية و القوانين الالهية من كان عارفا بها حق المعرفة فلنقدم لك مثالا في ذلك توضيحا للمراد.

قال المفيد في إرشاده: و روى عن يونس عن الحسن أن عمر أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم برجمها فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك إن الله تعالى يقول: و حمله و فصاله ثلاثون شهرا و يقول جل قائلا: و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة فإذا تممت المرأة الرضاعة سنتين و كان حمله و فصاله ثلاثين شهرا كان الحمل منها ستة أشهر فخلى عمر سبيل المرأة و ثبت الحكم بذلك فعمل الصحابة و التابعون و من أخذ عنه إلى يومنا هذا انتهى.

و كذا غيره من الوقائع التى قضى فيها أمير المؤمنين على عليه السلام بكتاب الله مما يحير العقول فهذا الحكم كان ثابتا في الكتاب المجيد و لكن لا تبلغه عقول الرجال إلا الكمل منهم الذين هداهم الله إليه و علمهم معالم دينه و جاءت الرواية في ذلك في الكافي بإسناده عن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله عليه السلام ما من أمر يختلف فيه إثنان إلا و له أصل في كتاب الله و لكن لا تبلغه عقول الرجال.

و نظير ما نقله المفيد جاء في الكافي للكليني باسناده عن علي بن يقطين قال:سأل المهدى أبا الحسن عليه السلام عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله تعالى فان الناس إنما يعرفون النهى عنها و لا يعرفون التحريم لها.

فقال له أبو الحسن عليه السلام: بل هي محرمة في كتاب الله تعالى يا أمير المؤمنين فقال له: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله يا أبا الحسن؟. فقال: قول الله تعالى‏ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق‏ فأما قوله: ما ظهر منها، يعني زنا المعلن و نصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية. و أما قوله تعالى: و ما بطن‏، يعني ما نكح من الاباء لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه و آله إذا كان للرجل زوجة و مات عنها يزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن امه فحرم الله تعالى ذلك. و أما الإثم، فانها الخمر بعينها و قد قال الله تعالى في موضع آخر يسئلونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس‏ فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمر و الميسر و اثمهما أكبر كما قال الله تعالى. فقال المهدي: يا على بن يقطين فهذه فتوى هاشمية.

قال: قلت له: صدقت و الله يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت قال: فو الله ما صبر المهدى أن قال لى: صدقت يا رافضى.

تنبيه‏

و اعلم أن نظائرهما المروية عن أئمتنا عليهم السلام المستنبطة من ضم الايات القرآنية بعضها من بعض غير عزيز و استبصر من هذا أنما يعرف القرآن من خوطب به و أن القرآن يفسر بعضه بعضا. قال عز من قائل: و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي‏ء. و معلوم أن من الأشياء القرآن نفسه فهو تبيان لنفسه أيضا و لكن لاتبلغه عقول الرجال كما دريت. و ان للاستنباط من الكتاب رجالا عينهم الله لنا في كتابه: و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏ (النساء: 86).

على أنا نقول: إن في الكتاب محكما و متشابها و ناسخا و منسوخا و عاما و خاصا و مبينا و مجملا تمييزها و استنباط الفروع الجزئية و الأحكام الالهية منها صعب مستصعب جدا بل خارج عن طوق البشر الا من اختاره الله و علمه فقه القرآن و ملأ قلبه علما و فهما و حكما و نورا و من المجمل في الكتاب قوله تعالى‏ السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما فان اليد يطلق على العضو المعروف إلى الاشاجع و إلى الزند و إلى المرفق و إلى المنكب فيقال ادخلت يدي في الماء إلى الأشاجع و إلى الزند و إلى المرفق و إلى المنكب و اعطيت بيدي و إنما اعطاه بأنامله و كتبت بيدي و إنما كتبه بأصابعه و الاستعمال ظاهر في الحقيقة فيحصل الاشتراك و يأتي الاجمال في حد القطع كما انها مجملة في ان المراد قطع يدي السارق كلتيهما أو إحداهما و على الثاني اليد اليمنى أو اليسرى و كذا في المقدار المسروق الذي تقطع فيه أيديهما و في من تكررت منه السرقة بعد القطع أو قبل القطع و غيرها من أحكام السرقة المدونة في كتب الحديث و الفقه و كذا غيره من الاحكام و الفرائض مثل فرض الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و حد الزنا و نظائرها مما نزل في الكتاب مجملا فلابد لها من مفسر و مبين.

ثم انه لو كان كتاب الله وحده بلا قيم و مفسر و مبين كافيا لما أمر الله تعالى باطاعة الرسول في عدة مواضع من كتابه الكريم كما حررناه من قبيل و دريت ان القائل حسبنا كتاب الله خبط خبط عشواء.

