خطبه 238 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(الخطبة بالقاصعة)(الاوّل)

238 و من خطبة له ع- و من الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة

و هي تتضمن ذم إبليس لعنه الله- على استكباره و تركه السجود لآدم ع- و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية- و تحذير الناس من سلوك طريقته- : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ- وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ- وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ- وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ- وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ- ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ- لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ- وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ- فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ- فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ- اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ- وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ- فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ- الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبَرِيَّةِ- وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ- أَلَا يَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ- وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً- وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الآْخِرَةِ سَعِيراً

يجوز أن تسمى هذه الخطبة القاصعة- من قولهم قصعت الناقة بجرتها- و هو أن تردها إلى جوفها- أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها- فلما كانت الزواجر و المواعظ في هذه الخطبة- مرددة من أولها إلى آخرها- شبهها بالناقة التي تقصع الجرة- و يجوز أن تسمى القاصعة- لأنها كالقاتلة لإبليس و أتباعه من أهل العصبية- من قولهم قصعت القملة إذا هشمتها و قتلتها- و يجوز أن تسمى القاصعة- لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره و نخوته- فيكون من قولهم قصع الماء عطشه- أي أذهبه و سكنه- قال ذو الرمة بيتا في هذا المعنى-

فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها
و قد تشح فلا ري و لا هيم‏

 الصرائر جمع صريرة و هي العطش- و يجوز أن تسمى القاصعة- لأنها تتضمن تحقير إبليس و أتباعه و تصغيرهم- من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته و حقرته- و غلام مقصوع أي قمي‏ء لا يشب و لا يزداد- . و العصبية على قسمين عصبية في الله و هي محمودة- و عصبية في الباطل و هي مذمومة- و هي التي نهى أمير المؤمنين ع عنها و كذلك الحمية- و جاء في الخبر العصبية في الله تورث الجنة- و العصبية في الشيطان تورث النار – .

و جاء في الخبر العظمة إزاري و الكبرياء ردائي- فمن نازعني فيهما قصمته – و هذا معنى قوله ع اختارهما لنفسه دون خلقه- إلى آخر قوله من عباده- . قال ع ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين- مع علمه بمضمراتهم و ذلك لأن اختباره سبحانه ليس ليعلم- بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع و عصيان من يعصي- و كذلك قوله سبحانه- وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها- إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ‏الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ- النون في لنعلم نون الجمع لا نون العظمة- أي لتصير أنت و غيرك من المكلفين- عالمين لمن يطيع و من يعصي كما أنا عالم بذلك- فتكونوا كلكم مشاركين لي في العلم بذلك- . فإن قلت و ما فائدة وقوفهم على ذلك و علمهم به- قلت ليس بممتنع أن يكون ظهور حال العاصي و المطيع- و علم المكلفين أو أكثرهم أو بعضهم به- يتضمن لطفا في التكليف- .

فإن قلت إن الملائكة لم تكن تعلم ما البشر- و لا تتصور ماهيته فكيف قال لهم- إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ- قلت قد كان قال لهم- إني خالق جسما من صفته كيت و كيت- فلما حكاه اقتصر على الاسم- و يجوز أن يكون عرفهم من قبل- أن لفظة بشر على ما ذا تقع ثم قال لهم- إني خالق هذا الجسم المخصوص الذي أعلمتكم- أن لفظة بشر واقعة عليه من طين- . قوله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي إذا أكملت خلقه- . فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمرهم بالسجود له- و قد اختلف في ذلك فقال قوم- كان قبلة كما الكعبة اليوم قبلة- و لا يجوز السجود إلا لله- و قال آخرون بل كان السجود له تكرمة و محنة- و السجود لغير الله غير قبيح في العقل- إذا لم يكن عبادة و لم يكن فيه مفسدة- .

و قوله تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي- أي أحللت فيه الحياة و أجريت الروح إليه في عروقه- و أضاف الروح إليه تبجيلا لها- و سمى ذلك نفخا على وجه الاستعارة- لأن العرب تتصور من الروح معنى الريح- و النفخ يصدق على الريح- فاستعار لفظة النفخ توسعا- .

و قالت الحكماء هذا عبارة عن النفس الناطقة- . فإن قلت هل كان إبليس من الملائكة أم لا- قلت قد اختلف في ذلك- فمن جعله منهم احتج بالاستثناء- و من جعله من غيرهم احتج بقوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ- و جعل الاستثناء منقطعا- و بأن له نسلا و ذرية قال تعالى- أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي- و الملائكة لا نسل لهم و لا ذرية- و بأن أصله نار و الملائكة أصلها نور- و قد مر لنا كلام في هذا في أول الكتاب- .

قوله فافتخر على آدم بخلقه و تعصب عليه لأصله- كانت خلقته أهون من خلقة آدم ع- و كان أصله من نار و أصل آدم ع من طين- . فإن قلت كيف حكم على إبليس بالكفر- و لم يكن منه إلا مخالفة الأمر- و معلوم أن تارك الأمر فاسق لا كافر- قلت إنه اعتقد أن الله أمره بالقبيح- و لم ير أمره بالسجود لآدم ع حكمة- و امتنع من السجود تكبرا- و رد على الله أمره و استخف بمن أوجب الله إجلاله- و ظهر أن هذه المخالفة عن فساد عقيدة فكان كافرا- . فإن قلت هل كان كافرا في الأصل أم كان مؤمنا ثم كفر- قلت أما المرجئة فأكثرهم يقول- كان في الأصل كافرا- لأن المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر- و أما أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلا- توقفوا في حال إبليس و جوزوا كلا الأمرين- .

قوله ع رداء الجبرية الباء مفتوحة- يقال فيه جبرية و جبروة و جبروت- و جبورة كفروجة أي كبر و أنشدوا-

فإنك إن عاديتني غضب الحصا
عليك و ذو الجبورة المتغطرف‏

– . و جعله مدحورا أي مطرودا مبعدا- دحره الله دحورا أي أقصاه و طرده: وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ- يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ- وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ- وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً- وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ- وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ- تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ- وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ- فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ- إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ- وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ- لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآْخِرَةِ- عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ- فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ- كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً- بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً- إِنْ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ- وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ- فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ خطفت الشي‏ء بكسر الطاء أخطفه- إذا أخذته بسرعة استلابا- و فيه لغة أخرى‏خطف بالفتح- و يخطف بالفتح و يخطف بالكسر- و هي لغة رديئة قليلة لا تكاد تعرف و قد قرأ بها يونس في قوله تعالى- يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ- . و الرواء بالهمزة و المد المنظر الحسن- و العرف الريح الطيبة- . و الخيلاء بضم الخاء و كسرها الكبر- و كذلك الخال و المخيلة- تقول اختال الرجل و خال أيضا أي تكبر- .

و أحبط عمله أبطل ثوابه- و قد حبط العمل حبطا بالتسكين و حبوطا- و المتكلمون يسمون إبطال الثواب إحباطا- و إبطال العقاب تكفيرا- . و جهده بفتح الجيم اجتهاده و جده- و وصفه بقوله الجهيد أي المستقصى- من قولهم مرعى جهيد- أي قد جهده المال الراعي و استقصى رعية- .

و كلامه ع يدل على أنه كان يذهب- إلى أن إبليس من الملائكة لقوله- أخرج منها ملكا و الهوادة الموادعة و المصالحة- يقول إن الله تعالى خلق آدم من طين- و لو شاء أن يخلقه من النور الذي يخطف- أو من الطيب الذي يعبق لفعل- و لو فعل لهال الملائكة أمره و خضعوا له- فصار الابتلاء و الامتحان و التكليف بالسجود له- خفيفا عليهم لعظمته في نفوسهم- فلم يستحقوا ثواب العمل الشاق- و هذا يدل على أن الملائكة تشم الرائحة كما نشمها نحن- و لكن الله تعالى يبتلي عباده- بأمور يجهلون أصلها اختبارا لهم- . فإن قلت ما معنى قوله ع تمييزا بالاختبار لهم- قلت لأنه ميزهم عن غيرهم من مخلوقاته- كالحيوانات العجم و أبانهم عنهم- و فضلهم عليهم بالتكليف و الامتحان- .

قال و نفيا للاستكبار عنهم- لأن العبادات خضوع و خشوع و ذلة- ففيها نفي الخيلاء و التكبر عن فاعليها- فأمرهم بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة- لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة- و هذا يدل على أنه قد سمع فيه نصا من رسول الله ص- مجملا لم يفسره له أو فسره له خاصة- و لم يفسره أمير المؤمنين ع للناس- لما يعلمه في كتمانه عنهم من المصلحة- . فإن قلت قوله لا يدرى- على ما لم يسم فاعله يقتضي أنه هو لا يدري- قلت إنه لا يقتضي ذلك- و يكفي في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة- أن يجهله الأكثرون- . فأما القول في سني الآخرة كم هي- فاعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز آيات مختلفات- إحداهن قوله تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ- فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ- .

و الأخرى قوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ- ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ- كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ- . و الثالثة قوله- وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ- . و أولى ما قيل فيها- أن المراد بالآية الأولى مدة عمر الدنيا- و سمي ذلك يوما- و قال إن الملائكة لا تزال تعرج إليه- بأعمال البشر طول هذه المدة حتى ينقضي التكليف- و ينتقل الأمر إلى دار أخرى- و أما الآيتان الأخيرتان- فمضمونهما بيان كمية أيام الآخرة- و هو أن كل يوم منها مثل ألف سنة من سني الدنيا- .

فإن قلت فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس- إذا كانت ستة آلاف سنة من سني الآخرة- قلت يكون ما يرتفع من ضرب أحد المضروبين في الآخرة- و هو ألفا ألف ألف ثلاث لفظات- الأولى منهم مثناة و مائة ألف ألف لفظتان- و ستون ألف ألف سنة لفظتان أيضا من سني الدنيا- و لما رأى أمير المؤمنين ع هذا المبلغ عظيما جدا- علم أن أذهان السامعين لا تحتمله- فلذلك أبهم القول عليهم و قال- لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة- . فإن قلت فإذا كنتم قد رجحتم قول من يقول- إن عمر الدنيا خمسون ألف سنة- فكم يكون عمرها إن كان الله تعالى- أراد خمسين ألف سنة من سني الآخرة- لأنه لا يؤمن أن يكون أراد ذلك- إذا كانت السنة عنده عبارة عن مدة غير هذه المدة- التي قد اصطلح عليها الناس- قلت يكون ما يرتفع من ضرب خمسين ألفا- في ثلاثمائة و ستين ألف من سني الدنيا- و مبلغ ذلك ثمانية عشر ألف ألف ألف سنة- من سني الدنيا ثلاث لفظات- و هذا القول قريب من القول المحكي عن الهند- .

و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه- روايات كثيرة بأسانيد أوردها- عن جماعة من الصحابة- أن إبليس كان إليه ملك السماء و ملك الأرض- و كان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن- و إنما سموا الجن لأنهم كانوا خزان الجنان- و كان إبليس رئيسهم و مقدمهم- و كان أصل خلقهم من نار السموم و كان اسمه الحارث- قال و قد روي أن الجن كانت في الأرض- و أنهم أفسدوا فيها- فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة- فقتلهم و طردهم إلى جزائر البحار- ثم تكبر في نفسه- و رأى أنه قد صنع شيئا عظيما لم يصنعه غيره- قال و كان شديد الاجتهاد في العبادة- .

و قيل كان اسمه عزازيل- و أن الله تعالى جعله حكما و قاضيا بين سكان الأرض- قبل خلق آدم فدخله الكبر و العجب- لعبادته و اجتهاده- و حكمه في سكان الأرض و قضائه بينهم- فانطوى على المعصية- حتى كان من أمره مع آدم ع ما كان- قلت و لا ينبغي أن نصدق من هذه الأخبار و أمثالها- إلا ما ورد في القرآن العزيز- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه- أو في السنة أو نقل عمن يجب الرجوع إلى قوله- و كل ما عدا ذلك فالكذب فيه أكثر من الصدق- و الباب مفتوح- فليقل كل أحد في أمثال هذه القصص ما شاء- و اعلم أن كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل- يطابق مذهب أصحابنا في أن الجنة لا يدخلها ذو معصية- أ لا تسمع قوله- فمن بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته- كلا ما كان الله ليدخل الجنة بشرا- بأمر أخرج به منها ملكا- إن حكمه في أهل السماء و الأرض لواحد- .

فإن قلت أ ليس من قولكم- إن صاحب الكبيرة إذا تاب دخل الجنة- فهذا صاحب معصية و قد حكمتم له بالجنة- قلت إن التوبة أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص- . فإن قلت إن أمير المؤمنين ع إنما قال- فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته- و لم يقل بالمعصية المطلقة- و المرجئة لا تخالف- في أن من وافى القيامة بمثل معصية إبليس- لم يكن من أهل الجنة- قلت كل معصية كبيرة فهي مثل معصيته- و لم يكن إخراجه من الجنة لأنه كافر- بل لأنه عاص مخالف للأمر- أ لا ترى أنه قال سبحانه- قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها- فعلل إخراجه من الجنة بتكبره لا بكفره- . فإن قلت هذا مناقض لما قدمت في شرح الفصل الأول-قلت كلا لأني في الفصل الأول- عللت استحقاقه اسم الكفر- بأمر زائد على المعصية المطلقة و هو فساد اعتقاده- و لم أجعل ذلك علة في خروجه من الجنة- و هاهنا عللت خروجه من الجنة- بنفس المعصية فلا تناقض- .

فإن قلت ما معنى قول أمير المؤمنين ع- ما كان الله ليدخل الجنة بشرا- بأمر أخرج به منها ملكا- و هل يظن أحد أو يقول- إن الله تعالى يدخل الجنة أحدا من البشر- بالأمر الذي أخرج به هاهنا إبليس- كلا هذا ما لا يقوله أحد- و إنما الذي يقوله المرجئة- إنه يدخل الجنة من قد عصى و خالف الأمر- كما خالف الأمر إبليس- برحمته و عفوه و كما يشاء- لا أنه يدخله الجنة بالمعصية- و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي- نفي دخول أحد الجنة بالمعصية- لأن الباء للسببية- قلت الباء هاهنا ليست للسببية- كما يتوهمه هذا المعترض- بل هي كالباء في قولهم خرج زيد بثيابه- و دخل زيد بسلاحه أي خرج لابسا- و دخل متسلحا أي يصحبه الثياب و يصحبه السلاح- فكذلك قوله ع بأمر أخرج به منها ملكا- معناه أن الله تعالى لا يدخل الجنة بشرا- يصحبه أمر أخرج الله به ملكا منها: فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ- وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجْلِهِ- فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ- وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ- وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ- فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ- وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّغَيْرِ مُصِيبٍ- صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ- وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِ وَ الْجَاهِلِيَّةِ- حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ- وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَةُ مِنْهُ فِيكُمْ- فَنَجَمَتْ فِيهِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ- اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ- وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ- فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ- وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ- وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ- وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ- وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ- إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ- فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً- وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً- مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ- فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ- فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ- وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ- وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجْلِهِ سَبِيلَكُمْ- يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ- لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ- فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ- وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ- فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ- مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ- مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ- وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ- وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ- وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ- وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ- مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَ جُنُودِهِ- فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً- وَ رَجْلًا وَ فُرْسَاناً- وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ- مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ- سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَبِ- وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ- وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ- الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ- وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

موضع أن يعديكم- نصب على البدل من عدو الله- و قال الراوندي يجوز أن يكون مفعولا ثانيا- و هذا ليس بصحيح لأن حذر لا يتعدى إلى المفعولين- و العدوى ما يعدي من جرب أو غيره- أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته- و هو مجاوزته من صاحبه إلى غيره- و في الحديث لا عدوى في الإسلام – .

