نامه 9 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی) جز الرابع(مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه)

القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه

قال الواقدي كان وحشي عبدا- لابنة الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف- و يقال كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف- فقالت له ابنة الحارث إن أبي قتل يوم بدر- فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر- محمد و علي بن أبي طالب و حمزة بن عبد المطلب- فإني لا أرى في القوم كفؤا لأبي غيرهم- فقال وحشي أما محمد فقد علمت أني لا أقدر عليه- و أن أصحابه لن يسلموه- و أما حمزة فو الله لو وجدته نائما ما أيقظته من هيبته- و أما علي فألتمسه- قال وحشي فكنت يوم أحد ألتمسه- فبينا أنا في طلبه طلع علي- فطلع رجل حذر مرس كثير الالتفات- فقلت ما هذا بصاحبي الذي ألتمس- إذ رأيت حمزة يفري الناس فريا- فكمنت له إلى صخرة و هو مكبس له كتيت- فاعترض له سباع بن أم نيار- و كانت أمه ختانة بمكة- مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي- و كان سباع يكنى أبا نيار- فقال له حمزة و أنت أيضا يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا- هلم إلي فاحتمله- حتى إذا برقت قدماه رمى به فبرك عليه- فشحطه شحط الشاة- ثم أقبل علي مكبا حين رآني- فلما بلغ المسيل- وطئ على جرف فزلت قدمه- فهززت حربتي حتى رضيت منها- فأضرب بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته- و كر عليه طائفة من أصحابه- فأسمعهم يقولون أبا عمارة فلا يجيب- فقلت قد و الله مات الرجل- و ذكرت هندا و ما لقيت على أبيها و عمها و أخيها- و انكشف عنه أصحابه حين أيقنوا بموته و لا يروني- فأكر عليه فشققت بطنه فاستخرجت كبده- فجئت بها إلى هند بنت عتبة- فقلت ما ذا لي إن قتلت قاتل أبيك قالت سلني- فقلت هذه كبد حمزة فمضغتها ثم لفظتها- فلا أدري لم تسغها أو قذرتها- فنزعت ثيابها و حليها فأعطتنيه- ثم قالت إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير- ثم قالت أرني مصرعه فأريتها مصرعه- فقطعت مذاكيره و جدعت أنفه و قطعت أذنيه- ثم جعلت ذلك مسكتين و معضدين و خدمتين- حتى قدمت بذلك مكة و قدمت بكبده أيضا معها- .

قال الواقدي و حدثني عبد الله بن جعفر- عن ابن أبي عون عن الزهري- عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال- غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان- فمررنا بحمص بعد العصر- فقلنا وحشي فقيل لا تقدرون عليه- هو الآن يشرب الخمر حتى يصبح- فبتنا من أجله و إننا لثمانون رجلا- فلما صلينا الصبح جئنا إلى منزله- فإذا شيخ كبير قد طرحت له زربية قدر مجلسه- فقلنا له أخبرنا عن قتل حمزة و عن قتل مسيلمة- فكره ذلك و أعرض عنه- فقلنا ما بتنا هذه الليلة إلا من أجلك- فقال إني كنت عبدا لجبير بن مطعم بن عدي- فلما خرج الناس إلى أحد دعاني- فقال قد رأيت مقتل طعيمة بن عدي- قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر- فلم تزل نساؤنا في حزن‏ شديد إلى يومي هذا- فإن قتلت حمزة فأنت حر- فخرجت مع الناس و لي مزاريق- كنت أمر بهند بنت عتبة- فتقول إيه أبا دسمة اشف و اشتف- فلما وردنا أحدا نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدهم هدا- فرآني و قد كمنت له تحت شجرة- فأقبل نحوي و تعرض له سباع الخزاعي- فأقبل إليه و قال- و أنت أيضا يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا- هلم إلي و أقبل نحوه حتى رأيت برقان رجليه- ثم ضرب به الأرض و قتله- و أقبل نحوي سريعا فيعترض له جرف فيقع فيه- و أزرقه بمزراق فيقع في لبته- حتى خرج من بين رجليه فقتله- و مررت بهند بنت عتبة فآذنتها- فأعطتني ثيابها و حليها- و كان في ساقيها خدمتان من جزع ظفار- و مسكتان من ورق- و خواتيم من ورق كن في أصابع رجليها- فأعطتني بكل ذلك- و أما مسيلمة فإنا دخلنا حديقة الموت يوم اليمامة- فلما رأيته زرقته بالمزراق- و ضربه رجل من الأنصار بالسيف- فربك أعلم أينا قتله- إلا أني سمعت امرأة تصيح فوق جدار قتله العبد الحبشي- قال عبيد الله فقلت أ تعرفني فأكر بصره علي- و قال ابن عدي لعاتكة بنت العيص قلت نعم- قال أما و الله ما لي بك عهد- بعد أن دفعتك إلى أمك في محفتك التي كانت ترضعك فيها- و نظرت إلى برقان قدميك حتى كأنه الآن- . و روى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي- قال علت هند يومئذ صخرة مشرفة- و صرخت بأعلى صوتها-

نحن جزيناكم بيوم بدر
و الحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر
و لا أخي و عمه و بكري‏

شفيت نفسي و قضيت نذري
شفيت وحشي غليل صدري‏

فشكر وحشي على عمري
حتى ترم أعظمي في قبري‏

قال فأجابتها هند بنت أثاثة بن المطلب بن عبد مناف-

خزيت في بدر و غير بدر
يا بنت غدار عظيم الكفر

أفحمك الله غداة الفجر
بالهاشميين الطوال الزهر

بكل قطاع حسام يفري
حمزة ليثي و علي صقري‏

إذ رام شيب و أبوك قهري‏
فخضبا منه ضواحي النحر

قال محمد بن إسحاق- و من الشعر الذي ارتجزت به هند بنت عتبة يوم أحد-

شفيت من حمزة نفسي
بأحد حين بقرت بطنه عن الكبد

أذهب عني ذاك ما كنت أجد
من لوعة الحزن الشديد المعتمد

و الحرب تعلوكم بشؤبوب
برد نقدم إقداما عليكم كالأسد

قال محمد بن إسحاق حدثني صالح بن كيسان- قال حدثت أن عمر بن الخطاب قال لحسان- يا أبا الفريعة لو سمعت ما تقول هند- و لو رأيت شرها قائمة على صخرة ترتجز بنا- و تذكر ما صنعت بحمزة- فقال حسان و الله إني لأنظر إلى الحربة تهوي- و أنا على فارع يعني أطمة- فقلت و الله إن هذه لسلاح ليس بسلاح العرب- و إذا بها تهوي إلى حمزة و لا أدري- و لكن أسمعني بعض قولها أكفيكموها- فأنشده عمر بعض ما قالت- فقال حسان يهجوها

أشرت لكاع و كان عادتها
لؤما إذا أشرت مع الكفر

أخرجت مرقصة إلى أحد
في القوم مقتبة على بكر

بكر ثفال لا حراك به‏
لا عن معاتبة و لا زجر

أخرجت ثائرة محاربة
بأبيك و ابنك بعد في بدر

و بعمك المتروك منجدلا
و أخيك منعفرين في الجفر

فرجعت صاغرة بلا ترة
منا ظفرت بها و لا وتر

و قال أيضا يهجوها

لمن سواقط ولدان مطرحة
باتت تفحص في بطحاء أجياد

باتت تمخض لم تشهد قوابلها
إلا الوحوش و إلا جنة الوادي‏

يظل يرجمه الصبيان منعفرا
و خاله و أبوه سيدا النادي‏

في أبيات كرهت ذكرها لفحشها- . قال و روى الواقدي عن صفية- – بنت عبد المطلب- قالت كنا قد رفعنا يوم أحد في الآطام- و معنا حسان بن ثابت- و كان من أجبن الناس و نحن في فارع- فجاء نفر من يهود يرومون الأطم- فقلت دونك يا ابن الفريعة- فقال لا و الله لا أستطيع القتال- و يصعد يهودي إلى الأطم- فقلت شد على يدي السيف ثم برئت ففعل- فضربت‏ عنق اليهودي و رميت برأسه إليهم- فلما رأوه انكشفوا- قالت و إني لفي فارع أول النهار مشرفة على الأطم- فرأيت المزراق فقلت أ و من سلاحهم المزاريق- أ فلا أراه هوى إلى أخي و لا أشعر- ثم خرجت آخر النهار حتى جئت رسول الله ص- و قد كنت أعرف انكشاف المسلمين- و أنا على الأطم برجوع حسان إلى أقصى الأطم- فلما رأى الدولة للمسلمين أقبل حتى وقف على جدار الأطم- قال فلما انتهيت إلى رسول الله ص- و معي نسوة من الأنصار لقيته و أصحابه أوزاع- فأول من لقيت علي ابن أخي فقال ارجعي يا عمة- فإن في الناس تكشفا- فقلت رسول الله ص قال صالح قلت ادللني عليه حتى أراه- فأشار إليه إشارة خفية فانتهيت إليه و به الجراحة- .

قال الواقدي و كان رسول الله ص يقول يوم أحد- ما فعل عمي ما فعل عمي- فخرج الحارث بن الصمة يطلبه فأبطأ- فخرج علي ع يطلبه- فيقول

يا رب إن الحارث بن الصمة
كان رفيقا و بنا ذا ذمة

قد ضل في مهامة مهمة
يلتمس الجنة فيها ثمة

حتى انتهى إلى الحارث و وجد حمزة مقتولا- فجاء فأخبر النبي ص فأقبل يمشي حتى وقف عليه- فقال ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا الموقف- . فطلعت صفية- فقال يا زبير أغن عني أمك و حمزة يحفر له- فقال الزبير يا أمه إن في الناس تكشفا فارجعي- فقالت ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله ص- فلما رأته قالت يا رسول الله أين ابن أمي حمزة- فقال هو في الناس قالت لا أرجع حتى أنظر إليه- قال الزبير فجعلت أطدها إلى الأرض حتى دفن- وقال رسول الله‏ ص لو لا أن تحزن نساؤنا لذلك لتركناه للعافية- يعني السباع و الطير- حتى يحشر يوم القيامة من بطونها و حواصلها- .

قال الواقدي و روي أن صفية لما جاءت- حالت الأنصار بينها و بين رسول الله ص- فقال دعوها فجلست عنده- فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله ص- و إذا نشجت ينشج رسول الله ص- و جعلت فاطمة ع تبكي- فلما بكت بكى رسول الله ص- ثم قال لن أصاب بمثل حمزة أبدا-ثم قال ص لصفية و فاطمة أبشرا- أتاني جبرائيل ع- فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع- حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله-.

قال الواقدي و رأى رسول الله ص بحمزة مثلا شديدا- فحزنه ذلك- و قال إن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم- فأنزل الله عليه وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ- وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ- فقال ص بل نصبر- فلم يمثل بأحد من قريش-.قال الواقدي و قام أبو قتادة الأنصاري- فجعل ينال من قريش لما رأى من غم رسول الله ص- و في كل ذلك يشير إليه أن اجلس ثلاثا- فقال رسول الله ص- يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة- من بغاهم العواثر كبه الله لفيه- و عسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم- و فعالك مع فعالهم-لو لا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى- فقال أبو قتادة و الله يا رسول الله ما غضبت إلا لله و رسوله- حين نالوا منه ما نالوا- فقال صدقت بئس القوم كانوا لنبيهم- .

قال الواقدي و كان عبد الله بن جحش قبل أن تقع الحرب قال- يا رسول الله إن هؤلاء القوم قد نزلوا بحيث ترى- فقد سألت الله فقلت اللهم أقسم عليك أن نلقى العدو غدا- فيقتلوني و يبقروا بطني و يمثلوا بي- فتقول لي فيم صنع بك هذا فأقول فيك- قال و أنا أسألك يا رسول الله أخرى- أن تلي تركتي من بعدي- فقال له نعم فخرج عبد الله فقتل و مثل به كل المثل- و دفن هو و حمزة في قبر واحد- و ولي تركته رسول الله ص فاشترى لأمه مالا بخيبر- .

قال الواقدي و أقبلت أخته حمنة بنت جحش- فقال لها رسول الله ص يا حمن احتسبي- قالت من يا رسول الله قال خالك حمزة- قالت إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ- غفر الله له و رحمه و هنيئا له الشهادة- ثم قال لها احتسبي قالت من يا رسول الله- قال أخوك عبد الله- قالت إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ- غفر الله له و رحمه و هنيئا له الشهادة- ثم قال احتسبي قالت من يا رسول- قال بعلك مصعب بن عمير فقالت وا حزناه- و يقال إنها قالت وا عقراه- . قال محمد بن إسحاق في كتابه فصرخت و ولولت-.

قال الواقدي فقال رسول الله ص إن للزوج من المرأة مكانا ما هو لأحد- و هكذا روى ابن إسحاق أيضا- . قال الواقدي ثم قال لها رسول الله ص لم قلت هذا- قالت ذكرت يتم بنيه فراعني- فدعا رسول الله ص لولده أن يحسن الله عليهم الخلف-فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت منه محمد بن طلحة- فكان أوصل الناس لولد مصعب بن عمير

القول فيمن ثبت مع رسول الله ص يوم أحد

قال الواقدي حدثني موسى بن يعقوب- عن عمته عن أمها عن المقداد- قال لما تصاف القوم للقتال يوم أحد- جلس رسول الله ص تحت راية مصعب بن عمير- فلما قتل أصحاب اللواء و هزم المشركون الهزيمة الأولى- و أغار المسلمون على معسكرهم ينهبونه- ثم كر المشركون على المسلمين فأتوهم من خلفهم- فتفرق الناس- و نادى رسول الله ص في أصحاب الألوية- فقتل مصعب بن عمير حامل لوائه ص- و أخذ راية الخزرج سعد بن عبادة- فقام رسول الله ص تحتها و أصحابه محدقون به- و دفع لواء المهاجرين إلى أبي الردم أحد بني عبد الدار- آخر نهار ذلك اليوم- و نظرت إلى لواء الأوس مع أسيد بن حضير- فناوشوا المشركين ساعة- و اقتتلوا على اختلاط من الصفوف- و نادى المشركون بشعارهم يا للعزى يا لهبل- فأوجعوا و الله فينا قتلا ذريعا- و نالوا من رسول الله ص ما نالوا- لا و الذي بعثه بالحق ما زال شبرا واحدا- إنه لفي وجه العدو و تثوب إليه طائفة من أصحابه مرة- و تتفرق عنه مرة- فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجزوا- و كانت العصابة التي ثبتت مع رسول الله ص أربعة عشر رجلا- سبعة من المهاجرين و سبعة من الأنصار- أما المهاجرون فعلي ع و أبو بكر و عبد الرحمن بن عوف- و سعد بن أبي وقاص و طلحة بن عبيد الله- و أبو عبيدة بن الجراح و الزبير بن العوام-و أما الأنصار فالحباب بن المنذر و أبو دجانة- و عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح و الحارث بن الصمة- و سهل بن حنيف و سعد بن معاذ و أسيد بن حضير- .

قال الواقدي و قد روي- أن سعد بن عبادة و محمد بن مسلمة ثبتا يومئذ و لم يفرا- و من روى ذلك- جعلهما مكان سعد بن معاذ و أسيد بن حضير- . قال الواقدي و بايعه يومئذ على الموت ثمانية- ثلاثة من المهاجرين و خمسة من الأنصار- فأما المهاجرون فعلي ع و طلحة و الزبير- و أما الأنصار فأبو دجانة و الحارث بن الصمة- و الحباب بن المنذر و عاصم بن ثابت و سهل بن حنيف- و لم يقتل منهم ذلك اليوم أحد- و أما باقي المسلمين ففروا- و رسول الله ص يدعوهم في أخراهم- حتى انتهى منهم إلى قريب من المهراس- . قال الواقدي و حدثني عتبة بن جبير- عن يعقوب بن عمير بن قتادة قال- ثبت يومئذ بين يديه ثلاثون رجلا- كلهم يقول وجهي دون وجهك- و نفسي دون نفسك و عليك السلام غير مودع- .

قلت قد اختلف في عمر بن الخطاب هل ثبت يومئذ أم لا- مع اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت- فالواقدي ذكر أنه لم يثبت- و أما محمد بن إسحاق و البلاذري فجعلاه مع من ثبت و لم يفر- و اتفقوا كلهم- على أن ضرار بن الخطاب الفهري قرع رأسه بالرمح- و قال إنها نعمة مشكورة يا ابن الخطاب- إني آليت ألا أقتل رجلا من قريش- .

و روى ذلك محمد بن إسحاق و غيره و لم يختلفوا في ذلك- و إنما اختلفوا هل قرعه بالرمح و هو فار هارب- أم مقدم ثابت- و الذين رووا أنه قرعه بالرمح و هو هارب- لم يقل‏أحد منهم إنه هرب حين هرب عثمان- و لا إلى الجهة التي فر إليها عثمان- و إنما هرب معتصما بالجبل- و هذا ليس بعيب و لا ذنب- لأن الذين ثبتوا مع رسول الله ص- اعتصموا بالجبل كلهم و أصعدوا فيه- و لكن يبقى الفرق بين من أصعد في الجبل في آخر الأمر- و من أصعد فيه و الحرب لم تضع أوزارها- فإن كان عمر أصعد فيه آخر الأمر- فكل المسلمين هكذا صنعوا حتى رسول الله ص- و إن كان ذلك و الحرب قائمة بعد تفرق- .

و لم يختلف الرواة من أهل الحديث- في أن أبا بكر لم يفر يومئذ- و أنه ثبت فيمن ثبت- و إن لم يكن نقل عنه قتل أو قتال- و الثبوت جهاد و فيه وحده كفاية- . و أما رواة الشيعة فإنهم يروون- أنه لم يثبت إلا علي و طلحة و الزبير و أبو دجانة- و سهل بن حنيف و عاصم بن ثابت- و منهم من روى أنه ثبت معه أربعة عشر رجلا- من المهاجرين و الأنصار- و لا يعدون أبا بكر و عمر منهم- روى كثير من أصحاب الحديث- أن عثمان جاء بعد ثالثة إلى رسول الله ص- فسأله إلى أين انتهيت فقال إلى الأعرض- فقال لقد ذهبت فيها عريضة- .

روى الواقدي قال- كان بين عثمان أيام خلافته- و بين عبد الرحمن بن عوف كلام- فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه- فقال اذهب إلى أخيك فأبلغه عني ما أقول لك- فإني لا أعلم أحدا يبلغه غيرك- قال الوليد أفعل- قال قل له يقول لك عبد الرحمن شهدت بدرا و لم تشهدها- و ثبت يوم أحد و وليت- و شهدت بيعة الرضوان و لم تشهدها- فلما أخبره قال عثمان صدق أخي- تخلفت عن بدر على ابنة رسول الله ص و هي مريضة- فضرب لي رسول الله ص بسهمي و أجري- فكنت بمنزلة من‏ حضر بدرا- و وليت يوم أحد فعفا الله عني في محكم كتابه- و أما بيعة الرضوان فإني خرجت إلي أهل مكة- بعثني رسول الله ص و قال- إن عثمان في طاعة الله و طاعة رسوله- و بايع عني بإحدى يديه على الأخرى- فكان شمال النبي خيرا من يميني- فلما جاء الوليد إلى عبد الرحمن بما قال قال صدق أخي- .

قال الواقدي و نظر عمر إلى عثمان بن عفان- فقال هذا ممن عفا الله عنه- و هم الذين تولوا يوم التقى الجمعان- و الله ما عفا الله عن شي‏ء فرده- قال و سأل رجل عبد الله بن عمر عن عثمان فقال- أذنب يوم أحد ذنبا عظيما فعفا الله عنه- و أذنب فيكم ذنبا صغيرا فقتلتموه- و احتج من روى أن عمر فر يوم أحد- بما روى أنه جاءته في أيام خلافته امرأة- تطلب بردا من برود كانت بين يديه- و جاءت معها بنت لعمر تطلب بردا أيضا- فأعطى المرأة و رد ابنته فقيل له في ذلك- فقال إن أبا هذه ثبت يوم أحد- و أبا هذه فر يوم أحد و لم يثبت- .

و روى الواقدي أن عمر كان يحدث- فيقول لما صاح الشيطان قتل محمد- قلت أرقى في الجبل كأني أروية- و جعل بعضهم هذا حجة في إثبات فرار عمر- و عندي أنه ليس بحجة- لأن تمام الخبر فانتهيت إلى رسول الله ص- و هو يقول وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ- قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية- و أبو سفيان في سفح الجبل في كتيبته يرومون أن يعلوا الجبل- فقال رسول الله ص اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا فانكشفوا- و هذا يدل على أن رقيه في الجبل- قد كان بعد إصعاد رسول الله ص فيه- و هذا بأن يكون منقبة له أشبه- .

و روى الواقدي قال حدثني ابن أبي سبرة- عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم اسم أبي جهم عبيد- قال كان خالد بن الوليد يحدث و هو بالشام- فيقول الحمد لله‏الذي هداني للإسلام- لقد رأيتني و رأيت عمر بن الخطاب حين جال المسلمون- و انهزموا يوم أحد و ما معه أحد- و إني لفي كتيبة خشناء- فما عرفه منهم أحد غيري- و خشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له- فنظرت إليه و هو متوجه إلى الشعب قلت يجوز أن يكون هذا حقا- و لا خلاف أنه توجه إلى الشعب تاركا للحرب- لكن يجوز أن يكون ذلك في آخر الأمر- لما يئس المسلمون من النصرة- فكلهم توجه نحو الشعب حينئذ- و أيضا فإن خالدا متهم في حق عمر بن الخطاب- لما كان بينه و بينه من الشحناء و الشنئان- فليس بمنكر من خالد أن ينعى عليه حركاته- و يؤكد صحة هذا الخبر- و كون خالد عف عن قتل عمر يومئذ- ما هو معلوم من حال النسب بينهما من قبل الأم- فإن أم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة- و خالد هو ابن الوليد بن المغيرة- فأم عمر ابنة عم خالد لحا و الرحم تعطف- .
حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه- على رأى الشيعة الإمامية رحمه الله- في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة ثمان و ستمائة- و قارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي- فقرأ حدثنا الواقدي قال حدثني ابن أبي سبرة- عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد قال- سمعت محمد بن مسلمة يقول- سمعت أذناي و أبصرت عيناي- رسول الله ص يقول يوم أحد- و قد انكشف الناس إلى الجبل- و هو يدعوهم و هم لا يلوون عليه- سمعته يقول إلي يا فلان إلي يا فلان أنا رسول الله- فما عرج عليه واحد منهما و مضيا- فأشار ابن معد إلي أن اسمع- فقلت و ما في هذا قال هذه كناية عنهما- فقلت و يجوز ألا يكون عنهما لعله عن غيرهما- قال ليس في الصحابة من‏يحتشم- و يستحيا من ذكره بالفرار و ما شابهه من العيب- فيضطر القائل إلى الكناية إلا هما- قلت له هذا وهم- فقال دعنا من جدلك و منعك- ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما- و أنه لو كان غيرهما لذكره صريحا- و بان في وجهه التنكر من مخالفتي له- .

روى الواقدي قال لما صاح إبليس أن محمدا قد قتل- تفرق الناس فمنهم من ورد المدينة- فكان أول من وردها- يخبر أن محمدا قد قتل سعد بن عثمان أبو عبادة- ثم ورد بعده رجال حتى دخلوا على نسائهم- حتى جعل النساء يقلن أ عن رسول الله تفرون- و يقول لهم ابن أم مكتوم- أ عن رسول الله تفرون يؤنب بهم- و قد كان رسول الله ص خلفه بالمدينة يصلي بالناس- ثم قال دلوني على الطريق يعني طريق أحد فدلوه- فجعل يستخبر كل من لقي في الطريق حتى لحق القوم- فعلم بسلامة النبي ص ثم رجع- و كان ممن ولى عمر و عثمان و الحارث بن حاطب- و ثعلبة بن حاطب و سواد بن غزية- و سعد بن عثمان و عقبة بن عثمان و خارجة بن عمر بلغ ملل- و أوس بن قيظى في نفر من بني حارثة بلغوا الشقرة- و لقيتهم أم أيمن تحثي في وجوههم التراب- و تقول لبعضهم هاك المغزل فاغزل به و هلم- و احتج من قال بفرار عمر بما رواه الواقدي- في كتاب المغازي في قصة الحديبية- قال قال عمر يومئذ يا رسول الله- أ لم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام- و تأخذ مفتاح الكعبة و تعرف مع المعرفين- و هدينا لم يصل إلى البيت و لا نحر- فقال رسول الله ص أ قلت لكم في سفركم هذا قال عمر لا- قال أما إنكم ستدخلونه و آخذ مفتاح الكعبة- و أحلق رأسي و رءوسكم ببطن مكة و أعرف مع المعرفين- ثم أقبل على عمر و قال أ نسيتم يوم‏ أحد- إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ- و أنا أدعوكم في أخراكم أ نسيتم يوم الأحزاب- إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ- وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ- أ نسيتم يوم كذا و جعل يذكرهم أمورا- أ نسيتم يوم كذا- فقال المسلمون صدق الله و صدق رسوله- أنت يا رسول الله أعلم بالله منا- فلما دخل عام القضية و حلق رأسه- قال هذا الذي كنت وعدتكم به- فلما كان يوم الفتح و أخذ مفتاح الكعبة- قال ادعوا إلي عمر بن الخطاب- فجاء فقال هذا الذي كنت قلت لكم- قالوا فلو لم يكن فر يوم أحد- لما قال له أ نسيتم يوم أحد إذ تصعدون و لا تلوون

القول فيما جرى للمسلمين بعد إصعادهم في الجبل

قال الواقدي حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال- لما صاح الشيطان لعنه الله أن محمدا قد قتل يحزنهم بذلك- تفرقوا في كل وجه- و جعل الناس يمرون على النبي ص لا يلوي عليه أحد منهم- و رسول الله يدعوهم في أخراهم- حتى انتهت هزيمة قوم منهم إلى المهراس- فتوجه رسول الله ص يريد أصحابه في الشعب- فانتهى إلى الشعب و أصحابه في الجبل أوزاع- يذكرون مقتل من قتل منهم- و يذكرون ما جاءهم عن رسول الله ص- قال كعب بن مالك فكنت أول من عرفه و عليه المغفر- فجعلت أصيح و أنا في الشعب- هذا رسول الله ص حي- فجعل يومئ إلي بيده على فيه أي اسكت- ثم دعا بلأمتي فلبسها و نزع لأمته- .

قال الواقدي طلع رسول الله ص على أصحابه- في الشعب بين السعدين-سعد بن عبادة و سعد بن معاذ يتكفأ في الدرع- و كان إذا مشى تكفأ تكفؤا- و يقال إنه كان يتوكأ على طلحة بن عبيد الله- .

قال الواقدي و ما صلى يومئذ الظهر إلا جالسا- للجرح الذي كان أصابه- . قال الواقدي و قد كان طلحة قال له إن بي قوة- فقم لأحملك فحمله- حتى انتهى إلى الصخرة التي على فم شعب الجبل- فلم يزل يحمله حتى رفعه عليها- ثم مضى إلى أصحابه و معه النفر الذين ثبتوا معه- فلما نظر المسلمون إليهم ظنوهم قريشا- فجعلوا يولون في الشعب هاربين منهم- ثم جعل أبو دجانة يليح إليهم- بعمامة حمراء على رأسه- فعرفوه فرجعوا أو بعضهم- .

قال الواقدي روي أنه لما طلع عليهم- في النفر الذين ثبتوا معه و هم أربعة عشر- سبعة من المهاجرين و سبعة من الأنصار- جعلوا يولون في الجبل خائفين منهم يظنونهم المشركين- جعل رسول الله ص يتبسم إلى أبي بكر- و هو على جنبه و يقول له ألح إليهم- فجعل أبو بكر يليح إليهم و هم لا يعرجون- حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه- فأوفى على الجبل- فجعل يصيح و يليح فوقفوا حتى عرفوهم- و لقد وضع أبو بردة بن نيار سهما على كبد قوسه- فأراد أن يرمي به رسول الله ص و أصحابه- فلما تكلموا و ناداهم رسول الله ص أمسك- و فرح المسلمون برؤيته- حتى كأنهم لم تصبهم في أنفسهم مصيبة- و سروا لسلامته و سلامتهم من المشركين- .

قال الواقدي ثم إن قوما من قريش صعدوا الجبل- فعلوا على المسلمين و هم في الشعب- قال فكان رافع بن خديج يحدث- فيقول إني يومئذ إلى جنب أبي مسعود الأنصاري- و هو يذكر من قتل من قومه و يسأل عنهم- فيخبر برجال منهم سعد بن‏الربيع و خارجة بن زهير- و هو يسترجع و يترحم عليهم- و بعض المسلمين يسأل بعضا عن حميمه و ذي رحمه فيهم- يخبر بعضهم بعضا- فبينا هم على ذلك رد الله المشركين ليذهب ذلك الحزن عنهم- فإذا عدوهم فوقهم قد علوا- و إذا كتائب المشركين بالجبل- فنسوا ما كانوا يذكرون- و ندبنا رسول الله ص و حضنا على القتال- و الله لكأني أنظر إلى فلان و فلان- في عرض الجبل يعدوان هاربين قال الواقدي فكان عمر يحدث يقول- لما صاح الشيطان قتل محمد- أقبلت أرقى إلى الجبل فكأني أروية- فانتهيت إلى النبي ص و هو يقول- وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية- و أبو سفيان في سفح الجبل- فقال رسول الله ص يدعو ربه- اللهم ليس لهم أن يعلوا فانكشفوا- .

قال الواقدي فكان أبو أسيد الساعدي يحدث- فيقول لقد رأيتنا قبل أن يلقى النعاس علينا في الشعب- و إنا لسلم لمن أرادنا لما بنا من الحزن- فألقي علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الحجف- ثم فزعنا و كانا لم يصبنا قبل ذلك نكبة- قال و قال الزبير بن العوام غشينا النعاس- فما منا رجل إلا و ذقنه في صدره من النوم- فأسمع معتب بن قشير و كان من المنافقين يقول- و إني لكالحالم- لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا- فأنزل الله تعالى فيه ذلك- .

قال و قال أبو اليسر- لقد رأيتني ذلك اليوم- في رجال من قومي إلى جنب رسول الله ص- و قد أنزل الله علينا النعاس أمنة منه- ما منهم رجل إلا يغط غطيطا حتى إن الحجف لتناطح- و لقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده-و ما يشعر به حتى أخذه بعد ما تثلم- و إن المشركين لتحتنا- و سقط سيف أبي طلحة أيضا- و لم يصب أهل الشك و النفاق نعاس يومئذ- و إنما أصاب النعاس أهل الإيمان و اليقين- فكان المنافقون يتكلم كل منهم بما في نفسه- و المؤمنون ناعسون- .

قلت سألت ابن النجار المحدث عن هذا الموضع- فقلت له من قصة أحد تدل- على أن المسلمين كانت الدولة لهم بادئ الحال- ثم صارت عليهم- و صاح الشيطان قتل محمد فانهزم أكثرهم- ثم ثاب أكثر المنهزمين إلى النبي ص- فحاربوا دونه حربا كثيرة- طالت مدتها حتى صار آخر النهار- ثم أصعدوا في الجبل معتصمين به- و أصعد رسول الله ص معهم- فتحاجز الفريقان حينئذ- و هذا هو الذي يدل عليه تأمل قصة أحد- إلا أن بعض الروايات التي ذكرها الواقدي يقتضي غير ذلك- نحو روايته في هذا الباب- أن رسول الله ص لما صاح الشيطان إن محمدا قد قتل- كان ينادي المسلمين فلا يعرجون عليه- و إنما يصعدون في الجبل- و إنه وجه نحو الجبل- فانتهى إليهم و هم أوزاع يتذاكرون بقتل من قتل منهم- و هذه الرواية تدل على أنه أصعد ص في الجبل- من أول الحرب حيث صاح الشيطان- و صياح الشيطان كان حال كون خالد بن الوليد بالجبل- من وراء المسلمين لما غشيهم- و هم مشتغلون بالنهب و اختلط الناس- فكيف هذا- فقال إن الشيطان صاح قتل محمد دفعتين- دفعة في أول الحرب و دفعة في آخر الحرب- لما تصرم النهار و غشيت الكتائب رسول الله ص- و قد قتل ناصروه و أكلتهم الحرب- فلم يبق معه إلا نفر يسير لا يبلغون عشرة- و هذه كانت أصعب و أشد من الأولى و فيها اعتصم- و ما اعتصم في صرخة الشيطان الأولى بالجبل- بل ثبت و حامى عنه أصحابه- و لقد لقي في الأولى مشقة عظيمة- من ابن قميئة و عتبة بن أبي وقاص و غيرهما-و لكنه لم يفارق عرصة الحرب- و إنما فارقها- و علم أنه لم يبق له وجه مقام في صرخته الثانية- .

قلت له فكان القوم مختلطين في الصرخة الثانية- حتى يصرخ الشيطان قتل محمد- قال نعم المشركون قد أحاطوا بالنبي ص- و بمن بقي معه من أصحابه- فاختلط المسلمون بهم و صاروا مغمورين بينهم- لقلتهم بالنسبة إليهم- و ظن قوم من المشركين أنهم قد قتلوا النبي ص- لأنهم فقدوا وجهه و صورته- فنادى الشيطان قتل محمد- و لم يكن قتل ص- و لكن اشتبهت صورته عليهم و ظنوه غيره- و أكثر من حامى عنه في تلك الحال علي ع- و أبو دجانة و سهل بن حنيف و حامى هو عن نفسه- و جرح قوما بيده تارة بالسهام و تارة بالسيف- و لكن لم يعلموا بأعيانهم لاختلاط القوم و ثوران النقع- و كانت قريش تظنه واحدا من المسلمين- و لو عرفوه بعينه في تلك الثورة لكان الأمر صعبا جدا- و لكن الله تعالى عصمه منهم بأن أزاغ أبصارهم عنه- فلم يزل هؤلاء الثلاثة يجالدون دونه- و هو يقرب من الجبل حتى صار في أعلى الجبل- أصعد من فم الشعب إلى تدريج هناك في الجبل- و رقي في ذلك التدريج صاعدا حتى صار في أعلى الجبل- و تبعه النفر الثلاثة فلحقوا به- . قلت له فما بال القوم الذين صعدوا الجبل من المشركين- و كيف كان إصعادهم و عودهم- .

قال أصعدوا لحرب المسلمين لا لطلب رسول الله ص- لأنهم ظنوا أنه قد قتل- و هذا هو كان السبب في عودهم من الجبل- لأنهم قالوا قد بلغنا الغرض‏الأصلي و قتلنا محمدا- فما لنا و التصميم على الأوس و الخزرج و غيرهم من أصحابه- مع ما في ذلك من عظم الخطر بالأنفس- قلت له فإذا كان هذا قد خطر لهم- فلما ذا صعدوا في الجبل- .

قال يخطر لك خاطر- و يدعوك داع إلى بعض الحركات- فإذا شرعت فيها خطر لك خاطر آخر يصرفك عنها- فترجع و لا تتمها- قلت نعم فما بالهم لم يقصدوا قصد المدينة و ينهبوها- . قال كان فيها عبد الله بن أبي في ثلاثمائة مقاتل- و فيها خلق كثير من الأوس و الخزرج- لم يحضروا الحرب و هم مسلمون- و طوائف أخر من المنافقين لم يخرجوا- و طوائف أخرى من اليهود أولو بأس و قوة- و لهم بالمدينة عيال و أهل و نساء- و كل هؤلاء كانوا يحامون عن المدينة- و لم تكن قريش تأمن مع ذلك- أن يأتيها رسول الله ص من ورائها بمن يجامعه من أصحابه- فيحصلوا بين الأعداء من خلفهم و من أمامهم- فكان الرأي الأصوب لهم العدول عن المدينة و ترك قصدها- .

قال الواقدي حدثني الضحاك بن عثمان عن حمزة بن سعيد- قال لما تحاجزوا و أراد أبو سفيان الانصراف- أقبل يسير على فرس له حوراء- فوقف على أصحاب النبي ص و هم في عرض الجبل- فنادى بأعلى صوته أعل هبل- ثم صاح أين ابن أبي كبشة يوم بيوم بدر- ألا إن الأيام دول- . و في رواية أنه نادى أبا بكر و عمر أيضا- فقال أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب- ثم قال الحرب سجال حنظلة بحنظلة- يعنى حنظلة بن أبي عامر بحنظلة بن‏ أبي سفيان- فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله أجيبه- قال نعم فأجبه- فلما قال أعل هبل قال عمر الله أعلى و أجل- .

و يروى أن رسول الله ص قال لعمر- قل له الله أعلى و أجل- فقال أبو سفيان إن لنا العزى و لا عزى لكم- فقال عمر أو قال رسول الله ص- قل له الله مولانا و لا مولى لكم- فقال أبو سفيان إنها قد أنعمت- فقال عنها يا ابن الخطاب- فقال سعيد بن أبي سفيان- ألا إن الأيام دول و إن الحرب سجال- فقال عمر و لا سواء- قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار- فقال أبو سفيان إنكم لتقولون ذلك لقد جبنا إذا و خسرنا- ثم قال يا ابن الخطاب قم إلي أكلمك فقام إليه- فقال أنشدك بدينك هل قتلنا محمدا قال اللهم لا- و إنه ليسمع كلامك الآن- قال أنت عندي أصدق من ابن قميئة- ثم صاح أبو سفيان و رفع صوته- إنكم واجدون في قتلاكم عنتا و مثلا- إلا أن ذلك لم يكن عن رأي سراتنا- ثم أدركته حمية الجاهلية- فقال و أما إذ كان ذلك فلم نكرهه- ثم نادى ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول- فوقف عمر وقفة ينتظر ما يقول رسول الله ص- فقال له قل نعم- فانصرف أبو سفيان إلى أصحابه و أخذوا في الرحيل- فأشفق رسول الله ص و المسلمون من أن يغيروا على المدينة- فيهلك الذراري و النساء- فقال رسول الله ص لسعد بن أبي وقاص- اذهب فأتنا بخبر القوم- فإنهم إن ركبوا الإبل و جنبوا الخيل فهو الظعن إلى مكة- و إن ركبوا الخيل و جنبوا الإبل فهو الغارة على المدينة- و الذي نفسي بيده- إن ساروا إليها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم- قال سعد فتوجهت أسعى- و أرصدت نفسي إن أفرعني شي‏ء- رجعت إلى النبي ص و أنا أسعى- فبدأت بالسعي حين ابتدأت- فخرجت في آثارهم‏ حتى إذا كانوا بالعقيق- و أنا بحيث أراهم و أتأملهم ركبوا الإبل و جنبوا الخيل- فقلت إنه الظعن إلى بلادهم- ثم وقفوا وقفة بالعقيق و تشاوروا في دخول المدينة- فقال لهم صفوان بن أمية قد أصبتم القوم- فانصرفوا و لا تدخلوا عليهم و أنتم كالون و لكم الظفر- فإنكم لا تدرون ما يغشاكم فقد وليتم يوم بدر- لا و الله ما تبعوكم و كان الظفر لهم- فيقال إن رسول الله ص قال نهاهم صفوان- فلما رآهم سعد على تلك الحال منطلقين- و قد دخلوا في المكمن- رجع إلى رسول الله ص و هو كالمنكسر- فقال وجه القوم يا رسول الله إلى مكة- امتطوا الإبل و جنبوا الخيل- فقال ما تقول قلت ما قلت يا رسول الله فخلا بي- فقال أ حقا ما تقول قلت نعم يا رسول الله- قال فما بالي رأيتك منكسرا- فقلت كرهت أن آتي المسلمين فرحا بقفولهم إلى بلادهم- فقال ص إن سعدا لمجرب- .

قال الواقدي و قد روي خلاف هذا- روي أن سعدا لما رجع رفع صوته- بأن جنبوا الخيل و امتطوا الإبل- فجعل رسول الله ص يشير إلى سعد- خفض صوتك فإن الحرب خدعة- فلا ترى الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم- فإنما ردهم الله تعالى- .

قال الواقدي و حدثني ابن أبي سبرة عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر قال قال رسول الله ص لسعد بن أبي وقاص- إن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني و بينك- و لا تفت في أعضاد المسلمين- فذهب فرآهم قد امتطوا الإبل فرجع- فما ملك أن جعل يصيح سرورا بانصرافهم- .

قال الواقدي و قيل لعمرو بن العاص- كيف كان افتراق المسلمين و المشركين يوم‏ أحد- فقال ما تريدون إلى ذلك- قد جاء الله بالإسلام و نفي الكفر و أهله- ثم قال لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم- و تفرقوا في كل وجه و فاءت لهم فئة بعد- فتشاورت قريش فقالوا لنا الغلبة فلو انصرفنا- فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس- و قد تخلف الناس من الأوس و الخزرج- و لا نأمن أن يكروا علينا و فينا جراح- و خيلنا عامتها قد عقرت من النبل فمضينا- فما بلغنا الروحاء حتى قام علينا عدة منها- و انصرفنا إلى مكة- .

قال الواقدي حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة- عن عائشة قال سمعت أبا بكر يقول- لما كان يوم أحد و رمي رسول الله ص في وجهه- حتى دخلت في وجهه حلقتان من المغفر- أقبلت أسعى إلى رسول الله ص- و إنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا- فقلت اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله- حتى توافينا إلى رسول الله ص- فإذا أبو عبيدة بن الجراح فبدرني- فقال أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني- فأنتزعه من وجه رسول الله ص- قال أبو بكر فتركته- و قال رسول الله ص عليكم صاحبكم يعني طلحة- فأخذ أبو عبيدة بثنيته حلقة المغفر- فنزعها و سقط على ظهره و سقطت ثنية أبي عبيدة- ثم أخذ الحلقة بثنيته الأخرى- فكان أبو عبيدة في الناس أثرم- و يقال إن الذي نزع الحلقتين من وجه رسول الله ص- عقبة بن وهب بن كلدة- و يقال أبو اليسر- . قال الواقدي و أثبت ذلك عندنا عقبة بن وهب بن كلدة- . قال الواقدي و كان أبو سعيد الخدري يحدث- أن رسول الله ص‏ أصيب وجهه يوم أحد- فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه- فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن- فجعل مالك بن سنان يمج الدم بفيه ثم ازدرده-فقال رسول الله ص من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه بدمي- فلينظر إلى مالك بن سنان- فقيل لمالك تشرب الدم فقال نعم- أشرب دم رسول الله ص-فقال رسول الله ص من مس دمه دمي لم تصبه النار-.

قال الواقدي و قال أبو سعيد- كنا ممن رد من الشيخين لم نجئ مع المقاتلة- فلما كان من النهار بلغنا مصاب رسول الله ص- و تفرق الناس عنه- جئت مع غلمان بني خدرة- نعرض لرسول الله ص ننظر إلى سلامته- فنرجع بذلك إلى أهلنا- فلقينا الناس متفرقين ببطن قناة- فلم يكن لنا همة إلا النبي ص ننظر إليه- فلما رآني قال سعد بن مالك قلت نعم بأبي أنت و أمي- و دنوت منه فقبلت ركبته و هو على فرسه- فقال آجرك الله في أبيك ثم نظرت إلى وجهه- فإذا في وجنتيه مثل موضع الدرهم في كل وجنة- و إذا شجة في جبهته عند أصول الشعر- و إذا شفته السفلى تدمى- و إذا في رباعيته اليمنى شظية- و إذا على جرحه شي‏ء أسود- فسألت ما هذا على وجهه فقالوا حصير محرق- و سألت من أدمى وجنتيه فقيل ابن قميئة- فقلت فمن شجه في وجهه فقيل ابن شهاب- فقلت من أصاب شفتيه قيل عتبة بن أبي وقاص- فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه- ما نزل إلا محمولا- و أرى ركبتيه مجحوشتين يتكئ على السعدين- سعد بن معاذ و سعد بن عبادة حتى دخل بيته- فلما غربت الشمس و أذن بلال بالصلاة- خرج على تلك الحال‏ يتوكأ على السعدين- سعد بن عبادة و سعد بن معاذ- ثم انصرف إلى بيته- و الناس في المسجد يوقدون النيران- يتمكدون بها من الجراح- ثم أذن بلال بالعشاء حين غاب الشفق- فلم يخرج رسول الله ص- فجلس بلال عند بابه ص حتى ذهب ثلث الليل- ثم ناداه الصلاة يا رسول الله فخرج و قد كان نائما- قال فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته- فصليت معه العشاء- ثم رجع إلى بيته قد صفف له الرجال- ما بين بيته إلى مصلاه يمشي وحده حتى دخل- و رجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامته فحمدوا الله و ناموا- و كانت وجوه الأوس و الخزرج في المسجد على النبي ص- يحرسونه فرقا من قريش أن تكر- . قال الواقدي و خرجت فاطمة ع في نساء- و قد رأت الذي بوجه أبيها ص فاعتنقته- و جعلت تمسح الدم عن وجهه ورسول الله ص يقول اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله- و ذهب علي ع فأتى بماء من المهراس- و قال لفاطمة أمسكي هذا السيف غير ذميم- فنظر إليه رسول الله ص مختضبا بالدم- فقال لئن كنت أحسنت القتال اليوم- فلقد أحسن عاصم بن ثابت- و الحارث بن الصمة و سهل بن حنيف- و سيف أبي دجانة غير مذموم- هكذا روى الواقدي- .

وروى محمد بن إسحاق أن عليا ع قال لفاطمة بيتي شعر- و هما

أ فاطم هاء السيف غير ذميم
فلست برعد يد و لا بلئيم‏

لعمري لقد جاهدت في نصر أحمد
و طاعة رب بالعباد رحيم‏

فقال رسول الله ص- لئن كنت صدقت القتال اليوم- لقد صدق معك سماك بن خرشة و سهل بن حنيف- .

قال الواقدي فلما أحضر علي ع الماء- أراد رسول الله ص أن يشرب منه فلم يستطع- و قد كان عطشا و وجد ريحا من الماء كرهها- فقال هذا ماء آجن- فتمضمض منه للدم الذي كان بفيه ثم مجه- و غسلت فاطمة به الدم عن أبيها ص- فخرج محمد بن مسلمة يطب مع النساء- و كن أربع عشرة امرأة- قد جئن من المدينة يتلقين الناس منهن فاطمة ع- يحملن الطعام و الشراب على ظهورهن- و يسقين الجرحى و يداوينهم- .

قال الواقدي قال كعب بن مالك- رأيت عائشة و أم سليم على ظهورهما القرب- تحملانها يوم أحد- و كانت حمنة بنت جحش تسقي العطشى و تداوي الجرحى- فلم يجد محمد بن مسلمة عندهن ماء- و رسول الله ص قد اشتد عطشه- فذهب محمد بن مسلمة إلى قناة و معه سقاؤه- حتى استقى من حسى قناة عند قصور التميميين اليوم- فجاء بماء عذب فشرب منه رسول الله ص و دعا له بخير- و جعل الدم لا ينقطع من وجهه ع- و هو يقول لن ينالوا منا مثلها حتى نستلم الركن- فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ و هي تغسل جراحه- و علي يصب الماء عليها بالمجن- أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا- ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم- و يقال إنها داوته بصوفة محرقة- و كان رسول الله ص بعد يداوي الجراح الذي في وجهه- بعظم بال حتى ذهب أثره- و لقد مكث يجد وهن ضربة ابن قميئة- على عاتقه شهرا أو أكثر من شهر- و يداوي الأثر الذي في وجهه بعظم- .

قال الواقدي و قال رسول الله ص- قبل أن ينصرف إلى المدينة من يأتينا بخبر سعد بن الربيع- فإني رأيته و أشار بيده إلى ناحية من الوادي- قد شرع فيه اثنا عشر سنانا- فخرج محمد بن مسلمة- و يقال أبي بن كعب نحو تلك الناحية- قال فأنا وسط القتلى لتعرفهم- إذ مررت به صريعا في الوادي فناديته فلم يجب- ثم قلت إن رسول الله ص أرسلني إليك- قال فتنفس كما يتنفس الطير- ثم قالو إن رسول الله ص لحي قلت نعم- و قد أخبرنا أنه شرع لك اثنا عشر سنانا- فقال طعنت اثنتي عشرة طعنة كلها أجافتني- أبلغ قومك الأنصار السلام- و قل لهم الله الله- و ما عاهدتم عليه رسول الله ص ليلة العقبة- و الله ما لكم عذر عند الله- إن خلص إلى نبيكم و منكم عين تطرف- فلم أرم من عنده حتى مات- فرجعت إلى النبي ص فأخبرته- فرأيته استقبل القبلة رافعا يديه يقول- اللهم الق سعد بن الربيع و أنت عنه راض- .

قال الواقدي- و خرجت السمداء بنت قيس إحدى نساء بني دينار- و قد أصيب ابناها مع النبي ص بأحد- النعمان بن عبد عمر و سليم بن الحارث- فلما نعيا لها قالت- فما فعل رسول الله ص قالوا بخير- هو بحمد الله صالح على ما تحبين- فقالت أرونيه أنظر إليه فأشاروا لها إليه- فقالت كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل- و خرجت تسوق بابنيها بعيرا تردهما إلى المدينة- فلقيتها عائشة فقالت ما وراءك فأخبرتها- قالت فمن هؤلاء معك قالت ابناي- حل حل تحملهما إلى القبر- .

قال الواقدي- و كان حمزة بن عبد المطلب أول من جي‏ء به إلى النبي ص- بعد انصراف قريش أو كان من أولهم- فصلى عليه رسول الله ص- ثم قال رأيت الملائكة تغسله- قالوا لأن حمزة كان جنبا ذلك اليوم- و لم يغسل رسول الله ص الشهداء يومئذ- و قال لفوهم بدمائهم و جراحهم- فإنه ليس أحد يجرح في سبيل الله- إلا جاء يوم القيامة لون جرحه لون الدم- و ريحه ريح المسك- ثم‏ قال ضعوهم فأنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة- و كان حمزة أول من كبر عليه أربعا- ثم جمع إليه الشهداء- فكان كلما أتي بشهيد- وضع إلى جنب حمزة فصلى عليه و على الشهيد- حتى صلى عليه سبعين مرة لأن الشهداء سبعون- .

قال الواقدي و يقال كان يؤتى بتسعة و حمزة عاشرهم- فيصلي عليهم و ترفع التسعة و يترك حمزة مكانه- و يؤتى بتسعة آخرين- فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلي عليه و عليهم- حتى فعل ذلك سبع مرات- و يقال إنه كبر عليه خمسا و سبعا و تسعا- . قال الواقدي و قد اختلفت الرواية في هذا- و كان طلحة بن عبيد الله و ابن عباس- و جابر بن عبد الله يقولون- صلى رسول الله ص على قتلى أحد- و قال أنا شهيد على هؤلاء- فقال أبو بكر أ لسنا إخوانهم أسلمنا كما أسلموا- و جاهدنا كما جاهدوا قال بلى- و لكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئا- و لا أدري ما تحدثون بعدي- فبكى أبو بكر و قال إنا لكائنون بعدك- .

و قال أنس بن مالك و سعيد بن المسيب- لم يصل رسول الله ص على قتلى أحد- . قال الواقدي و قال لأهل القتلى- احفروا و أوسعوا و أحسنوا- و ادفنوا الاثنين و الثلاثة في القبر- و قدموا أكثرهم قرآنا- و أمر بحمزة أن تمد بردته عليه و هو في القبر و كانت قصيرة- فكانوا إذا خمروا بها رأسه بدت رجلاه- و إذا خمروا بها رجليه انكشف وجهه- فبكى المسلمون يومئذ- فقالوا يا رسول الله عم رسول الله يقتل فلا يوجد له ثوب- فقال بلى إنكم بأرض جردية ذات أحجار- و ستفتح يعني الأرياف و الأمصار- فيخرج الناس إليها ثم يبعثون إلى أهليهم- و المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون-و الذي نفسي بيده- لا تصبر نفس على لأوائها و شدتها إلا كنت لها شفيعا- أو قال شهيدا يوم القيامة- . قال الواقدي- و أتى عبد الرحمن بن عوف في خلافة عثمان بثياب و طعام- فقال و لكن حمزة لم يوجد له كفن- و مصعب بن عمير لم يوجد له كفن و كانا خيرا مني- .

قال الواقدي و مر رسول الله ص بمصعب بن عمير- و هو مقتول مسجى ببردة خلق- فقال لقد رأيتك بمكة- و ما بها أحد أرق حلة و لا أحسن لمة منك- ثم أنت اليوم أشعث الرأس في هذه البردة- ثم أمر به فقبر- و نزل في قبره أخوه أبو الروم و عامر بن ربيعة- و سويبطة بن عمرو بن حرملة- و نزل في قبر حمزة علي ع و الزبير و أبو بكر و عمر- و رسول الله ص جالس على حفرته- .

قال الواقدي- ثم إن الناس أو عامتهم حملوا قتلاهم إلى المدينة- فدفن بالبقيع منهم عدة- عند دار زيد بن ثابت- و دفن بعضهم ببني سلمة- فنادى منادي رسول الله ص ردوا القتلى إلى مضاجعهم- و كان الناس قد دفنوا قتلاهم- فلم يرد أحد أحدا منهم- إلا رجلا واحدا أدركه المنادي و لم يدفن- و هو شماس بن عثمان المخزومي- كان قد حمل إلى المدينة و به رمق- فأدخل على عائشة فقالت أم سلمة ابن عمي يدخل إلى غيري- فقال رسول الله ص احملوه إلى أم سلمة- فحملوه إليها فمات عندها- فأمر رسول الله ص أن يرد إلى أحد فيدفن هناك- كما هو في ثيابه التي مات فيها- و كان قد مكث يوما و ليلة و لم يذق شيئا- فلم يصل عليه رسول الله ص و لا غسله- .

قال الواقدي فأما القبور المجتمعة هناك- فكثير من الناس يظنها قبور قتلى أحد- و كان طلحة بن عبيد الله و عباد بن تميم المازني يقولان- هي قبور قوم من الأعراب- كانواعام الرمادة في عهد عمر هناك- فماتوا فتلك قبورهم- و كان ابن أبي ذئب و عبد العزيز بن محمد يقولان- لا نعرف تلك القبور المجتمعة- إنما هي قبور ناس من أهل البادية- قالوا إنا نعرف قبر حمزة- و قبر عبد الله بن حزام و قبر سهل بن قيس- و لا نعرف غير ذلك- .

قال الواقدي- و كان رسول الله ص يزور قتلى أحد في كل حول- و إذا لقوه بالشعب رفع صوته يقول- السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار- و كان أبو بكر يفعل مثل ذلك- و كذلك عمر بن الخطاب ثم عثمان ثم معاوية- حين يمر حاجا و معتمرا- . قال و كانت فاطمة بنت رسول الله ص تأتيهم- بين اليومين و الثلاثة فتبكي عندهم و تدعو- و كان سعد بن أبي وقاص يذهب إلى ما له بالغابة- فيأتي من خلف قبور الشهداء- فيقول السلام عليكم ثلاثا- و يقول لا يسلم عليهم أحد- إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة- قال و مر رسول الله ص على قبر مصعب بن عمير- فوقف عليه و دعا و قرأ- مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ- فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ- وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا- ثم قال إن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة- فأتوهم فزوروهم و سلموا عليهم- و الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه- و كان أبو سعيد الخدري يقف على قبر حمزة- فيدعو و يقرأ و يقول مثل ذلك- و كانت أم سلمة رحمها الله تذهب- فتسلم عليهم في كل شهر فتظل يومها- فجاءت يوما و معها غلامها أنبهان فلم يسلم- فقالت أي لكع أ لا تسلم عليهم- و الله لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة- .

قال و كان أبو هريرة و عبد الله بن عمر يذهبان- فيسلمان عليهم- قالت فاطمة الخزاعية سلمت على قبر حمزة يوما- و معي أخت لي فسمعنا من القبر قائلا يقول- و عليكما السلام و رحمه الله- قالت و لم يكن قربنا أحد من الناس قال الواقدي فلما فرغ رسول الله ص من دفنهم- دعا بفرسه فركبه- و خرج المسلمون حوله عامتهم جرحى- و لا مثل بني سلمة و بني عبد الأشهل- فلما كانوا بأصل الحرة قال اصطفوا- فاصطفت الرجال صفين- و خلفهم النساء و عدتهن أربع عشرة امرأة- فرفع يديه فدعا فقال- اللهم لك الحمد كله- اللهم لا قابض لما بسطت و لا مانع لما أعطيت- و لا معطي لما منعت و لا هادي لمن أضللت- و لا مضل لمن هديت و لا مقرب لما باعدت- و لا مباعد لما قربت- اللهم إني أسألك من بركتك و رحمتك و فضلك و عافيتك- اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول- اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف- و الغناء يوم الفاقة عائذا بك- اللهم من شر ما أعطيت و من شر ما منعت- اللهم توفنا مسلمين- اللهم حبب إلينا الإيمان و زينه في قلوبنا- و كره إلينا الكفر و الفسوق و العصيان- و اجعلنا من الراشدين- اللهم عذب كفرة أهل الكتاب- الذين يكذبون رسلك و يصدون عن سبيلك- اللهم أنزل عليهم رجسك و عذابك إله الحق آمين- .

قال الواقدي و أقبل حتى نزل ببني حارثة يمينا- حتى طلع على بني عبد الأشهل و هم يبكون على قتلاهم- فقال لكن حمزة لا بواكي له- فخرج النساء ينظرن إلى سلامة رسول الله ص- فخرجت إليه أم عامر الأشهلية و تركت النوح- فنظرت إليه و عليه الدرع كما هي- فقالت كل مصيبة بعدك جلل- و خرجت كبشة بنت عتبة بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج- تعدو نحو رسول الله ص و هو واقف على فرسه- و سعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه- فقال سعد يا رسول الله أمي- فقال مرحبا بها فدنت حتى تأملته- و قالت إذ رأيتك سالما فقد شفت المصيبة- فعزاها بعمرو بن معاذ- ثم قال يا أم سعد أبشري و بشري أهليهم- أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعا- و هم اثنا عشر رجلا- و قد شفعوا في أهليهم- فقالت رضينا يا رسول الله- و من يبكي عليهم بعد هذا- ثم قالت يا رسول الله ادع لمن خلفوا- فقال اللهم أذهب حزن قلوبهم و آجر مصيبتهم- و أحسن الخلف على من خلفوا- ثم قال لسعد بن معاذ حل أبا عمرو الدابة- فحل الفرس و تبعه الناس- فقال يا أبا عمرو إن الجراح في أهل دارك فاشية- و ليس منهم مجروح إلا يأتي يوم القيامة- جرحه كأغزر ما كان- اللون لون دم و الريح ريح مسك- فمن كان مجروحا فليقر في داره و ليداو جرحه و لا تبلغ معي بيتي عزمة مني- فنادى فيهم سعد عزمة من رسول الله ص- ألا يتبعه جريح من بني عبد الأشهل- فتخلف كل مجروح- و باتوا يوقدون النيران و يداوون الجراح- و إن فيهم لثلاثين جريحا- و مضى سعد بن معاذ مع رسول الله ص إلى بيته- ثم رجع إلى نسائه فساقهن- فلم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله ص- فبكين بين المغرب و العشاء- و قام رسول الله ص حين فرغ من النوم لثلث الليل- فسمع البكاء فقال ما هذا- قيل نساء الأنصار يبكين على حمزة- فقال رضي الله تعالى عنكن و عن أولادكن- و أمر النساء أن يرجعن إلى منازلهن- قالت أم سعد بن معاذ- فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل و معنا رجالنا- فما بكت منا امرأة قط- إلا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا- و يقال إن معاذ بن جبل جاء بنساء بني سلمة- و جاء عبد الله بن رواحة بنساء بلحارث بن الخزرج- فقال رسول الله ص ما أردت هذا- و نهاهن الغد عن النوح أشد النهي- .

قال الواقدي و جعل ابن أبي و المنافقون معه يشمتون- و يسرون بما أصاب المسلمين- و يظهرون أقبح القول- و رجع عبد الله بن أبي إلى ابنه و هو جريح- فبات يكوي الجراحة بالنار- حتى ذهب عامة الليل و أبوه يقول- ما كان خروجك مع محمد إلى هذاالوجه برأيي- عصاني محمد و أطاع الولدان- و الله لكأني كنت أنظر إلى هذا- فقال ابنه الذي صنع الله لرسوله و للمسلمين خير إن شاء الله- قال و أظهرت اليهود القول السيئ- و قالوا ما محمد إلا طالب ملك- ما أصيب هكذا نبي قط في بدنه و أصيب في أصحابه- و جعل المنافقون يخذلون عن رسول الله ص و أصحابه- و يأمرونهم بالتفرق عنه- و قالوا لأصحاب النبي ص- لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل- حتى سمع عمر بن الخطاب ذلك في أماكن- فمشى إلى رسول الله ص- يستأذنه في قتل من سمع ذلك منهم من اليهود و المنافقين- فقال له يا عمر إن الله مظهر دينه و معز نبيه- و لليهود ذمة فلا أقتلهم- قال فهؤلاء المنافقون يا رسول الله يقولون- فقال أ ليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله- و أني رسول الله قال بلى- و إنما يفعلون تعوذا من السيف- و قد بان لنا أمرهم- و أبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة- فقال إني نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله- محمد رسول الله- يا ابن الخطاب إن قريشا لن ينالوا ما نالوا منا مثل هذا اليوم- حتى نستلم الركن- .

وروى ابن عباس أن النبي ص قال إخوانكم لما أصيبوا بأحد- جعلت أرواحهم في أجواف طير خضر- ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها- و تأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش- فلما وجدوا طيب مطعمهم و مشربهم- و رأوا حسن منقلبهم قالوا- ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله و بما نحن فيه- لئلا يزهدوا في الجهاد و يكلوا عند الحرب- فقال لهم الله تعالى أنا أبلغهم عنكم- فأنزل وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً- بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏

القول فيما جرى للمشركين بعد انصرافهم إلى مكة

قال الواقدي- حدثني موسى بن شيبة عن قطن بن وهيب الليثي- قال لما تحاجز الفريقان و وجه قريش إلى مكة- و امتطوا الإبل و جنبوا الخيل- سار وحشي عبد جبير بن مطعم على راحلته أربعا- فقدم مكة يبشر قريشا بمصاب المسلمين- فانتهى إلى الثنية التي تطلع على الحجون- فنادى بأعلى صوته يا معشر قريش مرارا- حتى ثاب الناس إليه و هم خائفون- أن يأتيهم بما يكرهون- فلما رضي منهم قال أبشروا- فقد قتلنا من أصحاب محمد مقتلة- لم نقتل مثلها في زحف قط- و جرحنا محمدا فأثبتناه بالجراح- و قتلنا رأس الكتيبة حمزة بن عبد المطلب- فتفرق الناس عنه في كل وجه- بالشماتة بقتل أصحاب النبي ص و إظهار السرور- و خلا جبير بن مطعم بوحشي- فقال أنظر ما تقول قال وحشي قد و الله صدقت- قال قتلت حمزة قال إي و الله- و لقد زرقته بالمزراق في بطنه فخرج من بين فخذيه- ثم نودي فلم يجب- فأخذت كبده و حملتها إليك لتراها- فقال أذهبت حزن نسائنا و بردت حر قلوبنا- فأمر يومئذ نساءه بمراجعة الطيب و الدهن- .

