خطبه 82 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(الغراء)

82 و من خطبة له ع و تسمى بالغراء

و هي من الخطب العجيبة- : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ وَ دَنَا بِطَوْلِهِ- مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَ فَضْلٍ وَ كَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَ أَزْلٍ- أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ- وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلًا بَادِياً وَ أَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً- وَ أَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ الحول القوة و الطول الإفضال و المانح المعطي- و الأزل بفتح الهمزة الضيق و الحبس- و العواطف جمع عاطفة و هي ما يعطفك على الغير- و يدنيه من معروفك- و السوابغ التوام الكوامل سبغ الظل إذا عم و شمل- . و أولا هاهنا منصوب على الظرفية- كأنه قال قبل كل شي‏ء- و الأول نقيض الآخر أصله أوءل على أفعل مهموز الوسط- قلبت الهمزة واوا و أدغم- يدل على ذلك قولهم هذا أول منك- و الإتيان بحرف الجر دليل على أنه أفعل- كقولهم هذا أفضل منك- و جمعه على أوائل و أوال أيضا على القلب- و قال قوم أصله وول على فوعل فقلبت الواو الأولى همزة- و إنما لم يجمع على ووال- لاستثقالهم اجتماع الواوين و بينهما ألف الجمع- .

و إذا جعلت الأول صفة لم تصرفه- تقول لقيته عاما أول لاجتماع وزن الفعل- و تقول ما رأيته مذ عام أول كلاهما بغير تنوين- فمن رفع جعله صفة لعام- كأنه قال أول من عامنا و من نصب جعله كالظرف- كأنه قال مذ عام قبل عامنا- فإن قلت ابدأ بهذا أول ضممته على الغاية- . و الإنهاء الإبلاغ أنهيت إليه الخبر فانتهى أي بلغ- و المعنى أن الله تعالى أعذر إلى خلقه و أنذرهم- فإعذاره إليهم أن عرفهم بالحجج العقلية و السمعية- أنهم إن عصوه استحقوا العقاب- فأوضح عذره لهم في عقوبته إياهم على عصيانه- و إنذاره لهم تخويفه إياهم من عقابه- و قد نظر البحتري إلى معنى قوله ع علا بحوله و دنا بطوله- فقال

دنوت تواضعا و علوت قدرا
فشأناك انخفاض و ارتفاع‏

كذاك الشمس تبعد أن تسامى‏
و يدنو النور منها و الشعاع‏

و في هذا الفصل ضروب من البديع- فمنها أن دنا في مقابلة علا لفظا و معنى- و كذلك حوله و طوله- . فإن قلت لا ريب في تقابل دنا و علا- من حيث المعنى و اللفظ- و أما حوله و طوله فإنهما يتناسبان لفظا- و ليسا متقابلين معنى- لأنهما ليسا ضدين كما في العلو و الدنو- . قلت بل فيهما معنى التضاد- لأن الحول هو القوة و هي مشعرة بالسطوة و القهر- و منه منشأ الانتقام و الطول الإفضال و التكرم- و هو نقيض الانتقام و البطش- . فإن قلت أنت و أصحابك لا تقولون- إن الله تعالى قادر بقدرة و هو عندكم قادر لذاته- فكيف تتأولون قوله ع الذي علا بحوله- أ ليس في هذا إثبات قدرة له زائدة على ذاته- و هذا يخالف مذهبكم- .

قلت إن أصحابنا لا يمتنعون من إطلاق قولهم- إن لله قوة و قدرة و حولا- و حاش لله أن يذهب ذاهب منهم إلى منع ذلك- و لكنهم يطلقونه و يعنون به حقيقته العرفية- و هي كون الله تعالى قويا قادرا كما نقول نحن و المخالف- إن لله وجودا و بقاء و قدما- و لا نعني بذلك أن وجوده أو بقاءه- أو قدمه معان زائدة على نفسه- لكنا نعني كلنا بإطلاق هذه الألفاظ عليه- كونه موجودا أو باقيا أو قديما- و هذا هو العرف المستعمل في قول الناس- لا قوة لي على ذلك و لا قدرة لي على فلان- لا يعنون نفي المعنى- بل يعنون كون الإنسان قادرا قويا على ذلك- . و منها أن مانحا في وزن كاشف- و غنيمة بإزاء عظيمة في اللفظ و ضدها في المعنى- و كذلك فضل و أزل- .

و منها أن عواطف بإزاء سوابغ و نعمه بإزاء كرمه- . و منها و هو ألطف ما يستعمله أرباب هذا الصناعة- أنه جعل قريبا هاديا مع قوله أستهديه- لأن الدليل القريب منك- أجدر بأن يهديك من البعيد النازح- و لم يجعله مع قوله و أستعينه- و جعل مع الاستعانة قاهرا قادرا- لأن القادر القاهر يليق أن يستعان و يستنجد به- و لم يجعله قادرا قاهرا مع التوكل عليه- و جعل مع التوكل كافيا ناصرا- لأن الكافي الناصر أهل لأن يتوكل عليه- . و هذه اللطائف و الدقائق من معجزاته ع- التي فات بها البلغاء و أخرس الفصحاء: أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ضَرَبَ لَكُمُ الْأَمْثَالَ- وَ وَقَّتَ لَكُمُ الآْجَالَ وَ أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ- وَ أَحَاطَ بِكُمُ الْإِحْصَاءَ وَ أَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ- وَ آثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ وَ الرِّفَدِ الرَّوَافِغِ- وَ أَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً- وَ وَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ وَ دَارِ عِبْرَةٍ- أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا وَ مُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا وقت و أقت بمعنى أي جعل الآجال لوقت مقدر- . و الرياش و الريش واحد و هو اللباس- قال تعالى يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً- . و قرئ و رياشا و يقال الرياش الخصب و الغنى- و منه ارتاش فلان حسنت حاله- و يكون لفظ ألبسكم مجازا إن فسر بذلك- . و أرفغ لكم المعاش أي جعله رفيغا أي واسعا مخصبا- يقال رفغ بالضم عيشه رفاغة اتسع- فهو رافغ و رفيغ و ترفغ الرجل- و هو في رفاغية من العيش مخففا- مثل رفاهية و ثمانية- .

و قوله و أحاط بكم الإحصاء- يمكن أن ينصب الإحصاء على أنه مصدر فيه اللام- و العامل فيه غير لفظه كقوله يعجبه السخون- ثم قال حبا و ليس‏دخول اللام بمانع من ذلك- تقول ضربته الضربة كما تقول ضربته ضربا- و يجوز أن ينصب بأنه مفعول به- و يكون ذلك على وجهين- . أحدهما أن يكون من حاط ثلاثيا- تقول حاط فلان كرمه أي جعل عليه حائطا- فكأنه جعل الإحصاء و العد كالحائط المدار عليهم- لأنهم لا يبعدون منه و لا يخرجون عنه- . و الثاني أن يكون من حاط الحمار عانته يحوطها- بالواو أي جمعها فأدخل الهمزة- كأنه جعل الإحصاء يحوطهم و يجمعهم- تقول ضربت زيدا و أضربته أي جعلته ذا ضرب- فلذلك كأنه جعل ع الإحصاء- ذا تحويط عليهم بالاعتبار الأول- أو جعله ذا جمع لهم بالاعتبار الثاني- . و يمكن فيه وجه آخر- و هو أن يكون الإحصاء مفعولا له- و يكون في الكلام محذوف تقديره- و أحاط بكم حفظته و ملائكته للإحصاء- و دخول اللام في المفعول له كثير- كقوله و الهول من تهول الهبور- .