فإن قلت فإذا كان النبي ص قد أبطل أمر العدوى- فكيف قال أمير المؤمنين فاحذروه أن يعديكم- قلت إن النبي ص- أبطل ما كانت العرب تزعمه- من عدوى الجرب في الإبل و غيرها- و أمير المؤمنين ع حذر المكلفين- من أن يتعلموا من إبليس الكبر و الحمية- و شبه تعلمهم ذلك منه بالعدوى- لاشتراك الأمرين- في الانتقال من أحد الشخصين إلى الآخر- . قوله ع يستفزكم أي يستخفكم- و هو من ألفاظ القرآن- وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ- أي أزعجه و استخفه و أطر قلبه- و الخيل الخيالة و منه الحديث يا خيل الله اركبي – . و الرجل اسم جمع لراجل كركب اسم جمع لراكب- و صحب اسم جمع لصاحب- و هذه أيضا من ألفاظ القرآن العزيز- وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ- و قرئ و رجلك- بكسر الجيم على أن فعلا بالكسر- بمعنى فاعل نحو تعب و تاعب-و معناه و قد تضم الجيم أيضا- فيكون مثل قولك- رجل حدث و حدث و ندس و ندس- .

فإن قلت فهل لإبليس خيل تركبها جنده- قلت يجوز أن يكون ذلك- و قد فسره قوم بهذا- و الصحيح أنه كلام خرج مخرج المثل- شبهت حاله في تسلطه على بني آدم- بمن يغير على قوم بخيله فيستأصلهم- و قيل بصوتك أي بدعائك إلى القبيح- و خيله و رجله كل ماش و راكب- من أهل الفساد من بني آدم قوله و فوقت السهم جعلت له فوقا- و هو موضع الوتر و هذا كناية عن الاستعداد- و لا يجوز أن يفسر قوله- فقد فوق لكم سهم الوعيد- بأنه وضع الفوق في الوتر ليرمي به- لأن ذلك لا يقال فيه قد فوق- بل يقال أفقت السهم و أوفقته أيضا- و لا يقال أفوقته و هو من النوادر- .

و قوله و أغرق إليكم بالنزع- أي استوفى مد القوس و بالغ في نزعها- ليكون مرماه أبعد و وقع سهامه أشد- . قوله و رماكم من مكان قريب- لأنه كما جاء في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم و يخالط القلب – و لا شي‏ء أقرب من ذلك- . و الباء في قوله فَبِما أَغْوَيْتَنِي- متعلق بفعل محذوف تقديره- أجازيك بما أغويتني تزييني لهم القبيح- فما على هذا مصدرية- أي أجازيك بإغوائك لي تزييني لهم القبيح- فحذف المفعول- و يجوز أن تكون الباء قسما- كأنه أقسم بإغوائه إياه ليزينن لهم- . فإن قلت و أي معنى في أن يقسم بإغوائه- و هل هذا مما يقسم به- قلت نعم لأنه ليس إغواء الله تعالى إياه- خلق الغي و الضلال في قلبه- بل تكليفه‏إياه السجود- الذي وقع الغي عنده من الشيطان لا من الله- فصار حيث وقع عنده كأنه موجب عنه فنسب إلى الباري- و التكليف تعريض للثواب و لذة الأبد- فكان جديرا أن يقسم به و قد أقسم في موضع آخر- فقال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- فأقسم بالعزة و هاهنا أقسم بالأمر و التكليف- و يجوز فيه وجه ثالث- و هو ألا تكون الباء قسما و يقدر قسم محذوف- و يكون المعنى بسبب ما كلفتني فأفضى إلى غوايتي- أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بي- و هو أن أزين لهم المعاصي التي تكون سبب هلاكهم- .

فإن قلت ليس هذا نحو ما فعله الباري به- لأن الباري أمره بالحسن فأباه- و عدل عنه إلى القبيح- و الشيطان لا يأمرنا بالحسن فنكرهه- و نعدل عنه إلى القبيح- فكيف يكون ذلك نحو واقعته مع الباري- قلت المشابهة بين الواقعتين- في أن كل واحدة منهما تقع عندها المعصية- لا على وجه الإجبار و القسر بل على قصد الاختيار- لأن معصية إبليس كانت من نفسه- و وقعت عند الأمر بالسجود- اختيارا منه لا فعلا من الباري- و معصيتنا نحن عند التزيين و الوسوسة- تقع اختيارا منا لا اضطرارا يضطرنا إبليس إليه- فلما تشابهت الصورتان في هذا المعنى حسن قوله- بما فعلت بي كذا لأفعلن بهم نحوه- .

فإن قلت ما معنى قوله فِي الْأَرْضِ- و من أين كان يعلم إبليس أن آدم سيصير له ذرية في الأرض- قلت أما علمه بذلك فمن قول الله تعالى له و للملائكة- إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً- و أما لفظة الأرض فالمراد بها هاهنا الدنيا- التي هي دار التكليف كقوله تعالى-وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ- ليس يريد به الأرض بعينها بل الدنيا- و ما فيها من الملاذ و هوى الأنفس- . قوله ع قذفا بغيب بعيد- أي قال إبليس هذا القول قذفا بغيب بعيد- و العرب تقول للشي‏ء المتوهم على بعد- هذا قذف بغيب بعيد- و القذف في الأصل رمي الحجر و أشباهه- و الغيب الأمر الغائب- و هذه اللفظة من الألفاظ القرآنية قال الله تعالى في كفار قريش- وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ- أي يقولون هذا سحر أو هذا من تعليم أهل الكتاب- أو هذه كهانة و غير ذلك مما كانوا يرمونه ع به- و انتصب قذفا على المصدر الواقع موقع الحال- و كذلك رجما- و قال الراوندي انتصبا لأنهما مفعول له- و ليس بصحيح- لأن المفعول له ما يكون عذرا و علة لوقوع الفعل- و إبليس ما قال ذلك الكلام لأجل القذف و الرجم- فلا يكون مفعولا له- .

فإن قلت كيف قال ع- قذفا من مكان بعيد و رجما بظن غير مصيب- و قد صح ما توهمه و أصاب في ظنه- فإن إغواءه و تزيينه تم على الناس كلهم- إلا على المخلصين- قلت أما أولا فقد روي و رجما بظن مصيب- بحذف غير و يؤكد هذه الرواية قوله تعالى- وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً- و أما ثانيا على الرواية التي هي أشهر فنقول- أما قذفا من مكان بعيد- فإنه قال ما قال على سبيل التوهم و الحسبان- لأمر مستبعد لا يعلم صحته و لا يظنها- و ليس وقوع ما وقع من المعاصي و صحة ما توهمه- بمخرج لكون قوله الأول قذفا بغيب بعيد- و أما رجما بظن غير مصيب-فيجب أن يحمل قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- على الغواية بمعنى الشرك أو الكفر- و يكون الاستثناء و هو قوله- إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ- معناه إلا المعصومين من كل معصية- و هذا ظن غير مصيب- لأنه ما أغوى كل البشر الغواية التي هي الكفر و الشرك- إلا المعصومين العصمة المطلقة- بل أغوى بعضهم كذلك- و بعضهم بأن زين له الفسق دون الكفر- فيكون ظنه أنه قادر على إغواء البشر كافة- بمعنى الضلال بالكفر ظنا غير مصيب- . قوله صدقه به أبناء الحمية موضع صدقه جر- لأنه صفة ظن و قد روي- صدقه أبناء الحمية من غير ذكر الجار و المجرور- و من رواه بالجار و المجرور كان معناه- صدقه في ذلك الظن أبناء الحمية فأقام الباء مقام في- .

قوله حتى إذا انقادت له الجامحة منكم- أي الأنفس الجامحة أو الأخلاق الجامحة- . قوله فنجمت فيه الحال أي ظهرت- و قد روي فنجمت الحال من السر الخفي- من غير ذكر الجار و المجرور- و من رواه بالجار و المجرور فالمعنى- فنجمت الحال في هذا الشأن المذكور- بينه و بينكم من الخفاء إلى الجلاء- . و استفحل سلطانه قوي و اشتد و صار فحلا- و استفحل جواب قوله حتى إذا- . دلف بجنوده تقدم بهم- . و الولجات جمع ولجة بالتحريك- و هي موضع أو كهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره- . و أقحموكم أدخلوكم و الورطة الهلكة- . قوله و أوطئوكم إثخان الجراحة- أي جعلوكم واطئين لذلك- و الإثخان مصدر أثخن في القتل- أي أكثر منه و بالغ حتى كثف شأنه- و صار كالشي‏ء الثخين- و معنى‏إيطاء الشيطان ببني آدم ذلك- إلقاؤه إياهم فيه و توريطهم و حمله لهم عليه- فالإثخان على هذا منصوب لأنه مفعول ثان- لا كما زعم الراوندي أنه انتصب بحذف حرف الخفض- .

قوله ع طعنا في عيونكم- انتصب طعنا على المصدر و فعله محذوف- أي فعلوا بكم هذه الأفعال فطعنوكم في عيونكم طعنا- فأما من روى و أوطئوكم لإثخان الجراحة- باللام فإنه يجعل طعنا منصوبا على أنه مفعول به- أي أوطئوكم طعنا و حزا- كقولك أوطأته نارا و أوطأته عشوة- و يكون لإثخان الجراحة مفعولا له- أي أوطئوكم الطعن ليثخنوا جراحكم- و ينبغي أن يكون قصدا و سوقا- خالصين للمصدرية لأنه يبعد أن يكون مفعولا به- . و اعلم أنه لما ذكر الطعن نسبه إلى العيون- و لما ذكر الحز و هو الذبح نسبه إلى الحلوق- و لما ذكر الدق و هو الصدم الشديد أضافه إلى المناخر- و هذا من صناعة الخطابة التي علمه الله إياها بلا تعليم- و تعلمها الناس كلهم بعده منه- . و الخزائم جمع خزامة- و هي حلقة من شعر تجعل في وتره أنف البعير- فيشد فيها الزمام- . و تقول قد ورى الزند أي خرجت ناره- و هذا الزند أورى من هذا- أي أكثر إخراجا للنار- يقول فأصبح الشيطان أضر عليكم- و أفسد لحالكم من أعدائكم الذين أصبحتم مناصبين لهم- أي معادين و عليهم متألبين أي مجتمعين- .

فإن قلت أما أعظم في الدين حرجا فمعلوم- فأي معنى لقوله و أورى في دنياكم قدحا- و هل يفسد إبليس أمر الدنيا كما يفسد أمر الدين- قلت نعم لأن أكثر القبائح الدينية- مرتبطة بالمصالح و المفاسد الدنيوية- أ لا ترى أنه إذا أغرى السارق بالسرقة- أفسد حال السارق من جهة الدين- و حال المسروق منه من جهة الدنيا-و كذلك القول في الغصب و القتل- و ما يحدث من مضار الشرور الدنيوية- من اختلاط الأنساب و اشتباه النسل- و ما يتولد من شرب الخمر و السكر الحاصل عنها- من أمور يحدثها السكران خبطا بيده و قذفا بلسانه- إلى غير ذلك من أمثال هذه الأمور و أشباهها- .

قوله ع فاجعلوا عليه حدكم- أي شباتكم و بأسكم- . و له جدكم من جددت في الأمر جدا- أي اجتهدت فيه و بالغت- . ثم ذكر أنه فخر على أصل بني آدم- يعني أباهم آدم ع- حيث امتنع من السجود له و قال أنا خير منه- . و وقع في حسبكم أي عاب حسبكم و هو الطين- فقال إن النار أفضل منه و دفع في نسبكم مثله- و أجلب بخيله عليكم أي جمع خيالته و فرسانه و ألبها- . و يقتنصونكم يتصيدونكم- و البنان أطراف الأصابع و هو جمع واحدته بنانة- و يجمع في القلة على بنانات و يقال بنان مخضب- لأن كل جمع ليس بينه و بين واحدة إلا الهاء- فإنه يذكر و يوحد- . و الحومة معظم الماء و الحرب و غيرهما- و موضع هذا الجار و المجرور نصب على الحال- أي يقتنصونكم في حومة ذل- . و الجولة الموضع الذي تجول فيه- . و كمن في قلوبكم استتر و منه الكمين في الحرب- . و نزغات الشيطان وساوسه التي يفسد بها و نفثاته مثله- . قوله و اعتمدوا وضع التذلل على رءوسكم- و إلقاء التعزز تحت أقدامكم- كلام شريف جليل المحل- و كذلك قوله ع و اتخذوا التواضع- مسلحة بينكم و بين عدوكم إبليس و جنوده- و المسلحة خيل معدة للحماية و الدفاع- .

ثم نهاهم أن يكونوا كقابيل- الذي حسد أخاه هابيل فقتله- و هما أخوان لأب و أم- و إنما قال ابن أمه فذكر الأم دون الأب- لأن الأخوين من الأم أشد حنوا و محبة- و التصاقا من الأخوين من الأب- لأن الأم هي ذات الحضانة و التربية- . و قوله من غير ما فضل- ما هاهنا زائدة و تعطي معنى التأكيد- نهاهم ع أن يحسدوا النعم- و أن يبغوا و يفسدوا في الأرض- فإن آدم لما أمر ولده بالقربان- قرب قابيل شر ماله و كان كافرا- و قرب هابيل خير ماله و كان مؤمنا- فتقبل الله تعالى من هابيل و أهبط من السماء نارا فأكلته- قالوا لأنه لم يكن في الأرض حينئذ فقير- يصل القربان إليه- فحسده قابيل و كان أكبر منه سنا- فقال لأقتلنك قال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين- أي بذنبك و جرمك كان عدم قبول قربانك- لانسلاخك من التقوى- فقتله فأصبح نادما- لا ندم التوبة بل ندم الحير و رقة الطبع البشري- و لأنه تعب في حمله كما ورد في التنزيل- أنه لم يفهم ما ذا يصنع به حتى بعث الله الغراب- .

قوله ع و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة- لأنه كان ابتدأ بالقتل- و من سن سنة شر كان عليه وزرها- و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة- كما أن من سن سنة خير كان له أجرها- و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه- أن الروايات اختلفت في هذه الواقعة- فروى قوم أن الرجلين كانا من بني إسرائيل- و ليسا من ولد آدم لصلبه- و الأكثرون خالفوا في ذلك- . ثم اختلف الأكثرون- فروى قوم أن القربان من قابيل و هابيل كان ابتداء- و الأكثرون قالوا بل أراد آدم ع- أن يزوج هابيل أخت قابيل توأمته- و يزوج‏قابيل أخت هابيل توأمته- فأبى قابيل لأن توأمته كانت أحسن- فأمرهما أبوهما بالقربان- فمن تقبل قربانه نكح الحسناء- فتقبل قربان هابيل- فقتله أخوه كما ورد في الكتاب العزيز- .

و روى الطبري مرفوعا أنه ص قال ما من نفس تقتل ظلما- إلا كان على ابن آدم ع الأول كفل منها- و ذلك بأنه أول من سن القتل و هذا يشيد قول أمير المؤمنين ع: أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ- مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ- وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ- فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ- الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ- حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ- ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ- أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ- وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ- أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ- الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ- وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ- وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ- مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لآِلَائِهِ- فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ آسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ- وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً- وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً-وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ- وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ- وَ هُمْ آسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ- اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ- وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ- وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ- اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ- وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ- فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ- فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ- مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ- وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعُ جُنُوبِهِمْ- وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ- كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ أمعنتم في البغي بالغتم فيه- من أمعن في الأرض أي ذهب فيها بعيدا- و مصارحة لله أي مكاشفة- .

و المناصبة المعاداة- . و ملاقح الشنئان قال الراوندي- الملاقح هي الفحول التي تلقح و ليس بصحيح- نص الجوهري على أن الوجه لواقح كما جاء في القرآن- وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ- و قال هو من النوادر لأن الماضي رباعي- و الصحيح أن ملاقح هاهنا جمع ملقح و هو المصدر- من لقحت كضربت مضربا و شربت مشربا- و يجوز فتح النون من الشنئان و تسكينها و هو البغض- . و منافخ الشيطان جمع منفخ- و هو مصدر أيضا من نفخ- و نفخ الشيطان و نفثه‏واحد و هو وسوسته و تسويله- و يقال للمتطاول إلى ما ليس له- قد نفخ الشيطان في أنفه- . و في كلامه ع يقوله لطلحة و هو صريع- و قد وقف عليه و أخذ سيفه سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ص- و لكن الشيطان نفخ في أنفه – .

