و من خطبة له عليه السّلام
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَ رَخَاءٍ- وَ لَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلَاءٍ- وَ فِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ- وَ مَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ- وَ مَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ وَ لَا كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ- وَ لَا كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ- فَيَا عَجَباً وَ مَا لِيَ لَا أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هَذِهِ الْفِرَقِ- عَلَى اخْتِلَافِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا- لَا يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ وَ لَا يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ- وَ لَا يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ وَ لَا يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ- يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ وَ يَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ- الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا وَ الْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا- مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلَاتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ تَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ- كَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ- قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرًى ثِقَاتٍ وَ أَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ
اللغة
أقول: القصم بالقاف: الكسر. و الأزل بفتح الهمزة: الضيق و الشدّة. و اقتصّ أثره: تبعه.
المعنى
و مقصود هذا الفصل توبيخ الامّة على اختلاف آرائهم في الدين و استبداد كلّ منهم بمذهب بحسب رأيه في المسايل الفقهيّة و نحوها مع وجوده عليه السّلام بينهم، و إعراضهم عن مراجعته مع علمهم بقيامه بذلك.
فقوله: أمّا بعد. إلى قوله: ببصير.
صدر الخطبة و كأنّه عليه السّلام فهم ممّن خرجت هذه الخطبة بسببه أنّهم إنّما يستبدّون بآرائهم من دون مراجعة عن كبر منهم على التعلّم و الاستفادة و محبّة الراحة من تحمّل كلفة التحرّى في الدين و التحرّز من الغلط فيه و مشقّة الطلب فلذلك خوّفهم من حال الجبابرة و أن تصيبهم بترك قواعد الدين إلى آرائهم المتفرّقة فيستعدّوا للهلاك بقوله: إنّه لم يقصم جبّارى دهر إلّا بعد إمهالهم و رخائهم فإنّهم إذا امهلوا و انغمسوا فيما هم فيه من الرخاء و الترف أعرضوا عن الآخرة و نسوا ذكر اللّه تعالى فاستعدّوا بتركهم لقوِانين الدين الّتى بها نظام العالم للهلاك و نحوه قوله تعالى وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً«» و كذلك قوله: و لم يجبر عظم أحد من الامم إلّا بعد أزل و بلاء. كنّى بجبران العظم عن قوّتهم بعد الضعف كناية بالمستعار، و صدق هذه القضيّة ظاهر فإنّ أحدا من الامم المتّبعين لأنبيائهم أو لملوكهم في إظهار دين أو طلب ملك لن يصلوا إلى مطلوبهم إلّا بعد قوّتهم و تضاعفهم و تظاهر بعضهم ببعض و معاناة بلاء أثر بلاء بحيث يستعدّون بذلك للفزع إلى اللّه تعالى فيهيّىء قلوبهم لقبول الالفة و يعدّها باجتماع عزائمها لقبول صورة النصر، و فيه تنبيه على وجوب الاتّحاد في الدين و عدم تشتّت الآراء فيه فإنّ ذلك يدعو إلى التحزّب و التفرّق و يدخل عليهم الوهن و الضعف و كلّ ذلك ضدّ مطلوب الشارع كما سبق، و يحتمل أن يكنّى بقوله: لم يقصم جبّارى دهر. عن جبّارى وقته كمعاوية و أصحابه، و بقوله: لم يجبر عظم أحد من الامم إلّا بعد أزل و بلاء. عن أصحابه فنبّههم بالكلمة الاولى على أنّ اولئك الجبّارين و إن طالت مدّتهم و قويت شوكتهم فإنّما ذلك إملاء من اللّه لهم ليستعدّوا به للهلاك، و بالكلمة الثانية على أنّكم و إن ضعفتم و ابتليتم فذاك عادة اللّه فيمن يريد أن ينصره ثمّ عقّب ذلك بتوبيخهم على الاختلاف و تشعّب الآراء و المذاهب في الدين لما أنّ ذلك يؤدّى إلى طول محنتهم و ضعفهم عن مقاومة عدوّهم.
و قوله: و في دون ما استقبلتم من عتب
أى من عتابى لكم و استدبرتم من خطب:
أى من الأهوال الّتى كنتم ترونها من المشركين في مبدء الإسلام حيث كنتم قليلين و امرتم أن يثبت الواحد منكم لعشرة منهم ثمّ أيّدكم اللّه بنصره بالتأليف بين قلوبكم و جبر عظمكم بمن أسلم و دخل في دينكم و ذلك أىّ معتبر و فيه أىّ اعتبار فإنّكم لو لم تتّحدوا في الدين و تقاسوا مرارة ذلك النصير و اختلفت آراؤكم في ذلك الوقت كاختلافها الآن، و كنتم إذن على غاية من الكثرة لم تغن عنكم كثرتكم شيئا فكأنّه قال: فيجب من ذلك الاعتبار أن لا تفترقوا في الرأى و أن تتّحدوا في الدين و تراجعوا أعلمكم باصوله و فروعه.
و قوله: فما كلّ ذى قلب بلبيب. إلى قوله: ببصير.