قوله و أرصد يعني أعد- و في الحديث إلا أن أرصده لدين علي- . و آثركم من الإيثار- و أصله أن تقدم غيرك على نفسك في منفعة- أنت قادر على الاختصاص بها- و هو في هذا الموضع مجاز مستحسن- . و الرفد جمع رفدة مثل كسرة و كسر- و فدرة و فدر و الرفدة و الرفد واحد- و هي العطية و الصلة و رفدت فلانا رفدا بالفتح- و المضارع أرفده بكسر الفاء و يجوز أرفدته بالهمزة- . و الروافغ الواسعة و الحجج البوالغ الظاهرة المبينة- قال سبحانه فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ- .

و وظف لكم مددا أي قدر و منه وظيفة الطعام- . و قرار خبرة بكسر الخاء أي دار بلاء و اختبار- تقول خبرت زيدا أخبره خبرة بالضم فيهما- و خبرة بالكسر إذا بلوته و اختبرته- و منه قولهم صغر الخبر الخبر- . و دار عبرة أي دار اعتبار و اتعاظ- و الضمير في فيها و عليها ليس واحدا- فإنه في فيها يرجع إلى الدار- و في عليها يرجع إلى النعم و الرفد- و يجوز أن يكون الضمير في عليها- عائدا إلى الدار على حذف المضاف أي على سكانها: فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا- يُونِقُ مَنْظَرُهَا وَ يُوبِقُ مَخْبَرُهَا- غُرُورٌ حَائِلٌ وَ ضَوْءٌ آفِلٌ وَ ظِلٌّ زَائِلٌ وَ سِنَادٌ مَائِلٌ- حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا وَ اطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا- قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا- وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وَ أَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ- قَائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ وَ وَحْشَةِ الْمَرْجِعِ- وَ مُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ وَ ثَوَابِ الْعَمَلِ- .

وَ كَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ- لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً- وَ لَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالًا- وَ يَمْضُونَ أَرْسَالًا إِلَى غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وَ صَيُّورِ الْفَنَاءِ يقال عيش رنق بكسر النون أي كدر- و ماء رنق بالتسكين أي كدر و الرنق بفتح النون- مصدر قولك رنق الماء بالكسر- و رنقته أنا ترنيقا أي كدرته- و الرواية المشهورة في هذا الفصل رنق مشربها بالكسر- أقامه مقام قولهم عيش رنق- و من رواه رنق مشربها بالسكون- و هم الأقلون أجرى اللفظ على حقيقته- .

و يقال مشرع ردغ ذو طين و وحل- روي الردغة بالتحريك- و يجوز تسكين الدال و الجمع رداغ و ردغ- . و يونق منظرها يعجب الناظر آنقني الشي‏ء أعجبني- و يوبق مخبرها يهلك وبق الرجل يبق وبوقا- هلك و الموبق مفعل منه كالموعد مفعل- من وعد يعد و منه قوله سبحانه- وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً- و قد جاء وبق يبق بالكسر فيهما- و هو نادر كورث يرث و جاء أيضا وبق يوبق وبقا- . و الغرور بضم الغين ما يغتر به من متاع الدنيا- و الغرور بالفتح الشيطان- و الحائل الزائل و الآفل الغائب- أفل غاب يأفل و يأفل أفولا- . و السناد دعامة يسند بها السقف- و ناكرها فاعل من نكرت كذا أي أنكرته- . و قمصت بأرجلها قمص الفرس و غيره- يقمص و يقمص قمصا و قماصا أي استن- و هو أن يرفع يديه و يطرحهما معا و يعجن برجليه- و في المثل المضروب لمن ذل بعد عزة ما لعير من قماص- . و جمع فقال بأرجلها و إنما للدابة رجلان- إما لأن المثنى قد يطلق عليه صيغة الجمع- كما في قولهم امرأة ذات أوراك و مآكم و هما وركان- و إما لأنه أجرى اليدين و الرجلين مجرى واحد- فسماها كلها أرجلا و من رواه بالحاء فهو جمع رحل الناقة- . و أقصدت قتلت مكانها من غير تأخير- .

و الأوهاق جمع وهق بالتحريك و هو الحبل- و قد يسكن مثل نهر و نهر- و أعلقت المرء الأوهاق جعلت الأوهاق عالقة به- و الضنك الضيق- . و المضجع المصدر أو المكان- و الفعل ضجع الرجل جنبه بالأرض بالفتح- يضجع ضجوعا و ضجعا فهو ضاجع و مثله أضجع- . و المرجع مصدر رجع و منه قوله تعالى- ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ و هو شاذ- لأن المصادر من فعل يفعل بكسر العين إنما يكون بالفتح- . قوله و معاينة المحل- أي الموضع الذي يحل به المكلف بعد الموت- و لا بد لكل مكلف أن يعلم عقيب الموت مصيره- أما إلى جنة و أما إلى نار- . و قوله ثواب العمل يريد جزاء العمل- و مراده الجزاء الأعم الشامل للسعادة و الشقاوة- لا الجزاء الأخص الذي هو جزاء الطاعة- و سمى الأعم ثوابا على أصل الحقيقة اللغوية- لأن الثواب في اللغة الجزاء- يقال قد أثاب فلان الشاعر لقصيدة كذا أي جازاه- .

و قوله و كذلك الخلف بعقب السلف- الخلف المتأخرون و السلف المتقدمون- و عقب هاهنا بالتسكين و هو بمعنى بعد- جئت بعقب فلان أي بعده و أصله جري الفرس بعد جريه- يقال لهذا الفرس عقب حسن- و قال ابن السكيت يقال جئت في عقب شهر كذا بالضم- إذا جئت بعد ما يمضي كله و جئت في عقب- بكسر القاف إذا جئت و قد بقيت منه بقية- و قد روي يعقب السلف أي يتبع- . و قوله لا تقلع المنية أي لا تكف- و الاخترام إذهاب الأنفس و استئصالها- .

و ارعوى كف عن الأمر و أمسك- و أصل فعله الماضي رعى يرعو أي كف عن الأمر- و فلان حسن الرعوة و الرعوة و الرعوة و الرعوى و الارعواء- و الاجترام افتعال من الجرم و هو الذنب و مثله الجريمة- يقال جرم و أجرم بمعنى- . قوله يحتذون مثالا أي يقتدون- و أصله من حذوت النعل بالنعل حذوا- إذا قدرت كل واحدة على صاحبها- . قوله و يمضون أرسالا بفتح الهمزة جمع رسل بفتح السين- و هو القطيع من الإبل أو الغنم- يقال جاءت الخيل أرسالا أي قطيعا قطيعا- . و صيور الأمر آخره و ما يئول إليه: حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ- وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ وَ أَزِفَ النُّشُورُ- أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ وَ أَوْكَارِ الطُّيُورِ- وَ أَوْجِرَةِ السِّبَاعِ وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ- مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ رَعِيلًا صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً- يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي- عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ- قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً- وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً- وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ وَ عَظُمَ الشَّفَقُ وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ- لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ- وَ نَكَالِ الْعِقَابِ وَ نَوَالِ الثَّوَابَ تصرمت الأمور تقطعت و مثله تقضت الدهور- و أزف قرب و دنا يأزف أزفا- و منه قوله تعالى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي القيامة- الفاعل آزف- .