 «الكلام في ان السنة وحدها لا تكون حجة إلا بقيم»

و أما السنة فالكلام فيها الكلام في الكتاب فان كلام حجج الله تعالى دون كلام خالق و فوق كلام مخلوق و لكثير من الروايات ان لم نقل لجميعها وجوه محتملة و قد يعارض بعضها بعضا و لبعضها بطون علمية كالايات القرآنية فقد روى‏

الصدوق في المجلس الأول من اماليه باسناده عن عمرو بن اليسع عن شعيب الحداد قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: ان حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للايمان أو مدينة حصينة قال عمرو: فقلت لشعيب: يا أبا الحسن و أي شي‏ء المدينة الحصينة؟

قال: فقال: سألت الصادق عليه السلام عنها فقال لى: القلب المجتمع. على أن الروايات ليست بوافية في جميع الأحكام على سبيل التنصيص في الجزئيات بل كليات أيضا يستنبط منها تلك الفروع الجزئية مع أن الروايات أكثرها منقولة بالمعنى و لم يثبت بقاؤها على هيئتها التي صدرت عن المعصوم عليه السلام اعني أنها لم تتواتر لفظا و إن تواتر مدلول كثير منها حتى ذهب الشهيد الثاني في الدارية إلى أن رواية واحدة يمكن ادعاء تواتره لفظا حيث قال: و التواتر يتحقق في اصول الشرايع كثيرا و قليل في الأحاديث الخاصة و إن تواتر مدلولها حتى قال أبو الصلاح من سئل عن ابراز مثال لذلك اعياه طلبه، نعم حديث من كذب على متعمدا فليتبوء مقعده من النار يمكن ادعاء تواتره فقد نقل نقله عن النبي صلى الله عليه و آله من الصحابة الجم الغفير. انتهى.

قال المجلسي (ره) في مرآة العقول: من المعلوم أن الصحابة و أصحاب الأئمة عليهم السلام لم يكونوا يكتبون الأحاديث عند سماعها و يبعد بل يستحيل عادة حفظهم جميع الألفاظ على ما هي عليه و قد سمعوها مرة واحدة خصوصا في الأحاديث الطويلة مع تطاول الأزمنة و لهذا كثيرا ما يروى عنهم المعنى الواحد بألفاظ مختلفة انتهى ما اردنا من نقل كلامه.

أما القرآن الكريم فانه المنزل من الله تعالى المحفوظ على هيئته التي نزلت بلا تغيير و تبديل في ألفاظه بلا خلاف بل اتفق الكل من المسلمين و غيرهم على أن القرآن بين الكتب المنزلة هو الكتاب الذي لم يتطرق إليه تحريف أو تصحيف أو زيادة أو نقصان مطلقا.

فاذا كان الأحاديث على ذلك المنوال فيأتي البحث في الأخبار على اطوار كثيرة مضبوطة في كتب الدراية و الرجال و غيرهما مثلا ينظر في الراوى هل كان أهلا للنقل أم لا كما روى الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام‏ أسمع الحديث منك فأزيد و أنقص. قال: إن كنت تريد معناه (معانيه- خ ل) فلا بأس.

و بالجملة الكلام في القرآن و الحديث هو ما ذكره مولى الموحدين أمير المؤمنين علي عليه السلام نقله الرضي في النهج كما مضى في الخطبة الثمانية و المأتين و كذا نقله الكليني في الكافي و في الوافي (ص 62 م 1).

روي الكليني بإسناده عن أبان بن عياش عن سليم بن قيس الهلالي قال:قلت لأمير المؤمنين عليه السلام: اني سمعت من سلمان و المقداد و أبي ذر شيئا من تفسير القرآن و أحاديث عن نبي الله غير ما في أيدي الناس ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم و رأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن و من الأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه و آله أنتم تخالفونهم فيها و تزعمون ان ذلك كله باطل أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه و آله متعمدين و يفسرون القرآن بارائهم قال: فأقبل عليه السلام علي فقال: قد سألت فافهم الجواب:إن في أيدي الناس حقا و باطلا و صدقا و كذبا و ناسخا و منسوخا و عاما و خاصا و محكما و متشابها و حفظا و وهما و قد كذب على رسول الله صلى الله عليه و آله على عهده حتى قام خطيبا فقال: أيها الناس قد كثرت على الكذابة فمن كذب على متعمدا فليتبؤه مقعده من النار ثم كذب عليه من بعده.

و انما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الايمان متصنع بالاسلام لا يتأثم و لا يتحرج ان يكذب على رسول الله متعمدا فلو علم الناس انه منافق كذاب لم يقبلوا منه و لم يصدقوه و لكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله و رآه و سمع منه فيأخذون عنه و هم لا يعرفون حاله و قد اخبر الله عن المنافقين بما اخبره و وصفهم بما وصفهم فقال تعالى‏ و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و إن يقولوا تسمع لقولهم‏ ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة و الدعاة إلى النار بالزور و الكذب و البهتان فولوهم الأعمال و حملوهم على رقاب الناس و أكلوا بهم الدنيا و انما الناس مع الملوك و الدنيا إلا من عصم الله فهذا أحد الأربعة.

و رجل سمع من رسول الله صلى الله عليه و آله شيئا لم يحمله على وجهه و وهم فيه و لم يتعمد كذبا فهو في يده يقول و يعمل به و يرويه و يقول أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و آله فلو علم المسلمون انه و هم لم يقبلوه و لو علم هو انه و هم لرفضه.

و رجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه و آله شيئا أمر به ثم نهى عنه و هو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شي‏ء ثم أمر به و هو لا يعلم فحفظ منسوخه و لم يحفظ الناسخ فلو علم انه منسوخ لرفضه و لو علم المسلمون إذ سمعوه منه انه منسوخ لرفضوه.