قال الواقدي- و قد كان عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي- لما انكشف المشركون بأحد في أول الأمر- خرج هاربا على وجهه و كره أن يقدم مكة- فقدم الطائف- فأخبر ثقيفا أن أصحاب محمد قد ظفروا و انهزمنا- و كنت أول من قدم عليكم- ثم جاءهم الخبر بعد أن قريشا ظفرت و عادت الدولة لها- .

قال الواقدي- فسارت قريش قافلة إلى مكة فدخلتها ظافرة- فكان ما دخل على قلوبهم من السرور يومئذ- نظير ما دخل عليهم من الكئابة و الحزن يوم بدر- و كان ما دخل على قلوب المسلمين من الغيظ و الحزن يومئذ- نظير ما دخل عليهم من السرور و الجذل يوم بدر- كما قال الله تعالى وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ- و قال سبحانه أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها- قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ- قال يعني إنكم يوم بدر قتلتم من قريش سبعين- و أسرتم سبعين- و أما يوم أحد فقتل منكم سبعون- و لم يؤسر منكم أحد- فقد أصبتم قريشا بمثلي ما أصابوكم يوم أحد- و قوله أَنَّى هذا أي كيف هذا- و نحن موعودون بالنصر و نزول الملائكة- و فينا نبي ينزل عليه الوحي من السماء- فقال لهم في الجواب هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ- يعني الرماة الذين خالفوا الأمر و عصوا الرسول- و إنما كان النصر و نزول الملائكة مشروطا بالطاعة- و إلا يعصى أمر الرسول- أ لا ترى إلى قوله بَلى‏ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا- وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ- بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ- فعلقه على الشرط

القول في مقتل أبي عزة الجمحي و معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس

قال الواقدي أما أبو عزة- و اسمه عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح- فإن رسول الله ص أخذه أسيرا يوم أحد- و لم يؤخذ يوم أحد أسير غيره- فقال يا محمد من علي-فقال رسول الله ص إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين- لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك- فتقول سخرت بمحمد مرتين- ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه- .

قال الواقدي و قد سمعنا في أسره غير هذا- حدثني بكير بن مسمار قال- لما انصرف المشركون عن أحد- نزلوا بحمراء الأسد في أول الليل ساعة- ثم رحلوا و تركوا أبا عزة مكانه حتى ارتفع النهار- فلحقه المسلمون و هو مستنبه يتلدد- و كان الذي أخذه عاصم بن ثابت- فأمره النبي ص فضرب عنقه- . قلت و هذه الرواية هي الصحيحة عندي- لأن المسلمين لم تكن حالهم يوم أحد- حال من يتهيأ له أسر أحد من المشركين في المعركة- لما أصابهم من الوهن- .

فأما معاوية بن المغيرة فروى البلاذري- أنه هو الذي جدع أنف حمزة و مثل به- و أنه انهزم يوم أحد فمضى على وجهه- فبات قريبا من المدينة- فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفان بن أبي العاص- و هو ابن عمه لحا فضرب بابه فقالت أم كلثوم زوجته- و هي ابنة رسول الله ص ليس هو هاهنا- فقال ابعثي إليه- فإن له عندي ثمن بعير ابتعته منه عام أول- و قد جئته به فإن لم يجئ ذهبت فأرسلت إليه- و هو عند رسول الله ص- فلما جاء قال لمعاوية أهلكتني- و أهلكت نفسك ما جاء بك- قال يا ابن عم لم يكن أحد أقرب إلي- و لا أمس رحما بي منك فجئتك لتجيرني- فادخله عثمان داره و صيره في ناحية منها- ثم خرج إلى النبي ص ليأخذ له منه أمانا- فسمع رسول الله ص يقول- إن معاوية في المدينة و قد أصبح بها فاطلبوه- فقال بعضهم ما كان ليعدو منزل عثمان فاطلبوه به- فدخلوا منزل عثمان- فأشارت أم كلثوم إلى الموضع الذي صيره فيه- فاستخرجوه من تحت خمارة لهم- فانطلقوا به إلى النبي ص- فقال عثمان حين رآه- و الذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له الأمان- فهبه لي فوهبه له و أجله ثلاثا- و أقسم لئن وجده بعدها- يمشي في أرض المدينة و ما حولها ليقتلنه- و خرج عثمان فجهزه و اشترى له بعيرا- ثم قال ارتحل و سار رسول الله ص إلى حمراء الأسد- و أقام معاوية إلى اليوم الثالث- ليعرف أخبار النبي ص و يأتي بها قريشا- فلما كان في اليوم الرابع قال رسول الله ص- إن معاوية أصبح قريبا لم ينفذ فاطلبوه- فأصابوه و قد أخطأ الطريق فأدركوه- و كان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة و عمار بن ياسر- فوجداه بالجماء فضربه زيد بالسيف- و قال عمار إن لي فيه حقا فرمياه بسهم فقتلاه- ثم انصرفا إلى المدينة بخبره- و يقال إنه أدرك على ثمانية أميال من المدينة- فلم يزل زيد و عمار يرميانه بالنبل حتى مات- . قال و معاوية هذا أبو عائشة بنت معاوية- أم عبد الملك بن مروان- .

قال و ذكر الواقدي في كتابه مثل هذه الرواية سواء- . قال البلاذري و قال ابن الكلبي- إن معاوية بن المغيرة جدع أنف حمزة يوم أحد و هو قتيل- فأخذ بقرب أحد- فقتل على أحد بعد انصراف قريش بثلاث- و لا عقب له إلا عائشة أم عبد الملك بن مروان- قال و يقال إن عليا ع هو الذي قتل معاوية بن المغيرة- .

قلت و رواية ابن الكلبي عندي أصح- لأن هزيمة المشركين كانت في الصدمة الأولى- عقيب قتل بني عبد الدار أصحاب الألوية- و كان قتل حمزة بعد ذلك- لما كر خالد بن الوليد الخيل من وراء المسلمين- فاختلطوا و انتقض صفهم- و قتل بعضهم بعضا- فكيف يصح إن يجتمع لمعاوية كونه قد جدع أنف حمزة- و كونه قد انهزم مع المشركين في الصدمة الأولى- هذا متناقض- لأنه إذا كان قد انهزم في أول الحرب- استحال أن يكون‏ حاضرا عند حمزة حين قتل- و الصحيح ما ذكره ابن الكلبي من أنه شهد الحرب كلها- و جدع أنف حمزة- ثم حصل في أيدي المسلمين بعد انصراف قريش- لأنه تأخر عنهم لعارض عرض له فأدركه حينه فقتل

القول في مقتل المجذر بن زياد البلوي و الحارث بن يزيد بن الصامت

قال الواقدي- كان المجذر بن زياد البلوي حليف بني عوف بن الخزرج- ممن شهد بدرا مع رسول الله ص- و كانت له قصة في الجاهلية قبل قدوم النبي ص المدينة- و ذلك أن حضير الكتائب والد أسيد بن حضير- جاء إلى بني عمرو بن عوف- فكلم سويد بن الصامت و خوات بن جبير- و أبا لبابة بن عبد المنذر و يقال سهل بن حنيف- فقال هل لكم إن تزوروني فأسقيكم شرابا و أنحر لكم- و تقيمون عندي أياما قالوا نعم- نحن نأتيك يوم كذا- فلما كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزورا و سقاهم خمرا- و أقاموا عنده ثلاثة أيام حتى تغير اللحم- و كان سويد بن الصامت يومئذ شيخا كبيرا- فلما مضت الأيام الثلاثة قالوا- ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا- فقال حضير ما أحببتم- إن أحببتم فأقيموا و إن أحببتم فانصرفوا- فخرج الفتيان بسويد بن الصامت- يحملانه على جمل من الثمل- فمروا لاصقين بالحرة- حتى كانوا قريبا من بني عيينة- فجلس سويد يبول و هو ثمل سكرا- فبصر به إنسان من الخزرج- فخرج حتى أتى المجذر بن زياد- فقال هل لك في الغنيمة الباردة- قال ما هي قال سويد بن الصامت- أعزل لا سلاح معه ثمل- فخرج المجذر بن زياد بالسيف مصلتا- فلما رآه الفتيان و هما أعزلان لا سلاح معهما وليا- و العداوة بين الأوس‏ و الخزرج شديدة- فانصرفا مسرعين و ثبت الشيخ و لا حراك به- فوقف المجذر بن زياد فقال قد أمكن الله منك- قال ما تريد بي قال قتلك- قال فارفع عن الطعام و اخفض عن الدماغ- فإذا رجعت إلى أمك فقل إني قتلت سويد بن الصامت فقتله- فكان قتله هو الذي هيج وقعة بعاث- فلما قدم رسول الله ص المدينة- أسلم الحارث بن سويد بن الصامت- و أسلم المجذر فشهدا بدرا- فجعل الحارث بن سويد يطلب المجذر في المعركة ليقتله بأبيه- فلا يقدر عليه يومئذ- فلما كان يوم أحد و جال المسلمون تلك الجولة- أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه- فرجع رسول الله ص إلى المدينة- ثم خرج إلى حمراء الأسد- فلما رجع من حمراء الأسد أتاه جبرائيل ع- فأخبره أن الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة و أمره بقتله- فركب رسول الله ص إلى قباء- في اليوم الذي أخبره جبرائيل في يوم حار- و كان ذلك يوما لا يركب فيه رسول الله ص إلى قباء- إنما كانت الأيام التي يأتي فيها رسول الله ص قباء- يوم السبت و يوم الإثنين- فلما دخل رسول الله ص مسجد قباء صلى فيه ما شاء الله أن يصلي- و سمعت الأنصار فجاءوا يسلمون عليه- و أنكروا إتيانه تلك الساعة في ذلك اليوم- فجلس ع يتحدث و يتصفح الناس- حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة- فلما رآه رسول الله ص دعا عويم بن ساعدة- فقال له قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد- فاضرب عنقه بمجذر بن زياد- فإنه قتله يوم أحد فأخذه عويم- فقال الحارث دعني أكلم رسول الله- و رسول الله ص يريد أن يركب- و دعا بحماره إلى باب المسجد- فجعل الحارث يقول قد و الله قتلته يا رسول الله- و ما كان قتلي إياه رجوعا عن الإسلام‏ و لا ارتيابا فيه- و لكنه حمية الشيطان و أمر وكلت فيه إلى نفسي- و إني أتوب إلى الله و إلى رسوله مما عملت- و أخرج ديته و أصوم شهرين متتابعين- و أعتق رقبة و أطعم ستين مسكينا- إني أتوب إلى الله يا رسول الله- و جعل يمسك بركاب رسول الله ص و بنو المجذر حضور- لا يقول لهم رسول الله ص شيئا- حتى إذا استوعب كلامه- قال قدمه يا عويم فاضرب عنقه- و ركب رسول الله ص- فقدمه عويم بن ساعدة على باب المسجد فضرب عنقه- .

قال الواقدي- و يقال إن الذي أعلم رسول الله- قتل الحارث المجذر يوم أحد حبيب بن يساف- نظر إليه حين قتله- فجاء إلى النبي ص فأخبره- فركب رسول الله ص يتفحص عن هذا الأمر- فبينا هو على حماره نزل جبرائيل ع فخبره بذلك- فأمر رسول الله ص عويما فضرب عنقه- ففي ذلك قال حسان

يا حار في سنة من نوم أولكم
أم كنت ويحك مغترا بجبريل‏

 فأما البلاذري فإنه ذكر هذا- و قال و يقال إن الجلاس بن سويد بن الصامت- هو الذي قتل المجذر يوم أحد غيلة- إلا أن شعر حسان يدل على أنه الحارث- . قال الواقدي و البلاذري- و كان سويد بن الصامت حين ضربه المجذر بقي قليلا ثم مات- فقال قبل أن يموت يخاطب أولاده-

أبلغ جلاسا و عبد الله مالكه
و إن دعيت فلا تخذلهما حار

اقتل جذارة إذ ما كنت لاقيهم
و الحي عوفا على عرف و إنكار

قال البلاذري جذرة و جذارة أخوان- و هما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج- . قلت هذه الروايات كما ترى- و قد ذكر ابن ماكولا في الإكمال- أن الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة يوم أحد- ثم التحق بمكة كافرا- ذكره في حرف الميم من هذا الكتاب- و هذا هو الأشبه عندي

القول فيمن مات من المسلمين بأحد جملة

قال الواقدي ذكر سعيد بن المسيب و أبو سعيد الخدري- أنه قتل من الأنصار خاصة أحد و سبعون- و بمثله قال مجاهد- . قال فأربعة من قريش- و هم حمزة بن عبد المطلب قتله وحشي- و عبد الله بن جحش بن رئاب- قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق- و شماس بن عثمان بن الشريد من بني مخزوم- قتله أبي بن خلف- و مصعب بن عمير قتله ابن قميئة- . قال و قد زاد قوم خامسا- و هو سعد مولى حاطب من بني أسد بن عبد العزى- و قال قوم أيضا- إن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي جرح يوم أحد- و مات من تلك الجراحة بعد أيام- . قال الواقدي و قال قوم- قتل ابنا الهبيب من بني سعد بن ليث- و هما عبد الله‏و عبد الرحمن- و رجلان من بني مزينة- و هما وهب بن قابوس- و ابن أخيه الحارث بن عتبة بن قابوس- فيكون جميع من قتل من المسلمين ذلك اليوم نحو أحد و ثمانين رجلا- فأما تفصيل أسماء الأنصار فمذكور في كتب المحدثين- و ليس هذا الموضع مكان ذكره

القول فيمن قتل من المشركين بأحد

قال الواقدي- قتل من بني عبد الدار طلحة بن أبي طلحة- صاحب لواء قريش- قتله علي بن أبي طالب ع مبارزة- و عثمان بن أبي طلحة قتله حمزة بن عبد المطلب- و أبو سعيد بن أبي طلحة قتله سعد بن أبي وقاص- و مسافع بن طلحة بن أبي طلحة- قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح- و كلاب بن طلحة بن أبي طلحة- قتله الزبير بن العوام- و الحارث بن طلحة بن أبي طلحة قتله عاصم بن ثابت- و الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة قتله طلحة بن عبيد الله- و أرطاة بن عبد شرحبيل قتله علي بن أبي طالب ع- و قارظ بن شريح بن عثمان بن عبد الدار- و يروى قاسط بالسين و الطاء المهملتين- قال الواقدي لا يدرى من قتله- و قال البلاذري قتله علي بن أبي طالب ع- و صواب مولاهم قتله علي بن أبي طالب ع- و قيل قتله قزمان- و أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير قتله قزمان- فهؤلاء أحد عشر- . و من بني أسد بن عبد العزى عبد الله- بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد- قتله أبو دجانة في رواية الواقدي- و في رواية محمد بن إسحاق قتله علي بن أبي طالب ع- و قال البلاذري قال ابن الكلبي- إن عبد الله بن حميد قتل يوم بدر-و من بني زهرة أبو الحكم بن الأخنس بن شريق- قتله علي بن أبي طالب ع- و سباع بن عبد العزى الخزاعي- و اسم عبد العزى عمر بن نضله بن عباس بن سليم- و هو ابن أم أنمار الحجامة بمكة قتله حمزة بن عبد المطلب- فهذان رجلان- .

و من بني مخزوم أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة- قتله علي ع- و هشام بن أبي أمية بن المغيرة قتله قزمان- و الوليد بن العاص بن هشام قتله قزمان- و خالد بن أعلم العقيلي قتله قزمان- و عثمان بن عبد الله بن المغيرة قتله الحارث بن الصمة- فهؤلاء خمسة- . و من بني عامر بن لؤي عبيد بن حاجز قتله أبو دجانة- و شيبة بن مالك بن المضرب قتله طلحة بن عبيد الله- و هذان اثنان- . و من بني جمح أبي بن خلف قتله رسول الله ص بيده- و أبو عزة قتله عاصم بن ثابت صبرا- بأمر رسول الله ص- فهذان اثنان- . و من بني عبد مناة بن كنانة خالد بن سفيان بن عويف- و أبو الشعثاء بن سفيان بن عويف- و أبو الحمراء بن سفيان بن عويف- و غراب بن سفيان بن عويف- هؤلاء الإخوة الأربعة قتلهم علي بن أبي طالب ع- في رواية محمد بن حبيب- . فأما الواقدي- فلم يذكر في باب من قتل من المشركين بأحد لهم قاتلا معينا- و لكنه ذكر في كلام آخر قبل هذا الباب- أن أبا سبرة بن الحارث بن علقمة قتل أحد بني سفيان بن عويف- و أن رشيدا الفارسي مولى بني معاوية- لقي آخر من بني سفيان بن عويف مقنعا في الحديد- و هو يقول أنا ابن عويف- فيعرض له سعد مولى حاطب- فضربه ابن‏عويف ضربة جزله باثنتين- فأقبل رشيد على ابن عويف فضربه على عاتقه- فقطع الدرع حتى جزله اثنتين- و قال خذها و أنا الغلام الفارسي- فقال رسول الله ص و هو يراه و يسمعه- أ لا قلت أنا الغلام الأنصاري- قال فيعرض لرشيد أخ للمقتول- أحد بني سفيان بن عويف أيضا- و أقبل يعدو نحوه كأنه كلب يقول أنا ابن عويف- و يضربه رشيد أيضا على رأسه و عليه المغفر ففلق رأسه- و قال خذها و أنا الغلام الأنصاري- فتبسم رسول الله ص و قال أحسنت يا أبا عبد الله- فكناه رسول الله ص يومئذ و لا ولد له- .

قلت فأما البلاذري فلم يذكر لهم قاتلا- و لكنه عدهم في جملة من قتل من المشركين بأحد- و كذلك ابن إسحاق لم يذكر من قتلهم- فإن صحت رواية الواقدي- فعلي ع لم يكن قد قتل منهم إلا واحدا- و إن كانت رواية ابن حبيب صحيحة- فالأربعة من قتلاه ع- و قد رأيت في بعض كتب أبي الحسن المدائني أيضا- أن عليا ع هو الذي قتل بني سفيان بن عويف يوم أحد- و روى له شعرا في ذلك- . و من بني عبد شمس معاوية بن المغيرة بن أبي العاص- قتله علي ع في إحدى الروايات- و قيل قتله زيد بن حارثة و عمار بن ياسر- . فجميع من قتل من المشركين يوم أحد ثمانية و عشرون- قتل علي ع منهم- ما اتفق عليه و ما اختلف فيه اثني عشر- و هو إلى جملة القتلى- كعدة من قتل يوم بدر إلى جملة القتلى يومئذ- و هو قريب من النصف

القول في خروج النبي ص و بعد انصرافه من أحد إلى المشركين ليوقع بهم على ما هو به من الوهن

قال الواقدي بلغ رسول الله ص- أن المشركين قد عزموا أن يردوا إلى المدينة فينهبوها- فأحب أن يريهم قوة- فصلى الصبح يوم الأحد لثمان خلون من شوال- و معه وجوه الأوس و الخزرج- و كانوا باتوا تلك الليلة في بابه يحرسونه من البيات- فيهم سعد بن عبادة و سعد بن معاذ و الحباب بن المنذر- و أوس بن خولي و قتادة بن النعمان في عدة منهم- فلما انصرف من صلاة الصبح- أمر بلالا أن ينادي في الناس- أن رسول الله ص يأمركم بطلب عدوكم- و لا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس- فخرج سعد بن معاذ راجعا إلى قومه يأمرهم بالمسير- و الجراح في الناس فاشية- عامة بني عبد الأشهل جريح بل كلها- فجاء سعد بن معاذ فقال- إن رسول الله ص يأمركم أن تطلبوا عدوكم- قال يقول أسيد بن حضير و به سبع جراحات- و هو يريد أن يداويها- سمعا و طاعة لله و لرسوله- فأخذ سلاحه و لم يعرج على دواء جراحة- و لحق برسول الله ص- و جاء سعد بن عبادة قومه بني ساعدة- فأمرهم بالمسير فلبسوا و لحقوا- و جاء أبو قتادة أهل خربا و هم يداوون الجراح- فقال هذا منادي رسول الله ص يأمركم بطلب العدو- فوثبوا إلى سلاحهم و لم يعرجوا على جراحاتهم- فخرج من بني سلمة أربعون جريحا- بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا- و بخراش بن الصمة عشر جراحات- و بكعب بن مالك بضعة عشر جرحا- و بقطبة بن عامر بن خديج بيده تسع جراحات- حتى وافوا النبي ص بقبر أبي عتبة و عليهم السلاح-و قد صفوا لرسول الله ص- فلما نظر إليهم و الجراح فيهم فاشية- قال اللهم ارحم بني سلمة- .

قال الواقدي- و حدثني عتبة بن جبيرة عن رجال من قومه- أن عبد الله بن سهل و رافع بن سهل من بني عبد الأشهل- رجعا من أحد و بهما جراح كثيرة- و عبد الله أثقلهما جرحا- فلما أصبحا و جاء سعد بن معاذ قومه- يخبرهم أن رسول الله ص يأمرهم بطلب العدو- قال أحدهما لصاحبه- و الله إن تركنا غزاة مع رسول الله ص لغبن- و الله ما عندنا دابة نركبها- و لا ندري كيف نصنع- قال عبد الله انطلق بنا- قال رافع لا و الله ما بي مشي- قال أخوه انطلق بنا نقصد و نجوز- و خرجا يزحفان فضعف رافع- فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبه و يمشي الآخر عقبه- حتى أتوا رسول الله ص عند العشاء- و هم يوقدون النيران- فأتي بهما رسول الله ص- و على حرسه تلك الليلة عباد بن بشر- فقال رسول الله ص لهما ما حبسكما- فأخبراه بعلتهما فدعا لهما بخير- و قال إن طالت لكما مدة- كانت لكما مراكب من خيل و بغال و إبل- و ليس ذلك بخير لكما- .

قال الواقدي و قال جابر بن عبد الله يا رسول الله- إن مناديا نادى ألا يخرج معنا- إلا من حضر القتال بالأمس- و قد كنت حريصا بالأمس على الحضور- و لكن أبي خلفني على أخوات لي- و قال يا بني لا ينبغي لك أن تدعهن و لا رجل معهن- و أخاف عليهن و هن نسيات ضعاف- و أنا خارج مع رسول الله ص لعل الله يرزقني الشهادة- فتخلفت عليهن فاستأثر علي بالشهادة- و كنت رجوتها فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك- فأذن له رسول الله ص- قال جابر فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري- و استأذنه رجال لم يحضروا القتال- فأبى ذلك عليهم- فدعا رسول الله ص بلواءه و هو معقود لم يحل من أمس- فدفعه إلى علي ع- و يقال دفعه إلى أبي بكر- فخرج رسول الله ص و هو مجروح- في وجهه أثر الحلقتين- و مشجوج في جبهته في أصول الشعر- و رباعيته قد شظيت- و شفته قد كلمت من باطنها- و منكبه الأيمن موهن بضربة ابن قميئة- و ركبتاه مجحوشتان- فدخل المسجد فصلى ركعتين و الناس قد حشدوا- و نزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ- و دعا بفرسه على باب المسجد- و تلقاه طلحة بن عبيد الله و قد سمع المنادي- فخرج ينظر متى يسير رسول الله ص- فإذا هو و عليه الدرع و المغفر لا يرى منه إلا عيناه- فقال يا طلحة سلاحك قال قريبا- قال طلحة فأخرج و أعدو- فألبس درعي و آخذ سيفي- و أطرح درقتي في صدري و إن بي لتسع جراحات- و لأنا أهتم بجراح رسول الله ص مني بجراحي- فأقبل رسول الله ص على طلحة- فقال أين ترى القوم الآن قال هم بالسيالة- فقال رسول الله ص ذلك الذي ظننت- أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس- حتى يفتح الله مكة علينا- قال و بعث رسول الله ص ثلاثة نفر من أسلم- طليعة في آثار القوم- فانقطع أحدهم و انقطع قبال نعل الآخر- و لحق الثالث بقريش و هم بحمراء الأسد- و لهم زجل يأتمرون في الرجوع إلى المدينة- و صفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك- و لحق الذي انقطع قبال نعله بصاحبه- فبصرت قريش بالرجلين- فعطفت عليهما فأصابوهما- و انتهى المسلمون إلى مصرعهما بحمراء الأسد- فقبرهما رسول الله ص في قبر واحد فهما القرينان- .

قال الواقدي اسماهما سليط و نعمان- . قال الواقدي قال جابر بن عبد الله- كانت عامة أزوادنا ذلك اليوم التمر- و حمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا تمرا- حتى وافت حمراء الأسد- و ساق جزرا فنحروا في يوم ثنتين و في يوم ثلاثا- و أمرهم رسول الله ص بجمع الحطب- فإذا أمسوا أمرهم أن يوقدوا النيران- فيوقد كل رجل نارا- فلقد كنا تلك الليلة نوقد خمسمائة نار- حتى نرى من المكان البعيد- و ذهب ذكر معسكرنا و نيراننا في كل وجه- و كان ذلك مما كبت الله به عدونا- .

قال الواقدي و جاء معبد بن أبي معبد الخزاعي- و هو يومئذ مشرك إلى النبي ص- و كانت خزاعة سلما للنبي ص- فقال يا محمد عز علينا ما أصابك في نفسك- و ما أصابك في أصحابك- و لوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك- و أن المصيبة كانت بغيرك- ثم مضى معبد حتى يجد أبا سفيان و قريشا بالروحاء- و هم يقولون لا محمدا أصبتم- و لا الكواعب أردفتم فبئسما صنعتم- و هم مجمعون على الرجوع إلى المدينة- و يقول قائلهم فيما بينهم ما صنعنا شيئا- أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم- و قبل أن يكون لهم وفر- و كان المتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل- فلما جاء معبد إلى أبي سفيان قال- هذا معبد و عنده الخبر ما وراءك يا معبد- قال تركت محمدا و أصحابه خلفي- يتحرقون عليكم بمثل النيران- و قد اجتمع معه من تخلف عنه بالأمس من الأوس و الخزرج- و تعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم- و قد غضبوا لقومهم غضبا شديدا- و لمن أصبتم من أشرافهم- قالوا ويحك ما تقول- قال و الله ما أرى‏أن ترتحلوا حتى تروا نواصي الخيل- و لقد حملني ما رأيت منهم أن قلت أبياتا- قالوا و ما هي فأنشدهم هذا الشعر-

كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سألت الأرض بالجرد الأبابيل‏

تعدو بأسد ضراء لا تنابلة
عند اللقاء و لا ميل معازيل‏

فقلت ويل ابن حرب من لقائهم
إذا تغطمطت البطحاء بالجيل‏

 و قد كان صفوان بن أمية رد القوم بكلامه- قبل أن يطلع معبد- و قال لهم صفوان يا قوم لا تفعلوا- فإن القوم قد حربوا- و أخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج- فارجعوا و الدولة لكم- فإني لا آمن إن رجعتم إليهم أن تكون الدولة عليكم- قال فلذلك
قال رسول الله ص أرشدهم صفوان و ما كان برشيد- ثم قال و الذي نفسي بيده- لقد سومت لهم الحجارة- و لو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب- قال فانصرف القوم سراعا خائفين من الطلب لهم- و مر بأبي سفيان قوم من عبد القيس يريدون المدينة- فقال لهم هل أنتم مبلغو محمد و أصحابه- ما أرسلكم به- على أن أوقر لكم أباعركم زبيبا غدا بعكاظ- إن أنتم جئتموني قالوا نعم- قال حيثمالقيتم محمدا و أصحابه فأخبروهم- أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم و أنا آثاركم- و انطلق أبو سفيان إلى مكة- و قدم الركب على النبي ص و أصحابه بالحمراء- فأخبروهم بالذي أمرهم أبو سفيان- فقالوا حسبنا الله و نعم الوكيل- فأنزل ذلك في القرآن- و أرسل معبد رجلا من خزاعة إلى رسول الله ص- يعلمه أنه قد انصرف أبو سفيان و أصحابه خائفين وجلين- فانصرف رسول الله ص بعد ثلاث إلى المدينة

الفصل الخامس في شرح غزاة مؤتة

نذكرها من كتاب الواقدي و نزيد على ذلك ما رواه محمد بن إسحاق في كتابه على عادتنا فيما تقدم قال الواقدي حدثني ربيعة بن عثمان عن عمر بن الحكم- قال بعث رسول الله ص الحارث بن عمير الأزدي- في سنة ثمان إلى ملك بصرى بكتاب- فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني- فقال أين تريد قال الشام- قال لعلك من رسل محمد قال نعم- فأمر به فأوثق رباطا ثم قدمه فضرب عنقه- و لم يقتل لرسول الله ص رسول غيره- و بلغ ذلك رسول الله ص فاشتد عليه- و ندب الناس و أخبرهم بمقتل الحارث- فأسرعوا و خرجوا فعسكروا بالجرف- فلما صلى رسول الله ص الظهر جلس و جلس أصحابه حوله- و جاء النعمان بن مهض اليهودي فوقف مع الناس-
فقال رسول الله ص زيد بن حارثة أمير الناس- فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب- فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة- فإن أصيب ابن رواحة- فليرتض المسلمون من بينهم رجلا فليجعلوه عليهم- فقال النعمان بن مهض يا أبا القاسم- إن كنت نبيا فسيصاب من سميت قليلا كانوا أو كثيرا- إن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم- ثم قالوا إن أصيب فلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا- ثم جعل اليهودي يقول لزيد بن حارثة- اعهد فلا ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا- قال زيد أشهد أنه نبي صادق- فلما أجمعواالمسير و عقد رسول الله ص لهم اللواء بيده- دفعه إلى زيد بن حارثة و هو لواء أبيض- و مشى الناس إلى أمراء رسول الله ص- يودعونهم و يدعون لهم و كانوا ثلاثة آلاف- فلما ساروا في معسكرهم ناداهم المسلمون- دفع الله عنكم و ردكم صالحين سالمين غانمين- فقال عبد الله بن رواحة

لكنني أسأل الرحمن مغفرة
و ضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء و الكبدا

حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
يا أرشد الله من غاز فقد رشدا

قلت اتفق المحدثون- على أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول- و أنكرت الشيعة ذلك- و قالوا كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول- فإن قتل فزيد بن حارثة فإن قتل فعبد الله بن رواحة- و رووا في ذلك روايات- و قد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق- في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم- فمن ذلك ما رواه عن حسان بن ثابت- و هو

تأوبني ليل بيثرب أعسر
و هم إذا ما نوم الناس مسهر

لذكرى حبيب هيجت لي عبرة
سفوحا و أسباب البكاء التذكر

بلى إن فقدان الحبيب بلية
و كم من كريم يبتلى ثم يصبر

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا
بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

و زيد و عبد الله حين تتابعوا
جميعا و أسياف المنية تخطر

رأيت خيار المؤمنين تواردوا
شعوب و خلق بعدهم يتأخر

غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم‏
إلى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغر كضوء البدر من آل هاشم
أبي إذا سيم الظلامة أصعر

فطاعن حتى مال غير موسد
بمعترك فيه القنا متكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه
جنان و ملتف الحدائق أخضر

و كنا نرى في جعفر من محمد
وقارا و أمرا حازما حين يأمر

و ما زال في الإسلام من آل هاشم
دعائم صدق لا ترام و مفخر

هم جبل الإسلام و الناس حولهم‏
رضام إلى طور يطول و يقهر

بهاليل منهم جعفر و ابن أمه
علي و منهم أحمد المتخير

و حمزة و العباس منهم و منهم‏
عقيل و ماء العود من حيث يعصر

بهم تفرج الغماء من كل مأزق
عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر

هم أولياء الله أنزل حكمه‏
عليهم و فيهم و الكتاب المطهر

و منها قول كعب بن مالك الأنصاري من قصيدة- أولها

نام العيون و دمع عينك يهمل
سحا كما وكف الرباب المسبل‏

وجدا على النفر الذين تتابعوا
قتلى بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

ساروا أمام المسلمين كأنهم
طود يقودهم الهزبر المشبل‏

إذ يهتدون بجعفر و لوائه‏
قدام أولهم و نعم الأول‏

حتى تقوضت الصفوف و جعفر
حيث التقى جمع الغواة مجدل‏

فتغير القمر المنير لفقده
و الشمس قد كسفت و كادت تأفل‏

قوم علا بنيانهم من هاشم‏
فرع أشم و سؤدد متأثل‏

قوم بهم عصم الإله عباده
و عليهم نزل الكتاب المنزل‏

فضلوا المعاشر عفة و تكرما
و تعمدت أخلاقهم من يجهل‏

قال الواقدي فحدثني ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق عن زيد بن أرقم أن رسول الله ص خطبهم فأوصاهم- فقال أوصيكم بتقوى الله و بمن معكم من المسلمين خيرا- اغزوا باسم الله و في سبيل الله- قاتلوا من كفر بالله- لا تغدروا و لا تغلوا و لا تقتلوا وليدا- و إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث- فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم- و اكفف عنهم- ادعهم إلى الدخول في الإسلام- فإن فعلوا فاقبل و اكفف- ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى المهاجرين- فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين- و عليهم ما على المهاجرين- و إن دخلوا في الإسلام و اختاروا دارهم- فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين- يجري عليهم حكم الله- و لا يكون لهم في الفي‏ء و لا في الغنيمة شي‏ء- إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية- فإن فعلوا فاقبل منهم و اكفف عنهم- فإن أبوا فاستعن بالله و قاتلهم- و إن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة- فأرادوا أن تستنزلهم على حكم الله- فلا تستنزلهم على حكم الله- و لكن أنزلهم على حكمك- فإنك لا تدري أ تصيب حكم الله فيهم أم لا- و إن حاصرت أهل حصن أو مدينة- و أرادوا أن تجعل لهم ذمة الله و ذمة رسول الله- فلا تجعل لهم ذمة الله و ذمة رسول الله- و لكن اجعل لهم ذمتك و ذمة أبيك و أصحابك- فإنكم إن تخفروا ذممكم و ذمم آبائكم خير لكم- من أن تخفروا ذمة الله و ذمة رسوله-.

قال الواقدي و حدثني أبو صفوان عن خالد بن يزيد قال خرج النبي ص مشيعا لأهل مؤتة- حتى بلغ ثنية الوداع فوقف و وقفوا حوله- فقال اغزوا بسم الله- فقاتلوا عدو الله و عدوكم بالشام- و ستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين الناس- فلا تعرضوا لهم- و ستجدون آخرين للشيطان في رءوسهم مفاحص- فاقلعوها بالسيوف- و لا تقتلن امرأة و لا صغيرا ضرعا و لا كبيرا فانيا- و لا تقطعن نخلا و لا شجرا و لا تهدمن بناء-.

قال الواقدي فلما دعا ودع عبد الله بن رواحة رسول الله ص- قال له مرني بشي‏ء أحفظه عنك- قال إنك قادم غدا بلدا السجود فيه قليل- فأكثروا السجود- فقال عبد الله زدني يا رسول الله قال اذكر الله- فإنه عون لك على ما تطلب- فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهبا رجع- فقال يا رسول الله إن الله وتر يحب الوتر- فقال يا ابن رواحة ما عجزت فلا تعجز- إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة- فقال ابن رواحة لا أسألك عن شي‏ء بعدها- .

و روى محمد بن إسحاق- أن عبد الله بن رواحة ودع رسول الله ص بشعر منه-

فثبت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى و نصرا كالذي نصروا

إني تفرست فيك الخير نافلة
فراسة خالفتهم في الذي نظروا

أنت الرسول فمن يحرم نوافله
و البشر منه فقد أودى به القدر

قال محمد بن إسحاق فلما ودع المسلمين بكى- فقالوا له ما يبكيك يا عبد الله- قال و الله ما بي حب الدنيا و لا صبابة إليها- و لكني سمعت رسول الله ص‏ يقرأ- وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها- فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود قال الواقدي و كان زيد بن أرقم يحدث- قال كنت يتيما في حجر عبد الله بن رواحة- فلم أر والي يتيم كان خيرا لي منه- خرجت معه في وجهة إلى مؤتة- و صب بي و صببت به- فكان يردفني خلف رحله- فقال ذات ليلة و هو على راحلته بين شعبتي رحله-

إذا بلغتني و حملت رحلي
مسافة أربع بعد الحساء

فشأنك فانعمي و خلاك ذم‏
و لا أرجع إلى أهلي ورائي‏

و آب المسلمون و خلفوني
بأرض الشام مشتهر الثواء

و زودني الأقارب من دعاء
إلى الرحمن و انقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع نخل
و لا نخل أسافلها رواء

فلما سمعت منه هذا الشعر بكيت- فخفقني بالدرة- و قال و ما عليك يا لكع- أن يرزقني الله الشهادة فأستريح من الدنيا و نصبها- و همومها و أحزانها و أحداثها- و ترجع أنت بين شعبتي الرحل- . قال الواقدي و مضى المسلمون فنزلوا وادي القرى- فأقاموا به أياما و ساروا حتى نزلوا بمؤتة- و بلغهم أن هرقل ملك الروم قد نزل ماء من مياه البلقاء- في بكر و بهراء و لخم و جذام و غيرهم مائة ألف مقاتل- و عليهم رجل من بلي- فأقام المسلمون ليلتين ينظرون‏ في أمرهم- و قالوا نكتب إلى رسول الله ص فنخبره الخبر- فإما أن يردنا أو يزيدنا رجالا- فبينا الناس على ذلك من أمرهم- جاءهم عبد الله بن رواحة فشجعهم- و قال و الله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدة- و لا كثرة سلاح و لا كثرة خيل- إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به- انطلقوا فقاتلوا فقد و الله رأينا يوم بدر- و ما معنا إلا فرسان إنما هي إحدى الحسنيين- إما الظهور عليهم فذاك ما وعدنا الله و رسوله- و ليس لوعده خلف- و إما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان- فشجع الناس على قول ابن رواحة- .

قال الواقدي و روى أبو هريرة قال- شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين- رأينا ما لا قبل لنا به من العدد و السلاح- و الكراع و الديباج و الحرير و الذهب- فبرق بصري- فقال لي ثابت بن أرقم ما لك يا أبا هريرة- كأنك ترى جموعا كثيرة قلت نعم- قال لم تشهدنا ببدر إنا لم ننصر بالكثرة- . قال الواقدي فالتقى القوم- فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل حتى قتل- طعنوه بالرماح- ثم أخذه جعفر فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها- ثم قاتل حتى قتل- .

قال الواقدي قيل إنه ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين- فوقع أحد نصفيه في كرم هناك- فوجد فيه ثلاثون أو بضع و ثلاثون جرحا- . قال الواقدي و قد روى نافع عن ابن عمر- أنه وجد في بدن جعفر بن أبي طالب اثنتان و سبعون ضربة- و طعنة بالسيوف و الرماح- . قال البلاذري قطعت يداه- و لذلكقال رسول الله ص لقد أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة- و لذلك سمي الطيار- .

قال الواقدي- ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فنكل يسيرا- ثم حمل فقاتل‏ حتى قتل- فلما قتل انهزم المسلمون- أسوأ هزيمة كانت في كل وجه ثم تراجعوا- فأخذ اللواء ثابت بن أرقم- و جعل يصيح بالأنصار فثاب إليه منهم قليل- فقال لخالد بن الوليد خذ اللواء يا أبا سليمان- قال خالد لا بل خذه أنت فلك سن- و قد شهدت بدرا- قال ثابت خذه أيها الرجل- فو الله ما أخذته إلا لك- فأخذه خالد و حمل به ساعة- و جعل المشركون يحملون عليه حتى دهمه منهم بشر كثير- فانحاز بالمسلمين و انكشفوا راجعين- . قال الواقدي- و قد روى أن خالدا ثبت بالناس فلم ينهزموا- و الصحيح أن خالدا انهزم بالناس- .

قال الواقدي حدثني محمد بن صالح- عن عاصم بن عمر بن قتادة- أن النبي ص لما التقى الناس بمؤتة جلس على المنبر- و كشف له ما بينه و بين الشام- فهو ينظر إلى معركتهم- فقال أخذ الراية زيد بن حارثة- فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة- و كره إليه الموت و حبب إليه الدنيا- فقال الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين- تحبب إلي الدنيا- فمضى قدما حتى استشهد ثم صلى عليه- و قال استغفروا له فقد دخل الجنة و هو يسعى- ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب- فجاءه الشيطان فمناه الحياة- و كره إليه الموت و مناه الدنيا- فقال الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين- تتمنى الدنيا ثم مضى قدما حتى استشهد- فصلى عليه رسول الله ص و دعا له-ثم قال استغفروا لأخيكم فإنه شهيد قد دخل الجنة- فهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء- ثم قال أخذ الراية عبد الله بن رواحة- ثم دخل معترضا فشق ذلك على الأنصار- فقال رسول الله ص أصابته الجراح- قيل يا رسول الله فما اعتراضه- قال لما أصابته الجراح نكل- فعاتب نفسه فشجع فاستشهد- فدخل الجنة فسري عن قومه- .

وروى محمد بن إسحاق قال لما ذكر رسول الله ص زيدا و جعفرا- سكت عن عبد الله بن رواحة حتى تغيرت وجوه الأنصار- و ظنوا أنه قد كان من عبد الله بعض ما يكرهون- ثم قال أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل- حتى قتل شهيدا- ثم قال لقد رفعوا لي في الجنة- فيما يرى النائم على سرر من ذهب- فرأيت في سرير ابن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه- فقلت لم هذا فقيل لأنهما مضيا- و تردد هذا بعض التردد ثم مضى- .

قال و روى محمد بن إسحاق- أنه لما أخذ جعفر بن أبي طالب الراية- قاتل قتالا شديدا- حتى إذا لحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها- ثم قاتل القوم حتى قتل- فكان جعفر رضي الله عنه أول رجل عقر فرسه في الإسلام- . قال محمد بن إسحاق- و لما أخذ ابن رواحة الراية جعل يتردد بعض التردد- و يستقدم نفسه يستنزلها و قال-

 

أقسمت يا نفس لتنزلنه
طوعا و إلا سوف تكرهنه‏

ما لي أراك تكرهين الجنة
إذ أجلب الناس و شدوا الرنه‏

قد طالما قد كنت مطمئنه
هل أنت إلا نطفة في شنه‏

 ثم ارتجز أيضا فقال-

يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت‏

و ما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت‏

و إن تأخرت فقد شقيت‏

 ثم نزل عن فرسه فقاتل- فأتاه ابن عم له ببضعة من لحم- فقال اشدد بهذا صلبك- فأخذها من يده فانتهش منها نهشة- ثم سمع الحطمة في ناحية من الناس- فقال و أنت يا ابن رواحة في الدنيا- ثم ألقاها من يده و أخذ سيفه- فتقدم فقاتل حتى قتل- . قال الواقدي حدثني داود بن سنان- قال سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول- انكشف خالد بن الوليد يومئذ بالناس- حتى عيروا بالفرار و تشاءم الناس به- .

قال و روى أبو سعيد الخدري- قال أقبل خالد بالناس منهزمين- فلما سمع أهل المدينة بهم تلقوهم بالجرف- فجعلوا يحثون في وجوههم التراب- و يقولون يا فرار أ فررتم في سبيل الله- فقال رسول الله ص ليسوا بالفرار- و لكنهم كرار إن شاء الله- . قال الواقدي و قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة- ما لقي جيش بعثوا مبعثا- ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة لقوهم بالشر- حتى إن الرجل ينصرف إلى بيته و أهله- فيدق عليهم فيأبون أن يفتحوا له- يقولون ألا تقدمت مع أصحابك فقتلت- و جلس الكبراء منهم في بيوتهم استحياء من الناس- حتى أرسل النبي ص رجلا- يقول لهم أنتم الكرار في سبيل الله فخرجوا- .

قال الواقدي فحدثني مالك بن أبي الرجال عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس قالت أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر و أصحابه- فأتاني رسول الله ص- و قد منأت أربعين منا من أدم و عجنت عجيني- و أخذت بني فغسلت وجوههم و دهنتهم- فدخلت على‏ رسول الله ص- فقال يا أسماء أين بنو جعفر فجئت بهم إليه- فضمهم و شمهم ثم ذرفت عيناه فبكى- فقلت يا رسول الله لعله بلغك عن جعفر شي‏ء- قال نعم إنه قتل اليوم فقمت أصيح- و اجتمع إلى النساء- فجعل رسول الله ص يقول- يا أسماء لا تقولي هجرا و لا تضربي صدرا- ثم خرج حتى دخل على ابنته فاطمة رضي الله عنها- و هي تقول وا عماه- فقال على مثل جعفر فلتبك الباكية- ثم قال اصنعوا لآل جعفر طعاما- فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم -.

قال الواقدي و حدثني محمد بن مسلم عن يحيى بن أبي يعلى قال سمعت عبد الله بن جعفر يقول أنا أحفظ حين دخل النبي ص على أمي- فنعى إليها أبي- فأنظر إليه و هو يمسح على رأسي و رأس أخي- و عيناه تهراقان بالدمع حتى قطرت لحيته- ثم قال اللهم إن جعفرا قدم إلي أحسن الثواب- فاخلفه في ذريته- بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته- ثم قال يا أسماء أ لا أبشرك- قالت بلى بأبي و أمي- قال فإن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة- قالت بأبي و أمي فأعلم الناس ذلك- فقام رسول الله ص و أخذ بيدي- يمسح بيده رأسي حتى رقي على المنبر- و أجلسني أمامه على الدرجة السفلى- و إن الحزن ليعرف عليه- فتكلم فقال إن المرء كثير بأخيه و ابن عمه- ألا إن جعفرا قد استشهد- و قد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة- ثم نزل فدخل بيته و أدخلني- و أمر بطعام فصنع لنا- و أرسل إلى أخي فتغدينا عنده غداء طيبا- عمدت سلمى خادمته إلى شعير فطحنته- ثم نشفته ثم أنضجته و آدمته بزيت- و جعلت عليه فلفلا- فتغديت أنا و أخي معه- و أقمنا عنده ثلاثة أيام ندور معه في بيوت نسائه- ثم أرجعنا إلى بيتنا- و أتاني رسول الله ص بعد ذلك و أنا أساوم في شاة- فقال اللهم بارك له في صفقته- فو الله ما بعت شيئا و لا اشتريت إلا بورك فيه

فصل في ذكر بعض مناقب جعفر بن أبي طالب

روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين- أن كنية جعفر بن أبي طالب أبو المساكين- و قال و كان ثالث الإخوة من ولد أبي طالب- أكبرهم طالب و بعده عقيل و بعده جعفر و بعده علي- و كل واحد منهم أكبر من الآخر بعشر سنين- و علي أصغرهم سنا- و أمهم جميعا فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف- و هي أول هاشمية ولدت لهاشمي و فضلها كثير- و قربها من رسول الله ص- و تعظيمه لها معلوم عند أهل الحديث- . و روى أبو الفرج لجعفر رضي الله عنه فضل كثير- و قد ورد فيه حديث كثير-من ذلك أن رسول الله ص لما فتح خيبر- قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة- فالتزمه رسول الله ص و جعل يقبل بين عينيه- و يقول ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا- بقدوم جعفر أم بفتح خيبر- .

قال و قد روى خالد الحذاء- عن عكرمة عن أبي هريرة أنه قال- ما ركب المطايا و لا ركب الكور و لا انتعل- و لا احتذى النعال أحد بعد رسول الله ص- أفضل من جعفر بن أبي طالب- .

قال و قد روى عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ص خير الناس حمزة و جعفر و عليوقد روى جعفر بن محمد عن أبيه ع قال قال رسول الله ص خلق الناس من أشجار شتى- و خلقت أنا و جعفر من شجرة واحدة- أو قال من طينة واحدة قال و بالإسناد قال رسول الله ص لجعفر- أنت أشبهت خلقي و خلقي- . و قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب- كانت سن جعفر ع يوم قتل إحدى و أربعين سنة- .

قال أبو عمر و قد روى ابن المسيب أن رسول الله ص قال مثل لي جعفر و زيد و عبد الله في خيمة من در- كل واحد منهم على سرير- فرأيت زيدا و ابن رواحة في أعناقهما صدودا- و رأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود- فسألت فقيل لي- إنهما حين غشيهما الموت أعرضا و صدا بوجهيهما- و أما جعفر فلم يفعل -.

قال أبو عمر أيضا و روي عن الشعبي- قال سمعت عبد الله بن جعفر يقول- كنت إذا سألت عمي عليا ع شيئا و يمنعني- أقول له بحق جعفر فيعطيني- . وروى أبو عمر أيضا في حرف الزاي في باب زيد بن حارثة أن رسول الله ص لما أتاه قتل جعفر و زيد بمؤتة بكى- و قال أخواي و مؤنساي و محدثايو اعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها الرضي رحمة الله عليه- ملتقطة من كتابه ع- الذي كتبه جوابا عن كتاب معاوية النافذ إليه- مع أبي مسلم الخولاني- و قد ذكره أهل السيرة في كتبهم-

روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين- عن عمر بن سعد عن أبي ورقاء- قال جاء أبو مسلم الخولاني- في ناس من قراء أهل الشام إلى معاوية- قبل مسير أمير المؤمنين ع إلى صفين- فقالوا له يا معاوية علام تقاتل عليا- و ليس لك‏ مثل صحبته و لا هجرته- و لا قرابته و لا سابقته- فقال إني لا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته- و لا مثل هجرته و لا قرابته- و لكن خبروني عنكم- أ لستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما قالوا بلى- قال فليدفع إلينا قتلته لنقتلهم به- و لا قتال بيننا و بينه- قالا فاكتب إليه كتابا يأته به بعضنا- فكتب مع أبي مسلم الخولاني- من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب- سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإن الله اصطفى محمدا بعلمه- و جعله الأمين على وحيه- و الرسول إلى خلقه- و اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله تعالى بهم- فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام- فكان أفضلهم في الإسلام- و أنصحهم لله و رسوله الخليفة من بعده- ثم خليفة خليفته من بعد خليفته- ثم الثالث الخليفة المظلوم عثمان- فكلهم حسدت و على كلهم بغيت- عرفنا ذلك في نظرك الشزر و قولك الهجر- و تنفسك الصعداء و إبطائك عن الخلفاء- تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش- حتى تبايع و أنت كاره- ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك- لابن عمك عثمان- و كان أحقهم ألا تفعل ذلك في قرابته و صهره- فقطعت رحمه و قبحت محاسنه- و ألبت الناس عليه- و بطنت و ظهرت حتى ضربت إليه آباط الإبل- و قيدت إليه الإبل العراب- و حمل عليه السلاح في حرم رسول الله ص- فقتل معك في المحلة و أنت تسمع في داره الهائعة- لا تردع الظن و التهمة عن نفسك بقول و لا عمل- و أقسم قسما صادقا- لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه- ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا- و لمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به- من المجانبة لعثمان و البغي عليه- و أخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين- إيواؤك قتلة عثمان- فهم عضدك و أنصارك و يدك و بطانتك- و قد ذكر لي أنك تتنصل من دمه- فإن كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به- و نحن أسرع الناس إليك- و إلا فإنه ليس لك و لأصحابك إلا السيف- و الذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان- في الجبال و الرمال و البر و البحر- حتى يقتلهم الله أو لتلحقن أرواحنا بالله و السلام- .

قال نصر فلما قدم أبو مسلم على علي ع بهذا الكتاب- قام فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال أما بعد فإنك قد قمت بأمر وليته- و و الله ما أحب أنه لغيرك- إن أعطيت الحق من نفسك- إن عثمان قتل مسلما محرما مظلوما- فادفع إلينا قتلته و أنت أميرنا- فإن خالفك من الناس أحد كانت أيدينا لك ناصرة- و ألسنتنا لك شاهدة- و كنت ذا عذر و حجة- فقال له علي ع اغد علي غدا فخذ جواب كتابك فانصرف- ثم رجع من غد ليأخذ جواب كتابه- فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه قبل- فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملئوا المسجد- فنادوا كلنا قتلة عثمان- و أكثروا من النداء بذلك- و أذن لأبي مسلم فدخل- فدفع علي ع جواب كتاب معاوية- فقال أبو مسلم لقد رأيت قوما ما لك معهم أمر- قال و ما ذاك-

قال بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا- و اجتمعوا و لبسوا السلاح- و زعموا أنهم قتلة عثمان- فقال علي ع- و الله ما أردت أن أدفعهم إليكم طرفة عين قط- لقد ضربت هذا الأمر أنفه و عينه- فما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك و لا إلى غيرك- فخرج أبو مسلم بالكتاب و هو يقول الآن طاب الضراب‏ وكان جواب علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان- أما بعد فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك- تذكر فيه محمدا ص و ما أنعم الله به عليه- من الهدى و الوحي- فالحمد لله الذي صدقه الوعد و أيده بالنصر- و مكن له في البلاد- و أظهره على أهل العداوة و الشنئان- من قومه الذين وثبوا عليه و شنفوا له- و أظهروا تكذيبه و بارزوه بالعداوة- و ظاهروا على إخراجه و على إخراج أصحابه و أهله- و ألبوا عليه العرب و جادلوهم على حربه- و جهدوا في أمره كل الجهد و قلبوا له الأمور- حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون- و كان أشد الناس عليه تأليبا و تحريضا أسرته- و الأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصم الله- و ذكرت أن الله تعالى اجتبى له من المسلمين أعوانا- أيده الله بهم- فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام- فكان أفضلهم زعمت في الإسلام- و أنصحهم لله و لرسوله الخليفة و خليفة الخليفة- و لعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم- و إن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد- فرحمهما الله و جزاهما أحسن ما عملا- و ذكرت أن عثمان كان في الفضل تاليا- فإن يك عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه- و إن يك مسيئا فسيلقى ربا غفورا- لا يتعاظمه ذنب أن يغفره- و لعمري إني لأرجو إذا أعطى الله الناس- على قدر فضائلهم في الإسلام و نصيحتهم لله و لرسوله- أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر- إن محمدا ص لما دعا إلى الإيمان بالله و التوحيد له- كنا أهل البيت أول من آمن به و صدقه فيما جاء- فبتنا أحوالا كاملة مجرمة تامة- و ما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا- فأراد قومنا قتل نبينا و اجتياح أصلنا- و هموا بنا الهموم و فعلوا بنا الأفاعيل- و منعونا الميرة و أمسكوا عنا العذب و أحلسونا الخوف- و جعلوا علينا الأرصاد و العيون- و اضطرونا إلى جبل وعر و أوقدوا لنا نار الحرب- و كتبوا بينهم كتابا- لا يؤاكلوننا و لا يشاربوننا- و لا يناكحوننا و لا يبايعوننا- و لا نأمن منهم حتى ندفع إليهم محمدا فيقتلوه و يمثلوا به- فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم- فعزم الله لنا على منعه و الذب عن حوزته- و الرمي من وراء حرمته- و القيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل و النهار- فمؤمننا يرجو بذلك الثواب- و كافرنا يحامي عن الأصل- و أما من أسلم من قريش فإنهم مما نحن فيه خلاء- منهم الحليف الممنوع- و منهم ذو العشيرة التي تدافع عنه- فلا يبغيه أحد مثل ما بغانا به قومنا من التلف- فهم من القتل بمكان نجوة و أمن- فكان ذلك ما شاء الله أن يكون- ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة- و أذن له بعد ذلك في قتال المشركين- فكان إذا احمر البأس- و دعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا- فوقى أصحابه بهم حد الأسنة و السيوف- فقتل عبيدة يوم بدر- و حمزة يوم أحد و جعفر و زيد يوم مؤتة- و أراد من لو شئت ذكرت اسمه- مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي ص غير مرة- إلا أن آجالهم عجلت و منيته أخرت- و الله ولى الإحسان إليهم و المنة عليهم- بما أسلفوا من أمر الصالحات- فما سمعت بأحد- و لا رأيته هو أنصح في طاعة رسوله و لا لنبيه- و لا أصبر على اللأواء و السراء و الضراء و حين البأس- و مواطن المكروه مع النبي ص- من هؤلاء النفر الذين سميت لك- و في المهاجرين خير كثير يعرف- جزاهم الله خيرا بأحسن‏ أعمالهم- و ذكرت حسدي الخلفاء- و إبطائي عنهم و بغيي عليهم- فأما البغي فمعاذ الله أن يكون- و أما الإبطاء عنهم و الكراهية لأمرهم- فلست أعتذر إلى الناس من ذلك- إن الله تعالى ذكره لما قبض نبيه ص- قالت قريش منا أمير و قالت الأنصار منا أمير- فقالت قريش منا محمد نحن أحق بالأمر- فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية و السلطان- فإذا استحقوها بمحمد ص دون الأنصار- فإن أولى الناس بمحمد أحق به منهم- و إلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا- فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا- أو الأنصار ظلموا- بل عرفت إن حقي هو المأخوذ- و قد تركته لهم تجاوزا لله عنهم- و أما ما ذكرت من أمر عثمان و قطيعتي رحمه و تأليبي عليه- فإن عثمان عمل ما قد بلغك- فصنع الناس به ما رأيت- و إنك لتعلم أني قد كنت في عزلة عنه- إلا أن تتجني فتجن ما بدا لك- و أما ما ذكرت من أمر قتله عثمان- فإني نظرت في هذا الأمر و ضربت أنفه و عينه- فلم أر دفعهم إليك و لا إلى غيرك- و لعمري لئن لم تنزع عن غيك و شقاقك- لتعرفنهم عن قليل يطلبونك- لا يكلفونك أن تطلبهم في بر و لا بحر و لا سهل و لا جبل- و قد أتاني أبوك حين ولى الناس أبا بكر- فقال أنت أحق بمقام محمد- و أولى الناس بهذا الأمر- و أنا زعيم لك بذلك على من خالف- ابسط يدك أبايعك فلم أفعل- و أنت تعلم أن أباك قد قال ذلك و أراده- حتى كنت أنا الذي أبيت- لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإسلام- فأبوك كان أعرف بحقي منك- فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تصب رشدك- و إن لم تفعل فسيغني الله عنك و السلام

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

نامه 9 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی) (قصة غزوة أحد)جز الثالث

قصة غزوة أحد

الفصل الرابع في شرح قصة غزاة أحد- و نحن نذكر ذلك من كتاب الواقدي رحمه الله- على عاداتنا في ذكر غزاة بدر- و نضيف إليه من الزيادات- التي ذكرها ابن إسحاق و البلاذري- ما يقتضي الحال ذكره- . قال الواقدي- لما رجع من حضر بدرا من المشركين إلى مكة- وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب- من الشام موقوفة في دار الندوة- و كذلك كانوا يصنعون- فلم يحركها أبو سفيان و لم يفرقها لغيبة أهل العير- و مشت أشراف قريش إلى أبي سفيان- الأسود بن عبد المطلب بن أسد- و جبير بن مطعم و صفوان بن أمية- و عكرمة بن أبي جهل و الحارث بن هشام- و عبد الله بن أبي ربيعة و حويطب بن عبد العزى- فقالوا يا أبا سفيان-

انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبستها- فقد عرفت أنها أموال أهل مكة- و لطيمة قريش- و هم طيبوا الأنفس- يجهزون بهذه العير جيشا كثيفا إلى محمد- فقدترى من قتل من آبائنا و أبنائنا و عشائرنا- فقال أبو سفيان- و قد طابت أنفس قريش بذلك قالوا نعم- قال فأنا أول من أجاب إلى ذلك- و بنو عبد مناف معي- فأنا و الله الموتور و الثائر- و قد قتل ابني حنظلة ببدر و أشراف قومي- فلم تزل العير موقوفة حتى تجهزوا للخروج- فباعوها فصارت ذهبا عينا- و يقال إنما قالوا يا أبا سفيان- بع العير ثم اعزل أرباحها- فكانت العير ألف بعير- و كان المال خمسين ألف دينار- و كانوا يربحون في تجاراتهم للدينار دينارا- و كان متجرهم من الشام غزة- لا يعدونها إلى غيرها- و كان أبو سفيان قد حبس عير بني زهرة- لأنهم رجعوا من طريق بدر- و سلم ما كان لمخرمة بن نوفل و لبني أبيه- و بني عبد مناف بن زهرة- فأبى مخرمة أن يقبل عيره- حتى يسلم إلى بني زهرة جميعا- و تكلم الأخنس فقال- و ما لعير بني زهرة من بين عيرات قريش- قال أبو سفيان لأنهم رجعوا عن قريش- قال الأخنس أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا- فقد أحرزنا العير- لا تخرجوا في غير شي‏ء فرجعنا- فأخذت بنو زهرة عيرها- و أخذ أقوام من أهل مكة- أهل ضعف لا عشائر لهم و لا منعة- كل ما كان لهم في العير- .