و الضرائح جمع ضريح و هو الشق في وسط القبر- و اللحد ما كان في جانب القبر- و ضرحت ضرحا إذا حفرت الضريح- . و الأوكار جمع وكر يفتح الواو و هو عش الطائر- و جمع الكثرة وكور- وكر الطائر يكر وكرا أي دخل وكره- و الوكن بالفتح مثل الوكر أي العش- . و أوجرة السباع جمع وجار بكسر الواو و يجوز فتحها- و هو بيت السبع و الضبع و نحوهما- . مهطعين مسرعين و الرعيل القطعة من الخيل- . قوله ع ينفذهم البصر و يسمعهم الداعي أي هم مع كثرتهم- لا يخفى منهم أحد عن إدراك البارئ سبحانه- و هم مع هذه الكثرة أيضا لا يبقى منهم أحد- إلا إذا دعا داعي الموت سمع دعاءه و نداءه- . و اللبوس بفتح اللام ما يلبس قال-

البس لكل حالة لبوسها
إما نعيمها و إما بوسها

 و منه قوله تعالى وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ يعني الدروع- . و الاستكانة الخضوع و الضرع الخشوع و الضعف- ضرع الرجل يضرع و أضرعه غيره- . و كاظمته ساكته كظم يكظم كظوما أي سكت- و قوم كظم أي ساكتون- .و مهينمة ذات هينمة و هي الصوت الخفي- و ألجم العرق صار لجاما-و في الحديث إن العرق ليجري منهم حتى إن منهم من يبلغ ركبتيه- و منهم من يبلغ صدره و منهم من يبلغ عنقه- و منهم من يلجمه و هم أعظمهم مشقة- . و قال لي قائل ما أرىلقوله ع المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة- كثير فائدة- لأن طول العنق جدا ليس مما يرغب في مثله- فذكرت له الخبر الوارد في العرق- و قلت إذا كان الإنسان شديد طول العنق- كان عن إلجام العرق أبعد فظهرت فائدة الخبر- . و يروى و أنجم العرق أي كثر و دام- . و الشفق و الشفقة بمعنى و هو الاسم من الإشفاق- و هو الخوف و الحذر قال الشاعر-

تهوى حياتي و أهوى موتها شفقا
و الموت أكرم نزال على الحرم‏

 و أرعدت الأسماع عرتها الرعدة و زبرة الداعي صدته- و لا يقال الصوت زبرة إلا إذا خالطه زجر و انتهار- زبرته أزبره بالضم- . و قوله إلى فصل الخطاب إلى هاهنا يتعلق بالداعي- و فصل الخطاب بت الحكومة- التي بين الله و بين عباده في الموقف- رزقنا الله المسامحة فيها بمنه- و إنما خص الأسماع بالرعدة- لأنها تحدث من صوت الملك- الذي يدعو الناس إلى محاسبته- . و المقايضة المعاوضة قايضت زيدا بالمتاع- و هما قيضان كما قالوا بيعان- .

فإن قلت كيف يصح ما ذكره المسلمون من حشر الأجساد- و كيف يمكن ما أشار إليه ع من جمع الأجزاء البدنية- من أوكار الطيور و أوجرة السباع- و معلوم أنه قد يأكل الإنسان سبع- و يأكل ذلك السبع إنسان آخر- و يأكل هذا الإنسان طائر- ثم يأكل الطائر إنسان آخر- و المأكول يصير أجزاء من أجزاء بدن الآكل- فإذا حشرت‏ الحيوانات كلها على ما تزعم المعتزلة- فتلك الأجزاء المفروضة- إما أن تحشر أجزاء من بنية الإنسان- أو بنية السبع أو منهما معا- فإن كان الأول وجب إلا يحشر السبع- و إن كان الثاني وجب ألا يحشر الإنسان و الثالث محال عقلا- لأن الجزء الواحد لا يكون في موضعين- .

قلت إن في بدن كل إنسان و كل حيوان- أجزاء أصلية و أجزاء زائدة- فالأجزاء الزائدة يمكن- أن تصير أجزاء بدن حيوان إذا اغتذى بها- و الأجزاء الأصلية لا يمكن ذلك فيها- بل يحرسها الله تعالى من الاستحالة و التغيير- و إذا كان كذلك- أمكن الحشر بأن تعاد الأجزاء الأصلية إلى موضعها الأول- و لا فساد في استحالة الأجزاء الزائدة لأنه لا يجب حشرها- لأنها ليست أصل بنية المكلف فاندفع الأشكال- و أما من يقول بالنفس الناطقة من أهل الملة- فلا يلزمه الجواب عن السؤال- لأنه يقول إن الأنفس إذا أزف يوم القيامة- خلقت لها أبدان غير الأبدان الأولى- لأن المكلف المطيع و العاصي- المستحق للثواب و العقاب عندهم هو النفس- و أما البدن فآلة لها- نستعمله استعمال الكاتب للقلم و النجار للفأس: عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً- وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً وَ مُضَمِّنُونَ أَجْدَاثاً وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً- وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً وَ مَدِينُونَ جَزَاءً وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً- قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ- وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتَبِ وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ- وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ وَ رَوِيَّةِ الِارْتِيَادِ- وَ أَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ مربوبون مملوكون و الاقتسار الغلبة و القهر- . و الاحتضار حضور الملائكة عند الميت و هو حينئذ محتضر- و كانت العرب تقول لبن محتضر أي فاسد ذو آفة- يعنون أن الجن حضرته يقال اللبن محتضر فغط إناءك- . و الأجداث جمع جدث و هو القبر- و اجتدث الرجل اتخذ جدثا و يقال جدف بالفاء- . و الرفات الحطام تقول منه رفت الشي‏ء فهو مرفوت- .

و مدينون أي مجزيون و الدين الجزاء- و منه مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ- . و مميزون حسابا من قوله تعالى- وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ- و من قوله تعالى وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً- كما أن قوله و مبعوثون أفرادا مأخوذ من قوله تعالى- وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى‏- و أصل التمييز على الفصل و التبيين- . قوله قد أمهلوا في طلب المخرج- أي انظروا ليفيئوا إلى الطاعة و يخلصوا التوبة- لأن إخلاص التوبة هو المخرج- الذي من سلكه خرج من ربقة المعصية- و مثله قوله و هدوا سبيل المنهج و المنهج الطريق الواضح- . و المستعتب المسترضى- استعتبت زيدا إذا استرضيته عني فأنا مستعتب له- و هو مستعتب و أعتبني أي أرضاني- و إنما ضرب المثل بمهل المستعتب- لأن من يطلب رضاه في مجرى العادة- لا يرهق بالتماس الرضا منه- و إنما يمهل ليرضى بقلبه لا بلسانه- .

و السدف جمع سدفة هي القطعة من الليل المظلم- هذا في لغة أهل نجد- و أما غيرهم‏ فيجعل السدفة الضوء- و هذا اللفظ من الأضداد- و كذلك السدف بفتح السين و الدال- . و قد قيل السدفة اختلاط الضوء و الظلمة- كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار- و السدف الصبح و إقباله و أسدف الليل أظلم- و أسدف الصبح أضاء يقال أسدف الباب- أي افتحه حتى يضي‏ء البيت- و في لغة هوازن أسدفوا أي أسرجوا من السراج- و الريب الشبهة جمع ريبة- . و المضمار الموضع الذي تضمر فيه الخيل- و المضمار أيضا المدة التي تضمر فيها- .