قوله و أعنقوا أصرعوا- و فرس معناق و السير العنق- قال الراجز- يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا- . و الحنادس الظلم- . و المهاوي جمع مهواة بالفتح- و هي الهوة يتردى الصيد فيها- و قد تهاوى الصيد في المهواة- إذا سقط بعضه في أثر بعض- . قوله ع ذللا عن سياقه انتصب على الحال- جمع ذلول و هو السهل المقادة- و هو حال من الضمير في أعنقوا- أي أسرعوا منقادين لسوقه إياهم- . و سلسا جمع سلس و هو السهل أيضا- و إنما قسم ذللا و سلسا بين سياقه و قياده- لأن المستعمل في كلامهم- قدت الفرس فوجدته سلسا أو صعبا- و لا يستحسنون سقته فوجدته سلسا أو صعبا- و إنما المستحسن عندهم سقته فوجدته ذلولا أو شموسا- .

قوله ع أمرا منصوب بتقدير فعل- أي اعتمدوا أمرا و كبرا معطوف عليه- أو ينصب كبرا على المصدر- بأن يكون اسما واقعا موقعه- كالعطاء موضع الإعطاء- . و قال الراوندي أمرا منصوب هاهنا لأنه مفعول به- و ناصبه المصدر الذي هو سياقه و قياده- تقول سقت و قدت قيادا- و هذا غير صحيح لأن مفعول هذين المصدرين محذوف- تقديره عن سياقه إياهم و قياده إياهم- و هذا هو معنى الكلام- و لو فرضنا مفعول‏أحد هذين المصدرين- أمرا لفسد معنى الكلام- و قال الراوندي أيضا و يجوز أن يكون أمرا حالا- و هذا أيضا ليس بشي‏ء- لأن الحال وصف هيئة الفاعل أو المفعول- و أمرا ليس كذلك- . قوله ع تشابهت القلوب فيه- أي أن الحمية و الفخر و الكبر و العصبية- ما زالت القلوب متشابهة متماثلة فيها- . و تتابعت القرون عليه جمع قرن بالفتح- و هي الأمة من الناس- . و كبرا تضايقت الصدور به أي كبر في الصدور- حتى امتلأت به و ضاقت عنه لكثرته- . ثم أمر بالحذر من طاعة الرؤساء أرباب الحمية- و فيه إشارة إلى قوله تعالى- إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا- . و قد كان أمر في الفصل الأول بالتواضع لله- و نهى هاهنا عن التواضع للرؤساء- و قد جاء في الخبر المرفوع ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء- و أحسن منه تكبر الفقراء على الأغنياء – . الذين تكبروا عن حسبهم أي جهلوا أنفسهم- و لم يفكروا في أصلهم من النطف المستقذرة- من الطين المنتن- قال الشاعر

ما بال من أوله نطفة
و جيفة آخره يفخر

يصبح لا يملك تقديم ما
يرجو و لا تأخير ما يحذر

قوله ع و ألقوا الهجينة على ربهم- روي الهجينة على فعيلة كالطبيعة و الخليقة- و روي الهجنة على فعلة كالمضغة و اللقمة- و المراد بهما الاستهجان من قولك هو يهجن كذا- أي يقبحه و يستهجنه أي يستقبحه- أي نسبوا ما في الأنساب‏من القبح بزعمهم إلى ربهم- مثل أن يقولوا للرجل أنت عجمي و نحن عرب- فإن هذا ليس إلى الإنسان- بل هو إلى الله تعالى فأي ذنب له فيه- . قوله و جاحدوا الله- أي كابروه و أنكروا صنعه إليهم- . و آساس بالمد جمع أساس- . و اعتزاء الجاهلية قولهم يا لفلان- و سمع أبي بن كعب رجلا يقول يا لفلان فقال- عضضت بهن أبيك فقيل له- يا أبا المنذر ما كنت فحاشا- قال سمعت رسول الله ص يقول من تعزى بعزاء الجاهلية- فأعضوه بهن أبيه و لا تكنوا – . قوله فلا تكونوا لنعمة الله أضدادا- لأن البغي و الكبر- يقتضيان زوال النعمة و تبدلها بالنقمة- .

قوله و لا تطيعوا الأدعياء- مراده هاهنا بالأدعياء- الذين ينتحلون الإسلام و يبطنون النفاق- . ثم وصفهم فقال الذين شربتم بصفوكم كدرهم- أي شربتم كدرهم مستبدلين ذلك بصفوكم- و يروى الذين ضربتم أي مزجتم- و يروى شريتم أي بعتم و استبدلتم- . و الأحلاس جمع حلس و هو كساء رقيق- يكون على ظهر البعير ملازما له- فقيل لكل ملازم أمر هو حلس ذلك الأمر- . و الترجمان بفتح التاء- هو الذي يفسر لسانا بلسان غيره- و قد تضم التاء- و يروى و نثا في أسماعكم- من نث الحديث أي أفشاه‏:

فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ- لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ- وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ- فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ- وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ- وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ- وَ كَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ- قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ- وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَحَّصَهُمْ بِالْمَكَارِهِ- فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَا وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ- جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ- وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الْإِقْتَارِ- فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ- نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ التكابر التعاظم- و الغرض مقابلة لفظة التواضع- لتكون الألفاظ مزدوجة- . و عفر وجهه ألصقه بالعفر- . و خفضوا أجنحتهم ألانوا جانبهم- . و المخمصة الجوع و المجهدة المشقة- و أمير المؤمنين ع كثير الاستعمال لمفعل و مفعلة- بمعنى المصدر- إذا تصفحت كلامه عرفت ذلك- . و محصهم أي طهرهم- و روي مخضهم بالخاء و الضاد المعجمة- أي حركهم و زلزلهم- .

ثم نهى أن يعتبر رضا الله و سخطه- بما نراه من إعطائه الإنسان مالا و ولدا- فإن ذلك جهل بمواقع الفتنة و الاختبار- . و قوله تعالى أَ يَحْسَبُونَ الآية- دليل على ما قاله ع- و الأدلة العقلية أيضا دلت- على أن كثيرا من الآلام و الغموم و البلوى- إنما يفعله الله تعالى للألطاف و المصالح- و ما الموصولة في الآية- يعود إليها محذوف و مقدر لا بد منه- و إلا كان الكلام غير منتظم- و غير مرتبط بعضه ببعض- و تقديره نسارع لهم في الخيرات: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ- بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ- وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ع- عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ- وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ- بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامِ عِزِّهِ- فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ- وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ- وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ- فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ- إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ- وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ- وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ- حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ- وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ- وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ- لَفَعَلَ- وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ- وَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ- وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ- وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا- وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ- وَ ضَعَفَةً فِيمَاتَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ- مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى- وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى مدارع الصوف جمع مدرعة بكسر الميم- و هي كالكساء- و تدرع الرجل و تمدرع إذا لبسها- و العصي جمع عصا- .

و تقول هذا سوار المرأة و الجمع أسورة- و جمع الجمع أساورة- و قرئ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ- و قد يكون جمع أساور- قال سبحانه يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ- قال أبو عمرو بن العلاء أساور هاهنا- جمع إسوار و هو السوار- . و الذهبان بكسر الذال جمع ذهب- كخرب لذكر الحبارى و خربان- و العقيان الذهب أيضا قوله ع و اضمحلت الأنباء أي تلاشت و فنيت- و الأنباء جمع نبأ و هو الخبر- أي لسقط الوعد و الوعيد و بطلا- . قوله ع و لا لزمت الأسماء معانيها- أي من يسمى مؤمنا أو مسلما حينئذ- فإن تسميته مجاز لا حقيقة- لأنه ليس بمؤمن إيمانا من فعله و كسبه- بل يكون ملجأ إلى الإيمان بما يشاهده من الآيات العظيمة- . و المبتلين بفتح اللام جمع مبتلى- كالمعطين و المرتضين جمع معطى و مرتضى- . و الخصاصة الفقر- .

و هذا الكلام هو ما يقوله أصحابنا بعينه- في تعليل أفعال الباري سبحانه بالحكمة و المصلحة- و أن الغرض بالتكليف هو التعريض للثواب- و أنه يجب أن يكون خالصا من الإلجاء- و من أن يفعل الواجب بوجه غير وجه وجوبه- يرتدع عن القبيح لوجه غير وجه قبحه- . و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ- أن موسى قدم هو و أخوه هارون مصر على فرعون- لما بعثهما الله تعالى إليه- حتى وقفا على بابه يلتمسان الإذن عليه- فمكثا سنين يغدوان على بابه و يروحان لا يعلم بهما- و لا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما- و قد كانا قالا لمن بالباب- إنا رسولا رب العالمين إلى فرعون- حتى دخل عليه بطال له يلاعبه و يضحكه- فقال له أيها الملك إن على الباب رجلا- يقول قولا عجيبا عظيما و يزعم أن له إلها غيرك- قال ببابي قال نعم قال أدخلوه- فدخل و بيده عصاه و معه هارون أخوه- فقال أنا رسول رب العالمين إليك- و ذكر تمام الخبر- . فإن قلت أي خاصية في الصوف و لبسه- و لم اختاره الصالحون على غيره- قلت ورد في الخبر أن أول لباس- لبسه آدم لما هبط إلى الأرض- صوف كبش قيضه الله له- و أمره أن يذبحه فيأكل لحمه و يلبس صوفه- لأنه أهبط عريان من الجنة- فذبحه و غزلت حواء صوفه فلبس آدم منه ثوبا- و ألبس حواء ثوبا آخر- فلذلك صار شعار الأولياء و انتسبت إليه الصوفية:
وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ- وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ- لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ- وَ أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِكْبَارِ- وَ لآَمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ- فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً- وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ- وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ- وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ- أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا يَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ تمد نحوه أعناق الرجال أي لعظمته- أي يؤمله المؤملون و يرجوه الراجون- و كل من أمل شيئا فقد طمح ببصره إليه معنى لا صورة- فكنى عن ذلك بمد العنق- . و تشد إليه عقد الرحال يسافر أرباب الرغبات إليه- يقول لو كان الأنبياء ملوكا ذوي بأس و قهر- لم يمكن إيمان الخلق و انقيادهم إليهم- لأن الإيمان في نفسه واجب عقلا- بل كان لرهبة لهم أو رغبة فيهم- فكانت النيات مشتركة- هذا فرض سؤال و جواب عنه كأنه قال لنفسه- لم لا يجوز أن يكون إيمانهم على هذا التقدير لوجوبه- و لخوف ذلك النبي أو لرجاء نفع ذلك النبي ص- فقال لأن النيات تكون حينئذ مشتركة- أي يكون المكلف قد فعل الإيمان لكلا الأمرين- و كذلك تفسير قوله و الحسنات مقتسمة- قال و لا يجوز أن تكون طاعة الله تعالى تعلو- إلا لكونها طاعة له لا غير- و لا يجوز أن يشوبها و يخالطها من غيرها شائبة- .

فإن قلت ما معنى قوله- لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار- و أبعد لهم من الاستكبار- قلت أي لو كان الأنبياء كالملوك في السطوة و البطش- لكان المكلف لا يشق عليه الاعتبار- و الانزجار عن القبائح مشقته عليه- إذا تركه لقبحه لا لخوف السيف- و كان بعد المكلفين عن الاستكبار و البغي- لخوف السيف و التأديب- أعظم من بعدهم عنهما إذا تركوهما لوجه قبحهما- فكان يكون ثواب المكلف إما ساقطا و إما ناقصا: وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ- كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ- أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ- الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ص إِلَى الآْخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ- بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ- فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً- ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً- وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً- وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً- بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ- وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ- لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ- ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ع وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ- فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ- تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ- وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ- حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا- يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ- شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ- وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ- ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً- وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً- جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ-وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ- أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ- بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ- جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ- مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى- بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ- وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ- وَ زُرُوعٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ- لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ- وَ لَوْ كَانَ الْأَسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا- وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا- مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ- لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ- وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ- وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ- وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ- وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ- وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ- إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ- وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ- وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ- وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ كانت المثوبة أي الثواب- . و أجزل أكثر و الجزيل العظيم- و عطاء جزل و جزيل و الجمع جزال- و قد أجزلت له من العطاء أي أكثرت- . و جعله للناس قياما أي عمادا- و فلان قيام أهله أي يقيم شئونهم- و منه قوله تعالى- وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً- .
و أوعر بقاع الأرض حجرا أي أصعبها- و مكان وعر بالتسكين صعب المسلك أو المقام- .

و أقل نتائق الدنيا مدرا- أصل هذه اللفظة من قولهم- امرأة منتاق أي كثيرة الحبل و الولادة- و يقال ضيعة منتاق أي كثيرة الريع- فجعل ع الضياع ذوات المدر التي تثار للحرث نتائق- و قال إن مكة أقلها صلاحا للزرع لأن أرضها حجرية- . و القطر الجانب و رمال دمثة سهلة- و كلما كان الرمل أسهل كان أبعد عن أن ينبت- . و عيون وشلة أي قليلة الماء- و الوشل بفتح الشين الماء القليل- و يقال وشل الماء وشلانا أي قطر- .

قوله لا يزكو بها خف- أي لا تزيد الإبل فيها أي لا تسمن- و الخف هاهنا هو الإبل- و الحافر الخيل و الحمير و الظلف الشاة- أي ليس حولها مرعى يرعاه الغنم فتسمن- . و أن يثنوا أعطافهم نحوه أي يقصدوه و يحجوه- و عطفا الرجل جانباه- . و صار مثابة أي يثاب إليه- و يرجع نحوه مرة بعد أخرى- و هذه من ألفاظ الكتاب العزيز- . قوله ع لمنتجع أسفارهم أي لنجعتها- و النجعة طلب الكلأ في الأصل- ثم سمي كل من قصد أمرا يروم النفع منه منتجعا- . قوله و غاية لملقى رحالهم- أي صار البيت هو الغاية التي هي الغرض و المقصد- و عنده تلقى الرحال أي تحط رحال الإبل عن ظهورها- و يبطل السفر لأنهم قد انتهوا إلى الغاية المقصودة- .

قوله تهوي إليه ثمار الأفئدة- ثمرة الفؤاد هو سويداء القلب- و منه قولهم للولد هو ثمرة الفؤاد- و معنى تهوي إليه أي تتشوقه و تحن نحوه- . و المفاوز هي جمع مفازة الفلاة سميت مفازة- إما لأنها مهلكة من قولهم فوز الرجل أي هلك- و أما تفاؤلا بالسلامة و الفوز- و الرواية المشهورة من مفاوز قفار بالإضافة- و قد روى قوم من مفاوز بفتح الزاء- لأنه لا ينصرف و لم يضيفوا- جعلوا قفار صفة- . و السحيقة البعيدة- . و المهاوي المساقط- . و الفجاج جمع فج و هو الطريق بين الجبلين- . قوله ع حتى يهزوا مناكبهم- أي يحركهم الشوق نحوه إلى أن يسافروا إليه- فكنى عن السفر بهز المناكب- . و ذللا حال إما منهم و إما من المناكب- و واحد المناكب منكب بكسر الكاف- و هو مجمع عظم العضد و الكتف- .

قوله و يهللون يقولون لا إله إلا الله- و روي يهلون لله أي يرفعون أصواتهم بالتلبية و نحوها- . و يرملون الرمل السعي فوق المشي قليلا- . شعثا غبرا لا يتعهدون شعورهم و لا ثيابهم و لا أبدانهم- قد نبذوا السرابيل و رموا ثيابهم و قمصانهم المخيطة- . و شوهوا بإعفاء الشعور- أي غيروا و قبحوا محاسن صورهم- بأن أعفوا شعورهم فلم يحلقوا ما فضل منها- و سقط على الوجه و نبت في غيره من الأعضاء- التي جرت العادة بإزالتها عنها- .و التمحيص التطهير- من محصت الذهب بالنار إذا صفيته مما يشوبه- و التمحيص أيضا الامتحان و الاختبار- و المشاعر معالم النسك- . قوله و سهل و قرار أي في مكان سهل- يستقر فيه الناس و لا ينالهم من المقام به مشقة- . و جم الأشجار كثيرها و داني الثمار قريبها- . و ملتف البنى مشتبك العمارة- . و البرة الواحدة من البر و هو الحنطة- . و الأرياف جمع ريف و هو الخصب و المرعى في الأصل- و هو هاهنا السواد و المزارع- و محدقة محيطة و مغدقة غزيرة- و الغدق الماء الكثير- . و ناضرة ذات نضارة و رونق و حسن- .