قال الواقدي- و هذا يبين أنه إنما أخرج القوم أرباح العير- قال و فيهم أنزل- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ- لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الآية- . قال فلما أجمعوا على المسير- قالوا نسير في العرب فنستنصرهم- فإن عبد مناة غير متخلفين عنا- هم أوصل العرب لأرحامنا- و من اتبعنا من الأحابيش- فأجمعوا على أن يبعثوا أربعة من قريش- يسيرون في العرب يدعونهم إلى نصرهم- فبعثوا عمرو بن العاص و هبيرة بن وهب- و ابن الزبعرى و أبا عزة الجمحي- فأبى أبو عزة أن يسير- و قال من‏ علي محمد يوم بدر- و حلفت ألا أظاهر عليه عدوا أبدا- فمشى إليه صفوان بن أمية فقال اخرج- فأبى و قال عاهدت محمدا يوم بدر- ألا أظاهر عليه عدوا أبدا- و أنا أفي له بما عاهدته عليه- من علي و لم يمن على غيري- حتى قتله أو أخذ منه الفداء- فقال صفوان اخرج معنا- فإن تسلم أعطك من المال ما شئت- و إن تقتل تكن عيالك مع عيالي- فأبى أبو عزة حتى كان الغد- و انصرف عنه صفوان بن أمية آيسا منه- فلما كان الغد جاءه صفوان و جبير بن مطعم- فقال له صفوان الكلام الأول فأبى- فقال جبير ما كنت أظن أني أعيش- حتى يمشي إليك أبو وهب في أمر تأبى عليه- فأحفظه فقال أنا أخرج- قال فخرج إلى العرب يجمعها و يقول-

إيه بني عبد مناة الرزام
أنتم حماة و أبوكم حام‏

لا تسلموني لا يحل إسلام‏
لا يعدوني نصركم بعد العام‏

و خرج النفر مع أبي عزة فألبوا العرب و جمعوا- و بلغوا ثقيفا فأوعبوا- فلما أجمعوا المسير- و تألب من كان معهم من العرب و حضروا- و اختلفت قريش في إخراج الظعن معهم- قال صفوان بن أمية- اخرجوا بالظعن فأنا أول من فعل- فإنه أقمن أن يحفظنكم- و يذكرنكم قتلى بدر فإن العهد حديث- و نحن قوم موتورون مستميتون- لا نريد أن نرجع إلى ديارنا- حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه- فقال عكرمة بن أبي جهل- أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه- و قال عمرو بن العاص مثل ذلك- فمشى في ذلك‏ نوفل بن معاوية الديلي- فقال يا معشر قريش هذا ليس برأي- أن تعرضوا حرمكم لعدوكم- و لا آمن أن تكون الدبرة لهم فتفتضحوا في نسائكم- فقال صفوان لا كان غير هذا أبدا- فجاء نوفل إلى أبي سفيان بن حرب- فقال له تلك المقالة فصاحت هند بنت عتبة- إنك و الله سلمت يوم بدر- فرجعت إلى نسائك نعم نخرج فنشهد القتال- فقد ردت القيان من الجحفة في سفرهم إلى بدر- فقتلت الأحبة يومئذ- فقال أبو سفيان لست أخالف قريشا- أنا رجل منها ما فعلت فعلت- فخرجوا بالظعن فخرج أبو سفيان بن حرب بامرأتين- هند بنت عتبة بن ربيعة- و أميمة بنت سعد بن وهب بن أشيم بن كنانة- و خرج صفوان بن أمية بامرأتين- برزة بنت مسعود الثقفي- و هي أم عبد الله الأكبر- و البغوم بنت المعذل من كنانة- و هي أم عبد الله الأصغر- و خرج طلحة بن أبي طلحة- بامرأته سلافة بنت سعد بن شهيد و هي من الأوس- و هي أم بنيه مسافع و الحارث- و كلاب و الجلاس بني طلحة بن أبي طلحة- و خرج عكرمة بن أبي جهل- بامرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام- و خرج الحارث بن هشام بامرأته- فاطمة بنت الوليد بن المغيرة- و خرج عمرو بن العاص- بامرأته هند بنت منبه بن الحجاج- و هي أم عبد الله بن عمرو بن العاص- و قال محمد بن إسحاق اسمها ريطة- و خرجت خناس بنت مالك بن المضرب- إحدى نساء بني مالك بن حسل- مع ابنها أبي عزيز بن عمير- أخي مصعب بن عمير من بني عبد الدار- و خرج الحارث بن سفيان بن عبد الأسد بامرأته- رملة بنت طارق بن علقمة الكنانية- و خرج كنانة بن علي بن ربيعة- بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بامرأته- أم حكيم بنت طارق- و خرج سفيان بن عويف بامرأته- قتيلة بنت عمرو بن هلال- و خرج النعمان بن عمرو- و جابر مسك الذئب أخوه- بأمهماالدغينة- و خرج غراب بن سفيان بن عويف بامرأته- عمرة بنت الحارث بن علقمة الكنانية- و هي التي رفعت لواء قريش حين سقطت- حتى تراجعت قريش إلى لوائها- و فيها يقول حسان-

و لو لا لواء الحارثية أصبحوا يباعون
في الأسواق بالثمن البخس‏

قالوا و خرج سفيان بن عويف بعشرة من ولده- و حشدت بنو كنانة- و كانت الألوية يوم خرجوا من مكة ثلاثة- عقدوها في دار الندوة- لواء يحمله سفيان بن عويف لبني كنانة- و لواء الأحابيش يحمله رجل منهم- و لواء لقريش يحمله طلحة بن أبي طلحة- . قال الواقدي- و يقال خرجت قريش و لفها كلهم- من كنانة و الأحابيش و غيرهم على لواء واحد- يحمله طلحة بن أبي طلحة- و هو الأثبت عندنا- . قال و خرجت قريش- و هم ثلاثة آلاف بمن ضوى إليها- و كان فيهم من ثقيف مائة رجل- و خرجوا بعدة و سلاح كثير- و قادوا مائتي فرس- و كان فيهم سبعمائة دراع و ثلاثة آلاف بعير- فلما أجمعوا على المسير- كتب العباس بن عبد المطلب كتابا و ختمه- و استأجر رجلا من بني غفار- و شرط عليه أن يسير ثلاثا إلى رسول الله ص-

يخبره أن قريشا قد اجتمعت للمسير إليك- فما كنت صانعا إذا حلوا بك فاصنعه- و قد وجهوا و هم ثلاثة آلاف- و قادوا مائتي فرس و فيهم سبعمائة دراع- و ثلاثة آلاف بعير و قد أوعبوا من السلاح- فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله ص بالمدينة- وجده بقباء- فخرج حتى وجد رسول الله ص على باب مسجد قباء- يركب‏حماره فدفع إليه الكتاب- فقرأه عليه أبي بن كعب و استكتم أبيا ما فيه- و دخل منزل سعد بن الربيع- فقال أ في البيت أحد- فقال سعد لا فتكلم بحاجتك- فأخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب- فجعل سعد يقول يا رسول الله- و الله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير- و أرجعت يهود المدينة و المنافقون- و قالوا ما جاء محمدا شي‏ء يحبه- و انصرف رسول الله ص إلى المدينة- و قد استكتم سعد بن الربيع الخبر- فلما خرج رسول الله ص من منزله- خرجت امرأة سعد بن الربيع إليه- فقالت ما قال لك رسول الله ص- قال ما لك و لذاك لا أم لك-

قالت كنت أستمع عليكم- و أخبرت سعدا الخبر فاسترجع سعد- و قال لا أراك تستمعين علينا- و أنا أقول لرسول الله ص تكلم بحاجتك- ثم أخذ بجمع لمتها ثم خرج يعدو بها- حتى أدرك رسول الله ص بالجسر و قد بلحت- فقال يا رسول الله- إن امرأتي سألتني عما قلت فكتمتها- فقالت قد سمعت قول رسول الله ص- ثم جاءت بالحديث كله- فخشيت يا رسول الله أن يظهر من ذلك شي‏ء- فتظن أني أفشيت سرك- فقال ص خل سبيلها- و شاع الخبر بين الناس بمسير قريش- و قدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفر من خزاعة- ساروا من مكة أربعا- فوافوا قريشا و قد عسكروا بذي طوى- فأخبروا رسول الله ص الخبر- ثم انصرفوا و لقوا قريشا ببطن رابغ- و هو أربع ليال من المدينة- فنكبوا عن قريش- .

قال الواقدي- فلما أصبح أبو سفيان بالأبواء- أخبر أن عمرو بن سالم و أصحابه- راحوا أمس ممسين إلى مكة- فقال أبو سفيان أحلف بالله أنهم جاءوا محمدا- فخبروه بمسيرنا و عددنا و حذروه منا- فهم الآن يلزمون صياصيهم- فما أرانا نصيب منهم شيئا في وجهنا- فقال صفوان بن أمية- إن لم يصحروا لنا- عمدنا إلى نخل الأوس و الخزرج فقطعناه-فتركناهم و لا أموال لهم فلا يختارونها أبدا- و إن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم- و سلاحنا أكثر من سلاحهم- و لنا خيل و لا خيل معهم- و نحن نقاتل على وتر عندهم و لا وتر لهم عندنا قال الواقدي و كان أبو عامر الفاسق- قد خرج في خمسين رجلا من الأوس- حتى قدم بهم مكة- حين قدم النبي ص- يحرضها و يعلمها أنها على الحق- و ما جاء به محمد باطل- فسارت قريش إلى بدر و لم يسر معها- فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها- و كان يقول لقريش- إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم اثنان- و هؤلاء معي نفر منهم خمسون رجلا- فصدقوه بما قال و طمعوا في نصره- .

قال الواقدي- و خرج النساء معهن الدفوف- يحرضن الرجال و يذكرنهم قتلى بدر في كل منزل- و جعلت قريش تنزل كل منهل- ينحرون ما نحروا من الجزر مما كانوا جمعوا من العين- و يتقوون به في مسيرهم- و يأكلون من أزوادهم مما جمعوا من الأموال- .

قال الواقدي- و كانت قريش لما مرت بالأبواء- قالت إنكم قد خرجتم بالظعن معكم- و نحن نخاف على نسائنا فتعالوا ننبش قبر أم محمد- فإن النساء عورة- فإن يصب من نسائكم أحدا قلتم هذه رمة أمك- فإن كان برا بأمه كما يزعم- فلعمري لنفادينكم برمة أمه- و إن لم يظفر بأحد من نسائكم- فلعمري ليفدين رمة أمه- بمال كثير إن كان بها برا- فاستشار أبو سفيان بن حرب- أهل الرأي من قريش في ذلك- فقالوا لا تذكر من هذا شيئا- فلو فعلنا نبشت بنو بكر و خزاعة موتانا- . قال الواقدي- و كانت قريش بذي الحليفة- يوم الخميس صبيحة عشر من مخرجهم من مكة- و ذلك لخمس ليال مضين من شوال- على رأس اثنين و ثلاثين شهرا من الهجرة- فلماأصبحوا بذي الحليفة- خرج فرسان منهم فأنزلوهم الوطاء- و بعث النبي ص عينين له- آنسا و مؤنسا ابني فضالة ليلة الخميس- فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم- حتى نزلوا الوطاء- و أتيا رسول الله ص فأخبراه- و كان المسلمون قد ازدرعوا العرض- و العرض ما بين الوطاء بأحد إلى الجرف إلى العرصة- عرصة البقل اليوم- و كان أهله بنو سلمة و حارثة و ظفر و عبد الأشهل- و كان الماء يومئذ بالجرف نشطة- لا يرمم سابق الناضح مجلسا واحدا- ينفتل الجمل في ساعته- حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة- التي حفرها معاوية بن أبي سفيان- و كان المسلمون قد أدخلوا آلة زرعهم- ليلة الخميس المدينة- فقدم المشركون على زرعهم- فخلوا فيه إبلهم و خيولهم- و كان لأسيد بن حضير في العرض عشرون ناضحا تسقي شعيرا- و كان المسلمون قد حذروا- على جمالهم و عمالهم و آلة حرثهم- و كان المشركون يرعون يوم الخميس- فلما أمسوا جمعوا الإبل و قصلوا عليها القصيل- و قصلوا على خيولهم ليلة الجمعة- فلما أصبحوا يوم الجمعة خلوا ظهرهم في الزرع و خيلهم- حتى تركوا العرض ليس به خضراء- .

قال الواقدي فلما نزلوا و حلوا العقد و اطمأنوا- بعث رسول الله ص الحباب بن المنذر بن الجموح إلى القوم- فدخل فيهم و حزر و نظر إلى جميع ما يريد- و كان قد بعثه سرا و قال له- إذا رجعت فلا تخبرني بين أحد من المسلمين- إلا أن ترى في القوم قلة- فرجع إليه فأخبره خاليا- و قال له رأيت عددا- حزرتهم ثلاث آلاف يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا- و الخيل مائتا فرس- و رأيت دروعا ظاهرة حزرتها سبعمائة درع- قال هل رأيت ظعنا- قال نعم رأيت النساء معهن الدفاف- و الأكبار و هي الطبول- فقال رسول الله ص- أردن أن يحرضن القوم و يذكرنهم قتلى بدر- هكذاجاءني خبرهم- لا تذكر من شأنهم حرفا- حسبنا الله و نعم الوكيل- اللهم بك أحول و بك أصول- .

قال الواقدي- و خرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة- حتى إذا كان بأدنى العرض إذا طليعة خيل المشركين- عشرة أفراس ركضوا في أثره- فوقف لهم على نشز من الحرة- فرشقهم بالنبل مرة- و بالحجارة أخرى حتى انكشفوا عنه- فلما ولوا جاء إلى مزرعته بأدنى العرض- فاستخرج سيفا كان له- و درع حديد كان له دفنا في ناحية المزرعة- و خرج بهما يعدو حتى أتى بني عبد الأشهل- فخبر قومه بما لقي- .

قال الواقدي- و كان مقدم قريش يوم الخميس لخمس خلون من شوال- و كانت الوقعة يوم السبت لسبع خلون من شوال- و باتت وجوه الأوس و الخزرج- سعد بن معاذ و أسيد بن حضير و سعد بن عبادة- في عدة منهم ليلة الجمعة- عليهم السلاح في المسجد بباب النبي ص- خوفا من تبييت المشركين- و حرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا- و رأى رسول الله ص رؤيا ليلة الجمعة- فلما أصبح و اجتمع المسلمون خطبهم- .

قال الواقدي فحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال ظهر النبي ص المنبر- فحمد الله و أثنى عليه ثم قال- أيها الناس إني رأيت في منامي رؤيا- رأيت كأني في درع حصينة- و رأيت كأن سيفي ذا الفقار انفصم من عند ظبته- و رأيت بقرا تذبح و رأيت كأني مردف كبشا- فقال الناس يا رسول الله فما أولتها- قال أما الدرع الحصينة فالمدينة فامكثوا فيها- و أماانفصام سيفي عند ظبته فمصيبة في نفسي- و أما البقر المذبح فقتلى في أصحابي- و أما أني مردف كبشا- فكبش الكتيبة نقتله إن شاء اللهقال الواقدي و روي عن ابن عباس أن رسول الله ص قال أما انفصام سيفي فقتل رجل من أهل بيتي

قال الواقدي- و روى المسور بن مخرمة قال قال النبي ص و رأيت في سيفي فلا فكرهته- هو الذي أصاب وجهه عقال الواقدي و قال النبي ص أشيروا علي- و رأى ص ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا- و رسول الله ص يحب أن يوافق على مثل ما رأى- و على ما عبر عليه الرؤيا- فقام عبد الله بن أبي فقال يا رسول الله- كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة- و نجعل النساء و الذراري في هذه الصياصي- و نجعل معهم الحجارة- و الله لربما مكث الولدان شهرا ينقلون الحجارة- إعدادا لعدونا- و نشبك المدينة بالبنيان- فتكون كالحصن من كل ناحية- و ترمى المرأة و الصبي من فوق الصياصي و الآطام- و نقاتل بأسيافنا في السكك- يا رسول الله إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط- و ما خرجنا إلى عدو قط منها إلا أصاب منا- و ما دخل علينا قط إلا أصبناه- فدعهم يا رسول الله- فإنهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس- و إن رجعوا رجعوا خاسرين مغلوبين لم ينالوا خيرا- يا رسول الله أطعني في هذا الأمر-

و اعلم أني ورثت هذا الرأي- من أكابر قومي و أهل الرأي منهم- فهم كانوا أهل الحرب و التجربة- . قال الواقدي فكان رأي رسول الله ص مع رأي ابن أبي- و كان ذلك رأي الأكابر من أصحاب رسول الله ص- من المهاجرين و الأنصار-فقال رسول الله ص امكثوا في المدينة- و اجعلوا النساء و الذراري في الآطام- فإن دخل علينا قاتلناهم في الأزقة- فنحن أعلم بها منهم- و رموا من فوق الصياصي و الآطام- و كانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان- من كل ناحية فهي كالحصن- فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا- و طلبوا من رسول الله الخروج إلى عدوهم- و رغبوا في الشهادة و أحبوا لقاء العدو- و قالوا اخرج بنا إلى عدونا- و قال رجال من أهل النبه و أهل السن- منهم حمزة بن عبد المطلب و سعد بن عبادة- و النعمان بن مالك بن ثعلبة- و غيرهم من الأوس و الخزرج- إنا نخشى يا رسول الله- أن يظن عدونا- أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم- فيكون هذا جرأة منهم علينا- و قد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل- فظفرك الله بهم- و نحن اليوم بشر كثير- و كنا نتمنى هذا اليوم و ندعو الله به- فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا هذه- و رسول الله ص لما رأى من إلحاحهم كاره- و قد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم- يتساومون كأنهم الفحول- و قال مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري- يا رسول الله نحن و الله بين إحدى الحسنيين- إما يظفرنا الله بهم فهذا الذي نريد- فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر- فلا يبقى منهم إلا الشريد- و الأخرى يا رسول الله يرزقنا الله الشهادة- و الله يا رسول الله ما نبالي أيهما كان- إن كلا لفيه الخير- فلم يبلغنا أن النبي ص رجع إليه قولا و سكت- و قال حمزة بن عبد المطلب- و الذي أنزل عليه الكتاب لا أطعم اليوم طعاما- حتى أجالدهم بسيفي خارجا من المدينة- و كان يقال كان حمزة يوم الجمعة صائما و يوم السبت- فلاقاهم و هو صائم و قال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بني سالم- يا رسول الله أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك- و أني منهم فلم تحرمنا الجنة- فو الله الذي لا إله إلا هولأدخلنها-

قال رسول الله بم- قال إني أحب الله و رسوله و لا أفر يوم الزحف- فقال صدقت فاستشهد يومئذ- . و قال إياس بن أوس بن عتيك- يا رسول الله نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبح- نرجو يا رسول الله أن نذبح في القوم و يذبح فينا- فنصير إلى الجنة و يصيرون إلى النار- مع أني يا رسول الله- لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها- فتقول حصرنا محمد في صياصي يثرب و آطامها- فتكون هذه جرأة لقريش- و قد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن عرضنا فلم ندرع- و قد كنا يا رسول في جاهليتنا و العرب يأتوننا- فلا يطمعون بهذا منا- حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا- فنحن اليوم أحق إذ أمدنا الله بك- و عرفنا مصيرنا لا نحصر أنفسنا في بيوتنا- .

و قام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال يا رسول الله- إن قريشا مكثت حولا تجمع الجموع- و تستجلب العرب في بواديها و من اتبعها من أحابيشها- ثم جاءونا قد قادوا الخيل- و اعتلوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا- فيحصروننا في بيوتنا و صياصينا- ثم يرجعون وافرين لم يكلموا- فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا- و يصيبوا أطلالنا و يضعوا العيون و الأرصاد علينا- مع ما قد صنعوا بحروثنا- و يجترئ علينا العرب حولنا حتى يطمعوا فينا- إذا رأونا لم نخرج إليهم- فنذبهم عن حريمنا- و عسى الله أن يظفرنا بهم- فتلك عادة الله عندنا أو تكون الأخرى فهي الشهادة- لقد أخطأتني وقعة بدر و قد كنت عليها حريصا- لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج- فخرج سهمه فرزق الشهادة- و قد كنت حريصا على الشهادة- و قد رأيت ابني البارحة في النوم- في أحسن صوره يسرح في ثمار الجنة و أنهارها- و هو يقول الحق بنا ترافقنا في الجنة- فقد وجدت ما وعدني ربي حقا- و قد و الله يا رسول الله- أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة- و قد كبرت سني و دق عظمي- و أحببتلقاء ربي- فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة- و مرافقة سعد في الجنة- فدعا له رسول الله بذلك فقتل بأحد شهيدا- .

قال أنس بن قتادة- يا رسول الله هي إحدى الحسنيين- إما الشهادة و إما الغنيمة و الظفر بقتلهم- فقال رسول الله ص إني أخاف عليكم الهزيمة- . فلما أبوا إلا الخروج و الجهاد- صلى رسول الله يوم الجمعة بالناس ثم وعظهم- و أمرهم بالجد و الاجتهاد- و أخبرهم أن لهم الصبر ما صبروا- ففرح الناس حيث أعلمهم رسول الله ص- بالشخوص إلى عدوهم- و كره ذلك المخرج بشر كثير من أصحاب رسول الله- و أمرهم بالتهيؤ لعدوهم- ثم صلى العصر بالناس و قد حشد الناس- و حضر أهل العوالي و رفعوا النساء إلى الآطام- فحضرت بنو عمرو بن عوف بلفها- و النبيت و لفها و تلبسوا السلاح- فدخل رسول الله ص بيته- و دخل معه أبو بكر و عمر فعمماه و لبساه- و صف الناس له ما بين حجرته إلى منبره- ينتظرون خروجه- فجاءهم سعد بن معاذ و أسيد بن حضير- فقالا لهم قلتم لرسول الله ما قلتم- و استكرهتموه على الخروج- و الأمر ينزل عليه من السماء- فردوا الأمر إليه فما أمركم فافعلوه- و ما رأيتم فيه له هوى أو أدبا فأطيعوه- فبينا القوم على ذلك من الأمر- و بعض القوم يقول القول ما قال سعد- و بعضهم على البصيرة على الشخوص- و بعضهم للخروج كاره- إذ خرج رسول الله ص قد لبس لأمته- و قد لبس الدرع فأظهرها- و حزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم- كانت بعد عند آل أبي رافع مولى رسول الله ص- و اعتم و تقلد السيف- فلما خرج رسول الله ص ندموا جميعا على ما صنعوا- و قال الذين يلحون على رسول الله ص- ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك- و ما كان لنا أن نستكرهك- و الأمر إلى الله ثم إليك- فقال قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم- و لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها- حتى يحكم الله بينه و بين أعدائه- قال و كانت الأنبياء قبله- إذا لبس النبي لأمته لم يضعها- حتى يحكم الله بينه و بين أعدائه- ثم قال لهم انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه- امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم- .

قلت فمن تأمل أحوال المسلمين في هذه الغزاة- من فشلهم و خورهم و اختلافهم- في الخروج من المدينة و المقام بها- و كراهة النبي ص للخروج- ثم خروجه على مضض- ثم ندم القوم الذين أشاروا بالخروج- ثم انخزال طائفة كثيرة من الجيش عن الحرب- و رجوعهم إلى المدينة- علم أنه لا انتصار لهم على العدو أصلا- فإن النصر معروف بالعزم و الجد- و البصيرة في الحرب و اتفاق الكلمة- و من تأمل أيضا هذه الأحوال- علم أنها ضد الأحوال التي كانت في غزاة بدر- و أن أحوال قريش لما خرجت إلى بدر- كانت مماثلة لأحوال المسلمين لما خرجوا إلى أحد- و لذلك كانت الدبرة في بدر على قريش- .

قال الواقدي- و كان مالك بن عمرو النجاري مات يوم الجمعة- فلما دخل رسول الله ص فلبس لأمته و خرج- و هو موضوع عند موضع الجنائز صلى عليه- ثم دعا بدابته فركب إلى أحد- . قال الواقدي- و جاء جعيل بن سراقة إلى النبي ص- و هو متوجه إلى أحد- فقال يا رسول الله قيل لي إنك تقتل غدا- و هو يتنفس مكروبا- فضرب النبي ص بيده إلى صدره- و قال أ ليس الدهر كله غدا- قال ثم دعا بثلاثة أرماح فعقد ثلاثة ألوية- فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير- و دفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح- و يقال إلى سعد بن عبادة- و دفع لواء المهاجرين‏ إلى علي بن أبي طالب ع- و يقال إلى مصعب بن عمير- ثم دعا بفرسه فركبه- و تقلد القوس و أخذ بيده قناة- زج الرمح يومئذ من شبه- و المسلمون متلبسون السلاح- قد أظهروا الدروع فهم مائة دارع- فلما ركب ص خرج السعدان أمامه يعدوان- سعد بن معاذ و سعد بن عبادة- كل واحد منهما دارع- و الناس عن يمينه و شماله حتى سلك على البدائع- ثم زقاق الحسى حتى أتى الشيخين- و هما أطمان كانا في الجاهلية- فيهما شيخ أعمى و عجوز عمياء يتحدثان- فسمي الأطمان الشيخين- فلما انتهى إلى رأس الثنية- التفت فنظر إلى كتيبة خشناء لها زجل خلفه- فقال ما هذه قال هذه حلفاء ابن أبي من اليهود-فقال رسول الله ص لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك- و مضى رسول الله ص و عرض عسكره بالشيخين- فعرض عليه غلمان- منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب و زيد بن ثابت- و أسامة بن زيد و النعمان بن بشير- و زيد بن أرقم و البراء بن عازب- و أسيد بن ظهير و عرابة بن أوس- و أبو سعيد الخدري و سمرة بن جندب- و رافع بن خديج- .

قال الواقدي- فردهم رسول الله ص- قال رافع بن خديج فقال ظهير بن رافع- يا رسول الله إنه رام يعينني- قال و جعلت أتطاول و علي خفان لي- فأجازني رسول الله ص- فلما أجازني قال سمرة بن جندب- لمري بن سنان الحارثي و هو زوج أمه- يا أبيه أجاز رسول الله ص رافع بن خديج- و ردني و أنا أصرع رافعا- فقال مري يا رسول الله رددت ابني- و أجزت رافع بن خديج و ابني يصرعه- فقال رسول الله ص تصارعا- فصرع سمرة رافعا فأجازه رسول الله ص قال الواقدي- و أقبل ابن أبي فنزل ناحية العسكر- فجعل حلفاؤه و من معه من المنافقين يقولون لابن أبي- أشرت عليه بالرأي- و نصحته و أخبرته أن هذا رأي من‏ مضى من آبائك- و كان ذلك رأيه مع رأيك- فأبى أن يقبله و أطاع هؤلاء الغلمان الذين معه- قال فصادفوا من ابن أبي نفاقا و غشا- فبات رسول الله ص بالشيخين- و بات ابن أبي في أصحابه- و فرغ رسول الله ص من عرض من عرض- و غابت الشمس فأذن بلال بالمغرب- فصلى رسول الله ص بأصحابه- ثم أذن بالعشاء فصلى رسول الله ص بأصحابه- و رسول الله ص نازل في بني النجار- و استعمل على الحرس محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطيفون بالعسكر- حتى ادلج رسول الله ص- و كان المشركون قد رأوا رسول الله ص حيث ادلج- و نزل بالشيخين فجمعوا خيلهم و ظهرهم- و استعملوا على حرسهم عكرمة بن أبي جهل- في خيل من المشركين- و باتت صاهلة خيلهم لا تهدأ- تدنو طلائعهم حتى تلصق بالحرة- فلا تصعد فيها حتى ترجع خيلهم- و يهابون موضع الحرة و محمد بن مسلمة- .

قال الواقدي- و قد كان رسول الله ص قال حين صلى العشاء- من يحفظنا الليلة- فقال رجل أنا يا رسول الله- فقال من أنت قال ذكوان بن عبد القيس- فقال اجلس- ثم قال ثانية من رجل يحفظنا الليلة- فقام رجل فقال من أنت- قال أبو سبع قال اجلس- ثم قال ثالثة مثل ذلك فقام رجل- فقال من أنت فقال أنا ابن عبد قيس- فمكث رسول الله ص ساعة- ثم قال قوموا ثلاثتكم- فقام ذكوان بن عبد قيس- فقال رسول الله و أين صاحباك- فقال ذكوان أنا الذي كنت أجيبك الليلة- قال فاذهب حفظك الله- . قلت قد تقدم هذا الحديث بذاته في غزوة بدر- و ظاهر الحال أنه مكرر-و أنه إنما كان في غزاة واحدة- و يجوز أن يكون قد وقع في الغزاتين- و لكن على بعد- .

قال الواقدي- فلبس ذكوان درعه و أخذ درقته- فكان يطوف على العسكر تلك الليلة- و يقال كان يحرس رسول الله ص لم يفارقه- . قال و نام رسول الله ص حتى ادلج- فلما كان في السحر قال رسول الله- أين الأدلاء من رجل يدلنا على الطريق- و يخرجنا على القوم من كثب- فقام أبو خثيمة الحارثي- فقال أنا يا رسول الله- و يقال أوس بن قيظي- و يقال محيصة- .

قال الواقدي- و أثبت ذلك عندنا أبو خثيمة- خرج برسول الله ص و ركب فرسه- فسلك به في بني حارثة- ثم أخذ في الأموال حتى مر بحائط مربع بن قيظي- و كان أعمى البصر منافقا- فلما دخل رسول الله ص حائطه- قام يحثي التراب في وجوه المسلمين- و يقول إن كنت رسول الله فلا تدخل حائطي- فلا أحله لك- .

قال محمد بن إسحاق- و قذ ذكر أنه أخذ حفنة من تراب- و قال و الله لو أعلم أني لا أصيب غيرك يا محمد- لضربت بها وجهك- . قال الواقدي- فضربه سعد بن زيد الأشهلي- بقوس في يده فشجه في رأسه- فنزل الدم- فغضب له بعض بني حارثة ممن هو على مثل رأيه- فقال هي على عداوتكم يا بني عبد الأشهل- لا تدعونها أبدا لنا- فقال أسيد بن حضير لا و الله و لكن نفاقكم- و الله لو لا أني لا أدري ما يوافق النبي ص- لضربت عنقه و عنق من هو على مثل رأيه- . قال و نهاهم النبي ص عن الكلام فأسكتوا- .

و قال محمد بن إسحاق- قال رسول الله ص دعوه فإنه أعمى البصر أعمى القلب- يعني مربع بن قيظي- . قال الواقدي و مضى رسول الله ص- فبينا هو في مسيره إذ ذب فرس أبي بردة بن نيار بذنبه- فأصاب كلاب سيفه- فسل سيفه فقال رسول الله ص- يا صاحب السيف شم سيفك- فإني أخال السيوف ستسل اليوم فيكثر سلها- .

قال و كان رسول الله ص يحب الفأل و يكره الطيرة- قال و لبس رسول الله ص من الشيخين- درعا واحدة حتى انتهى إلى أحد- فلبس درعا أخرى و مغفرا و بيضة فوق المغفر- فلما نهض رسول الله ص من الشيخين- زحف المشركين على تعبئة- حتى انتهوا إلى موضع أرض ابن عامر اليوم- فلما انتهى رسول الله ص إلى موضع القنطرة اليوم- جاءه و قد حانت الصلاة- و هو يرى المشركين فأمر بلالا فأذن- و أقام و صلى بأصحابه الصبح صفوفا- و انخزل عبد الله بن أبي من ذلك المكان في كتيبته- كأنه هيقه تقدمهم- فأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام- فقال أذكركم الله و دينكم و نبيكم- و ما شرطتم له أن تمنعوه- مما تمنعون منه أنفسكم و أولادكم و نساءكم- فقال ابن أبي ما أرى أنه يكون بينهم قتال- و إن أطعتني يا أبا جابر لترجعن- فإن أهل الرأي و الحجى قد رجعوا- و نحن ناصروه في مدينتنا و قد خالفنا- و أشرت عليه بالرأي فأبى إلا طواعية الغلمان- فلما أبى على عبد الله بن عمرو أن يرجع- و دخل هو و أصحابه أزقة المدينة- قال لهم أبو جابر أبعدكم الله- إن الله سيغني النبي و المؤمنين عن نصركم- فانصرف ابن أبي و هو يقول أ يعصيني و يطيع الولدان- و انصرف عبد الله بن عمرو يعدو- حتى لحق رسول الله و هو يسوي الصفوف- فلما أصيب أصحاب رسول الله ص- سر ابن أبي و أظهر الشماتة- و قال عصاني و أطاع من لا رأي له- .

قال الواقدي- و جعل رسول الله ص يصف أصحابه- و جعل الرماة خمسين رجلا على عينين- عليهم عبد الله بن جبير و يقال سعد بن أبي وقاص- و الثبت أنه عبد الله بن جبير- قال و جعل أحدا خلف ظهره- و استقبل المدينة و جعل عينين عن يساره- و أقبل المشركون و استدبروا المدينة في الوادي- و استقبلوا أحدا- و يقال جعل عينين خلف ظهره- و استدبر الشمس و استقبلها المشركون- .

قال و القول الأول أثبت عندنا- أن أحدا كان خلف ظهره- و هو ع مستقبل المدينة قال و نهى أن يقاتل أحد حتى يأمرهم بالقتال- فقال عمارة بن يزيد بن السكن- أنى نغير على زرع بني قيلة و لما نضارب- و أقبل المشركون قد صفوا صفوفهم- و استعملوا على الميمنة خالد بن الوليد- و على الميسرة عكرمة بن أبي جهل- و لهم مجنبتان مائتا فرس و جعلوا على الخيل صفوان بن أمية- و يقال عمرو بن العاص- و على الرماة عبد الله بن أبي ربيعة- و كانوا مائة رام- و دفعوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة- و اسم أبي طلحة عبد الله- بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي- و صاح أبو سفيان يومئذ- يا بني عبد الدار نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا- و أنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء- و إنما يؤتى القوم من قبل لوائهم- فالزموا لواءكم و حافظوا عليه- و خلوا بيننا و بينه فإنا قوم مستميتون موتورون- نطلب ثأرا حديث العهد- و جعل يقول إذا زالت الألوية- فما قوام الناس و بقاؤهم بعدها- فغضبت بنو عبد الدار و قالوا نحن نسلم لواءنا- لا كان هذا أبدا- و أما المحافظة عليه فسترى- ثم أسندوا الرماح إليه و أحدقت به بنو عبد الدار-و أغلظوا لأبي سفيان بعض الإغلاظ- فقال أبو سفيان فنجعل لواء آخر- قالوا نعم و لا يحمله إلا رجل من بني عبد الدار- لا كان غير ذلك أبدا- .

قال الواقدي- و جعل رسول الله ص يمشي على رجليه- يسوي تلك الصفوف- و يبوئ أصحابه مقاعد للقتال- يقول تقدم يا فلان و تأخر يا فلان- حتى إنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخره- فهو يقومهم كأنما يقوم القداح- حتى إذا استوت الصفوف- سأل من يحمل لواء المشركين- قيل عبد الدار قال نحن أحق بالوفاء منهم- أين مصعب بن عمير- قال ها أنا ذا قال خذ اللواء- فأخذه مصعب فتقدم به بين يدي رسول الله ص- . قال البلاذري- أخذه من علي ع فدفعه إلى مصعب بن عمير- لأنه من بني عبد الدار- .

قال الواقدي- ثم قام ع فخطب الناس-فقال ص أيها الناس أوصيكم بما أوصاني به الله في كتابه- من العمل بطاعته و التناهي عن محارمه- ثم إنكم اليوم بمنزل أجر و ذخر لمن ذكر الذي عليه- ثم وطن نفسه على الصبر و اليقين و الجد و النشاط- فإن جهاد العدو شديد كريه قليل من يصبر عليه- إلا من عزم له على رشده- إن الله مع من أطاعه- و إن الشيطان مع من عصاه- فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد- و التمسوا بذلك ما وعدكم الله- و عليكم بالذي آمركم به- فإني حريص على رشدكم- إن الاختلاف و التنازع و التثبيط- من أمر العجز و الضعف- و هو مما لا يحبه الله- و لا يعطي عليه النصر و الظفر- أيها الناس إنه قذف في قلبي- أن من كان على حرام فرغب عنه- ابتغاء ما عند الله غفر الله له ذنبه- و من صلى على محمد صلى الله عليه و ملائكته‏ عشرا- و من أحسن من مسلم أو كافر وقع أجره على الله- في عاجل دنياه أو في آجل آخرته- و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر- فعليه الجمعة يوم الجمعة- إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا- و من استغنى عنها استغنى الله عنه و الله غني حميد- ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله إلا و قد أمرتكم به- و لا أعلم من عمل يقربكم إلى النار- إلا و قد نهيتكم عنه- و إنه قد نفث الروح الأمين في روعي- أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها- لا ينقص منه شي‏ء و إن أبطأ عنها- فاتقوا الله ربكم و أجملوا في طلب الرزق- و لا يحملنكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم- فإنه لا يقدر على ما عنده إلا بطاعته- قد بين لكم الحلال و الحرام- غير أن بينهما شبها من الأمر- لم يعلمها كثير من الناس إلا من عصم- فمن تركها حفظ عرضه و دينه- و من وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى- أوشك أن يقع فيه و يفعله- و ليس ملك إلا و له حمى- ألا و إن حمى الله محارمه- و المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد- إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده- و السلام عليكم- .

قال الواقدي فحدثني ابن أبي سبرة- عن خالد بن رباح عن المطلب بن عبد الله- قال أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر- طلع في خمسين من قومه معه عبيد قريش- فنادى أبو عامر و اسمه عبد عمرو- يا للأوس أنا أبو عامر- قالوا لا مرحبا بك و لا أهلا يا فاسق- فقال لقد أصاب قومي بعدي شر- قال و معه عبيد أهل مكة- فتراموا بالحجارة هم و المسلمون- حتى تراضخوا بها ساعة- إلى أن ولى أبو عامر و أصحابه- و يقال إن العبيد لم يقاتلوا- و إنهم أمروهم بحفظ عسكرهم- . قال الواقدي- و جعل نساء المشركين قبل أن يلتقي الجمعان- أمام صفوف المشركين- يضربن بالأكبار و الدفاف و الغرابيل- ثم يرجعن فيكن إلى مؤخر الصف- حتى‏ إذا دنوا من المسلمين تأخر النساء- فقمن خلف الصفوف- و جعلن كلما ولى رجل حرضنه- و ذكرنه قتلى بدر- .

و قال الواقدي- و كان قزمان من المنافقين- و كان قد تخلف عن أحد- فلما أصبح عيره نساء بني ظفر- فقلن يا قزمان قد خرج الرجال و بقيت- استحي يا قزمان أ لا تستحيي مما صنعت- ما أنت إلا امرأة خرج قومك و بقيت في الدار- فأحفظنه فدخل بيته- فأخرج قوسه و جعبته و سيفه و كان يعرف بالشجاعة- و خرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله ص- و هو يسوي صفوف المسلمين- فجاء من خلف الصف- حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه- و كان أول من رمى بسهم من المسلمين- جعل يرسل نبلا كأنها الرماح- و إنه ليكت كتيت الجمل- ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل- حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه- و كان رسول الله ص إذا ذكره قال من أهل النار- قال فلما انكشف المسلمون- كسر جفن سيفه و جعل يقول- الموت أحسن من الفرار- يا للأوس قاتلوا على الأحساب- و اصنعوا مثل ما أصنع- قال فيدخل بالسيف وسط المشركين- حتى يقال قد قتل ثم يطلع فيقول- أنا الغلام الظفري حتى قتل منهم سبعة- و أصابته الجراحة و كثرت فيه- فوقع فمر به قتادة بن النعمان فقال له أبا الغيداق- قال قزمان لبيك- قال هنيئا لك الشهادة- قال قزمان إني و الله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين- ما قاتلت إلا على الحفاظ- أن تسير قريش إلينا فتطأ سعفنا- قال فآذته الجراحة فقتل نفسه-فقال النبي ص إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

قال الواقدي و تقدم رسول الله ص إلى الرماة- فقال احموا لنا ظهورنا- فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا- و الزموا مكانكم لا تبرحوا منه- و إن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم- فلا تفارقوا مكانكم- و إن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا و لا تدفعوا عنا- اللهم إني أشهدك عليهم- ارشقوا خيلهم بالنبل- فإن الخيل لا تقدم على النبل- و كان للمشركين مجنبتان- ميمنة عليها خالد بن الوليد- و ميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل

قال الواقدي- و عمل رسول الله ص لنفسه ميمنة و ميسرة- و دفع اللواء الأعظم إلى مصعب بن عمير- و دفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير- و لواء الخزرج إلى سعد بن عبادة- و قيل إلى الحباب بن المنذر- فجعلت الرماة تحمي ظهور المسلمين- و ترشق خيل المشركين بالنبل- فولت هاربه قال بعض المسلمين- و الله لقد رمقت نبلنا يومئذ- ما رأيت سهما واحدا- مما يرمى به خيلهم يقع في الأرض- إما في فرس أو في رجل- و دنا القوم بعضهم من بعض- و قدموا طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم- و صفوا صفوفهم- و أقاموا النساء خلف الرجال- يضربن بين أكتافهم بالأكبار و الدفوف- و هند و صواحبها يحرضن و يذمرن الرجال- و يذكرن من أصيب ببدر و يقلن-

نحن بنات طارق
نمشي على النمارق‏

إن تقبلوا نعانق‏
أو تدبروا نفارق‏
فراق غير وامق‏

قال الواقدي- و برز طلحة فصاح من يبارز- فقال علي ع له هل لك في مبارزتي- قال نعم فبرزا بين الصفين- و رسول الله ص جالس تحت‏ الراية- عليه درعان و مغفر و بيضته- فالتقيا فبدره علي ع بضربة على رأسه- فمضى السيف حتى فلق هامته- إلى أن انتهى إلى لحيته فوقع- و انصرف علي ع- فقيل له هلا ذففت عليه- قال إنه لما صرع استقبلني بعورته- فعطفتني عليه الرحم- و قد علمت أن الله سيقتله هو كبش الكتيبة- .

قال الواقدي- و روي أن طلحة حمل على علي ع- فضربه بالسيف فاتقاه بالدرقة فلم يصنع شيئا- و حمل علي ع و على طلحة درع و مغفر- فضربه بالسيف فقطع ساقيه- ثم أراد أن يذفف عليه- فسأله طلحة بالرحم ألا يفعل فتركه و لم يذفف عليه- . قال الواقدي- و يقال إن عليا ع دفف عليه- و يقال إن بعض المسلمين مر به في المعركة فذفف عليه- قال فلما قتل طلحة سر رسول الله ص- و كبر تكبيرا عاليا و كبر المسلمون- ثم شد أصحاب رسول الله ص على كتائب المشركين- فجعلوا يضربون وجوههم حتى انتقضت صفوفهم- و لم يقتل إلا طلحة بن أبي طلحة وحده- .

قال الواقدي- ثم حمل لواء المشركين بعد طلحة- أخوه عثمان بن أبي طلحة- و هو أبو شيبة فارتجز و قال-إن علي رب اللواء حقا أن تخصب الصعدة أو تندقا- . فتقدم باللواء و النسوة خلفه- يحرضن و يضربن بالدفوف- فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رحمه الله- فضربه بالسيف على كاهله فقطع يده و كتفه- حتى انتهى إلى‏مؤتزره فبدا سحره- و رجع فقال أنا ابن ساقي الحجيج- ثم حمل اللواء أخوهما أبو سعد بن أبي طلحة- فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته- و كان دراعا و عليه مغفر لا رفرف عليه- و على رأسه بيضته فأدلع لسانه إدلاع الكلب- .

قال الواقدي- و قد روي أن أبا سعد لما حمل اللواء- قام النساء خلفه يقلن-

ضربا بني عبد الدار
ضربا حماة الأدبار
ضربا بكل بتار

قال سعد بن أبي وقاص- فأحمل عليه فأقطع يده اليمنى- فأخذ اللواء باليد اليسرى- فأضربه على يده اليسرى فقطعتها- فأخذ اللواء بذراعيه جميعا و ضمه إلى صدره- و حنى عليه ظهره- قال سعد فأدخل سية القوس بين الدرع و المغفر- فأقلع المغفر فأرمي به وراء ظهره- ثم ضربته حتى قتلته و أخذت أسلبه درعه- فنهض إلي سبيع بن عبد عوف و نفر معه فمنعوني سلبه- و كان سلبه أجود سلب رجل من المشركين- درع فضفاضة و مغفر و سيف جيد- و لكن حيل بيني و بينه- .

قال الواقدي و هذا أثبت القولين- . قلت شتان بين علي و سعد- هذا يجاحش على السلب و يتأسف على فواته- و ذلك يقتل عمرو بن عبد ود يوم الخندق- و هو فارس قريش و صنديدها و مبارزه- فيعرض عن سلبه فيقال له- كيف تركت سلبه و هو أنفس سلب- فيقول كرهت أن أبز السبي ثيابه- فكأن حبيبا عناه بقوله-إن الأسود أسود الغاب همتها يوم الكريهة في المسلوب لا السلب‏- .

قال الواقدي- ثم حمل لواء المشركين بعد أبي سعد بن أبي طلحة- مسافع بن أبي طلحة- فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقتله- فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد- و هي مع النساء بأحد فقالت من أصابك- قال لا أدري سمعته يقول- خذها و أنا ابن الأقلح- فقالت أقلحي و الله- أي هو من رهطي و كانت من الأوس- . قال الواقدي- و روي أن عاصما لما رماه قال له- خذها و أنا ابن كسرة- و كانوا يقال لهم في الجاهلية بنو كسر الذهب- فقال لأمه لا أدري- إلا أني سمعته يقول خذها و أنا ابن كسرة- فقالت سلافة- أوسي و الله كسري أي أنه منا- فيومئذ نذرت سلافة- أن تشرب في قحف رأس عاصم بن ثابت الخمر- و جعلت لمن جاءها به مائة من الإبل- .

قلت فلما قتله المشركون في يوم الرجيع- أرادوا أن يأخذوا رأسه- فيحملوه إلى سلافة فحمته الدبر يومه ذلك- فلما جاء الليل فظنوا أن الدبر لا تحميه ليلا- جاء الوادي بسيل عظيم- فذهب برأسه و بدنه- اتفق المؤرخون على ذلك- . قال الواقدي- ثم حمل اللواء بعد الحارث- أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة- فقتله الزبير بن العوام- ثم حمله أخوه الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة- فقتله طلحة بن عبيد الله- ثم حمله أرطاة بن عبد شرحبيل- فقتله علي بن أبي طالب ع- ثم حمله شريح بن‏قانط- فقتل لا يدرى من قتله- ثم حمله صواب غلام بني عبد الدار- فاختلف في قاتله- فقيل قتله علي بن أبي طالب ع- و قيل سعد بن أبي وقاص- و قيل قزمان و هو أثبت الأقوال- .

قال الواقدي- انتهى قزمان إلى صواب- فحمل عليه فقطع يده اليمنى- فاحتمل اللواء باليسرى فقطع اليسرى- فاحتضن اللواء بذراعيه و عضديه- و حنى عليه ظهره و قال- يا بني عبد الدار هل أعذرت- فحمل عليه قزمان فقتله- . قال الواقدي- و قالوا ما ظفر الله تعالى نبيه في موطن قط- ما ظفره و أصحابه يوم أحد- حتى عصوا الرسول و تنازعوا في الأمر- لقد قتل أصحاب اللواء و انكشف المشركون منهم لا يلوون- و نساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف و الفرح- .

قال الواقدي- و قد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحدا- قال كل واحد منهم- و الله إني لأنظر إلى هند و صواحبها منهزمات- ما دون أخذهن شي‏ء لمن أراده- و لكن لا مرد لقضاء الله- قالوا و كان خالد بن الوليد- كلما أتى من قبل ميسرة النبي ص- ليجوز حتى يأتيهم من قبل السفح- ترده الرماة حتى فعل و فعلوا ذلك مرارا- و لكن المسلمين أتوا من قبل الرماة- أن رسول الله ص أوعز إليهم- فقال قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا- فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا- و إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا- فلما انهزم المشركون و تبعهم المسلمون- يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا- حتى أجهزوهم عن المعسكر و وقعوا ينتهبونه- قال بعض الرماة لبعض- لم تقيمون هاهنا في غير شي‏ء- قد هزم الله العدو- و هؤلاء إخوانكم ينهبون عسكرهم- فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم- فقال بعضهم- أ لم تعلموا أن رسول الله ص قال لكم- احموا ظهورنا و إن غنمنا فلا تشركونا-فقال الآخرون- لم يرد رسول الله ص هذا- و قد أذل الله المشركين و هزمهم- فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم- فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير- و كان يومئذ معلما بثياب بيض- فحمد الله و أمرهم بطاعة رسوله- و ألا يخالف أمره- فعصوه و انطلقوا فلم يبق معه- إلا نفير ما يبلغون العشرة- منهم الحارث بن أنس بن رافع- يقول يا قوم اذكروا عهد نبيكم إليكم- و أطيعوا أميركم- فأبوا و ذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون- و خلوا الجبل و انتقضت صفوف المشركين- و استدارت رحالهم و دارت الريح- و كانت إلى أن انتقض صفهم صبا- فصارت دبورا- فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل و قلة أهله- فكر بالخيل و تبعه عكرمة بالخيل- فانطلقا إلى موضع الرماة- فحملوا عليهم فرماهم القوم حتى أصيبوا- و رمى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله- ثم طاعن بالرمح حتى انكسر- ثم كسر جفن سيفه فقاتل حتى قتل- و أفلت جعيل بن سراقة- و أبو بردة بن نيار- بعد أن شاهدا قتل عبد الله بن جبير- و كان آخر من انصرف من الخيل- فلحقا بالمسلمين قال الواقدي فروى رافع بن خديج- قال لما قتل خالد الرماة أقبل بالخيل و عكرمة بن أبي جهل يتلوه- فخالطنا و قد انتقضت صفوفنا- و نادى إبليس و تصور في صورة جعيل بن سراقة- أن محمدا قد قتل ثلاث صرخات- فابتلي يومئذ جعيل بن سراقة ببلية عظيمة- حين تصور إبليس في صورته- و إن جعيلا ليقاتل مع المسلمين أشد القتال- و إنه إلى جنب أبي بردة بن نيار و خوات بن جبير- قال رافع بن خديج- فو الله ما رأينا دولة كانت أسرع من دولة المشركين علينا- و أقبل المسلمون على جعيل بن سراقة يريدون قتله- يقولون هذا الذي صاح أن محمدا قد قتل- فشهد له خوات بن جبير و أبو بردة- أنه كان إلى جنبهما حين صاح الصائح- و أن الصائح غيره- .

قال الواقدي فروى رافع- قال أتينا من قبل أنفسنا- و معصية نبينا و اختلط المسلمون- و صاروا يقتلون و يضرب بعضهم بعضا- و ما يشعرون بما يصنعون من الدهش و العجل- و قد جرح يومئذ أسيد بن حضير جرحين- ضربه أحدهما أبو بردة بن نيار و ما يدري- يقول خذها و أنا الغلام الأنصاري- و كر أبو زعنة في حومة القتال- فضرب أبا بردة ضربتين ما يشعر أنه هو- يقول خذها و أنا أبو زعنة- حتى عرفه بعد فكان إذا لقيه قال- انظر ما صنعت بي- فيقول أبو زعنة- و أنت فقد ضربت أسيد بن حضير و لا تشعر- و لكن هذا الجرح في سبيل الله- فذكر ذلك لرسول الله ص- فقال هو في سبيل الله يا أبا بردة لك أجره- حتى كأنك ضربك أحد المشركين- و من قتل فهو شهيد- .

قال الواقدي و كان الشيخان- حسيل بن جابر و رفاعة بن وقش شيخين كبيرين- قد رفعا في الآطام مع النساء- فقال أحدهما لصاحبه لا أبا لك- ما نستبقي من أنفسنا- فو الله ما نحن إلا هامة اليوم أو غد- و ما بقي من أجلنا قدر ظم‏ء دابة- فلو أخذنا أسيافنا فلحقنا برسول الله ص- لعل الله يرزقنا الشهادة- قال فلحقا برسول الله ص- فأما رفاعة فقتله المشركون- و أما حسيل بن جابر فالتفت عليه سيوف المسلمين- و هم لا يعرفونه حين اختلطوا- و ابنه حذيفة يقول أبي أبي حتى قتل- فقال حذيفة يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين- ما صنعتم فزاد به عند رسول الله ص خيرا- و أمر رسول الله بديته أن تخرج- و يقال إن الذي أصابه عتبة بن مسعود- فتصدق حذيفة ابنه بدمه على المسلمين- .

قال الواقدي- و أقبل يومئذ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح- يا آل سلمة فأقبلواعنقا واحدا- لبيك داعي الله لبيك داعي الله- فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربة في رأسه مثقلة و ما يدري- حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون- أمت أمت فكف بعضهم عن بعض- .

قال الواقدي- و كان نسطاس مولى ضرار بن أمية- ممن حضر أحدا مع المشركين- ثم أسلم بعد و حسن إسلامه- فكان يحدث قال- قد كنت ممن خلف في العسكر يومئذ- و لم يقاتل معهم عبد- إلا وحشي و صواب غلام بني عبد الدار- فكان أبو سفيان صاح فيهم- يا معشر قريش خلوا غلمانكم على متاعكم- يكونوا هم الذين يقومون على رحالكم- فجمعنا بعضها إلى بعض و عقلنا الإبل- و انطلق القوم على تعبئتهم- ميمنة و ميسرة و ألبسنا الرحال الأنطاع- و دنا القوم بعضهم من بعض- فاقتتلوا ساعة و إذا أصحابنا منهزمون- فدخل المسلمون معسكرنا و نحن في الرحال- فأحدقوا بنا فكنت فيمن أسروا- و انتهبوا المعسكر أقبح انتهاب- حتى إن رجلا منهم قال- أين مال صفوان بن أمية- فقلت ما حمل إلا نفقة في الرحل- فخرج يسوقني حتى أخرجتها من العيبة- خمسين و مائة مثقال ذهبا- و قد ولى أصحابنا و أيسنا منهم- و انحاش النساء فهن في حجرهن سلم لمن أرادهن- فصار النهب في أيدي المسلمين- .

قال نسطاس- فإنا لعلى ما نحن عليه من الاستسلام- و نظرت إلى الجبل فإذا خيل مقبلة تركض- فدخلوا العسكر فلم يكن أحد يردهم- قد ضيعت الثغور التي كان بها الرماة- و جاءوا إلى النهب و الرماة ينتهبون- و أنا أنظر إليهم متأبطي قسيهم و جعابهم- كل واحد منهم في يديه أو حضنه شي‏ء قد أخذه- فلما دخلت خيلنا دخلت على قوم غارين آمنين- فوضعوا فيهم السيوف فقتلوهم قتلا ذريعا- و تفرق المسلمون في كل وجه-و تركوا ما انتهبوا و أجلوا عن عسكرنا- فارتجعنا بعد لم نفقد منه شيئا- و خلوا أسرانا و وجدنا الذهب في المعركة- و لقد رأيت يومئذ رجلا من المسلمين- ضم صفوان بن أمية إليه ضمة ظننت أنه سيموت- حتى أدركته و به رمق- فوجأت ذلك المسلم بخنجر معي فوقع- فسألت عنه فقيل رجل من بني ساعدة- ثم هداني الله بعد للإسلام- .

قال الواقدي فحدثني ابن أبي سبرة- عن إسحاق بن عبد الله عن عمر بن الحكم قال- ما علمنا أحدا من أصحاب رسول الله ص- الذين أغاروا على النهب- فأخذوا ما أخذوا من الذهب- بقي معه من ذلك شي‏ء- يرجع به حيث غشينا المشركون- و اختلفوا إلا رجلين- أحدهما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح- جاء بمنطقة وجدها في العسكر- فيها خمسون دينارا- فشدها على حقويه من تحت ثيابه- و جاء عباد بن بشر بصرة- فيها ثلاثة عشر مثقالا ألقاها في جيب قميصه- و فوقها الدرع و قد حزم وسطه- فأتيا بذلك رسول الله ص فلم يخمسه و نفلهما إياه- .

قال الواقدي- و روى يعقوب بن أبي صعصعة- عن موسى بن ضمرة عن أبيه- قال لما صاح الشيطان أزب العقبة- أن محمدا قد قتل لما أراد الله عز و جل من ذلك- سقط في أيدي المسلمين- و تفرقوا في كل وجه- و أصعدوا في الجبل- فكان أول من بشرهم- بكون رسول الله ص سالما كعب بن مالك- قال كعب عرفته- فجعلت أصيح هذا رسول الله- و هو يشير إلي بإصبعه على فيه- أن اسكت- .

قال الواقدي- و روت عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك- عن أبيها قالت- قال أبي لما انكشف الناس- كنت أول من عرف رسول الله ص-و بشرت به المسلمين حيا سويا- عرفت عينيه من تحت المغفر- فناديت يا معشر الأنصار أبشروا- فهذا رسول الله ص- فأشار إلي رسول الله ص أن اصمت- قال و دعا رسول الله ص بكعب- فلبس لأمته و ألبس كعبا لأمة نفسه- و قاتل كعب قتالا شديدا- جرح سبعة عشر جرحا- .

قال الواقدي- و حدثني ابن أبي سبرة عن خالد بن رباح- عن الأعرج- قال لما صاح الشيطان أن محمدا قد قتل- قال أبو سفيان بن حرب- يا معشر قريش أيكم قتل محمدا- قال ابن قميئة أنا قتلته- قال نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها- و جعل أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعركة- هل يرى محمدا بين القتلى- فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير- فقال يا أبا سفيان هل تدري من هذا- قال لا قال هذا خارجة بن زيد- هذا أسيد بني الحارث بن الخزرج- و مر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه- قال أ تعرفه قال لا- قال هذا ابن قوقل هذا الشريف في بيت الشرف- ثم مر بذكوان بن عبد قيس- فقال و هذا من ساداتهم- ثم مر بابنه حنظلة بن أبي عامر- فوقف عليه فقال أبو سفيان من هذا- قال هذا أعز من هاهنا علي هذا ابني حنظلة- قال أبو سفيان ما نرى مصرع محمد- و لو كان قتل لرأيناه كذب ابن قميئة- و لقي خالد بن الوليد- فقال هل تبين عندك قتل محمد- قال لا رأيته أقبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل- فقال أبو سفيان هذا حق- كذب ابن قميئة زعم أنه قتله- . قلت قرأت على النقيب أبي يزيد رحمه الله- هذه الغزاة من كتاب الواقدي- و قلت له كيف جرى لهؤلاء في هذه الوقعة- فإني أستعظم ما جرى- فقال و ما في ذلك مما تستعظمه- حمل قلب المسلمين من بعد قتل أصحاب الألوية- على قلب المشركين فكسره-فلو ثبتت مجنبتا رسول الله- اللتان فيهما أسيد بن حضير و الحباب بن المنذر- بإزاء مجنبتي المشركين- لم ينكسر عسكر الإسلام- و لكن مجنبتا المسلمين- أطبقت إطباقا واحدا على قلب المشركين- مضافا إلى قلب المسلمين- فصار عسكر رسول الله ص قلبا واحدا- و كتيبة واحدة- فحطمه قلب قريش حطمة شديدة- فلما رأت مجنبتا قريش أنه ليس بإزائها أحد- استدارت المجنبتان من وراء عسكر المسلمين- و صمد كثير منهم للرماة- الذين كانوا يحمون ظهر المسلمين- فقتلوهم عن آخرهم- لأنهم لم يكونوا ممن يقومون لخالد و عكرمة- و هما في ألفي رجل- و إنما كانوا خمسين رجلا- لا سيما و قد ترك كثير منهم مركزه- و شره إلى الغنيمة فأكب على النهب قال رحمه الله- و الذي كسر المسلمين يومئذ- و نال كل منال خالد بن الوليد- و كان فارسا شجاعا و معه خيل كثيرة- و رجال أبطال موتورون- و استدار خلف الجبل- فدخل من الثغرة التي كان الرماة عليها- فأتاه من وراء المسلمين- و تراجع قلب المشركين بعد الهزيمة- فصار المسلمون بينهم في مثل الحلقة المستديرة- و اختلط الناس فلم يعرف المسلمون بعضهم بعضا- و ضرب الرجل منهم أخاه و أباه بالسيف- و هو لا يعرفه لشدة النقع و الغبار- و لما اعتراهم من الدهش و العجلة و الخوف- فكانت الدبرة عليهم بعد أن كانت لهم- و مثل هذا يجري دائما في الحرب- . فقلت له رحمه الله- فلما انكشف المسلمون و فر منهم من فر- ما كانت حال رسول الله ص- فقال ثبت في نفر يسير من أصحابه يحامون عنه- . فقلت ثم ما ذا- قال ثم ثابت إليه الأنصار- و ردت إليه عنقا واحدا بعد فرارهم و تفرقهم- و امتاز المسلمون عن المشركين و كانوا ناحية- ثم التحمت الحرب و اصطدم الفيلقان- .

قلت ثم ما ذا- قال لم يزل المسلمون يحامون عن رسول الله ص- و المشركون يتكاثرون عليهم- و يقتلون فيهم حتى لم يبق من النهار إلا القليل- و الدولة للمشركين- . قلت ثم ما ذا- قال ثم علم الذين بقوا من المسلمين- أنه لا طاقة لهم بالمشركين- فأصعدوا في الجبل فاعتصموا به- . فقلت له- فرسول الله ص ما الذي صنع- فقال صعد في الجبال- . قلت له أ فيجوز أن يقال إنه فر- فقال إنما يكون الفرار ممن أمعن في الهرب- في الصحراء و البيداء- فأما من الجبل مطل عليه و هو في سفحه- فلما رأى ما لا يعجبه أصعد في الجبل- فإنه لا يسمى فارا- ثم سكت رحمه الله ساعة- ثم قال هكذا وقعت الحال- فإن شئت أن تسمي ذلك فرارا فسمه- فقد خرج من مكة يوم الهجرة فارا من المشركين- و لا وصمة عليه في ذلك- .

فقلت له- قد روى الواقدي عن بعض الصحابة- قال لم يبرح رسول الله ص ذلك اليوم شبرا واحدا- حتى تحاجزت الفئتان- فقال دع صاحب هذه الرواية فليقل ما شاء- فالصحيح ما ذكرته لك- ثم قال كيف يقال- لم يزل واقفا حتى تحاجزت الفئتان- و إنما تحاجرا بعد أن ناداه أبو سفيان- و هو في أعلى الجبل بما ناداه- فلما عرف أنه حي و أنه في أعلى الجبل- و أن الخيل لا تستطيع الصعود إليه- و أن القوم إن صعدوا إليه رجالة لم يثقوا بالظفر به- لأن معه أكثر أصحابه- و هم مستميتون إن صعد القوم إليهم- و أنهم لا يقتلون منهم واحدا- حتى يقتلوا منهم اثنين أو ثلاثة- لأنهم لا سبيل لهم إلى الهرب- لكونهم محصورين في ذرو واحد- فالرجل منهم يحامي عن خيط رقبته- كفوا عن الصعود و قنعوا بما وصلوا إليه- من قتل من قتلوه في الحرب- و أملوايوما ثانيا يكون لهم فيه الظفر الكلي- بالنبي ص فرجعوا عنهم و طلبوا مكة- .

و روى الواقدي عن أبي سبرة- عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة- عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير- قال سمعت رجلا من المهاجرين يقول- شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية- و رسول الله ص في وسطها- كل ذلك يصرف عنه- و لقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ- دلوني على محمد- فلا نجوت إن نجا- و إن رسول الله ص إلى جنبه ما معه أحد- ثم جاوزه- و لقي عبد الله بن شهاب صفوان بن أمية- فقال له صفوان ترحت هلا ضربت محمدا- فقطعت هذه الشأفة- فقد أمكنك الله منه- قال ابن شهاب و هل رأيته- قال نعم أنت إلى جنبه- قال و الله ما رأيته- أحلف بالله إنه منا لممنوع- خرجنا أربعة تعاهدنا و تعاقدنا على قتله- فلم نخلص إلى ذلك- .

قال الواقدي فروى نملة- و اسم أبي نملة عبد الله بن معاذ- و كان أبوه معاذ أخا البراء بن معرور لأمه- قال لما انكشف المسلمون ذلك اليوم- نظرت إلى رسول الله ص و ما معه أحد- إلا نفير قد أحدقوا به من أصحابه- من المهاجرين و الأنصار- فانطلقوا به إلى الشعب- و ما للمسلمين لواء قائم و لا فئة و لا جمع- و إن كتائب المشركين لتحوشهم- مقبلة و مدبرة في الوادي- يلتقون و يفترقون ما يرون أحدا يردهم- .

قال الواقدي- و حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري- عن أبيه قال- حمل مصعب اللواء- فلما جال المسلمون ثبت به مصعب قبل ابن قميئة- و هو فارس فضرب يد مصعب فقطعها- فقال مصعب وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ- .و أخذ اللواء بيده اليسرى- و حنى عليه فضربه فقطع اليسرى- فضمه بعضديه إلى صدره-و هو يقول- وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ- ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه و اندق الرمح- و وقع مصعب و سقط اللواء- و ابتدره رجلان من بني عبد الدار- سويبط بن حرملة و أبو الروم فأخذه أبو الروم- فلم يزل بيده حتى دخل به المدينة- حين انصرف المسلمون- .

قال الواقدي- و قالوا إن رسول الله لما لحمه القتال- و خلص إليه و ذب عنه مصعب بن عمير و أبو دجانة- حتى كثرت به الجراحة- جعل رسول الله ص يقول- من رجل يشري نفسه- فوثب فئة من الأنصار خمسة- منهم عمارة بن زياد بن السكن فقاتل حتى أثبت- و فاءت فئة من المسلمين حتى أجهضوا أعداء الله- فقال رسول الله ص لعمارة بن زياد ادن مني- حتى وسده رسول الله ص قدمه- و إن به لأربعة عشر جرحا حتى مات- و جعل رسول الله ص يذمر الناس و يحضهم على القتال- و كان رجال من المشركين- قد أذلقوا المسلمين بالرمي- منهم حيان بن العرقة و أبو أسامة الجشمي- فجعل النبي ص يقول لسعد- ارم فداك أبي و أمي- فرمى حيان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن- و كانت جاءت يومئذ تسقي الجرحى- فقلبها و انكشف ذيلها عنها- فاستغرب حيان بن العرقة ضحكا- و شق ذلك على رسول الله ص- فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له- و قال ارم به- فرمى فوضع السهم في ثغرة نحر حيان- فوقع مستلقيا و بدت عورته- .