و التضمير أن تعلف الفرس حتى يسمن- ثم ترده إلى قوته الأولى و ذلك في أربعين يوما- و قد يطلق التضمير على نقيض ذلك- و هو التجويع حتى يهزل و يخف لحمه- ضمر الفرس بالفتح يضمر بالضم ضمورا- و جاء ضمر الفرس بالضم و أضمرته أنا- و ضمرته فاضطمر هو- و لؤلؤ مضطمر في وسطه بعض الانضمام- رجل لطيف الجسم ضمير البطن- و ناقة ضامر و ضامرة أيضا- يقول مكنهم الحكيم سبحانه و خلاهم و أعمالهم- كما تمكن الخيل التي تستبق في المضمار ليعلم أيها أسبق- . و الروية الفكرة و الارتياد الطلب- ارتاد فلان الكلأ يرتاده ارتيادا طلبه- و مثله راد الكلأ يروده رودا و ريادا-و في الحديث إذا بال أحدكم فليرتد لبوله- أي فليطلب مكانا لينا أو منحدرا- و الرائد الذي يرسله القوم في طلب الكلإ- و في المثل الرائد لا يكذب أهله- و الأناة التؤدة و الانتظار مثل القناة- . و تأنى في الأمر ترفق و استأنى فلان بفلان- أي انتظر به و جاء الأناء بالفتح و المد على فعال- قال الحطيئة

و أكريت العشاء إلى سهيل
أو الشعرى فطال بي الأناء

و المقتبس متعلم العلم هاهنا- و لا بد له من أناة و مهل ليبلغ حاجته فضرب مثلا- و جاء في بعض الروايات- و مقبوضون اختضارا بالخاء المعجمة- و هو موت الشاب غضا أخضر أي مات شابا- و كان فتيان يقولون لشيخ أ جززت يا أبا فلان- فيقول أي بني و تختضرون- أجز الحشيش آن أن يجز- و منه قيل للشيخ كاد يموت قد أجز- و الرواية الأولى أحسن لأنها أعم- . و في رواية لمضمار الخيار أي للمضمار- الذي يستبق فيه الأبرار الأتقياء إلى رضوان الله سبحانه: فَيَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَةً وَ مَوَاعِظَ شَافِيَةً- لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً وَ أَسْمَاعاً وَاعِيَةً- وَ آرَاءً عَازِمَةً وَ أَلْبَاباً حَازِمَةً- فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ وَ اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ- وَ وَجِلَ فَعَمِلَ وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ وَ أَيْقَنَ فَأَحْسَنَ وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ- وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ وَ أَجَابَ فَأَنَابَ وَ رَاجَعَ فَتَابَ- وَ اقْتَدَى فَاحْتَذَى وَ أُرِيَ فَرَأَى فَأَسْرَعَ طَالِباً وَ نَجَا هَارِباً- فَأَفَادَ ذَخِيرَةً وَ أَطَابَ سَرِيرَةً وَ عَمَّرَ مَعَاداً- وَ اسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَ وَجْهِ سَبِيلِهِ وَ حَالِ حَاجَتِهِ- وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ- وَ احْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمُ مِنْ نَفْسِهِ- وَ اسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ- وَ الْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ صائبة غير عادلة عن الصواب- صاب السهم يصوب صوبة أي قصد و لم يجر-و صاب السهم القرطاس يصيبه صبيا لغة في أصابه- و في المثل مع الخواطئ سهم صائب- . و شافية تبرئ من مرض الجهل و الهوى- و القلوب الزاكية الطاهرة- و الأسماع الواعية الحافظة- و الآراء العازمة ذات العزم- و الألباب العقول و الحازمة ذات الحزم- و الحزم ضبط الرجل أمره- .

و خشع الرجل أي خضع و اقترف اكتسب- و مثله قرف يقرف بالكسر- يقال هو يقرف لعياله أي يكسب- . و وجل الرجل خاف وجلا بفتح الجيم- و مستقبلة يوجل و يأجل و ييجل و ييجل- بكسر الياء المضارعة- . و بادر سارع و عبر أي أري العبر مرارا كثيرة- لأن التشديد هاهنا دليل التكثير- . فاعتبر أي فاتعظ و الزجر النهي و المنع زجر أي منع- و ازدجر مطاوع ازدجر اللفظ فيهما واحد- تقول ازدجرت زيدا عن كذا فازدجر هو و هذا غريب- و إنما جاء مطاوع ازدجر في زجر لأنهما كالشي‏ء الواحد- و في بعض الروايات ازدجر فازدجر- فلا يحتاج مع هذه الرواية إلى تأويل- .

و أناب الرجل إلى الله أي أقبل و تاب- و اقتدى بزيد فعل مثل فعله و احتذى مثله- . قوله ع فأفاد ذخيرة أي فاستفاد و هو من الأضداد- أفدت المال زيدا أعطيته إياه- و أفدت أنا مالا أي استفدته و اكتسبته- . قوله ع فاتقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له- نصب جهة بفعل مقدر- تقديره و اقصدوا جهة ما خلقكم له يعني العبادة- لأنه تعالى قال وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ- فحذف الفعل و استغنى عنه بقوله فَاتَّقُوا اللَّهَ- لأن التقوى‏ ملازمة لقصد المكلف العبادة- فدلت عليه و استغنى بها عن إظهاره- . و الكنه الغاية و النهاية- تقول أعرفه كنه المعرفة أي نهايتها- .

ثم قال ع و استحقوا منه ما أعد لكم- أي اجعلوا أنفسكم مستحقين لثوابه- الذي أعده لكم إن أطعتم- . و الباء في بالتنجز متعلق باستحقوا- و يقال فلان يتنجز الحاجة- أي يستنجحها و يطلب تعجلها- و الناجز العاجل يقال ناجزا بناجز- كقولك يدا بيد أي تعجيلا بتعجيل- و التنجز من المكلفين بصدق ميعاد القديم سبحانه- و هو مواظبتهم على فعل الواجب و تجنب القبيح- و و الحذر مجرور بالعطف على التنجز- لا على الصدق لأنه لا معنى له: وَ مِنْهَا جَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا- وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا وَ أَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا- مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا- بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا وَ قُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا- فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ وَ حَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ- وَ قَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ- وَ خَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ- مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ- أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الآْمَالِ وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الآْجَالِ- لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ- وَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ‏ قوله لتعي ما عناها أي لتحفظ و تفهم ما أهمها-و منه الأثر المرفوع من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه- . و لتجلو أي لتكشف- . و عن هاهنا زائدة و يجوز أن تكون بمعنى بعد كما قال-لقحت حرب وائل عن حيال‏- . أي بعد حيال فيكون قد حذف المفعول- و حذفه جائز لأنه فضله- و يكون التقدير لتجلو الأذى بعد عشاها- و العشى مقصور مصدر عشي بكسر الشين يعشى فهو عش- إذا أبصر نهارا و لم يبصر ليلا- . و الأشلاء جمع شلو و هو العضو- .

فإن قلت فأي معنى في قوله- أعضاء تجمع أعضاء تجمع أعضاءها- و كيف يجمع الشي‏ء نفسه- قلت أراد ع بالأشلاء هاهنا الأعضاء الظاهرة- و بالأعضاء الجوارح الباطنة- و لا ريب أن الأعضاء الظاهرة- تجمع الأعضاء الباطنة و تضمها- و الملاءمة الموافقة و الأحناء الجوانب و الجهات- و وجه الموافقة و الملاءمة أن كون اليد في الجانب أولى- من كونها في الرأس أو في أسفل القدم- لأنها إذا كانت في الجانب كان البطش- و تناول ما يراد و دفع ما يؤذى أسهل- و كذلك القول في جعل العين في الموضع الذي جعلت به- لأنها كديدبان السفينة البحرية- و لو جعلت في أم الرأس- لم ينتفع بها هذا الحد من الانتفاع الآن- و إذا تأملت سائر أدوات الجسد و أعضائه وجدتها كذلك- .

ثم قال في تركيب صورها كأنه قال مركبة أو مصورة- فأتى بلفظه في كما تقول ركب بسلاحه و في سلاحه أي متسلحا- . و قوله بأرفاقها أي بمنافعها جمع رفق- بكسر الراء مثل حمل و أحمال- و أرفقت فلانا أي نفعته- و المرفق من الأمر ما ارتفقت به و انتفعت- و يروى بأرماقها و الرمق بقية الروح- . و رائدة طالبة و مجللات النعم تجلل الناس أي تعمهم- من قولهم سحاب مجلل أي يطبق الأرض- و هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف- كقولك أنا في سابغ ظلك و عميم فضلك- كأنه قال في نعمه المجللة و كذلك القول في موجبات مننه- أي في مننه التي توجب الشكر- . و في هاهنا متعلقة بمحذوف و الموضع نصب على الحال- .