قوله و لو كانت الإساس- يقول لو كانت إساس البيت التي حمل البيت عليها- و أحجاره التي رفع بها من زمردة و ياقوتة- فالمحمول و المرفوع كلاهما مرفوعان- لأنهما صفة اسم كان و الخبر من زمردة- و روي بين زمردة- و يجوز أن تحمل لفظتا المفعول- و هما المحمول و المرفوع ضمير البيت- فيكون قائما مقام اسم الفاعل- و يكون موضع الجار و المجرور نصبا- و يجوز ألا تحملهما ذلك الضمير- و يجعل الجار و المجرور هو الساد مسد الفاعل- فيكون موضعه رفعا- . و روي مضارعة الشك بالضاد المعجمة- و معناه مقارنة الشك و دنوه من النفس- و أصله من مضارعة القدر إذا حان إدراكها- و من مضارعة الشمس إذا دنت للمغيب- . و قال الراوندي في تفسير هذه الكلمة- من مضارعة الشك أي مماثلته و مشابهته- و هذا بعيد لأنه لا معنى للمماثلة و المشابهة هاهنا- و الرواية الصحيحة بالصاد المهملة- . قوله ع و لنفى متعلج الريب أي اعتلاجه- أي و لنفى اضطراب الشك في القلوب- و روي يستعبدهم و يتعبدهم و الثانية أحسن- .و المجاهد جمع مجهدة و هي المشقة- . و أبوابا فتحا أي مفتوحة و أسبابا ذللا أي سهلة- . و اعلم أن محصول هذا الفصل- أنه كلما كانت العبادة أشق كان الثواب عليها أعظم- و لو أن الله تعالى جعل العبادات سهلة على المكلفين- لما استحقوا عليها من الثواب إلا قدرا يسيرا- بحسب ما يكون فيها من المشقة اليسيرة- .

فإن قلت- فهل كان البيت الحرام موجودا أيام آدم ع- ثم أمر آدم و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه- قلت نعم هكذا روى أرباب السير و أصحاب التواريخ- روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى آدم لما أهبطه إلى الأرض- أن لي حرما حيال عرشي فانطلق فابن لي بيتا فيه- ثم طف به كما رأيت ملائكتي تحف بعرشي- فهنالك أستجيب دعاءك و دعاء من يحف به من ذريتك- فقال آدم إني لست أقوى على بنائه و لا أهتدي إليه- فقيض الله تعالى له ملكا فانطلق به نحو مكة- و كان آدم في طريقه كلما رأى روضة أو مكانا يعجبه- سأل الملك أن ينزل به هناك ليبني فيه- فيقول الملك إنه ليس هاهنا حتى أقدمه مكة- فبنى البيت من خمسة جبال- طور سيناء و طور زيتون و لبنان و الجودي- و بنى قواعده من حراء- فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات- فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم- ثم قدم به مكة و طاف بالبيت أسبوعا- ثم رجع إلى أرض الهند فمات – .

و روى الطبري في التاريخ- أن آدم حج من أرض الهند إلى الكعبة- أربعين حجة على رجليه- .و قد روي أن الكعبة أنزلت من السماء- و هي ياقوتة أو لؤلؤة على اختلاف الروايات- و أنها بقيت على تلك الصورة- إلى أن فسدت الأرض بالمعاصي أيام نوح- و جاء الطوفان فرفع البيت- و بنى إبراهيم هذه البنية على قواعده القديمة و روى أبو جعفر عن وهب بن منبه أن آدم دعا ربه فقال يا رب أ ما لأرضك هذه عامر- يسبحك و يقدسك فيها غيري- فقال الله إني سأجعل فيها- من ولدك من يسبح بحمدي و يقدسني- و سأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري- يسبحني فيها خلقي و يذكر فيها اسمي- و سأجعل من تلك البيوت بيتا أختصه بكرامتي- و أوثره باسمي فأسميه بيتي- و عليه وضعت جلالتي و خصصته بعظمتي- و أنا مع ذلك في كل شي‏ء- أجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله- و من تحته و من فوقه- فمن حرمه بحرمتي استوجب كرامتي- و من أخاف أهله فقد أباح حرمتي و استحق سخطي- و أجعله بيتا مباركا يأتيه بنوك شعثا غبرا- على كل ضامر من كل فج عميق- يرجون بالتلبية رجيجا و يعجون بالتكبير عجيجا- من اعتمده لا يريد غيره- و وفد إلي و زارني و استضاف بي أسعفته بحاجته- و حق على الكريم أن يكرم وفده و أضيافه- تعمره يا آدم ما دمت حيا ثم تعمره الأمم و القرون- و الأنبياء من ولدك أمة بعد أمة و قرنا بعد قرن – .

قال ثم أمر آدم أن يأتي إلى البيت الحرام- الذي أهبط له إلى الأرض فيطوف به- كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش- و كان البيت حينئذ من درة أو من ياقوتة- فلما أغرق الله تعالى قوم نوح رفعه- و بقي أساسه فبوأه الله لإبراهيم فبناه‏:

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ- وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ- فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى- الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ- فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً- لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ- وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ- بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ- وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ- تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ- وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ- وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ- وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً- وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً- وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا- مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ- وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ- انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ- مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ بلدة وخمة و وخيمة بينة الوخامة أي وبيئة- . مصيدة إبليس بسكون الصاد و فتح الياء- آلته التي يصطاد بها- . و تساور قلوب الرجال تواثبها- و سار إليه يسور أي وثب و المصدر السور- و مصدر تساور المساورة- و يقال إن لغضبه سورة و هو سوار أي وثاب معربد- .

و سورة الشراب وثوبه في الرأس- و كذلك مساورة السموم التي ذكرها أمير المؤمنين ع- . و ما تكدي ما ترد عن تأثيرها- من قولك أكدى حافر الفرس إذا بلغ الكدية- و هي الأرض الصلبة فلا يمكنه أن يحفر- . و لا تشوي أحدا- لا تخطئ المقتل و تصيب غيره- و هو الشوى و الشوى الأطراف كاليد و الرجل- . قال لا ترد مكيدته عن أحد لا عن عالم لأجل علمه- و لا عن فقير لطمره و الطمر الثوب الخلق- . و ما في قوله و عن ذلك ما حرس الله زائدة مؤكدة- أي عن هذه المكايد التي هي البغي و الظلم و الكبر- حرس الله عباده فعن متعلقة بحرس- و قال الراوندي يجوز أن تكون مصدرية- فيكون موضعها رفعا بالابتداء- و خبر المبتدأ قوله لما في ذلك- و قال أيضا يجوز أن تكون نافية- أي لم يحرس الله عباده عن ذلك إلجاء و قهرا- بل فعلوه اختيارا من أنفسهم- و الوجه الأول باطل لأن عن على هذا التقدير- تكون من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه-

و أيضا فإن لما في ذلك لو كان هو الخبر- لتعلق لام الجر بمحذوف- فيكون التقدير حراسة الله لعباده عن ذلك- كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه بالتراب- و هذا كلام غير مفيد و لا منتظم- إلا على تأويل بعيد لا حاجة إلى تعسفه- و الوجه الثاني باطل- لأن سياقة الكلام تدل على فساده- أ لا ترى قوله تسكينا و تخشيعا- و قوله لما في ذلك من كذا- و هذا كله تعليل الحاصل الثابت لا تعليل المنفي المعدوم- .

ثم بين ع الحكمة في العبادات- فقال إنه تعالى حرس عباده بالصلوات-التي افترضها عليهم من تلك المكايد- و كذلك بالزكاة و الصوم ليسكن أطرافهم- و يخشع أبصارهم- فجعل التسكين و التخشيع عذرا و علة للحراسة- و نصب اللفظات على أنها مفعول له- . ثم علل السكون و الخشوع الذي هو علة الحراسة- لما في الصلاة من تعفير الوجه على التراب- فصار ذلك علة العلة- قال و ذلك لأن تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا- يوجب هضم النفس و كسرها و تذليلها- . و عتاق الوجوه كرائمها- . و إلصاق كرائم الجوارح بالأرض- كاليدين و الساقين تصاغرا يوجب الخشوع و الاستسلام- و الجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن- يقتضي زوال الأشر و البطر- و يوجب مذلة النفس و قمعها عن الانهماك في الشهوات- و ما في الزكاة من صرف فواضل المكاسب- إلى أهل الفقر و المسكنة- يوجب تطهير النفوس و الأموال- و مواساة أرباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الأموال- و عاصم لهم من السرقات و ارتكاب المنكرات- ففي ذلك كله دفع مكايد الشيطان- . و تخفيض القلوب حطها عن الاعتلاء و التيه- . و الخيلاء التكبر- و المسكنة أشد الفقر في أظهر الرأيين- . و القمع القهر- . و النواجم جمع ناجمة- و هي ما يظهر و يطلع من الكبر و غيره- . و القدع بالدال المهملة الكف- قدعت الفرس و كبحته باللجام أي كففته- . و الطوالع كالنواجم‏:

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ- يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ- تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ- أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ- فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ- أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ- وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ- فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ- وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ- فَتَعَصَّبُوا لآِثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ- فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَ أَوْلَاداً- وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ- فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ- فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ- وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ- الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ- مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ- بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ- وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الآْثَارِ الْمَحْمُودَةِ- فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ- وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ- وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ- وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ- وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِ- وَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ قد روي تحتمل بالتاء- و روي تحمل و المعنى واحد- . و التمويه التلبيس- من موهت النحاس إذا طليته بالذهب ليخفى- . و لاط الشي‏ء بقلبي يلوط و يليط أي التصق- . و المترف الذي أطغته النعمة- .

و تفاضلت فيها أي تزايدت- . و المجداء جمع ماجد و المجد الشرف في الآباء- و الحسب و الكرم يكونان في الرجل- و إن لم يكونا في آبائه- هكذا قال ابن السكيت- و قد اعترض عليه بأن المجيد من صفات الله تعالى- قال سبحانه ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ- على قراءة من رفع- و الله سبحانه يتعالى عن الآباء- و قد جاء في وصف القرآن المجيد قال سبحانه- بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ- . و النجداء الشجعان واحدهم نجيد- و أما نجد و نجد بالكسر و الضم- فجمعه أنجاد مثل يقظ و أيقاظ- . و بيوتات العرب قبائلها- و يعاسيب القبائل رؤساؤها- و اليعسوب في الأصل ذكر النحل و أميرها- . و الرغيبة الخصلة يرغب فيها- . و الأحلام العقول و الأخطار الأقدار- .

ثم أمرهم بأن يتعصبوا لخلال الحمد و عددها- و ينبغي أن يحمل قوله ع- فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب و لا علة- على أنه لا يعرف له سبب مناسب- فكيف يمكن أن يتعصبوا لغير سبب أصلا- . و قيل إن أصل هذه العصبية و هذه الخطبة- أن أهل الكوفة كانوا- قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين- و كانوا قبائل في الكوفة- فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته- فيمر بمنازل قبيلة أخرى فينادي باسم قبيلته- يا للنخع مثلا أو يا لكندة نداء عاليا- يقصد به الفتنة و إثارة الشر- فيتألب عليه فتيان القبيلة- التي مر بها فينادون- يا لتميم‏و يا لربيعة- و يقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه- فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها- فتسل السيوف و تثور الفتن- و لا يكون لها أصل في الحقيقة- إلا تعرض الفتيان بعضهم ببعض: وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ- مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ- فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ- وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ- فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ- فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَهُمْ- وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ- وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ- وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ- مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ- وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا- وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ- مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ- وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي المثلات العقوبات- . و ذميم الأفعال ما يذم منها- . و تفاوت حاليهم اختلافهما- و زاحت الأعداء بعدت و له أي لأجله- . و التحاض عليها تفاعل يستدعي وقوع الحض- و هو الحث من الجهتين أي يحث بعضهم بعضا- . و الفقرة واحدة فقر الظهر- و يقال لمن قد أصابته مصيبة شديدة- قد كسرت فقرته- .

و المنة القوة- . و تضاغن القلوب و تشاحنها واحد- و تخاذل الأيدي ألا ينصر الناس بعضهم بعضا: وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ- كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ- أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً- وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا- اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ- وَ جَرَّعُوهُمْ جُرَعَ الْمُرَارِ- فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ- لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ- حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ- جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ- وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ- جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً- فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ- فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً- وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ- مَا لَمْ تَذْهَبِ الآْمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ تدبروا أي تأملوا- و التمحيص التطهير و التصفية- . و الأعباء الأثقال واحدها عب‏ء- . و أجهد العباد أتعبهم- . و الفراعنة العتاة و كل عات فرعون- .

و ساموهم سوء العذاب ألزموهم إياه- و هذا إشارة إلى قوله تعالى- يَسُومُونَكُمْ سُوءَالْعَذابِ- يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ- وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ- . و المرار بضم الميم شجر مر في الأصل- و استعير شرب المرار لكل من يلقى شديد المشقة- . و رأى الله منهم جد الصبر أي أشده- . و أئمة أعلاما أي يهتدى بهم كالعلم في الفلاة: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً- وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً- وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً- وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً- أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ- وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ- فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ- حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ- وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ- تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ- وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ- وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ- وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ- عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنْكُمْ الأملاء الجماعات الواحد ملأ- .

و مترادفة متعاونة- البصائر نافذة يقال نفذت بصيرتي في هذا الخبر- أي اجتمع همي عليه- و لم يبق عندي تردد فيه لعلمي به و تحقيقي إياه- . و أقطار الأرضين نواحيها- و تشتتت تفرقت- . و تشعبوا صاروا شعوبا و قبائل مختلفين- . و تفرقوا متحزبين اختلفوا أحزابا- و روي متحازبين- . و غضارة النعمة الطيب اللين منها- .

و القصص الحديث- . يقول انظروا في أخبار من قبلكم من الأمم- كيف كانت حالهم في العز و الملك- لما كانت كلمتهم واحدة- و إلى ما ذا آلت حالهم حين اختلفت كلمتهم- فاحذروا أن تكونوا مثلهم- و أن يحل بكم إن اختلفتم مثل ما حل بهم: فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ- وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ع- فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ- تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ- لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ- يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الآْفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ- وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ- وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ- فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ- أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً- لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا- وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا- فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ- وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ- فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ- مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ- وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ

لقائل أن يقول- ما نعرف أحدا من بني إسحاق و بني إسرائيل- احتازتهم الأكاسرة و القياصرة- عن ريف الآفاق إلى البادية و منابت الشيح- إلا أن يقال يهود خيبر و النضير- و بني قريظة و بني قينقاع- و هؤلاء نفر قليل لا يعتد بهم- و يعلم من فحوى الخطبة أنهم غير مرادين بالكلام- و لأنه ع قال تركوهم إخوان دبر و وبر- و هؤلاء لم يكونوا من أهل الوبر و الدبر- بل من أهل المدر لأنهم كانوا ذوي حصون و آطام- و الحاصل أن الذين احتازتهم- الأكاسرة و القياصرة من الريف إلى البادية- و صاروا أهل وبر ولد إسماعيل- لا بنو إسحاق و بنو إسرائيل- و الجواب أنه ع ذكر في هذه الكلمات- و هي قوله فاعتبروا بحال ولد إسماعيل- و بني إسحاق و بني إسرائيل- المقهورين و القاهرين جميعا- أما المقهورون فبنو إسماعيل- و أما القاهرون فبنو إسحاق و بنو إسرائيل- لأن الأكاسرة من بني إسحاق- ذكر كثير من أهل العلم أن فارس من ولد إسحاق- و القياصرة من ولد إسحاق أيضا- لأن الروم بنو العيص بن إسحاق- و على هذا يكون الضمير في أمرهم- و تشتتهم و تفرقهم يرجع إلى بني إسماعيل خاصة- .

فإن قلت فبنو إسرائيل أي مدخل لهم هاهنا- قلت لأن بني إسرائيل لما كانوا ملوكا بالشام- في أيام أجاب الملك و غيره- حاربوا العرب من بني إسماعيل غير مرة- و طردوهم عن الشام- و ألجئوهم على المقام ببادية الحجاز- و يصير تقدير الكلام- فاعتبروا بحال ولد إسماعيل- مع بني إسحاق و بني إسرائيل- فجاء بهم في صدر الكلام على العموم- ثم خصص فقال الأكاسرة و القياصرة- و هم داخلون في عموم ولد إسحاق- و إنما لم يخصص عموم بني إسرائيل- لأن العرب لم تكن تعرف ملوك‏ ولد يعقوب- فيذكر لهم أسماءهم في الخطبة- بخلاف ولد إسحاق فإنهم كانوا يعرفون ملوكهم- من بني ساسان و من بني الأصفر- .