قال سعد- فرأيت النبي ص ضحك يومئذ- حتى بدت نواجذه- و قال استقاد لها سعد أجاب الله دعوتك- و سدد رميتك- و رمى يومئذ مالك بن زهير الجشمي- أخو أبي أسامة الجشمي المسلمين رميا شديدا- و كان هو و ريان بن العرقة- قد أسرعا في أصحاب رسول الله ص- و أكثرا فيهم القتل يستتران بالصخر و يرميان-فبينا هم على ذلك- أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير- يرمي من وراء صخرة قد رمى و أطلع رأسه- فيرميه سعد فأصاب السهم عينه- حتى خرج من قفاه- فترى في السماء قامة- ثم رجع فسقط فقتله الله عز و جل- .

قال الواقدي- و رمى رسول الله ص عن قوسه يومئذ- حتى صارت شظايا- فأخذها قتادة بن النعمان و كانت عنده- و أصيبت يومئذ عين قتادة حتى وقعت على وجنته- قال قتادة- فجئت إلى رسول الله ص فقلت يا رسول الله- إن تحتي امرأة شابة جميلة- أحبها و تحبني- و أنا أخشى أن تقذر مكان عيني- فأخذها رسول الله ص فردها و انصرف بها- و عادت كما كانت- فلم تضرب عليه ساعة من ليل و نهار- و كان يقول بعد أن أسن- هي أقوى عيني و كانت أحسنهما- .

قال الواقدي- و باشر رسول الله ص القتال بنفسه- فرمى بالنبل حتى فنيت نبله- و انكسرت سية قوسه- و قبل ذلك انقطع وتره- و بقيت في يده قطعة تكون شبرا في سية القوس- فأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له- فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر- فقال مده يبلغ- قال عكاشة فو الذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ- و طويت منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس- ثم أخذه رسول الله ص- فما زال يرامي القوم- و أبو طلحة أمامه يستره مترسا عنه- حتى نظرت إلى سية قوسه قد تحطمت- فأخذها قتادة بن النعمان قال الواقدي- و كان أبو طلحة يوم أحد- قد نثل كنانته بين يدي النبي ص- و كان راميا و كان صيتا- فقال رسول الله ص- لصوت أبي طلحة في الجيش خير من أربعين رجلا- و كان في كنانته خمسون سهما- نثلها بين يدي‏رسول الله ص- و جعل يصيح نفسي دون نفسك يا رسول الله- فلم يزل يرمي بها سهما سهما- و كان رسول الله ص- يطلع رأسه من خلف أبي طلحة بين أذنه و منكبه- ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله- و هو يقول نحري دون نحرك- جعلني الله فداك- قالوا إنه كان رسول الله ص- ليأخذ العود من الأرض فيقول- ارم يا أبا طلحة فيرمي به سهما جيدا- .

قال الواقدي- و كان الرماة المذكورون من أصحاب رسول الله ص جماعة- منهم سعد بن أبي وقاص و أبو طلحة و عاصم بن ثابت و السائب بن عثمان بن مظعون- و المقداد بن عمرو و زيد بن حارثة- و حاطب بن أبي بلتعة و عتبة بن غزوان- و خراش بن الصمة و قطبة بن عامر بن حديدة- و بشر بن البراء بن معرور- و أبو نائلة ملكان بن سلامة و قتادة بن النعمان- .

قال الواقدي- و رمى أبو رهم الغفاري بسهم فأصاب نحره- فجاء إلى رسول الله ص فبصق عليه فبرأ- فكان أبو رهم بعد ذلك يسمى المنحور- . و روى أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد اللغوي- غلام ثعلب- و رواه أيضا محمد بن حبيب في أماليه- أن رسول الله ص لما فر معظم أصحابه عنه يوم أحد- كثرت عليه كتائب المشركين- و قصدته كتيبة من بني كنانة- ثم من بني عبد مناة بن كنانة- فيها بنو سفيان بن عويف- و هم خالد بن سفيان و أبو الشعثاء بن سفيان- و أبو الحمراء بن سفيان و غراب بن سفيان- فقال رسول الله ص يا علي اكفني هذه الكتيبة- فحمل عليها و إنها لتقارب خمسين فارسا- و هو ع راجل- فما زال يضربها بالسيف- حتى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه- هكذا مرارا حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة- و تمام العشرة منها ممن لا يعرف بأسمائهم- فقال جبرئيل‏ع لرسول الله ص- يا محمد إن هذه المواساة لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى- فقال رسول الله ص و ما يمنعه و هو مني و أنا منه- فقال جبرائيل ع و أنا منكما- قال و سمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء- لا يرى شخص الصارخ به ينادي مرارا-

لا سيف إلا ذو الفقار
و لا فتى إلا علي

فسئل رسول الله ص عنه- فقال هذا جبرائيل- . قلت و قد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين- و هو من الأخبار المشهورة- و وقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن إسحاق- و رأيت بعضها خاليا عنه- و سألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة رحمه الله عن هذا الخبر- فقال خبر صحيح فقلت فما بال الصحاح لم تشتمل عليه- قال أ و كلما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح- كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة- .

قال الواقدي- و أقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي- يحضر فرسا له أبلق- يريد رسول الله ص عليه لأمة كاملة- و رسول الله ص متوجه إلى الشعب و هو يصيح- لا نجوت إن نجوت- فيقف رسول الله ص- و يعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر- التي حفرها أبو عامر الفاسق للمسلمين- فيقع الفرس لوجهه و سقط عثمان عنه- و خرج الفرس غائرا- فيأخذه بعض أصحاب رسول الله ص- و يمشي إليه الحارث بن الصمة فاضطربا ساعة بالسيفين- ثم يضرب الحارث رجله و كانت درعه مشمرة فبرك- و ذفف عليه و أخذ الحارث‏ يومئذ سلبه- درعا جيدا و مغفرا و سيفا جيدا- و لم يسمع بأحد من المشركين سلب يومئذ غيره- و رسول الله ص ينظر إلى قتالهما- فسأل عن الرجل قيل عثمان بن عبد الله بن المغيرة- قال الحمد لله الذي أحانه- و قد كان عبد الله بن جحش أسره من قبل ببطن نخلة- حتى قدم به على رسول الله ص- فافتدى و رجع إلى قريش و غزا معهم أحدا- فقتل هناك- و يرى مصرع عثمان عبيد بن حاجز العامري- أحد بني عامر بن لؤي- فأقبل يعدو كأنه سبع- فيضرب حارث بن الصمة ضربة على عاتقه- فوقع الحارث جريحا حتى احتمله أصحابه- و يقبل أبو دجانة على عبيد بن حاجز- فتناوشا ساعة من نهار- و كل واحد منهما يتقي بالدرقة سيف صاحبه- ثم حمل عليه أبو دجانة فاحتضنه- ثم جلد به الأرض و ذبحه بالسيف كما تذبح الشاة- ثم انصرف فلحق برسول الله ص- .

قال الواقدي- و يروى أن سهل بن حنيف- جعل ينضح بالنبل عن رسول الله ص- فقال نبلوا سهلا فإنه سهل- و نظر رسول الله ص إلى أبي الدرداء- و الناس منهزمون في كل وجه- فقال نعم الفارس عويمر غير أنه لم يشهد أحدا- . قال الواقدي- و روى الحارث بن عبيد الله بن كعب بن مالك- قال حدثني من نظر إلى أبي سبرة بن الحارث بن علقمة- و لقي أحد المشركين فاختلفا ضربات- كل ذلك يروغ أحدهما عن الآخر- قال فنظر الناس إليهما- كأنهما سبعان ضاريان يقفان مرة و يقتلان أخرى- ثم تعانقا فوقعا إلى الأرض جميعا- فعلاه أبو سبرة فذبحه بسيفه كما تذبح الشاة- و نهض عنه فيقبل خالد بن الوليد- و هو على فرس أدهم أغر محجل- يجر قناة طويلة فطعن أبا سبرة من خلفه- فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره-و وقع أبو سبرة ميتا- و انصرف خالد بن الوليد- يقول أنا أبو سليمان- .

قال الواقدي- و قاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ- عن النبي ص قتالا شديدا- و كان طلحة يقول- لقد رأيت رسول الله ص حيث انهزم أصحابه- و كثر المشركون فأحدقوا بالنبي ص من كل ناحية- فما أدري أقوم من بين يديه أو من ورائه- أم عن يمينه أم شماله- فأذب بالسيف عنه هاهنا و هاهنا حتى انكشفوا- فجعل رسول الله ص يومئذ يقول لطلحة- لقد أوجب و روي لقد أنحب أي قضى نذره- . قال الواقدي- و روي أن سعد بن أبي وقاص ذكر طلحة فقال- يرحمه الله إنه كان أعظمنا غناء عن رسول الله ص- يوم أحد- قيل كيف يا أبا إسحاق قال- لزم النبي ص- و كنا نتفرق عنه ثم نثوب إليه- لقد رأيته يدور حول النبي ص يترس بنفسه- .

قال الواقدي- و سئل طلحة يا أبا محمد ما أصاب إصبعك- قال رمى مالك بن زهير الجشمي بسهم- يريد رسول الله ص و كان لا تخطئ رميته- فاتقيت بيدي عن وجه رسول الله ص- فأصاب خنصري فشل- . قال الواقدي و قالوا- إن طلحة قال لما رمي حس- فقال رسول الله ص- لو قال بسم الله لدخل الجنة و الناس ينظرون إليه- من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي في الدنيا- و هو من أهل الجنة- فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله طلحة ممن قضى نحبه- .

قال الواقدي- و كان طلحة يحدث يقول- لما جال المسلمون تلك الجولة- ثم تراجعوا أقبل رجل من بني عامر بن لؤي- يدعى شيبة بن مالك بن المضرب- يجر رمحه و هو على فرس أغر كميت مدججا في الحديد- يصيح أنا أبو ذات الوذع- دلوني على محمد فأضرب عرقوب فرسه- فاكتسعت به ثم أتناول رمحه- فو الله ما أخطأت به عن حدقته- فخار كما يخور الثور- فما برحت به واضعا رجلي على خده حتى أزرته شعوب- .

قال الواقدي- و كان طلحة قد أصابته في رأسه المصلبة- ضربه رجل من المشركين ضربتين- ضربة و هو مقبل و ضربة و هو معرض عنه- و كان نزف منها الدم- قال أبو بكر- جئت النبي ص يوم أحد- فقال عليك بابن عمك- فأتي طلحة بن عبيد الله و قد نزف الدم- فجعلت أنضح في وجهه الماء و هو مغشي عليه- ثم أفاق- فقال ما فعل رسول الله ص- فقلت خيرا هو أرسلني إليك- فقال الحمد لله كل مصيبة بعده جلل- .

قال الواقدي- و كان ضرار بن الخطاب الفهري يقول- نظرت إلى طلحة بن عبيد الله- قد حلق رأسه عند المروة في عمرة- فنظرت إلى المصلبة في رأسه- فكان ضرار يقول أنا و الله ضربته- هو استقبلني فضربته ثم أكر عليه- و قد أعرض فأضربه ضربة أخرى قال الواقدي- و لما كان يوم الجمل- و قتل علي ع من قتل من الناس- و دخل البصرة جاءه رجل من العرب- فتكلم بين يديه و نال من طلحة- فزبره علي ع و قال- إنك لم تشهد يوم أحد- و عظم غنائه عن الإسلام مع مكانه من رسول الله ص- فانكسر الرجل و سكت- فقال له قائل من القوم- و ما كان غناؤه و بلاؤه يرحمه الله يوم أحد- فقال علي ع نعم يرحمه الله- لقد رأيته و إنه ليترس بنفسه دون رسول الله ص- و إن السيوف لتغشاه و النبل من كل ناحية- و ما هو إلا جنة لرسول الله ص يقيه بنفسه- فقال رجل- لقد كان يوم أحد يوما قتل فيه أصحاب رسول الله ص- و أصابت رسول الله ص فيه الجراحة- فقال علي ع أشهد لسمعت رسول الله ص يقول- ليت أني غودرت مع أصحابي بنحص الجبل- ثم قال علي ع- لقد رأيتني يومئذ و إني لأذبهم في ناحية- و إن أبا دجانة لفي ناحية يذب طائفة منهم- حتى فرج الله ذلك كله- و لقد رأيتني و انفردت منهم يومئذ فرقة خشناء- فيها عكرمة بن أبي جهل فدخلت وسطهم بالسيف- فضربت به و اشتملوا علي حتى أفضيت إلى آخرهم- ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت- و لكن الأجل استأخر و يقضي الله أمرا كان مفعولا- .

قال الواقدي- و حدثني جابر بن سليم عن عثمان بن صفوان- عن عمارة بن خزيمة قال- حدثني من نظر إلى الحباب بن المنذر بن الجموح- و إنه ليحوشهم يومئذ كما تحاش الغنم- و لقد اشتملوا عليه حتى قيل قد قتل- ثم برز و السيف في يده و افترقوا عنه- و جعل يحمل على فرقة منهم- و إنهم ليهربون منه إلى جمع منهم-و صار الحباب إلى النبي ص- و كان الحباب يومئذ معلما بعصابة خضراء في مغفره- .

قال الواقدي- و طلع يومئذ عبد الرحمن بن أبي بكر- على فرس مدججا لا يرى منه إلا عيناه- فقال من يبارز أنا عبد الرحمن بن عتيق- فنهض إليه أبو بكر و قال أنا أبارزه- و جرد سيفه فقال له رسول الله ص- شم سيفك و ارجع إلى مكانك و متعنا بنفسك- . قال الواقدي و قال رسول الله ص- ما وجدت لشماس بن عثمان شبها إلا الجنة- يعني مما يقاتل عن رسول الله يومئذ- و كان رسول الله ص لا يأخذ يمينا و لا شمالا- إلا رأى شماس بن عثمان في ذلك الوجه- يذب بسيفه عنه حتى غشي رسول الله ص- فترس بنفسه دونه حتى قتل- فذلك قول رسول الله ص- ما وجدت لشماس شبها إلا الجنة- .

قال الواقدي و لما ولى المسلمون- حين عطف عليهم خالد بن الوليد من خلفهم- كان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية- قيس بن محرث مع طائفة من الأنصار- و قد كانوا بلغوا بني حارثة فرجعوا سراعا- فصادفوا المشركين في كثرتهم فدخلوا في حومتهم- فما أفلت منهم رجل حتى قتلوا كلهم- و لقد ضاربهم قيس بن محرث- فامتنع بسيفه حتى قتل منهم نفرا- فما قتلوه إلا بالرماح نظموه- و لقد وجد به أربع عشرة طعنة جائفة و عشر ضربات بالسيف- .

قال الواقدي- و كان عباس بن عبادة بن نظلة- المعروف بابن قوقل- و خارجة بن‏زيد بن أبي زهير- و أوس بن أرقم بن زيد- و عباس رافع صوته يقول يا معشر المسلمين الله و نبيكم- هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم- وعدكم النصر فما صبرتم- ثم نزع مغفره عن رأسه و خلع درعه- و قال لخارجة بن زيد- هل لك في درعي و مغفري- قال خارجة لا أنا أريد الذي تريد- فخالطوا القوم جميعا- و عباس يقول ما عذرنا عند ربنا- إن أصيب نبينا و منا عين تطرف- قال فيقول خارجة لا عذر لنا و الله عند ربنا و لا حجة- فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمي- و لقد ضربه عباس ضربتين- فجرحه جرحين عظيمين فارتث يومئذ جريحا- فمكث جريحا سنة ثم استبل- و أخذت خارجة بن زيد الرماح فجرح بضعة عشر جرحا- فمر به صفوان بن أمية فعرفه- فقال هذا من أكابر أصحاب محمد- و به رمق فأجهز عليه- و قتل أوس بن أرقم- و قال صفوان من رأى خبيب بن يساف- و هو يطلبه فلا يقدر عليه- و مثل يومئذ بخارجة- و قال هذا ممن أغري بأبي يوم بدر يعني أمية بن خلف- و قال الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد- قتلت ابن قوقل و قتلت ابن أبي زهير- و قتلت أوس بن أرقم- .

قال الواقدي- و قال رسول الله ص يومئذ- من يأخذ هذا السيف بحقه- قالوا و ما حقه يا رسول الله- قال يضرب به العدو- فقال عمر أنا يا رسول الله فأعرض عنه- ثم عرضه رسول الله ص بذلك الشرط- فقام الزبير فقال أنا فأعرض عنه- حتى وجد عمر و الزبير في أنفسهما- ثم عرضه الثالثة فقام أبو دجانة- و قال أنا يا رسول الله آخذه بحقه فدفعه إليه- فصدق حين لقي به العدو و أعطى السيف حقه- فقال أحد الرجلين إما عمر بن الخطاب أو الزبير- و الله لأجعلن هذا الرجل الذي أعطاه السيف- و منعنيه من شأني قال فاتبعته- فو الله ما رأيت أحدا قاتل أفضل‏من قتاله- لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه- و خاف ألا يحيك عمد به إلى الحجارة فشحذه- ثم يضرب به العدو حتى يرده كأنه منجل- و كان حين أعطاه رسول الله ص السيف مشى بين الصفين- و اختال في مشيته- فقال رسول الله ص حين رآه يمشي تلك المشية- إن هذه لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن- قال و كان أربعة من أصحاب النبي ص- يعلمون في الزحوف أحدهم أبو دجانة- كان يعصب رأسه بعصابة حمراء- و كان قومه يعلمون أنه إذا اعتصب بها أحسن القتال- و كان علي ع يعلم بصوفة بيضاء- و كان الزبير يعلم بعصابة صفراء- و كان حمزة يعلم بريش نعامة- .

قال الواقدي و كان أبو دجانة يحدث يقول- إني لأنظر يومئذ إلى امرأة تقذف الناس- و تحوشهم حوشا منكرا- فرفعت عليها السيف و ما أحسبها إلا رجلا- حتى علمت أنها امرأة- و كرهت أن أضرب بسيف رسول الله ص امرأة- و المرأة عمرة بنت الحارث- .

قال الواقدي- و كان كعب بن مالك يقول- أصابني الجراح يوم أحد- فلما رأيت المشركين يمثلون بالمسلمين- أشد المثل و أقبحها- قمت فتنحيت عن القتلى- فإني لفي موضعي أقبل خالد بن الأعلم العقيلي- جامع اللأمة يحوش المسلمين- يقول استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم- و هو مدجج في الحديد يصيح- يا معشر قريش- لا تقتلوا محمدا ائسروه أسرا حتى نعرفه ما صنع- و يصمد له قزمان فيضربه بالسيف ضربة على عاتقه- رأيت منها سحره ثم أخذ سيفه و انصرف- فطلع عليه من المشركين فارس ما أرى منه إلا عينيه- فحمل عليه قزمان فضربه ضربة جزله اثنين- فإذا هو الوليد بن العاص بن هشام المخزومي- ثم يقول كعب إني لأنظر يومئذ و أقول- ما رأيت مثل هذا الرجل أشجع‏ بالسيف- ثم ختم له بما ختم له به- فيقال له فما ختم له به- فيقول من أهل النار قتل نفسه يومئذ- .

قال الواقدي و روى أبو النمر الكناني- قال أقبلت يوم أحد و أنا من المشركين- و قد انكشف المسلمون و قد حضرت في عشرة من إخوتي- فقتل منهم أربعة و كان الريح للمسلمين أول ما التقينا- فلقد رأيتني و انكشفنا مولين- و أقبل أصحاب النبي ص على نهب العسكر- حتى بلغت الجماء ثم كرت خيلنا- فقلت و الله ما كرت الخيل إلا عن أمر رأته- فكررنا على أقدامنا كأننا الخيل- فنجد القوم قد أخذ بعضهم بعضا- يقاتلون على غير صفوف- ما يدري بعضهم من يضرب- و ما للمسلمين لواء قائم- و مع رجل من بني عبد الدار لواء المشركين- و أنا أسمع شعار أصحاب محمد بينهم- أمت أمت فأقول في نفسي ما أمت- و إني لأنظر إلى رسول الله ص و إن أصحابه محدقون به- و إن النبل ليمر عن يمينه و يساره- و يقع بين يديه و يخرج من ورائه- و لقد رميت يومئذ بخمسين مرماة- فأصبت منها بأسهم بعض أصحابه- ثم هداني الله إلى الإسلام- .

قال الواقدي- و كان عمرو بن ثابت بن وقش شاكا في الإسلام- و كان قومه يكلمونه في الإسلام- فيقول لو أعلم ما تقولون حقا ما تأخرت عنه- حتى إذا كان يوم أحد بدا له الإسلام- و رسول الله ص بأحد- و أخذ سيفه و أسلم و خرج حتى دخل في القوم- فقاتل حتى أثبت- فوجد في القتلى جريحا ميتا- فدنوا منه و هو بآخر رمق- فقالوا ما جاء بك يا عمرو قال الإسلام- آمنت بالله و برسوله و أخذت سيفي و حضرت- فرزقني الله الشهادة و مات في أيديهم- فقال رسول الله ص- إنه لمن أهل الجنة

قال الواقدي- فكان أبو هريرة يقول و الناس حوله- أخبروني برجل يدخل الجنة لم يصل لله تعالى سجدة- فيسكت الناس فيقول أبو هريرة- هو أخو بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش- . قال الواقدي- و كان مخيرق اليهودي من أحبار يهود- فقال يوم السبت و رسول الله ص بأحد- يا معشر يهود و الله إنكم لتعلمون أن محمدا نبي- و أن نصره عليكم حق- فقالوا ويحك اليوم يوم السبت- فقال لا سبت ثم أخذ سلاحه و حضر مع النبي ص- فأصيب فقال رسول الله ص مخيرق خير يهود- . قال الواقدي- و كان مخيرق قال حين خرج إلى أحد- إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله فيه- فهي عامة صدقات النبي ص- .

قال الواقدي- و كان حاطب بن أمية منافقا- و كان ابنه يزيد بن حاطب رجل صدق- شهد أحدا مع النبي ص فارتث جريحا- فرجع به قومه إلى منزله- قال يقول أبوه و هو يرى أهل الدار يبكون عنده- أنتم و الله صنعتم هذا به- قالوا كيف قال أغررتموه من نفسه حتى خرج فقتل- ثم صرتم معه إلى شي‏ء آخر تعدونه جنة- يدخل فيها حبة من حرمل- قالوا قاتلك الله قال هو ذاك- و لم يقر بالإسلام- .

قال الواقدي- و كان قزمان عسيفا من بني ظفر- لا يدرى ممن هو و كان لهم محبا-و كان مقلا و لا ولد له و لا زوجة- و كان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم- التي كانت تكون بينهم- فشهد أحدا و قاتل قتالا شديدا- فقتل ستة أو سبعة- فأصابته الجراح فقيل للنبي ص- إن قزمان قد أصابته الجراح فهو شهيد- فقال بل من أهل النار فجاءوا إلى قزمان- فقالوا هنيئا لك أبا الغيداق الشهادة- فقال بم تبشرونني و الله ما قاتلنا إلا على الأحساب- قالوا بشرناك بالجنة- قال حبة و الله من حرمل- إنا و الله ما قاتلنا على جنة و لا على نار- إنما قاتلنا على أحسابنا- ثم أخرج سهما من كنانته- فجعل يتوجأ به نفسه- فلما أبطأ عليه المشقص أخذ السيف- فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره- فذكر ذلك للنبي ص فقال- هو من أهل النار- .

قال الواقدي- و كان عمرو بن الجموح رجلا أعرج- فلما كان يوم أحد و كان له بنون أربعة- يشهدون مع النبي ص المشاهد أمثال الأسد- أراد قومه أن يحبسوه- و قالوا أنت رجل أعرج و لا حرج عليك- و قد ذهب بنوك مع النبي ص- قال بخ يذهبون إلى الجنة و أجلس أنا عندكم- فقالت هند بنت عمرو بن حزام امرأته- كأني أنظر إليه موليا قد أخذ درقته- و هو يقول اللهم لا تردني إلى أهلي- فخرج و لحقه بعض قومه يكلمونه في القعود- فأبى و جاء إلى رسول الله ص فقال- يا رسول الله- إن قومي يريدون أن يحبسوني- عن هذا الوجه و الخروج معك- و الله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة- فقال له أما أنت فقد عذرك الله و لا جهاد عليك- فأبى فقال النبي ص لقومه و بنيه- لا عليكم أن تمنعوه- لعل الله يرزقه الشهادة فخلوا عنه- فقتل يومئذ شهيدا- و كان أبو طلحة يحدث- يقول نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون- ثم ثابوا و هو في الرعيل الأول- لكأني أنظر إلى ضلعه و هو يعرج في مشيته- و هو يقول أنا و الله مشتاق إلى الجنة- ثم أنظر إلى ابنه يعدو في أثره- حتى قتلا جميعا- .

قال الواقدي- و كانت عائشة خرجت في نسوة تستروح الخبر- و لم يكن قد ضرب الحجاب يومئذ- حتى كانت بمنقطع الحرة- و هي هابطة من بني حارثة إلى الوادي- لقيت هندا بنت عمرو بن حزام- أخت عبد الله بن عمرو بن حزام- تسوق بعيرا لها- عليه زوجها عمرو بن الجموح- و ابنها خلاد بن عمرو بن الجموح- و أخوها عبد الله بن عمرو بن حزام أبو جابر بن عبد الله- فقالت لها عائشة عندك الخبر- فما وراءك فقالت هند خير- أما رسول الله ص فصالح- و كل مصيبة بعده جلل- و اتخذ الله من المؤمنين شهداء- وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً- وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً- .

قلت هكذا وردت الرواية- و عندي أنها لم تقل كل ذلك و لعلها قالت- وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لا غير- و إلا فكيف يواطئ كلامها آية من كلام الله تعالى- أنزلت بعد الخندق و الخندق بعد أحد- هذا من البعيد جدا- . قال فقالت لها عائشة فمن هؤلاء- قالت أخي و ابني و زوجي قتلى- قالت فأين تذهبين بهم- قالت إلى المدينة أقبرهم بها- حل حل تزجر بعيرها فبرك البعير- فقالت عائشة لثقل ما حمل قالت هند ما ذاك به- لربما حمل ما يحمله البعيران و لكني أراه لغير ذلك- فزجرته فقام فلما وجهت به إلى المدينة برك- فوجهته راجعة إلى أحد فأسرع- فرجعت إلى النبي ص فأخبرته بذلك- فقال إن الجمل لمأمور هل قال عمرو شيئا- قالت نعم إنه لما وجه إلى أحد استقبل القبلة- ثم قال اللهم لا تردني إلى أهلي و ارزقني الشهادة- فقال ص فلذلك الجمل لا يمضي- إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره- منهم عمرو بن الجموح يا هند- ما زالت الملائكة مظلة على أخيك- من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن- ثم مكث رسول الله ص في قبرهم- ثم قال يا هند قد ترافقوا في الجنةجميعا- عمرو بن الجموح بعلك و خلاد ابنك- و عبد الله أخوك فقالت هند- يا رسول الله فادع الله لي عسى أن يجعلني معهم- . قال الواقدي- و كان جابر بن عبد الله يقول- اصطبح ناس يوم أحد الخمر- منهم أبي فقتلوا شهداء- .

قال الواقدي و كان جابر يقول- أول قتيل من المسلمين يوم أحد أبي- قتله سفيان بن عبد شمس أبو الأعور السلمي- فصلى عليه رسول الله ص قبل الهزيمة- .

قال الواقدي و كان جابر يحدث و يقول- استشهد أبي و جعلت عمتي تبكي- فقال النبي ص ما يبكيها- ما زالت الملائكة تظل عليه بأجنحتها حتى دفن- . قال الواقدي- و قال عبيد الله بن عمرو بن حزام- رأيت في النوم قبل يوم أحد بأيام- مبشر بن عبد المنذر أحد الشهداء ببدر- يقول لي أنت قادم علينا في أيام- فقلت فأين أنت قال في الجنة- نسرح منها حيث نشاء- فقلت له أ لم تقتل يوم بدر- قال بلى ثم أحييت- فذكر ذلك لرسول الله ص قال- هذه الشهادة يا جابر- .

قال الواقدي- و قال رسول الله ص يوم أحد- ادفنوا عبد الله بن عمرو بن حزام- و عمرو بن الجموح في قبر واحد- و يقال إنهما وجدا و قد مثل بهما كل مثلة- قطعت آرابهما عضوا عضوا- فلا تعرف أبدانهما- فقال النبي ص- ادفنوهما في قبر واحد- و يقال إنما أمر بدفنهما في قبر واحد- لما كان بينهمامن الصفاء- فقال ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد- . و كان عبد الله بن عمرو بن حزام- رجلا أحمر أصلع ليس بالطويل- و كان عمرو بن الجموح طويلا- فعرفا و دخل السيل بعد عليهما- و كان قبرهما مما يلي السيل فحفر عنهما- و عليهما نمرتان و عبد الله قد أصابه جرح في وجهه- فيده على وجهه فأميطت يده عن جرحه- فثعب الدم فردت إلى مكانها فسكن الدم- .

قال الواقدي- و كان جابر بن عبد الله يقول- رأيت أبي في حفرته و كأنه نائم- و ما تغير من حاله قليل و لا كثير- فقيل له أ فرأيت أكفانه- قال إنما كفن في نمرة خمر بها وجهه- و على رجليه الحرمل فوجدنا النمرة كما هي- و الحرمل على رجليه كهيئته- و بين ذلك و بين وقت دفنه ست و أربعون سنة- فشاورهم جابر في أن يطيبه بمسك- فأبى ذلك أصحاب النبي ص و قالوا- لا تحدثوا فيهم شيئا- . قال و يقال إن معاوية لما أراد أن يجري العين- التي أحدثها بالمدينة و هي كظلمة- نادى مناديه بالمدينة من كان له قتيل بأحد فليشهد- فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم رطابا يتثنون- فأصابت المسحاة رجل رجل منهم فثعبت دما- فقال أبو سعيد الخدري- لا ينكر بعد هذا منكر أبدا- .

قال و وجد عبد الله بن عمرو بن حزام- و عمرو بن الجموح في قبر واحد- و وجد خارجة بن زيد بن أبي زهير- و سعد بن الربيع في قبر واحد- فأما قبر عبد الله و عمرو فحول- و ذلك أن القناة كانت تمر على قبرها- و أما قبر خارجة و سعد فترك- و ذلك لأن مكانه كان معتزلا- و سوي عليهما التراب- و لقد كانوا يحفرون التراب- فكلما حفروا قترة من تراب فاح عليهم المسك- .

قال و قالوا إن رسول الله ص قال لجابر يا جابر- أ لا أبشرك فقال بلى بأبي و أمي- قال فإن الله أحيا أباك ثم كلمه كلاما- فقال له تمن على ربك ما شئت- فقال أتمنى أن أرجع فأقتل مع نبيك- ثم أحيا فأقتل مع نبيك فقال- إني قد قضيت أنهم لا يرجعون

قال الواقدي- و كانت نسيبة بنت كعب- أم عمارة بن غزية بن عمرو قد شهدت أحدا- و زوجها غزية- و ابناها عمارة بن غزية و عبد الله بن زيد- و خرجت و معها شن لها- في أول النهار تريد تسقي الجرحى- فقاتلت يومئذ و أبلت بلاء حسنا- فجرحت اثني عشر جرحا- بين طعنة برمح أو ضربة بسيف- فكانت أم سعد بنت سعد بن الربيع تحدث- فتقول دخلت عليها فقالت لها يا خالة- حدثيني خبرك فقالت- خرجت أول النهار إلى أحد- و أنا أنظر ما يصنع الناس و معي سقاء فيه ماء- فانتهيت إلى رسول الله ص و هو في الصحابة- و الدولة و الريح للمسلمين- فلما انهزم المسلمون- انحزت إلى رسول الله ص فجعلت أباشر القتال- و أذب عن رسول الله ص بالسيف- و أرمي بالقوس حتى خلصت إلى الجراح- فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور- فقلت يا أم عمارة من أصابك بهذا- قالت أقبل ابن قميئة- و قد ولى الناس عن رسول الله ص- يصيح دلوني على محمد لا نجوت إن نجا- فاعترض له مصعب بن عمير و ناس معه- فكنت فيهم فضربني هذه الضربة- و لقد ضربته على ذلك ضربات- و لكن عدو الله كان عليه درعان- فقالت لها يدك ما أصابها- قالت أصيبت يوم اليمامة- لما جعلت الأعراب تنهزم بالناس- نادت الأنصار أخلصونا- فأخلصت الأنصار فكنت معهم- حتى انتهينا إلى حديقة الموت فاقتتلنا عليها ساعة- حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة- و دخلتهاو أنا أريد عدو الله مسيلمة- فيعرض لي رجل فضرب يدي فقطعها- فو الله ما كانت ناهية و لا عرجت عليها- حتى وقفت على الخبيث مقتولا- و ابني عبد الله بن يزيد المازني يمسح سيفه بثيابه- فقلت أ قتلته قال نعم- فسجدت شكرا لله عز و جل و انصرفت- .

قال الواقدي- و كان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته- و كانت قد شهدت أحدا تسقي الماء- قال سمعت رسول الله ص يقول يومئذ- لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان و فلان- و كان يراها يومئذ تقاتل أشد القتال- و إنها لحاجزة ثوبها على وسطها- حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا- . قلت ليت الراوي لم يكن هذه الكناية- و كان يذكرهما باسمهما- حتى لا تترامى الظنون إلى أمور مشتبهة- و من أمانة المحدث أن يذكر الحديث على وجهه- و لا يكتم منه شيئا- فما باله كتم اسم هذين الرجلين- .

قال فلما حضرت نسيبة الوفاة كنت فيمن غسلها- فعددت جراحها جرحا جرحا فوجدتها ثلاثة عشر- و كانت تقول إني لأنظر إلى ابن قميئة- و هو يضربها على عاتقها- و كان أعظم جراحها لقد داوته سنة- ثم نادى منادي النبي ص بعد انقضاء أحد- إلى حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها- فما استطاعت من نزف الدم- و لقد مكثنا ليلتنا نكمد الجراح حتى أصبحنا- فلما رجع رسول الله من حمراء الأسد- لم يصل إلى بيته- حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها- فرجع إليه فأخبره بسلامتها فسر بذلك- .

قال الواقدي- و حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية قال- قالت أم عمارةلقد رأيتني- و انكشف الناس عن رسول الله ص- فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة- و أنا و أبنائي و زوجي بين يديه نذب عنه- و الناس يمرون عنه منهزمين فرآني و لا ترس معي- و رأى رجلا موليا معه ترس- فقال يا صاحب الترس- ألق ترسك إلى من يقاتل- فألقى ترسه فأخذته- فجعلت أترس به على النبي ص- و إنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل- و لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم- فيقبل رجل على فرس فضربني و ترست له- فلم يصنع سيفه شيئا- و ولى و أضرب عرقوب فرسه- فوقع على ظهره- فجعل النبي ص يصيح- يا ابن عمارة أمك أمك- قالت فعاونني عليه حتى أوردته شعوب- .

قال الواقدي و حدثني ابن أبي سبرة- عن عمرو بن يحيى عن أبيه- عن عبد الله بن زيد المازني- قال جرحت جرحا في عضدي اليسرى- ضربني رجل كأنه الرقل و لم يعرج علي و مضى عني و جعل الدم لا يرقأ- فقال رسول الله ص- اعصب جرحك فتقبل أمي إلي- و معها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح- فربطت جرحي و النبي ص واقف ينظر- ثم قالت انهض يا بني فضارب القوم- فجعل رسول الله ص يقول- و من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة- قالت و أقبل الرجل الذي ضربني- فقال رسول الله ص هذا ضارب ابنك- فاعترضت أمي له فضربت ساقه فبرك- فرأيت النبي ص تبسم حتى بدت نواجذه- ثم قال استقدت يا أم عمارة- ثم أقبلنا نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه- فقال النبي ص- الحمد لله الذي ظفرك و أقر عينك من عدوك- و أراك ثأرك بعينك- .

قال الواقدي- و روى موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه- قال أتي عمر بن الخطاب في أيام خلافته بمروط- كان فيها مرط واسع جيد- فقال بعضهم إن هذا المرط بثمن كذا- فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر- صفية بنت أبي عبيد- و ذلك حدثان ما دخلت على ابن عمر- فقال بل أبعث به إلى من هو أحق منها- أم عمارة نسيبة بنت كعب- سمعت رسول الله ص يوم أحد يقول- ما ألتفت يمينا و شمالا إلا و أنا أراها تقاتل دوني- .

قال الواقدي- و روى مروان بن سعيد بن المعلى قال- قيل لأم عمارة يا أم عمارة- هل كن نساء قريش يومئذ يقاتلن مع أزواجهن- فقالت أعوذ بالله- لا و الله ما رأيت امرأة منهن رمت بسهم و لا حجر- و لكن رأيت معهن الدفاف و الأكبار- يضربن و يذكرن القوم قتلى بدر- و معهن مكاحل و مراود- فكلما ولى رجل أو تكعكع- ناولته إحداهن مرودا و مكحلة- و يقلن إنما أنت امرأة- و لقد رأيتهن ولين منهزمات مشمرات- و لها عنهن الرجال أصحاب الخيل- و نجوا على متون خيلهم- و جعلن يتبعن الرجال على أقدامهن- فجعلن يسقطن في الطريق- و لقد رأيت هندا بنت عتبة و كانت امرأة ثقيلة- و لها خلق قاعدة خاشية من الخيل- ما بها مشي و معها امرأة أخرى- حتى كثر القوم علينا- فأصابوا منا ما أصابوا- فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذ- من قبل الرماة و معصيتهم لرسول الله ص- .

قال الواقدي- و حدثني ابن أبي سبرة- عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة- عن الحارث بن عبد الله- قال سمعت عبد الله بن زيد بن عاصم- يقول شهدت أحدامع رسول الله ص- فلما تفرق الناس عنه- دنوت منه و أمي تذب عنه- فقال يا ابن عمارة قلت نعم قال ارم- فرميت بين يديه رجلا من المشركين بحجر- و هو على فرس فأصيبت عين الفرس- فاضطرب الفرس حتى وقع هو و صاحبه- و جعلت أعلوه بالحجارة- حتى نضدت عليه منها وقرا- و النبي ص ينظر إلي و يتبسم- فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها- فقال أمك أمك اعصب جرحها- بارك الله عليكم من أهل بيت- لمقام أمك خير من مقام فلان و فلان- و مقام ربيبك يعني زوج أمه- خير من مقام فلان- رحمكم الله من أهل بيت- فقالت أمي ادع لنا الله- يا رسول الله أن نرافقك في الجنة- فقال اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة-

قالت فما أبالي ما أصابني من الدنيا قال الواقدي- و كان حنظلة بن أبي عامر- تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول- فأدخلت عليه في الليلة التي في صبيحتها قتال أحد- و كان قد استأذن رسول الله ص أن يبيت عندها- فأذن له- فلما صلى الصبح غدا يريد النبي ص- فلزمته جميلة فعاد فكان معها- فأجنب منها ثم أراد الخروج- و قد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها- فأشهدتهم أنه قد دخل بها- فقيل لها بعد لم أشهدت عليه- قالت رأيت كأن السماء فرجت- فدخل فيها ثم أطبقت- فقلت هذه الشهادة- فأشهدت عليه أنه قد دخل بي- فعلقت منه بعبد الله بن حنظلة- ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد- فولدت له محمد بن ثابت بن قيس- و أخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه- فلحق برسول الله ص بأحد- و هو يسوي الصفوف فلما انكشف المشركون- اعترض حنظلة لأبي سفيان بن حرب- فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس- و يقع أبو سفيان إلى الأرض- فجعل يصيح يا معشر قريش- أنا أبو سفيان بن حرب- و حنظلة يريد ذبحه بالسيف- فأسمع الصوت رجالا لا يلتفتون إليه من الهزيمة- حتى عاينه الأسود بن شعوب- فحمل على حنظلة بالرمح‏ فأنفذه- و مشى حنظلة إليه في الرمح فضربه ثانية فقتله- و هرب أبو سفيان يعدو على قدميه- فلحق ببعض قريش فنزل عن صدر فرسه- و ردف وراءه أبا سفيان- فذلك قول أبي سفيان- يذكر صبره و وقوفه و أنه لم يفر- و ذكره محمد بن إسحاق-

و لو شئت نجتني كميت طمرة
و لم أحمل النعماء لابن شعوب‏

و ما زال مهري مزجر الكلب فيهم‏
لدن غدوة حتى دنت لغروب‏

أقاتلهم و أدعي يال غالب
و أدفعهم عني بركن صليب‏

فبكي و لا ترعى مقالة عاذل‏
و لا تسأمي من عبرة و نحيب‏

أياك و إخوانا لنا قد تتابعوا
و حق لهم من حسرة بنصيب‏

و سلي الذي قد كان في النفس إنني‏
قتلت من النجار كل نجيب‏

و من هاشم قرما كريما و مصعبا
و كان لدى الهيجاء غير هيوب‏

و لو أنني لم أشف نفسي منهم‏
لكانت شجا في الصدر ذات ندوب‏

فآبوا و قد أودى الجلابيب
منهم بهم كمد من واجم و كئيب‏

أصابهم من لم يكن لدمائهم‏
كفاء و لا في سنخهم بضريب‏‏

قال الواقدي- مر أبو عامر الراهب على حنظلة ابنه- و هو مقتول إلى جنب‏ حمزة بن عبد المطلب- و عبد الله بن جحش- فقال إن كنت لأحدرك هذا الرجل- يعني رسول الله ص- من قبل هذا المصرع- و الله إن كنت لبرا بالوالد- شريف الخلق في حياتك- و إن مماتك لمع سراة أصحابك و أشرافهم- إن جزى الله هذا القتيل يعني حمزة خيرا- أو جزى أحدا من أصحاب محمد خيرا فليجزك- ثم نادى يا معشر قريش حنظلة لا يمثل به- و إن كان خالفني و خالفكم- فلم يأل لنفسه فيما يرى خيرا- فمثل بالناس و ترك حنظلة فلم يمثل به- . و كانت هند بنت عتبة- أول من مثل بأصحاب النبي ص- و أمرت النساء بالمثل و بجدع الأنوف و الآذان- فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان و مسكتان و خدمتان- إلا حنظلة لم يمثل به- وقال رسول الله ص إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر- بين السماء و الأرض بماء المزن في صحاف الفضة- قال أبو أسيد الساعدي- فذهبنا فنظرنا إليه فإذا رأسه يقطر ماء- فرجعت إلى رسول الله ص فأخبرته- فأرسل إلى امرأته فسألها- فأخبرته أنه خرج و هو جنب- .

قال الواقدي- و أقبل وهب بن قابوس المزني- و معه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس- بغنم لهما من جبل مزينة- فوجد المدينة خلوا فسألا أين الناس- قالوا بأحد- خرج رسول الله ص يقاتل المشركين من قريش- فقال لا نبتغي أثرا بعد عين- فخرجا حتى أتيا النبي ص بأحد- فيجدان القوم يقتتلون- و الدولة لرسول الله ص و أصحابه- فأغارا مع المسلمين في النهب- و جاءت الخيل من ورائهم- خالد بن الوليد و عكرمة بن أبي جهل- فاختلط الناس فقاتلا أشد القتال- فانفرقت فرقة من المشركين- فقال رسول الله ص من لهذه الفرقة- فقال وهب بن قابوس أنا يا رسول الله- فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا- ثم رجع فانفرقت فرقةأخرى- فقال رسول الله ص من لهذه الكتيبة- فقال المزني أنا يا رسول الله- فقام فذبها بالسيف حتى ولت- ثم رجع فطلعت كتيبة أخرى- فقال النبي ص من يقوم لهؤلاء- فقال المزني أنا يا رسول الله- فقال قم و أبشر بالجنة- .

فقال المزني مسرورا يقول- و الله لا أقيل و لا أستقيل- فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف- و رسول الله ص ينظر إليه و المسلمون- حتى خرج من أقصى الكتيبة- و رسول الله ص يقول اللهم ارحمه- ثم يرجع فيهم فما زال كذلك و هم محدقون به- حتى اشتملت عليه أسيافهم و رماحهم- فقتلوه فوجد به يومئذ عشرون طعنة بالرماح- كلها قد خلصت إلى مقتلي- و مثل به أقبح المثل يومئذ- ثم قام ابن أخيه- فقاتل كنحو قتاله حتى قتل- فكان عمر بن الخطاب يقول- إن أحب ميتة أموت عليها لما مات عليها المزني- .

قال الواقدي- و كان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول- شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص- فلما فتح الله علينا و قسمت بيننا غنائمنا- أسقط فتى من آل قابوس من مزينة- فجئت سعدا حين فزع من نومه- فقال بلال قلت بلال- قال مرحبا بك من هذا معك- قلت رجل من قومي- قال ما أنت يا فتى من المزني الذي قتل يوم أحد- قال ابن أخيه قال سعد مرحبا و أهلا- أنعم الله بك عينا- لقد شهدت من ذلك الرجل يوم أحد مشهدا- ما شهدت من أحد قط- لقد رأيتنا و قد أحدق المشركون بنا من كل ناحية- و رسول الله ص وسطنا- و الكتائب تطلع من كل ناحية- و إن رسول الله ص يرمي ببصره في الناس يتوسمهم- و يقول من لهذه الكتيبة- كل ذلك يقول المزني أنا يا رسول الله- كل ذلك يرد الكتيبة فما أنسى آخر مرة قالها- فقال له رسول الله ص- قم‏و أبشر بالجنة- فقام و قمت على أثره- يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذ من الشهادة- فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية- فأصابوه رحمه الله- و وددت و الله أني كنت أصبت يومئذ معه- و لكن أجل استأخر- ثم دعا من ساعته بسهمه فأعطاه و فضله- و قال اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك- فقال بلال إنه يستحب الرجوع فرجع- .

فقال الواقدي- و قال سعد بن أبي وقاص- أشهد لرأيت رسول الله ص واقفا على المزني و هو مقتول- و هو يقول رضي الله عنك فإني عنك راض- ثم رأيت رسول الله ص قام على قدميه- و قد ناله ع من ألم الجراح ما ناله- و إني لأعلم أن القيام يشق عليه على قبره- حتى وضع في لحده و عليه بردة- لها أعلام حمر- فمد رسول الله ص البردة على رأسه- فخمره و أدرجه فيها طولا- فبلغت نصف ساقيه فأمرنا فجمعنا الحرمل- فجعلناه على رجليه و هو في لحده ثم انصرف- فما حال أحب إلي من أن أموت عليها- و ألقى الله عليها من حال المزني قال الواقدي- و كان رسول الله ص يوم أحد- قد خاصم إليه يتيم من الأنصار- أبا لبابة بن عبد المنذر فطلب بينهما- فقضى رسول الله ص لأبي لبابة- فجزع اليتيم على العذق- فطلب رسول الله ص العذق إلى أبي لبابة لليتيم- فأبى أن يدفعه إليه- فجعل رسول الله ص يقول لأبي لبابة- ادفعه إليه و لك عذق في الجنة- فأبى أبو لبابة- و قال ثابت بن أبي الدحداحة- يا رسول الله أ رأيت إن أعطيت اليتيم عذقه من مالي- قال لك به عذق في الجنة- فذهب ثابت بن الدحداحة- فاشترى من أبي لبابة ذلك العذق بحديقة نخل- ثم رد العذق إلى الغلام-فقال رسول الله ص- رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة- فكانت ترجى له الشهادة بذلك القول- فقتل يوم أحد- .

قال الواقدي- و يقبل ضرار بن الخطاب فارسا يجر قناة له طويلة- فيطعن عمرو بن معاذ فأنفذه- و يمشي عمرو إليه حتى غلب فوقع لوجهه- قال يقول ضرار- لا تعدمن رجلا زوجك من الحور العين- و كان يقول زوجت يوم أحد- عشرة من أصحاب محمد الحور العين- .

قال الواقدي فسألت شيوخ الحديث- هل قتل عشرة- قالوا ما بلغنا أنه قتل إلا ثلاثة- و لقد ضرب يومئذ عمر بن الخطاب- حين جال المسلمون تلك الجولة بالقناة- و قال يا ابن الخطاب- إنها نعمة مشكورة ما كنت لأقتلك- . قال الواقدي- و كان ضرار يحدث بعد- و يذكر وقعة أحد- و يذكر الأنصار فيترحم عليهم- و يذكر غناءهم في الإسلام- و شجاعتهم و إقدامهم على الموت- ثم يقول لقد قتل أشراف قومي ببدر- فأقول من قتل أبا الحكم- فيقال ابن عفراء- من قتل أمية بن خلف- فيقال خبيب بن يساف- من قتل عقبة بن أبي معيط- فيقال عاصم بن ثابت- من قتل فلان بن فلان فيسمي لي من الأنصار- من أسر سهيل بن عمرو- فيقال مالك بن الدخشم- فلما خرجنا إلى أحد و أنا أقول- إن قاموا في صياصيهم فهي منيعة- لا سبيل لنا إليهم نقيم أياما ثم ننصرف- و إن خرجوا إلينا من صياصيهم أصبنا منهم- فإن معنا عددا أكثر من عددهم- و نحن قوم موتورون- خرجنا بالظعن يذكرننا قتلى بدر- و معنا كراع و لا كراع معهم- و سلاحنا أكثر من سلاحهم- فقضي لهم أن خرجوا فالتقينا- فو الله ما قمنا لهم حتى هزمنا و انكشفنا مولين- فقلت‏ في نفسي هذه أشد من وقعة بدر- و جعلت أقول لخالد بن الوليد- كر على القوم- فيقول و ترى وجها نكر فيه- حتى نظرت إلى الجبل الذي كان عليه الرماة خاليا- فقلت يا أبا سليمان انظر وراءك- فعطف عنان فرسه و كررنا معه- فانتهينا إلى الجبل فلم نجد عليه أحدا له بال- وجدنا نفيرا فأصبناهم- ثم دخلنا العسكر- و القوم غارون ينتبهون عسكرنا- فأقحمنا الخيل عليهم- فتطايروا في كل وجه- و وضعنا السيوف فيهم حيث شئنا- و جعلت أطلب الأكابر من الأوس و الخزرج- قتلة الأحبة- فلا أرى أحدا هربوا- فما كان حلب ناقة حتى تداعت الأنصار بينها- فأقبلت فخالطونا و نحن فرسان- فصبرنا لهم و صبروا لنا- و بذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسي- و ترجلت فقتلت منهم عشرة- و لقيت من رجل منهم الموت الناقع- حتى وجدت ريح الدم- و هو معانقي ما يفارقني- حتى أخذته الرماح من كل ناحية فوقع- فالحمد لله الذي أكرمهم بيدي- و لم يهني بأيديهم- .

قال الواقدي- و قال رسول الله ص يوم أحد- من له علم بذكوان بن عبد قيس- فقال علي ع- أنا رأيت يا رسول الله فارسا يركض في أثره حتى لحقه- و هو يقول لا نجوت إن نجوت- فحمل عليه فرسه و ذكوان راجل- فضربه و هو يقول- خذها و أنا ابن علاج فقتله- فأهويت إلى الفارس فضربت رجله بالسيف- حتى قطعتها من نصف الفخذ- ثم طرحته عن فرسه فذففت عليه- و إذا هو أبو الحكم بن أخنس بن شريق- بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي- .

قال الواقدي و قال علي ع- لما كان يوم أحد و جال الناس تلك الجولة- أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة- و هو دارع مقنع في الحديد ما يرى منه إلا عيناه- و هو يقول يوم بيوم بدر- فيعرض له رجل من المسلمين- فقتله أمية قال علي ع- و أصمد له فأضربه بالسيف على هامته- و عليه بيضة و تحت البيضة مغفر- فنبا سيفي‏ و كنت رجلا قصيرا- و يضربني بسيفه فأتقي بالدرقة- فلحج سيفه فأضربه- و كانت درعه مشمرة فأقطع رجليه- فوقع و جعل يعالج سيفه- حتى خلصه من الدرقة- و جعل يناوشني و هو بارك- حتى نظرت إلى فتق تحت إبطه- فأحش فيه بالسيف- فمال فمات و انصرفت- . قال الواقدي- و في يوم أحد انتمى رسول الله ص فقال- أنا ابن العواتك و قال أيضا-
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب‏-.

قال الواقدي- بينا عمر بن الخطاب يومئذ في رهط من المسلمين قعود- مر بهم أنس بن النضر بن ضمضم- عم أنس بن مالك- فقال ما يقعدكم- قالوا قتل رسول الله ص- قال فما تصنعون بالحياة بعده- قوموا فموتوا على ما مات عليه- ثم قام فجالد بسيفه حتى قتل- فقال عمر بن الخطاب- إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده يوم القيامة- وجد به سبعون ضربة في وجهه- ما عرف حتى عرفته أخته- . قال الواقدي- و قالوا إن مالك بن الدخشم- مر على خارجة بن زيد بن زهير يومئذ و هو قاعد- و في حشوته ثلاثة عشر جرحا- كلها قد خلصت إلى مقتل- فقال له مالك- أ ما علمت أن محمدا قد قتل- قال خارجة فإن كان محمد قد قتل- فإن الله حي لا يقتل و لا يموت- و إن محمدا قد بلغ رسالة ربه- فاذهب أنت فقاتل عن دينك- . قال- و مر مالك بن الدخشم أيضا على سعد بن الربيع- و به اثنا عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل- فقال أ علمت أن محمدا قد قتل- فقال سعد أشهد أن محمدا قد بلغ رسالة ربه- فقاتل أنت عن دينك- فإن الله حي لا يموت- .
قال محمد بن إسحاق- و حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن- بن أبي صعصعة المازني أخو بني النجار- قال قال رسول الله ص يومئذ- من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع- أ في الأحياء هو أم في الأموات- فقال رجل من الأنصار- أنا أنظر يا رسول الله ما فعل- فنظر فوجده جريحا في القتلى و به رمق- فقال له إن رسول الله ص- أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات- قال أنا في الأموات- فأبلغ رسول الله مني السلام- و قل له إن سعد بن الربيع يقول- جزاك الله خيرا عنا ما جزى نبيا عن أمته- و أبلغ قومك السلام عني- و قل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم- لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم- و منكم عين تطرف- قال فلم أبرح عنده حتى مات- ثم جئت إلى رسول الله ص فأخبرته- فقال اللهم ارض عن سعد بن الربيع قال الواقدي- و حدثني عبد الله بن عمار- عن الحارث بن الفضيل الخطمي قال- أقبل ثابت بن الدحداحة يومئذ و المسلمون أوزاع- قد سقط في أيديهم- فجعل يصيح يا معشر الأنصار- إلي إلي أنا ثابت بن الدحداحة- إن كان محمد قد قتل- فإن الله حي لا يموت قاتلوا عن دينكم- فإن الله مظهركم و ناصركم- فنهض إليه نفر من الأنصار- فجعل يحمل بمن معه من المسلمين- و قد وقفت لهم كتيبة خشناء فيها رؤساؤهم- خالد بن الوليد و عمرو بن العاص- و عكرمة بن أبي جهل و ضرار بن الخطاب- و جعلوا يناوشونهم- ثم حمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فطعنه- فأنفذه فوقع ميتا- و قتل من كان معه من الأنصار- فيقال إن هؤلاء آخر من قتل من المسلمين- في ذلك اليوم- و قال عبد الله بن الزبعرى يذكر يوم أحد-

ألا ذرفت من مقلتيك دموع
و قد بان في حبل الشباب قطوع‏

و شط بمن تهوى المزار و فرقت
نوى الحي دار بالحبيب فجوع‏

و ليس لما ولى على ذي صبابة
و إن طال تذراف الدموع رجوع‏

فدع ذا و لكن هل أتى أم مالك
أحاديث قومي و الحديث يشيع‏

و مجنبنا جردا إلى أهل يثرب‏
عناجيج فيها ضامر و بديع‏

عشية سرنا من كداء يقودها
ضرور الأعادي للصديق نفوع‏

يشد علينا كل زحف كأنها
غدير نضوح الجانبين نقيع‏

فلما رأونا خالطتهم مهابة
و خامرهم رعب هناك فظيع‏

فودوا لو أن الأرض ينشق ظهرها
بهم و صبور القوم ثم جزوع‏

و قد عريت بيض كأن وميضها
حريق وشيك في الآباء سريع‏

بأيماننا نعلو بها كل هامة
و فيها سمام للعدو ذريع‏

فغادرن قتلى الأوس عاصبة
بهم ضباع و طير فوقهن وقوع‏

و مر بنو النجار في كل تلعة
بأثوابهم من وقعهن نجيع‏

و لو لا علو الشعب غادرن أحمدا
و لكن علا و السمهري شروع‏

كما غادرت في الكر حمزة ثاويا
و في صدره ماضي الشباة وقيع‏

و قال ابن الزبعرى أيضا من قصيدة مشهورة و هي-

يا غراب البين أ سمعت
فقل إنما تندب أمرا قد فعل‏

إن للخير و للشر مدى‏
و سواء قبر مثر و مقل‏

كل خير و نعيم زائل و بنات
الدهر يلعبن بكل‏

أبلغا حسان عني آية
فقريض الشعر يشفي ذا الغلل‏

كم ترى بالجسر من جمجمة
و أكفا قد أترت و رجل‏

و سرابيل حسان شققت‏
عن كماة غودروا في المنتزل‏

كم قتلنا من كريم سيد
ماجد الجدين مقدام بطل‏

صادق النجدة قرم بارع‏
غير ملطاط لدى وقع الأسل‏

فسل المهراس من ساكنه
من كراديس و هام كالحجل‏

ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل‏

حين حطت بقباء بركها
و استحر القتل في عبد الأشل‏

ثم خفوا عند ذاكم رقصا
رقص الحفان تعدو في الجبل‏

فقتلنا النصف من ساداتهم
و عدلنا ميل بدر فاعتدل‏

لا ألوم النفس إلا أننا
لو كررنا لفعلنا المفتعل‏

بسيوف الهند تعلو هامهم
تبرد الغيظ و يشفين الغلل‏

قلت كثير من الناس يعتقدون- أن هذا البيت ليزيد بن معاوية- و هو قوله ليت أشياخي- و قال من أكره التصريح باسمه- هذا البيت ليزيد- فقلت له إنما قاله يزيد متمثلا- لما حمل إليه رأس الحسين ع- و هو لابن الزبعرى فلم تسكن نفسه إلى ذلك- حتى أوضحته له فقلت أ لا تراه يقول- جزع الخزرج من وقع الأسل- و الحسين ع لم تحارب عنه الخزرج- و كان يليق أن يقول- جزع بني هاشم من وقع الأسل- فقال بعض من كان حاضرا- لعله قاله في يوم الحرة- فقلت المنقول أنه أنشده لما حمل إليه رأس الحسين ع- و المنقول أنه شعر ابن الزبعرى- و لا يجوز أن يترك المنقول إلى ما ليس بمنقول- . و على ذكر هذا الشعر- فإني حضرت و أنا غلام بالنظامية ببغداد- في بيت عبد القادر بن داود الواسطي المعروف بالمحب- خازن دار الكتب بها- و عنده في البيت باتكين الرومي- الذي ولي إربل أخيرا- و عنده أيضا جعفر بن مكي الحاجب- فجرى ذكر يوم أحد و شعر ابن الزبعرى هذا و غيره- و أن المسلمين اعتصموا بالجبل فأصعدوا فيه- و أن الليل حال أيضا بين المشركين و بينهم- فأنشد ابن مكي بيتين لأبي تمام متمثلا-

لو لا الظلام و قلة علقوا
بها باتت رقابهم بغير قلال‏

فليشكروا جنح الظلام و دروذا
فهم لدروذ و الظلام موالي‏

 فقال باتكين- لا تقل هذا و لكن قل- وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ- حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ- مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ- مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ- ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ- وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ- و كان باتكين مسلما- و كان جعفر سامحه الله مغموصا عليه في دينه
الجزء الخامس عشر

تتمة باب الكتب و الرسائل

تتمة 9 و من كتاب له ع إلى معاوية

تتمة الفصل الرابع في قصة غزوة أحد

بسم الله الرحمن الرحيم- و به ثقتي الحمد لله الواحد العدل
القول في أسماء الذين تعاقدوا من قريش على قتل رسول الله ص و ما أصابوه به في المعركة يوم الحرب
قال الواقدي تعاقد من قريش على قتل رسول الله ص- عبد الله بن شهاب الزهري و ابن قميئة- أحد بني الحارث بن فهر- و عتبة بن أبي وقاص الزهري- و أبي بن خلف الجمحي- فلما أتى خالد بن الوليد من وراء المسلمين- و اختلطت الصفوف- و وضع المشركون السيف في المسلمين- رمى عتبة بن أبي وقاص رسول الله ص بأربعة أحجار- فكسر رباعيته و شجه في وجهه- حتى غاب حلق المغفر في وجنتيه و أدمى شفتيه- . قال الواقدي- و قد روي أن عتبة أشظى باطن رباعيته السفلى- قال و الثبت عندنا- أن الذي رمى وجنتي رسول الله ص ابن قميئة- و الذي رمى شفته و أصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص- .

قال الواقدي أقبل ابن قميئة يومئذ و هو يقول- دلوني على محمد- فو الذي يحلف به لئن رأيته لأقتلنه- فوصل إلى رسول الله ص فعلاه بالسيف- و رماه عتبة بن أبي وقاص- في الحال التي جلله ابن قميئة فيها السيف- و كان ع فارسا و هو لابس درعين مثقل بهما- فوقع رسول الله ص عن الفرس في حفرة كانت أمامه- . قال الواقدي- أصيب ركبتاه جحشتا لما وقع في تلك الحفرة- و كانت هناك حفر حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين- و كان رسول الله ص واقفا على بعضها و هو لا يشعر- فجحشت ركبتاه- و لم يصنع سيف ابن قميئة شيئا إلا وهز الضربة بثقل السيف- فقد وقع رسول الله ص- ثم انتهض و طلحة يحمله من ورائه- و علي ع آخذ بيديه حتى استوى قائما- . قال الواقدي فحدثني الضحاك بن عثمان عن حمزة بن سعيد- عن أبي بشر المازني قال- حضرت يوم أحد و أنا غلام- فرأيت ابن قميئة علا رسول الله ص بالسيف- و رأيت رسول الله ص وقع على ركبتيه في حفرة أمامه- حتى توارى في الحفرة- فجعلت أصيح و أنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه- .

قال فأنظر إلى طلحة بن عبيد الله آخذا بحضنه حتى قام- . قال الواقدي و يقال- إن الذي شج رسول الله ص في جبهته ابن شهاب- و الذي أشظى رباعيته و أدمى شفتيه عتبة بن أبي وقاص- و الذي أدمى وجنتيه حتى غاب الحلق فيهما ابن قميئة- و إنه سال الدم من الشجة التي في جبهته- حتى أخضل لحيته-و كان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه- و رسول الله ص يقول كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم- و هو يدعوهم إلى الله تعالى- فأنزل الله تعالى قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ- أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ الآية-.