و آخر رابع لم يكذب على رسول الله صلى الله عليه و آله مبغض للكذب خوفا من الله و تعظيما لرسوله لم ينسه بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه و لم ينقص منه و علم الناسخ و المنسوخ و عمل بالناسخ و رفض المنسوخ فان أمر النبي صلى الله عليه و آله مثل القرآن ناسخ و منسوخ و خاص و عام و محكم و متشابه قد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه و آله الكلام له وجهان كلام عام و كلام خاص مثل القرآن و قال الله تعالى في كتابه‏ ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا فيشتبه على من لم يعرف و لم يدر ما عنى الله به و رسوله صلى الله عليه و آله. و ليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله كان يسأله من الشي‏ء يفهم و كان منهم من يسأله و لا يستفهمه حتى ان كانوا ليحبون أن يجي‏ء الأعرابي و الطاري فيسأل رسول الله صلى الله عليه و آله حتى يسمعوا.

أقول: انه عليه السلام يذكر بعد قوله حتى يسمعوا: منزلته عند النبي صلى الله عليه و آله و سنذكر هذا الذيل أيضا في محله، فبما حررناه دريت ان الكتاب و السنة غير وافيين بكل الأحكام مع أن لله تعالى في كل واقعة حكما يجب تحصيله فهما يحتاجان إلى قيم.

في الكافي بإسناده عن أبي البختري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن العلماء ورثة الأنبياء و ذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهما و لا دينارا و إنما ورثوا من أحاديثهم فمن أخذ بشي‏ء منها فقد أخذ حظا وافرا فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه فان فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين‏ و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين.

و حيث علم معنى العدل فيما تقدم و علم أن الإمام المنصوب الالهي على العدل المحض و يهدون بأمر الله تعالى إلى طريق الحق علم ان المراد بالعدول هم الأئمة الهادين المهديين لا غير و جاء خبر آخر في الكافي كانه مفسر له حيث روى بإسناده عن ابن وهب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه و آله ان عند كل بدعة تكون من بعدى يكاد بها الايمان وليا من أهل بيتي موكلا به يذب عنه ينطق بالهام من الله و يعلن الحق و ينوره و يرد كيد الكائدين يعبر عن الضعفاء فاعتبروا يا اولى الأبصار و توكلوا على الله.

و نعم ما قال الفيض في الحديث بيانا: المراد من ورثة الأنبياء ورثتهم من غذاء الروح لأنهم أولادهم الروحانيون الذين ينتسبون إليهم من جهة أرواحهم المتغذية بالعلم المستفاد منهم عليهم السلام كما أن من كان من نسلهم ورثتهم من غذاء الجسم لأنهم أولادهم الجسمانيون الذين ينتسبون إليهم من جهة أجسادهم المتغذية بالغذاء الجسماني حظا وافرا كثيرا لأن قليل العلم خير مما طلعت عليه الشمس.

فانظروا يعني لما ثبت أن العلم ميراث الأنبياء فلابد أن يكون مأخوذا عن الأنبياء عليهم السلام و عن أهل بيت النبوة الذين هم مستودع اسرارهم و فيهم أصل شجرة علمهم دون غيرهم فان المجاوزين عن الوسط الحق يحرفون الكلم عن مواضعه بحسب أهوائهم. و المبطلون يدعون لأنفسهم العلم و يلبسون الحق بالباطل لفساد أغراضهم. و الجاهلون يؤولون المتشابهات على غير معانيها المقصودة منها لزيغ قلوبهم فيشتبه بسبب ذلك طريق التعلم على طلبة العلم.

و في أهل بيت النبي صلوات الله عليه و عليهم في كل خلف بعد سلف امة وسط لهم الاستقامة في طريق الحق من غير غلو و لا تقصير و لا زيغ و لا تحريف يعني الإمام المعصوم و خواص شيعته الأمناء على أسراره الحافظين لعلمه الضابطين لأحاديثه فان الأرض لا تخلو منهم ابدا و هم لا يزالون ينفون عن العلم تحريف الغالين‏ و تلبيس المبطلين و تأويل الجاهلين فخذوا علمكم عنهم دون غيرهم لتكونوا ورثة الأنبياء.

و هذا الحديث ناظر إلى ما روى عن النبي صلى الله عليه و آله انه قال: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين و تفسير للعدول الوارد فيه.

و الخلف بالتحريك و السكون كل من يجي‏ء بعد من مضى إلا أنه بالتحريك في الخير و بالتسكين في الشر يقال: خلف صدق و خلف شر.

و أما القياس فقد حققنا في المباحث السالفة أن لله تعالى في كل واقعة حكما و أن الأحكام مبتنية على مصالح و مفاسد في الأشياء لا تبلغها العقول و لا يعلمها الا علام الغيوب و لو تأملنا حق التأمل في الدين لرأينا أن دين الله لم يبن على القياس فان المراد بالقياس في المقام القياس الفقهي الذي يسمى في علم الميزان بالتمثيل و مبنى الشرع على اختلاف المتفقات كوجوب الصوم آخر شهر رمضان و تحريمه أول شوال، و اتفاق المختلفات كوجوب الوضوء من البول و الغائط و اتفاق القتل خطأ و الظهار في الكفارة. مع أن الشارع قطع يد سارق القليل دون غاصب الكثير و جلد بقذف الزنا و أوجب فيه أربع شهادات دون الكفر و ذلك كله ينافي القياس و قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله: تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب و برهة بالسنة و برهة بالقياس فاذا فعلوا ذلك فقد ضلوا و أضلوا.

و ليس القياس إلا اتباع الهوى و قال الله تعالى‏ و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب‏.