قوله ع فما أشد اعتدال الأحوال- أي ما أشبه الأشياء بعضها ببعض- و إن حالكم لشبيهة بحال أولئك فاعتبروا بهم- . قوله يحتازونهم عن الريف يبعدونهم عنه- و الريف الأرض ذات الخصب و الزرع- و الجمع أرياف و رافت الماشية أي رعت الريف- و قد أرفنا أي صرنا إلى الريف- و أرافت الأرض أي أخصبت- و هي أرض ريفة بتشديد الياء- . و بحر العراق دجلة و الفرات- أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق- و أما القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق- أي عن الشام و ما فيه من المرعى و المنتجع- . قوله ع أربابا لهم أي ملوكا- و كانت العرب تسمى الأكاسرة أربابا- و لما عظم أمر حذيفة بن بدر عندهم سموه رب معد- . و منابت الشيح أرض العرب- و الشيح نبت معروف- . و مهافي الريح المواضع التي تهفو فيها- أي تهب و هي الفيافي و الصحاري- . و نكد المعاش ضيقه و قلته- . و تركوهم عالة أي فقراء جمع عائل- و العائل ذو العيلة و العيلة الفقر- قال تعالى- وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ- قال الشاعر

تعيرنا أننا عالة
صعاليك نحن و أنتم ملوك‏

نظيره قائد و قادة و سائس و ساسة- . و قوله إخوان دبر و وبر- الدبر مصدر دبر البعير أي عقره القتب- و الوبر للبعير بمنزلة الصوف للضأن و الشعر للمعز- . قوله أذل الأمم دارا- لعدم المعاقل و الحصون المنيعة فيها- . و أجدبهم قرارا لعدم الزرع و الشجر و النخل بها- و الجدب المحل- . و لا يأوون لا يلتجئون و لا ينضمون- . و الأزل الضيق- و أطباق جهل جمع طبق- أي جهل متراكم بعضه فوق بعض- . و غارات مشنونة متفرقة و هي أصعب الغارات

فصل في ذكر الأسباب التي دعت العرب إلى وأد البنات

من بنات موءودة- كان قوم من العرب يئدون البنات- قيل إنهم بنو تميم خاصة- و إنه استفاض منهم في جيرانهم- و قيل بل كان ذلك في تميم و قيس و أسد- و هذيل و بكر بن وائل- قالوا و ذلك أن رسول الله ص دعا عليهم-
فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر- و اجعل عليهم سنين كسني يوسف – فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم- و كانوا يسمونه العلهز- فوأدوا البنات لإملاقهم و فقرهم- و قد دل على ذلك بقوله- وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ- قال وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ- . و قال قوم بل وأدوا البنات أنفة- و زعموا أن تميما منعت النعمان الإتاوة- سنة من‏السنين- فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر- و جل من معه من بكر بن وائل- فاستاق النعم و سبى الذراري- و في ذلك يقول بعض بني يشكر-

لما رأوا راية النعمان مقبلة
قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن‏

يا ليت أم تميم لم تكن عرفت‏
مرا و كانت كمن أودى به الزمن‏

إن تقتلونا فأعيار مخدعة
أو تنعموا فقديما منكم المنن‏

منكم زهير و عتاب و محتضن‏
و ابنا لقيط و أودى في الوغى قطن‏

فوفدت بنو تميم إلى النعمان و استعطفوه- فرق عليهم و أعاد عليهم السبي- و قال كل امرأة اختارت أباها ردت إليه- و إن اختارت صاحبها تركت عليه- فكلهن اخترن آباءهن إلا ابنة قيس بن عاصم- فإنها اختارت من سباها- و هو عمرو بن المشمرخ اليشكري- فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي- ألا يولد له بنت إلا وأدها- و الوأد أن يخنقها في التراب- و يثقل وجهها به حتى تموت- ثم اقتدى به كثير من بني تميم قال سبحانه- وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ- أي على طريق التبكيت و التوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه- كما قال سبحانه يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ- اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ- . و من جيد شعر الفرزدق قوله في هجاء جرير-

أ لم تر أنا بني دارم
زرارة منا أبو معبد

و منا الذي منع الوائدات‏
و أحيا الوليد فلم يوأد

أ لسنا بأصحاب يوم النسار
و أصحاب ألوية المربد

أ لسنا الذين تميم بهم
تسامى و تفخر في المشهد

و ناجية الخير و الأقرعان‏
و قبر بكاظمة المورد

إذا ما أتى قبره عائذ
أناخ على القبر بالأسعد

أ يطلب مجد بني دارم‏
عطية كالجعل الأسود

قرنبى يحك قفا مقرف
لئيم مآثره قعدد

و مجد بني دارم فوقه‏
مكان السماكين و الفرقد

و في الحديث أن صعصعة بن ناجية بن عقال- لما وفد على رسول الله ص قال- يا رسول الله إني كنت أعمل في الجاهلية عملا صالحا- فهل ينفعني ذلك اليوم- قال ع و ما عملت- قال ضللت ناقتين عشراوين- فركبت جملا و مضيت في بغائهما- فرفع لي بيت حريد فقصدته- فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتين- فقال ما نارهما قلت ميسم بني دارم- قال هما عندي و قد أحيا الله بهما- قوما من أهلك من مضر- فجلست معه ليخرجهما إلى- فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت- فقال لها ما وضعت- إن كان سقبا شاركنا في أموالنا- و إن كان حائلا وأدناها- فقالت العجوز وضعت أنثى- فقلت له أ تبيعها قال و هل تبيع العرب أولادها- قلت إنما أشتري حياتها و لا أشتري رقها- قال فبكم قلت احتكم قال بالناقتين و الجمل- قلت أ ذاك لك على أن يبلغني الجمل و إياها- قال بعتك فاستنقذتهامنه بالجمل و الناقتين- و آمنت بك يا رسول الله- و قد صارت لي سنة في العرب- أن أشتري كل موءودة بناقتين عشراوين و جمل- فعندي إلى هذه الغاية- ثمانون و مائتا موءودة قد انقذتهن- قال ع لا ينفعك ذاك لأنك لم تبتغ به وجه الله- و أن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه – .

و روى الزبير في الموفقيات- أن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري- ما حملك على أن وأدت- قال مخافة أن يخلف عليهن مثلك فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا- فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ- كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا- وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا- وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا- فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ- وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَاكِهِينَ- قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ- وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ- وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ- فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ- وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ- يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ- وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ- لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ لما ذكر ما كانت العرب عليه من الذل و الضيم و الجهل- عاد فذكر ما أبدل الله‏به حالهم- حين بعث إليهم محمدا ص- فعقد عليهم طاعتهم كالشي‏ء المنتشر المحلول- فعقدها بملة محمد ص- .

و الجداول الأنهر- . و التفت الملة بهم أي كانوا متفرقين- فالتفت ملة محمد بهم أي جمعتهم- و يقال التف الحبل بالحطب أي جمعه- و التف الحطب بالحبل أي اجتمع به- . و في في قوله في عوائد بركتها متعلقة بمحذوف- و موضع الجار و المجرور نصب على الحال- أي جمعتهم الملة كائنة في عوائد بركتها- و العوائد جمع عائدة و هي المنفعة- تقول هذا أعود عليك أي أنفع لك- و روي و التقت الملة بالقاف أي اجتمعت بهم- من اللقاء و الرواية الأولى أصح- . و أصبحوا في نعمتها غرقين- مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة- .

و فاكهين ناعمين- و روي فكهين أي أشرين- و قد قرئ بهما في قوله تعالى وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ- و قال الأصمعي فاكهين مازحين- و المفاكهة الممازحة و من أمثالهم- لا تفاكه أمة و لا تبل على أكمة- فأما قوله تعالى فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ- فقيل تندمون و قيل تعجبون- .

و عن في قوله و عن خضرة عيشها- متعلقة بمحذوف تقديره فأصبحوا فاكهين- فكاهة صادرة عن خضرة عيشها- أي خضرة عيش النعمة سبب لصدور الفكاهة و المزاح عنه- . و تربعت الأمور بهم أي أقامت- من قولك ربع بالمكان أي أقام به- .و آوتهم الحال بالمد أي ضمتهم و أنزلتهم- قال تعالى آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ أي ضمه إليه و أنزله- و يجوز أوتهم بغير مد- أفعلت في هذا المعنى و فعلت واحد عن أبي زيد- . و الكنف الجانب- و تعطفت الأمور عليهم كناية عن السيادة و الإقبال- يقال قد تعطف الدهر على فلان- أي أقبل حظه و سعادته بعد أن لم يكن كذلك- . و في ذرا ملك بضم الذال أي في أعاليه- جمع ذروة و يكنى عن العزيز الذي لا يضام- فيقال لا يغمز له قناة أي هو صلب- و القناة إذا لم تلن في يد الغامز- كانت أبعد عن الحطم و الكسر- . و لا تقرع لهم صفاة- مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزته و قوته: أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ- وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ- فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ- الَّتِي يَتَقَلَّبُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا- بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً- لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً- وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً- مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ- وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ- تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ- كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ- انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ- حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ- وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ- ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلَ‏وَ لَا مِيكَائِيلَ- وَ لَا مُهَاجِرِينَ وَ لَا أَنْصَارَ يَنْصُرُونَكُمْ- إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ- وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ- وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ- فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ- وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ- إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ- فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي نفضتم أيديكم كلمة تقال في اطراح الشي‏ء و تركه- و هي أبلغ من أن تقول تركتم حبل الطاعة- لأن من يخلي الشي‏ء من يده ثم ينفض يده منه- يكون أشد تخلية له ممن لا ينفضها- بل يقتصر على تخليته فقط- لأن نفضها إشعار و إيذان بشدة الاطراح و الإعراض- .

و الباء في قوله بأحكام الجاهلية متعلقة بثلمتم- أي ثلمتم حصن الله بأحكام الجاهلية- التي حكمتم بها في ملة الإسلام- . و الباء في قوله بنعمة لا يعرف متعلقة بامتن- و في من قوله فيما عقد متعلقة بمحذوف- و موضعها نصب على الحال و هذا إشارة إلى قوله تعالى- لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ- وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ- و قوله فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً- .

و روي تتقلبون في ظلها- .قوله صرتم بعد الهجرة أعرابا- الأعراب على عهد رسول الله ص- من آمن به من أهل البادية و لم يهاجر إليه- و هم ناقصو المرتبة عن المهاجرين لجفائهم و قسوتهم- و توحشهم و نشئهم في بعد من مخالطة العلماء- و سماع كلام الرسول ص و فيهم أنزل- الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً- وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ- و ليست هذه الآية عامة في كل الأعراب بل خاصة ببعضهم- و هم الذين كانوا حول المدينة- و هم جهينة و أسلم و أشجع و غفار- و إليهم أشار سبحانه بقوله- وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ- و كيف يكون كل الأعراب مذموما- و قد قال تعالى وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ- و صارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل- . و أنشد الحجاج على منبر الكوفة-

قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الدوي‏
مهاجر ليس بأعرابي‏

و قال عثمان لأبي ذر أخشى أن تصير بعد الهجرة أعرابيا- . و روي و لا يعقلون من الإيمان- . و قولهم النار و لا العار منصوبتان بإضمار فعل- أي ادخلوا النار و لا تلتزموا العار- و هي كلمة جارية مجرى المثل أيضا- يقولها أرباب الحمية و الإباء- فإذا قيلت في حق كانت صوابا- و إذا قيلت في باطل كانت خطأ- . و أكفأت الإناء و كفأته لغتان أي كببته- .

قوله ثم لا جبرائيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين- الرواية المشهورة هكذا بالنصب و هو جائز على التشبيه بالنكرة- كقولهم معضلة و لا أبا حسن لها قال الراجز-

لا هيثم الليلة للمطي‏

و قد روي بالرفع في الجميع- . و المقارعة منصوبة على المصدر- و قال الراوندي هي استثناء منقطع و الصواب ما ذكرناه- و قد روي إلا المقارعة بالرفع- تقديره و لا نصير لكم بوجه من الوجوه إلا المقارعة- . و الأمثال التي أشار إليها أمير المؤمنين ع- هي ما تضمنه القرآن من أيام الله و نقماته على أعدائه- و قال تعالى وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ- . و التناهي مصدر تناهى القوم عن كذا- أي نهى بعضهم بعضا- يقول لعن الله الماضين من قبلكم- لأن سفهاءهم ارتكبوا المعصية- و حلماءهم لم ينهوهم عنها- و هذا من قوله تعالى كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ- لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ: أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ- وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ- أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ- بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ- فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ- وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ- وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ- وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ- بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ-وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ- وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ- لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً قد ثبت عن النبي ص أنه قال له ع- ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين – فكان الناكثون أصحاب الجمل لأنهم نكثوا بيعته ع- و كان القاسطون أهل الشام بصفين- و كان المارقون الخوارج في النهروان- و في الفرق الثلاث قال الله تعالى- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ- و قال وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً- و قال النبي ص يخرج من ضئضئ هذا قوم- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية- ينظر أحدكم في النصل فلا يجد شيئا- فينظر في الفوق فلا يجد شيئا- سبق الفرث و الدم – و هذا الخبر من أعلام نبوته ص- و من أخباره المفصلة بالغيوب- .

و أما شيطان الردهة فقد قال قوم- إنه ذو الثدية صاحب النهروان- و رووا في ذلك خبرا عن النبي ص- و ممن ذكر ذلك و اختاره الجوهري صاحب الصحاح- و هؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف- و لكن الله رماه يوم النهروان بصاعقة- و إليها أشار ع بقوله فقد كفيته بصعقة- سمعت لها وجبةقلبه- و قال قوم شيطان الردهة أحد الأبالسة المردة- من أعوان عدو الله إبليس- و رووا في ذلك خبرا عن النبي ص و أنه كان يتعوذ منه- و الردهة شبه نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء- و هذا مثل قوله ع هذا أزب العقبة أي شيطانها- و لعل أزب العقبة هو شيطان الردهة بعينه- فتارة يرد بهذا اللفظ و تارة يرد بذلك اللفظ- و قال قوم شيطان الردهة مارد يتصور في صورة حية- و يكون على الردهة- و إنما أخذوا هذا من لفظة الشيطان لأن الشيطان الحية- و منه قولهم شيطان الحماطة و الحماطة شجرة مخصوصة- و يقال إنها كثيرة الحيات- .

قوله و يتشذر في أطراف الأرض يتمزق و يتبدد- و منه قولهم ذهبوا شذر مذر- . و البقية التي بقيت من أهل البغي معاوية و أصحابه- لأنه ع لم يكن أتى عليهم بأجمعهم- و إنما وقفت الحرب بينه و بينهم بمكيدة التحكيم- . قوله ع و لئن أذن الله في الكرة عليهم- أي إن مد لي في العمر لأديلن منهم- أي لتكونن الدولة لي عليهم- أدلت من فلان أي غلبته و قهرته و صرت ذا دولة عليه

استدلال قاضي القضاة على إمامة أبي بكر و رد المرتضى عليه

و اعلم أن أصحابنا قد استدلوا على صحة إمامة أبي بكر- بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ- فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ- أَذِلَّةٍعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ- يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ- ثم قال قاضي القضاة في المعنى و هذا خبر من الله تعالى- و لا بد أن يكون كائنا على ما أخبر به- و الذين قاتلوا المرتدين هم أبو بكر و أصحابه- فوجب أن يكونوا هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله- يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و ذلك يوجب أن يكونوا على صواب- .

و اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج- في الشافي فقال من أين قلت- إن الآية نزلت في أبي بكر و أصحابه- فإن قال لأنهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله ص- و لا أحد قاتلهم سواهم قيل له- و من الذي سلم لك ذلك- أ و ليس أمير المؤمنين ع قد قاتل الناكثين- و القاسطين و المارقين بعد الرسول ص- و هؤلاء عندنا مرتدون عن الدين- و يشهد بصحة التأويل زائدا على احتمال القول له- ما روي عن أمير المؤمنين ع من قوله يوم البصرة- و الله ما قوتل أهل الآية حتى اليوم و تلاها- و قد روي عن عمار و حذيفة و غيرهما مثل ذلك- . فإن قال دليلي على أنها في أبي بكر و أصحابه- قول أهل التفسير قيل له- أ و كل أهل التفسير قال ذلك- فإن قال نعم كابر لأنه قد روي عن جماعة- التأويل الذي ذكرناه- و لو لم يكن إلا ما روي عن أمير المؤمنين ع- و وجوه أصحابه الذين ذكرناهم لكفى- و إن قال حجتي قول بعض المفسرين- قلنا و أي حجة في قول البعض- و لم صار البعض الذي قال ما ذكرت أولى بالحق- من البعض الذي قال ما ذكرنا- . ثم يقال له قد وجدنا الله تعالى- قد نعت المذكورين في الآية بنعوت- يجب أن‏تراعيها لنعلم أ في صاحبنا هي أم في صاحبك- و قد جعله الرسول ص في خيبر- حين فر من فر من القوم عن العدو صاحب هذه الأوصاف- فقال لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله- و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار- فدفعها إلى أمير المؤمنين ع – .

ثم قوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ- أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يقتضي ما ذكرنا- لأنه من المعلوم بلا خلاف- حال أمير المؤمنين ع في التخاشع و التواضع- و ذم نفسه و قمع غضبه- و أنه ما رئي قط طائشا- و لا متطيرا في حال من الأحوال- و معلوم حال صاحبيكم في هذا الباب- أما أحدهما فإنه اعترف طوعا- بأن له شيطانا يعتريه عند غضبه- و أما الآخر فكان معروفا بالجد و العجلة- مشهورا بالفظاظة و الغلظة و أما العزة على الكافرين- فإنما تكون بقتالهم و جهادهم و الانتقام منهم- و هذه حال لم يسبق أمير المؤمنين ع إليها سابق- و لا لحقه فيها لاحق- .

ثم قال تعالى- يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ- و هذا وصف أمير المؤمنين المستحق له بالإجماع- و هو منتف عن أبي بكر و صاحبه إجماعا- لأنه لا قتيل لهما في الإسلام- و لا جهاد بين يدي الرسول ص- و إذا كانت الأوصاف المراعاة في الآية- حاصلة لأمير المؤمنين ع و غير حاصلة لمن ادعيتم- لأنها فيهم على ضربين ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد- و ضرب مختلف فيه كالأوصاف التي هي غير الجهاد- و على من أثبتها لهم الدلالة على حصولها- و لا بد أن يرجع في ذلك إلى غير ظاهر الآية- لم يبق في يده من الآية دليل- .

هذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله- و لقد كان يمكنه التخلص من الاحتجاج بالآية-على وجه ألطف و أحسن و أصح مما ذكره- فيقول المراد بها من ارتد على عهد رسول الله ص- في واقعة الأسود العنسي باليمن- فإن كثيرا من المسلمين ضلوا به و ارتدوا عن الإسلام- و ادعوا له النبوة و اعتقدوا صدقه- و القوم الذين يحبهم الله و يحبونه- القوم الذين كاتبهم رسول الله ص- و أغراهم بقتله و الفتك به- و هم فيروز الديلمي و أصحابه و القصة مشهورة و قد كان له أيضا أن يقول لم قلت- إن الذين قاتلهم أبو بكر و أصحابه كانوا مرتدين- فإن المرتد من ينكر دين الإسلام- بعد أن كان قد تدين به- و الذين منعوا الزكاة لم ينكروا أصل دين الإسلام- و إنما تأولوا فأخطئوا لأنهم تأولوا قول الله تعالى- خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها- وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ- فقالوا إنما ندفع زكاة أموالنا إلى من صلاته سكن لنا- و لم يبق بعد وفاة النبي ص من هو بهذه الصفة- فسقط عنا وجوب الزكاة- ليس هذا من الردة في شي‏ء- و إنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز- إعظاما لما قالوه و تأولوه- .

فإن قيل إنما الاعتماد على قتال أبي بكر و أصحابه- لمسيلمة و طليحة اللذين ادعيا النبوة- و ارتد بطريقهما كثير من العرب- لا على قتال مانعي الزكاة- قيل إن مسيلمة و طليحة جاهدهما رسول الله ص قبل موته- بالكتب و الرسل- و أنفذ لقتلهما جماعة من المسلمين- و أمرهم أن يفتكوا بهما غيلة إن أمكنهم ذلك- و استنفر عليهما قبائل من العرب- و كل ذلك مفصل مذكور في كتب السيرة و التواريخ- فلم لا يجوز أن يكون أولئك النفر- الذين بعثهم رسول الله ص للفتك بهما- هم المعنيون بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ إلى آخر الآية- و لم يقل في الآية يجاهدون‏فيقتلون- و إنما ذكر الجهاد فقط- و قد كان الجهاد من أولئك النفر حاصلا و إن لم يبلغوا الغرض- كما كان الجهاد حاصلا عند حصار الطائف- و إن لم يبلغ فيه الغرض- .

و قد كان له أيضا أن يقول- سياق الآية لا يدل على ما ظنه المستدل بها- من أنه من يرتدد عن الدين- فإن الله يأتي بقوم يحبهم و يحبونه- يحاربونه لأجل ردته- و إنما الذي يدل عليه سياق الآية- أنه من يرتد منكم عن دينه- بترك الجهاد مع رسول الله ص- و سماه ارتدادا على سبيل المجاز- فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه- يجاهدون في سبيل الله معه عوضا عنكم- و كذلك كان كل من خذل النبي ص- و قعد عن النهوض معه في حروبه- أغناه الله تعالى عنه بطائفة أخرى من المسلمين- جاهدوا بين يديه- . و أما قول المرتضى رحمه الله- إنها أنزلت في الناكثين و القاسطين و المارقين- الذين حاربهم أمير المؤمنين ع فبعيد- لأنهم لا يطلق عليهم لفظ الردة عندنا- و لا عند المرتضى و أصحابه- أما اللفظ فبالاتفاق و إن سموهم كفارا- و أما المعنى فلأن في مذهبهم أن من ارتد- و كان قد ولد على فطرة الإسلام بانت امرأته منه- و قسم ماله بين ورثته- و كان على زوجته عدة المتوفى عنها زوجها- و معلوم أن أكثر محاربي أمير المؤمنين ع- كانوا قد ولدوا في الإسلام- و لم يحكم فيهم بهذه الأحكام- .

و قوله إن الصفات غير متحققة في صاحبكم- فلعمري إن حظ أمير المؤمنين ع منها هو الحظ الأوفى- و لكن الآية ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة- و إنما أطلقها على المجاهدين- و هم الذين يباشرون الحرب- فهب أن أبا بكر و عمر ما كانا بهذه الصفات- لم لا يجوز أن يكون مدحا- لمن جاهد بين أيديهما من المسلمين و باشر الحرب- و هم شجعان المهاجرين و الأنصار- الذين فتحوا الفتوح و نشروا الدعوة و ملكوا الأقاليم- .

و قد استدل قاضي القضاة أيضا عن صحة إمامة أبي بكر- و أسند هذا الاستدلال إلى شيخنا أبي علي بقوله تعالى- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ- شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا- يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ- و قال تعالى فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ- فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً- وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا- إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ- فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ- و قال تعالى- سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها- ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ- قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني قوله تعالى- لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا- ثم قال سبحانه قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ- أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ- فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً- وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً- فبين أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الأعراب- إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي ص- لأنه تعالى قد بين أنهم لا يخرجون معه- و لا يقاتلون معه عدوا بآية متقدمة- و لم يدعهم بعد النبي ص إلى قتال الكفار- إلا أبو بكر و عمر و عثمان- لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية- غير وجهين من التأويل فقال بعضهم- عنى بقوله سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ- بني حنيفة و قال بعضهم عنى فارس و الروم- و أبو بكر هو الذي دعا إلى قتال بني حنيفة- و قتال آل فارس و الروم- و دعاهم بعده إلى قتال فارس و الروم عمر- فإذا كان الله تعالى قد بين- أنهم بطاعتهم لهما يؤتهم أجرا حسنا- و إن تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذابا أليما- صح أنهما على حق- و أن طاعتهما طاعة لله تعالى- و هذا يوجب صحة إمامتهما- .

فإن قيل إنما أراد الله بذلك أهل الجمل و صفين- قيل هذا فاسد من وجهين- أحدهما قوله تعالى تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ- و الذين حاربوا أمير المؤمنين كانوا على الإسلام- و لم يقاتلوا على الكفر- و الوجه الثاني- أنا لا نعرف من الذين عناهم الله تعالى بهذا- من بقي إلى أيام أمير المؤمنين ع- كما علمنا أنهم كانوا باقين في أيام أبي بكر- . اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الكلام من وجهين- أحدهما أنه نازع في اقتضاء الآية- داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي ص- و ذلك لأن قوله تعالى- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ- شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا- يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ- قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً- إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً- بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً- بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ- إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ- وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً- .

إنما أراد به سبحانه الذين تخلفوا عن الحديبية- بشهادة جميع أهل النقل و إطباق المفسرين- . ثم قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ- إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ- يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ- قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ- فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا- بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا- و إنما التمس هؤلاء المخلفون- أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى من ذلك- و أمر نبيه أن يقول لهم لن تتبعونا إلى هذه الغزاة- لأن الله تعالى كان حكم من قبل- بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية- و أنه لا حظ لمن لم يشهدها- و هذا هو معنى قوله تعالى- يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ- و قوله كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ- ثم قال تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ‏ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ- أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ – و إنما أراد أن الرسول سيدعوكم فيما بعد- إلى قتال قوم أولي بأس شديد- و قد دعاهم النبي ص بعد ذلك إلى غزوات كثيرة- إلى قوم أولي بأس شديد- كمؤتة و حنين و تبوك و غيرهما- فمن أين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي ص- مع ما ذكرناه من الحروب التي كانت بعد خيبر- . و قوله إن معنى قوله تعالى كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ- إنما أراد به ما بينه في قوله- فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ- فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً- وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا بتبوك سنة تسع- و آية الفتح نزلت في سنة ست فكيف يكون قبلها- . و ليس يجب أن يقال في القرآن بالإرادة- و بما يحتمل من الوجوه في كل موضع- دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآي- و الأسباب التي وردت عليها و تعلقت بها- .

و مما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير أولئك- لو لم نرجع في ذلك إلى نقل و تاريخ- قوله تعالى في هؤلاء- فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً- وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ- يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً- فلم يقطع منهم على طاعة و لا معصية- بل ذكر الوعد و الوعيد على ما يفعلونه- من طاعة أو معصية- و حكم المذكورين في آية سورة التوبة- بخلاف هذه لأنه تعالى بعد قوله- إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ- وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً- وَ لا تَقُمْ عَلى‏ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ- وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ- وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ- إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا- وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ- و اختلاف أحكامهم و صفاتهم يدلعلى اختلافهم- و أن المذكورين في آية سورة الفتح- غير المذكورين في آية سورة التوبة- .

و أما قوله لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية- غير وجهين من التأويل فذكرهما باطل- لأن أهل التأويل قد ذكروا شيئا آخر لم يذكره- لأن المسيب روى عن أبي روق عن الضحاك في قوله تعالى- سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الآية- قال هم ثقيف- و روى هشيم عن أبي يسر سعيد بن جبير- قال هم هوازن يوم حنين- .

و روى الواقدي عن معمر عن قتادة- قال هم هوازن و ثقيف- فكيف ذكر من أقوال المفسرين ما يوافقه- مع اختلاف الرواية عنهم- على أنا لا نرجع في كل ما يحتمله تأويل القرآن- إلى أقوال المفسرين- فإنهم ربما تركوا مما يحتمله القول وجها صحيحا- و كم استخرج جماعة من أهل العدل- في متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة- التي ظاهر التنزيل بها أشبه- و لها أشد احتمالا مما لم يسبق إليه المفسرون- و لا دخل في جملة تفسيرهم و تأويلهم- . و الوجه الثاني- سلم فيه أن الداعي هؤلاء المخلفين غير النبي ص- و قال لا يمتنع أن يعنى بهذا الداعي أمير المؤمنين ع لأنه قاتل بعده- الناكثين و القاسطين و المارقين- و بشره النبي ص بأنه يقاتلهم- و قد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة- . قال فأما تعلق صاحب الكتاب بقوله أَوْ يُسْلِمُونَ- و أن الذين حاربهم أمير المؤمنين ع كانوا مسلمين-

فأول ما فيه أنهم غير مسلمين عنده و عند أصحابه- لأن الكبائر تخرج من الإسلام عندهم- كما تخرج عن الإيمان- إذ كان الإيمان هو الإسلام‏على مذهبهم- ثم إن مذهبنا في محاربي أمير المؤمنين ع معروف- لأنهم عندنا كانوا كفارا بمحاربته لوجوه الأول منها أن من حاربه كان مستحلا لقتاله- مظهرا أنه في ارتكابه على حق- و نحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر- هو كافر بالإجماع- و استحلال دماء المؤمنين فضلا عن أفاضلهم و أكابرهم- أعظم من شرب الخمر و استحلاله- فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا- .

الثاني أنه ع قال له بلا خلاف بين أهل النقل حربك يا علي حربي و سلمك سلمي – و نحن نعلم أنه لم يرد إلا التشبيه بينهما في الأحكام- و من أحكام محاربي النبي ص الكفر بلا خلاف- .

الثالث أن النبي ص قال له بلا خلاف أيضا اللهم وال من والاه و عاد من عاداه- و انصر من نصره و اخذل من خذله – و قد ثبت عندنا أن العداوة من الله- لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه- دون فساق أهل الملة- .

الرابع قوله إنا لا نعلم ببقاء هؤلاء المخلفين- إلى أيام أمير المؤمنين ع فليس بشي‏ء- لأنه إذا لم يكن ذلك معلوما و مقطوعا عليه- فهو مجوز و غير معلوم خلافه- و الجواز كاف لنا في هذا الموضع- . و لو قيل له- من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الآية- على سبيل القطع إلى أيام أبي بكر- لكان يفزع إلى أن يقول- حكم الآية يقتضي بقاءهم- حتى يتم كونهم مدعوين إلى قتال أولي البأس الشديد- على وجه يلزمهم فيه الطاعة- و هذا بعينه يمكن أن يقال له- و يعتمد في بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين ع- على ما يوجبه حكم الآية- .

فإن قيل كيف يكون أهل الجمل و صفين كفارا- و لم يسر أمير المؤمنين ع‏فيهم بسيرة الكفار- لأنه ما سباهم و لا غنم أموالهم و لا تبع موليهم- قلنا أحكام الكفر تختلف- و إن شملهم اسم الكفر- لأن في الكفار من يقتل و لا يستبقى- و فيهم من يؤخذ منه الجزية- و لا يحل قتله إلا بسبب طارئ غير الكفر- و منهم من لا يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين- فعلى هذا يجوز أن يكون أكثر هؤلاء القوم كفارا- و إن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر- لأنا قد بينا اختلاف أحكام الكفار- و يرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار- إلى فعله ع و سيرته فيهم- على أنا لا نجد في الفساق- من حكمه أن يقتل مقبلا و لا يقتل موليا- و لا يجهز على جريحه- إلى غير ذلك من الأحكام- التي سيرها في أهل البصرة و صفين- .

فإذا قيل في جواب ذلك أحكام الفسق مختلفة- و فعل أمير المؤمنين هو الحجة- في أن حكم أهل البصرة و صفين ما فعله- قلنا مثل ذلك حرفا بحرف- و يمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء المخلفين أبو بكر- أن يقال ليس في الآية دلالة- على مدح الداعي و لا على إمامته- لأنه قد يجوز أن يدعو إلى الحق و الصواب من ليس عليهما- فيلزم ذلك الفعل من حيث كان واجبا في نفسه- لا لدعاء الداعي إليه- و أبو بكر إنما دعا إلى دفع أهل الردة عن الإسلام- و هذا يجب على المسلمين بلا دعاء داع- و الطاعة فيه طاعة لله تعالى- فمن أين له أن الداعي كان على حق و صواب- و ليس في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك- . و يمكن أيضا أن يكون قوله تعالى- سَتُدْعَوْنَ إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم- بإيجاب القتال عليهم- لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين- و رفعهم عن بيضة الإسلام فقد دعاهم إلى القتال- و وجبت عليهم الطاعة- و وجب لهم الثواب إن أطاعوا و هذا أيضا تحتمله الآية- .

فهذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله في هذا الموضع- و أكثره جيد لا اعتراض عليه- و قد كان يمكنه أن يقول- لو سلمنا بكل هذا لكان ليس في قوله- لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً الآية- ما يدل على أن النبي ص- لا يكون هو الداعي لهم- إلى القوم أولي البأس الشديد- لأنه ليس فيها إلا محض الإخبار عنهم- بأنهم لا يخرجون معه- و لا يقاتلون العدو معه- و ليس في هذا ما ينفي كونه داعيا لهم- كما أنه ع قال أبو لهب لا يؤمن بي – لم يكن هذا القول نافيا لكونه يدعوه إلى الإسلام- . و قوله فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ- ليس بأمر على الحقيقة و إنما هو تهديد كقوله- اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ- و لا بد للمرتضى و لقاضي القضاة جميعا- من أن يحملا صيغة افعل على هذا المحمل- لأنه ليس لأحدهما بمسوغ- أن يحمل الأمر على حقيقته- لأن الشارع لا يأمر بالقعود و ترك الجهاد- مع القدرة عليه و كونه قد تعين وجوبه- .

فإن قلت لو قدرنا أن هذه الآية- و هي قوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ- سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ- أنزلت بعد غزوة تبوك و بعد نزول سورة براءة- التي تتضمن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً- و قدرنا أن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً- ليس إخبارا محضا- كما تأولته أنت و حملت الآية عليه- بل معناه لا أخرجكم معي- و لا أشهدكم حرب العدو هل كان يتم الاستدلال- قلت لا لأن للإمامية أن تقول- يجوز أن يكون الداعي إلى حرب القوم- أولي البأس الشديد مع تسليم هذه المقدمات كلها- هو رسول الله ص لأنه دعاهم إلى حرب الروم- في سرية أسامة بن زيد في صفر من سنة إحدى عشرة- لما سيره إلى البلقاء و قال له- سر إلى الروم مقتل أبيك فأوطئهم الخيول- و حشد معه أكثر المسلمين- فهذا الجيش قد دعي فيه المخلفون من الأعراب- الذين قعدوا عن الجهادفي غزاة تبوك- إلى قوم أولي بأس شديد- و لم يخرجوا مع رسول الله ص و لا حاربوا معه عدوا- .

فإن قلت إذا خرجوا مع أسامة- فكأنما خرجوا مع رسول الله- و إذا حاربوا مع أسامة العدو- فكأنما حاربوا مع رسول الله ص- و قد كان سبق أنهم لا يخرجون مع رسول الله ص- و لا يحاربون معه عدوا- قلت و إذا خرجوا مع خالد بن الوليد و غيره- في أيام أبي بكر- و مع أبي عبيدة و سعد في أيام عمر- فكأنما خرجوا مع رسول الله ص- و حاربوا العدو معه أيضا- .

فإن اعتذرت بأنه و إن شابه الخروج معه- و الحرب معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه- و إنما هو مع امرئ من قبل خلفائه- قيل لك و كذلك خروجهم مع أسامة- و محاربة العدو معه- و إن شابه الخروج مع النبي و محاربة العدو معه- إلا أنه على الحقيقة ليس معه- و إنما هو مع بعض أمرائه- . و يمكن أن يعترض الاستدلال بالآية- فيقال لا يجوز حملها على بني حنيفة- لأنهم كانوا مسلمين- و إنما منعوا الزكاة مع قولهم- لا إله إلا الله محمد رسول الله ص- و منع الزكاة لا يخرج به الإنسان- عن الإسلام عند المرجئة- و الإمامية مرجئة- و لا يجوز حملها على فارس و الروم- لأنه تعالى أخبر أنه لا واسطة بين قتالهم و إسلامهم- كما تقول إما كذا و إما كذا- فيقتضي ذلك نفي الواسطة- و قتال فارس و الروم بينه و بين إسلامهم واسطة- و هو دفع الجزية- و إنما تنتفي هذه الواسطة في قتال العرب- لأن مشركي العرب لا تؤخذ منهم الجزية- فالآية إذن دالة على أن المخلفين- سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد الحكم فيهم- إما قتالهم و إما إسلامهم- و هؤلاء هم مشركو العرب- و لم يحارب مشركي العرب إلا رسول الله ص- فالداعي لهم إذا هو رسول الله و بطل الاستدلال بالآية:

أَنَا وَضَعْتُ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ- وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ- وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وَ أَنَا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ- وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ- وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ- وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ- وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ- وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ص- مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ- يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ- وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ- وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ- يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً- وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ- وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ- فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي- وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ- غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا- أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ- وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ص- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ- فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ- إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى- إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ- وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ الباء في قوله بكلاكل العرب زائدة- و الكلاكل الصدور الواحد كلكل- و المعنى أني أذللتهم و صرعتهم إلى الأرض- .

و نواجم قرون ربيعة و مضر- من نجم منهم و ظهر و علا قدره و طار صيته- . فإن قلت أما قهره لمضر فمعلوم فما حال ربيعة- و لم نعرف أنه قتل منهم أحدا- قلت بلى قد قتل بيده و بجيشه- كثيرا من رؤسائهم في صفين و الجمل- فقد تقدم ذكر أسمائهم من قبل- و هذه الخطبة خطب بها بعد انقضاء أمر النهروان- . و العرف بالفتح الريح الطيبة- و مضغ الشي‏ء يمضغه بفتح الضاد- . و الخطلة في الفعل الخطأ فيه و إيقاعه على غير وجهه- . و حراء اسم جبل بمكة معروف- . و الرنة الصوت

ذكر ما كان من صلة علي برسول الله في صغره

و القرابة القريبة بينه و بين رسول الله ص- دون غيره من الأعمام كونه رباه في حجره- ثم حامى عنه و نصره- عند إظهار الدعوة دون غيره من بني هاشم- ثم ما كان بينهما من المصاهرة- التي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الأصهار- و نحن نذكر ما ذكره أرباب السير من معاني هذا الفصل- .

روى الطبري في تاريخه قال حدثنا ابن حميد- قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق- قال حدثني عبد الله بن نجيح عن مجاهد- قال كان من نعمة الله عز و جل على علي بن أبي طالب ع- و ما صنع الله له و أراده به من الخير- أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة- و كان أبو طالب ذا عيال كثير- فقال رسول الله ص للعباس و كان من أيسر بني هاشم- يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال- و قد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة- فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله- آخذ من بيته واحدا و تأخذ واحدا-فنكفيهما عنه فقال العباس نعم- فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له- إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك- حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه- فقال لهما إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما- فأخذ رسول الله ص عليا فضمه إليه- و أخذ العباس جعفرا رضي الله عنه فضمه إليه- فلم يزل علي بن أبي طالب ع مع رسول الله ص- حتى بعثه الله نبيا- فاتبعه علي ع فأقر به و صدقه- و لم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم و استغنى عنه- .

قال الطبري و حدثنا ابن حميد- قال حدثنا سلمة قال حدثنا محمد بن إسحاق- قال كان رسول الله ص إذا حضرت الصلاة- خرج إلى شعاب مكة- و خرج معه علي بن أبي طالب ع- مستخفيا من عمه أبي طالب- و من جميع أعمامه و سائر قومه- فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا- فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا- . ثم إن أبا طالب عثر عليهما و هما يصليان- فقال لرسول الله ص يا ابن أخي- ما هذا الذي أراك تدين به- قال يا عم هذا دين الله و دين ملائكته- و دين رسله و دين أبينا إبراهيم- أو كما قال بعثني الله به رسولا إلى العباد- و أنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة- و دعوته إلى الهدى- و أحق من أجابني إليه- و أعانني عليه أو كما قال فقال أبو طالب يا ابن أخي- إني لا أستطيع أن أفارق ديني و دين آبائي- و ما كانوا عليه- و لكن و الله لا يخلص إليك شي‏ء تكرهه ما بقيت- . قال الطبري و قد روى هؤلاء المذكورون- أن أبا طالب قال لعلي ع- يا بني ما هذا الذي أنت عليه- فقال يا أبت إني آمنت بالله و برسوله- و صدقته بماجاء به و صليت لله معه- قال فزعموا أنه قال له- أما إنه لا يدعو إلا إلى خير فالزمه- .

و روى الطبري في تاريخه أيضا قال حدثنا أحمد بن الحسين الترمذي قال حدثنا عبد الله بن موسى قال أخبرنا العلاء عن المنهال بن عمر و عن عبد الله بن عبد الله قال سمعت عليا ع يقول أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر- لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر- صليت قبل الناس بسبع سنين – . و في غير رواية الطبري أنا الصديق الأكبر و أنا الفاروق الأول- أسلمت قبل إسلام أبي بكر- و صليت قبل صلاته بسبع سنين – كأنه ع لم يرتض أن يذكر عمر- و لا رآه أهلا للمقايسة بينه و بينه- و ذلك لأن إسلام عمر كان متأخرا- .

و روى الفضل بن عباس رحمه الله- قال سألت أبي عن ولد رسول الله ص الذكور- أيهم كان رسول الله ص له أشد حبا- فقال علي بن أبي طالب ع- فقلت له سألتك عن بنيه- فقال إنه كان أحب إليه من بنيه جميعا و أرأف- ما رأيناه زايله يوما من الدهر منذ كان طفلا- إلا أن يكون في سفر لخديجة- و ما رأينا أبا أبر بابن منه لعلي- و لا ابنا أطوع لأب من علي له- .

و روى الحسين بن زيد بن علي بن الحسين ع- قال سمعت زيدا أبي ع يقول- كان رسول الله يمضغ اللحمة و التمرة حتى تلين- و يجعلهما في فم علي ع و هو صغير في حجره- و كذلك كان أبي علي بن الحسين ع يفعل بي- و لقد كان يأخذ الشي‏ء من الورك و هو شديد الحرارة- فيبرده في الهواء أو ينفخ عليه حتى يبرد- ثم يلقمنيه أ فيشفق علي من حرارة لقمة- و لا يشفق علي من النار- لو كان أخي إماما بالوصية كما يزعم هؤلاء- لكان أبي أفضى بذلك إلي و وقاني من حر جهنم- .

و روى جبير بن مطعم قال- قال أبي مطعم بن عدي لنا و نحن صبيان بمكة- أ لا ترون حب هذا الغلام يعني عليا لمحمد- و اتباعه له دون أبيه- و اللات و العزى- لوددت أن ابني بفتيان بني نوفل جميعا- . و روى سعيد بن جبير قال سألت أنس بن مالك- فقلت أ رأيت قول عمر عن الستة- إن رسول الله ص مات و هو عنهم راض- أ لم يكن راضيا عن غيرهم من أصحابه- فقال بلى مات رسول الله ص- و هو راض عن كثير من المسلمين- و لكن كان عن هؤلاء أكثر رضا- فقلت له فأي الصحابة كان رسول الله ص له أحمد- أو كما قال قال ما فيهم أحد- إلا و قد سخط منه فعلا- و أنكر عليه أمرا إلا اثنان- علي بن أبي طالب و أبو بكر بن أبي قحافة- فإنهما لم يقترفا منذ أتى الله بالإسلام أمرا- أسخطا فيه رسول الله ص

ذكر حال رسول الله في نشوئه

و ينبغي أن نذكر الآن ما ورد في شأن رسول الله ص- و عصمته بالملائكة- ليكون ذلك تقريرا و إيضاحا لقوله ع- و لقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته- و أن نذكر حديث مجاورته ع بحراء- و كون علي ع معه هناك- و أن نذكر ما ورد في أنه- لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام- غير رسول الله ص و عليا و خديجة- و أن نذكر ما ورد في سماعه رنة الشيطان- و أن نذكر ما ورد في كونه ع وزيرا للمصطفى ص- أما المقام الأول- فروى محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة النبوية- و رواه أيضا محمد بن جرير الطبري في تاريخه- قال كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية-أم رسول الله ص التي أرضعته- تحدث أنها خرجت من بلدها و معها زوجها و ابن لها- ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضاع بمكة- في سنة شهباء لم تبق شيئا- قالت فخرجت على أتان لنا قمراء عجفاء- و معنا شارف لنا ما تبض بقطرة- و لا ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا الذي معنا من الجوع- ما في ثديي ما يغنيه- و لا في شارفنا ما يغديه- و لكنا نرجو الغيث و الفرج- فخرجت على أتاني تلك- و لقد أراثت بالركب ضعفا و عجفا- حتى شق ذلك عليهم- حتى قدمنا مكة نلتمس الرضاع- فما منا امرأة إلا و قد عرض عليها محمد ص فتأباه- إذا قيل لها إنه يتيم- و ذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي- فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه و جده- فكنا نكرهه لذلك- فما بقيت امرأة ذهبت معي إلا أخذت رضيعا غيري- فلما اجتمعنا للانطلاق قلت لصاحبي-

و الله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي لم آخذ رضيعا- و الله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه- قال لا عليك أن تفعلي- و عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة فذهبت إليه فأخذته- و ما يحملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره- قالت فلما أخذته رجعت إلى رحلي- فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن- فرضع حتى روي و شرب معه أخوه حتى روي- و ما كنا ننام قبل ذلك من بكاء صبينا جوعا فنام- و قام زوجي إلى شارفنا تلك فنظر إليها فإذا أنها حافل- فحلب منها ما شرب و شربت حتى انتهينا ريا و شبعا- فبتنا بخير ليلة- قالت يقول صاحبي حين أصبحنا- أ تعلمين و الله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة- فقلت و الله إني لأرجو ذلك- ثم خرجنا و ركبت أتاني تلك و حملته معي عليها- فو الله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شي‏ء من حميرهم- حتى إن صواحبي ليقلن لي ويحك يا بنت أبي ذؤيب- اربعي علينا- أ ليس هذه أتانك التي كنت خرجت عليها- فأقول لهن بلى و الله- إنها لهي فيقلن و الله إن لها لشأنا- .

قالت ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد- و ما أعلم أرضا من أرض العرب أجدب منها- فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا ملأى لبنا- فكنا نحتلب و نشرب- و ما يحلب إنسان قطرة لبن- و لا يجدها في ضرع- حتى إن الحاضر من قومنا ليقولون لرعاتهم ويلكم- اسرحوا حيث يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب فيفعلون- فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة- و تروح غنمي شباعا لبنا- فلم نزل نعرف من الله الزيادة و الخير به- حتى مضت سنتاه و فصلته- فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه- حتى كان غلاما جفرا- فقدمنا به على أمه آمنة بنت وهب- و نحن أحرص شي‏ء على مكثه فينا- لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه- و قلنا لها لو تركته عندنا حتى يغلظ- فإنا نخشى عليه وباء مكة- فلم نزل بها حتى ردته معنا- .

فرجعنا به إلى بلاد بني سعد- فو الله إنه لبعد ما قدمنا- بأشهر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا- إذ أتانا أخوه يشتد- فقال لي و لأبيه ها هو ذاك أخي القرشي- قد جاءه‏ رجلان عليهما ثياب بياض- فأضجعاه و شقا بطنه فهما يسوطانه- قالت فخرجت أنا و أبوه نشتد نحوه- فوجدناه قائما ممتقعا وجهه- فالتزمته و التزمه أبوه و قلنا ما لك يا بني- قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض- فأضجعاني ثم شقا بطني- فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو- قالت فرجعنا به إلى خبائنا- و قال لي أبوه يا حليمة- لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله- قالت فاحتملته حتى قدمت به على أمه- فقالت ما أقدمك به يا ظئر- و قد كنت حريصة عليه و على مكثه عندك- فقلت لها قد بلغ الله بابني و قضيت الذي علي- و تخوفت عليه الأحداث و أديته إليك كما تحبين- قالت أ تخوفت عليه الشيطان قلت نعم- قالت كلا و الله ما للشيطان عليه من سبيل- و إن لابني شأنا أ فلا أخبرك خبره قلت بلى- قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور- أضاءت له قصور بصرى من الشام ثم حملت به- فو الله ما رأيت حملا قط كان أخف و لا أيسر منه- ثم وقع حين ولدته و إنه لواضع يديه بالأرض- و رافع رأسه إلى السماء- دعيه عنك و انطلقي راشدة- .