قال الواقدي و روى سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله ص يومئذ اشتد غضب الله على قوم دموا فا رسول الله ص- اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله- اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله ص – قال سعد فلقد شفاني من عتبة أخي دعاء رسول الله ص- و لقد حرصت على قتله حرصا ما حرصت على شي‏ء قط- و إن كان ما علمت لعاقا بالوالد سيئ الخلق- و لقد تخرقت صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لأقتله- و لكنه راغ مني روغان الثعلب- فلما كان الثالثة قال رسول الله ص يا عبد الله ما تريد- أ تريد أن تقتل نفسك فكففت- فقال رسول الله ص اللهم لا تحولن الحول على أحد منهم- قال سعد- فو الله ما حال الحول على أحد ممن رماه أو جرحه- مات عتبة- و أما ابن قميئة فاختلف فيه- فقائل يقول قتل في المعرك- و قائل يقول إنه رمي بسهم في ذلك اليوم- فأصاب مصعب بن عمير فقتله- فقال خذها و أنا ابن قميئة- فقال رسول الله ص أقمأه الله- فعمد إلى شاة يحتلبها- فتنطحه بقرنها و هو معتلقها فقتلته- فوجد ميتا بين الجبال لدعوة رسول الله ص- و كان عدو الله رجع إلى أصحابه فأخبرهم أنه قتل محمدا- . قال و ابن قميئة رجل من بني الأدرم من بني فهر- .

و زاد البلاذري في الجماعة التي تعاهدت و تعاقدت- على قتل رسول الله ص يوم أحد عبد الله بن حميد بن زهير- بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي- . قال و ابن شهاب الذي شج رسول الله ص في جبهته- هو عبد الله‏بن شهاب الزهري- جد الفقيه المحدث محمد بن مسلم- بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب- و كان ابن قميئة أدرم ناقص الذقن- و لم يذكر اسمه و لا ذكره الواقدي أيضا- . قلت سألت النقيب أبا جعفر عن اسمه فقال عمرو- فقلت له أ هو عمرو بن قميئة الشاعر قال لا هو غيره- فقلت له ما بال بني زهرة في هذا اليوم- فعلوا الأفاعيل برسول الله ص- و هم أخواله ابن شهاب و عتبة بن أبي وقاص- فقال يا ابن أخي حركهم أبو سفيان و هاجهم على الشر- لأنهم رجعوا يوم بدر من الطريق إلى مكة فلم يشهدوها- فاعترض عيرهم و منعهم عنها- و أغرى بها سفهاء أهل مكة فعيروهم برجوعهم- و نسبوهم إلى الجبن و إلى الإدهان في أمر محمد ص- و اتفق أنه كان فيهم مثل هذين الرجلين- فوقع منهما يوم أحد ما وقع- .

قال البلاذري مات عتبة يوم أحد من وجع أليم أصابه- فتعذب به و أصيب ابن قميئة في المعركة- و قيل نطحته عنز فمات- . قال و لم يذكر الواقدي ابن شهاب كيف مات- و أحسب ذلك بالوهم منه- . قال و حدثني بعض قريش- أن أفعى نهشت عبد الله بن شهاب في طريقه إلى مكة فمات- قال و سألت بعض بني زهرة عن خبره- فأنكروا أن يكون رسول الله ص دعا عليه- أو يكون شج رسول الله ص- و قالوا إن الذي شجه في وجهه عبد الله بن حميد الأسدي- . فأما عبد الله بن حميد الفهري- فإن الواقدي و إن لم يذكره- في الجماعة الذين‏تعاقدوا على قتل رسول الله ص- إلا أنه قد ذكر كيفية قتله- .

قال الواقدي و يقبل عبد الله بن حميد بن زهير- حين رأى رسول الله ص على تلك الحال- يعني سقوطه من ضربة ابن قميئة- يركض فرسه مقنعا في الحديد- يقول أنا ابن زهير دلوني على محمد- فو الله لأقتلنه أو لأموتن دونه- فتعرض له أبو دجانة- فقال هلم إلى من يقي نفس محمد ص بنفسه- فضرب فرسه فعرقبها فاكتسعت- ثم علاه بالسيف و هو يقول خذها و أنا ابن خرشة حتى قتله-و رسول الله ص ينظر إليه و يقول- اللهم ارض عن ابن خرشة كما أنا عنه راض- هذه رواية الواقدي و بها قال البلاذري- إن عبد الله بن حميد قتله أبو دجانة- . فأما محمد بن إسحاق فقال- إن الذي قتل عبد الله بن حميد علي بن أبي طالب ع- و به قالت الشيعة- .

و روى الواقدي و البلاذري- أن قوما قالوا إن عبد الله بن حميد هذا قتل يوم بدر- . فالأول الصحيح أنه قتل يوم أحد- و قد روى كثير من المحدثين- أن رسول الله ص قال لعلي ع حين سقط ثم أقيم- اكفني هؤلاء لجماعة قصدت نحوه- فحمل عليهم فهزمهم- و قتل منهم عبد الله بن حميد من بني أسد بن عبد العزى- ثم حملت عليه طائفة أخرى- فقال له اكفني هؤلاء- فحمل عليهم فانهزموا من بين يديه- و قتل منهم أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي- . قال فأما أبي بن خلف- فروى الواقدي أنه أقبل يركض فرسه- حتى إذا دنا من رسول الله ص- اعترض له ناس من أصحابه ليقتلوه- فقال لهم استأخرواعنه ثم قام إليه و حربته في يده- فرماه بها بين سابغة البيضة و الدرع فطعنه هناك- فوقع عن فرسه فانكسر ضلع من أضلاعه- و احتمله قوم من المشركين ثقيلا- حتى ولوا قافلين فمات في الطريق- و قال و فيه أنزلت وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏- قال يعني قذفه إياه بالحربة-.

قال الواقدي و حدثني يونس بن محمد الظفري- عن عاصم بن عمر عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه- قال كان أبي بن خلف قدم في فداء ابنه- و كان أسر يوم بدر- فقال يا محمد إن عندي فرسا لي أعلفها- فرقا من ذرة كل يوم لأقتلك عليها- فقال رسول الله ص بل أنا أقتلك عليها إن شاء الله تعالى- . و يقال إن أبيا إنما قال ذلك بمكة- فبلغ رسول الله ص بالمدينة كلمته- فقال بل أنا أقتله عليها إن شاء الله- قال و كان رسول الله ص في القتال لا يلتفت وراءه- فكان يوم أحد يقول لأصحابه- إني أخشى أن يأتي أبي بن خلف من خلفي- فإذا رأيتموه فآذنوني- و إذا بأبي يركض على فرسه- و قد رأى رسول الله ص فعرفه- فجعل يصيح بأعلى صوته يا محمد لا نجوت إن نجوت- فقال القوم يا رسول الله- ما كنت صانعا حين يغشاك أبي فاصنع فقد جاءك- و إن شئت عطف عليه بعضنا- فأبى رسول الله ص و دنا أبي- فتناول رسول الله ص الحربة من الحارث بن الصمة- ثم انتفض كما ينتفض البعير- قال فتطايرناعنه تطاير الشعارير- و لم يكن أحد يشبه رسول الله ص إذا جد الجد- ثم طعنه بالحربة في عنقه و هو على فرسه لم يسقط- إلا أنه خار كما يخور الثور- فقال له أصحابه أبا عامر و الله ما بك بأس- و لو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره- قال و اللات و العزى- لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا كلهم أجمعون- أ ليس قال لأقتلنه فاحتملوه- و شغلهم ذلك عن طلب رسول الله ص- حتى التحق بعظم أصحابه في الشعب- .

قال الواقدي- و يقال إنه تناول الحربة من الزبير بن العوام- قال و يقال إنه لما تناول الحربة من الزبير- حمل أبي على رسول الله ص ليضربه بالسيف- فاستقبله مصعب بن عمير حائلا بنفسه بينهما- و إن مصعبا ضرب بالسيف أبيا في وجهه- و أبصر رسول الله ص فرجة من بين سابغة البيضة و الدرع- فطعنه هناك فوقع و هو يخور- . قال الواقدي و كان عبد الله بن عمر يقول- مات أبي بن خلف ببطن رابغ منصرفهم إلى مكة- قال فإني لأسير ببطن رابغ بعد ذلك- و قد مضى هوي من الليل إذا نار تأجج فهبتها- و إذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح العطش- و إذا رجل يقول لا تسقه- فإن هذا قتيل رسول الله ص هذا أبي بن خلف- فقلت ألا سحقا و يقال إنه مات بسرف

القول في الملائكة نزلت بأحد و قاتلت أم لا

قال الواقدي حدثني الزبير بن سعيد- عن عبد الله بن الفضل قال- أعطى رسول الله ص مصعب بن عمير اللواء فقتل- فأخذه ملك في صورة مصعب- فجعل رسول الله ص يقول له في آخر النهار- تقدم يا مصعب فالتفت إليه الملك- فقال لست بمصعب- فعرف رسول الله ص أنه ملك أيد به- .

قال الواقدي سمعت أبا معشر يقول مثل ذلك- . قال و حدثتني عبيدة بنت نائل- عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عنه- قال لقد رأيتني أرمى بالسهم يومئذ- فيرده عني رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه- حتى كان بعد فظننت أنه ملك- . قال الواقدي و حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه- عن جده سعد بن أبي وقاص قال- رأيت ذلك اليوم رجلين عليهما ثياب بيض- أحدهما عن يمين رسول الله ص- و الآخر عن شماله يقاتلان أشد القتال- ما رأيتهما قبل و لا بعد- قال و حدثني عبد الملك بن سليمان عن قطن بن وهب- عن عبيد بن عمير قال- لما رجعت قريش من أحد- جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا- يقولون لم نر الخيل البلق- و لا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر- .

قال و قال عبيد بن عمير لم تقاتل الملائكة يوم أحد- . قال الواقدي و حدثني ابن أبي سبرة- عن عبد المجيد بن سهيل عن عمر بن الحكم قال- لم يمد رسول الله ص يوم أحد بملك واحد- و إنما كانوا يوم بدر- قال و مثله عن عكرمة- .

قال و قال مجاهد حضرت الملائكة يوم أحد و لم تقاتل- و إنما قاتلت يوم بدر- . قال و روي عن أبي هريرة أنه قال- وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا- فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14-15

نامه 9 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(القول في نزول الملائكة يوم بدر و محاربتها المشركين) جز الثانی

القول في نزول الملائكة يوم بدر و محاربتها المشركين

اختلف المسلمون في ذلك- فقال الجمهور منهم نزلت الملائكة حقيقة- كما ينزل الحيوان و الحجر- من الموضع العالي إلى الموضع السافل- . و قال قوم من أصحاب المعاني غير ذلك- . و اختلف أرباب القول الأول- فقال الأكثرون نزلت و حاربت- و قال قوم منهم نزلت و لم تحارب- و روى كل قوم في نصرة قولهم روايات- . فقال الواقدي في كتاب المغازي- حدثني عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس- قال سمعت ابن عباس يقول- لما تواقف الناس أغمي على رسول الله‏ ص ساعة- ثم كشف عنه فبشر المؤمنين بجبرائيل- في جند من الملائكة في ميمنة الناس- و ميكائيل في جند آخر في ميسرة الناس- و إسرافيل في جند آخر في ألف- و كان إبليس قد تصور للمشركين- في صورة سراقة بن جعشم المدلجي يذمر المشركين- و يخبرهم أنه لا غالب لهم من الناس- فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه- و قال إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى‏ ما لا تَرَوْنَ- فتشبث به الحارث بن هشام- و هو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه- فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث- و انطلق إبليس لا يرى حتى وقع في البحر- و رفع يديه قائلا- يا رب موعدك الذي وعدتني- و أقبل أبو جهل على أصحابه يحضهم على القتال- و قال لا يغرنكم خذلان سراقة بن جعشم إياكم- فإنما كان على ميعاد من محمد و أصحابه- سيعلم إذا رجعنا إلى قديد ما نصنع بقومه- و لا يهولنكم مقتل عتبة و شيبة و الوليد- فإنهم عجلوا و بطروا حين قاتلوا- و ايم الله لا نرجع اليوم- حتى نقرن محمدا و أصحابه في الجبال- فلا ألفين أحدا منكم قتل منهم أحدا- و لكن خذوهم أخذا نعرفهم بالذي صنعوا- لمفارقتهم دينكم و رغبتهم عما كان يعبد آباؤهم- .

قال الواقدي و حدثني عتبة بن يحيى- عن معاذ بن رفاعة بن رافع عن أبيه- قال إن كنا لنسمع لإبليس يومئذ- خوارا و دعاء بالثبور و الويل- و تصور في صورة سراقة بن جعشم حتى هرب- فاقتحم البحر و رفع يديه مادا لهما- يقول يا رب ما وعدتني- و لقد كانت قريش بعد ذلك تعير سراقة بما صنع يومئذ- فيقول و الله ما صنعت شيئا- .

قال الواقدي فحدثني أبو إسحاق الأسلمي- عن الحسن بن عبيد الله مولى بني العباس- عن عمارة الليثي قال حدثني شيخ صياد من الحي- و كان يومئذ على ساحل البحر- قال سمعت صياحا يا ويلاه يا ويلاه- قد ملأ الوادي يا حرباه يا حرباه- فنظرت فإذا سراقة بن جعشم فدنوت منه- فقلت ما لك فداك أبي و أمي- فلم يرجع إلي شيئا- ثم أراه اقتحم البحر و رفع يديه مادا- يقول يا رب ما وعدتني- فقلت‏ في نفسي جن و بيت الله سراقة- و ذلك حين زاغت الشمس- و ذلك عند انهزامهم يوم بدر- .

قال الواقدي- قالوا كانت سيماء الملائكة عمائم- قد أرخوها بين أكتافهم- خضراء و صفراء و حمراء من نور- و الصوف في نواصي خيلهم- . قال الواقدي- حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر- عن محمود بن لبيد قال- قال رسول الله ص يوم بدر- إن الملائكة قد سومت فسوموا- فأعلم المسلمون بالصوف في مغافرهم و قلانسهم قال الواقدي حدثني محمد بن صالح- قال كان أربعة من أصحاب محمد ص- يعلمون في الزحوف- حمزة بن عبد المطلب كان يوم بدر معلما بريشة نعامة- و كان علي ع معلما بصوفة بيضاء- و كان الزبير معلما بعصابة صفراء- و كان أبو دجانة يعلم بعصابة حمراء- و كان الزبير يحدث أن الملائكة نزلت يوم بدر- على خيل بلق عليها عمائم صفر- فكانت على صورة الزبير- . قال الواقدي- فروي عن سهيل بن عمرو- قال لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا- على خيل بلق بين السماء و الأرض- معلمين يقبلون و يأسرون- .

قال الواقدي- و كان أبو أسد الساعدي- يحدث بعد أن ذهب بصره و يقول- لو كنت معكم الآن ببدر و معي بصري- لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة- لا أشك فيه و لا أمتري- قال و كان أسيد يحدث عن رجل من بني غفار حدثه- قال أقبلت أنا و ابن عم لي يوم بدر- حتى صعدنا على جبل- و نحن يومئذ على الشرك ننظر الوقعة- و على من تكون الدبرة- فننتهب مع من ينتهب- إذ رأيت سحابة دنت منا- فسمعت منها همهمة الخيل و قعقعة الحديد- و سمعت قائلا يقول أقدم حيزوم- فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات- و أما أنا فكدت أهلك- فتماسكت و أتبعت بصري حيث تذهب السحابة- فجاءت إلى النبي ص و أصحابه- ثم رجعت و ليس فيها شي‏ء مما كنت أسمع- .

قال الواقدي و حدثني خارجة بن إبراهيم بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه قال سأل رسول الله ص جبرائيل- من القائل يوم بدر أقبل حيزوم- فقال جبرائيل يا محمد- ما كل أهل السماء أعرف قال الواقدي- و حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن أبيه- عن جده عبيدة بن أبي عبيدة- عن أبي رهم الغفاري عن ابن عم له- قال بينا أنا و ابن عم لي على ماء بدر- فلما رأينا قلة من مع محمد و كثرة قريش- قلنا إذا التقت الفئتان- عمدنا إلى عسكر محمد و أصحابه فانتهبناه- فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد- و نحن نقول هؤلاء ربع قريش- فبينا نحن نمشي في الميسرة- إذ جاءت سحابة فغشيتنا- فرفعنا أبصارنا لها فسمعنا أصوات الرجال و السلاح- و سمعنا قائلا يقول لفرسه أقدم حيزوم- و سمعناهم يقولون رويدا تتاءم أخراكم- فنزلوا على ميمنة رسول الله ص- ثم جاءت أخرى مثل تلك- فكانت مع النبي ص- فنظرنا إلى أصحاب محمد و إذا هم على الضعف من قريش- فمات ابن عمي و أما أنا فتماسكت- و أخبرت النبي ص بذلك و أسلمت- .

قال الواقدي و قد روي عن رسول الله ص أنه قال ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر و لا أحقر- و لا أدحر و لا أغضب منه في يوم عرفة- و ما ذاك إلا لما رأى من نزول الرحمة- و تجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام- إلا ما رأى يوم بدر- قيل و ما رأى‏ يا رسول الله يوم بدر- قال أما إنه رأى جبريل يوزع الملائكة قال و قد روي عن رسول الله ص أنه قال يومئذ هذا جبرائيل يسوق بريح كأنه دحية الكلبي- إني نصرت بالصبا و أهلكت عاد بالدبور – .

قال الواقدي- و كان عبد الرحمن بن عوف يقول- رأيت يوم بدر رجلين- أحدهما عن يمين النبي ص- و الآخر عن يساره يقاتلان أشد القتال- ثم ثلثهما ثالث من خلفه- ثم ربعهما رابع أمامه- . قال و قد روى سعد بن أبي وقاص مثل ذلك- قال رأيت رجلين يوم بدر- يقاتلان عن النبي ص- أحدهما عن يمينه و الآخر عن يساره- و إني لأراه ينظر إلى ذا مرة- و إلى ذا مرة سرورا بما فتحه الله تعالى- .

قال الواقدي- و حدثني إسحاق بن يحيى- عن حمزة بن صهيب عن أبيه- قال ما أدري كم يد مقطوعة و ضربة جائفة- لم يدم كلمها يوم بدر قد رأيتها- . قال الواقدي و روى أبو بردة بن نيار- قال جئت يوم بدر بثلاثة رءوس- فوضعتها بين يدي رسول الله ص- فقلت يا رسول الله أما اثنان فقتلتهما- و أما الثالث فإني رأيت رجلا طويلا أبيض- ضربه فتدهده أمامه- فأخذت رأسه- فقال رسول الله ص- ذاك فلان من الملائكة- .

قال الواقدي و كان ابن عباس رحمه الله يقول لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر – .قال و حدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال كان الملك يتصور في صورة من يعرفه المسلمون- من الناس ليثبتهم فيقول- إني قد دنوت من المشركين فسمعتهم يقولون- لو حملوا علينا ما ثبتنا لهم و ليسوا بشي‏ء فاحملوا عليهم- و ذلك قول الله عز و جل- إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا الآية – .

قال الواقدي و حدثني موسى بن محمد عن أبيه- قال كان السائب بن أبي حبيش الأسدي- يحدث في زمن عمر بن الخطاب فيقول- و الله ما أسرني يوم بدر أحد من الناس فيقال فمن- فيقول لما انهزمت قريش انهزمت معها- فيدركني رجل أبيض طويل- على فرس أبلق بين السماء و الأرض- فأوثقني رباطا- و جاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا- و كان عبد الرحمن ينادي في العسكر- من أسر هذا فليس أحد يزعم أنه أسرني- حتى انتهى بي إلى رسول الله ص- فقال لي رسول الله يا ابن أبي حبيش من أسرك- قلت لا أعرفه- و كرهت أن أخبره بالذي رأيت- فقال رسول الله ص- أسره ملك من الملائكة كريم- اذهب يا ابن عوف بأسيرك- فذهب بي عبد الرحمن- قال السائب و ما زالت تلك الكلمة أحفظها- و تأخر إسلامي حتى كان من إسلامي ما كان- .

قال الواقدي و كان حكيم بن حزام يقول- لقد رأيتنا يوم بدر- و قد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سد الأفق- قال و وادي خلص ناحية الرويثة- قال فإذا الوادي يسيل نملا- فوقع في نفسي أن هذا شي‏ء من السماء- أيد به محمد- فما كانت إلا الهزيمة و هي الملائكة- .

قال الواقدي- و قد قالوا إنه لما التحم القتال- و رسول الله ص رافع يديه- يسأل الله النصر و ما وعده- و يقول اللهم إن ظهرت علي هذه العصابة- ظهر الشرك و لا يقوم لك دين- و أبو بكر يقول- و الله لينصرنك الله و ليبيضن وجهك- فأنزل الله تعالى ألفا من الملائكة مردفين- عند أكتاف العدو- فقال رسول الله ص- يا أبا بكر أبشر هذا جبرائيل معتجر بعمامة صفراء- آخذ بعنان فرسه بين السماء و الأرض- ثم قال إنه لما نزل الأرض تغيب عني ساعة- ثم طلع على ثناياه النقع- يقول أتاك النصر من الله إذ دعوته- .

قال الواقدي- و حدثني موسى بن يعقوب عن عمه- قال سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة يقول- سمعت مروان بن الحكم- يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر- فجعل الشيخ يكره ذلك حتى ألح عليه- فقال حكيم التقينا فاقتتلنا- فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الأرض- مثل وقع الحصاة في الطست- و قبض النبي ص القبضة فرمى بها فانهزمنا- .

قال الواقدي- و قد روى عبد الله بن ثعلبة بن صغير- قال سمعت نوفل بن معاوية الدؤلي يقول- انهزمنا يوم بدر- و نحن نسمع كوقع الحصى في الطساس- بين أيدينا و من خلفنا- فكان ذلك أشد الرعب علينا فأما الذين قالوا نزلت الملائكة و لم تقاتل- فذكر الزمخشري في كتابه في تفسير القرآن- المعروف بالكشاف- أن قوما أنكروا قتال الملائكة يوم بدر- و قالوا لو قاتل واحد من الملائكة جميع البشر- لم يثبتوا له و لاستأصلهم بأجمعهم ببعض قوته- فإن جبرائيل ع رفع مدائن قوم لوط- كما جاء في الخبر- على خافقة من جناحه‏ حتى بلغ بها إلى السماء- ثم قلبها فجعل عاليها سافلها- فما عسى أن يبلغ قوة ألف رجل من قريش- ليحتاج في مقاومتها و حربها- إلى ألف ملك من ملائكة السماء- مضافين إلى ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا من بني آدم- و جعل هؤلاء قوله تعالى- فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ- أمرا للمسلمين لا أمرا للملائكة- .

و رووا في نصرة قولهم روايات- قالوا و إنما كان نزول الملائكة- ليكثروا سواد المسلمين في أعين المشركين- فإنهم كانوا يرونهم في مبدأ الحال- قليلين في أعينهم- كما قال تعالى وَ يُقَلِّلُكُمْ- ليطمع المشركون فيهم و يجترءوا على حربهم- فلما نشبت الحرب كثرهم الله تعالى بالملائكة- في أعين المشركين ليفروا و لا يثبتوا- و أيضا فإن الملائكة نزلت- و تصورت بصور البشر الذين يعرفهم المسلمون- و قالوا لهم ما جرت العادة أن يقال مثله- من تثبيت القلوب يوم الحرب- نحو قولهم ليس المشركون بشي‏ء- لا قوة عندهم لا قلوب لهم- لو حملتم عليهم لهزمتموهم و أمثال ذلك- .

و لقائل أن يقول إذا كان قادرا- على أن يقلل ثلاثمائة إنسان في أعين قريش- حتى يظنوهم مائة- فهو قادر على أن يكثرهم في أعين قريش- بعد التقاء حلقتي البطان- فيظنوهم ألفين و أكثر- من غير حاجة إلى إنزال الملائكة- . فإن قلت لعل في إنزالهم لطفا للمكلفين- قلت و لعل في محاربتهم لطفا للمكلفين- و أما أصحاب المعاني فإنهم لم يحملوا الكلام على ظاهره- و لهم في تأويله قول ليس هذا موضع ذكره

القول فيما جرى في الغنيمة و الأسارى بعد هزيمة قريش و رجوعها إلى مكة

قال الواقدي لما تصاف المشركون و المسلمون- قال النبي ص- من قتل قتيلا فله كذا و كذا- و من أسر أسيرا فله كذا و كذا- فلما انهزم المشركون كان الناس ثلاث فرق- فرقة قامت عند خيمة رسول الله ص- و كان أبو بكر معه في الخيمة- و فرقة أغارت على النهب تنتهب- و فرقة طلبت العدو فأسروا و غنموا- فتكلم سعد بن معاذ- و كان ممن أقام على خيمة رسول الله ص- فقال يا رسول الله- ما منعنا أن نطلب العدو زهادة في الأجر- و لا جبن عن العدو- و لكنا خفنا أن نعري موضعك- فيميل عليك خيل من خيل المشركين- و رجال من رجالهم- و قد أقام عند خيمتك- وجوه الناس من المهاجرين و الأنصار- و الناس كثير- و متى تعط هؤلاء لا يبقى لأصحابك شي‏ء- و القتلى و الأسرى كثير و الغنيمة قليلة- فاختلفوا فأنزل الله عز و جل- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ الآية- فرجع المسلمون و ليس لهم من الغنيمة شي‏ء- ثم أنزل الله فيما بعد- وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ- فقسمه عليهم بينهم- .

قال الواقدي- و قد روى عبادة بن الوليد بن عبادة- عن جده عبادة بن الصامت قال- سلمنا الأنفال يوم بدر لله و للرسول- و لم يخمس رسول الله ص بدرا- و نزلت بعد وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ- فاستقبل رسول الله ص بالمسلمين‏ الخمس- فيما كان من أول غنيمة بعد بدر- . قال الواقدي و قد روي عن أبي أسيد الساعدي مثله- .

و روى عكرمة قال اختلف الناس في الغنائم يوم بدر- فأمر رسول الله ص بالغنائم أن ترد في المقسم- فلم يبق منها شي‏ء إلا رد- و ظن أهل الشجاعة أنه ص يخصهم بها- دون غيرهم من أهل الضعف- ثم أمر رسول الله ص أن تقسم بينهم على سواء- فقال سعد بن أبي وقاص- يا رسول الله تعطي فارس القوم الذي يحميهم- مثل ما تعطي الضعيف- فقال ص- ثكلتك أمك و هل تنصرون إلا بضعفائكم- .

قال الواقدي فروى محمد بن سهل بن خيثمة- قال أمر رسول الله ص- أن ترد الأسرى و الأسلاب و ما أخذوا من المغنم- ثم أقرع بينهم في الأسرى- و قسم أسلاب المقتولين- الذين يعرف قاتلوهم بين قاتليهم- و قسم ما وجده في العسكر بين جميع المسلمين عن فراق- . قال الواقدي و حدثني عبد الحميد بن جعفر- قال سألت موسى بن سعد بن زيد بن ثابت- كيف فعل النبي ص يوم بدر- في الأسرى و الأسلاب و الأنفال- فقال نادى مناديه يومئذ- من قتل قتيلا فله سلبه- و من أسر أسيرا فهو له- و أمر بما وجد في العسكر و ما أخذ بغير قتال- فقسمه بينهم عن فراق- فقلت لعبد الحميد فلمن أعطى سلب أبي جهل- فقال قد قيل- إنه أعطاه معاذ بن عمرو بن الجموح- و قيل أعطاه ابن مسعود- . قال و أخذ علي ع درع الوليد بن عتبة- و بيضته و مغفره- و أخذ حمزة سلاح عتبة- و أخذ عبيدة بن الحارث سلاح شيبة- ثم صار إلى ورثته- .

قال الواقدي- فكانت القسمة على ثلاثمائة و سبعة عشر سهما- لأن الرجال كانت ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا- و كان معهم فرسان لهما أربعة أسهم- و قسم أيضا فوق ذلك لثمانية أسهم- لم يحضروا- ضرب لهم بسهامهم و أجورهم- ثلاثة من المهاجرين لا خلاف فيهم- و هم عثمان بن عفان- خلفه رسول الله ص على ابنته رقية- و ماتت يوم قدم زيد بن حارثة بالبشارة إلى المدينة- و طلحة بن عبيد الله- و سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل- بعثهما رسول الله ص يتجسسان خبر العير- و خمسة من الأنصار هم أبو لبابة بن عبد المنذر- خلفه على المدينة- و عاصم بن عدي خلفه على قباء و أهل العالية- و الحارث بن حاطب أمره بأمر في بني عمرو بن عوف- و خوات بن جبير كسر بالروحاء- و الحارث بن الصمة مثله- فلا اختلاف في هؤلاء و اختلف في أربعة غيرهم- فروي أنه ضرب لسعد بن عبادة بسهمه و أجره- و قال لئن لم يشهدها لقد كان فيها راغبا- و ذلك أنه كان يحض الناس على الخروج إلى بدر- فنهش فمنعه ذلك من الخروج- .

و روي أنه ضرب لسعد بن مالك الساعدي- بسهمه و أجره- و كان تجهز إلى بدر فمرض بالمدينة- فمات خلاف رسول الله ص- و أوصى إليه ع- . و روي أنه ضرب لرجلين آخرين من الأنصار- و لم يسمهما الواقدي- و قال هؤلاء الأربعة غير مجمع عليهم- كإجماعهم على الثمانية- . قال و قد اختلف- هل ضرب بسهم في الغنيمة لقتلى بدر- فقال الأكثرون لم يضرب لهم- و قال بعضهم بل ضرب لهم- حدثني ابن أبي سبرة- عن يعقوب بن زيد عن أبيه- أن رسول الله ص- ضرب لشهداء بدر أربعة عشر رجلا- قال و قد قال عبد الله ابن سعد بن خيثمة- أخذنا سهم أبي الذي ضرب له رسول الله ص- حين‏ قسم الغنائم- و حمله إلينا عويمر بن ساعدة- قال و قد روى السائب بن أبي لبابة- أن رسول الله ص أسهم لمبشر بن عبد المنذر- قال و قد قدم بسهمه علينا معن بن عدي- .

قال الواقدي- و كانت الإبل التي أصابوا يومئذ مائة و خمسين بعيرا- و كان معه أدم كثير- حملوه للتجارة فمنعه المسلمون يومئذ- و كان فيما أصابوا قطيفة حمراء- فقال بعضهم ما لنا لا نرى القطيفة- ما نرى رسول الله ص إلا أخذها- فأنزل الله تعالى وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ- و جاء رجل إلى رسول الله ص- و قال يا رسول الله إن فلانا غل قطيفة- فسأل رسول الله ص الرجل- فقال لم أفعل- فقال الدال يا رسول الله احفروا هاهنا- فحفرنا فاستخرجت القطيفة- فقال قائل يا رسول الله- استغفر لفلان مرتين أو مرارا- فقال ع دعونا من أبي حر- .

قال الواقدي- و أصاب المسلمون من خيولهم عشرة أفراس- و كان جمل أبي جهل فيما غنموه- فأخذه النبي ص- فلم يزل عنده يضرب في إبله و يغزو عليه- حتى ساقه في هدي الحديبية- فسأله يومئذ المشركون الجمل بمائة بعير- فقال لو لا أنا سميناه في الهدي لفعلنا قال الواقدي- و كان لرسول الله ص صفي من الغنيمة قبل القسمة- فتنفل سيفه ذا الفقار يومئذ كان لمنبه بن الحجاج- و كان رسول الله ص قد غزا إلى بدر- بسيف وهبه له سعد بن عبادة يقال له العضب- .

قال و سمعت ابن أبي سبرة يقول- سمعت صالح بن كيسان يقول- خرج رسول‏ الله ص يوم بدر و ما معه سيف- و كان أول سيف قلده- سيف منبه بن الحجاج غنمه يوم بدر- . و قال البلاذري- كان ذو الفقار للعاص بن منبه بن الحجاج- و يقال لمنبه و يقال لشيبة- و الثبت عندنا أنه كان للعاص بن منبه- .

قال الواقدي و كان أبو أسيد الساعدي- إذا ذكر الأرقم بن أبي الأرقم يقول- ما يومي منه بواحد فيقال ما هذا هو- فيقول أمر رسول الله ص المسلمين- أن يردوا يوم بدر ما في أيديهم من المغنم- فرددت سيف أبي عائذ المخزومي و اسم السيف المرزبان- و كان له قيمة و قدر و أنا أطمع أن يرد إلي- فكلم الأرقم رسول الله ص فيه- و كان رسول الله ص لا يمنع شيئا يسأله- فأعطاه السيف- و خرج بني له يفعة فاحتمله الغول- فذهبت به متوركة ظهرا- فقيل لأبي أسيد- و كانت الغيلان في ذلك الزمان- فقال نعم و لكنها قد هلكت- فلقي بني الأرقم بن أبي الأرقم- فبهش إليه باكيا مستجيرا به- فقال من أنت فأخبره- فقالت الغول أنا حاضنته- فلها عنه و الصبي يكذبها- فلم يعرج عليه حتى الساعة- فخرج من داري فرس لي فقطع رسنه- فلقيه الأرقم بالغابة فركبه- حتى إذا دنا من المدينة أفلت منه- فتعذر إلي أنه أفلت مني- فلم أقدر عليه حتى الساعة- .

قال و روى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه- أنه سأل رسول الله ص يوم بدر- سيف العاص بن منبه فأعطاه- قال و أخذ ع مماليك حضروا بدرا- و لم يسهم لهم و هم ثلاثة أعبد- غلام لحاطب بن أبي بلتعة- و غلام لعبد الرحمن بن عوف و غلام لسعد بن معاذ- و استعمل ص شقران غلامه على الأسرى- فأخذوا من كل أسير ما لو كان حرا ما أصابه في المقسم- .

و روى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه- قال رميت سهيل بن عمرو يوم بدر فقطعت نساءه- فاتبعت أثر الدم- حتى وجدته قد أخذه مالك بن الدخشم- و هو ممسك بناصيته فقلت أسيري رميته- فقال أسيري أخذته- فأتينا رسول الله فأخذه منا جميعا- و أفلت سهل الروحاء فصاح ع بالناس- فخرجوا في طلبه- فقال ص من وجده فليقتله- فوجده هو ص فلم يقتله- . قال الواقدي- و أصاب أبو بردة بن نيار أسيرا من المشركين- يقال له معبد بن وهب من بني سعد بن ليث- فلقيه عمر بن الخطاب و كان عمر يحض على قتل الأسرى- لا يرى أحدا في يديه أسيرا إلا أمر بقتله- و ذلك قبل أن يتفرق الناس- فلقيه معبد و هو أسير مع أبي بردة- فقال أ ترون يا عمر أنكم قد غلبتم- كلا و اللات و العزى- فقال عمر عباد الله المسلمين- أ تتكلم و أنت أسير في أيدينا- ثم أخذه من أبي بردة فضرب عنقه- و يقال إن أبا بردة قتله- .

قال الواقدي- و روى أبو بكر بن إسماعيل عن أبيه- عن عامر بن سعد قال- قال النبي ص يومئذ- لا تخبروا سعدا بقتل أخيه- فيقتل كل أسير في أيديكم- . قال الواقدي- و لما جي‏ء بالأسرى كره ذلك سعد بن معاذ- فقال له رسول الله ص- كأنه شق عليك أن يؤسروا- قال نعم يا رسول الله- كانت أول‏ وقعة التقينا فيها بالمشركين- فأحببت أن يذلهم الله و أن يثخن فيهم القتل- .

قال الواقدي- و كان النضر بن الحارث أسره المقداد يومئذ- فلما خرج رسول الله ص من بدر- فكان الأثيل عرض عليه الأسرى- فنظر إلى النضر بن الحارث فأبده البصر- فقال لرجل إلى جنبه محمد و الله قاتلي- لقد نظر إلي بعينين فيهما الموت- فقال الذي إلى جنبه- و الله ما هذا منك إلا رعب- فقال النضر لمصعب بن عمير- يا مصعب أنت أقرب من هاهنا بي رحما- كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي- هو و الله قاتلي إن لم تفعل- قال مصعب إنك كنت تقول في كتاب الله كذا و كذا- و تقول في نبيه كذا و كذا- قال يا مصعب فليجعلني كأحد أصحابي- إن قتلوا قتلت و إن من عليهم من علي- قال مصعب إنك كنت تعذب أصحابه- قال أما و الله لو أسرتك قريش- ما قتلت أبدا و أنا حي- قال مصعب و الله إني لأراك صادقا- و لكن لست مثلك قطع الإسلام العهود- . قال الواقدي- و عرضت الأسرى على رسول الله ص- فرأى النضر بن الحارث فقال اضربوا عنقه- فقال المقداد أسيري يا رسول الله- فقال اللهم أغن المقداد من فضلك- قم يا علي فاضرب عنقه- فقام علي فضرب عنقه بالسيف صبرا- و ذلك بالأثيل فقالت أخته-

 

يا راكبا إن الأثيل مظنة
من صبح خامسة و أنت موفق‏

بلغ به ميتا فإن تحية
ما إن تزال بها الركائب تخفق‏

مني إليه و عبرة مسفوحة
جادت لمائحها و أخرى تخنق‏
فليسمعن النضر إن ناديته
إن كان يسمع ميت أو ينطق‏

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه‏
لله أرحام هناك تمزق‏

صبرا يقاد إلى المدينة راغما
رسف المقيد و هو عان موثق‏

أ محمد و لأنت نجل نجيبة
في قومها و الفحل فحل معرق‏

ما كان ضرك لو مننت و ربما
من الفتى و هو المغيظ المحنق‏

و النضر أقرب من قتلت وسيلة
و أحقهم إن كان عتق يعتق‏

قال الواقدي- و روي أن النبي ص لما وصل إليه شعرها رق له- و قال لو كنت سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته- . قال الواقدي و لما أسر سهيل بن عمرو- قال عمر بن الخطاب يا رسول الله- انزع ثنيتيه يدلع لسانه- فلا يقوم عليك خطيبا أبدا- فقال رسول الله ص- لا أمثل به فيمثل الله بي و إن كنت نبيا- و لعله يقوم مقاما لا تكرهه- فقام سهيل بن عمرو بمكة- حين جاءه وفاة النبي ص- بخطبة أبي بكر بالمدينة- كأنه كان يسمعها- فقال عمر حين بلغه كلام سهيل- أشهد أنك رسول الله- يريد قوله ص لعله يقوم مقاما لا تكرهه- .

قال الواقدي و كان علي ع يحدث- فيقول أتى جبريل النبي ص يوم بدر- فخيره في الأسرى أن يضرب أعناقهم- أو يأخذ منهم الفداء- و يستشهد من المسلمين في قابل عدتهم- فدعا رسول الله ص أصحابه- و قال هذا جبريل يخيركم في الأسرى- بين أن تضرب أعناقهم أو تؤخذ منهم الفدية- و يستشهد منكم قابلا عدتهم- قالوا بل نأخذ الفدية و نستعين بها- و يستشهد منا من يدخل الجنة فقبل منهم الفداء- و قتل من المسلمين قابلا عدتهم بأحد- . قلت لو كان هذا الحديث صحيحا لما عوتبوا- فقيل لهم- ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‏ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ- تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ- ثم قال لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ- لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ- لأنه إذا كان خيرهم- فقد أباحهم أخذ الفداء و أخبرهم أنه حسن- فلا يجوز فيما بعد أن ينكره عليهم و يقول إنه قبيح

قال الواقدي لما حبس الأسرى- و جعل عليهم شقران مولى رسول الله ص- طمعوا في الحياة- فقالوا لو بعثنا إلى أبي بكر- فإنه أوصل قريش لأرحامنا- فبعثوا إلى أبي بكر فأتاهم فقالوا يا أبا بكر- إن فينا الآباء و الأبناء و الإخوان- و العمومة و بني العم و أبعدنا قريب- كلم صاحبك فليمن علينا و يفادنا- فقال نعم إن شاء الله لا آلوكم خيرا- ثم انصرف إلى رسول الله ص- قالوا و ابعثوا إلى عمر بن الخطاب- فإنه من قد علمتم- و لا يؤمن أن يفسد عليكم لعله يكف عنكم- فأرسلوا إليه فجاءهم- فقالوا له مثل ما قالوا لأبي بكر فقال لا آلوكم شرا- ثم انصرف إلى النبي ص- فوجد أبا بكر عنده و الناس حوله- و أبو بكر يلينه و يغشاه- و يقول يا رسول الله بأبي أنت و أمي- قومك فيهم الآباء و الأبناء و العمومة و الإخوان و بنو العم- و أبعدهم عنك قريب فامنن عليهم- من الله عليك أو فادهم قوة للمسلمين- فلعل الله يقبل بقلوبهم إليك ثم قام فتنحى ناحية- و سكت رسول الله ص فلم يجبه- فجاء عمر فجلس مجلس أبي بكر- فقال يا رسول الله هم أعداء الله- كذبوك و قاتلوك و أخرجوك اضرب رقابهم- فهم رءوس الكفر و أئمة الضلالة- يوطئ الله بهم الإسلام و يذل بهم الشرك- فسكت رسول الله ص و لم يجبه- و عاد أبو بكر إلى مقعده الأول- فقال بأبي أنت و أمي قومك فيهم الآباء و الأبناء- و العمومة و الإخوان و بنو العم- و أبعدهم منك قريب فامنن عليهم أو فادهم- هم عشيرتك و قومك لا تكن أول من يستأصلهم- و أن يهديهم الله خير من أن يهلكهم- فسكت ص عنه فلم يرد عليه شيئا و قام ناحية- فقام عمر فجلس مجلسه فقال يا رسول الله ما تنتظر بهم- اضرب أعناقهم يوطئ الله بهم الإسلام- و يذل أهل الشرك هم أعداء الله- كذبوك و أخرجوك يا رسول الله اشف صدور المؤمنين- لو قدروا منا على مثل هذا ما أقالونا أبدا- فسكت رسول الله ص فلم يجبه- فقام ناحية فجلس و عاد أبو بكر- فكلمه مثل كلامه الأول فلم يجبه ثم تنحى- فجاء عمر فكلمه بمثل كلامه الأول فلم يجبه- ثم قام رسول الله ص فدخل قبته- فمكث فيها ساعة ثم خرج- و الناس يخوضون في شأنهم- يقول بعضهم القول ما قال أبو بكر- و آخرون يقولون القول ما قال عمر- فلما خرج قال للناس ما تقولون في صاحبيكم هذين- دعوهما فإن لهما مثلا- مثل أبي بكر في الملائكة كميكائيل- ينزل برضا الله و عفوه على عباده- و مثله في الأنبياء كمثل إبراهيم- كان ألين على قومه من العسل- أوقد له قومه النار فطرحوه فيها- فما زاد على أن قال- أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ- و قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ- و كعيسى إذ يقول- إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ- وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- و مثل عمر في الملائكة كمثل جبريل- ينزل بالسخط من الله و النقمة على أعداء الله- و مثله في الأنبياء كمثل نوح- كان أشد على قومه من الحجارة إذ يقول- رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى‏الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً- فدعا عليهم دعوة أغرق الله بها الأرض جميعا- و مثل موسى إذ يقول- رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى‏ أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ- فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ- و إن بكم عيلة- فلا يفوتنكم رجل من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق- فقال عبد الله بن مسعود- يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء- .

قال الواقدي- هكذا روى ابن أبي حبيبة و هذا وهم- سهيل بن بيضاء مسلم من مهاجرة الحبشة و شهد بدرا- و إنما هو أخ له و يقال له سهيل- قال قال عبد الله بن مسعود- فإني رأيته يظهر الإسلام بمكة- قال فسكت النبي ص- قال عبد الله فما مرت علي ساعة قط- كانت أشد علي من تلك الساعة- جعلت أنظر إلى السماء- أتخوف أن تسقط علي الحجارة- لتقدمي بين يدي الله و رسوله بالكلام- فرفع رسول الله ص رأسه- فقال إلا سهيل بن بيضاء- قال فما مرت علي ساعة أقر لعيني منها- إذ قالها رسول الله ص- ثم قال إن الله عز و جل ليشدد القلب- حتى يكون أشد من الحجارة- و إنه ليلين القلب حتى يكون ألين من الزبد – فقبل الفداء ثم قال بعد- لو نزل عذاب يوم بدر لما نجا منه إلا عمر- كان يقول اقتل و لا تأخذ الفداء- و كان سعد بن معاذ يقول- اقتل و لا تأخذ الفداء- .

قلت عندي في هذا كلام أما في أصل الحديث- فلأن فيه أن رسول الله ص قال و مثله كعيسى إذ قال- إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ- وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- و هذه الآية من المائدة و المائدة أنزلت في آخر عمره- و لم ينزل بعدها إلا سورة براءة- و بدر كانت في السنة الثانية من الهجرة- فكيف هذا اللهم إلا أن يكون قوله تعالى- وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ- أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ الآيات- قد كانت أنزلت أما بمكة أو بالمدينة قبل بدر-فلما جمع عثمان القرآن ضمها إلى سورة المائدة- فلعله قد كان ذلك- فينبغي أن ننظر في هذا فهو مشكل- .

و أما حديث سهيل بن بيضاء- فإنه يوهم مذهب موسى بن عمران- في أن النبي ص كان يحكم في الوقائع بما يشاء- لأنه قيل له احكم بما تشاء- فإنك لا تحكم إلا بالحق- و هو مذهب متروك إلا أنه يمكن أن يقال- لعله لما سكت ص عند ما قال ابن مسعود ذلك القول- نزل عليه في تلك السكتة الوحي- و قيل له إلا سهيل بن بيضاء- فقال حينئذ إلا سهيل بن بيضاء- كما أوحي إليه- . و أما الحديث الذي فيه- لو نزل عذاب لما نجا منه إلا عمر- فالواقدي و غيره من المحدثين- اتفقوا على أن سعد بن معاذ- كان يقول مثل ما قاله عمر- بل هو المتبدئ بذلك الرأي- و رسول الله ص بعد في العريش- و المشركون لم ينفض جمعهم كل ذلك الانفضاض- فكيف خص عمر بالنجاة وحده دون سعد- و يمكن أن يقال- إنه كان شديد التأليب و التحريض عليهم- و كثير الإلحاح على رسول الله ص في أمرهم- فنسب ذلك الرأي إليه لاشتهاره به- و إن شركه فيه غيره- .

قال الواقدي و حدثني معمر عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قال رسول الله ص يوم بدر لو كان مطعم بن عدي حيا لوهبت له هؤلاء النتنى – قال و كانت لمطعم بن عدي عند النبي ص يد- أجاره حين رجع من الطائف- .

قال الواقدي و حدثني محمد بن عبد الله- عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال- أمن رسول الله ص من الأسرى يوم بدر- أبا عزة عمرو بن عبد الله بن عمير الجمحي و كان شاعرا- فأعتقه رسول الله ص و قال له- إن لي خمس بنات ليس لهن شي‏ء- فتصدق بي عليهن يا محمد- ففعل رسول الله ص ذلك- و قال أبو عزة أعطيك موثقا ألا أقاتلك- و لا أكثر عليك أبدا- فأرسله رسول الله ص- فلما خرجت قريش إلى أحد- جاء صفوان بن أمية فقال اخرج معنا- قال إني قد أعطيت محمدا موثقا ألا أقاتله- و لا أكثر عليه أبدا- و قد من علي و لم يمن على غيري- حتى قتله أو أخذ منه الفداء- فضمن له صفوان أن يجعل بناته مع بناته إن قتل- و إن عاش أعطاه مالا كثيرا لا يأكله عياله- فخرج أبو عزة يدعو العرب و يحشرها- ثم خرج مع قريش يوم أحد- فأسر و لم يؤسر غيره من قريش- فقال يا محمد إنما خرجت كرها- و لي بنات فامنن علي- فقال رسول الله ص أين ما أعطيتني من العهد و الميثاق- لا و الله لا تمسح عارضيك بمكة- تقول سخرت بمحمد مرتين فقتله- .

قال و روى سعيد بن المسيب- أن رسول الله ص قال يومئذ- إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين- يا عاصم بن ثابت قدمه فاضرب عنقه- فقدمه عاصم فضرب عنقه- . قال الواقدي و أمر رسول الله ص يوم بدر- بالقلب أن تغور ثم أمر بالقتلى- فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف- فإنه كان مسمنا انتفخ من يومه- فلما أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه- فقال النبي ص اتركوه‏و قال ابن إسحاق- انتفخ أمية بن خلف في درعه حتى ملأها- فلما ذهبوا يحركونه تزايل- فأقروه و ألقوا عليه التراب و الحجارة ما غيبه- . قال الواقدي- و نظر رسول الله ص- إلى عتبة بن ربيعة يجر إلى القليب- و كان رجلا جسيما و في وجهه أثر الجدري- فتغير وجه ابنه أبي حذيفة بن عتبة- فقال له النبي ص- ما لك كأنك ساءك ما أصاب أباك- قال لا و الله يا رسول الله- و لكني رأيت لأبي عقلا و شرفا- كنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام- فلما أخطأه ذلك- و رأيت ما أصابه غاظني- فقال أبو بكر- كان و الله يا رسول الله أبقى في العشيرة من غيره- و لقد كان كارها لوجهه- و لكن الحين و مصارع السوء-

فقال رسول الله ص- الحمد لله الذي جعل خد أبي جهل الأسفل- و صرعه و شفانا منه- فلما توافوا في القليب- و قد كان رسول الله ص يطوف عليهم و هم مصرعون- جعل أبو بكر يخبره بهم رجلا رجلا- و رسول الله ص يحمد الله و يشكره و يقول- الحمد لله الذي أنجز لي ما وعدني- فقد وعدني إحدى الطائفتين- ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلا رجلا يا عتبة بن ربيعة و يا شيبة بن ربيعة- و يا أمية بن خلف و يا أبا جهل بن هشام- هل وجدتم ما وعد ربكم حقا- فإني وجدت ما وعدني ربي حقا- بئس القوم كنتم لنبيكم- كذبتموني و صدقني الناس- و أخرجتموني و آواني الناس- و قاتلتموني و نصرني الناس- فقالوا يا رسول الله أ تنادي قوما قد ماتوا- فقال لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق – . و قال ابن إسحاق في كتاب المغازي- إن عائشة كانت تروي هذا الخبر و تقول- فالناس يقولون إن رسول الله ص قال- لقد سمعوا ما قلت لهم- و ليس كذلك إنما قال- لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق- .

قال محمد بن إسحاق و حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال لما ناداهم رسول الله ص قال له المسلمون- يا رسول الله أ تنادي قوما قد أنتنوا- فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم- و لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني – . قلت لقائل أن يقول لعائشة- إذا جاز أن يعلموا و هم موتى- جاز أن يسمعوا و هم موتى- فإن قالت ما أخبرت أن يعلموا و هم موتى- و لكن تعود الأرواح إلى أبدانهم- و هي في القليب و يرون العذاب- فيعلمون أن ما وعدهم به الرسول حق- قيل لها و لا مانع من أن تعود الأرواح إلى أبدانهم- و هي في القليب- فيسمعوا صوت رسول الله ص- فإذن لا وجه لإنكارها ما يقوله الناس- . و يمكن أن ينتصر لقول عائشة على وجه حكمي- و هو أن الأنفس بعد المفارقة تعلم و لا تسمع- لأن الإحساس إنما يكون بواسطة الآلة- و بعد الموت تفسد الآلة- فأما العلم فإنه لا يحتاج إلى الآلة- لأن النفس تعلم بجوهرها فقط- .

قال الواقدي- و كان انهزام قريش و توليها حين زالت الشمس- فأقام رسول الله ص ببدر- و أمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم و حملها- و أمر نفرا من أصحابه أن يعينوه- فصلى العصر ببدر- ثم راح فمر بالأثيل قبل غروب الشمس فنزل به- و بات به و بأصحابه جراح و ليست بالكثيرة- و قال من رجل يحفظنا الليلة- فأسكت القوم فقام رجل- فقال من أنت قال ذكوان بن عبد قيس- قال اجلس ثم أعاد القول الثانية- فقام رجل فقال من أنت- قال ابن عبد القيس فقال اجلس- ثم مكث ساعة و أعاد القول- فقام رجل فقال من أنت- قال أبو سبع فسكت- .

ثم مكث ساعة- و قال قوموا ثلاثتكم- فقام ذكوان بن عبد قيس وحده- فقال له و أين صاحباك- قال يا رسول الله أنا الذي كنت أجيبك الليلة- فقال رسول الله ص فحفظك الله- فبات ذكوان يحرس المسلمين تلك الليلة- حتى كان آخر الليل فارتحل- .

قال الواقدي- و روي أن رسول الله ص صلى العصر بالأثيل- فلما صلى ركعة تبسم فلما سلم سئل عن تبسمه- فقال مر بي ميكائيل و على جناحه النقع- فتبسم إلي و قال إني كنت في طلب القوم- و أتاني جبريل على فرس أنثى معقود الناصية- قد عم ثنيتيه الغبار- فقال يا محمد إن ربي بعثني إليك- و أمرني ألا أفارقك حتى ترضى- فهل رضيت فقلت نعم- .

قال الواقدي و أقبل رسول الله ص بالأسرى- حتى إذا كان بعرق الظبية- أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح- أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط- بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس- و كان أسره عبد الله بن سلمة العجلاني- فجعل عقبة يقول يا ويلي- علام أقتل يا معشر قريش من بين من هاهنا- فقال رسول الله ص لعداوتك لله و لرسوله- فقال يا محمد منك أفضل- فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتني- و إن مننت عليهم مننت علي- و إن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم- يا محمد من للصبية فقال النار- قدمه يا عاصم فاضرب عنقه- فقدمه عاصم فضرب عنقه- فقال النبي ص بئس الرجل كنت و الله- ما علمت كافرا بالله و برسوله و بكتابه مؤذيا لنبيه- فأحمد الله الذي قتلك و أقر عيني منك- .

قال محمد بن إسحاق- و روى عكرمة مولى ابن عباس عن أبي رافع- قال كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب- و كان الإسلام قد فشا فينا أهل البيت فأسلم العباس-و أسلمت أم الفضل زوجته- و كان العباس يهاب قومه و يكره خلافهم- فكان يكتم إسلامه- و كان ذا مال كثير متفرق في قومه- و كان عدو الله أبو لهب قد تخلف عن بدر- و بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة- و كذلك كانوا صنعوا لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا- فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش- كبته الله و أخزاه و وجدنا في أنفسنا قوة و عزا- .

قال و كنت رجلا ضعيفا- و كنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم- فو الله إني لجالس أنحت قداحي- و عندي أم الفضل جالسة- و قد سرنا ما جاءنا من الخبر- إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر- حتى جلس إلى طنب الحجرة- فكان ظهره إلى ظهري- فبينا هو جالس إذ قال للناس- هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم- و كان شهد مع المشركين بدرا- فقال أبو لهب هلم يا ابن أخي فعندك و الله الخبر- قال فجلس إليه و الناس قيام حوله- فقال يا ابن أخي- أخبرني كيف كان أمر الناس- قال لا شي‏ء- و الله إن هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا- فقتلونا كيف شاءوا و أسرونا كيف شاءوا- و ايم الله مع ذلك ما لمت الناس- لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض- لا و الله ما تبقي شيئا و لا يقوم لها شي‏ء- قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة- ثم قلت تلك و الله الملائكة- قال فرفع أبو لهب يده- فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني- و كنت رجلا ضعيفا- فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة- فأخذته فضربته على رأسه- فشجته شجة منكرة- و قالت استضعفته إذ غاب‏ سيده- فقام موليا ذليلا- فو الله ما عاش إلا سبع ليال- حتى رماه الله بالعدسة فقتلته- . و لقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا و ما يدفنانه- حتى أنتن في بيته- و كانت قريش تتقي العدسة و عدواها- كما يتقي الناس الطاعون- حتى قال لهما رجل من قريش- ويحكما أ لا تستحيان- أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه- قالا إنا نخشى هذه القرحة- قال فانطلقا و أنا معكما- فو الله ما غسلوه إلا قذفا عليه بالماء من بعيد- ما يمسونه و أخرجوه فألقوه بأعلى مكة إلى كنان هناك- و قذفوا عليه بالحجارة حتى واروه- .

قال محمد بن إسحاق- فحضر العباس بدرا فأسر فيمن أسر- و كان الذي أسره أبو اليسر كعب بن عمرو- أحد بني سلمة- فلما أمسى القوم و الأسارى محبوسون في الوثاق- و بات رسول الله ص تلك الليلة ساهرا- فقال له أصحابه ما لك لا تنام يا رسول الله- قال سمعت أنين العباس من وثاقه- فقاموا إليه فأطلقوه- فنام رسول الله ص- .

قال و روى ابن عباس رحمه الله- قال كان أبو اليسر رجلا مجموعا- و كان العباس طويلا جسيما- فقال رسول الله ص يا أبا اليسر- كيف أسرت العباس- قال يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته من قبل- من هيئته كذا قال ص- لقد أعانك عليه ملك كريم قال محمد بن إسحاق قد كان رسول الله ص في أول الوقعة فنهى أن يقتل أحد من بني هاشم قال حدثني بذلك الزهري عن عبد الله بن ثعلبة حليف بني زهرة قال و حدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس رحمه الله‏ قال و قال النبي ص لأصحابه إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم و غيرهم- قد أخرجوا كرها لا حاجة لنا بقتلهم- فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله- و من لقي أبا البختري فلا يقتله- و من لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ص فلا يقتله- فإنه إنما خرج مستكرها فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة- أ نقتل آباءنا و إخواننا- و عشائرنا و نترك العباس- و الله لئن لقيته لألحمنه السيف- فسمعها رسول الله ص- فقال لعمر بن الخطاب يا أبا حفص- يقول عمر و الله إنه لأول يوم- كناني فيه رسول الله ص بأبي حفص- أ يضرب وجه عم رسول الله ص بالسيف- فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنقه بالسيف- فو الله لقد نافق- قال فكان أبو حذيفة يقول- و الله ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ- و لا أزال منها خائفا أبدا- إلا أن يكفرها الله عني بشهادة- فقتل يوم اليمامة شهيدا

قال محمد بن إسحاق- و كان رسول الله ص- لما استشار أبا بكر و عمر و سعد بن معاذ في أمر الأسارى- غلظ عمر عليهم غلظة شديدة- فقال يا رسول الله أطعني فيما أشير به عليك- فإني لا آلوك نصحا- قدم عمك العباس فاضرب عنقه بيدك- و قدم عقيلا إلى علي أخيه يضرب عنقه- و قدم كل أسير منهم إلى أقرب الناس إليه يقتله- قال فكره رسول الله ص ذلك و لم يعجبه- .

قال محمد بن إسحاق فلما قدم بالأسرى إلى المدينة قال رسول الله ص‏افد نفسك يا عباس- و ابني أخويك عقيل بن أبي طالب- و نوفل بن الحارث بن عبد المطلب- و حليفك عقبة بن عمرو فإنك ذو مال- فقال العباس يا رسول الله إني كنت مسلما- و لكن القوم استكرهوني- فقال ص الله أعلم بإسلامك- إن يكن ما قلت حقا فإن الله يجزيك به- و أما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافتد نفسك- و قد كان رسول الله ص أخذ منه عشرين أوقية من ذهب- أصابها معه حين أسر- فقال العباس يا رسول الله احسبها لي من فدائي- فقال ص ذاك شي‏ء أعطانا الله منك- فقال يا رسول الله فإنه ليس لي مال- قال فأين المال الذي وضعته بمكة- حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث- و ليس معكما أحد- ثم قلت إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا و كذا- و لعبد الله كذا و كذا و لقثم كذا و كذا- فقال العباس و الذي بعثك بالحق يا رسول الله- ما علم بهذا أحد غيري و غيرها- و إني لأعلم أنك رسول الله ثم فدى نفسه و ابني أخويه و حليفه

قال الواقدي- قدم رسول الله ص من الأثيل- زيد بن حارثة و عبد الله بن رواحة- يبشران الناس بالمدينة- فجاء يوم الأحد في الضحى- و فارق عبد الله زيدا بالعقيق- فجعل عبد الله ينادي عوالي المدينة- يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله- و قتل المشركين و أسرهم- قتل ابنا ربيعة و ابنا الحجاج- و أبو جهل و زمعة بن الأسود- و أمية بن خلف- و أسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثير- قال عاصم بن عدي فقمت إليه فنحوته- فقلت أ حقا ما تقول يا ابن رواحة- قال إي و الله و غدا يقدم رسول الله إن شاء الله- و معه الأسرى مقرنين- ثم تتبع دور الأنصار بالعالية يبشرهم- دارا دارا و الصبيان يشتدون معه- و يقولون قتل أبو جهل الفاسق- حتى انتهوا إلى‏ دور بني أمية بن زيد- و قدم زيد بن حارثة- على ناقة النبي ص القصواء يبشر أهل المدينة- فلما جاء المصلى صاح على راحلته- قتل عتبة و شيبة ابنا ربيعة- و ابنا الحجاج و أبو جهل- و أبو البختري و زمعة بن الأسود و أمية بن خلف- و أسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة- فجعل الناس لا يصدقون زيد بن حارثة- و يقولون ما جاء زيد إلا فلا- حتى غاظ المسلمين ذلك و خافوا- قال و كان قدوم زيد- حين سووا على رقية بنت رسول الله ص التراب بالبقيع- فقال رجل من المنافقين لأسامة بن زيد- قتل صاحبكم و من معه- و قال رجل من المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر- قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون معه أبدا- و قد قتل علية أصحابكم- و قتل محمد و هذه ناقته نعرفها- و هذا زيد بن حارثة لا يدري ما يقول من الرعب- و قد جاء فلا- فقال أبو لبابة كذب الله قولك- و قالت يهود ما جاء زيد إلا فلا- قال أسامة بن زيد فجئت حتى خلوت بأبي- فقلت يا أبت أ حق ما تقول- فقال إي و الله حقا يا بني- فقويت نفسي فرجعت إلى ذلك المنافق- فقلت أنت المرجف برسول الله و بالمسلمين- لنقدمنك إلى رسول الله ص إذا قدم- فليضربن عنقك فقال يا أبا محمد- إنما هو شي‏ء سمعت الناس يقولونه- .

قال الواقدي فقدم بالأسرى و عليهم شقران- و هم تسعة و أربعون رجلا الذين أحصوا- و هم سبعون في الأصل مجمع عليه لا شك فيه- إلا أنهم لم يحص سائرهم- و لقي الناس رسول الله ص بالروحاء- يهنئونه بفتح الله عليه- فلقيه وجوه الخزرج- فقال سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنئونه- فو الله ما قتلنا إلا عجائز صلعا- فتبسم النبي ص- فقال يا ابن أخي أولئك الملأ- لو رأيتهم لهبتهم و لو أمروك لأطعتهم- و لو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرتها- و بئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم- فقال سلمة أعوذ بالله من غضبه و غضب رسوله- إنك يا رسول الله لم تزل عني معرضا- منذ كنا بالروحاء في بدأتنا- فقال ص أما ما قلت للأعرابي- وقعت على ناقتك فهي حبلى منك- ففحشت و قلت ما لا علم لك به- و أما ما قلت في القوم- فإنك عمدت إلى نعمة من نعم الله تزهدها- فقبل رسول الله ص معذرته- و كان من علية أصحابه- . قال الواقدي فروى الزهري- قال لقي أبو هند البياضي مولى فروة بن عمرو- رسول الله و معه حميت مملوء حيسا أهداه له- فقال رسول الله ص- إنما أبو هند رجل من الأنصار- فأنكحوه و أنكحوا إليه- .