و لو تطرق في الشريعة العمل بالقياس لمحق الدين لأن لكل أحد أن يرى برأيه و نظره مناسبة بين الحكمين و غالبا لا يخلو الشيئان عن مناسبة ما فيلزم عندئذ تحليل الحرام و تحريم الحلال و آراء كثيرة مردية في موضوع واحد مع أن حكم الله واحد لا يتغير و قد روى شيخ الطائفة في التهذيب بإسناده عن أبي مريم‏ عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال صلوات الله عليه: لو قضيت بين رجلين بقضية ثم عادا إلى من قابل لم ازدهما على القول الأول لأن الحق لا يتغير.

و قد دريت آنفا أنه ليس شي‏ء مما يحتاج إليه الناس إلا و قد جاء فيه كتاب أو سنة و أن الله تعالى نص في كتابه العزيز انزل في القرآن تبيان كل شي‏ء قال تعالى: و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي‏ء و هدى و رحمة و بشرى للمسلمين‏ (النحل- 92) و قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شي‏ء (الأنعام- 39) و غيرهما من الايات الاخر فإذا بين القرآن كل شي‏ء و كذا السنة و إن كان لا تبلغها عقول الرجال فعلينا أن نطلب من عنده علم الكتاب و ليس لنا أن نختار بالقياس و الاستحسان و امثالهما حكما نفتى به أو نعمل فان الله حذرنا عن ذلك في كتابه بقوله: و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله و تعالى عما يشركون‏ و قال عز و جل: و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم‏. و قال عز و جل: ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين‏ و قال تعالى: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله‏ و قال تعالى:و استقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم و قل آمنت بما أنزل الله من كتاب‏. و قال تعالى: أ فمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله و اتبعوا أهواءهم‏ و قال تعالى‏ إن يتبعون إلا الظن و ما تهوى الأنفس و لقد جاءهم من ربهم الهدى‏ و غيرها من الايات القرآنية.

فهذه الايات القرآنية تذم من رغب عن اختيار الله و اختيار رسوله إلى اختياره و تنهيه عن ذلك أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها، أم طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، أم قالوا سمعنا و هم لا يسمعون، ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون‏.

«الاخبار المروية عن أهل بيت العصمة عليهم السلام» «في النهى عن العمل بالقياس»

قد رويت عن الأئمة الهداة المهديين روايات في النهى عن العمل بالقياس و احتجاجات على القوم في ذلك نورد ههنا شطرا منها تبصرة للمستبصرين فان من كان له قلب استهدى بها:

1- في الكافي باسناده إلى أبي شيبة الخراساني قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا و أن دين الله لا يصاب بالمقاييس.

أقول: إن القياس في جميع العلوم النقلية لا يزاد القائس من الحق و الواقع إلا بعدا فكما أن اللغة و النحو و القرائة و السير و امثالها لا يستقيم بالقياس و التخمين فكذلك الأحكام فان لله تعالى في كل واقعة حكما لا يصاب بالظن و التخمين و القياس.على أن في الشرع يوجد كثيرا جمع الأحكام المختلفة في الصفات الظاهرة و تفريق الأحكام المتشاركة في الاثار الواضحة.

2- و فيه باسناده إلى أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن السنة لا تقاس ألا ترى ان المرأة تقضى صومها و لا تقضى صلاتها يا أبان ان السنة إذا قيست محق الدين.

أقول: قال الفيض في بيانه: المحق ذهاب الشي‏ء كله حتى لا يرى منه أثر و إنما يمحق الدين بالقياس لأن لكل أحد أن يرى بعقله أو هواه مناسبة بين الشي‏ء و ما أراد أن يقيسه عليه فيحكم عليه بحكمه و ما من شي‏ء إلا و بينه و بين شي‏ء آخر مجانسة أو مشاركة في كم أو كيف أو نسبة فاذا قيس بعض الأشياء على بعض في الأحكام صار الحلال حراما و الحرام حلالا حتى لم يبق شي‏ء من الدين

3- و فيه بإسناده إلى أبان عن أبي شيبة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:ضل علم ابن شبرمة عند الجامعة املاء رسول الله صلى الله عليه و آله و خط علي عليه السلام بيده ان‏ الجامعة لم تدع لأحد كلاما فيها علم الحلال و الحرام ان أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحق إلا بعدا إن دين الله لا يصاب بالقياس.

أقول: سيأتي الكلام في الجامعة عند ترجمة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام و ابن شبرمة هو عبد الله بن شبرمة القاضي كان يعمل بالقياس.

4- و فيه عن الحسين بن مياح عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان إبليس قاس نفسه بادم فقال: خلقتني من نار و خلقته من طين فلو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم بالنار كان ذلك أكثر نورا و ضياء.

5- و فيه بإسناده عن عيسى بن عبد الله القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه السلام فقال له: يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس قال: نعم، قال: لا تقس فان أول من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار و خلقته من طين فقاس ما بين النار و الطين و لو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين و صفاء أحدهما على الاخر.