ثم قال و حواجز عافيته الحواجز الموانع- أي في عافية تحجز و تمنع عنكم المضار- . و يروى و حواجز بليته- و قد فسر قوله حواجز عافيته- على أن يراد به ما يحجز العافية- و يمنعها عن الزوال و العدم- . قوله ع من مستمتع خلاقهم الخلاق النصيب- قال تعالى وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ- و قال تعالى فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ- كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ- و تقدير الكلام خلف لكم عبرا من القرون السالفة- منها تمتعهم بنصيبهم من الدنيا ثم فناؤهم- و منها فسحة خناقهم و طول إمهالهم- ثم كانت عاقبتهم الهلكة- . و أرهقتهم المنايا أدركتهم مسرعة- .

و المرهق الذي أدرك ليقتل و شذبهم عنها قطعهم و فرقهم- من تشذيب الشجرة و هو تقشيرها- . و تخرمت زيدا المنية استأصلته و اقتطعته- . ثم قال لم يمهدوا في سلامة الأبدان أي لم يمهدوا لأنفسهم- من تمهيد الأمور و هو تسويتها و إصلاحها- . و أنف الأوان أوله يقال روضة أنف لم ترع قبل- و كأس أنف لم يشرب بها قبل: فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ- وَ أَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ- وَ أَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ- وَ أُزُوفِ الِانْتِقَالِ وَ عَلَزِ الْقَلَقِ وَ أَلَمِ الْمَضَضِ وَ غُصَصِ الْجَرَضِ- وَ تَلَفُّتِ الِاسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَ الْأَقْرِبَاءِ- وَ الْأَعِزَّةِ وَ الْقُرَنَاءِ فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ- أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً- وَ فِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ- وَ أَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ وَ عَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ- وَ مَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ وَ صَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا- وَ الْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا- وَ الْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا- مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا- وَ لَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا

البضاضة مصدر من بضضت يا رجل- بضضت بالفتح و الكسر بضاضة و بضوضة- و رجل بض أي ممتلئ البدن رقيق الجلد و امرأة بضة- . و حواني الهرم جمع حانية- و هي العلة التي تحني شطاط الجسد و تميله عن الاستقامة- . و الهرم الكبر و الغضارة طيب العيش- و منه المثل أباد الله غضراءهم أي خيرهم و خصبهم- . و آونة الفناء جمع أوان و هو الحين كزمان و أزمنة- و فلان يصنع ذلك الأمر آونة- كقولك تارات أي يصنعه مرارا و يدعه مرارا- . و الزيال مصدر زايله مزايلة و زيالا أي فارقه- . و الأزوف مصدر أزف أي دنا- . و العلز قلق و خفة و هلع يصيب الإنسان- و قد علز بالكسر و بات علزا أي وجعا قلقا- و المضض الوجع أمضني الجرح و مضني لغتان- و قد مضضت يا رجل بالكسر- . و الغصص جمع غصة و هي الشجا- و الغصص بالفتح مصدر قولك غصصت يا رجل تغص بالطعام- فأنت غاص و غصان و أغصصته أنا- .

و الجريض الريق يغص به- جرض بريقه بالفتح يجرض بالكسر مثل كسر يكسر- و هو أن يبلع ريقه على هم و حزن بالجهد و الجريض الغصة- و في المثل حال‏ الجريض دون القريض- و فلان يجرض بنفسه إذا كان يموت- و أجرضه الله بريقه أغصه- . و الحفدة الأعوان و الخدم و قيل ولد الولد واحدهم حافد- و الباء في بنصرة الحفدة متعلق بالاستعانة- يقول إن الميت عند نزول الأمر به- يتلفت مستغيثا بنصرة أهله و ولده- أي يستنصر يستصرخ بهم- . و النواحب جمع ناحبة و هي الرافعة صوتها بالبكاء- و يروى النوادب- . و الهوام جمع هامة و هي ما يخاف ضرره من الأحناش- كالعقارب و العناكب و نحوها- و النواهك جمع ناهكة و هي ما ينهك البدن أي يبليه- . و عفت درست و يروى بالتشديد- و شحبة هالكة و الشحب الهلاك- شحب الرجل بالكسر يشحب- و جاء شحب بالفتح يشحب بالضم أي هلك- و شحبة الله يشحبه يتعدى و لا يتعدى- . و نخرة بالية و الأعباء الأثقال واحدها عب‏ء- .

و قال موقنة بغيب أنبائها- لأن الميت يعلم بعد موته ما يصير إليه حاله من جنة أو نار- . ثم قال إنها لا تكلف بعد ذلك زيادة في العمل الصالح- و لا يطلب منها التوبة من العمل القبيح- لأن التكليف قد بطل: أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَ الآْبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ الْأَقْرِبَاءَ- تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ وَ تَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ- فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا-سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا- وَ كَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا القدة بالدال المهملة و بكسر القاف الطريقة- و يقال لكل فرقة من الناس- إذا كانت ذات هوى على حدة قدة- و منه قوله تعالى كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً- و من رواه و يركبون قذتهم بالذال المعجمة و ضم القاف- أراد الواحدة من قذذ السهم و هي ريشة- يقال حذو القذة بالقذة و يكون معنى و تركبون قذتهم- تقتفون آثارهم و تشابهون بهم في أفعالهم- .

ثم قال و تطئون جادتهم و هذه لفظة فصيحة جدا- . ثم ذكر قساوة القلوب و ضلالها عن رشدها- و قال كأن المعني سواها-هذا مثل قول النبي ص كأن الموت فيها على غيرنا كتب- و كأن الحق فيها على غيرنا وجب وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ- وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِهِ وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ- تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ- وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ- وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ-وَ أَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ- وَ تَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ- وَ سَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ- وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ- وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ- ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى وَ رَاحَةِ النُّعْمَى- فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَ آمَنِ يَوْمِهِ- قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً وَ قَدَّمَ زَادَ الآْجِلَةِ سَعِيداً- وَ بَادَرَ عَنْ وَجَلٍ وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ- وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ- وَ رُبَّمَا نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ- فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَ نَوَالًا وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا- وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً- وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً و قال أصحابنا رحمهم الله تعالى- الصراط الوارد ذكره في الكتاب العزيز- هو الطريق لأهل الجنة إلى الجنة- و لأهل النار إلى النار بعد المحاسبة- قالوا لأن أهل الجنة ممرهم على باب النار- فمن كان من أهل النار عدل به إليها و قذف فيها- و من كان من أهل الجنة- مر بالنار مرورا نجا منها إلى الجنة- و هو معنى قوله تعالى وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها- لأن ورودها هو القرب منها و الدنو إليها- و قد دل القرآن على سور مضروب بين مكان النار- و بين الموضع الذي يجتازون منه إلى الجنة في قوله- فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ- باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ- .

قالوا و لا يصح ما روي في بعض الأخبار- أن الصراط أدق من الشعر و أحد من السيف- و أن المؤمن يقطعه كمرور البرق الخاطف- و الكافر يمشي عليه حبوا- و أنه ينتفض بالذين عليه حتى تتزايل مفاصلهم- قالوا لأن مثل ذلك لا يكون طريقا للماشي- و لا يتمكن من المشي عليه- و لو أمكن لم يصح التكليف في الآخرة- ليؤمر العقلاء بالمرور عليه على وجه التعبد- . ثم سأل أصحابنا أنفسهم- فقالوا أي فائدة في عمل هذا السور- و أي فائدة في كون الطريق الذي هو الصراط- منتهيا إلى باب النار منفرجا منها إلى الجنة- أ لستم تعللون أفعال البارئ تعالى بالمصالح- و الآخرة ليست دار تكليف- ليفعل فيها هذه الأفعال للمصالح- .