قال الواقدي- و لقيه أسيد بن حضير فقال يا رسول الله- الحمد لله الذي ظفرك و أقر عينك- و الله يا رسول الله- ما كان تخلفي عن بدر و أنا أظن بك أنك تلقى عدوا- و لكني ظننت أنها العير- و لو ظننت أنه عدو لما تخلفت- فقال رسول الله صدقت- . قال و لقيه عبد الله بن قيس بتربان- فقال يا رسول الله الحمد لله على سلامتك و ظفرك- كنت يا رسول الله ليالي خرجت مورودا أي محموما- فلم تفارقني حتى كان بالأمس- فأقبلت إليك فقال آجرك الله- .

قال الواقدي و كان سهيل بن عمرو- لما كان بتنوكة بين السقيا و ملل- كان مع مالك بن الدخشم الذي أسره- فقال له خل سبيلي للغائط فقام معه- فقال سهيل إني أحتشم فاستأخر عنى- فاستأخر عنه فمضى سهيل على وجهه- انتزع يده من القرآن و مضى- فلما أبطأ سهيل على مالك بن الدخشم- أقبل فصاح في الناس فخرجوا في طلبه- و خرج النبي ص في طلبه بنفسه- و قال من وجده فليقتله- فوجده رسول الله‏ ص بنفسه أخفى نفسه بين شجرات- فأمر به فربطت يداه إلى عنقه ثم قرنه إلى راحلته- فلم يركب سهيل خطوة حتى قدم المدينة- .

قال الواقدي- فحدثني إسحاق بن حازم بن عبد الله بن مقسم- عن جابر بن عبد الله الأنصاري- قال لقي رسول الله ص أسامة بن زيد- و رسول الله ص على ناقته القصوى- فأجلسه بين يديه و سهيل بن عمرو مجبوب- و يداه إلى عنقه- فلما نظر إلى سهيل قالوا يا رسول الله- أبو يزيد قال نعم- هذا الذي كان يطعم الخبز بمكة و قال البلاذري قال أسامة و هو يومئذ غلام- يا رسول الله هذا الذي كان يطعم الناس بمكة السريد- يعني الثريد- . قلت هذه لثغة مقلوبة- لأن الألثغ يبدل السين ثاء- و هذا أبدل الثاء سينا- و من الناس من يرويها- هذا الذي كان يطعم الناس بمكة الشريد- بالشين المعجمة- .

قال البلاذري- و حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري- عن أشياخه أن أسامة رأى سهيلا يومئذ- فقال يا رسول الله- هذا الذي كان يطعم السريد بمكة- فقال رسول الله ص- هذا أبو يزيد الذي يطعم الطعام- و لكنه سعى في إطفاء نور الله فأمكن الله منه- . قال و فيه يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي- يا با يزيد رأيت سيبك واسعا و سماء جودك تستهل فتمطر- .قال و فيه يقول مالك بن الدخشم- و هو الذي أسره يوم بدر-

أسرت سهيلا فلا أبتغي
به غيره من جميع الأمم‏

و خندف تعلم أن الفتى‏
سهيلا فتاها إذا تظلم‏

ضربت بذي الشفر حتى انثنى
و أكرهت نفسي على ذي العلم‏

أي على ذي العلم بسكون اللام- و لكنه حركه للضرورة- . و كان سهيل أعلم مشقوق الشفة العليا- فكانت أنيابه بادية- فلذلك قالوا ذو الأنياب- . قال الواقدي و لما قدم بالأسرى- كانت سودة بنت زمعة زوج النبي ص عند آل عفراء- في مناحتهم على عوف و معوذ- و ذلك قبل أن يضرب الحجاب- قالت سودة فأتينا فقيل لنا هؤلاء الأسرى قد أتي بهم- فخرجت إلى بيتي و رسول الله ص فيه- و إذا أبو يزيد مجموعة يداه إلى عنقه- في ناحية البيت- فو الله ما ملكت نفسي- حين رأيته مجموعة يداه إلى عنقه- أن قلت أبا يزيد أعطيتم بأيديكم- ألا متم كراما- فو الله ما راعني إلا قول رسول الله ص من البيت- يا سودة أ على الله و على رسوله- فقلت يا نبي الله- و الذي بعثك بالحق إني ما ملكت نفسي- حين رأيت أبا يزيد- مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت- .

قال الواقدي و حدثني خالد بن إلياس- قال حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي جهم- قال دخل يومئذ خالد بن هشام بن المغيرة- و أمية بن أبي حذيفة منزل أم سلمة- و أم سلمة في مناحة آل عفراء- فقيل لها أتي بالأسرى- فخرجت فدخلت عليهم فلم تكلمهم حتى‏ رجعت- فتجد رسول الله ص في بيت عائشة- فقالت يا رسول الله- إن بني عمي طلبوا أن يدخل بهم علي فأضيفهم- و أدهن رءوسهم و ألم من شعثهم- و لم أحب أن أفعل شيئا من ذلك حتى أستأمرك- فقال ص لست أكره شيئا من ذلك- فافعلي من هذا ما بدا لك- قال الواقدي و حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري- قال قال أبو العاص بن الربيع- كنت مستأسرا مع رهط من الأنصار جزاهم الله خيرا- كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز- و أكلوا التمر- و الخبز عندهم قليل و التمر زادهم- حتى إن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إلي- و كان الوليد بن الوليد بن المغيرة- يقول مثل ذلك و يزيد- قال و كانوا يحملوننا و يمشون- .

و قال محمد بن إسحاق في كتابه- كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس- ختن رسول الله ص زوج ابنته زينب- و كان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا و أمانة و تجارة- و كان ابنا لهالة بنت خويلد- أخت خديجة بنت خويلد- و كان الربيع بن عبد العزى- بعل هذه فكانت خديجة خالته- فسألت خديجة رسول الله ص أن يزوجه زينب- و كان رسول الله ص لا يخالف خديجة- و ذلك قبل أن ينزل عليه الوحي- فزوجه إياها- فكان أبو العاص من خديجة بمنزلة ولدها- فلما أكرم الله رسوله بنبوته- آمنت به خديجة و بناته كلهن و صدقته- و شهدن أن ما جاء به حق و دن بدينه- و ثبت أبو العاص على شركه- و كان رسول الله ص قد زوج عتبة بن أبي- إحدى ابنتيه رقية أو أم كلثوم- و ذلك من قبل أن ينزل عليه- فلما أنزل عليه الوحي و نادى قومه بأمر الله باعدوه- فقال بعضهم لبعض- إنكم قد فرغتم محمد من همه- أخذتم عنه بناته و أخرجتموهن من عياله- فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن- فمشوا إلى أبي العاص بن الربيع- فقالوا فارق صاحبتك بنت محمد- و نحن نزوجك أي‏امرأة شئت من قريش- فقال لا ها الله إذن لا أفارق صاحبتي- و ما أحب أن لي بها امرأة من قريش- فكان رسول الله ص إذا ذكره يثني عليه خيرا في صهره- ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبي لهب- فقالوا له طلق بنت محمد- و نحن ننكحك أي امرأة شئت من قريش- فقال إن أنتم زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص- أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها- فزوجوه ابنة سعيد بن العاص- ففارقها و لم يكن دخل بها- فأخرجها الله من يده كرامة لها و هوانا له- ثم خلف عليها عثمان بن عفان بعده- و كان رسول الله ص مغلوبا على أمره بمكة- لا يحل و لا يحرم- و كان الإسلام قد فرق بين زينب و أبي العاص- إلا أن رسول الله ص كان لا يقدر و هو بمكة- أن يفرق بينهما- فأقامت معه على إسلامها و هو على شركه- حتى هاجر رسول الله ص إلى المدينة- و بقيت زينب بمكة مع أبي العاص- فلما سارت قريش إلى بدر- سار أبو العاص معهم- فأصيب في الأسرى يوم بدر- فأتي به النبي ص فكان عنده مع الأسارى- فلما بعث أهل مكة في فداء أساراهم- بعثت زينب في فداء أبي العاص بعلها بمال- و كان فيما بعثت به قلادة- كانت خديجة أمها أدخلتها بها على أبي العاص- ليلة زفافها عليه- فلما رآها رسول الله ص رق لها رقة شديدة- و قال للمسلمين إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها- و تردوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا- فقالوا نعم يا رسول الله نفديك بأنفسنا و أموالنا- فردوا عليها ما بعثت به- و أطلقوا لها أبا العاص بغير فداء- .

قلت قرأت على النقيب أبي جعفر- يحيى بن أبي زيد البصري العلوي رحمه الله- هذا الخبر- فقال أ ترى أبا بكر و عمر لم يشهدا هذا المشهد- أ ما كان يقتضي التكريم و الإحسان-أن يطيب قلب فاطمة بفدك- و يستوهب لها من المسلمين- أ تقصر منزلتها عند رسول الله ص- عن منزله زينب أختها و هي سيدة نساء العالمين- هذا إذا لم يثبت لها حق- لا بالنحلة و لا بالإرث- فقلت له فدك بموجب الخبر- الذي رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق المسلمين- فلم يجز له أن يأخذه منهم- فقال و فداء أبي العاص بن الربيع- قد صار حقا من حقوق المسلمين- و قد أخذه رسول الله ص منهم- فقلت رسول الله ص صاحب الشريعة- و الحكم حكمه و ليس أبو بكر كذلك- فقال ما قلت هلا أخذه أبو بكر- من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة- و إنما قلت هلا استنزل المسلمين عنه- و استوهبه منهم لها- كما استوهب رسول الله ص المسلمين فداء أبي العاص- أ تراه لو قال هذه بنت نبيكم- قد حضرت تطلب هذه النخلات- أ فتطيبون عنها نفسا أ كانوا منعوها ذلك- فقلت له قد قال قاضي القضاة- أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو هذا- قال إنهما لم يأتيا بحسن في شرع التكرم- و إن كان ما أتياه حسنا في الدين- .

قال محمد بن إسحاق- و كان رسول الله ص لما أطلق سبيل أبي العاص- أخذ عليه فيما نرى أو شرط عليه في إطلاقه- أو أن أبا العاص وعد رسول الله ص ابتداء- بأن يحمل زينب إليه إلى المدينة- و لم يظهر ذلك من أبي العاص- و لا من رسول الله ص إلا أنه لما خلي سبيله- و خرج إلى مكة- بعث رسول الله ص بعده- زيد بن حارثة و رجلا من الأنصار- فقال لهما كونا بمكان كذا- حتى تمر بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها- فخرجا نحو مكة و ذلك بعد بدر بشهر-أو شيعه فلما قدم أبو العاص مكة- أمرها باللحوق بأبيها فأخذت تتجهز قال محمد بن إسحاق- فحدثت عن زينب أنها قالت- بينا أنا أتجهز للحوق بأبي- لقيتني هند بنت عتبة فقالت- أ لم يبلغني يا بنت محمد- أنك تريدين اللحوق بأبيك- فقلت ما أردت ذلك- فقالت أي بنت عم لا تفعلي- إن كانت لك حاجة في متاع أو فيما يرفق بك في سفرك- أو مال تبلغين به إلى أبيك- فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني- فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال- قالت و ايم الله إني لأظنها حينئذ صادقة- ما أظنها قالت حينئذ إلا لتفعل- و لكن خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك- قالت و تجهزت حتى فرغت من جهازي- فحملني أخو بعلي و هو كنانة بن الربيع- .

قال محمد بن إسحاق- قدم لها كنانة بن الربيع بعيرا فركبته- و أخذ قوسه و كنانته و خرج بها نهارا- يقود بعيرها و هي في هودج لها- و تحدث بذلك الرجال من قريش و النساء- و تلاومت في ذلك و أشفقت- أن تخرج ابنة محمد من بينهم على تلك الحال- فخرجوا في طلبها سراعا حتى أدركوها بذي طوى- فكان أول من سبق إليها- هبار بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد- بن عبد العزى بن قصي- و نافع بن عبد القيس الفهري- فروعها هبار بالرمح و هي في الهودج- و كانت حاملا فلما رجعت طرحت ما في بطنها- و قد كانت من خوفها رأت دما و هي في الهودج- فلذلك أباح رسول الله ص يوم فتح مكة- دم هبار بن الأسود- .

قلت و هذا الخبر أيضا- قرأته على النقيب أبي جعفر رحمه الله- فقال إذا كان رسول الله ص- أباح دم هبار بن الأسود- لأنه روع زينب فألقت ذا بطنها- فظهر الحال أنه لو كان حيا- لأباح دم من روع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها- فقلت أروي عنك ما يقوله قوم- إن فاطمة روعت فألقت المحسن- فقال لا تروه عني و لا ترو عني بطلانه- فإني متوقف في هذا الموضع لتعارض الأخبار عندي فيه- . قال الواقدي فبرك حموها كنانة بن الربيع- و نثل كنانته بين يديه- ثم أخذ منها سهما فوضعه في كبد قوسه- و قال أحلف بالله لا يدنو اليوم منها رجل- إلا وضعت فيه سهما فتكر الناس عنه- .

قال و جاء أبو سفيان بن حرب في جلة من قريش- فقال أيها الرجل اكفف عنا نبلك حتى نكلمك فكف- فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه- فقال إنك لم تحسن و لم تصب- خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية جهارا- و قد عرفت مصيبتنا و نكبتنا- و ما دخل علينا من محمد أبيها- فيظن الناس إذا أنت خرجت بابنته إليه جهارا- أن ذلك عن ذل أصابنا- و أن ذلك منا وهن- و لعمري ما لنا في حبسها عن أبيها من حاجة- و ما فيها من ثأر- و لكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات- و تحدث الناس بردها سلها سلا خفيا- فألحقها بأبيها- فردها كنانة بن الربيع إلى مكة- فأقامت بها ليالي حتى إذا هدأ الصوت عنها حملها على بعيرها- و خرج بها ليلا حتى سلمها إلى زيد بن حارثة و صاحبه- فقدما بها على رسول الله ص- .

قال محمد بن إسحاق فروى سليمان بن يسار عن أبي إسحاق الدوسي عن‏ أبي هريرة قال بعث رسول الله ص سرية أنا فيها إلى عير لقريش- فيها متاع لهم و ناس منهم- فقال إن ظفرتم بهبار بن الأسود- و نافع بن عبد قيس فحرقوهما بالنار- حتى إذا كان الغد بعث فقال لنا- إني كنت قد أمرتكم بتحريق الرجلين إن أخذتموهما- ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد- أن يعذب بالنار إلا الله تعالى- فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما و لا تحرقوهما – .

قلت لقائل من المجبرة أن يقول- أ ليس هذا نسخ الشي‏ء قبل تقضي وقت فعله- و أهل العدل لا يجيزون ذلك- و هذا السؤال مشكل و لا جواب عنه- إلا بدفع الخبر أما بتضعيف أحد من رواته- أو إبطال الاحتجاج به لكونه خبر واحد- أو بوجه آخر- و هو أن نجيز للنبي الاجتهاد في الأحكام الشرعية- كما يذهب إليه كثير من شيوخنا- و هو مذهب القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة- و مثل هذا الخبر حديث براءة و إنفاذها مع أبي بكر- و بعث علي ع فأخذها منه في الطريق- و قرأها على أهل مكة- بعد أن كان أبو بكر هو المأمور بقراءتها عليهم- .

فأما البلاذري فإنه روى أن هبار بن الأسود- كان ممن عرض لزينب بنت رسول الله ص- حين حملت من مكة إلى المدينة- فكان رسول الله ص يأمر سراياه- إن ظفروا به أن يحرقوه بالنار- ثم قال لا يعذب بالنار إلا رب النار- و أمرهم إن ظفروا به- أن يقطعوا يديه و رجليه و يقتلوه- فلم يظفروا به حتى إذا كان يوم الفتح هرب هبار- ثم قدم على رسول الله ص بالمدينة- و يقال أتاه بالجعرانة حين فرغ من أمر حنين- فمثل بين يديه و هو يقول- أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله- فقبل إسلامه و أمر ألا يعرض له- و خرجت سلمى مولاة رسول الله ص-فقالت لا أنعم الله بك عينا- فقال رسول الله ص- مهلا فقد محا الإسلام ما قبله- . قال البلاذري فقال الزبير بن العوام- لقد رأيت رسول الله ص- بعد غلظته على هبار بن الأسود- يطأطئ رأسه استحياء منه- و هبار يعتذر إليه و هو يعتذر إلى هبار أيضا- .

قال محمد بن إسحاق- فأقام أبو العاص بمكة على شركه- و أقامت زينب عند أبيها ص بالمدينة- قد فرق بينهما الإسلام- حتى إذا كان قبل الفتح- خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام بمال له- و أموال لقريش أبضعوا بها معه- و كان رجلا مأمونا- فلما فرغ من تجارته و أقبل قافلا- لقيته سرية لرسول الله ص- فأصابوا ما معه و أعجزهم هو هاربا- فخرجت السرية بما أصابت من ماله- حتى قدمت به على رسول الله ص- و خرج أبو العاص تحت الليل- حتى دخل على زينب ابنة رسول الله ص منزلها- فاستجار بها فأجارته- و إنما جاء في طلب ماله الذي أصابته تلك السرية- فلما كبر رسول الله ص في صلاة الصبح- و كبر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء- أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع- فصلى رسول الله ص بالناس الصبح- فلما سلم من الصلاة أقبل عليهم- فقال أيها الناس هل سمعتم ما سمعت- قالوا نعم قال أما و الذي نفس محمد بيده- ما علمت بشي‏ء مما كان حتى سمعتم- إنه يجير على الناس أدناهم- ثم انصرف و دخل على ابنته زينب- فقال أي بنية أكرمي مثواه- و أحسني قراه و لا يصلن إليك- فإنك‏ لا تحلين له- ثم بعث إلى تلك السرية- الذين كانوا أصابوا مال أبي العاص- فقال لهم إن هذا الرجل منا بحيث علمتم- و قد أصبتم له مالا- فإن تحسنوا و تردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك- و إن أبيتم فهو في‏ء الله الذي أفاء عليكم- و أنتم أحق به- فقالوا يا رسول الله بل نرده عليه- فردوا عليه ماله و متاعه- حتى إن الرجل كان يأتي بالحبل- و يأتي الآخر بالشنة و يأتي الآخر بالإداوة- و الآخر بالشظاظ- حتى ردوا ماله و متاعه بأسره- من عند آخره و لم يفقد منه شيئا- ثم احتمل إلى مكة- فلما قدمها أدى إلى كل ذي مال من قريش ماله- ممن كان أبضع معه بشي‏ء- حتى إذا فرغ من ذلك- قال لهم يا معشر قريش- هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه- قالوا لا فجزاك الله خيرا- لقد وجدناك وفيا كريما- قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله- و أن محمدا رسول الله- و الله ما منعني من الإسلام- إلا تخوف أن تظنوا- أني أردت أن آكل أموالكم و أذهب بها- فإذ سلمها الله لكم و أداها إليكم- فإني أشهدكم أني قد أسلمت و اتبعت دين محمد- ثم خرج سريعا حتى قدم على رسول الله المدينة- .

قال محمد بن إسحاق- فحدثني داود بن الحصين عن عكرمة- عن ابن عباس أن رسول الله ص- رد زينب بعد ست سنين على أبي العاص- بالنكاح الأول لم يحدث شيئا قال الواقدي- فلما فرغ رسول الله ص من أمر الأسارى- و فرق الله عز و جل ببدر بين الكفر و الإيمان- أذل رقاب المشركين و المنافقين و اليهود- و لم يبق بالمدينة يهودي و لا منافق إلا خضعت عنقه- .

و قال قوم من المنافقين- ليتنا خرجنا معه حتى نصيب غنيمة- و قالت يهود فيما بينها- هو الذي نجد نعته في كتبنا- و الله لا ترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت- . و قال كعب بن الأشرف- بطن الأرض اليوم خير من ظهرها- هؤلاء أشراف الناس و ساداتهم- و ملوك العرب و أهل الحرم و الأمن قد أصيبوا- و خرج إلى مكة فنزل على أبي وداعة بن ضبيرة- و جعله يرسل هجاء المسلمين- و رثى قتلى بدر من المشركين فقال-

طحنت رحى بدر لمهلك أهله
و لمثل بدر يستهل و يدمع‏

قتلت سراة الناس حول حياضه‏
لا تبعدوا إن الملوك تصرع‏

و يقول أقوام أذل بعزهم
إن ابن أشرف ظل كعبا يجزع‏

صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا
ظلت تسيخ بأهلها و تصدع‏

نبئت أن الحارث بن هشامهم
في الناس يبني الصالحات و يجمع‏

ليزور يثرب بالجموع و إنما
يسعى على الحسب القديم الأروع‏

قال الواقدي- أملاها علي عبد الله بن جعفر- و محمد بن صالح و ابن أبي الزناد- فلما أرسل كعب هذه الأبيات- أخذها الناس بمكة عنه- و أظهروا المراثي و قد كانوا حرموها- كيلا يشمت المسلمون بهم- و جعل الصبيان و الجواري ينشدونها بمكة- فناحت بها قريش‏ على قتلاها شهرا- و لم تبق دار بمكة إلا فيها النوح- و جز النساء شعورهن- و كان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه- فتوقف بين أظهرهم فينوحون حولها- و خرجن إلى السكك- و ضربن الستور في الأزقة- و قطعن فخرجن إليها ينحن- و صدق أهل مكة رؤيا عاتكة و جهيم بن الصلت- . قال الواقدي- و كان الذين قدموا من قريش- في فداء الأسرى أربعة عشر رجلا- و قيل خمسة عشر رجلا- و كان أول من قدم المطلب بن أبي وداعة- ثم قدم الباقون بعده بثلاث ليال- .

قال فحدثني إسحاق بن يحيى- قال سألت نافع بن جبير- كيف كان الفداء قال- أرفعهم أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف- إلى ألفين إلى ألف- إلا قوما لا مال لهم من عليهم رسول الله ص- . قال الواقدي- و قال رسول الله ص في أبي وداعة- إن له بمكة ابنا كيسا له مال- و هو مغل فداءه- فلما قدم افتداه بأربعة آلاف- و كان أول أسير افتدي- و ذلك أن قريشا قالت لابنه المطلب بن أبي وداعة- و رأته يتجهز يخرج إليه لا تعجل- فإنا نخاف أن تفسد علينا في أسارانا- و يرى محمد تهالكنا فيغلي علينا الفدية- فإن كنت تجد فإن كل قومك لا يجدون من السعة ما تجد- فقال لا أخرج حتى تخرجوا- فخادعهم حتى إذا غفلوا خرج من الليل على راحلته- فسار أربعة ليال إلى المدينة فافتدى أباه بأربعة آلاف- فلامه قريش في ذلك- فقال ما كنت لأترك أبي أسيرا في أيدي القوم- و أنتم مضجعون- فقال أبو سفيان بن حرب- إن هذا غلام حدث يعجب بنفسه و برأيه- و هو مفسد عليكم- إني و الله غير مفتد عمرو بن أبي سفيان- و لو مكث سنة أو يرسله محمد- و الله ما أنا بأعوذكم- و لكني أكره أن أدخل عليكم ما يشق عليكم- و لكن يكون عمرو كأسوتكم- .

قال الواقدي- فأما أسماء القوم الذين قدموا في الأسرى- فإنه قدم من بني عبد شمس- الوليد بن عقبة بن أبي معيط- و عمرو بن الربيع أخو أبي العاص بن الربيع- و من بني نوفل بن عبد مناف جبير بن مطعم- و من بني عبد الدار بن قصي طلحة بن أبي طلحة- و من بني أسد بن عبد العزى بن قصي- عثمان بن أبي حبيش- و من بني مخزوم عبد الله بن أبي ربيعة- و خالد بن الوليد و هشام بن الوليد بن المغيرة- و فروة بن السائب و عكرمة بن أبي جهل- و من بني جمح أبي بن خلف و عمير بن وهب- و من بني سهم المطلب بن أبي وداعة- و عمرو بن قيس- و من بني مالك بن حسل- مكرز بن حفص بن الأحنف- كل هؤلاء قدموا المدينة في فداء أهلهم و عشائرهم- و كان جبير بن مطعم يقول- دخل الإسلام في قلبي منذ قدمت المدينة في الفداء- سمعت رسول الله ص يقرأ في صلاة المغرب- وَ الطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ- فاستمعت قراءته- فدخل الإسلام في قلبي منذ ذلك اليوم
القول في تفصيل أسماء أسارى بدر و من أسرهم

قال الواقدي- أسر من بني هاشم العباس بن عبد المطلب- أسره أبو اليسر كعب بن عمرو- و عقيل بن أبي طالب- أسره عبيد بن أوس الظفري- و نوفل بن الحارث‏ بن عبد المطلب- أسره جبار بن صخر- و أسر حليف لبني هاشم من بني فهر- اسمه عتبة فهؤلاء أربعة- .

و من بني المطلب بن عبد مناف السائب بن عبيد- و عبيد بن عمرو بن علقمة- رجلان أسرهما سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي- . قال الواقدي- حدثني بذلك ابن أبي حبيبة- قال و لم يقدم لهما أحد و كانا لا مال لهما- ففك رسول الله ص عنهما بغير فدية- .

و من بني عبد شمس بن عبد مناف- عقبة بن أبي معيط المقتول صبرا- على يد عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بأمر رسول الله- أسره عبد الله بن أبي سلمة العجلاني- و الحارث بن أبي وحرة بن أبي عمرو بن أمية- أسره سعد بن أبي وقاص- فقدم في فدائه الوليد بن عقبة بن أبي معيط- فافتداه بأربعة آلاف- .

قال الواقدي- و قد كان الحارث هذا لما أمر النبي ص برد الأسارى- ثم أقرع بين أصحابه عليهم- وقع في سهم سعد بن أبي وقاص- الذي كان أسره أول مرة- و عمرو بن أبي سفيان- أسره علي بن أبي طالب ع- و صار بالقرعة في سهم رسول الله ص- فأطلقه بغير فدية- أطلقه بسعد بن النعمان بن أكال من بني معاوية- خرج معتمرا فحبس بمكة فلم يطلقه المشركون- حتى أطلق رسول الله ص عمرو بن أبي سفيان- .

و روى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي- أن عمرو بن أبي سفيان أسره علي ع يوم بدر- و كانت أمه ابنة عقبة بن أبي معيط- فمكث في يد رسول الله ص- فقيل لأبي سفيان أ لا تفتدي ابنك عمرا- قال أ يجمع علي دمي و مالي- قتلوا حنظلة و أفتدي عمرا- دعوه في أيديهم فليمسكوه ما بدا لهم- فبينا هو محبوس بالمدينة- خرج‏ سعد بن النعمان بن أكال- أخو بني عمرو بن عوف معتمرا- و معه امرأة له- و كان شيخا كبيرا لا يخشى ما صنع به أبو سفيان- و قد عهد قريشا ألا يعرض لحاج و لا معتمر- فعدا عليه أبو سفيان- فحبسه بمكة بابنه عمرو بن أبي سفيان- و أرسل إلى قوم بالمدينة هذا الشعر-

أ رهط ابن أكال أجيبوا دعاءه
تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا

فإن بني عمرو لئام أذلة
لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا

فمشى بنو عمرو بن عوف حين بلغهم الخبر- إلى رسول الله ص فأخبروه بذلك- و سألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان- ليفكوا به صاحبهم فأعطاهم إياه- فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد- و قال حسان بن ثابت يجيب أبا سفيان-

و لو كان سعد يوم مكة مطلقا
لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلى‏

بعضب حسام أو بصفراء نبعة
تحن إذا ما أنبضت تحفز التبلا

و أبو العاص بن الربيع أسره خراش بن الصمة- فقدم في فدائه عمرو بن أبي الربيع أخوه- و حليف لهم يقال له أبو ريشة- افتداه عمرو بن الربيع أيضا- و عمرو بن الأزرق افتكه عمرو بن الربيع أيضا- و كان قد صار في سهم تميم مولى خراش بن الصمة- و عقبة بن الحارث الحضرمي أسره عمارة بن حزم- فصار في القرعة لأبي بن كعب- افتداه عمرو بن أبي سفيان بن أمية- و أبو العاص بن نوفل بن عبد شمس- أسره عمار بن ياسر قدم في فدائه ابن عمه- فهؤلاء ثمانية- .

و من بني نوفل بن عبد مناف عدي بن الخيار- أسره خراش بن الصمة و عثمان بن عبد شمس- ابن أخي عتبة بن غزوان حليفهم- أسره حارثة بن النعمان و أبو ثور- أسره أبو مرثد الغنوي- فهؤلاء ثلاثة افتداهم جبير بن مطعم- . و من بني عبد الدار بن قصي- أبو عزيز بن عمير أسره أبو اليسر- ثم صار بالقرعة لمحرز بن نضلة- قال الواقدي- أبو عزيز هذا هو أخو مصعب بن عمير لأبيه و أمه- و قال مصعب لمحرز بن نضلة اشدد يديك به- فإن له أما بمكة كثيرة المال- فقال له أبو عزيز هذه وصاتك بي يا أخي- فقال مصعب إنه أخي دونك- فبعثت فيه أمه أربعة آلاف- و ذلك بعد أن سألت ما أغلى ما تفادي به قريش- فقيل لها أربعة آلاف- و الأسود بن عامر بن الحارث بن السباق- أسره حمزة بن عبد المطلب- فهذان اثنان قدم في فدائهما طلحة بن أبي طلحة و من بني أسد بن عبد العزى بن قصي- السائب بن أبي حبيش بن المطلب- بن أسد بن عبد العزى- أسره عبد الرحمن بن عوف- و عثمان بن الحويرث بن عثمان بن أسد بن عبد العزى- أسره حاطب بن أبي بلتعة- و سالم بن شماخ أسره سعد بن أبي وقاص- فهؤلاء ثلاثة قدم في فدائهم عثمان بن أبي حبيش- بأربعة آلاف لكل رجل منهم- . و من بني تميم بن مرة- مالك بن عبد الله بن عثمان- أسره قطبة بن عامر بن حديدة- فمات في المدينة أسيرا- .

و من بني مخزوم خالد بن هشام بن المغيرة- أسره سواد بن غزية- و أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة أسره بلال- و عثمان بن عبد الله بن المغيرة- و كان أفلت يوم نخلة- أسره واقد بن عبد الله التميمي يوم بدر- فقال له الحمد لله الذي أمكنني منك- فقد كنت أفلت يوم نخلة- و قدم في فداء هؤلاء الثلاثة عبد الله بن أبي ربيعة- افتدى كل واحد منهم بأربعة آلاف- و الوليد بن الوليد بن المغيرة- أسره عبد الله بن جحش-فقدم في فدائه أخواه- خالد بن الوليد و هشام بن الوليد- فتمنع عبد الله بن جحش حتى افتكاه بأربعة آلاف- فجعل هشام بن الوليد يريد ألا يبلغ ذلك- يريد ثلاثة آلاف فقال خالد لهشام- إنه ليس بابن أمك- و الله لو أبى فيه إلا كذا و كذا لفعلت- فلما افتدياه خرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة- فأفلت فأتى النبي ص فأسلم- فقيل أ لا أسلمت قبل أن تفتدى- قال كرهت أن أسلم حتى أكون أسوة بقومي- .

قال الواقدي- و يقال إن الذي أسر الوليد بن الوليد- سليط بن قيس المازني- و قيس بن السائب أسره عبدة بن الحسحاس- فحبسه عنده حينا و هو يظن أن له مالا- ثم قدم في فدائه أخوه فروة بن السائب- فأقام أيضا حينا- ثم افتداه بأربعة آلاف فيها عروض- .

و من بني أبي رفاعة- صيفي بن أبي رفاعة بن عائذ- بن عبد الله بن عمير بن مخزوم- و كان لا مال له أسره رجل من المسلمين- فمكث عندهم ثم أرسله- و أبو المنذر بن أبي رفاعة بن عائذ- افتدي بألفين و لم يذكر الواقدي من أسره- و عبد الله و هو أبو عطاء بن السائب- بن عائذ بن عبد الله- افتدي بألف درهم- أسره سعد بن أبي وقاص- و المطلب بن حنظلة بن الحارث- بن عبيد بن عمير بن مخزوم- أسره أبو أيوب الأنصاري- و لم يكن له مال فأرسله بعد حين- و خالد بن الأعلم العقيلي- حليف لبني مخزوم و هو الذي يقول-

و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
و لكن على أقدامنا تقطر الدما

و قال محمد بن إسحاق- روي أنه كان أول المنهزمين- أسره الخباب بن المنذر بن الجموح- و قدم في فدائه عكرمة بن أبي جهل- فهؤلاء عشرة- .

و من بني جمح عبد الله بن أبي بن خلف- أسره فروة بن أبي عمرو البياضي- قدم في فدائه أبوه أبي بن خلف- فتمنع به فروة حينا- و أبو غزة عمرو بن عبد الله بن وهب- أطلقه رسول الله ص بغير فدية- و كان شاعرا خبيث اللسان- ثم قتله يوم أحد بعد أن أسره- و لم يذكر الواقدي الذي أسره يوم بدر- و وهب بن عمير بن وهب- أسره رفاعة بن رافع الزرقي- و قدم أبوه عمير بن وهب في فدائه- فأسلم فأرسل النبي ص له ابنه بغير فداء- و ربيعة بن دراج بن العنبس بن وهبان- بن وهب بن حذافة بن جمح- و كان لا مال له فأخذ منه بشي‏ء يسير- و أرسل به و لم يذكر الواقدي من أسره- و الفاكه مولى أمية بن خلف- أسره سعد بن أبي وقاص فهؤلاء خمسة- .

و من بني سهم بن عمرو أبو وداعة بن ضبيرة- و كان أول أسير افتدي- قدم في فدائه ابنه المطلب فافتداه بأربعة آلاف- و لم يذكر الواقدي من أسره- و فروة بن قيس بن عدي بن حذافة بن سعيد بن سهم- أسره ثابت بن أقزم- و قدم في فدائه عمرو بن قيس افتداه بأربعة آلاف- و حنظلة بن قبيصة بن حذاقة بن سعد- أسره عثمان بن مظعون- و الحجاج بن الحارث بن قيس بن سعد بن سهم- أسره عبد الرحمن بن عوف فأفلت- فأخذه أبو داود المازني فهؤلاء أربعة- .

و من بني مالك بن حسل- سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك- أسره مالك بن الدخشم- و قدم في فدائه مكرز بن حفص بن الأحنف- و انتهى في فدائه إلى إرضائهم بأربعة آلاف- فقالوا هات المال- فقال نعم اجعلوا رجلا مكان رجل-و قوم يروونها رجلا مكان رجل- فخلوا سبيل سهيل و حبسوا مكرز بن حفص عندهم- حتى بعث سهيل بالمال من مكة- و عبد الله بن زمعة بن قيس بن نصر بن مالك- أسره عمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو- و عبد العزى بن مشنوء بن وقدان- بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود- سماه رسول الله ص بعد إسلامه عبد الرحمن- أسره النعمان بن مالك فهؤلاء ثلاثة- .

و من بني فهر الطفيل بن أبي قنيع- فهؤلاء ستة و أربعون أسيرا- . و في كتاب الواقدي- أنه كان الأسارى الذين أحصوا و عرفوا تسعة و أربعين- و لم نجد التفصيل يلحق هذه الجملة- . و روى الواقدي عن سعيد بن المسيب- قال كانت الأسارى سبعين- و أن القتلى كانت زيادة على سبعين- إلا أن المعروفين من الأسرى هم الذين ذكرناهم- و الباقون لم يذكر المؤرخون أسماءهم

القول في المطعمين في بدر من المشركين

قال الواقدي- المتفق عليه و لا خلاف بينهم فيه تسعة- فمن بني عبد مناف- الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف- و عتبة و شيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس- . و من بني أسد بن عبد العزى- زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد- و نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية- . و من بني مخزوم أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة- . و من بني جمح أمية بن خلف- .

و من بني سهم نبيه و منبه ابنا الحجاج- . فهؤلاء تسعة- . قال الواقدي و كان سعيد بن المسيب يقول- ما أطعم أحد ببدر إلا قتل- . قال الواقدي- قد ذكروا عدة من المطعمين اختلف فيهم- كسهيل بن عمرو و أبي البختري و غيرهما- . قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم- عن موسى بن عتبة- قال أول من نحر لهم أبو جهل بمر الظهران عشرا- ثم أمية بن خلف بعسفان تسعا- ثم سهيل بن عمرو بقديد عشرا- ثم مالوا إلى مياه من نحو البحر ضلوا الطريق- فأقاموا بها يوما- فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعا- ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم قيس الجمحي تسعا- ثم نحر عتبة عشرا- و نحر لهم الحارث بن عمرو تسعا- ثم نحر لهم أبو البختري على ماء بدر عشرا- و نحر لهم مقيس بن ضبابة على ماء بدر تسعا- ثم شغلتهم الحرب- . قال الواقدي- و قد كان ابن أبي الزناد يقول- و الله ما أظن مقيسا كان يقدر على قلوص واحدة- . قال الواقدي- و أما أنا فلا أعرف قيسا الجمحي- قال و قد روت أم بكر- عن المسور بن مخرمة ابنها- قال كان النفر يشتركون في الإطعام- فينسب إلى الرجل الواحد و يسكت عن سائرهم- .

و روى محمد بن إسحاق- أن العباس بن عبد المطلب كان من المطعمين في بدر- و كذلك طعيمة بن عدي بن نوفل- كان يعتقب هو و حكيم و الحارث بن عامر بن نوفل- و كان أبو البختري يعتقب هو و حكيم بن حزام في الإطعام- و كان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة- بن عبد مناف بن عبد الدار من المطعمين- قال و كان النبي ص يكره قتل‏الحارث بن عامر- قال يوم بدر- من ظفر به منكم فليتركه لأيتام بني نوفل- فقتل في المعركة

القول فيمن استشهد من المسلمين ببدر

قال الواقدي حدثني عبد الله بن جعفر- قال سألت الزهري كم استشهد من المسلمين ببدر- قال أربعة عشر- ستة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار- . قال فمن بني المطلب بن عبد مناف- عبيدة بن الحارث قتله شيبة بن ربيعة- . و في رواية الواقدي قتله عتبة- فدفنه النبي ص بالصفراء- . و من بني زهرة عمير بن أبي وقاص- قتله عمرو بن عبد ود فارس الأحزاب- و عمير بن عبد ود ذو الشمالين- حليف لبني زهرة بن خزاعة- قتله أبو أسامة الجشمي- .

و من بني عدي بن كعب عاقل بن أبي البكير- حليف لهم من بني سعد بن بكر- قتله مالك بن زهير الجشمي- و مهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن الحضرمي- و يقال إن مهجعا أول من قتل من المهاجرين- . و من بني الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء- قتله طعيمة بن عدي- . و هؤلاء الستة من المهاجرين- . و من الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف- مبشر بن عبد المنذر قتله أبو ثور- و سعد بن خيثمة قتله عمرو بن عبد ود- و يقال طعيمة بن عدي- و من بني عدي بن النجار حارثة بن سراقة- رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله- . و من بني مالك بن النجار- عوف و معوذ ابنا عفراء- قتلهما أبو جهل- .

و من بني سلمة بن حرام- عمير بن الحمام بن الجموح- قتله خالد بن الأعلم العقيلي- و يقال إن عمير بن الحمام أول قتيل قتل من الأنصار- و قد روي أن أول قتيل منهم حارث بن سراقة- . و من بني زريق رافع بن المعلى- قتله عكرمة بن أبي جهل- . و من بني الحارث بن الخزرج- يزيد بن الحارث بن قسحم- قتله نوفل بن معاوية الديلي- . فهؤلاء الثمانية من الأنصار- .

قال الواقدي- و قد روي عن عكرمة عن ابن عباس- أن أنسة مولى النبي ص قتل ببدر- . و روي أن معاذ بن ماعص جرح ببدر- فمات من جراحته بالمدينة- و أن عبيد بن السكن جرح فاشتكى جرحه- فمات منه حين قدم

القول فيمن قتل ببدر من المشركين و أسماء قاتليهم

قال الواقدي- فمن بني عبد شمس بن عبد مناف- حنظلة بن أبي سفيان بن حرب- قتله علي بن أبي طالب ع- و الحارث بن الحضرمي قتله عمار بن ياسر- و عامر بن الحضرمي- قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح- و عمير بن أبي عمير و ابنه موليان لهم- قتل سالم مولى أبي حذيفة منهم عمير بن أبي عمير- و لم يذكر الواقدي من قتل ابنه- و عبيدة بن سعيد بن العاص- قتله الزبير بن العوام- و العاص بن سعيد بن العاص- قتله علي بن أبي طالب ع- و عقبة بن أبي معيط- قتله عاصم بن ثابت صبرا بالسيف- بأمر رسول الله ص- .

و روى البلاذري- أن رسول الله ص صلبه بعد قتله- فكان أول مصلوب في الإسلام- قال و فيه يقول ضرار بن الخطاب- عين بكي لعقبة بن أبان فرع فهر و فارس الفرسان‏- . و عتبة بن ربيعة قتله حمزة بن عبد المطلب- و شيبة بن ربيعة قتله عبيدة بن الحارث- و حمزة و علي- الثلاثة اشتركوا في قتله- و الوليد بن عتبة بن ربيعة- قتله علي بن أبي طالب ع- و عامر بن عبد الله حليف لهم من أنمار- قتله علي بن أبي طالب ع- و قيل قتله سعد بن معاذ فهؤلاء اثنا عشر- .

و من بني نوفل بن عبد مناف الحارث بن نوفل- قتله خبيب بن يساف- و طعيمة بن عدي و يكنى أبا الريان- قتله حمزة بن عبد المطلب في رواية الواقدي- و قتله علي بن أبي طالب ع- في رواية محمد بن إسحاق- و روى البلاذري رواية غريبة- أن طعيمة بن عدي أسر يوم بدر- فقتله النبي ص صبرا على يد حمزة- فهؤلاء اثنان- . و من بني أسد بن عبد العزى- زمعة بن الأسود قتله أبو دجانة- و قيل قتله ثابت بن الجذع- و الحارث بن زمعة بن الأسود- قتله علي بن أبي طالب ع- و عقيل بن الأسود بن المطلب- قتله علي و حمزة شركا في قتله- .

قال الواقدي و حدثني أبو معشر- قال قتله علي بن أبي طالب ع وحده- و قيل قتله أبو داود المازني وحده- و أبو البختري و هو العاص بن هشام- قتله المجذر بن‏ زياد- و قيل قتله أبو اليسر- و نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى- و هو ابن العدوية- قتله علي ع فهؤلاء خمسة- . و من بني عبد الدار بن قصي- النضر بن الحارث بن كلدة- قتله علي بن أبي طالب ع صبرا بالسيف- بأمر رسول الله ص- و كان الذي أسره المقداد بن عمرو- فوعد المقداد إن استنقذه بفداء جليل- فلما قدم ليقتل- قال المقداد يا رسول الله- إني ذو عيال و أحب الدين- فقال اللهم أغن المقداد من فضلك- يا علي قم فاضرب عنقه- و زيد بن مليص- مولى عمرو بن هاشم بن عبد مناف من عبد الدار- قتله علي بن أبي طالب ع- و قيل قتله بلال فهؤلاء اثنان- .

و من بني تيم بن مرة- عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب- بن سعد بن تيم بن مرة- قتله علي بن أبي طالب ع- و عثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان قتله صهيب- فهؤلاء اثنان- و لم يذكر البلاذري عثمان بن مالك- . و من بني مخزوم بن يقظة- ثم من بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم- أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة- ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح- و معوذ و عوف ابنا عفراء- و ذفف عليه عبد الله بن مسعود- و العاص بن هاشم بن المغيرة خال عمر بن الخطاب- قتله عمرو بن يزيد بن تميم التميمي- حليف لهم قتله عمار بن ياسر- و قيل قتله علي ع- .

و من بني الوليد بن المغيرة- أبو قيس بن الوليد بن الوليد- أخو خالد بن الوليد- قتله علي بن أبي طالب ع- . و من بني الفاكه بن المغيرة- أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة- قتله حمزة بن عبد المطلب- و قيل قتله الحباب بن المنذر- .

و من بني أمية بن المغيرة مسعود بن أبي أمية- قتله علي بن أبي طالب ع- .

و من بني عائذ بن عبد الله بن عمير بن مخزوم- ثم من بني رفاعة- أمية بن عائذ بن رفاعة بن أبي رفاعة- قتله سعد بن الربيع- و أبو المنذر بن أبي رفاعة- قتله معن بن عدي العجلاني- و عبد الله بن أبي رفاعة- قتله علي بن أبي طالب ع- و زهير بن أبي رفاعة قتله أبو أسيد الساعدي- و السائب بن أبي رفاعة قتله عبد الرحمن بن عوف- .

و من بني أبي السائب المخزومي- و هو صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم- السائب بن السائب قتله الزبير بن العوام- و الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم- قتله حمزة بن عبد المطلب- و حليف لهم من طيئ و هو عمرو بن شيبان- قتله يزيد بن قيس- و حليف آخر و هو جبار بن سفيان- أخو عمرو بن سفيان المقدم ذكره- قتله أبو بردة بن نيار- .

و من بني عمران بن مخزوم- حاجز بن السائب بن عويمر بن عائذ- قتله علي ع- . و روى البلاذري- أن حاجزا هذا و أخاه عويمر بن السائب بن عويمر- قتلهما علي بن أبي طالب ع- و عويمر بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم- قتله النعمان بن أبي مالك فهؤلاء تسعة عشر- . و من بني جمح بن عمرو بن هصيص أمية بن خلف- قتله خبيب بن يساف و بلال شركا فيه- .

قال الواقدي- و كان معاذ بن رفاعة بن رافع يقول- بل قتله أبو رفاعة بن رافع- .و علي بن أمية بن خلف قتله عمار بن ياسر- و أوس بن المغيرة بن لوذان- قتله علي ع و عثمان بن مظعون- شركا فيه فهؤلاء ثلاثة- .

و من بني سهم منبه بن الحجاج- قتله علي بن أبي طالب ع- و قيل قتله أبو أسيد الساعدي- و نبيه بن الحجاج قتله علي بن أبي طالب ع- و العاص بن منبه بن الحجاج قتله علي ع- و أبو العاص بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم- قتله أبو دجانة- قال الواقدي و حدثني أبو معشر عن أصحابه- قالوا قتله علي ع- و عاص بن أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سعد- قتله أبو دجانة فهؤلاء خمسة و من بني عامر بن لؤي- ثم من بني مالك بن حسل- معاوية بن عبد قيس حليف لهم- قتله عكاشة بن محصن- و معبد بن وهب حليف لهم من كلب- قتله أبو دجانة فهؤلاء اثنان- .

فجميع من قتل ببدر- في رواية الواقدي من المشركين في الحرب صبرا- اثنان و خمسون رجلا- قتل علي ع منهم مع الذين شرك في قتلهم- أربعة و عشرين رجلا- و قد كثرت الرواية- أن المقتولين ببدر كانوا سبعين- و لكن الذين عرفوا و حفظت أسماؤهم من ذكرناه- و في رواية الشيعة أن زمعة بن الأسود بن المطلب- قتله علي- و الأشهر في الرواية أنه قتله الحارث بن زمعة- و أن زمعة قتله أبو دجانة

القول فيمن شهد بدرا من المسلمين

قال الواقدي كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا- مع القوم الذين ضرب لهم رسول الله ص- بسهامهم و هم غائبون و عدتهم ثمانية- قال و هذا هو الأغلب في الرواية-قال و لم يشهد بدرا من المسلمين- إلا قرشي أو حليف لقرشي- أو أنصاري أو حليف لأنصاري- أو مولى واحد منهما- و هكذا من جانب المشركين- فإنه لم يشهدها إلا قرشي أو حليف لقرشي أو مولى لهم- . قال فكانت قريش و مواليها و حلفاؤها- ستة و ثمانين رجلا- و كانت الأنصار و مواليها و حلفاؤها- مائتين و سبعة و عشرين رجلا- . فأما تفصيل أسماء من شهدها من المسلمين- فله موضع في كتب المحدثين- أملك به من هذا الموضع

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14

نامه 9 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(كتاب له ع إلى معاوية) جز الاول

9 و من كتاب له ع إلى معاوية

فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا وَ اجْتِيَاحَ أَصْلِنَا- وَ هَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وَ فَعَلُوا بِنَا الْأَفَاعِيلَ- وَ مَنَعُونَا الْعَذْبَ وَ أَحْلَسُونَا الْخَوْفَ- وَ اضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ- وَ أَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ- فَعَزَمَ اللَّهُ لَنَا عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ- وَ الرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حَوْمَتِهِ- مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذَلِكَ الْأَجْرِ وَ كَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ الْأَصْلِ- وَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ- أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ- وَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ- وَ أَحْجَمَ النَّاسُ- قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ- فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَ الْأَسِنَّةِ- فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ- وَ قُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ- وَ قُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ- وَ أَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ- مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ- وَ لَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَ مَنِيَّتَهُ أُخِّرَتْ- فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ- إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي- وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي- الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا- إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ وَ لَا أَظُنُّ اللَّهَ يَعْرِفُهُ- وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ- وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنْ دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَيْكَ- فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ- فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْكَ وَ لَا إِلَى غَيْرِكَ- وَ لَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَيِّكَ وَ شِقَاقِكَ- لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ يَطْلُبُونَكَ- لَا يُكَلِّفُونَكَ طَلَبَهُمْ فِي بَرٍّ وَ لَا بَحْرٍ- وَ لَا جَبَلٍ‏وَ لَا سَهْلٍ- إِلَّا أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوءُكَ وِجْدَانُهُ- وَ زَوْرٌ لَا يَسُرُّكَ لُقْيَانُهُ وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ

قوله ع فأراد قومنا يعني قريشا- . و الاجتياح الاستئصال و منه الجائحة و هي السنة- أو الفتنة التي تجتاح المال أو الأنفس- . قوله و منعونا العذب أي العيش العذب- لا أنهم منعوهم الماء العذب على أنه قد نقل- أنهم منعوا أيام الحصار في شعب بني هاشم- من الماء العذب- و سنذكر ذلك- . قوله و أحلسونا الخوف أي ألزموناه- و الحلس كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير- و أحلاس البيوت ما يبسط تحت حر الثياب- و في الحديث كن حلس بيتك – أي لا تخالط الناس و اعتزل عنهم- فلما كان الحلس ملازما ظهر البعير- و أحلاس البيوت ملازمة لها- قال و أحلسونا الخوف- أي جعلوه لنا كالحلس الملازم- . قوله و اضطرونا إلى جبل وعر- مثل ضربه ع لخشونة مقامهم و شظف منزلهم- أي كانت حالنا فيه- كحال من اضطر إلى ركوب جبل وعر- و يجوز أن يكون حقيقة لا مثلا- لأن الشعب الذي حصروهم فيه مضيق بين جبلين- . قوله فعزم الله لنا أي قضى الله لنا- و وفقنا لذلك و جعلنا عازمين عليه- . و الحوزة الناحية و حوزة الملك بيضته- .

و حومة الماء و الرمل معظمه- . و الرمي عنها المناضلة و المحاماة- و يروى و الرمي من وراء حرمته- و الضمير في حوزته و حومته- راجع إلى النبي ص و قد سبق ذكره- و هو قوله نبينا و يروى و الرميا- . و قال الراوندي و هموا بنا الهموم- أي هموا نزول الهم بنا- فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه- و ليس ما قاله بجيد- بل الهموم منصوب هاهنا على المصدر- أي هموا بنا هموما كثيرة- و هموا بنا أي أرادوا نهبنا- كقوله تعالى وَ هَمَّ بِها على تفسير أصحابنا- و إنما أدخل لام التعريف في الهموم- أي هموا بنا تلك الهموم التي تعرفونها- فأتى باللام ليكون أعظم و أكبر- في الصدور من تنكيرها- أي تلك الهموم معروفة مشهورة بين الناس- لتكرر عزم المشركين- في أوقات كثيرة مختلفة على الإيقاع- . و قوله و فعلوا بنا الأفاعيل- يقال لمن أثروا آثارا منكرة فعلوا بنا الأفاعيل- و قل أن يقال ذلك في غير الضرر و الأذى- و منه قول أمية بن خلف لعبد الرحمن بن عوف- و هو يذكر حمزة بن عبد المطلب يوم بدر- ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل- .

قوله يحامي عن الأصل- أي يدافع عن محمد و يذب عنه حمية و محافظة على النسب- . قوله خلو مما نحن فيه- أي خال و الحلف العهد- . و احمر البأس كلمة مستعارة- أي اشتدت الحرب حتى احمرت الأرض من الدم- فجعل البأس هو الأحمر مجازا- كقولهم الموت الأحمر- .

قوله و أحجم الناس- أي كفوا عن الحرب و جبنوا عن الإقدام- يقال حجمت فلانا عن كذا أحجمه بالضم فأحجم هو- و هذه اللفظة من النوادر كقولهم كببته فأكب- . و يوم مؤتة بالهمز و مؤتة أرض معروفة- . و قوله و أراد من لو شئت لذكرت اسمه- يعني به نفسه- . قوله إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي- إشارة إلى معاوية في الظاهر- و إلى من تقدم عليه من الخلفاء في الباطن- و الدليل عليه قوله التي لا يدلي أحد بمثلها- فأطلق القول إطلاقا عاما مستغرقا لكل الناس أجمعين- . ثم قال إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه- و لا أظن الله يعرفه- أي كل من ادعى خلاف ما ذكرته فهو كاذب- لأنه لو كان صادقا لكان علي ع يعرفه لا محالة- فإذا قال عن نفسه إن كل دعوة تخالف ما ذكرت- فإني لا أعرف صحتها فمعناه أنها باطلة- . و قوله و لا أظن الله يعرفه- فالظن هاهنا بمعنى العلم كقوله تعالى- وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها- و أخرج هذه الكلمة مخرج قوله تعالى- قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ- و ليس المراد سلب العلم بل العلم بالسلب- كذلك ليس مراده ع- سلب الظن الذي هو بمعنى العلم- بل ظن السلب أي علم السلب- أي و أعلم أن الله سبحانه يعرف انتفاءه- و كل ما يعلم الله انتفاءه فليس بثابت- .

و قال الراوندي قوله ع- و لا أظن الله يعرفه مثل قوله تعالى- وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ- .و الله يعلم كل شي‏ء قبل وجوده- و إنما معناه حتى نعلم جهادهم موجودا- و ليست هذه الكلمة من الآية بسبيل لتجعل مثالا لها- و لكن الراوندي يتكلم بكل ما يخطر له- من غير أن يميز ما يقول- . و تقول أدلى فلان بحجته أي احتج بها- و فلان مدل برحمه أي مت بها- و أدلى بماله إلى الحاكم- دفعه إليه ليجعله وسيلة إلى قضاء حاجته منه- فأما الشفاعة فلا يقال فيها أدليت- و لكن دلوت بفلان أي استشفعت به- و قال عمر لما استسقى بالعباس رحمه الله- اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك- و قفية آبائه و كبر رجاله- دلونا به إليك مستشفعين قوله ع فلم أره يسعني- أي لم أر أنه يحل لي دفعهم إليك- و الضمير في أره ضمير الشأن و القصة- و أره من الرأي لا من الرؤية- كقولك لم أر الرأي الفلاني- .

و نزع فلان عن كذا- أي فارقه و تركه ينزع بالكسر- و الغي الجهل و الضلال- . و الشقاق الخلاف- . الوجدان مصدر وجدت كذا أي أصبته- و الزور الزائر- . و اللقيان مصدر لقيت تقول لقيته لقاء و لقيانا- . ثم قال و السلام لأهله- لم يستجز في الدين أن يقول له و السلام عليك- لأنه عنده فاسق لا يجوز إكرامه- فقال و السلام لأهله أي على أهله- . و يجب أن نتكلم في هذا الفصل في مواضع- منها ذكر ما جاء في السيرة- من إجلاب قريش على رسول الله ص و بني هاشم- و حصرهم في الشعب- .و منها الكلام في المؤمنين و الكافرين من بني هاشم- الذين كانوا في الشعب محصورين معه ص من هم- . و منها شرح قصة بدر- . و منها شرح غزاة أحد- . و منها شرح غزاة مؤتة

الفصل الأول إجلاب قريش على بني هاشم و حصرهم في الشعب

فأما الكلام في الفصل الأول- فنذكر منه ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار- في كتاب السيرة و المغازي- فإنه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث و المؤرخين- و مصنفه شيخ الناس كلهم- . قال محمد بن إسحاق رحمه الله- لم يسبق عليا ع إلى الإيمان بالله- و رسالة محمد ص أحد من الناس- اللهم إلا أن تكون خديجة زوجة رسول الله ص- قال و قد كان ص يخرج و معه علي مستخفين من الناس- فيصليان الصلوات في بعض شعاب مكة- فإذا أمسيا رجعا فمكثا بذلك ما شاء الله أن يمكثا- لا ثالث لهما- ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما و هما يصليان- فقال لمحمد ص يا ابن أخي ما هذا الذي تفعله- فقال أي عم هذا دين الله و دين ملائكته و رسله- و دين أبينا إبراهيم- أو كما قال ع بعثني الله به رسولا إلى العباد- و أنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة- و دعوته إلى الهدى- و أحق من أجابني إليه و أعانني عليه أو كما قال- فقال أبو طالب إني لا أستطيع يا ابن أخي أن أفارق‏ديني- و دين آبائي و ما كانوا عليه- و لكن و الله لا يخلص إليك شي‏ء تكرهه ما بقيت- فزعموا أنه قال لعلي أي بني ما هذا الذي تصنع- قال يا أبتاه آمنت بالله و رسوله و صدقته فيما جاء به- و صليت إليه و اتبعت قول نبيه- فزعموا أنه قال له أما إنه لا يدعوك أو لن يدعوك- إلا إلى خير فالزمه- . قال ابن إسحاق- ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله ص- فكان أول من أسلم- و صلى معه بعد علي بن أبي طالب ع- .

ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة فكان ثالثا لهما- ثم أسلم عثمان بن عفان و طلحة و الزبير- و عبد الرحمن و سعد بن أبي وقاص- فصاروا ثمانية- فهم الثمانية الذين سبقوا الناس إلى الإسلام بمكة- ثم أسلم بعد هؤلاء الثمانية أبو عبيدة بن الجراح- و أبو سلمة بن عبد الأسد و أرقم بن أبي أرقم- ثم انتشر الإسلام بمكة و فشا ذكره- و تحدث الناس به- و أمر الله رسوله أن يصدع بما أمر به- فكانت مدة إخفاء رسول الله ص نفسه و شأنه- إلى أن أمر بإظهار الدين ثلاث سنين فيما بلغني- .

قال محمد بن إسحاق- و لم تكن قريش تنكر أمره حينئذ كل الإنكار- حتى ذكر آلهتهم و عابها- فأعظموا ذلك و أنكروه- و أجمعوا على عداوته و خلافه- و حدب عليه عمه أبو طالب فمنعه و قام دونه- حتى مضى مظهرا لأمر الله لا يرده عنه شي‏ء- قال فلما رأت قريش محاماة أبي طالب عنه- و قيامه دونه و امتناعه من أن يسلمه- مشى إليه رجال من أشراف قريش- منهم عتبة بن ربيعة و شيبة أخوه- و أبو سفيان بن حرب و أبو البختري بن هشام- و الأسود بن المطلب- و الوليد بن المغيرة و أبو جهل عمرو بن هشام-و العاص بن وائل و نبيه و منبه ابنا الحجاج- و أمثالهم من رؤساء قريش- فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا- و عاب ديننا و سفه أحلامنا و ضلل آراءنا- فإما أن تكفه عنا و إما أن تخلي بيننا و بينه- فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا و ردهم ردا جميلا- فانصرفوا عنه و مضى رسول الله ص على ما هو عليه- يظهر دين الله و يدعو إليه- ثم شرق الأمر بينه و بينهم تباعدا و تضاغنا- حتى أكثرت قريش ذكر رسول الله ص بينها- و تذامروا فيه و حض بعضهم بعضا عليه- فمشوا إلى أبي طالب مرة ثانية- فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا و شرفا و منزلة فينا- و إنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا- و إنا و الله لا نصبر على شتم آبائنا- و تسفيه أحلامنا و عيب آلهتنا- فإما أن تكفه عنا أو ننازله و إياك- حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا- فعظم على أبي طالب فراق قومه و عداوتهم- و لم تطب نفسه بإسلام ابن أخيه لهم و خذلانه- فبعث إليه فقال يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني- فقالوا لي كذا و كذا للذي قالوا- فأبق علي و على نفسك- و لا تحملني من الأمر ما لا أطيقه- قال فظن رسول الله ص أنه قد بدا لعمه فيه بداء- و أنه خاذله و مسلمه و أنه قد ضعف عن نصرته و القيام دونه- فقال يا عم- و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي- على أن أترك هذا الأمر ما تركته- حتى يظهره الله أو أهلك- ثم استعبر باكيا و قام- فلما ولى ناداه أبو طالب أقبل يا ابن أخي فأقبل راجعا- فقال له اذهب يا ابن أخي- فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشي‏ء أبدا- .

قال ابن إسحاق- و قال أبو طالب يذكر ما أجمعت عليه قريش من حربه- لما قام بنصر محمد ص-

و الله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا

فانفذ لأمرك ما عليك مخافة
و ابشر و قر بذاك منه عيونا

و دعوتني و زعمت أنك ناصحي
و لقد صدقت و كنت قبل أمينا

و عرضت دينا قد علمت بأنه‏
من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذاري سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا

 قال محمد بن إسحاق- ثم إن قريشا حين عرفت أن أبا طالب- قد أبى خذلان رسول الله ص و إسلامه إليهم- و رأوا إجماعه على مفارقتهم و عداوتهم- مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي- و كان أجمل فتى في قريش- فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد- أبهى فتى في قريش و أجمله- فخذه إليك فاتخذه ولدا فهو لك- و أسلم لنا هذا ابن أخيك- الذي قد خالف دينك و دين آبائك- و فرق جماعة قومك لنقتله- فإنما هو رجل برجل- فقال أبو طالب و الله ما أنصفتموني- تعطوني ابنكم أغذوه لكم- و أعطيكم ابني تقتلونه- هذا و الله ما لا يكون أبدا- فقال له المطعم بن عدي بن نوفل و كان له صديقا مصافيا- و الله يا أبا طالب ما أراك تريد أن تقبل من قومك شيئا- لعمري قد جهدوا في التخلص مما تكره- و أراك لا تنصفهم- فقال أبو طالب و الله ما أنصفوني و لا أنصفتني- و لكنك قد أجمعت على خذلاني- و مظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك‏ قال فعند ذلك تنابذ القوم و صارت الأحقاد- و نادى بعضهم بعضا- و تذامروا بينهم على من في القبائل من المسلمين- الذين اتبعوا محمدا ص- فوثبت كل قبيلة على من فيها منهم- يعذبونهم و يفتنونهم عن دينهم- و منع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب- و قام في بني هاشم و بني عبد المطلب- حين رأى قريشا تصنع ما تصنع- فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله ص- و القيام دونه فاجتمعوا إليه و قاموا معه- و أجابوه إلى ما دعاهم إليه- من الدفاع عن رسول الله ص- إلا ما كان من أبي لهب- فإنه لم يجتمع معهم على ذلك- فكان أبو طالب يرسل إليه الأشعار- و يناشده النصر منها القطعة التي أولها-
حديث عن أبي لهب أتانا و كانفه على ذاكم رجال‏- .