أراد بذى القلب الإنسان، و ظاهر أنّ الإنسان قد يخلو عن اللبّ و أراد باللبّ العقل و الذكاء و استعماله فيما ينبغي على الوجه الّذى ينبغي، و بالجملة فاللبيب من ينتفع بعقله فيما خلق لأجله و كذلك السميع و البصير هما اللذان يستعملان سمعهما و بصرهما في استفادة العبرة و إصلاح أمر المعاد و نحوه قوله تعالى أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها«» و قوله أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ«» و فائدة هذه الكلمات تحريك النفوس إلى الاعتبار كيلا يعدّ التارك له غير لبيب و لا سميع و لا بصير.
و قوله: يا عجبا. إلى آخره.
أردف تعجّبه بما يصلح جواب سؤال مقدّر عمّا يتعجّب منه فكأنّه فهم من تقدير ذلك السؤال تعجّب السائل من تعجّبه المستلزم لتبرّمه و تضجّره حتّى كأنّ السائل قال: و ممّ تتعجّب و علام هذا التبرّم و الأسف فقال: ما لى لا أعجب من خطأ هذه الفرق. ثمّ شرع في تفصيل الخطايا و المذامّ الّتى كان اجتماعها فيهم سببا لتعجّبه منهم فأشار إلى تركهم لما ينبغي و قدّم على الكلّ ذكر اختلاف حججهم في دينهم و ذلك هو الأصل الّذى نشأت عنه أكثر هذه الرذائل فأمّا تركهم لما ينبغي ففى صور: أحدها: تركهم لاقتصاص أثر نبيّهم فإنّهم لو اقتصّوا أثره لما اختلفوا إذ لا اختلاف فيما جاء به كما سبق بيانه لكنّهم اختلفوا فلم يقتصّوا أثر نبيّهم.
الثانية: تركهم الاقتداء بعمل الوصىّ و هو إشارة إلى نفسه و هذه أقطع لإعذارهم فإنّ الاختلاف في الدين قد يعرض عن ضرورة و هى عدم إصابة الكلّ للحقّ مع عدم الشارع الّذى يرجع إليه في التوقيف على أسرار الشريعة فأمّا إذا كان الموقف موجودا بينهم كمثله عليه السّلام امتنع أن يقعوا في تلك الضرورة فيعتذروا بها في الاختلاف. الثالثة: تركهم الإيمان بالغيب: أى التصديق به و الطمأنينة في اعتقاده.
و للمفسّرين في تفسير الغيب أقوال: أحدها: عن ابن عبّاس: هو ما جاء به من عند اللّه. الثاني: عن عطاء: هو اللّه سبحانه. الثالث: عن الحسن: هو الدار الآخرة و الثواب و العقاب و الحساب.
الرابع: قيل: يؤمنون بظهر الغيب كقوله تعالى يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فالمعنى قوله عليه السّلام: أى لا يحفظون شرايط الإيمان في عقيب بعضهم على بعض. الخامس: عن ابن عيسى: الغيب ما غاب عن الحواسّ ممّا يعلم بالدليل. السادس: عن الأخفش يؤمنون بما غاب عن أفهامهم من متشابهات القرآن. الرابعة: تركهم العفّة عن عيب و هو إشارة إلى الغيبة و ظاهر أنّها فجور و عبور إلى طرف الإفراط من فضيلة العفّة. و أمّا فعلهم لما لا ينبغي فامور:
أحدها: أنّهم يعملون في الشبهات: أى لا يتوقّفون فيما أشبه عليهم أمره و لا يبحثون عن وجه الحقّ فيه بل يعملون فيه بما قادهم إليه الهوى.
الثاني: كونهم يسيرون في الشهوات لمّا لحظ مشابهة ميل قلوبهم إلى شهواتها الدنيويّة و انهماكها فيها قاطعة مراحل الأوقات بالتلذّذ لسلوك السائر في الطريق و نحوها استعار لذلك السلوك لفظ السير.
الثالث: كون المعروف فيهم ما عرفوا و المنكر ما أنكروا: أى أنّ المعروف و المنكر تابعان لإرادتهم و ميولهم الطبيعيّة فما أنكرته طباعهم كان هو المنكر بينهم و إن كان معروفا في الشريعة و ما اقتضته طباعهم و مالت إليه كان هو المعروف بينهم و إن كان منكرا في الدين، و الواجب أن يكون إرادتهم و ميولهم تابعة لرواسم الشريعة في اتّباع ما كان فيها معروفا و إنكار ما كان فيها منكرا.
الرابع: كون مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم و تعويلهم في المبهمات إلى آرائهم و هو كناية عن كون أحكامهم في كلّ ما يرد عليهم من مشكلات الدين و يستبهم من أحكامه تابعة لأهوائهم لا يجرونها على قانون شرعىّ يعرف حتّى أشيهت نفوسهم الأمّارة بالسوء الّتى هى منبع الأهواء المخالفة للشريعة الأئمّة الّتى يرجع إليهم في استفادة الأحكام فكلّ منهم يأخذ عن نفسه: أى يتمسّك فيما يراه و يحكم به بآراء كأنّها عنده عرى وثيقة: أى لا يضلّ من تمسّك بها و أسباب محكمات: أى نصوص جليّة و ظواهر واضحة لا اشتباه فيها، و قد عرفت معنى الحكم، و لفظ العرى مستعار، و قد سبق وجه الاستعارة.
و باللّه العصمة و التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 306