أقول: إن هذين الخبرين من الأخبار الأنيقة و العلوم الدقيقة التي صدرت من بيت أهل العصمة و تجلت من مشكاة الإمامة و بدت من فروع شجرة النبوة لاحتوائهما على لطيفة قدسية عرشية لم يعهد صدور مثلها عن غير بيت الال في ذلك العصر، و لعمري لو لم تكن لرسول الله صلى الله عليه و آله و آله الطاهرين معجزات فعلية أصلا لكفى أمثال هذه الأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام في صدق مقالتهم بأنهم سفراء الله لخلقه و وسائط فيضه. و بالجملة قال عليه السلام في الأول منهما فلو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم بالنار كان ذلك أكثر نورا و ضياء و في الثاني و لو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين و صفاء أحدهما على الاخر. و ذلك الجوهر النوري هو النفس الناطقة المجردة و الروح المقدسة التي من عالم الأمر لا سيما روحه القدسية النبوية التي بها صار مسجود الملائكة، و معلوم أن هذا النور المعنوي لا نسبة له إلى الأنوار الحسية كنور النار و السراج و الشمس و القمر و النجوم و أمثالها لأنه لا يكون منغمرا في الزمان و المكان و الأجسام بل هو فوق‏ الزمان و الزمانيات و لذا به يظهر ما لا يظهر بالأنوار الحسية فان الحسية يظهر المحسوسات بخلاف النور العقلي فانه يظهر المعقولات و فوق المحسوسات فلا يقاس أحدهما بالاخر فان العقلاني بمراحل عن الجسماني و لذا قال ولي الله الأعظم فلو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم بالنار كان ذلك أكثر نورا و ضياء.

و أيضا ان كلامه عليه السلام يدل على تجرد الروح و تنزهه عن الجسم و الجسمانيات كما أنه يدل ان شيئية الشي‏ء بصورته لا بمادته، و قياس إبليس و هم حيث توهم ان الفضل و الشرف بمادة البدن و أن شيئية الأشياء بمادتها و لم يعلم أن الانسان إنسان بجوهره المجرد النوري العقلاني و انما الشيئية بالصورة لانه لم يكن له نصيب من هذا النور القدسي النبوي حتى يرى نسبة سائر الأنوار بالقياس إليه و يعرفه حق المعرفة.

و اعلم أن الوجود الكامل من مادة ناقصة أفضل من موجود ناقص من مادة كاملة و ذلك لما تحقق في الحكمة العالية أن الصورة هي الأصل و المادة فرعها و شيئية الموجودات بصورها لا بالمادة.

6- في الكافي: ان عليا عليه السلام قال: من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس و من دان الله بالرأى لم يزل دهره في ارتماس.

7- و فيه أيضا قال أبو جعفر عليه السلام: من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم و من دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل و حرم فيما لا يعلم.

8- و في كتاب القضاء من الوسائل: ان ابن شبرمة قال دخلت أنا و أبو حنيفة على جعفر بن محمد فقال لأبي حنيفة: اتق الله و لا تقس في الدين برأيك فإن أول من قاس إبليس إلى أن قال: و يحك ايهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟ قال: قتل النفس. قال: فان الله عز و جل قد قبل في قتل النفس شاهدين و لم يقبل في الزنا إلا أربعة. ثم أيهما أعظم الصلاة أم الصوم؟ قال: الصلاة. قال: فما بال الحائض تقضي الصيام و لا تقضى الصلاة فكيف يقوم لك القياس فاتق الله و لا تقس. قال:فايهما اكبر البول أو المني؟ قلت: البول، قال: فلم أمر الله تعالى في البول بالوضوءو في المني بالغسل. قال: فأيما أضعف المرأة أو الرجل؟ قلت: المرأة، قال:فلم جعل الله تعالى في الميراث للرجل سهمين و للمرأة سهم أ فيقاس لك هذا؟ قلت:لا. قال: فبم حكم الله فيمن سرق عشر دراهم القطع و إذا قطع الرجل يد رجل فعليه ديتها خمسة آلاف درهم أ فيقاس لك هذا؟ قلت: لا. الحديث.

و في الوافي (ص 59 م 1) روي عن أبي حنيفة أنه قال: جئت إلى حجام ليحلق رأسي فقال لي: ادن ميامنك و استقبل القبلة و سم الله فتعلمت منه ست خصال لم تكن عندى فقلت له: مملوك أنت أم حر؟ فقال: مملوك؟ قلت: لمن؟ قال لجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام قلت: أشاهد أم غائب؟ قال: شاهد فصرت إلى بابه و استأذنت عليه فحجبني و جاء قوم من أهل الكوفة فاستأذنوا فاذن لهم فدخلت معهم فلما صرت عنده قلت له: يا ابن رسول الله لو أرسلت إلى أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب محمد فانى تركت بها أكثر من عشرة الف يشتمونهم، فقال:

لا يقبلون منى فقلت: و من لا يقبل منك و أنت ابن رسول الله فقال: أنت أول من لا يقبل منى دخلت داري بغير إذني و جلست بغير أمري و تكلمت بغير رأيي و قد بلغني أنك تقول بالقياس قلت: نعم قال: ويحك يا نعمان أول من قاس الله إبليس- ثم ذكر قريب ما نقلناه عن الوسائل و كذا هذا الخبر مذكور في مجلس يوم الجمعة التاسع من رجب سنة سبع و خمسين و أربعمائة فراجع.

و الأخبار في النهي عن القياس في الدين و السر في نهيه كثيرة في كتب الرواية فعليك بكتاب القضاء من الوسائل و المجلد الأول من البحار و الكافي و باب البدع و الرأى و المقائيس من الوافي (ص 56 م 1).

المنقول من الزمخشري في ربيع الأبرار قال يوسف بن أسباط: رد أبو حنيفة على رسول الله صلى الله عليه و آله للفرس سهمان و للرجل سهم، قال أبو حنيفة: لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن. و اشعر رسول الله صلى الله عليه و آله و أصحابه البدن و قال أبو حنيفة: الاشعار مثلة. و قال صلى الله عليه و آله: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، و قال أبو حنيفة: إذا وجب البيع فلا خيار. و كان صلى الله عليه و آله يقرع بين نسائه إذا اراد سفرا و أقرع أصحابه، و قال أبو حنيفة القرعة قمار.