و منها القطعة التي أولها-

أ ظننت عني قد خذلت و غالني
منك الغوائل بعد شيب المكبر

و منها القطعة التي أولها-

تستعرض الأقوام توسعهم
عذرا و ما إن قلت من عذر

قال محمد بن إسحاق فلم يؤثر عن أبي لهب خير قط- إلا ما يروى أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي- لما وثب عليه قومه- ليعذبوه و يفتنوه عن الإسلام هرب منهم- فاستجار بأبي طالب و أم أبي طالب مخزومية- و هي أم عبد الله والد رسول الله ص فأجاره- فمشى إليه رجال من بني مخزوم- و قالوا له يا أبا طالب هبك منعت منا ابن أخيك محمدا- فما لك و لصاحبنا تمنعه منا- قال إنه استجار بي و هو ابن أختي- و إن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي- فارتفعت أصواتهم و أصواته- فقام أبو لهب و لم ينصر أبا طالب قبلها و لا بعدها- فقال يا معشر قريش- و الله لقد أكثرتم على هذاالشيخ- لا تزالون تتوثبون عليه في جواره من بين قومه- أما و الله لتنتهن عنه- أو لنقومن معه فيما قام فيه حتى يبلغ ما أراد- فقالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة- فقاموا فانصرفوا و كان وليا لهم- و معينا على رسول الله ص و أبي طالب- فاتقوه و خافوا أن تحمله الحمية على الإسلام- فطمع فيه أبو طالب حيث سمعه قال ما قال- و أمل أن يقوم معه في نصرة رسول الله ص- فقال يحرضه على ذلك-

و إن امرأ أبو عتيبة عمه
لفي معزل من أن يسام المظالما

و لا تقبلن الدهر ما عشت خطة
تسب بها أما هبطت المواسما

أقول له و أين منه نصيحتي
أبا عتبة ثبت سوادك قائما

و ول سبيل العجز غيرك منهم‏
فإنك لم تخلق على العجز لازما

و حارب فإن الحرب نصف و لن ترى
أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما

كذبتم و بيت الله نبزى محمدا
و لما تروا يوما من الشعب قائما

و قال يخاطب أبا لهب أيضا-

عجبت لحلم يا ابن شيبة
عازب و أحلام أقوام لديك سخاف‏

يقولون شايع من أراد محمدا
بظلم و قم في أمره بخلاف‏

أضاميم إما حاسد ذو خيانة
و إما قريب عنك غير مصاف‏

فلا تركبن الدهر منه ذمامة
و أنت امرؤ من خير عبد مناف‏

و لا تتركنه ما حييت لمعظم
و كن رجلا ذا نجدة و عفاف‏

يذود العدا عن ذروة هاشمية
إلافهم في الناس خير إلاف‏

فإن له قربى لديك قريبة
و ليس بذي حلف و لا بمضاف‏

و لكنه من هاشم ذي صميمها
إلى أبحر فوق البحور طواف‏

و زاحم جميع الناس عنه و كن
له وزيرا على الأعداء غير مجاف‏

و إن غضبت منه قريش فقل لها
بني عمنا ما قومكم بضعاف‏

و ما بالكم تغشون منه ظلامة
و ما بال أحقاد هناك خوافي

فما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا
و ما نحن فيما ساءهم بخفاف‏

و لكننا أهل الحفائظ و النهى
و عز ببطحاء المشاعر واف‏

قال محمد بن إسحاق- فلما طال البلاء على المسلمين و الفتنة و العذاب- و ارتد كثير عن الدين باللسان لا بالقلب- كانوا إذا عذبوهم يقولون- نشهد أن هذا الله و أن اللات و العزى هي الآلهة- فإذا خلوا عنهم عادوا إلى الإسلام- فحبسوهم و أوثقوهم بالقد- و جعلوهم في حر الشمس على الصخر و الصفا- و امتدت أيام الشقاء عليهم- و لم يصلوا إلى محمد ص لقيام أبي طالب دونه- فأجمعت قريش على أن يكتبوا بينهم و بين بني هاشم صحيفة- يتعاقدون فيها ألا يناكحوهم- و لا يبايعوهم و لا يجالسوهم- فكتبوها و علقوها في جوف الكعبة- تأكيدا على أنفسهم- و كان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم- بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي- فلما فعلوا ذلك انحازت هاشم و المطلب- فدخلوا كلهم مع أبي طالب في الشعب- فاجتمعوا إليه- و خرج منهم أبو لهب إلى قريش فظاهرها على قومه- .

قال محمد بن إسحاق- فضاق الأمر ببني هاشم و عدموا القوت- إلا ما كان يحمل إليهم سرا و خفية- و هو شي‏ء قليل لا يمسك أرماقهم- و أخافتهم قريش- فلم يكن يظهر منهم أحد و لا يدخل إليهم أحد- و ذلك أشد ما لقي رسول الله ص و أهل بيته بمكة- .

قال محمد بن إسحاق- فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا- حتى جهدوا ألا يصل إليهم‏ شي‏ء- إلا القليل سرا ممن يريد صلتهم من قريش- و قد كان أبو جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام- بن خويلد بن أسد بن عبد العزى- معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد- و هي عند رسول الله محاصرة في الشعب- فتعلق به و قال أ تحمل الطعام إلى بني هاشم- و الله لا تبرح أنت و طعامك حتى أفضحك بمكة- فجاءه أبو البختري العاص بن هشام- بن الحارث بن أسد بن عبد العزى- فقال ما لك و له- قال إنه يحمل الطعام إلى بني هاشم- فقال أبو البختري يا هذا- إن طعاما كان لعمته عنده بعثت إليه فيه- أ فتمنعه أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل- فأبى أبو جهل حتى نال كل منهما من صاحبه- فأخذ له أبو البختري لحي بعير فضربه به- فشجه و وطئه وطئا شديدا- فانصرف و هو يكره أن يعلم رسول الله ص- و بنو هاشم بذلك فيشمتوا- فلما أراد الله تعالى من إبطال الصحيفة- و الفرج عن بني هاشم من الضيق- و الأزل الذي كانوا فيه-

قام هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب- بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي- في ذلك أحسن قيام- و ذلك أن أباه عمرو بن الحارث- كان أخا لنضلة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي من أمه- فكان هشام بن عمرو يحسب لذلك واصلا ببني هاشم- و كان ذا شرف في قومه بني عامر بن لؤي- فكان يأتي بالبعير ليلا و قد أوقره طعاما- و بنو هاشم و بنو المطلب في الشعب- حتى إذا أقبل به فم الشعب فمنع بخطامه من رأسه- ثم يضربه على جنبه فيدخل الشعب عليهم- ثم يأتي به مرة أخرى- و قد أوقره تمرا فيصنع به مثل ذلك ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي- فقال يا زهير- أ رضيت أن تأكل الطعام و تشرب الشراب- و تلبس الثياب و تنكح النساء- و أخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون و لا يبتاع منهم- و لا ينكحون و لا ينكح إليهم- و لا يواصلون و لا يزارون- أما إني أحلف لو كان أخوك أبو الحكم بن هشام- و دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم- ما أجابك أبدا- قال ويحك يا هشام فما ذا أصنع- إنما أنا رجل واحد- و الله لو كان معي رجل آخر- لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة- قال قد وجدت رجلا قال من هو- قال أنا قال زهير أبغنا ثالثا- فذهب إلى مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف- فقال له يا مطعم- أ رضيت أن يهلك بطنان من عبد مناف جوعا و جهدا- و أنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه- أما و الله لئن أمكنتموهم من هذا- لتجدن قريشا إلى مساءتكم في غيره سريعة- قال ويحك ما ذا أصنع إنما أنا رجل واحد- قال قد وجدت ثانيا- قال من هو قال أنا قال أبغني ثالثا- قال قد وجدت قال من هو قال زهير بن أمية-

قال أنا قال أبغنا رابعا فذهب إلى أبي البختري بن هشام- فقال له نحو ما قال للمطعم- قال و هل من أحد يعين على هذا- قال نعم و ذكرهم قال فأبغنا خامسا- فمضى إلى زمعة بن الأسود- بن المطلب بن أسد بن عبد العزى فكلمه- فقال و هل يعين على ذلك من أحد- قال نعم ثم سمى له القوم- فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة فأجمعوا أمرهم- و تعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها- و قال زهير أنا أبدؤكم و أكون أولكم يتكلم- فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم- و غدا زهير بن أبي أمية عليه حلة له- فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس- فقال يا أهل مكة أ نأكل الطعام- و نشرب الشراب و نلبس الثياب و بنو هاشم هلكى- و الله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة- و كان أبو جهل في ناحية المسجد- فقال كذبت و الله لا تشق- فقال زمعة بن الأسود لأبي جهل و الله أنت أكذب- ما رضينا و الله بها حين كتبت- فقال أبو البختري معه صدق و الله زمعة- لا نرضى بها و لا نقر بما كتب فيها- فقال المطعم بن عدي صدقا و الله- و كذب من قال غير ذلك- نبرأ إلى الله منها و مما كتب فيها- و قال هشام بن عمرو مثل قولهم- فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل- و قام مطعم بن عدي إلى الصحيفة فحطها و شقها- فوجد الأرضة قد أكلتها- إلاما كان من باسمك اللهم- قالوا و أما كاتبها منصور بن عكرمة- فشلت يده فيما يذكرون- فلما مزقت الصحيفة خرج بنو هاشم من حصار الشعب- .

قال محمد بن إسحاق- فلم يزل أبو طالب ثابتا صابرا- مستمرا على نصر رسول الله ص- و حمايته و القيام دونه- حتى مات في أول السنة الحادية العشرة- من مبعث رسول الله ص فطمعت فيه قريش حينئذ- و نالت منه- فخرج عن مكة خائفا يطلب أحياء العرب- يعرض عليهم نفسه- فلم يزل كذلك حتى دخل مكة في جوار المطعم بن عدي- ثم كان من أمره مع الخزرج ما كان ليلة العقبة- . قال و من شعر أبي طالب- الذي يذكر فيه رسول الله ص و قيامه دونه-

أرقت و قد تصوبت النجوم
و بت و لا تسالمك الهموم‏

لظلم عشيرة ظلموا و عقوا
و غب عقوقهم لهم وخيم‏

هم انتهكوا المحارم من أخيهم
و كل فعالهم دنس ذميم‏

و راموا خطة جورا و ظلما
و بعض القول ذو جنف مليم‏

لتخرج هاشما فتكون منها
بلاقع بطن مكة فالحطيم‏

فمهلا قومنا لا تركبونا
بمظلمة لها خطب جسيم‏

فيندم بعضكم و يذل بعض
و ليس بمفلح أبدا ظلوم‏

أرادوا قتل أحمد زاعميه‏
و ليس بقتله منهم زعيم‏

و دون محمد منا ندي هم
العرنين و العضو الصميم‏

و من ذلك قوله-

و قالوا لأحمد أنت امرؤ خلوف
الحديث ضعيف السبب‏

و إن كان أحمد قد جاءهم
بصدق و لم يأتهم بالكذب‏

فإنا و من حج من راكب‏
و كعبة مكة ذات الحجب‏

تنالون أحمد أو تصطلوا
ظباة الرماح و حد القضب‏

و تغترفوا بين أبياتكم‏
صدور العوالي و خيلا شزب‏

تراهن من بين ضافي السبيب
قصير الحزام طويل اللبب‏

عليها صناديد من هاشم‏
هم الأنجبون مع المنتجب‏

 و روى عبد الله بن مسعود قال- لما فرغ رسول الله ص من قتلى بدر- و أمر بطرحهم في القليب- جعل يتذكر من شعر أبي طالب بيتا فلا يحضره- فقال له أبو بكر لعله قوله يا رسول الله-

و إنا لعمر الله إن جد جدنا
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل‏

فسر بظفره بالبيت و قال إي لعمر الله لقد التبست- . و من شعر أبي طالب قوله-

ألا أبلغا عني لؤيا رسالة بحق
و ما تغني رسالة مرسل‏

بني عمنا الأدنين فيما يخصهم‏
و إخواننا من عبد شمس و نوفل‏

أ ظاهرتم قوما علينا سفاهة
و أمرا غويا من غواة و جهل‏

يقولون لو أنا قتلنا محمدا
أقرت نواصي هاشم بالتذلل‏

كذبتم و رب الهدي تدمى نحوره
بمكة و البيت العتيق المقبل‏

تنالونه أو تصطلوا دون نيله‏
صوارم تفري كل عضو و مفصل‏

فمهلا و لما تنتج الحرب بكرها
بخيل تمام أو بآخر معجل‏

و تلقوا بيع الأبطحين محمدا
على ربوة في رأس عنقاء عيطل‏

و تأوي إليه هاشم إن هاشما
عرانين كعب آخر بعد أول‏

فإن كنتم ترجون قتل محمد
فروموا بما جمعتم نقل يذبل‏

فإنا سنحميه بكل طمرة
و ذي ميعة نهد المراكل هيكل‏

و كل رديني ظماء كعوبه
و عضب کإيماض الغمامة مفصل‏

 قلت كان صديقنا علي بن يحيى البطريق رحمه الله- يقول لو لا خاصة النبوة و سرها- لما كان مثل أبي طالب- و هو شيخ قريش و رئيسها و ذو شرفها- يمدح ابن أخيه محمدا- و هو شاب قد ربي في حجره و هو يتيمه و مكفوله- و جار مجرى أولاده بمثل قوله-

و تلقوا ربيع الأبطحين محمدا
على ربوة في رأس عنقاء عيطل‏

و تأوي إليه هاشم إن هاشما
عرانين كعب آخر بعد أول‏

و مثل قوله-

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل‏

يطيف به الهلاك من آل هاشم‏
فهم عنده في نعمة و فواضل

فإن هذا الأسلوب من الشعر- لا يمدح به التابع و الذنابى من الناس- و إنما هو من مديح الملوك و العظماء- فإذا تصورت أنه شعر أبي طالب- ذاك الشيخ المبجل العظيم- في محمد ص و هو شاب مستجير به- معتصم بظله من قريش قد رباه في حجره غلاما- و على عاتقه طفلا و بين يديه شابا- يأكل من زاده و يأوي إلى داره- علمت موضع خاصية النبوة و سرها- و أن أمره كان عظيما- و أن الله تعالى أوقع في القلوب و الأنفس له- منزلة رفيعة و مكانا جليلا و قرأت في أمالي أبي جعفر بن حبيب رحمه الله- قال كان أبو طالب إذا رأى رسول الله ص أحيانا- يبكي و يقول إذا رأيته ذكرت أخي- و كان عبد الله أخاه لأبويه- و كان شديد الحب و الحنو عليه- و كذلك كان عبد المطلب شديد الحب له- و كان أبو طالب- كثيرا ما يخاف على رسول الله ص البيات- إذا عرف مضجعه يقيمه ليلا من منامه- و يضجع ابنه عليا مكانه- فقال له علي ليلة يا أبت إني مقتول فقال له-

اصبرن يا بني فالصبر أحجى
كل حي مصيره لشعوب‏

قدر الله و البلاء شديد
لفداء الحبيب و ابن الحبيب‏

لفداء الأعز ذي الحسب
الثاقب و الباع و الكريم النجيب‏

إن تصبك المنون فالنبل تبري‏
فمصيب منها و غير مصيب‏

كل حي و إن تملى بعمر
آخذ من مذاقها بنصيب‏

 فأجاب علي ع فقال له‏

أ تأمرني بالصبر في نصر أحمد
و و الله ما قلت الذي قلت جازعا

و لكنني أحببت أن ترى نصرتي‏
و تعلم أني لم أزل لك طائعا

سأسعى لوجه الله في نصر أحمد
نبي الهدى المحمود طفلا و يافعا

الفصل الثاني القول في المؤمنين و الكافرين من بني هاشم

الفصل الثاني في تفسير قوله ع- مؤمننا يبغي بذلك الأجر و كافرنا يحامي عن الأصل- و من أسلم من قريش خلو مما نحن فيه لحلف يمنعه- أو عشيرة تقوم دونه‏ فهم من القتل بمكان أمن- فنقول إن بني هاشم لما حصروا في الشعب- بعد أن منعوا رسول الله ص من قريش- كانوا صنفين مسلمين و كفارا- فكان علي ع و حمزة بن عبد المطلب مسلمين- . و اختلف في جعفر بن أبي طالب- هل حصر في الشعب معهم أم لا- فقيل حصر في الشعب معهم- و قيل بل كان قد هاجر إلى الحبشة- و لم يشهد حصار الشعب و هذا هو القول الأصح- و كان من المسلمين المحصورين في الشعب مع بني هاشم- عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف- و هو و إن لم يكن من بني هاشم- إلا أنه يجري مجراهم- لأن بني المطلب و بني هاشم كانوا يدا واحدة- لم يفترقوا في جاهلية و لا إسلام- .

و كان العباس رحمه الله في حصار الشعب معهم- إلا أنه كان على دين قومه- و كذلك عقيل بن أبي طالب و طالب بن أبي طالب- و نوفل بن الحارث بن عبد المطلب- و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب- و ابنه الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب- و كان شديدا على رسول الله ص- يبغضه و يهجوه بالأشعار- إلا أنه كان لا يرضى بقتله- و لا يقار قريشا في دمه محافظة على النسب- و كان سيد المحصورين في الشعب و رئيسهم و شيخهم- أبو طالب بن عبد المطلب و هو الكافل و المحامي

اختلاف الرأي في إيمان أبي طالب

و اختلف الناس في إيمان أبي طالب- فقالت الإمامية و أكثر الزيدية ما مات إلا مسلما- .و قال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك- منهم الشيخ أبو القاسم البلخي- و أبو جعفر الإسكافي و غيرهما- . و قال أكثر الناس من أهل الحديث و العامة- من شيوخنا البصريين و غيرهم- مات على دين قومه- و يروون في ذلك حديثا مشهورا أن رسول الله ص قال له عند موته- قل يا عم كلمة أشهد لك بها غدا عند الله تعالى – فقال لو لا أن تقول العرب- إن أبا طالب جزع عند الموت لأقررت بها عينك- .

و روي أنه قال أنا على دين الأشياخ- . و قيل إنه قال- أنا على دين عبد المطلب و قيل غير ذلك- . و روى كثير من المحدثين أن قوله تعالى- ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ- وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‏- مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ- وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ- إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ- فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ الآية- أنزلت في أبي طالب لأن رسول الله استغفر له بعد موته- . و رووا أن قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ- نزلت في أبي طالب- .

و رووا أن عليا ع- جاء إلى رسول الله ص بعد موت أبي طالب- فقال له إن عمك الضال قد قضى- فما الذي تأمرني فيه- . و احتجوا بأنه لم ينقل أحد عنه أنه رآه يصلي- و الصلاة هي المفرقة بين المسلم و الكافر- و أن عليا و جعفرا لم يأخذا من تركته شيئا- و رووا عن النبي ص أنه قال إن الله قد وعدني بتخفيف عذابه- لما صنع في حقي و إنه في ضحضاح من نار و رووا عنه أيضا أنه قيل له لو استغفرت لأبيك و أمك- فقال لو استغفرت لهما لاستغفرت لأبي طالب- فإنه صنع إلي ما لم يصنعا- و إن عبد الله و آمنة و أبا طالب جمرات من جمرات جهنم – .

فأما الذين زعموا أنه كان مسلما فقد رووا خلاف ذلك- و أسندوا خبرا إلى أمير المؤمنين ع أنه قال قال رسول الله ص قال لي جبرائيل إن الله مشفعك في ستة- بطن حملتك آمنة بنت وهب- و صلب أنزلك عبد الله بن عبد المطلب- و حجر كفلك أبي طالب- و بيت آواك عبد المطلب- و أخ كان لك في الجاهلية- قيل يا رسول الله و ما كان فعله- قال كان سخيا يطعم الطعام و يجود بالنوال- و ثدي أرضعتك حليمة بنت أبي ذؤيب – .

قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد- عن هذا الخبر و قد قرأته عليه- هل كان لرسول الله ص أخ من أبيه- أو من أمه أو منهما في الجاهلية- فقال لا إنما يعني أخا له في المودة و الصحبة- قلت له فمن هو قال لا أدري- . قالوا و قد نقل الناس كافة- عن رسول الله ص أنه قال نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية – فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلهم منزهين عن الشرك- لأنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين- . قالوا و أما ما ذكر في القرآن من إبراهيم و أبيه آزر- و كونه كان ضالا مشركا فلا يقدح في مذهبنا- لأن آزر كان عم إبراهيم- فأما أبوه فتارخ بن ناحور- و سمي العم أبا كما قال- أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ- إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي- قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ- ثم عد فيهم إسماعيل و ليس من آبائه و لكنه عمه- . قلت و هذا الاحتجاج عندي ضعيف- لأن المراد من قوله- نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية- تنزيه آبائه و أجداده و أمهاته عن السفاح لا غير- هذا مقتضى‏ سياقة الكلام- لأن العرب كان يعيب بعضها بعضا- باختلاط المياه و اشتباه الأنساب و نكاح الشبهة- .

و قولهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين- يقال لهم لم قلتم إنهم لو كانوا عبدة أصنام- لما كانوا طاهري الأصلاب- فإنه لا منافاة بين طهارة الأصلاب و عبادة الصنم- أ لا ترى أنه لو أراد ما زعموه- لما ذكر الأصلاب و الأرحام بل جعل عوضها العقائد- و اعتذارهم عن إبراهيم و أبيه يقدح في قولهم في أبي طالب- لأنه لم يكن أبا محمد ص بل كان عمه- فإذا جاز عندهم أن يكون العم و هو آزر مشركا- كما قد اقترحوه في تأويلهم- لم يكن لهم حجة من هذا الوجه على إسلام أبي طالب- . و احتجوا في إسلام الآباء- بما روي عن جعفر بن محمد ع أنه قال يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة- و عليه سيماء الأنبياء و بهاء الملوك و روي أن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله ص بالمدينة- يا رسول الله ما ترجو لأبي طالب- فقال أرجو له كل خير من الله عز و جل و روي أن رجلا من رجال الشيعة و هو أبان بن محمود- كتب إلى علي بن موسى الرضا ع- جعلت فداك إني قد شككت في إسلام أبي طالب- فكتب إليه- وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏- وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الآية و بعدها- إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب- كان مصيرك إلى النار و قد روي عن علي بن محمد الباقر ع أنه سئل عما يقوله الناس- إن أبا طالب في ضحضاح من نار- فقال لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان- و إيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه- ثم قال أ لم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا ع- كان يأمر أن يحج عن عبد الله- و أبيه أبي طالب في حياته- ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم – .

و روي أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبي ص- عام الفتح يقوده‏ و هو شيخ كبير أعمى- فقال رسول الله أ لا تركت الشيخ حتى نأتيه- فقال أردت يا رسول الله أن يأجره الله- أما و الذي بعثك بالحق- لأنا كنت أشد فرحا بإسلام عمك أبي طالب- مني بإسلام أبي- ألتمس بذلك قرة عينك فقال صدقت- .

و روي أن علي بن الحسين ع سئل عن هذا- فقال وا عجبا إن الله تعالى نهى رسوله- أن يقر مسلمة على نكاح كافر- و قد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام- و لم تزل تحت أبي طالب حتى مات – . و يروي قوم من الزيدية- أن أبا طالب أسند المحدثون عنه حديثا- ينتهي إلى أبي رافع مولى رسول الله ص- قال سمعت أبا طالب يقول بمكة- حدثني محمد ابن أخي أن ربه بعثه بصلة الرحم- و أن يعبده وحده لا يعبد معه غيره- و محمد عندي الصادق الأمين- .

و قال قوم- إن قول النبي ص أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة – إنما عنى به أبا طالب- . و قالت الإمامية- إن ما يرويه العامة من أن عليا ع و جعفرا- لم يأخذا من تركة أبي طالب شيئا- حديث موضوع- و مذهب أهل البيت بخلاف ذلك- فإن المسلم عندهم يرث الكافر- و لا يرث الكافر المسلم- و لو كان أعلى درجة منه في النسب- .

قالوا و قوله ص لا توارث بين أهل ملتين نقول بموجبه- لأن التوارث تفاعل و لا تفاعل عندنا في ميراثهما- و اللفظ يستدعي الطرفين- كالتضارب لا يكون إلا من اثنين- قالوا و حب رسول الله ص‏ لأبي طالب معلوم مشهور- و لو كان كافرا ما جاز له حبه لقوله تعالى- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية- . قالوا و قد اشتهر و استفاض الحديث- و هو قوله ص لعقيل أنا أحبك حبين- حبا لك و حبا لحب أبي طالب فإنه كان يحبك – .

قالوا و خطبة النكاح مشهورة-

خطبها أبو طالب عند نكاح محمد ص خديجة- و هي قوله الحمد لله- الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل- و جعل لنا بلدا حراما و بيتا محجوجا- و جعلنا الحكام على الناس- ثم إن محمد بن عبد الله أخي- من لا يوازن به فتى من قريش- إلا رجح عليه برا و فضلا- و حزما و عقلا و رأيا و نبلا- و إن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل- و عارية مسترجعة و له في خديجة بنت خويلد رغبة- و لها فيه مثل ذلك و ما أحببتم من الصداق فعلي- و له و الله بعد نبأ شائع و خطب جليل- . قالوا أ فتراه يعلم نبأه الشائع و خطبه الجليل- ثم يعانده و يكذبه و هو من أولي الألباب- هذا غير سائغ في العقول- .

قالوا و قد روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أن رسول الله ص قال إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان- و أظهروا الكفر فآتاهم الله أجرهم مرتين- و إن أبا طالب أسر الإيمان و أظهر الشرك- فآتاه الله أجره مرتين و في الحديث المشهور أن جبرائيل ع قال له ليلة مات أبو طالب- اخرج منها فقد مات ناصرك – . قالوا و أما حديث الضحضاح من النار- فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد- و هو المغيرة بن شعبة- و بغضه لبني هاشم- و على الخصوص لعلي ع مشهور معلوم- و قصته و فسقه أمر غير خاف- .

و قالوا و قد روي بأسانيد كثيرة- بعضها عن العباس بن عبد المطلب- و بعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة- أن أبا طالب ما مات حتى قال- لا إله إلا الله محمد رسول الله- و الخبر مشهور أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا- فأصغى إليه أخوه العباس- ثم رفع رأسه إلى رسول الله ص فقال يا ابن أخي- و الله لقد قالها عمك و لكنه ضعف عن أن يبلغك صوته- . و روي عن علي ع أنه قال ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله ص من نفسه الرضا – .

قالوا و أشعار أبي طالب تدل على أنه كان مسلما- و لا فرق بين الكلام المنظوم و المنثور- إذا تضمنا إقرارا بالإسلام- أ لا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين- و أنشد شعرا قد ارتجله و نظمه- يتضمن الإقرار بنبوة محمد ص- لكنا نحكم بإسلامه- كما لو قال أشهد أن محمدا رسول الله ص- فمن تلك الأشعار قوله-

يرجون منا خطة دون نيلها
ضراب و طعن بالوشيج المقوم‏

يرجون أن نسخى بقتل محمد
و لم تختضب سمر العوالي من الدم‏

كذبتم و بيت الله حتى تفلقوا
جماجم تلقى بالحطيم و زمزم‏

و تقطع أرحام و تنسى حليلة
حليلا و يغشى محرم بعد محرم‏

على ما مضى من مقتكم و عقوقكم
و غشيانكم في أمركم كل مأثم‏

و ظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى‏
و أمر أتى من عند ذي العرش قيم‏

فلا تحسبونا مسلميه فمثله
إذا كان في قوم فليس بمسلم‏

 و من شعر أبي طالب في أمر الصحيفة- التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم-

ألا أبلغا عني على ذات بينها
لؤيا و خصا من لؤي بني كعب‏

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا
رسولا كموسى خط في أول الكتب‏

و أن عليه في العباد محبة
و لا حيف فيمن خصه الله بالحب‏

و أن الذي رقشتم في كتابكم‏
يكون لكم يوما كراغية السقب‏

أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى
و يصبح من لم يجن ذنبا كذي ذنب‏

و لا تتبعوا أمر الغواة و تقطعوا
أواصرنا بعد المودة و القرب‏

و تستجلبوا حربا عوانا و ربما
أمر على من ذاقه حلب الحرب‏

فلسنا و بيت الله نسلم أحمد
العزاء من عض الزمان و لا كرب‏

و لما تبن منا و منكم سوالف 

سياقة الكلام- لأن العرب كان يعيب بعضها بعضا- باختلاط المياه و اشتباه الأنساب و نكاح الشبهة- . و قولهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين- يقال لهم لم قلتم إنهم لو كانوا عبدة أصنام- لما كانوا طاهري الأصلاب- فإنه لا منافاة بين طهارة الأصلاب و عبادة الصنم- أ لا ترى أنه لو أراد ما زعموه- لما ذكر الأصلاب و الأرحام بل جعل عوضها العقائد- و اعتذارهم عن إبراهيم و أبيه يقدح في قولهم في أبي طالب- لأنه لم يكن أبا محمد ص بل كان عمه- فإذا جاز عندهم أن يكون العم و هو آزر مشركا- كما قد اقترحوه في تأويلهم- لم يكن لهم حجة من هذا الوجه على إسلام أبي طالب- .

و احتجوا في إسلام الآباء- بما روي عن جعفر بن محمد ع أنه قال يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة- و عليه سيماء الأنبياء و بهاء الملوك و روي أن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله ص بالمدينة- يا رسول الله ما ترجو لأبي طالب- فقال أرجو له كل خير من الله عز و جل و روي أن رجلا من رجال الشيعة و هو أبان بن محمود- كتب إلى علي بن موسى الرضا ع- جعلت فداك إني قد شككت في إسلام أبي طالب- فكتب إليه- وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏- وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الآية و بعدها- إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب- كان مصيرك إلى النار و قد روي عن علي بن محمد الباقر ع أنه سئل عما يقوله الناس- إن أبا طالب في ضحضاح من نار- فقال لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان- و إيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه- ثم قال أ لم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا ع- كان يأمر أن يحج عن عبد الله- و أبيه أبي طالب في حياته- ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم – .

و روي أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبي ص- عام الفتح يقوده‏و هو شيخ كبير أعمى- فقال رسول الله أ لا تركت الشيخ حتى نأتيه- فقال أردت يا رسول الله أن يأجره الله- أما و الذي بعثك بالحق- لأنا كنت أشد فرحا بإسلام عمك أبي طالب- مني بإسلام أبي- ألتمس بذلك قرة عينك فقال صدقت- .

و روي أن علي بن الحسين ع سئل عن هذا- فقال وا عجبا إن الله تعالى نهى رسوله- أن يقر مسلمة على نكاح كافر- و قد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام- و لم تزل تحت أبي طالب حتى مات – . و يروي قوم من الزيدية- أن أبا طالب أسند المحدثون عنه حديثا- ينتهي إلى أبي رافع مولى رسول الله ص- قال سمعت أبا طالب يقول بمكة- حدثني محمد ابن أخي أن ربه بعثه بصلة الرحم- و أن يعبده وحده لا يعبد معه غيره- و محمد عندي الصادق الأمين- .

و قال قوم- إن قول النبي ص أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة – إنما عنى به أبا طالب- . و قالت الإمامية- إن ما يرويه العامة من أن عليا ع و جعفرا- لم يأخذا من تركة أبي طالب شيئا- حديث موضوع- و مذهب أهل البيت بخلاف ذلك- فإن المسلم عندهم يرث الكافر- و لا يرث الكافر المسلم- و لو كان أعلى درجة منه في النسب- .

قالوا و قوله ص لا توارث بين أهل ملتين نقول بموجبه- لأن التوارث تفاعل و لا تفاعل عندنا في ميراثهما- و اللفظ يستدعي الطرفين- كالتضارب لا يكون إلا من اثنين- قالوا و حب رسول الله ص‏ لأبي طالب معلوم مشهور- و لو كان كافرا ما جاز له حبه لقوله تعالى- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية- .

قالوا و قد اشتهر و استفاض الحديث- و هو قوله ص لعقيل أنا أحبك حبين- حبا لك و حبا لحب أبي طالب فإنه كان يحبك – . قالوا و خطبة النكاح مشهورة- خطبها أبو طالب عند نكاح محمد ص خديجة- و هي قوله الحمد لله- الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل- و جعل لنا بلدا حراما و بيتا محجوجا- و جعلنا الحكام على الناس- ثم إن محمد بن عبد الله أخي- من لا يوازن به فتى من قريش- إلا رجح عليه برا و فضلا- و حزما و عقلا و رأيا و نبلا- و إن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل- و عارية مسترجعة و له في خديجة بنت خويلد رغبة- و لها فيه مثل ذلك و ما أحببتم من الصداق فعلي- و له و الله بعد نبأ شائع و خطب جليل- .

قالوا أ فتراه يعلم نبأه الشائع و خطبه الجليل- ثم يعانده و يكذبه و هو من أولي الألباب- هذا غير سائغ في العقول- . قالوا و قد روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أن رسول الله ص قال إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان- و أظهروا الكفر فآتاهم الله أجرهم مرتين- و إن أبا طالب أسر الإيمان و أظهر الشرك- فآتاه الله أجره مرتين و في الحديث المشهور أن جبرائيل ع قال له ليلة مات أبو طالب- اخرج منها فقد مات ناصرك – .

قالوا و أما حديث الضحضاح من النار- فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد- و هو المغيرة بن شعبة- و بغضه لبني هاشم- و على الخصوص لعلي ع مشهور معلوم- و قصته و فسقه أمر غير خاف- .

و قالوا و قد روي بأسانيد كثيرة- بعضها عن العباس بن عبد المطلب- و بعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة- أن أبا طالب ما مات حتى قال- لا إله إلا الله محمد رسول الله- و الخبر مشهور أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا- فأصغى إليه أخوه العباس- ثم رفع رأسه إلى رسول الله ص فقال يا ابن أخي- و الله لقد قالها عمك و لكنه ضعف عن أن يبلغك صوته- .

و روي عن علي ع أنه قال ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله ص من نفسه الرضا – . قالوا و أشعار أبي طالب تدل على أنه كان مسلما- و لا فرق بين الكلام المنظوم و المنثور- إذا تضمنا إقرارا بالإسلام- أ لا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين- و أنشد شعرا قد ارتجله و نظمه- يتضمن الإقرار بنبوة محمد ص- لكنا نحكم بإسلامه- كما لو قال أشهد أن محمدا رسول الله ص- فمن تلك الأشعار قوله-

يرجون منا خطة دون نيلها
ضراب و طعن بالوشيج المقوم‏

يرجون أن نسخى بقتل محمد
و لم تختضب سمر العوالي من الدم‏

كذبتم و بيت الله حتى تفلقوا
جماجم تلقى بالحطيم و زمزم‏

و تقطع أرحام و تنسى حليلة
حليلا و يغشى محرم بعد محرم‏

على ما مضى من مقتكم و عقوقكم
و غشيانكم في أمركم كل مأثم‏

و ظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى‏
و أمر أتى من عند ذي العرش قيم‏

فلا تحسبونا مسلميه فمثله
إذا كان في قوم فليس بمسلم‏

و من شعر أبي طالب في أمر الصحيفة- التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم-

ألا أبلغا عني على ذات بينها
لؤيا و خصا من لؤي بني كعب‏

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا
رسولا كموسى خط في أول الكتب‏

و أن عليه في العباد محبة
و لا حيف فيمن خصه الله بالحب‏

و أن الذي رقشتم في كتابكم‏
يكون لكم يوما كراغية السقب‏

أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى
و يصبح من لم يجن ذنبا كذي ذنب‏

و لا تتبعوا أمر الغواة و تقطعوا
أواصرنا بعد المودة و القرب‏

و تستجلبوا حربا عوانا و ربما
أمر على من ذاقه حلب الحرب‏

فلسنا و بيت الله نسلم أحمدا
لعزاء من عض الزمان و لا كرب‏

و لما تبن منا و منكم سوالف
و أيد أترت بالمهندة الشهب‏

بمعترك ضيق ترى قصد القنا
به و الضباع العرج تعكف كالشرب‏

كأن مجال الخيل في حجراته
و غمغمة الأبطال معركة الحرب‏

أ ليس أبونا هاشم شد أزره‏
و أوصى بنيه بالطعان و بالضرب‏

و لسنا نمل الحرب حتى تملنا
و لا نشتكي مما ينوب من النكب‏

و لكننا أهل الحفائظ و النهى
إذا طار أرواح الكماة من الرعب‏

و من ذلك قوله-

فلا تسفهوا أحلامكم في محمد
و لا تتبعوا أمر الغواة الأشائم‏

تمنيتم أن تقتلوه و إنما
أمانيكم هذي كأحلام نائم‏

و إنكم و الله لا تقتلونه و لما تروا
قطف اللحى و الجماجم‏

زعمتم بأنا مسلمون محمدا
و لما نقاذف دونه و نزاحم‏

من القوم مفضال أبي على العدا
تمكن في الفرعين من آل هاشم‏

أمين حبيب في العباد مسوم‏
بخاتم رب قاهر في الخواتم‏

يرى الناس برهانا عليه و هيبة
و ما جاهل في قومه مثل عالم‏

نبي أتاه الوحي من عند ربه‏
و من قال لا يقرع بها سن نادم‏

و من ذلك قوله- و قد غضب لعثمان بن مظعون الجمحي- حين عذبته قريش و نالت منه-

أ من تذكر دهر غير مأمون
أصبحت مكتئبا تبكي كمحزون‏

أم من تذكر أقوام ذوي سفه‏
يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين‏

أ لا يرون أذل الله جمعهم
أنا غضبنا لعثمان بن مظعون‏

و نمنع الضيم من يبغي مضامتنا
بكل مطرد في الكف مسنون‏

و مرهفات كأن الملح خالطها
يشفى بها الداء من هام المجانين‏

حتى تقر رجال لا حلوم لها
بعد الصعوبة بالإسماح و اللين‏

أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب
على نبي موسى أو كذي النون‏

 قالوا و قد جاء في الخبر- أن أبا جهل بن هشام- جاء مرة إلى رسول الله ص و هو ساجد- و بيده حجر يريد أن يرضخ به رأسه- فلصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد- فقال أبو طالب في ذلك من جملة أبيات-

أفيقوا بني عمنا و انتهوا
عن الغي من بعض ذا المنطق‏

و إلا فإني إذا خائف‏
بوائق في داركم تلتقي‏

كما ذاق من كان من قبلكم
ثمود و عاد و ما ذا بقي‏

و منها-

و أعجب من ذاك في أمركم
عجائب في الحجر الملصق‏

بكف الذي قام من حينه‏
إلى الصابر الصادق المتقي‏

فأثبته الله في كفه
على رغمه الخائن الأحمق‏

قالوا و قد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمه الله- أنه كان يقول أسلم أبو طالب و الله بقوله-

نصرت الرسول رسول المليك
ببيض تلألأ كلمع البروق‏

أذب و أحمي رسول الإله‏
حماية حام عليه شفيق‏

و ما إن أدب لأعدائه
دبيب البكار حذار الفنيق‏

و لكن أزير لهم ساميا
كما زار ليث بغيل مضيق‏

قالوا و قد جاء في السيرة و ذكره أكثر المؤرخين- أن عمرو بن العاص لما خرج إلى بلاد الحبشة- ليكيد جعفر بن أبي طالب و أصحابه عند النجاشي قال-

تقول ابنتي أين أين الرحيل
و ما البين مني بمستنكر

فقلت دعيني فإني امرؤ
أريد النجاشي في جعفر

لأكويه عنده كية
أقيم بها نخوة الأصعر

و لن أنثني عن بني هاشم‏
بما اسطعت في الغيب و المحضر

و عن عائب اللات في قوله
و لو لا رضا اللات لم تمطر

و إني لأشنا قريش له‏
و إن كان كالذهب الأحمر

قالوا فكان عمرو يسمى الشانئ ابن الشانئ- لأن أباه كان إذا مر عليه رسول الله ص بمكة- يقول له و الله إني لأشنؤك و فيه أنزل- إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ- قالوا فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعرا- يحرضه فيه على إكرام جعفر و أصحابه- و الإعراض عما يقوله عمرو فيه و فيهم من جملته-

ألا ليت شعري كيف في الناس
جعفر و عمرو و أعداء النبي الأقارب‏

و هل نال إحسان النجاشي جعفرا
و أصحابه أم عاق عن ذاك شاغب

في أبيات كثيرة- . قالوا و روي عن علي ع أنه قال قال لي أبي يا بني الزم ابن عمك- فإنك تسلم به من كل بأس عاجل و آجل- ثم قال ليإن الوثيقة في لزوم محمد فاشدد بصحبته على أيديكا- .و من شعره المناسب لهذا المعنى قوله-

إن عليا و جعفرا ثقتي
عند ملم الزمان و النوب‏

لا تخذلا و انصرا ابن عمكما
أخي لأمي من بينهم و أبي‏

و الله لا أخذل النبي
و لا يخذله من بني ذو حسب‏

قالوا و قد جاءت الرواية أن أبا طالب لما مات- جاء علي ع إلى رسول الله ص فآذنه بموته- فتوجع عظيما و حزن شديدا- ثم قال له امض فتول غسله- فإذا رفعته على سريره فأعلمني ففعل- فاعترضه رسول الله ص و هو محمول على رءوس الرجال- فقال وصلتك رحم يا عم و جزيت خيرا- فلقد ربيت و كفلت صغيرا- و نصرت و آزرت كبيرا- ثم تبعه إلى حفرته فوقف عليه- فقال أما و الله لأستغفرن لك- و لأشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان- .

قالوا و المسلم لا يجوز أن يتولى غسل الكافر- و لا يجوز للنبي أن يرق لكافر- و لا أن يدعو له بخير- و لا أن يعده بالاستغفار و الشفاعة- و إنما تولى علي ع غسله- لأن طالبا و عقيلا لم يكونا أسلما بعد- و كان جعفر بالحبشة و لم تكن صلاة الجنائز شرعت بعد- و لا صلى رسول الله ص على خديجة- و إنما كان تشييع و رقة و دعاء- . قالوا و من شعر أبي طالب يخاطب أخاه حمزة- و كان يكنى أبا يعلى-

فصبرا أبا يعلى على دين أحمد
و كن مظهرا للدين وفقت صابرا

و حط من أتى بالحق من عند ربه‏
بصدق و عزم لا تكن حمز كافرا

فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن
فكن لرسول الله في الله ناصرا

و باد قريشا بالذي قد أتيته
جهارا و قل ما كان أحمد ساحرا

قالوا و من شعره المشهور-

أنت النبي محمد
قرم أعز مسود

لمسودين أكارم‏
طابوا و طاب المولد

نعم الأرومة أصلها
عمرو الخضم الأوحد

هشم الربيكة في الجفان‏
و عيش مكة أنكد

فجرت بذلك سنة
فيها الخبيزة تثرد

و لنا السقاية للحجيج‏
بها يماث العنجد

و المأزمان و ما حوت
عرفاتها و المسجد

أنى تضام و لم أمت‏
و أنا الشجاع العربد

و بطاح مكة لا يرى
فيها نجيع أسود

و بنو أبيك كأنهم‏
أسد العرين توقد

و لقد عهدتك صادقا
في القول لا تتزيد

ما زلت تنطق بالصواب‏
و أنت طفل أمرد

قالوا و من شعره المشهور أيضا- قوله يخاطب محمدا و يسكن جأشه- و يأمره بإظهار الدعوة-

لا يمنعنك من حق تقوم به
أيد تصول و لا سلق بأصوات‏

فإن كفك كفي إن بليت بهم
و دون نفسك نفسي في الملمات‏

لا يمنعنك من حق تقوم به
أيد تصول و لا سلق بأصوات‏

فإن كفك كفي إن بليت بهم
و دون نفسك نفسي في الملمات

و من ذلك قوله و يقال إنها لطالب بن أبي طالب-

إذا قيل من خير هذا الورى
قبيلا و أكرمهم أسره‏

أناف لعبد مناف أب‏
و فضله هاشم العزه‏

لقد حل مجد بني هاشم
مكان النعائم و النثره‏

و خير بني هاشم أحمد
رسول الإله على فتره‏

– . و من ذلك قوله-

لقد أكرم الله النبي محمدا
فأكرم خلق الله في الناس أحمد

و شق له من اسمه ليجله‏
فذو العرش محمود و هذا محمد

و قوله أيضا و قد يروى لعلي ع-

يا شاهد الله علي فاشهد
أني على دين النبي أحمد
من ضل في الدين فإني مهتد

قالوا فكل هذه الأشعار قد جاءت مجي‏ء التواتر- لأنه إن لم تكن آحادها متواترة- فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك- و هو تصديق محمد ص و مجموعها متواتر- كما أن كل واحدة من قتلات علي ع الفرسان- منقولة آحادا و مجموعها متواتر- يفيدنا العلم الضروري بشجاعته- و كذلك القول فيما روي من سخاء حاتم- و حلم الأحنف و معاوية- و ذكاء إياس و خلاعة أبي نواس و غير ذلك- قالوا و اتركوا هذا كله جانبا- ما قولكم في القصيدة اللامية- التي شهرتها كشهرة قفا نبك- و إن جاز الشك فيها أو في شي‏ء من أبياتها- جاز الشك في قفا نبك و في بعض أبياتها- و نحن نذكر منها هاهنا قطعة و هي قوله-

أعوذ برب البيت من كل طاعن
علينا بسوء أو يلوح بباطل‏

و من فاجر يغتابنا بمغيبة
و من ملحق في الدين ما لم نحاول‏

كذبتم و بيت الله يبزى محمد
و لما نطاعن دونه و نناضل‏

و ننصره حتى نصرع دونه‏
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل‏

و حتى نرى ذا الردع يركب ردعه
من الطعن فعل الأنكب المتحامل‏

و ينهض قوم في الحديد إليكم‏
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل‏

و إنا و بيت الله من جد جدنا
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل‏

بكل فتى مثل الشهاب سميدع‏
أخي ثقة عند الحفيظة باسل‏

و ما ترك قوم لا أبا لك سيدا
يحوط الذمار غير نكس مواكل‏

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه‏
ثمال اليتامى عصمة للأرامل‏

يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة و فواضل‏

و ميزان صدق لا يخيس شعيرة
و وزان صدق وزنه غير عائل‏

أ لم تعلموا أن ابننا لا مكذب
لدينا و لا يعبأ بقول الأباطل‏

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
و أحببته حب الحبيب المواصل‏

و جدت بنفسي دونه فحميته
و دافعت عنه بالذرى و الكواهل‏

فلا زال للدنيا جمالا لأهلها
و شينا لمن عادى و زين المحافل‏

و أيده رب العباد بنصره
و أظهر دينا حقه غير باطل‏

و ورد في السيرة و المغازي- أن عتبة بن ربيعة أو شيبة- لما قطع رجل عبيدة بن الحارث بن المطلب يوم بدر- أشبل عليه علي و حمزة فاستنقذاه منه- و خبطا عتبة بسيفيهما حتى قتلاه- و احتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش- فألقياه بين يدي رسول الله ص و إن مخ ساقه ليسيل- فقال يا رسول الله لو كان أبو طالب حيا- لعلم أنه قد صدق في قوله-

كذبتم و بيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه و نناضل‏

و ننصره حتى نصرع حوله‏
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل‏

فقالوا إن رسول الله ص استغفر له- و لأبي طالب يومئذ- و بلغ عبيدة مع النبي ص إلى الصفراء فمات فدفن بها- .
قالوا و قد روي أن أعرابيا- جاء إلى رسول الله ص في عام جدب- فقال أتيناك يا رسول الله و لم يبق لنا صبي يرتضع- و لا شارف يجتر ثم أنشده-

أتيناك و العذراء تدمى لبانها
و قد شغلت أم الرضيع عن الطفل‏

و ألقى بكفيه الفتى لاستكانة
من الجوع حتى ما يمر و لا يحلي‏

و لا شي‏ء مما يأكل الناس عندنا
سوى الحنظل العامي و العلهز الفسل‏

و ليس لنا إلا إليك فرارنا
و أين فرار الناس إلا إلى الرسل‏

فقام النبي ص يجر رداءه- حتى صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه- و قال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا هنيئا- مريعا سحا سجالا غدقا طبقا قاطبا دائما- درا تحيي به الأرض و تنبت به الزرع- و تدر به الضرع و اجعله سقيا نافعا عاجلا غير رائث- فو الله ما رد رسول الله ص يده إلى نحره- حتى ألقت السماء أرواقها و جاء الناس يضجون- الغرق الغرق يا رسول الله- فقال اللهم حوالينا و لا علينا- فانجاب السحاب عن المدينة- حتى استدار حولها كالإكليل- فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه- ثم قال لله در أبي طالب- لو كان حيا لقرت عينه- من ينشدنا قوله فقام علي- فقال يا رسول الله لعلك أردت-

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه‏

– قال أجل فأنشده أبياتا من هذه القصيدة- و رسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر- ثم قام رجل من كنانة فأنشده-

لك الحمد و الحمد ممن شكر
سقينا بوجه النبي المطر

دعا الله خالقه دعوة
إليه و أشخص منه البصر

فما كان إلا كما ساعة
أو أقصر حتى رأينا الدرر

دفاق العزالي و جم البعاق‏
أغاث به الله عليا مضر

فكان كما قاله عمه
أبو طالب ذو رواء غرر

به يسر الله صوب الغمام‏
فهذا العيان و ذاك الخبر

فمن يشكر الله يلق المزيد
و من يكفر الله يلق الغير

فقال رسول الله إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت قالوا و إنما لم يظهر أبو طالب الإسلام و يجاهر به- لأنه لو أظهره لم يتهيأ له- من نصرة النبي ص ما تهيأ له- و كان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه- نحو أبي بكر- و عبد الرحمن بن عوف و غيرهما ممن أسلم- و لم يتمكن من نصرته و القيام دونه‏حينئذ- و إنما تمكن أبو طالب من المحاماة عنه- بالثبات في الظاهر على دين قريش و إن أبطن الإسلام- كما لو أن إنسانا كان يبطن التشيع مثلا- و هو في بلد من بلاد الكرامية- و له في ذلك البلد وجاهة و قدم- و هو يظهر مذهب الكرامية- و يحفظ ناموسه بينهم بذلك- و كان في ذلك البلد نفر يسير من الشيعة- لا يزالون ينالون بالأذى و الضرر من أهل ذلك البلد و رؤسائه- فإنه ما دام قادرا على إظهار مذهب أهل البلد- يكون أشد تمكنا من المدافعة- و المحاماة عن أولئك النفر- فلو أظهر ما يجوز من التشيع- و كاشف أهل البلد بذلك- صار حكمه حكم واحد من أولئك النفر- و لحقه من الأذى و الضرر ما يلحقهم- و لم يتمكن من الدفاع أحيانا عنهم كما كان أولا- .

قلت فأما أنا فإن الحال ملتبسة عندي- و الأخبار متعارضة- و الله أعلم بحقيقة حاله كيف كانت- . و يقف في صدري رسالة النفس الزكية إلى المنصور- و قوله فيها فأنا ابن خير الأخيار و أنا ابن شر الأشرار- و أنا ابن سيد أهل الجنة و أنا ابن سيد أهل النار- . فإن هذه شهادة منه على أبي طالب بالكفر- و هو ابنه و غير متهم عليه- و عهده قريب من عهد النبي ص- لم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلا- . و جملة الأمر أنه قد روي في إسلامه أخبار كثيرة- و روي في موته على دين قومه أخبار كثيرة- فتعارض الجرح و التعديل- فكان كتعارض البينتين عند الحاكم- و ذلك يقتضي التوقف فأنا في أمره من المتوقفين- .

فأما الصلاة و كونه لم ينقل عنه أنه صلى- فيجوز أن يكون لأن الصلاة لم تكن بعد قد فرضت- و إنما كانت نفلا غير واجب- فمن شاء صلى و من شاء ترك- و لم تفرض إلا بالمدينة- و يمكن أن يقول أصحاب الحديث- إذا تعارض الجرح و التعديل كما قد أشرتم إليه- فالترجيح عند أصحاب أصول الفقه لجانب الجرح- لأن الجارح قد اطلع على زيادة لم يطلع عليها المعدل- . و لخصومهم أن يجيبوا عن هذا فنقول- إن هذا إنما يقال و يذكر في أصول الفقه- في طعن مفصل في مقابلة تعديل مجمل- مثاله أن يروي شعبة مثلا حديثا عن رجل- فهو بروايته عنه قد وثقه- و يكفي في توثيقه له أن يكون مستور الحال- ظاهره العدالة- فيطعن فيه الدار قطني مثلا- بأن يقول كان مدلسا- أو كان يرتكب الذنب الفلاني- فيكون قد طعن طعنا مفصلا في مقابلة تعديل مجمل- و فيما نحن فيه و بصدده- الروايتان متعارضتان تفصيلا لا إجمالا- لأن هؤلاء يروون- أنه تلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت- و هؤلاء يروون أنه قال عند الموت- أنا على دين الأشياخ- .

و بمثل هذا يجاب على من يقول من الشيعة- روايتنا في إسلامه أرجح- لأنا نروي حكما إيجابيا و نشهد على إثبات- و خصومنا يشهدون على النفي و لا شهادة على النفي- و ذلك أن الشهادة في الجانبين معا- إنما هي على إثبات و لكنه إثبات متضاد- . و صنف بعض الطالبيين في هذا العصر- كتابا في إسلام أبي طالب و بعثه إلي- و سألني أن أكتب عليه بخطي نظما أو نثرا- أشهد فيه بصحة ذلك و بوثاقة الأدلة عليه- فتحرجت أن أحكم بذلك حكما قاطعا- لما عندي من التوقف فيه- و لم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب- فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة- و أعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا- إلى أن تقوم الساعة فكتبت على ظاهر المجلد-

و لو لا أبو طالب و ابنه لما
مثل الدين شخصا فقاما

فذاك بمكة آوى و حامى‏
و هذا بيثرب جس الحماما

تكفل عبد مناف بأمر
و أودى فكان علي تماما

فقل في ثبير مضى بعد ما
قضى ما قضاه و أبقى شماما

فلله ذا فاتحا للهدى
و لله ذا للمعالي ختاما

و ما ضر مجد أبي طالب‏
جهول لغا أو بصير تعامى‏

كما لا يضر إياة الصباح
من ظن ضوء النهار الظلاما

فوفيته حقه من التعظيم و الإجلال- و لم أجزم بأمر عندي فيه وقفة

الفصل الثالث قصة غزوة بدر

الفصل الثالث في شرح القصة في غزاة بدر- و نحن نذكر ذلك من كتاب المغازي- لمحمد بن عمر الواقدي- و نذكر ما عساه زاده محمد بن إسحاق- في كتاب المغازي- و ما زاده أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري- في تاريخ الأشراف- . قال الواقدي بلغ رسول الله ص- أن عير قريش قد فصلت من مكة تريد الشام- و قد جمعت قريش فيها أموالها فندب لها أصحابه- و خرج يعترضها على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره ع- فخرج في خمسين و مائة و يقال في مائتين- فلم يلق العير و فاتته ذاهبة إلى الشام- و هذه غزاة ذي العشيرة- رجع منها إلى المدينة فلم يلق حربا- فلما تحين انصراف العير من الشام قافلة- ندب أصحابه لها- و بعث طلحة بن عبيد الله- و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- قبل خروجه من المدينة بعشر ليال-يتجسسان خبر العير حتى نزلا على كشد الجهني- بالموضع المعروف بالنخبار- و هو من وراء ذي المروة على الساحل- فأجارهما و أنزلهما- فلم يزالا مقيمين في خباء وبر حتى مرت العير- فرفعهما على نشز من الأرض-

فنظرا إلى القوم و إلى ما تحمل العير- و جعل أهل العير يقولون لكشد- يا كشد هل رأيت أحدا من عيون محمد- فيقول أعوذ بالله و أنى لمحمد عيون بالنخبار- فلما راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا- و خرج معهما كشد خفيرا حتى أوردهما ذا المروة- و ساحلت العير فأسرعت- و سار بها أصحابها ليلا و نهارا فرقا من الطلب- و قدم طلحة و سعيد المدينة- في اليوم الذي لقي رسول الله ص قريشا ببدر- فخرجا يعترضان رسول الله ص- فلقياه بتربان و تربان بين ملل و السالة على المحجة- و كانت منزل عروة بن أذينة الشاعر- و قدم كشد بعد ذلك على النبي ص- و قد أخبر طلحة و سعيد رسول الله ص بما صنع بهما- فحباه و أكرمه و قال أ لا أقطع لك ينبع- قال إني كبير و قد نفد عمري- و لكن أقطعها لابن أخي فأقطعها له قالوا و ندب رسول الله ص المسلمين- و قال هذه عير قريش فيها أموالهم- لعل الله أن يغنمكموها- فأسرع من أسرع- حتى إن كان الرجل ليساهم أباه في الخروج- فكان ممن ساهم أباه سعد بن خيثمة- فقال سعد لأبيه إنه لو كان غير الجنة آثرتك به- إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا- فقال خيثمة آثرني و قر مع نسائك- فأبى سعد-

فقال خيثمة إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم- فاستهما فخرج سهم سعد فقتل ببدر- و أبطأ عن النبي ص بشر كثير من أصحابه- و كرهوا خروجه- و كان في ذلك كلام كثير و اختلاف- و بعضهم تخلف من أهل النيات و البصائر- لم يظنوا أنه يكون قتال- إنما هو الخروج للغنيمة- و لو ظنوا أنه يكون قتال لما تخلفوا- منهم أسيد بن حضير- فلما قدم رسول الله ص- قال أسيد الحمد لله الذي سرك و أظهرك على عدوك- و الذي بعثك بالحق- ما تخلفت عنك رغبة بنفسي عن نفسك- و لا ظننت أنك تلاقي عدوا- و لا ظننت إلا أنها العير- فقال له رسول الله ص صدقت- . قال و خرج رسول الله ص- حتى انتهى إلى المكان المعروف بالبقع- و هي بيوت السقيا و هي متصلة ببيوت المدينة- فضرب عسكره هناك و عرض المقاتلة- فعرض عبد الله بن عمر- و أسامة بن زيد و رافع بن خديج- و البراء بن عازب و أسيد بن ظهير- و زيد بن أرقم و زيد بن ثابت- فردهم و لم يجزهم- .

قال الواقدي فحدثني أبو بكر بن إسماعيل- عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه- قال رأيت أخي عمير بن أبي وقاص- قبل أن يعرضنا رسول الله ص يتوارى- فقلت ما لك يا أخي- قال إني أخاف أن يراني رسول الله ص- فيستصغرني فيردني و أنا أحب الخروج- لعل الله أن يرزقني الشهادة- قال فعرض على رسول الله ص فاستصغره- فقال ارجع فبكى عمير فأجازه- . قال فكان سعد يقول- كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره- فقتل ببدر و هو ابن ست عشرة سنة- . قال فلما نزل ع بيوت السقيا- أمر أصحابه أن يستقوا من بئرهم- و شرب ع منها- كان أول من شرب و صلى عندها- و دعا يومئذ لأهل المدينة-

فقال اللهم إن إبراهيم عبدك و خليلك و نبيك- دعاك لأهل مكة و إني محمد عبدك و نبيك- أدعوك لأهل المدينة- أن تبارك لهم في صاعهم و مدهم و ثمارهم- اللهم حبب إلينا المدينة- و اجعل ما بها من الوباء بخم- اللهم إني حرمت ما بين لابتيها- كما حرم إبراهيم خليلك مكة- .

قال الواقدي و خم على ميلين من الجحفة- . و قدم رسول الله ص أمامه عدي بن أبي الزغباء- و بسيس بن عمرو و جاء إليه عبد الله بن عمرو بن حرام- فقال يا رسول الله لقد سرني منزلك هذا- و عرضك فيه أصحابك و تفاءلت به- إن هذا منزلنا في بني سلمة- حيث كان بيننا و بين أهل حسيكة ما كان- .

قال الواقدي هي حسيكة الذباب- و الذباب جبل بناحية المدينة- و كان بحسيكة يهود و كان لهم بها منازل- . قال عبد الله بن عمرو بن حرام- فعرضنا يا رسول الله هاهنا أصحابنا- فأجزنا من كان يطيق السلاح- و رددنا من صغر عن حمل السلاح- ثم سرنا إلى يهود حسيكة- و هم أعز يهود كانوا يومئذ- فقتلناهم كيف شئنا- فذلت لنا سائر يهود إلى اليوم- و أنا أرجو يا رسول الله- أن نلتقي نحن و قريش- فيقر الله عينك منهم- .

قال الواقدي و كان خلاد بن عمرو بن الجموح- لما كان من النهار رجع إلى أهله بخرباء- فقال له أبوه عمرو بن الجموح- ما ظننت إلا أنكم قد سرتم- فقال إن رسول الله ص يعرض الناس بالبقيع- فقال عمرو نعم الفأل- و الله إني لأرجو أن تغنموا- و أن تظفروا بمشركي قريش- إن هذا منزلنا يوم سرنا إلى حسيكة-قال فإن رسول الله ص قد غير اسمه- و سماه السقيا- قال فكانت في نفسي أن أشتريها- حتى اشتراها سعد بن أبي وقاص ببكرين- و يقال بسبع أواق- فذكر للنبي ص أن سعدا اشتراها- فقال ربح البيع- .

قال الواقدي- فراح رسول الله ص من بيوت السقيا- لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان- و خرج المسلمون معه ثلاثمائة و خمسة- و تخلف ثمانية ضرب لهم بسهامهم و أجورهم- فكانت الإبل سبعين بعيرا- و كانوا يتعاقبون الإبل الاثنين و الثلاثة و الأربعة- فكان رسول الله ص و علي بن أبي طالب ع- و مرثد بن أبي مرثد-

و يقال زيد بن حارثة مكان مرثد- يتعاقبون بعيرا واحدا- و كان حمزة بن عبد المطلب- و زيد بن حارثة و أبو كبشة و أنسة- موالي النبي ص على بعير- و كان عبيدة بن الحارث و الطفيل- و الحصين ابنا الحارث- و مسطح بن أثاثة على بعير- لعبيدة بن الحارث ناضح- ابتاعه من أبي داود المازني- و كان معاذ و عوف و معوذ بنو عفراء- و مولاهم أبو الحمراء على بعير- و كان أبي بن كعب و عمارة بن حزام- و حارثة بن النعمان على بعير- و كان خراش بن الصمة و قطبة بن عامر بن حديدة- و عبد الله بن عمرو بن حزام على بعير- و كان عتبة بن غزوان و طليب بن عمير- على جمل لعتبة بن غزوان يقال له العبس- و كان مصعب بن عمير و سويبط بن حرملة- و مسعود بن ربيع على جمل لمصعب- و كان عمار بن ياسر و عبد الله بن مسعود على بعير- و كان عبد الله بن كعب و أبو داود المازني- و سليط بن قيس على جمل لعبد الله بن كعب- و كان عثمان بن عفان و قدامة بن مظعون- و عبد الله بن مظعون و السائب بن عثمان على بعير يتعاقبون- و كان أبو بكر و عمر و عبد الرحمن بن عوف على بعير- و كان سعد بن معاذ و أخوه- و ابن أخيه الحارث بن أوس- و الحارث بن أنس على جمل لسعد بن معاذ- ناضح يقال له الذيال- و كان سعيد بن زيد- و سلمة بن سلامة بن وقش- و عباد بن بشر و رافع بن يزيد- على ناضح لسعيد بن زيد- ما تزودوا إلا صاعا من تمر- .