و أجابوا بأن شعور المكلفين في الدنيا بهذه الأشياء- مصالح لهم و ألطاف في الواجبات العقلية- فإذا أعلم المكلفون بها- وجب إيقاعها على حسب ما وعدوا و أخبروا به- لأن الله صادق لا خلف في إخباره- . و عندي أنه لا يمتنع- أن يكون الصراط على ما وردت به الأخبار- و لا مانع من ذلك قولهم لا يكون طريقا للماشي- و لا يتمكن من المشي عليه مسلم- و لكن لم لا يجوز أن يكون في جعله على هذا الوجه- و الإخبار عن كيفيته هذه مصلحة للمكلفين في الدنيا- و ليس عدم تمكن الإنسان من المشي عليه- بمانع من إيقاعه على هذا الوجه- لأن المراد من هذا و أمثاله هو التخويف و الزجر- . و أما قولهم الآخرة ليست دار تكليف- فلقائل أن يقول لهم لم قلتم إنه تكليف- و لم لا يجوز أن يكون المكلفون مضطرين إلى سلوكه اضطرارا- فالمؤمن يخلق الله فيه الثبات و السكينة- و الحركة السريعة فينجو و يسلم- و الكافر يخلق فيه ضد ذلك فيهوي و يعطب- و لا مانع من ذلك- .

يقال مكان دحض و دحض بالتحريك أي زلق- و أدحضته أنا أزلقته فدحض هو- . و الأهاويل الأمور المفزعة- و تارات أهواله كقوله دفعات أهواله- و إنما جعل أهواله تارات- لأن الأمور الهائلة إذا استمرت- لم تكن في الإزعاج و الترويع- كما تكون إذا طرأت تارة و سكنت تارة- . و انصب الخوف بدنه أتعب و النصب التعب- و التهجد هنا صلاة الليل و أصله السهر- و قد جاء التهجد بمعنى النوم أيضا و هو من الأضداد- . الغرار قلة النوم و أصله قلة لبن الناقة- و يقال غارت الناقة تغار غرارا قل لبنها- . فإن قلت كيف توصف قلة النوم بالسهر- و إنما يوصف بالسهر الإنسان نفسه- قلت هذا من مجازات كلامهم- كقولهم ليل ساهر و ليل نائم- .

و الهواجر جمع هاجرة- و هي نصف النهار عند اشتداد الحر- يقال قد هجر النهار- و أتينا أهلنا مهجرين أي سائرين في الهاجرة- . و ظلف منع- و ظلفت نفس فلان بالكسر عن كذا أي كفت- . و أوجف أسرع- كأنه جعل الذكر لشدة تحريكه اللسان موجفا به- كما توجف الناقة براكبها و الوجيف ضرب من السير- . ثم قال و قدم الخوف لأمانه اللام هاهنا لام التعليل- أي قدم خوفه ليأمن- و المخالج الأمور المختلجة أي الجاذبة- خلجه و اختلجه أي جذبه- . و أقصد المسالك أقومها و طريق قاصد أي مستقيم- . و فتله عن كذا أي رده و صرفه و هو قلب لفت- . و يروى قد عبر معبر العاجلة حميدا- و قدم زاد الآجلة سعيدا- .

و أكمش أسرع و مثله انكمش- و رجل كمش أي سريع- و قد كمش بالضم كماشة فهو كمش و كميش- و كمشته تكميشا أعجلته- . قوله و رغب في طلب و ذهب عن هرب- أي و رغب فيما يطلب مثله- و فر عما يهرب من مثله- فأقام المصدر مقام ذي المصدر- . و نظر قدما أمامه- أي و نظر ما بين يديه مقدما لم ينثن و لم يعرج- و الدال مضمومة هاهنا- . قال الشاعر يذم امرأة-

تمضي إذا زجرت عن سوأة قدما
كأنها هدم في الجفر منقاض‏

و من رواه بالتسكين- جاز أن يعنى به هذا و يكون قد خفف كما قالوا حلم و حلم- . و جاز أن يجعله مصدرا من قدم الرجل بالفتح- يقدم قدما أي تقدم- قال الله تعالى- يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يتقدمهم إلى ورودها- كأنه قال و نظر بين يديه متقدما لغيره- و سابقا إياه إلى ذلك- و الباء في بالجنة و بالنار- و بالله و بالكتاب زائدة- و التقدير كفى الله و كفى الكتاب‏: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ وَ احْتَجَّ بِمَا نَهَجَ- وَ حَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً- وَ نَفَثَ فِي الآْذَانِ نَجِيّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى وَ وَعَدَ فَمَنَّى- وَ زَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ- حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ وَ اسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ- أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ وَ اسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ أعذر بما أنذر ما هاهنا مصدرية أي أعذر بإنذاره- و يجوز أن تكون بمعنى الذي- .

و العدو المذكور الشيطان- . و قوله نفذ في الصدور و نفث في الآذان كلام صحيح بديع- و في قوله نفذ في الصدور مناسبة لقوله ص الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم- و النجي الذي يساره و الجمع الأنجية- قالإني إذا ما القوم كانوا أنجيه‏- . و قد يكون النجي جماعة مثل الصديق- قال الله تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا أي متناجين- . القرينة هاهنا الإنسان الذي قارنه الشيطان- و لفظه لفظ التأنيث و هو مذكر أراد القرين- قال تعالى فَبِئْسَ الْقَرِينُ- و يجوز أن يكون أراد بالقرينة النفس- و يكون‏الضمير عائدا إلى غير مذكور لفظا- لما دل المعنى عليه لأن قوله فأضل و أردى و وعد فمنى- معناه أضل الإنسان و أردى و وعده فمنى- فالمفعول محذوف لفظا- و إليه رجع الضمير على هذا الوجه- و يقال غلق الرهن- إذا لم يفتكه الراهن في الوقت المشروط- فاستحقه المرتهن- . و هذا الكلام مأخوذ من قوله تعالى- وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ- إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ- وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ- فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ- ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ الآية: وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ- أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَ شُغُفِ الْأَسْتَارِ- نُطْفَةً دِهَاقاً وَ عَلَقَةً مِحَاقاً- وَ جَنِيناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِيداً وَ يَافِعاً- ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً وَ لِسَاناً لَافِظاً وَ بَصَراً لَاحِظاً- لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً وَ يُقَصِّرَ مُزْدَجِراً- حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ وَ اسْتَوَى مِثَالُهُ- نَفَرَ مُسْتَكْبِراً وَ خَبَطَ سَادِراً مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ- كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ- ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً وَ لَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً- فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً وَ عَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً- لَمْ يُفِدْ عِوَضاً وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً- دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ- فَظَلَّ سَادِراً وَ بَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الآْلَامِ- وَ طَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَ الْأَسْقَامِ بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ وَ وَالِدٍ شَفِيقٍ-وَ دَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً وَ لَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً- وَ الْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَ غَمْرَةٍ كَارِثَةٍ- وَ أَنَّةٍ مُوجِعَةٍ وَ جَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ وَ سَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ- ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً- ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ وَ نِضْوَ سَقَمٍ- تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ وَ حَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ- وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ- حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ وَ رَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ- أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ وَ عَثْرَةِ الِامْتِحَانِ- وَ أَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ- وَ تَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ وَ فَوْرَاتُ السَّعِيرِ- وَ سَوْرَاتُ الزَّفِيرِ لَا فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ- وَ لَا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ وَ لَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ وَ لَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ وَ لَا سِنَةٌ مُسْلِيَةٌ- بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ وَ عَذَابِ السَّاعَاتِ- إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ أم هنا إما استفهامية على حقيقتها- كأنه قال أعظكم و أذكركم بحال الشيطان و إغوائه- أم بحال الإنسان منذ ابتدأ وجوده إلى حين مماته- و إما أن تكون منقطعة بمعنى بل- كأنه قال عادلا و تاركا لما وعظهم به- بل أتلو عليكم نبأ هذا الإنسان الذي حاله كذا- .