و أما الإجماع فبعد الفراغ عن حجيته و البحث عن أقسامه فنقول: ان من المعلوم عدم قيام إجماع في كل واقعة واقعة.

و أما البراءة الأصلية فلأنه يلزم منها ارتفاع أكثر الأحكام الشرعية إذ يقال الأصل برائة الذمة من وجوب أو حرمة.

أما الاستصحاب فعدم صلاحيته للمحافظة بديهي فلأنه يستلزم اليقين السابق و الشك اللاحق حتى يجري و أني يكون كل حكم من الأحكام في كل موضع مع عدم تناهيها كذلك، على أن الاستصحاب و القياس و الخبر الواحد لا تفيد إلا ظنا و الظن لا يغنى من الحق شيئا. فاذا اتضح عدم صلاحية هذه الأقسام لحفظ الدين و حجة على الناس بحيالها بلا قيم مبين و مفسر بعد خاتم النبيين فلم يبق أن يكون الحافظ للشرع إلا العالم و العالم مطلقا فقد دريت انه لم يكن حافظا فبقى العالم المعصوم المنصوب من الله اعني الإمام بالحق و ذلك هو المطلوب و قد اشار الباري تعالى إليه بقوله: و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏ (النساء: 86) ثم إن لأئمتنا صلوات الله عليهم احتجاجات على من ذهب إلى أن الكتاب وحده بلا قيم كاف للعباد كل واحد منها حجة بالغة و برهان تام أبان الفصل و أفحم الخصم تركنا الاتيان بها روما للاختصار فعليك بكتاب الاحتجاج للطبرسي و اصول الكافي للكليني و الارشاد للمفيد و المجلد الرابع من البحار للمجلسي.

ثم مضى في الخطبة الثالثة و العشرين و المأة قوله عليه السلام: و هذا القرآن إنما هو مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان و لا بد له من ترجمان- إلى آخر ما قال. فراجع فتبصر.

احتجاج ثامن الائمة عليه السلام على المخالفين في امر الإمامة

روى الشيخ الجليل الصدوق رضوان الله عليه في المجلس السابع و التسعين من أماليه و كذا الشيخ الجليل الطبرسي في الاحتجاج و ثقة الاسلام الكليني في الكافي (الوافي ص 115 م 2) رواية جامعة كافية في أمر الإمامة عن الرضا علي بن‏

موسى ثامن الأئمة الهداة المهديين تهدى بغاة الرشد للتي هو أقوم جعلناها خاتمة بحثنا ليختم بالخير ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون و في الأمالي.

حدثنا الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل قال: حدثنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا أبو محمد القاسم بن العلي عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا في أيام علي بن موسى الرضا عليهما السلام بمرو فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم جمعة في يدي مقدمنا فأدار الناس أمر الإمامة و ذكروا كثرة اختلاف الناس فدخلت على سيدي و مولاى الرضا عليه السلام فأعلمته ما خاض الناس فيه فتبسم عليه السلام ثم قال:

يا عبد العزيز جهل القوم و خدعوا عن أديانهم إن الله عز و جل لم يقبض نبيه صلى الله عليه و آله حتى أكمل له الدين و أنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شي‏ء بين فيه الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام و جميع ما يحتاج الناس إليه كملا فقال عز و جل‏ ما فرطنا في الكتاب من شي‏ء و انزل فيه في حجة الوداع و هي آخر عمره صلى الله عليه و آله‏ اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا و أمر الامامة من تمام الدين و لم يمض صلى الله عليه و آله حتى بين لامته معالم دينهم و أوضح لهم سبيله و تركهم على قصد الحق و أقام لهم عليا عليه السلام علما و ما ترك شيئا يحتاج إليه الامة إلا بينه فمن زعم أن الله عز و جل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله و من رد كتاب الله فهو كافر فهل تعرفون قدر الإمامة و محلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟

إن الامامة أجل قدرا و أعظم شأنا و أعلى مكانا و أمنع جانبا و أبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها برأيهم أو يقيموا إماما باختيارهم. إن الإمامة خص الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة و الخلة مرتبة ثالثة و فضيلة شرفه الله بها فأشار بها ذكره فقال عز و جل‏ إني جاعلك للناس إماما قال الخليل مسرورا؟؟؟ بها و من ذريتي‏ قال الله تبارك و تعالى‏ لا ينال عهدي الظالمين‏ فابطلت هذه‏ الاية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة و صارت في الصفوة.

ثم أكرمه الله أن جعلها في ذريته أهل الصفوة و الطهارة فقال عز و جل‏ و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين‏ فلم يزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها النبي صلى الله عليه و آله فقال جل جلاله‏ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين‏ فكانت له الخاصة فقلدها النبي صلى الله عليه و آله عليا عليه السلام بأمر ربه عز و جل على رسم ما فرض الله فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم و الايمان بقوله عز و جل‏ و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث‏ و هي في ولد علي عليه السلام خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه و آله فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟

إن الامامة هي منزلة الأنبياء و إرث الأوصياء إن الامامة خلافة الله عز و جل و خلافة الرسول و مقام أمير المؤمنين و ميراث الحسن و الحسين. إن الامامة زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عز المؤمنين. إن الإمامة اس الاسلام النامي و فرعه النامي.