قال و روى الطبري في تاريخه عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله ص يحدث عن نفسه- و يذكر ما جرى له و هو طفل في أرض بني سعد بن بكر- قال لما ولدت استرضعت في بني سعد- فبينا أنا ذات يوم منتبذ من‏أهلي في بطن واد- مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بالجلة- إذا أتاني رهط ثلاثة- معهم طشت من ذهب مملوءة ثلجا- فأخذوني من بين أصحابي- فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا إلى شفير الوادي- ثم عادوا إلى الرهط- فقالوا ما أربكم إلى هذا الغلام- فإنه ليس منا هذا ابن سيد قريش- و هو مسترضع فينا غلام يتيم ليس له أب- فما ذا يرد عليكم قتله- و ما ذا تصيبون من ذلك- و لكن إن كنتم لا بد قاتليه- فاختاروا منا أينا شئتم فاقتلوه مكانه- و دعوا هذا الغلام فإنه يتيم- .

فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون لهم جوابا- انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي- يؤذنونهم و يستصرخونهم على القوم- فعمد أحدهم فأضجعني إضجاعا لطيفا- ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي- و أنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا- ثم أخرج بطني فغسلها بذلك الثلج- فأنعم غسلها ثم أعادها مكانها- ثم قام الثاني منهم- فقال لصاحبه تنح فنحاه عني- ثم أدخل يده في جوفي و أخرج قلبي و أنا أنظر إليه- فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرماها- ثم قال بيده يمنة منه و كأنه يتناول شيئا- فإذا في يده خاتم من نور- تحار أبصار الناظرين دونه فختم به قلبي- ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا-

ثم قال الثالث لصاحبه تنح عنه- فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي- فالتأم ذلك الشق- ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا- و قال للأول الذي شق بطني- زنه بعشرة من أمته فوزنني بهم فرجحتهم- فقال دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم- ثم ضموني إلى صدرهم- و قبلوا رأسي و ما بين عيني- و قالوا يا حبيب الله لا ترع- إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك- فبينا أنا كذلك إذا أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم- و إذا أمي و هي‏ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها- و تقول يا ضعيفاه فانكب علي أولئك الرهط- فقبلوا رأسي و ما بين عيني- و قالوا حبذا أنت من ضعيف- ثم قالت ظئري يا وحيداه- فانكبوا علي و ضموني إلى صدورهم- و قبلوا رأسي و ما بين عيني- ثم قالوا حبذا أنت من وحيد و ما أنت بوحيد-

إن الله و ملائكته معك و المؤمنين من أهل الأرض- ثم قالت ظئري يا يتيماه- استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك- فانكبوا علي و ضموني إلى صدورهم- و قبلوا رأسي و ما بين عيني- و قالوا حبذا أنت من يتيم- ما أكرمك على الله لو تعلم ما يراد بك من الخير- قال فوصل الحي إلى شفير الوادي- فلما بصرت بي أمي و هي ظئري- نادت يا بني أ لا أراك حيا بعد- فجاءت حتى انكبت علي- و ضمتني إلى صدرها- فو الذي نفسي بيده- إني لفي حجرها قد ضمتني إليها- و إن يدي لفي يد بعضهم- فجعلت ألتفت إليهم- و ظننت أن القوم يبصرونهم فإذا هم لا يبصرونهم- فيقول بعض القوم إن هذا الغلام قد أصابه لمم- أو طائف من الجن- فانطلقوا به إلى كاهن بني فلان- حتى ينظر إليه و يداويه- فقلت ما بي شي‏ء مما يذكرون نفسي سليمة- و إن فؤادي صحيح ليست بي قلبة- فقال أبي و هو زوج ظئري- أ لا ترون كلامه صحيحا- إني لأرجو ألا يكون على ابني بأس- .

فاتفق القوم على أن يذهبوا إلى الكاهن بي- فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه فقصوا عليه قصتي- فقال اسكتوا حتى أسمع من الغلام- فهو أعلم بأمره منكم- فسألني فقصصت عليه أمري- و أنا يومئذ ابن خمس سنين- فلما سمع قولي وثب و قال يا للعرب- اقتلوا هذا الغلام فهو و اللات و العزى- لئن عاش ليبدلن دينكم و ليخالفن أمركم- و ليأتينكم بما لم تسمعوا به قط- فانتزعتني ظئري من حجره- و قالت لو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به-ثم احتملوني فأصبحت و قد صار في جسدي أثر الشق- ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك

و روي أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر ع- سأله عن قول الله عز و جل- إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ- فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً- فقال ع يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم- و يؤدون إليه تبليغهم الرسالة- و وكل بمحمد ص ملكا عظيما- منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات و مكارم الأخلاق- و يصده عن الشر و مساوئ الأخلاق- و هو الذي كان يناديه- السلام عليك يا محمد يا رسول الله و هو شاب- لم يبلغ درجة الرسالة بعد- فيظن أن ذلك من الحجر و الأرض- فيتأمل فلا يرى شيئا

و روى الطبري في التاريخ عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي ع قال سمعت رسول الله ص يقول ما هممت بشي‏ء مما كان أهل الجاهلية- يعملون به غير مرتين- كل ذلك يحول الله تعالى بيني و بين ما أريد من ذلك- ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته- قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة- لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة- فأسمر بها كما يسمر الشباب فخرجت أريد ذلك- حتى إذا جئت أول دار من دور مكة- سمعت عزفا بالدف و المزامير- فقلت ما هذا- قالوا هذا فلان تزوج ابنة فلان- فجلست أنظر إليهم- فضرب الله على أذني فنمت- فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي- فقال ما فعلت فقلت ما صنعت شيئا ثم أخبرته الخبر- ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك- فقال أفعل فخرجت فسمعت حين دخلت مكة- مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة- فجلست‏أنظر فضرب الله على أذني- فما أيقظني إلا مس الشمس- فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر- ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله برسالته

و روى محمد بن حبيب في أماليه- قال قال رسول الله ص أذكر و أنا غلام ابن سبع سنين- و قد بنى ابن جدعان دارا له بمكة- فجئت مع الغلمان- نأخذ التراب و المدر في حجورنا فننقله- فملأت حجري ترابا فانكشفت عورتي- فسمعت نداء من فوق رأسي- يا محمد أرخ إزارك- فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئا- إلا أني أسمع الصوت فتماسكت و لم أرخه- فكأن إنسانا ضربني على ظهري- فخررت لوجهي و انحل إزاري فسترني- و سقط التراب إلى الأرض- فقمت إلى دار أبي طالب عمي و لم أعد – .

و أما حديث مجاورته ع بحراء فمشهور- و قد ورد في الكتب الصحاح- أنه كان يجاور في حراء من كل سنة شهرا- و كان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين- فإذا قضى جواره من حراء- كان أول ما يبدأ به إذا انصرف- أن يأتي باب الكعبة قبل أن يدخل بيته- فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته- حتى جاءت السنة التي أكرمه الله فيها بالرسالة- فجاور في حراء شهر رمضان و معه أهله خديجة و علي بن أبي طالب و خادم لهم- فجاءه جبريل بالرسالة- و قال ع جاءني و أنا نائم بنمط فيه كتاب- فقال اقرأ قلت ما أقرأ- فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني- فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ- إلى قوله عَلَّمَ الْإِنْسانَ‏ما لَمْ يَعْلَمْ فقرأته- ثم انصرف عني فانتبهت من نومي- و كأنما كتب في قلبي كتاب – و ذكر تمام الحديث- .

و أما حديث أن الإسلام لم يجتمع عليه بيت واحد يومئذ- إلا النبي و هو ع و خديجة- فخبر عفيف الكندي مشهور و قد ذكرناه من قبل- و أن أبا طالب قال له أ تدري من هذا قال لا- قال هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- و هذا ابني علي بن أبي طالب- و هذه المرأة خلفهما خديجة بنت خويلد- زوجة محمد ابن أخي- و ايم الله- ما أعلم على الأرض كلها أحدا على هذا الدين- غير هؤلاء الثلاثة- .

و أما رنة الشيطان- فروى أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مسنده عن علي بن أبي طالب ع قال كنت مع رسول الله ص صبيحة الليلة التي أسري به فيها- و هو بالحجر يصلي فلما قضى صلاته- و قضيت صلاتي سمعت رنة شديدة- فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة- قال أ لا تعلم هذه رنة الشيطان- علم أني أسري بي الليلة إلى السماء- فأيس من أن يعبد في هذه الأرض – .

و قد روي عن النبي ص ما يشابه هذا لما بايعه الأنصار السبعون ليلة العقبة- سمع من العقبة صوت عال في جوف الليل- يا أهل مكة هذا مذمم و الصباة معه قد أجمعوا على حربكم- فقال رسول الله ص للأنصار- أ لا تسمعون ما يقول- هذا أزب العقبة- يعني شيطانها و قد روي أزبب العقبة ثم التفت إليه- فقال استمع يا عدو الله أما و الله لأفرغن لك

و روي عن جعفر بن محمد الصادق ع قال كان علي ع يرى مع رسول الله ص قبل الرسالة الضوء- و يسمع الصوت- و قال له ص- لو لا أني خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوة- فإن لا تكن نبيا فإنك وصي نبي و وارثه- بل أنت سيد الأوصياء و إمام الأتقياء و أما خبر الوزارة فقد ذكره الطبري في تاريخه- عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب ع قال لما أنزلت هذه الآية- وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ على رسول الله ص دعاني- فقال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين- فضقت بذلك ذرعا- و علمت أني متى أنادهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره- فصمت حتى جاءني جبريل ع- فقال يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به يعذبك ربك- فاصنع لنا صاعا من طعام- و اجعل عليه رجل شاة- و املأ لنا عسا من لبن- ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أكلمهم- و أبلغهم ما أمرت به- ففعلت ما أمرني به- ثم دعوتهم و هم يومئذ أربعون رجلا- يزيدون رجلا أو ينقصونه و فيهم أعمامه- أبو طالب و حمزة و العباس و أبو لهب- فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم- فجئت به فلما وضعته- تناول رسول الله ص بضعة من اللحم فشقها بأسنانه- ثم ألقاها في نواحي الصحفة- ثم قال كلوا باسم الله- فأكلوا حتى ما لهم إلى شي‏ء من حاجة- و ايم الله الذي نفس علي بيده- إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمته لجميعهم- ثم قال اسق القوم يا علي- فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا- و ايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله- فلما أراد رسول الله ص أن يكلمهم- بدره أبو لهب إلى الكلام- فقال لشد ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم- و لم يكلمهم رسول الله ص- فقال من الغد يا علي- إن هذا الرجل قد سبقني‏إلى ما سمعت من القول- فتفرق القوم قبل أن أكلمهم- فعد لنا اليوم إلى مثل ما صنعت بالأمس- ثم اجمعهم لي ففعلت ثم جمعتهم- ثم دعاني بالطعام فقربته لهم- ففعل كما فعل بالأمس- فأكلوا حتى ما لهم بشي‏ء حاجة- ثم قال اسقهم فجئتهم بذلك العس- فشربوا منه جميعا حتى رووا- ثم تكلم رسول الله ص- فقال يا بني عبد المطلب- إني و الله ما أعلم أن شابا في العرب- جاء قومه بأفضل مما جئتكم به- إني قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة- و قد أمرني الله أن أدعوكم إليه- فأيكم يوازرني على هذا الأمر- على أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم- فأحجم القوم عنها جميعا- و قلت أنا و إني لأحدثهم سنا و أرمصهم عينا- و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا- أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه- فأعاد القول فأمسكوا و أعدت ما قلت- فأخذ برقبتي- ثم قال لهم هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم- فاسمعوا له و أطيعوا- فقام القوم يضحكون- و يقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع – .

و يدل على أنه وزير رسول الله ص- من نص الكتاب و السنة قول الله تعالى- وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي- هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي- وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي و قال النبي ص في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي – فأثبت له جميع مراتب هارون عن موسى- فإذن هو وزير رسول الله ص و شاد أزره- و لو لا أنه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره- .

و روى أبو جعفر الطبري أيضا في التاريخ أن رجلا قال لعلي ع يا أمير المؤمنين- بم ورثت ابن عمك دون عمك- فقال علي ع هاؤم ثلاث مرات- حتى اشرأب الناس و نشروا آذانهم- ثم قال جمع رسول الله ص بني عبد المطلب بمكة- و هم رهطه كلهم- يأكل الجذعة و يشرب الفرق- فصنع مدا من طعام- حتى أكلوا و شبعوا و بقي الطعام كما هو كأنه لم يمس- ثم دعا بغمر فشربوا و رووا- و بقي الشراب كأنه لم يشرب- ثم قال يا بني عبد المطلب- إني بعثت إليكم خاصة و إلى الناس عامة- فأيكم يبايعني على أن يكون أخي و صاحبي و وارثي- فلم يقم إليه أحد فقمت إليه- و كنت من أصغر القوم- فقال اجلس ثم قال ذلك ثلاث مرات- كل ذلك أقوم إليه- فيقول اجلس حتى كان في الثالثة- فضرب بيده على يدي- فعند ذلك ورثت ابن عمي دون عمي وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ص لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ- فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً- لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ- وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ- عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ- فَقَالَ ص وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا- تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا- وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ص- إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ‏شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ- فَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ- قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ- وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ- وَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ- ثُمَّ قَالَ ص يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ- إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآْخِرِ- وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ- حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ- وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا- وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ- وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ- حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ص مُرَفْرِفَةً- وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص- وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ص- فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً- فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا- فَأَمَرَهَا فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا- كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً- فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ص- فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ- فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ- فَأَمَرَهُ ص فَرَجَعَ- فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ- وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى- تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ- فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ- عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ- وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي- وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ- سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ- عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ- مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ- لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ- وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ- قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ‏

الملأ الجماعة و لا تفيئون لا ترجعون- و من يطرح في القليب كعتبة و شيبة- ابني ربيعة بن عبد شمس- و عمرو بن هشام بن المغيرة المكنى أبا جهل و غيرهم- طرحوا في قليب بدر بعد انقضاء الحرب- و من يحزب الأحزاب أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية- . و القصف و القصيف الصوت- و سيماهم علامتهم و مثله سيمياء- . و معنى قوله ع- قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل- أن قلوبهم ملتذة بمعرفة الله تعالى- و أجسادهم نصبة بالعبادة- . و أما أمر الشجرة التي دعاها رسول الله ص- فالحديث الوارد فيها كثير مستفيض- قد ذكره المحدثون في كتبهم- و ذكره المتكلمون في معجزات الرسول ص- و الأكثرون رووا الخبر فيها- على الوضع الذي جاء في خطبة أمير المؤمنين- و منهم من يروي ذلك مختصرا- أنه دعا شجرة فأقبلت تخد إليه الأرض خدا- .

و قد ذكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة حديث الشجرة- و رواه أيضا محمد بن إسحاق بن يسار- في كتاب السيرة و المغازي على وجه آخر- قال محمد بن إسحاق كان ركانة- بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف- أشد قريش كلها- فخلا يوما برسول الله ص في بعض شعاب مكة- فقال له رسول الله ص يا ركانة أ لا تتقي الله- و تقبل ما أدعوك إليه- قال لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك- قال أ فرأيت إن صرعتك- أ تعلم أن ما أقول لك حق قال نعم- قال فقم حتى أصارعك فقام ركانة- فلما بطش به رسول الله ص- أضجعه لا يملك من نفسه شيئا- فقال عد يا محمد فعاد فصرعه- فقال يا محمد إن هذا لعجب حين تصرعني- فقال رسول الله ص و أعجب من ذلك إن شئت أريتكه- إن اتقيت الله و اتبعت أمري-قال ما هو قال أدعو لك هذه الشجرة التي تراها- فتأتي قال فادعها فدعاها- فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله ص- ثم قال ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها- فرجع ركانة إلى قومه و قال- يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض- فما رأيت أسحر منه قط- ثم أخبرهم بالذي رأى و الذي صنع

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.