الشغف بالغين المعجمة جمع شغاف بفتح الشين- و أصله غلاف القلب يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه- و قرئ قَدْ شَغَفَها حُبًّا- . و الدهاق المملوءة- و يروى دفاقا من دفقت الماء أي صببته- . قال و علقة محاقا- المحاق ثلاث ليال من آخر الشهر- و سميت محاقا لأن القمر يمتحق فيهن- أي يخفى و تبطل صورته و- إنما جعل العلقة محاقا هاهنا- لأنها لم تحصل لها الصورة الإنسانية بعد- فكانت ممحوة ممحوة ممحوقة- .

و اليافع الغلام المرتفع أيفع و هو يافع- و هذا من النوادر و غلام يفع و يفعة- و غلمان أيفاع و يفعة أيضا- . قوله و خبط سادرا خبط البعير- إذا ضرب بيديه إلى الأرض و مشى لا يتوقى شيئا- . و السادر المتحير و السادر أيضا- الذي لا يهتم و لا يبالي ما صنع- و الموضع يحتمل كلا التفسيرين- . و الماتح الذي يستقي الماء من البئر و هو على رأسها- و المائح الذي نزل البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلاء- و سئل بعض أئمة اللغة عن الفرق بين الماتح و المائح- فقال اعتبر نقطتي الإعجام- فالأعلى للأعلى و الأدنى للأدنى- و الغرب الدلو العظيمة- و الكدح شدة السعي و الحركة- قال تعالى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً- . قوله و بدوات- أي ما يخطر له من آرائه التي تختلف فيها دواعيه- فتقدم و تحجم و مات غريرا أي شابا- و يمكن أن يراد به أنه غير مجرب للأمور- . و الهفوة الزلة هفا يهفو لم يفد عوضا أي لم يكتسب- . و غبر جماحة بقاياه قال أبو كبير الهذلي-

و مبرإ من كل غبر حيضة
و فساد مرضعة و داء مغيل‏

و الجماح الشرة و ارتكاب الهوى- و سنن مراحه السنن الطريقة- و المراح شدة الفرج و النشاط- . قوله فظل سادرا السادر هاهنا غير السادر الأول- لأنه هاهنا المغمى عليه كأنه‏ سكران- و أصله من سدر البعير من شدة الحر و كثرة الطلاء بالقطران- فيكون كالنائم لا يحس و مراده ع هاهنا أنه بدأ به المرض- و لادمة للصدر ضاربة له- و التدام النساء ضربهن الصدور عند النياحة- سكرة ملهثة تجعل الإنسان لاهثا لشدتها- لهث يلهث لهثانا و لهاثا- و يروى ملهية بالياء أي تلهي الإنسان و تشغله- . و الكارثة فاعلة من كرثه الغم يكرثه بالضم- أي اشتد عليه و بلغ منه غاية المشقة- .

الجذبة جذب الملك الروح من الجسد- أو جذب الإنسان إذا احتضر ليسجى- . و السوقة من سياق الروح عند الموت- و المبلس الذي ييئس من رحمة الله و منه سمي إبليس- و الإبلاس أيضا الانكسار و الحزن- و السلس السهل المقادة و الأعواد خشب الجنازة- و رجيع وصب الرجيع المعنى الكال- و الوصب الوجع وصب الرجل يوصب فهو واصب- و أوصبه الله فهو موصب- و الموصب بالتشديد الكثير الأوجاع و النضو الهزيل- و حشدة الإخوان جمع حاشد و هو المتأهب المستعد- و دار غربته قبره و كذلك منقطع زورته- لأن الزيارة تنقطع عنده- . و مفرد وحشته نحو ذلك- لانفراده بعمله و استيحاش الناس منه- حتى إذا انصرف المشيع و هو الخارج مع جنازته- أقعد في حفرته هذا تصريح بعذاب القبر- و سنذكر ما يصلح ذكره في هذا الموضع- . و النجي المناجي و نزول الحميم و تصلية الجحيم- من الألفاظ الشريفة القرآنية- . ثم نفى ع أن يكون في العذاب فتور يجد الإنسان معه راحة- أو سكون يزيح عنه الألم أي يزيله- أو أن الإنسان يجد في نفسه قوة تحجز بينه و بين الألم- أي تمنع و يموت موتا ناجزا معجلا- فيستريح أو ينام فيسلو وقت نومه- عما أصابه من الألم في اليقظة كما في دار الدنيا- .

ثم قال بين أطوار الموتات و هذا في ظاهره متناقض- لأنه نفى الموت مطلقا ثم قال بين أطوار الموتات- و الجواب أنه أراد بالموتات الآلام العظيمة- فسماها موتات لأن العرب تسمي المشقة العظيمة موتا- كما قالإنما الميت ميت الأحياء- . و يقولون الفقر الموت الأحمر- و استعمالهم مثل ذلك كثير جدا- . ثم قال إنا بالله عائذون- عذت بفلان و استعذت به أي التجأت إليه

فصل في ذكر القبر و سؤال منكر و نكير

و اعلم أن لقاضي القضاة في كتاب طبقات المعتزلة- في باب القبر و سؤال منكر و نكير كلاما- أنا أورد هاهنا بعضه قال رحمه الله تعالى- إن عذاب القبر إنما أنكره ضرار بن عمرو- و لما كان ضرار من أصحاب واصل بن عطاء- ظن كثير من الناس أن ذلك مما أنكرته المعتزلة- و ليس الأمر كذلك بل المعتزلة رجلان- أحدهما يجوز عذاب القبر و لا يقطع به و هم الأقلون- و الآخر يقطع على ذلك- و هم أكثر أصحابنا لظهور الأخبار الواردة فيه- و إنما تنكر المعتزلة قول طائفة من الجهلة- إنهم يعذبون و هم موتى لأن العقل يمنع من ذلك- و إذا كان الإنسان مع قرب العهد بموته- و لما يدفن يعلمون أنه لا يسمع و لا يبصر و لا يدرك- و لا يألم و لا يلتذ فكيف يجوز عليه ذلك و هو ميت في قبره- و ما روي من أن الموتى يسمعون لا يصح- إلا أن يراد به أن الله تعالى أحياهم- و قوى حاسة سمعهم فسمعوا و هم أحياء- .

قال رحمه الله تعالى و أنكر أيضا مشايخنا- أن يكون عذاب القبر دائما في كل حال- لأن الأخبار إنما وردت بذلك في الجملة- فالذي يقال به هو قدر ما تقتضيه الأخبار- دون ما زاد عليه مما لا دليل عليه- و لذلك لسنا نوقت في التعذيب وقتا- و إن كان الأقرب في الأخبار- أنها الأوقات المقارنة للدفن- و إن كان لا نعنيها بأعيانها- . هكذا قال قاضي القضاة و الذي أعرفه أنا- من مذهب كثير من شيوخنا قبل قاضي القضاة- أن الأغلب أن يكون عذاب القبر بين النفختين- .

ثم إن قاضي القضاة سأل نفسه- فقال إذا كانت الآخرة هي وقت المجازاة- فكيف يعذب في القبر في أيام الدنيا- . و أجاب بأن القليل من العقاب المستحق- قد يجوز أن يجعله الله في الدنيا لبعض المصالح- كما فعل في تعجيل إقامة الحدود على من يستحقها- فلا يمنع منه تعالى أن يفعل ذلك بالإنسان- إذا كان من أهل النار- . ثم سأل نفسه- فقال إذا كان بالموت قد زال عنه التكليف- فكيف يقولون يكون ذلك من مصالحه- . و أجاب بأنا لم نقل إن ذلك من مصالحه و هو ميت- و إنما نقول إنه مصلحة- أن نعلم في الدنيا ذلك من حال الموتى- لأنه إذا تصور أنه مات عوجل بضرب من العقاب في القبر- كان أقرب إلى أن ينصرف عن كثير من المعاصي- و قد يجوز أن يكون ذلك لطفا- للملائكة الذين يتولون هذا التعذيب- .