بالامام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و توفير الفي‏ء و الصدقات و إمضاء الحدود و الأحكام و منع الثغور و الأطراف.

الامام يحل حلال الله و يحرم حرام الله و يقيم حدود الله و يذب عن دين الله و يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة و الحجة البالغة.

الامام كالشمس الطالعة للعالم و هي في الافق بحيث لا تنالها الأيدي و الأبصار.

الامام البدر المنير و السراج الظاهر و النور الساطع و النجم الهادي في غياهب الدجى و البلد القفار و لجج البحار.

الامام الماء العذب على الظماء و الدال على الهدى و المنجي من الردى.

الامام النار على اليفاع الحار لمن اصطلى و الدليل على الملك من فارقه فهالك.

الإمام السحاب الماطر و الغيث الهاطل و الشمس المضيئة و الأرض البسيطة و العين الغزيرة و الغدير و الروضة.

الإمام الأمين الرفيق و الوالد الرقيق و الأخ الشفيق و مفزع العباد في الداهية.

الإمام أمين الله في أرضه و حجته على عباده و خليفته في بلاده و الداعي إلى الله و الذاب عن حرم الله.

الامام المطهر من الذنوب المبرأ من العيوب مخصوص بالعلم موسوم بالحلم نظام الدين و عز المسلمين و غيظ المنافقين و بوار الكافرين.

الامام واحد دهره لا يدانيه أحد و لا يعادله عالم و لا يوجد به بدل و لا له مثل و لا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منزلة و لا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب فمن ذا الذي يبلغ بمعرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟

هيهات هيهات ضلت العقول و تاهت الحلوم و حارت الألباب و حسرت العيون و تصاغرت العظماء و تحيرت الحكماء و تقاصرت الحلماء و حصرت الخطباء و جهلت الألباب و كلت الشعراء و عجزت الأدباء و عيت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله فأقرت بالعجز و التقصير. و كيف يوصف أو ينعت بكنهه أو يفهم شي‏ء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه و يغنى غناه لا، كيف و أين و هو بحيث النجم من أيدى المتناولين و وصف الواصفين فأين الاختيار من هذا و اين العقول عن هذا و أين يوجد مثل هذا؟

أظنوا أن ذلك يوجد في غير آل الرسول صلى الله عليه و آله؟ كذبتهم و الله أنفسهم و منتهم الأباطيل و ارتقوا مرتقى صعبار حضا تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة و آراء مضلة فلم يزدادوا منه إلا بعدا قاتلهم الله أني يؤفكون؟ لقد راموا صعبا و قالوا إفكا و ضلوا ضلالا بعيدا و وقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة و زين لهم الشيطان أعمالهم و صدهم عن السبيل و كانوا مستبصرين رغبوا عن اختيار الله و اختيار رسوله إلى اختيارهم و القرآن يناديهم‏ و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله و تعالى عما يشركون‏ و قال عز و جل‏ و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم‏ و قال عز و جل‏ ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين‏ و قال عز و جل: أ فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها، أم طبع الله‏ على قلوبهم فهم لا يفقهون*، أم قالوا سمعنا و هم لا يسمعون‏، إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم و لو أسمعهم لتولوا و هم معرضون‏، و قالوا سمعنا و عصينا، بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم*.

فكيف لهم باختيار الإمام و الإمام عالم لا يجهل راع لا ينكل معدن القدس و الطهارة و النسك و الزهادة و العلم و العبادة مخصوص بدعوة الرسول و هو نسل المطهرة البتول لا مغمز فيه في نسب و لا يدانيه ذو حسب في البيت من قريش و الذروة من هاشم و العترة من الرسول و الرضا من الله شرف الأشراف و الفرع من عبد مناف نامي العلم كامل اللحم مضطلع بالإمامة عالم للسياسة مفروض الطاعة قائم بأمر الله ناصح لعباد الله حافظ لدين الله.

إن الأنبياء و الأئمة يوفقهم الله عز و جل و يؤتيهم من مخزون علمه و حلمه ما لا يؤتيه غيرهم فيكون عليهم «علمهم ظ» فوق كل أهل زمانهم في قوله جل و عز فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون‏ و قوله جل و عز و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا و قوله عز و جل في طالوت‏ إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم و الله يؤتي ملكه من يشاء و الله واسع عليم‏ و قال عز و جل لنبيه صلى الله عليه و آله‏ و كان فضل الله عليك عظيما. و قال عز و جل في الأئمة من أهل بيته و عترته و ذريته‏ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به و منهم من صد عنه و كفى بجهنم سعيرا.

و أن العبد إذا اختاره الله عز و جل لامور عباده شرح صدره لذلك و أودع قلبه ينابيع الحكمة و ألهمه العلم الهاما فلم يعى بعده بجواب و لا يحير فيه عن الصواب و هو معصوم مؤيد موفق مسدد قد أمن الخطايا و الزلل و العثار و خصه الله بذلك ليكون حجته على عباده و شاهده على خلقه و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم.

فهل يقدرون على مثل هذا فيختاروه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه تعدوا و بيت الله الحق و نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون و في كتاب الله الهدى و الشفاء فنبذوه و اتبعوا أهوائهم فذمهم الله و مقتهم أنفسهم فقال عز و جل‏ و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏ و قال:فتعسا لهم و أضل أعمالهم‏ و قال عز و جل‏ كبر مقتا عند الله و عند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار. انتهى الحديث الشريف‏.

«الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه و آله هم آله عليهم السلام لا غير»

الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه و آله بلا فصل هو علي بن أبى طالب و بعده ابنه الحسن بن علي بن أبي طالب المجتبى و بعده اخوه الحسين بن علي سيد الشهداء ثم ابنه علي ابن الحسين زين العابدين ثم ابنه محمد بن علي باقر علوم النبيين ثم ابنه جعفر بن محمد الصادق ثم ابنه موسى بن جعفر الكاظم ثم ابنه علي بن موسى الرضا ثم ابنه محمد بن علي الجواد التقي ثم ابنه علي بن محمد النقي الهادي ثم ابنه الحسن ابن علي العسكري ثم ابنه الإمام القائم المنتظر الحجة بن الحسن عليهم السلام.

و يدل عليه وجوه من الأدلة العقلية و النقلية أما العقلية فقد قدمنا البحث عنها و لا تنطبق إلا عليهم سلام الله عليهم و أما النقلية فكثير من الايات و الأخبار

المتواترة عن النبي صلى الله عليه و آله و ظهور معجزات كثيرة عنهم عليهم السلام عقيب ادعائهم الإمامة مما أتى بها متكلمو الشيعة في كتبهم الكلامية و رواها فرق المسلمين في آثارهم و أسفارهم القيمة و التعرض بذكر كل واحد منها و النقل عن ماخذها و تقرير دلالتها على التفصيل و البسط يؤدى إلى تأليف مجلدات عليحدة و نحن بعون الله تعالى نحررها موجزة في ابحاثنا الاتية، و انما الأهم من غرضنا في المقام اقامة البراهين العقلية في وجود الإمام و قد أتينا بطائفة منها في ضمن هذه الخطبة التي في أوصاف آل محمد عليهم السلام ليزداد الطالب للحق بصيرة.

و لكن لما كان أمير المؤمنين علي عليه السلام وصف آل محمد صلى الله عليه و آله بأنهم عيش العلم و موت الجهل و انهم دعائم الاسلام و غيرها من الأوصاف المذكورة في الخطب السابقة فلنذكر نبذة من أحوالهم و شرذمة من آثارهم كى يكون أنموذجا للطالب في أنوار علومهم و عظم مقامهم و إن كانت عقولنا قاصرة عن اكتناه ما جبل في نفوسهم القدسية و الارتقاء إلى مرتبتهم العرشية و نعم ما اشار إليه العارف الرومي بالفارسية.

در نيابد حال پخته هيچ خام‏ پس سخن كوتاه بايد و السلام‏

و في الحقيقة مدحنا إياهم عليهم السلام راجع إلينا اعني أنا إذا مدحناهم مدحنا أنفسنا لأنا نخبر عن حسن سريرتنا و طيب سجيتنا و سلامة عين بصيرتنا كالذي يمدح الشمس يخبر عن شدة نور بصره و سلامة عينه و قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا يحبنا إلا مؤمن تقى و لا يبغضنا إلا منافق شقي. و نعم ما قال العارف المذكور أيضا:

مادح خورشيد مداح خود است‏ كه دو چشمم روشن و نامرمد است‏
ذم خورشيد جهان ذم خود است‏ كه دو چشمم كور و تاريك و بد است‏
تو ببخشا بر كسى كاندر جهان‏ شد حسود آفتاب كامران‏
تا ندش پوشيد هيچ از ديده‏ها و ز طراوت دادن پوسيده‏ها
يا ز نور بى‏حدش تانند كاست‏ يا بدفع جاه او تانند خاست‏
نور مردان مشرق و مغرب گرفت‏ آسمانها سجده كردند از شگفت‏
هر كسى كو حاسد كيهان بود آن حسد خود مرگ جاويدان بود
شمع حق را پف كنى تو اى عجوز هم تو سوزى هم سرت اى گنده‏پوز
كى شود دريا ز پوز سگ نجس‏ كى شود خورشيد از پف منطمس‏
مه فشاند نور و سگ عوعو كند هر كسى بر خلقت خود مى‏تند
اى بريده آن لب و حلق و دهان‏ كه كند تف سوى ماه آسمان‏
سوى گردون تف نيابد مسلكى‏ تف برويش باز گردد بى شكى‏
تا قيامت تف بر او بارد ز رب‏ همچو تبت بر روان بو لهب‏

و كذا قال العارف الجامي في الدفتر الأول من سلسلة الذهب.

مادح أهل بيت در معنى‏ مدحت خويشتن كند يعنى‏
مؤمنم موقنم خداى شناس‏ وز خدايم بود اميد و هراس‏
از كجيها در اعتقادم پاك‏ نيست از طعن كج نهادم باك‏
دوستدار رسول و آل ويم‏ دشمن خصم بد سگال ويم‏
جوهر من ز دكان ايشانست‏ رخت من از دكان ايشانست‏

إلى أن قال:

اين نه رفض است محض ايمان است‏ رسم معروف أهل عرفانست‏
رفض اگر هست حب آل نبي‏ رفض فرض است بر ذكى و غبي‏[1]

 

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

___________________________________________________________

[1] ( 1)- بيت العارف الجامى كانما يشير إلى ما قال الشافعي:

\s\iُ قالوا: ترفضت، قلت: كلا\z ما الرفض دينى و لا اعتقادى‏\z لكن توليت غير شك‏\z خير امام و خير هاد\z ان كان حب الوصى رفضا\z فاننى أرفض العباد\z\E\E

[2] هاشمى خويى، ميرزا حبيب الله، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى) – تهران، چاپ: چهارم، 1400 ق.

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.