فأما القول في منكر و نكير- فإنه سأل نفسه رحمه الله تعالى- و قال كيف يجوز أن يسموا بأسماء الذم- و عندكم أن الملائكة أفضل من الأنبياء- .و أجاب فقال إن التسمية إذا كانت لقبا لم يقع بها ذم- لأن الذم إنما يقع لفائدة الاسم- و الألقاب كالإشارات لا فائدة تحتها- و لذا يلقب الرجل المسلم بظالم و كلب و نحو ذلك- فيجوز أن يكون هذان الاسمان من باب الألقاب- و يجوز أن يسميا بذلك من حيث يهجمان على الإنسان عند- إكمال الله تعالى عقله على وجه ينكره و يرتاع منه- فسميا منكرا و نكيرا- .

قال و قد روي في المساءلة في القبر أخبار كثيرة- و كل ذلك مما لا قبح فيه- بل يجوز أن يكون من مصالح المكلفين فلا يصح المنع عنه- . و جملة الأمر أن كل ما ثبت من ذلك بالتواتر و الإجماع- و ليس بمستحيل في القدرة- و لا قبيح في الحكمة يجب القول به- و ما عداه مما وردت به آثار و أخبار آحاد يجب أن يجوز- و يقال إنه مظنون ليس بمعلوم إذا لم يمنع منه الدليلعِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا- وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا- أُمْهِلُوا طَوِيلًا وَ مُنِحُوا جَمِيلًا- وَ حُذِّرُوا أَلِيماً وَ وُعِدُوا جَسِيماً- احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ وَ الْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ- أُولِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ وَ الْعَافِيَةِ وَ الْمَتَاعِ- هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ- أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ- فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ- وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ- قِيدُ قَدِّهِ مُنْعَفِراً عَلَى خَدِّهِ- الآْنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ- فِي فَيْنَةِ الْإِرْشَادِ وَ رَاحَةِالْأَجْسَادِ وَ بَاحَةِ الِاحْتِشَادِ- وَ مَهَلِ الْبَقِيَّةِ وَ أَنْفِ الْمَشِيَّةِ وَ إِنْظَارَ التَّوْبَةِ- وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ قَبْلَ الضَّنْكِ وَ الْمَضِيقِ- وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ- وَ أَخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ قال الرضي رحمه الله- و في الخبر أنه ع لما خطب بهذه الخطبة- اقشعرت لها الجلود و بكت العيون و رجفت القلوب- و من الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء نعم الرجل ينعم ضد قولك بئس- و جاء شاذا نعم ينعم بالكسر و أنظروا أمهلوا- و الذنوب المورطة التي تلقي أصحابها في الورطة- و هي الهلاك قال رؤبة-فأصبحوا في ورطة الأوراط- . و أصله أرض مطمئنة لا طريق فيها- و قد أورطت زيدا و ورطته توريطا فتورط- ثم قال ع أولي الأبصار و الأسماع- ناداهم نداء ثانيا بعد النداء الذي في أول الفصل- و هو قوله عباد الله- فقال يا من منحهم الله أبصارا و أسماعا و أعطاهم عافية- و متعهم متاعا هل من مناص و هو الملجأ و المفر- يقال ناص عن قرنه مناصا أي فر و راوغ- قال سبحانه وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ- .

و المحار المرجع من حار يحور أي رجع- قال تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ- . و يؤفكون يقلبون- أفكه يأفكه عن كذا قلبه عنه إلى غيره- و مثله يصرفون- . و قيد قده مقدار قده- يقال قرب منه قيد رمح و قاد رمح- و المراد هاهنا هو القبر لأنه بمقدار قامة الإنسان- . و المنعفر الذي قد لامس العفر و هو التراب- . ثم قال ع الآن و الخناق مهمل- تقديره اعملوا الآن و أنتم مخلون متمكنون- لم يعقد الحبل في أعناقكم و لم تقبض أرواحكم- . و الروح يذكر و يؤنث و الفينة الوقت- و يروى و فينة الارتياد و هو الطلب- . و أنف المشية أول أوقات الإرادة و الاختيار- . قوله و انفساح الحوبة أي سعة وقت الحاجة- و الحوبة الحاجة و الأرب- قال الفرزدق

فهب لي خنيسا و اتخذ فيه منة
لحوبة أم ما يسوغ شرابها

و الغائب المنتظر هو الموت- . قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى حدثني ثمامة- قال سمعت جعفر بن يحيى و كان من أبلغ الناس و أفصحهم- يقول الكتابة ضم اللفظة إلى أختها- أ لم تسمعوا قول شاعر لشاعر و قد تفاخرا- أنا أشعر منك لأني أقول البيت و أخاه- و أنت تقول البيت و ابن عمه- ثم قال و ناهيك حسنا بقول علي بن أبي طالب ع- هل من مناص أو خلاص أو معاذ أو ملاذ أو فرار أو محار- .

قال أبو عثمان و كان جعفر يعجب أيضا بقول علي ع- أين من جد و اجتهد و جمع و احتشد و بنى فشيد و فرش فمهد- و زخرف فنجد
– قال أ لا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها- جاذبة إياها إلى نفسها دالة عليها بذاتها- قال أبو عثمان فكان جعفر يسميه فصيح قريش- . و اعلم أننا لا يتخالجنا الشك في أنه ع أفصح- من كل ناطق بلغة العرب من الأولين و الآخرين- إلا من كلام الله سبحانه و كلام رسول الله ص- و ذلك لأن فضيلة الخطيب- و الكاتب في خطابته و كتابته- تعتمد على أمرين هما مفردات الألفاظ و مركباتها- .

أما المفردات- فأن تكون سهلة سلسة غير وحشية و لا معقدة- و ألفاظه ع كلها كذلك- فأما المركبات فحسن المعنى و سرعة وصوله إلى الأفهام- و اشتماله على الصفات التي باعتبارها- فضل بعض الكلام على بعض- و تلك الصفات هي الصناعة- التي سماها المتأخرون البديع- من المقابلة و المطابقة و حسن التقسيم- و رد آخر الكلام على صدره و الترصيع و التسهيم و التوشيح- و المماثلة و الاستعارة و لطافة استعمال المجاز- و الموازنة و التكافؤ و التسميط و المشاكلة- . و لا شبهة أن هذه الصفات كلها موجودة في خطبه و كتبه- مبثوثة متفرقة في فرش كلامه ع- و ليس يوجد هذان الأمران في كلام أحد غيره- فإن كان قد تعملها و أفكر فيها- و أعمل رويته في رصفها و نثرها- فلقد أتى بالعجب العجاب- و وجب‏أن يكون إمام الناس كلهم في ذلك- لأنه ابتكره و لم يعرف من قبله و إن كان اقتضبها ابتداء- و فاضت على لسانه مرتجلة و جاش بها طبعه بديهة- من غير روية و لا اعتمال فأعجب و أعجب- . و على كلا الأمرين فلقد جاء مجليا- و الفصحاء تنقطع أنفاسهم على أثره- و بحق ما قال معاوية لمحقن الضبي- لما قال له جئتك من عند أعيا الناس يا ابن اللخناء- أ لعلي تقول هذا- و هل سن الفصاحة لقريش غيره- .

و اعلم أن تكلف الاستدلال على أن الشمس مضيئة يتعب- و صاحبه منسوب إلى السفه- و ليس جاحد الأمور المعلومة علما ضروريا بأشد سفها- ممن رام الاستدلال بالأدلة النظرية عليها

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 6 

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.