قال الواقدي فروى معاذ بن رفاعة عن أبيه- قال خرجت مع النبي ص إلى بدر- و كان كل ثلاثة يتعاقبون بعيرا- فكنت أنا و أخي خلاد بن رافع على بكر لنا- و معنا عبيدة بن يزيد بن عامر- فكنا نتعاقب فسرنا حتى إذا كنا بالروحاء- إذ مر بنا بكرنا و برك علينا و أعيا- فقال أخي اللهم إن لك علي نذرا- لئن رددتنا إلى المدينة لأنحرنه- فمر بنا النبي ص و نحن على تلك الحال- فقلنا يا رسول الله برك علينا بكرنا- فدعا بماء فتمضمض و توضأ في إناء- ثم قال افتحا فاه ففعلنا فصبه في فيه- ثم على رأسه ثم على عنقه ثم على حاركه- ثم على سنامه ثم على عجزه- ثم على ذنبه ثم قال اركبا- و مضى رسول الله ص فلحقناه أسفل من المنصرف- و إن بكرنا لينفر بنا- حتى إذا كنا بالمصلى راجعين من بدر- برك علينا فنحره أخي فقسم لحمه و تصدق به- .

قال الواقدي و قد روي أن سعد بن عبادة- حمل في بدر على عشرين جملا- . قال و روي عن سعد بن أبي وقاص- أنه قال فخرجنا إلى بدر مع رسول الله ص و معنا سبعون بعيرا- فكانوا يتعاقبون الثلاثة و الأربعة و الاثنان- على بعير- و كنت أنا من أعظم أصحاب النبي ع عنه غناء- و أرجلهم رجلة و أرماهم لسهم- لم أركب خطوة ذاهبا و لا راجعا قال الواقدي و قال رسول الله ص حين فصل من بيوت السقيا اللهم إنهم حفاة فاحملهم و عراة فاكسهم- و جياع فأشبعهم و عالة فأغنهم من فضلك- فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا- للرجل البعير و البعيران و اكتسى‏من كان عاريا- و أصابوا طعاما من أزوادهم- و أصابوا فداء الأسرى فأغنى به كل عائل – .

قال و استعمل رسول الله ص على المشاة- قيس بن أبي صعصعة- و اسم أبي صعصعة عمر بن يزيد بن عوف بن مبذول- و أمره النبي ص حين فصل من بيوت السقيا أن يعد المسلمين- فوقف لهم ببئر أبي عبيدة يعدهم- ثم أخبر النبي ص و خرج من بيوت السقيا- حتى سلك بطن العقيق ثم سلك طريق المكيمن- حتى خرج على بطحاء بن أزهر- فنزل تحت شجرة هناك- فقام أبو بكر إلى حجارة هناك فبنى منها مسجدا- فصلى فيه رسول الله و أصبح يوم الاثنين و هو هناك- ثم صار إلى بطن ملل و تربان بين الحفيرة و ملل- .

قال الواقدي فكان سعد بن أبي وقاص- يقول لما كنا بتربان قال لي رسول الله ص- يا سعد انظر إلى الظبي فأفوق له بسهم- و قام رسول الله ص فوضع رأسه بين منكبي و أذني- ثم قال اللهم سدد رميته- قال فما أخطأ سهمي عن نحره- فتبسم رسول الله ص- و خرجت أعدو فأخذته و به رمق فذكيته- فحملناه حتى نزلنا قريبا- و أمر به رسول الله ص فقسم بين أصحابه- . قال الواقدي و كان معهم فرسان- فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي- و فرس للمقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة- و يقال فرس للزبير- و لم يكن إلا فرسان لاختلاف عندهم- أن المقداد له فرس- و قد روي عن ضباعة بنت الزبير عن المقداد-

قال كان معي يوم بدر فرس يقال له سبحة- و قد روى سعد بن مالك الغنوي عن آبائه- أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي- شهد بدرا على فرس له يقال له السيل- . قال الواقدي و لحقت قريش بالشام في عيرها- و كانت العير ألف بعير و كان فيها أموال عظام- و لم يبق بمكة قرشي و لا قرشية- له مثقال فصاعدا إلا بعث به في العير- حتى إن المرأة لتبعث بالشي‏ء التافه- و كان يقال إن فيها لخمسين ألف دينار- و قالوا أقل و إن كان ليقال إن أكثر ما فيها من المال- لآل سعيد بن العاص لأبي أحيحة- إما مال لهم أو مال مع قوم قراض على النصف- و كان عامة العير لهم- و يقال بل كان لبني مخزوم فيها مائتا بعير- و خمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهبا- و كان يقال للحارث بن عامر بن نوفل فيها ألفا مثقال- .

قال الواقدي و حدثني هشام بن عمارة بن أبي الحويرث- قال كان لبني عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال- و كان متجرهم إلى غزة من أرض الشام- . قال الواقدي و حدثني عبد الله بن جعفر- عن أبي عون مولى المسور عن مخرمة بن نوفل- قال لما لحقنا بالشام أدركنا رجل من جذام فأخبرنا أن محمدا قد كان عرض لعيرنا في بدأتنا- و أنه تركه مقيما ينتظر رجعتنا- قد حالف علينا أهل الطريق و وادعهم- قال مخرمة فخرجنا خائفين نخاف الرصد- فبعثنا ضمضم بن عمرو حين فصلنا من الشام- .

قال الواقدي و كان عمرو بن العاص مع العير- و كان يحدث بعد ذلك يقول- لما كنا بالزرقاء و الزرقاء بالشام- من أذرعات على مرحلتين- و نحن منحدرون إلى مكة لقينا رجلا من جذام- فقال قد كان عرض محمد لكم في بدأتكم في أصحابه- فقلنا ما شعرنا قال بلى فأقام شهرا- ثم رجع إلى يثرب- و أنتم يوم عرض محمد لكم مخفون- فهو الآن أحرى أن يعرض لكم- إنما يعد لكم الأيام عدا فاحذروا على عيركم-و ارتئوا آراءكم- فو الله ما أرى من عدد و لا كراع و لا حلقة- فأجمع القوم أمرهم- فبعثوا ضمضم بن عمرو و كان في العير- و قد كانت قريش مرت به و هو بالساحل- معه بكران فاستأجروه بعشرين مثقالا- و أمره أبو سفيان أن يخبر قريشا أن محمدا قد عرض لعيرهم- و أمره أن يجدع بعيره إذا دخل- و يحول رحله و يشق قميصه من قبله و دبره- و يصيح الغوث الغوث- و يقال إنما بعثوه من تبوك- و كان في العير ثلاثون رجلا من قريش- فيهم عمرو بن العاص و مخرمة بن نوفل- .

قال الواقدي و قد كانت عاتكة بنت عبد المطلب- رأت قبل مجي‏ء ضمضم بن عمرو رؤيا أفزعتها- و عظمت في صدرها- فأرسلت إلى أخيها العباس- فقالت يا أخي لقد و الله رأيت رؤيا أفزعتني- و تخوفت أن يدخل على قومك منها شر و مصيبة- فاكتم علي ما أحدثك منها- رأيت راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح- ثم صرخ بأعلى صوته يا آل غدر- انفروا إلى مصارعكم في ثلاث فصرخ بها ثلاث مرات- فأرى الناس اجتمعوا إليه- ثم دخل المسجد و الناس يتبعونه- إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة- فصرخ مثلها ثلاثا- ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس- فصرخ بمثلها ثلاثا- ثم أخذ صخرة من أبي قبيس فأرسلها فأقبلت تهوي- حتى إذا كانت في أسفل الجبل ارفضت- فما بقي بيت من بيوت مكة و لا دار من دورها- إلا دخلته منها فلذة- .

قال الواقدي و كان عمرو بن العاص يحدث بعد ذلك- فيقول لقد رأيت كل هذا- و لقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة- التي انفلقت من أبي قبيس- و لقد كان ذلك عبرة- و لكن الله لم يرد أن نسلم يومئذ- لكنه أخر إسلامنا إلى ما أراد- . قلت كان بعض أصحابنا يقول- لم يكف عمرا أن يقول- رأيت الصخرة في دور مكة عيانا- فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء- باطنا على وجه النفاق و استخفافه بعقول المسلمين‏ زعم- حتى يضيف إلى ذلك القول بالخبر الصراح- فيقول إن الله تعالى لم يكن أراد منه الإسلام يومئذ- .

قال الواقدي- قالوا و لم يدخل دارا و لا بيتا- من دور بني هاشم و لا بني زهرة من تلك الصخرة شي‏ء- قال فقال العباس إن هذه لرؤيا فخرج مغتما- حتى لقي الوليد بن عتبة بن ربيعة و كان له صديقا- فذكرها له و استكتمه ففشا الحديث في الناس- قال العباس فغدوت أطوف بالبيت- و أبو جهل في رهط من قريش- يتحدثون برؤيا عاتكة- فقال أبو جهل ما رأت عاتكة هذه- فقلت و ما ذاك فقال يا بني عبد المطلب- أ ما رضيتم بأن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم- زعمت عاتكة أنها رأت في المنام كذا و كذا للذي رأت- فسنتربص بكم ثلاثا- فإن يكن ما قالت حقا فسيكون- و إن مضت الثلاث و لم يكن- نكتب عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب- فقال له العباس يا مصفر استه- أنت أولى بالكذب و اللؤم منا- فقال أبو جهل إنا استبقنا المجد و أنتم- فقلتم فينا السقاية- فقلنا لا نبالي تسقون الحجاج- ثم قلتم فينا الحجابة- فقلنا لا نبالي تحجبون البيت- ثم قلتم فينا الندوة- قلنا لا نبالي يكون الطعام فتطعمون الناس- ثم قلتم فينا الرفادة فقلنا لا نبالي- تجمعون عندكم ما ترفدون به الضعيف- فلما أطعمنا الناس و أطعمتم- و ازدحمت الركب و استبقنا المجد- فكنا كفرسي رهان- قلتم منا نبي ثم قلتم منا نبية- فلا و اللات و العزى لا كان هذا أبدا- .

قلت لا أرى كلام أبي جهل منتظما- لأنه إذا سلم للعباس أن هذه الخصال كلها فيهم- و هي الخصال التي تشرف بها القبائل- بعضها على بعض- فكيف يقول لا نبالي لا نبالي- و كيف يقول فلما أطعمنا للناس و أطعمتم- و قد كان الكلام منتظما- لو قال و لنا بإزاء هذه المفاخر كذا و كذا- ثم يقول بعد ذلك- استبقنا المجد فكنا كفرسي رهان- و ازدحمت الركب- و لم يقل شيئا و لا عد مآثره- و لعل أبا جهل قد قال ما لم ينقل‏ قال الواقدي قال العباس- فو الله ما كان مني غير أني جحدت ذلك- و أنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئا- فلما أمسيت لم تبق امرأة- أصابتها ولادة عبد المطلب إلا جاءت- فقلن لي أ رضيتم بهذا الفاسق الخبيث- يقع في رجالكم ثم قد تناول نساءكم- و لم تكن لك عند ذلك غيرة- فقلت و الله ما قلت إلا لأني لا أبالي به- و لايم الله لأعرضن له غدا- فإن عاد كفيتكن إياه- فلما أصبحوا من ذلك اليوم- الذي رأت فيه عاتكة ما رأت- قال أبو جهل هذه ثلاثة أيام ما بقي-

قال العباس و غدوت في اليوم الثالث- و أنا حديد مغضب- أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه- و أذكر ما أحفظني به النساء من مقالتهن- فو الله إني لأمشي نحوه- و كان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان- حديد النظر إذ خرج نحو باب بني سهم يشتد- فقلت ما باله لعنه الله- أ كل هذا فرقا من أن أشاتمه- فإذا هو قد سمع صوت ضمضم بن عمرو- و هو يقول يا معشر قريش- يا آل لؤي بن غالب- اللطيمة قد عرض لها محمد في أصحابه- الغوث الغوث و الله ما أرى أن تدركوها- و ضمضم ينادي بذلك في بطن الوادي- و قد جدع أذني بعيره و شق قميصه قبلا و دبرا- و حول رحله و كان يقول- لقد رأيتني قبل أن أدخل مكة- و إني لأرى في النوم و أنا على راحلتي- كأن وادي مكة يسيل من أسفله إلى أعلاه دما- فاستيقظت فزعا مذعورا فكرهتها لقريش- و وقع في نفسي أنها مصيبة في أنفسهم- .

قال الواقدي- و كان عمير بن وهب الجمحي يقول- ما رأيت أعجب من أمر ضمضم قط- و ما صرح على لسانه إلا شيطان- كأنه لم يملكنا من أمورنا شيئا- حتى نفرنا على الصعب و الذلول- و كان حكيم بن حزام يقول- ما كان الذي جاءنا فاستنفرنا إلى العير إنسانا- إن هو إلا شيطان- قيل كيف يا أبا خالد قال إني لأعجب منه- ما ملكنا من أمرنا شيئا- .

قال الواقدي- فجهز الناس و شغل بعضهم عن بعض- و كان الناس بين رجلين- إما خارج و إما باعث مكانه رجلا- و أشفقت قريش لرؤيا عاتكة و سر بنو هاشم-و قال قائلهم كلا- زعمتم أنا كذبنا و كذبت عاتكة- فأقامت قريش ثلاثا تتجهز و يقال يومين- و أخرجت أسلحتها و اشتروا سلاحا- و أعان قويهم ضعيفهم- و قام سهيل بن عمرو في رجال من قريش- فقال يا معشر قريش- هذا محمد و الصباة معه من شبانكم- و أهل يثرب قد عرضوا لعيركم و لطيمتكم- فمن أراد ظهرا فهذا ظهر- و من أراد قوة فهذه قوة- و قام زمعة بن الأسود- فقال إنه و اللات و العزى- ما نزل بكم أمر أعظم من أن طمع محمد و أهل يثرب- أن يعرضوا لعيركم فيها خزائنكم- فأوعبوا و لا يتخلف منكم أحد- و من كان لا قوة له فهذه قوة- و الله لئن أصابها محمد و أصحابه لا يروعكم منهم- إلا و قد دخلوا عليكم بيوتكم- و قال طعيمة بن عدي يا معشر قريش- و الله ما نزل بكم أمر أجل من هذه- أن يستباح عيركم- و لطيمة قريش فيها أموالكم و خزائنكم- و الله ما أعرف رجلا و لا امرأة من بني عبد مناف- له نش فصاعدا إلا و هو في هذه العير- فمن كان لا قوة به فعندنا قوة نحمله و نقويه- فحمل على عشرين بعيرا و قوي بهم- و خلفهم في أهلهم بمعونة- و قام حنظلة بن أبي سفيان و عمرو بن أبي سفيان- فحضا الناس على الخروج- و لم يدعوا إلى قوة و لا حملان- فقيل لهما أ لا تدعوان- إلى ما دعا إليه قومكما من الحملان- قالا و الله ما لنا مال- و ما المال إلا لأبي سفيان- و مشى نوفل بن معاوية الديلمي إلى أهل القوة من قريش- و كلمهم في بذل النفقة و الحملان لمن خرج- فكلم عبد الله بن أبي ربيعة- فقال هذه خمسمائة دينار تضعها حيث رأيت- و كلم حويطب بن عبد العزى- فأخذ منه مائتي دينار أو ثلاثمائة- ثم قوي بها في السلاح و الظهر- .

قال الواقدي- و ذكروا أنه كان لا يتخلف أحد من قريش- إلا بعث مكانه بعثا- فمشت قريش إلى أبي لهب- فقالوا له إنك سيد من سادات قريش- و إنك إن تخلفت عن‏ النفير- يعتبر بك غيرك من قومك- فاخرج أو ابعث رجلا- فقال و اللات و العزى لا أخرج و لا أبعث أحدا- فجاءه أبو جهل فقال أقم يا أبا عتبة- فو الله ما خرجنا إلا غضبا لدينك و دين آبائك- و خاف أبو جهل أن يسلم أبو لهب- فسكت أبو لهب و لم يخرج و لم يبعث- و ما منع أبا لهب أن يخرج- إلا الإشفاق من رؤيا عاتكة- كان يقول إنما رؤيا عاتكة أخذ باليد- و يقال إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة- و كان له عليه دين- فقال اخرج و ديني عليك لك فخرج عنه- .

و قال محمد بن إسحاق في المغازي- كان دين أبي لهب على العاص بن هشام- أربعة آلاف درهم فمطله بها و أفلس- فتركها له على أن يكون مكانه فخرج مكانه- . قال الواقدي و أخرج عتبة و شيبة دروعا لهما- فنظر إليهما مولاهما عداس- و هما يصلحان دروعهما و آلة حربهما- فقال ما تريدان- فقالا أ لم تر إلى الرجل الذي أرسلناك إليه- بالعنب في كرمنا بالطائف قال نعم- قالا نخرج فنقاتله فبكى- و قال لا تخرجا فو الله إنه لنبي- فأبيا فخرجا و خرج معهما فقتل ببدر معهما- .

قلت حديث العنب في كرم ابني ربيعة بالطائف- قد ذكره أرباب السيرة و شرحه الطبري في التاريخ- قال لما مات أبو طالب بمكة- طمعت قريش في رسول الله ص- و نالت منه ما لم تكن تناله في حياة أبي طالب- فخرج من مكة خائفا على نفسه- مهاجرا إلى ربه يؤم الطائف- راجيا أن يدعو أهلها إلى الإسلام فيجيبوه- و ذلك في شوال من سنة عشر من النبوة- فأقام بالطائف عشرة أيام و قيل شهرا- لا يدع أحدا من أشراف ثقيف إلا جاءه و كلمه- فلم يجيبوه و أشاروا عليه أن يخرج عن أرضهم- و يلحق بمجاهل الأرض و بحيث لا يعرف- و أغروا به سفهاءهم فرموه بالحجارة- حتى إن رجليه لتدميان- فكان معه زيد بن حارثة فكان يقيه بنفسه- حتى لقد شج في رأسه- .

و الشيعة تروي أن علي بن أبي طالب- كان معه أيضا في هجرة الطائف- فانصرف رسول الله ص عن ثقيف و هو محزون- بعد أن مشى إلى عبد ياليل و مسعود- و حبيب ابني عمرو بن عمير- و هم يومئذ سادة ثقيف- فجلس إليهم و دعاهم إلى الله- و إلى نصرته و القيام معه على قومه- فقال له أحدهم أنا أمرط بباب الكعبة- إن كان الله أرسلك- و قال الآخر أ ما وجد الله أحدا أرسله غيرك- و قال الثالث و الله لا أكلمك كلمة أبدا- لئن كنت رسولا من الله كما تقول- لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام- و لئن كنت كاذبا على الله ما ينبغي أن أكلمك- فقام رسول الله ص من عندهم- و قد يئس من خير ثقيف- و اجتمع عليه صبيانهم و سفهاؤهم- و صاحوا به و سبوه و طردوه- حتى اجتمع عليه الناس يعجبون منه- و ألجئوه بالحجارة و الطرد و الشتم- إلى حائط لعتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة- و هما يومئذ في الحائط- فلما دخل الحائط رجع عنه سفهاء ثقيف- فعمد إلى ظل حبلة منه فجلس فيه- و ابنا ربيعة ينظران و يريان ما لقي من سفهاء ثقيف قال الطبري فلما اطمأن به قال فيما ذكر لي اللهم إليك أشكو ضعف قوتي و قلة حيلتي- و هواني على الناس يا أرحم الراحمين- أنت رب المستضعفين و أنت ربي- إلى من تكلني إلى بعيد فيتجهمني- أم إلى عدو ملكته أمري- فإن لم يكن منك غضب علي فلا أبالي- و لكن عافيتك هي أوسع لي- أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات- و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة- من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك- لك العتبى حتى ترضى لا حول و لا قوة إلا بك – .

فلما رأى عتبة و شيبة ما لقي تحركت له رحمهما- فدعوا غلاما نصرانيا لهما يقال له‏ عداس- فقالا له خذ قطفا من هذا العنب- و ضعه في ذلك الطبق- ثم اذهب به إلى ذلك الرجل- و قل له فليأكل منه- ففعل و أقبل به حتى وضعه بين يديه- فوضع يده فيه فقال بسم الله و أكل- فقال عداس و الله إن هذه الكلمة- لا يقولها أهل هذه البلدة- فقال له رسول الله ص من أي البلاد أنت و ما دينك- قال أنا نصراني من أهل نينوى- قال أ من قرية الرجل الصالح يونس بن متى- قال و ما يدريك من يونس بن متى- قال ذاك أخي كان نبيا و أنا نبي- فأكب عداس على يديه و رجليه و رأسه يقبلها- قال يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه- أما غلامك فقد أفسده عليك- فلما جاءهما قالا ويلك ويلك يا عداس- ما لك تقبل رأس هذا الرجل و يديه و قدميه- قال يا سيدي ما في الأرض خير من هذا- فقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي- . قال الواقدي- و استقسمت قريش بالأزلام عند هبل للخروج- و استقسم أمية بن خلف و عتبة و شيبة بالآمر و الناهي- فخرج القدح الناهي- فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل- فقال ما استقسمت و لا نتخلف عن عيرنا- .

قال الواقدي لما توجه زمعة بن الأسود خارجا- فكان بذي طوى أخرج قداحه و استقسم بها- فخرج الناهي عن الخروج فلقي غيظا- ثم أعادها الثانية فخرج مثل ذلك فكسرها- و قال ما رأيت كاليوم قدحا أكذب- و مر به سهيل بن عمرو و هو على تلك الحال- فقال ما لي أراك غضبان يا أبا حكيمة- فأخبره زمعة- فقال امض عنك أيها الرجل- قد أخبرني عمير بن وهب أنه لقيه مثل الذي أخبرتني- فمضوا على هذا الحديث- .

قال الواقدي- و حدثني موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه- قال قال أبو سفيان بن حرب لضمضم- إذا قدمت على قريش فقل لها لا تستقسم بالأزلام- . قال الواقدي- و حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري- عن أبي بكر بن سليم بن أبي خيثمة- قال سمعت حكيم بن حزام يقول- ما توجهت وجها قط- كان أكره إلي من مسيري إلى بدر- و لا بان لي في وجه قط- ما بان لي قبل أن أخرج- ثم قال قدم ضمضم- فصاح بالنفير فاستقسمت بالأزلام- كل ذلك يخرج الذي أكره- ثم خرجت على ذلك حتى نزلنا مر الظهران- فنحر ابن الحنظلية جزورا منها بها حياة- فما بقي خباء من أخبية العسكر- إلا أصابه من دمها- فكان هذا بين ثم هممت بالرجوع- ثم أذكر ابن الحنظلية و شؤمه- فيردني حتى مضيت لوجهي- و كان حكيم يقول- لقد رأينا حين بلغنا الثنية البيضاء- و هي الثنية التي تهبطك على فخ- و أنت مقبل من المدينة- إذا عداس جالس عليها- و الناس يمرون إذ مر علينا ابنا ربيعة- فوثب إليهما فأخذ بأرجلهما في غرزهما- و هو يقول بأبي أنتما و أمي- و الله إنه لرسول الله ص- و ما تساقان إلا إلى مصارعكما- و إن عينيه لتسيل دمعا على خديه- فأردت أن أرجع أيضا ثم مضيت- و مر به العاص بن منبه بن الحجاج- فوقف عليه حين ولى عتبة و شيبة- فقال ما يبكيك قال يبكيني سيدي- أو سيدا أهل الوادي يخرجان إلى مصارعهما- و يقاتلان رسول الله ص- فقال العاص و إن محمدا لرسول الله- فانتفض عداس انتفاضة و اقشعر جلده- ثم بكى و قال إي و الله- إنه لرسول الله إلى الناس كافة- قال فأسلم العاص بن منبه- و مضى و هو على الشك- حتى قتل مع المشركين على شك و ارتياب- و يقال رجع عداس و لم يشهد بدرا- و يقال شهد بدرا و قتل- . قال الواقدي و القول الأول أثبت عندنا- .

قال الواقدي و خرج سعد بن معاذ معتمرا قبل بدر- فنزل على أمية بن خلف- فأتاه أبو جهل و قال أ تترك هذا- و قد آوى محمدا و آذننا بالحرب- فقال سعد بن معاذ قل ما شئت- أما إن طريق عيركم علينا- قال أمية بن خلف مه- لا تقل هذا لأبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي- قال سعد بن معاذ و أنت تقول ذلك يا أمية- أما و الله لسمعت محمدا يقول لأقتلن أمية بن خلف- قال أمية أنت سمعته- قال سعد بن معاذ فقلت نعم- قال فوقع في نفسه- فلما جاء النفير أبى أمية أن يخرج معهم إلى بدر- فأتاه عقبة بن أبي معيط و أبو جهل- و مع عقبة مجمرة فيها بخور- و مع أبي جهل مكحلة و مرود- فأدخلها عقبة تحته فقال تبخر فإنما أنت امرأة- و قال أبو جهل اكتحل فإنما أنت امرأة- فقال أمية ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي- فابتاعوا له جملا بثلاثمائة دينار من نعم بني قشير- فغنمه المسلمون يوم بدر- فصار في سهم خبيب بن يساف- .

قال الواقدي و قالوا ما كان أحد ممن خرج إلى العير- أكره للخروج من الحارث بن عامر- و قال ليت قريشا تعزم على القعود- و أن مالي في العير تلف و مال بني عبد مناف أيضا- فيقال له إنك سيد من ساداتها- أ فلا تردعها عن الخروج- قال إني أرى قريشا قد أزمعت على الخروج- و لا أرى أحدا به طرق تخلف إلا من علة- و أنا أكره خلافها- و ما أحب أن تعلم قريش ما أقول- على أن ابن الحنظلية رجل مشئوم على قومه- ما أعلمه إلا يحرز قومه أهل يثرب- و لقد قسم الحارث مالا من ماله بين ولده- و وقع في نفسه أنه لا يرجع إلى مكة- و جاءه ضمضم بن عمرو و كانت للحارث عنده أياد- فقال أبا عامر إني رأيت رؤيا كرهتها- و إني لكاليقظان على راحلتي- و أراكم أن واديكم يسيل دما من أسفله إلى أعلاه- فقال الحارث ما خرج أحد وجها من الوجوه- أكره له من وجهي هذا- قال يقول ضمضم- و الله إني لأرى لك أن تجلس- فقال لو سمعت هذا منك قبل أن أخرج ما سرت خطوة- فاطو هذا الخبر أن تعلمه قريش- فإنها تتهم كل من عوقها عن المسير- و كان ضمضم قد ذكر هذا الحديث- للحارث ببطن يأجج- قالوا و كرهت قريش أهل الرأي منهم المسير- و مشى بعضهم إلى بعض- و كان ممن أبطأ بهم عن ذلك الحارث بن عامر- و أمية بن خلف و عتبة و شيبة ابنا ربيعة- و حكيم بن حزام و أبو البختري- و علي بن أمية بن خلف و العاص بن منبه- حتى بكتهم أبو جهل بالجبن- و أعانه عقبة بن أبي معيط- و النضر بن الحارث بن كلدة- و حضوهم على الخروج- و قالوا هذا فعل النساء فأجمعوا المسير- و قالت قريش لا تدعوا أحدا من عدوكم خلفكم- .

قال الواقدي- و مما استدل به على كراهة الحارث بن عامر للخروج- و عتبة و شيبة- أنه ما عرض رجل منهم حملانا- و لا حملوا أحدا من الناس- و إن كان الرجل ليأتيهم حليفا أو عديدا- و لا قوة له فيطلب الحملان منهم- فيقولون إن كان لك مال و أحببت أن تخرج فافعل- و إلا فأقم حتى كانت قريش تعرف ذلك منهم- . قال الواقدي فلما اجتمعت قريش إلى الخروج و المسير- ذكروا الذي بينهم و بين بني بكر من العداوة- و خافوهم على من يخلفونه- و كان أشدهم خوفا عتبة بن ربيعة- و كان يقول يا معشر قريش- إنكم و إن ظفرتم بالذي تريدون- فإنا لا نأمن على من نخلف- إنما نخلف نساء و لا ذرية و من لا طعم به- فارتئوا آراءكم- فتصور لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي- فقال يا معشر قريش قد عرفتم شرفي و مكاني في قومي- أنا لكم جار أن تأتيكم كنانة بشي‏ء تكرهونه- فطابت نفس عتبة- و قال له أبو جهل فما تريد- هذا سيد كنانة هو لنا جار على من نخلف- فقال عتبة لا شي‏ء أنا خارج قال الواقدي و كان الذي بين بني كنانة و قريش- أن ابنا لحفص بن الأحنف- أحد بني معيط بن عامر بن لؤي- خرج يبغي ضالة و هو غلام في رأسه ذؤابة- و عليه حلة و كان غلاما وضيئا- فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح بن يعمر- أحد رؤساء بني كنانة و كان بضجنان- فقال من أنت يا غلام- قال ابن لحفص بن الأحنف- فقال يا بني بكر أ لكم في قريش دم قالوا نعم-

قال ما كان رجل يقتل هذا برجله إلا استوفى- فاتبعه رجل من بني بكر فقتله بدم له في قريش- فتكلمت فيه قريش- فقال عامر بن يزيد قد كانت لنا فيكم دماء- فإن شئتم فأدوا ما لنا قبلكم- و نؤدي إليكم ما كان فينا- و إن شئتم فإنما هو الدم رجل برجل- و إن شئتم فتجافوا عنا فيما قبلنا- و نتجافى عنكم فيما قبلكم- فهان ذلك الغلام على قريش- و قالوا صدق رجل برجل- فلهوا عنه أن يطلبوا بدمه- فبينا أخوه مكرز بن حفص بمر الظهران- إذ نظر عامر بن يزيد و هو سيد بني بكر على جمل له- فلما رآه قال ما أطلب أثرا بعد عين- و أناخ بعيره و هو متوشح سيفه- فعلاه به حتى قتله ثم أتى مكة من الليل- فعلق سيف عامر بن يزيد بأستار الكعبة- فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد- فعرفوا أن مكرز بن حفص قتله- و قد كانت تسمع من مكرز في ذلك قولا- و جزعت بنو بكر من قتل سيدها- فكانت معدة لقتل رجلين من قريش سيدين- أو ثلاثة من ساداتها- فجاء النفير و هم على هذا الأمر- فخافوهم على من تخلف بمكة من ذراريهم- فلما قال سراقة ما قال و هو ينطق بلسان إبليس شجع القوم- .

قال الواقدي و خرجت قريش سراعا- و خرجوا بالقيان و الدفوف- سارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب- و عزة مولاة أسود بن المطلب- و فلانة مولاة أمية بن خلف- يغنين في كل منهل و ينحرون الجزر- و خرجوا بالجيش يتقاذفون بالحراب- و خرجوا بتسعمائة و خمسين مقاتلا- و قادوا مائة فرس بطرا و رئاء الناس- كما ذكر الله تعالى في كتابه- و أبو جهل يقول أ يظن محمد- أن يصيب منا ما أصاب بنخلة و أصحابه- سيعلم أ نمنع عيرنا أم لا- .

قلت سرية نخلة سرية قبل بدر- و كان أميرها عبد الله بن جحش- قتل فيها عمرو بن الحضرمي- حليف بني عبد شمس- قتله واقد بن عبد الله التميمي رماه بسهم فقتله- و أسر الحكم بن كيسان- و عثمان بن عبد الله بن المغيرة- و استاق المسلمون العير- و كانت خمسمائة بعير فخمسها رسول الله ص- و قسم أربعمائة فيمن شهدها من المسلمين- و هم مائتا رجل فأصاب كل رجل بعيران- . قال الواقدي و كانت الخيل لأهل القوة منهم- و كان في بني مخزوم منها ثلاثون فرسا- و كانت الإبل سبعمائة بعير- و كان أهل الخيل كلهم دارع و كانوا مائة- و كان في الرجالة دروع سوى ذلك- .

قال الواقدي و أقبل أبو سفيان بالعير- و خاف هو و أصحابه خوفا شديدا حين دنوا من المدينة- و استبطئوا ضمضما و النفير- فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر- جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر- و كانوا باتوا من وراء بدر آخر ليلتهم- و هم على‏ أن يصبحوا بدرا إن لم يعترض لهم- فما أقرتهم العير حتى ضربوها بالعقل- على أن بعضها ليثنى بعقالين- و هي ترجع الحنين تواردا إلى ماء بدر- و ما إن بها إلى الماء من حاجة لقد شربت بالأمس- و جعل أهل العير يقولون- إن هذا شي‏ء ما صنعته الإبل منذ خرجنا- قالوا و غشينا تلك الليلة ظلمة شديدة- حتى ما نبصر شيئا- .

قال الواقدي- و كان بسبس بن عمرو و عدي بن أبي الزغباء- وردا على مجدي بدرا يتجسسان الخبر- فلما نزلا ماء بدر- أناخا راحلتيهما إلى قريب من الماء- ثم أخذ أسقيتهما يسقيان من الماء- فسمعا جاريتين من جواري جهينة- يقال لإحداهما برزة و هي تلزم صاحبتها في درهم- كان لها عليها و صاحبتها تقول- إنما العير غدا أو بعد غد قد نزلت- و مجدي بن عمر يسمعها فقال صدقت- فلما سمع ذلك بسبس و عدي انطلقا- راجعين إلى النبي ص- حتى أتياه بعرق الظبية فأخبراه الخبر- .

قال الواقدي و حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده و كان أحد البكاءين قال قال رسول الله ص لقد سلك فج الروحاء موسى النبي ع- في سبعين ألفا من بني إسرائيل- و صلوا في المسجد الذي بعرق الظبية – . قال الواقدي- و هي من الروحاء على ميلين مما يلي المدينة- إذا خرجت على يسارك- . قال الواقدي و أصبح أبو سفيان ببدر- قد تقدم العير و هو خائف من الرصد- فقال يا مجدي هل أحسست أحدا- تعلم و الله ما بمكة قرشي و لا قرشية له نش‏ فصاعدا- و النش نصف أوقية وزن عشرين درهما- إلا و قد بعث به معنا- و لئن كتمتنا شأن عدونا- لا يصالحك رجل من قريش ما بل بحر صوفة- فقال مجدي و الله ما رأيت أحدا أنكره- و لا بينك و بين يثرب من عدو- و لو كان بينك و بينها عدو لم يخف علينا- و ما كنت لأخفيه عنك- إلا أني قد رأيت راكبين أتيا إلى هذا المكان- و أشار إلى مناخ عدي و بسبس فأناخا به- ثم استقيا بأسقيتهما ثم انصرفا- فجاء أبو سفيان مناخهما- فأخذ أبعارا من أبعار بعيريهما ففتها- فإذا فيها نوى- فقال هذه و الله علائف يثرب- هذه و الله عيون محمد و أصحابه- ما أرى القوم إلا قريبا- فضرب وجه عيره فساحل بها- و ترك بدرا يسارا و انطلق سريعا- و أقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل- يطعمون الطعام من أتاهم و ينحرون الجزور- فبينا هم كذلك في مسيرهم- إذ تخلف عتبة و شيبة و هما يترددان- قال أحدهما لصاحبه- أ لم تر إلى رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب- لقد خشيت منها قال الآخر فاذكرها- و ذكرها فأدركهما أبو جهل- فقال ما تتحادثون به- قالا نذكر رؤيا عاتكة- قال يا عجبا من بني عبد المطلب- لم يرضوا أن تتنبأ علينا رجالهم- حتى تنبأت علينا النساء- أما و الله لئن رجعنا إلى مكة لنفعلن بهم و لنفعلن- قال عتبة إن لهم أرحاما و قرابة قريبة- ثم قال أحدهما لصاحبه هل لك أن ترجع- قال أبو جهل أ ترجعان بعد ما سرنا فتخذلان قومكما- و تقطعان بهم بعد أن رأيتم ثأركم بأعينكم- أ تظنان أن محمدا و أصحابه يلاقونكما- كلا و الله إن معي من قومي- مائة و ثمانين كلهم من أهل بيتي يحلون إذا أحللت- و يرحلون إذا رحلت فارجعا إن شئتما- قالا و الله لقد هلكت و أهلكت قومك- .

ثم قال عتبة لأخيه شيبة- إن هذا رجل مشئوم يعني أبا جهل- و إنه لا يمسه من قرابة محمد ما يمسنا- مع أن محمدا معه الولد فارجع بنا و دع قوله- .

قلت مراده بقوله مع أن محمدا معه الولد- أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة- كان أسلم و شهد بدرا مع رسول الله ص قال الواقدي فقال شيبة- و الله تكون علينا سبة يا أبا الوليد- أن نرجع الآن بعد ما سرنا فمضينا- ثم انتهى إلى الجحفة عشاء- فنام جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف- فقال إني لأرى بين النائم و اليقظان- أنظر إلى رجل أقبل على فرس معه بعير له- حتى وقف علي فقال قتل عتبة بن ربيعة- و شيبة بن ربيعة و زمعة بن الأسود- و أمية بن خلف و أبو البختري- و أبو الحكم و نوفل بن خويلد- في رجال سماهم من أشراف قريش- و أسر سهيل بن عمرو- و فر الحارث بن هشام عن أخيه- قال و كأن قائلا يقول- و الله إني لأظنهم الذين يخرجون إلى مصارعهم- ثم قال أراه ضرب في لبة بعيره فأرسله في العسكر- فقال أبو جهل و هذا نبي آخر من بني عبد مناف- ستعلم غدا من المقتول نحن أو محمد و أصحابه- و قالت قريش لجهيم- إنما يلعب بك الشيطان في منامك- فسترى غدا خلاف ما رأيت- يقتل أشراف محمد و يؤسرون- قال فخلا عتبة بأخيه شيبة- فقال له هل لك في الرجوع- فهذه الرؤيا مثل رؤيا عاتكة و مثل قول عداس- و الله ما كذبنا عداس- و لعمري لئن كان محمد كاذبا- إن في العرب لمن يكفيناه- و لئن كان صادقا إنا لأسعد العرب به للحمته- فقال شيبة هو على ما تقول- أ فنرجع من بين أهل العسكر- فجاء أبو جهل و هما على ذلك- فقال ما تريدان قالا الرجوع- أ لا ترى إلى رؤيا عاتكة- و إلى رؤيا جهيم بن الصلت مع قول عداس لنا- فقال لا تخذلان و الله قومكما و تقطعان بهم- قالا هلكت و الله و أهلكت قومك فمضيا على ذلك- .

قال الواقدي فلما أفلت أبو سفيان بالعير- و رأى أن قد أحرزها و أمن عليها- أرسل إلى قريش قيس بن إمرئ القيس- و كان مع أصحاب العير خرج معهم من مكة- فأرسله أبو سفيان يأمرهم بالرجوع- و يقول قد نجت عيركم و أموالكم- فلا تحرزوا أنفسكم‏ أهل يثرب- فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك- إنما خرجتم لتمنعوا عيركم و أموالكم- و قد نجاها الله- فإن أبوا عليك فلا يأبون خصلة واحدة- يردون القيان- فعالج قيس بن إمرئ القيس قريشا فأبت الرجوع- قالوا أما القيان فسنردهن- فردوهن من الجحفة- .

قلت لا أعلم مراد أبي سفيان برد القيان- و هو الذي أخرجهن مع الجيش يوم أحد- يحرضن قريشا على إدراك الثأر- و يغنين و يضربن الدفوف- فكيف نهى عن ذلك في بدر و فعله في أحد- و أقول من تأمل الحال علم- أن قريشا لم يمكن أن تنتصر يوم بدر- لأن الذي خالطها من التخاذل و التواكل- و كراهية الحرب و حب الرجوع- و خوف اللقاء و خفوق الهمم و فتور العزائم- و رجوع بني زهرة و غيرهم من الطريق- و اختلاف آرائهم في القتال- يكفي بعضه في هلاكهم و عدم فلاحهم- لو كانوا قد لقوا قوما جبناء- فكيف و إنما لقوا الأوس و الخزرج- و هم أشجع العرب- و فيهم علي بن أبي طالب ع و حمزة بن عبد المطلب- و هما أشجع البشر- و جماعة من المهاجرين أنجاد أبطال- و رئيسهم محمد بن عبد الله رسول الله- الداعي إلى الحق و العدل و التوحيد- المؤيد بالقوة الإلهية- دع ما أضيف إلى ذلك من ملائكة السماء- كما نطق به الكتاب- .

قال الواقدي و لحق الرسول أبا سفيان بالهدة- و الهدة على سبعة أميال من عقبة عسفان- على تسعة و ثلاثين ميلا من مكة- فأخبره بمضي قريش فقال وا قوماه- هذا عمل عمرو بن هشام- يكره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس و بغى- و البغي منقصة و شؤم- و الله لئن أصاب أصحاب محمد النفير- ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا- .

قال الواقدي و قال أبو جهل- و الله لا نرجع حتى نرد بدرا- و كانت بدر موسمامن مواسم العرب في الجاهلية- يجتمعون بها و فيها سوق- تسمع بنا العرب و بمسيرنا فنقيم على بدر ثلاثا- ننحر الجزر و نطعم الطعام و نشرب الخمر- و تعزف علينا القيان- فلن تزال العرب تهابنا أبدا- . قال الواقدي و كان الفرات بن حيان العجلي- أرسلته قريش حين فصلت من مكة- إلى أبي سفيان بن حرب- يخبره بمسيرها و فصولها و ما قد حشدت- فحالف أبا سفيان في الطريق- و ذلك أن أبا سفيان لصق بالبحر- و لزم الفرات بن حيان المحجة- فوافى المشركين بالجحفة- فسمع كلام أبي جهل و هو يقول لا نرجع- فقال ما بأنفسهم عن نفسك رغبة- و إن الذي يرجع- بعد أن رأى ثأره من كثب لضعيف- فمضى مع قريش فترك أبا سفيان- و جرح يوم بدر جراحات كثيرة- و هرب على قدميه و هو يقول- ما رأيت كاليوم أمرا أنكد- إن ابن الحنظلية لغير مبارك الأمر- .

قال الواقدي- و قال الأخنس بن شريق و اسمه أبي- و كان حليفا لبني زهرة يا بني زهرة- قد نجى الله عيركم و خلص أموالكم- و نجى صاحبكم مخرمة بن نوفل- و إنما خرجتم لتمنعوه و ماله- و إنما محمد رجل منكم ابن أختكم- فإن يك نبيا فأنتم أسعد به- و إن يك كاذبا يلي قتله غيركم- خير من أن تلوا قتل ابن أختكم- فارجعوا و اجعلوا خبثها لي- فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ما يهمكم- و دعوا ما يقوله هذا الرجل- يعني أبا جهل فإنه مهلك قومه- سريع في فسادهم فأطاعته بنو زهرة- و كان فيهم مطاعا و كانوا يتيمنون به- فقالوا فكيف نصنع بالرجوع حتى نرجع- فقال الأخنس نسير مع القوم- فإذا أمسيت سقطت عن بعيري- فيقولون نحل الأخنس- فإذا أصبحوا فقالوا سيروا- فقولوا لا نفارق صاحبنا- حتى نعلم أ حي هو أم ميت‏ فندفنه- فإذا مضوا رجعنا إلى مكة- ففعلت بنو زهرة ذلك- فلما أصبحوا بالأبواء راجعين- تبين للناس أن بني زهرة رجعوا- فلم يشهدها زهري البتة- و كانوا مائة و قيل أقل من مائة و هو أثبت- و قال قوم كانوا ثلاثمائة و لم يثبت ذلك- .

قال الواقدي و قال عدي بن أبي الزغباء- منحدره من بدر إلى المدينة- و انتشرت الركاب عليه فجعل عدي يقول-

أقم لها صدورها يا بسبس
إن مطايا القوم لا تحبس‏

و حملها على الطريق أكيس‏
قد نصر الله و فر الأخنس‏

قال الواقدي- و ذكر أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن- بن عبد الله بن عمر بن الخطاب- إن بني عدي خرجوا من النفير- حتى كانوا بثنية لفت- فلما كان في السحر عدلوا في الساحل منصرفين إلى مكة- فصادفهم أبو سفيان فقال كيف رجعتم يا بني عدي- و لا في العير و لا في النفير- قالوا أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع- فرجع من رجع و مضى من مضى- فلم يشهدها أحد من بني عدي- و يقال إنه لاقاهم بمر الظهران- فقال تلك المقالة لهم- . قال الواقدي و أما رسول الله ص- فكان صبيحة أربع عشرة من شهر رمضان بعرق الظبية- فجاء أعرابي قد أقبل من تهامة- فقال له أصحاب النبي ص- هل لك علم بأبي سفيان بن حرب- قال ما لي بأبي سفيان علم- قالوا تعال فسلم على رسول الله ص- قال أ و فيكم رسول الله قالوا نعم- قال فأيكم رسول الله قالوا هذا- فقال أنت رسول الله قال نعم- قال فما في‏ بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا- فقال سلمة بن سلامة بن وقش نكحتها و هي حبلى منك- فكره رسول الله ص مقالته و أعرض عنه- .

قال الواقدي و سار رسول الله ص- حتى أتى الروحاء ليلة الأربعاء للنصف من شهر رمضان- فقال لأصحابه هذا سجاسج- يعني وادي الروحاء هذا أفضل أودية العرب- .

قال الواقدي و صلى رسول الله ص بالروحاء- فلما رفع رأسه من الركعة الأخيرة من وتره- لعن الكفرة و دعا عليهم- فقال اللهم لا تفلتن أبا جهل بن هشام فرعون هذه الأمة- اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود- اللهم أسخن عين أبي زمعة- اللهم أعم بصر أبي دبيلة- اللهم لا تفلتن سهيل بن عمرو- ثم دعا لقوم من قريش- فقال اللهم أنج سلمة بن هشام- و عياش بن أبي ربيعة و المستضعفين من المؤمنين
– و لم يدع للوليد بن المغيرة يومئذ و أسر ببدر- و لكنه لما رجع إلى مكة بعد بدر أسلم- و أراد أن يخرج إلى المدينة فحبس- فدعا له النبي ص بعد ذلك قال الواقدي و كان خبيب بن يساف رجلا شجاعا- و كان يأبى الإسلام- فلما خرج النبي ص إلى بدر- خرج هو و قيس بن محرث و يقال ابن الحارث- و هما على دين قومهما- فأدركا رسول الله ص بالعقيق- و خبيب مقنع في الحديد- فعرفه رسول الله ص من تحت المغفر- فالتفت إلى سعد بن معاذ و هو يسير إلى جنبه- فقال أ ليس بخبيب بن يساف قال بلى- فأقبل خبيب حتى أخذببطان ناقة رسول الله ص- فقال له و لقيس بن محرث ما أخرجكما- قال كنت ابن أختنا و جارنا- و خرجنا مع قومنا للغنيمة- فقال ص لا يخرجن معنا رجل ليس على ديننا- فقال خبيب لقد علم قومي أني عظيم الغناء في الحرب- شديد النكاية- فأقاتل معك للغنيمة و لا أسلم- فقال رسول الله ص لا و لكن أسلم ثم قاتل- فلما كان بالروحاء جاء- فقال يا رسول الله أسلمت لرب العالمين- و شهدت أنك رسول الله فسر بذلك و قال امضه- فكان عظيم الغناء في بدر و في غير بدر- و أما قيس بن الحارث فأبى أن يسلم فرجع إلى المدينة- فلما قدم النبي ص من بدر- أسلم و شهد أحدا فقتل- . قال الواقدي- و لما خرج رسول الله ص صام يوما أو يومين- ثم نادى مناديه يا معشر العصاة- إني مفطر فأفطروا- و ذلك أنه قد كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفعلوا- .

قلت هذا هو سر النبوة و خاصيتها- إذا تأمل المتأملون ذلك- و هو أن يبلغ بهم حبه و طاعته و قبول قوله- على أن يكلفهم ما يشق عليهم- فيمتثلوه امتثالا صادرا عن حب شديد- و حرص عظيم على الطاعة- حتى إنه لينسخه عنهم و يسقط وجوبه عليهم- فيكرهون ذلك و لا يسقطونه عن أنفسهم- إلا بعد الإنكار التام- و هذا أحسن من المعجزات الخارقة للعادات- بل هذا بعينه معجزة خارقة للعادة- أقوى و آكد من شق البحر و قلب العصا حية- .

قال الواقدي- و مضى رسول الله ص حتى إذا كان دوين بدر- أتاه الخبر بمسير قريش- فأخبر رسول الله ص بمسيرهم- و استشار الناس ‏فقام أبو بكر فقال فأحسن- ثم قام عمر فقال فأحسن- ثم قال يا رسول الله إنها قريش و عزها- و الله ما ذلت منذ عزت و لا آمنت منذ كفرت- و الله لا تسلم عزها أبدا و لتقاتلنك- فاتهب لذلك أهبته و أعد عدته- ثم قام المقداد بن عمرو- فقال يا رسول الله لأمر الله فنحن معك- و الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها- فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ- و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون- و الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا- .

قال الواقدي برك الغماد من وراء مكة- بخمس ليال من وراء الساحل مما يلي البحر- و هو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن- . فقال له رسول الله ص خيرا و دعا له بخير- ثم قال ص أشيروا علي أيها الناس- و إنما يريد الأنصار- و كان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا في الدار- و ذلك أنهم شرطوا أن يمنعوه- مما يمنعون منه أنفسهم و أولادهم- فقال رسول الله ص أشيروا علي- فقام سعد بن معاذ فقال أنا أجيب عن الأنصار- كأنك يا رسول الله تريدنا قال أجل- قال إنك عسى أن تكون خرجت عن أمر- قد أوحي إليك- و إنا قد آمنا بك و صدقناك- و شهدنا أن ما جئت به حق- و أعطيناك مواثيقنا و عهودنا على السمع و الطاعة- فامض يا نبي الله لما أردت- فو الذي بعثك بالحق- لو استعرضت بنا هذا البحر- فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل- و صل من شئت و خذ من أموالنا ما أردت- فما أخذته من أموالنا أحب إلينا مما تركت- و الذي نفسي بيده ما سلكت هذه الطريق قط- و ما لي بها من علم- و إنا لا نكره أن نلقى عدونا غدا- إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء- لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عينك- .

قال الواقدي و حدثني محمد بن صالح- عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد- قال قال سعد بن معاذ يومئذ يا رسول الله- إنا قد خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم- و لا أطوع لهم رغبة و نية في الجهاد- و لو ظنوا أنك يا رسول الله ملاق عدوا ما تخلفوا عنك- و لكن إنما ظنوا أنها العير- نبني لك عريشا فتكون فيه و نعد عندك رواحلك- ثم نلقى عدونا- فإن أعزنا الله و أظهرنا على عدونا- كان ذلك ما أحببنا- و إن تكن الأخرى جلست على رواحلك- فلحقت من وراءنا- فقال له النبي ص خيرا- ثم قال أ و يقضي الله خيرا يا سعد- . قال الواقدي فلما فرغ سعد من المشورة- قال رسول الله ص سيروا على بركة الله- فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين- و الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم- .

قال الواقدي- و قالوا لقد أرانا رسول الله ص مصارعهم يومئذ- هذا مصرع فلان و هذا مصرع فلان- فما عدا كل رجل منهم مصرعه- قال فعلم القوم أنهم يلاقون القتال- و أن العير تفلت- و رجا القوم النصر لقول النبي ص- . قال الواقدي فمن يومئذ عقد رسول الله ص الألوية- و كانت ثلاثة و أظهر السلاح- و كان خرج من المدينة على غير لواء معقود- و سار فلقي سفيان الضمري- و مع رسول الله ص قتادة بن النعمان و معاذ بن جبل- فقال رسول الله ص من الرجل- فقال الضمري بل و من أنتم- فقال رسول الله ص تخبرنا و نخبرك- فقال الضمري و ذاك بذاك قال نعم- قال الضمري فاسألوا عما شئتم- فقال له ص أخبرنا عن قريش- قال الضمري بلغني أنهم خرجوا يوم كذا من مكة- فإن كان الخبر صادقا فإنهم بجنب هذا الوادي- ثم قال الضمري فمن أنتم- فقال النبي ص نحن من ماء- و أشار بيده نحو العراق- فجعل الضمري يقول من ماء من أي ماء- من العراق أم من غيره- ثم انصرف رسول الله ص إلى أصحابه- .

قال الواقدي- فبات الفريقان كل منهم لا يعلم بمنزل صاحبه- إنما بينهم قوز من رمل- . قال الواقدي و مر رسول الله ص بجبلين- فسأل عنهما فقالوا هذا مسلح و مخرئ- فقال من ساكنهما- فقيل بنو النار و بنو حراق- فانصرف عنهما و جعلهما يسارا- و لقيه بسبس بن عمرو و عدي بن أبي الزغباء- فأخبراه خبر قريش- و نزل رسول الله ص وادي بدر- عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان- فبعث عليا ع و الزبير و سعد بن أبي وقاص- و بسبس بن عمرو يتحسسون على الماء- و أشار لهم إلى ظريب- و قال أرجو أن تجدوا الخير عند القليب- الذي يلي هذا الظريب- فاندفعوا تلقاءه- فوجدوا على تلك القليب- روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم و أفلت بعضهم- فكان ممن عرف أنه أفلت عجير- فكان أول من جاء قريشا بخبر النبي ص و أصحابه- فنادى يا آل غالب هذا ابن أبي كبشة و أصحابه- و قد أخذوا سقاءكم فماج العسكر و كرهوا ما جاء به- .

قال الواقدي فكان حكيم بن حزام يحدث- قال كنا يومئذ في خباء لنا على جزور نشوي من لحمها- فما هو إلا أن سمعنا الخبر- فامتنع الطعام منا و لقي بعضنا بعضا- و لقيني عتبة بن ربيعة فقال يا أبا خالد- ما أعلم أحدا يسير أعجب من مسيرنا- إن عيرنا قد نجت- و إنا جئنا إلى قوم في بلادهم بغيا عليهم- فقلت أراه لأمر حم و لا رأي لمن لا يطاع- هذا شؤم ابن الحنظلية- فقال عتبة أبا خالد أ تخاف أن تبيتنا القوم- قلت لأنت آمن من ذلك- قال فما الرأي يا أبا خالد- قلت نتحارس حتى نصبح و ترون رأيكم- قال عتبة هذا الرأي- قال فتحارسنا حتى أصبحنا- فقال أبو جهل هذا عن أمر عتبة- كره قتال محمد و أصحابه- إن هذا لهو العجب- أ تظنون أن محمدا و أصحابه يعترضون لجمعكم- و الله لأنتحين ناحية بقومي فلا يحرسنا أحد- فتنحى ناحية و إن السماء لتمطر عليه- قال يقول عتبة إن هذا لهو النكد قال الواقدي أخذ من السقاء من على القليب- يسار غلام سعيد بن العاص- و أسلم غلام منبه بن الحجاج- و أبو رافع غلام أمية بن خلف- فأتي بهم النبي ص و هو قائم يصلي- فسألهم المسلمون فقالوا نحن سقاء قريش- بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهم- و رجوا أن يكونوا لأبي سفيان و أصحاب العير- فضربوهم فلما أذلقوهم بالضرب- قالوا نحن لأبي سفيان و نحن في العير- و هذا العير بهذا القوز- فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم- فسلم رسول الله ص من صلاته- ثم قال إن صدقوكم ضربتموهم- و إن كذبوكم تركتموهم- فقال أصحابه ع- إنهم يا رسول الله يقولون إن قريشا قد جاءت- فقال لقد صدقوكم خرجت قريش تمنع عيرها- و خافوكم عليها ثم أقبل ص على السقاء- فقال أين قريش- فقالوا خلف هذا الكثيب الذي ترى- قال كم هم قالوا كثير- قال كم عددهم قالوا لا ندري- قال كم ينحرون- قالوا يوما عشرة و يوما تسعة- فقال القوم ما بين الألف و التسعمائة- ثم قال للسقاء كم خرج من أهل مكة- قالوا لم يبق أحد به طعم إلا خرج- فأقبل رسول الله ص على الناس- فقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها- ثم سألهم رسول الله ص هل رجع منهم أحد- قالوا نعم رجع ابن أبي شريق ببني زهرة- فقال ص راشدهم و ما كان برشيد- و إن كان ما علمت لمعاديا لله و لكتابه- ثم قال فأحد غيرهم- قالوا نعم بنو عدي بن كعب فتركهم رسول الله ص- ثم قال لأصحابه أشيروا علي في المنزل- فقال الحباب بن المنذر- يا رسول الله أ رأيت منزلك هذا- أ هو منزل أنزلكه الله- فليس لنا أن نتقدمه و لا نتأخر عنه- أم هو الرأي و الحرب و المكيدة- قال بل هو الرأي و الحرب و المكيدة- قال فإن هذا ليس بمنزل- انطلق بنا إلى أدنى مياه القوم- فإني عالم بها و بقلبها- فإن بها قليبا قد عرفت عذوبة مائها- و ماؤها كثير لا ينزح- نبني عليها حوضا و نقذف فيها بالآنية فنشرب- و نقاتل و نعور ما سواها من القلب- .

قال الواقدي فكان ابن عباس يقول- نزل جبريل على النبي ص فقال- الرأي ما أشار به الحباب- فقال يا حباب أشرت بالرأي- و نهض و فعل كل ذلك- . قال الواقدي و بعث الله السماء- و كان الوادي دهسا أي كثير الرمل- فأصاب المسلمين ما لبد الأرض و لم يمنعهم من المسير- و أصاب قريشا ما لم يقدروا معه أن يرتحلوا منه- و إنما بين الطائفتين قوز من رمل- . قال الواقدي- و أصاب المسلمين تلك الليلة النعاس ألقي عليهم- فناموا و لم يصبهم من المطر ما يؤذيهم- .

قال الزبير بن العوام- لقد سلط الله عليهم النعاس تلك الليلة- حتى إني كنت لأتشدد- و النعاس يجلد بي الأرض فما أطيق إلا ذلك- فكان رسول الله ص و أصحابه على مثل ذلك الحال- و قال سعد بن أبي وقاص لقد رأيتني- و إن ذقني بين ثديي فما أشعر حتى أقع على جنبي- . و قال رفاعة بن رافع بن مالك لقد غلبني النوم- فاحتلمت حتى اغتسلت آخر الليل- . قال الواقدي فلما تحول رسول الله ص إلى المنزل- بعد أن أخذ السقاء- أرسل عمار بن ياسر و عبد الله بن مسعود- فأطافا بالقوم ثم رجعا إليه- فقالا له يا رسول الله القوم مذعورون فزعون- إن الفرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه- مع أن السماء تسح عليهم- .

قال الواقدي فلما أصبحوا قال منبه بن الحجاج- و كان رجلا يبصر الأثر- هذا و الله أثر ابن سمية و ابن أم عبد أعرفهما- لقد جاءنا محمد بسفهائنا و سفهاء أهل يثرب- ثم قال لم يترك الجوع لنا مبيتا لا بد أن نموت أو نميتا- . يا معشر قريش انظروا غدا إن لقينا محمد و أصحابه- فاتقوا على شبانكم و فتيانكم‏ بأهل يثرب- فإنا إن نرجع بهم إلى مكة- يبصروا من ضلالتهم ما فارقوا من دين آبائهم- . قال الواقدي و لما نزل رسول الله ص على القليب- بني له عريش من جريد- فقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشحا سيفه- فدخل النبي ص و أبو بكر- .

قلت لأعجب من أمر العريش من أين كان لهم- أو معهم من سعف النخل ما يبنون به عريشا- و ليس تلك الأرض أعني أرض بدر أرض نخل- و الذي كان معهم من سعف النخل- يجري مجرى السلاح كان يسيرا جدا- قيل إنه كان بأيدي سبعة منهم سعاف عوض السيوف- و الباقون كانوا بالسيوف و القسي- و هذا قول شاذ- و الصحيح أنه ما خلا أحد منهم عن سلاح- اللهم إلا أن يكون معهم سعافات يسيرة- و ظلل عليها بثوب أو ستر- و إلا فلا أرى لبناء عريش- من جريد النخل هناك وجها- .

قال الواقدي- و صف رسول الله ص أصحابه قبل أن تنزل قريش- فطلعت قريش و رسول الله ص يصف أصحابه- و قد أترعوا حوضا يفرطون فيه من السحر- و قذفت فيه الآنية- و دفع رسول الله ص رايته إلى مصعب بن عمير- فتقدم بها إلى الموضع الذي أمره أن يضعها- و وقف رسول الله ص ينظر إلى الصفوف- فاستقبل المغارب و جعل الشمس خلفه- و أقبل المشركون فاستقبلوا الشمس- و نزل بالعدوة الدنيا من الوادي- و نزلوا بالعدوة اليمانية و هي القصوى- و جاءه رجل من أصحابه فقال يا رسول الله- إن كان هذا عن وحي فامض له- و إلا فإني‏ أرى أن تعلوا الوادي- فإني أرى ريحا قد هاجت من أعلاها- و أراها بعثت بنصرك- فقال رسول الله ص قد صففت صفوفي- و وضعت رايتي فلا أغير ذلك- ثم دعا رسول الله ص فأمده الله بالملائكة- .

قال الواقدي و روى عروة بن الزبير- قال عدل رسول الله ص الصفوف يومئذ- فتقدم سواد بن غزية أمام الصف- فدفع النبي ص بقدح في بطنه- و قال استو يا سواد- فقال أوجعتني و الذي بعثك بالحق- أقدني فكشف ص عن بطنه- و قال استقد فاعتنقه و قبله- فقال ما حملك على ما صنعت- قال حضر يا رسول الله من أمر الله ما قد ترى- و خشيت القتل- فأردت أن يكون آخر عهدي بك و أن أعتنقك- .

قال الواقدي فحدثني موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن رجل من بني أود قال سمعت عليا ع يخطب على منبر الكوفة و يقول بينا أنا أميح في قليب بدر- جاءت ريح لم أر مثلها قط شدة- ثم ذهبت فجاءت أخرى- لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها- ثم جاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا الأوليين- فكانت الأولى جبريل في ألف مع رسول الله ص- و الثانية ميكائيل في ألف عن ميمنته- و الثالثة إسرافيل في ألف عن ميسرته- فلما هزم الله أعداءه- حملني رسول الله ص على فرس- فجرت بي فلما جرت بي خررت على عنقها- فدعوت ربي فأمسكني حتى استويت- و ما لي و للخيل و إنما كنت صاحب الحشم- فلما استويت طعنت فيهم بيدي هذه- حتى اختضبت مني ذي يعني إبطه قلت أكثر الرواة يروونه- فحملني رسول الله على فرسه- و الصحيح ما ذكرناه- لأنه لم يكن لرسول الله ص فرس يوم بدر- و إنما حضرها راكب بعير- و لكنه لما اصطدم الصفان- و قتل قوم من فرسان المشركين- حمل رسول الله ص عليا ع على بعض الخيل المأخوذة منهم- .

قال الواقدي- قالوا كان على ميمنة رسول الله ص أبو بكر- و كان على ميسرته علي بن أبي طالب ع- و كان على ميمنة قريش هبيرة بن أبي وهب المخزومي- و على ميسرتهم عمرو بن عبد ود- قيل كان زمعة بن الأسود على ميسرتهم- و قيل بل كان على خيل المشركين- و قيل الذي على الخيل الحارث بن هشام- و قال قوم لم يكن هبيرة على الميمنة- بل كان عليها الحارث بن عامر بن نوفل- . قال الواقدي- و حدثني محمد بن صالح عن يزيد بن رومان- و ابن أبي حبيبة- قالا ما كان على ميمنة النبي ص يوم بدر- و لا على ميسرته أحد يسمى- و كذلك ميمنة المشركين و ميسرتهم ما سمعنا فيها بأحد قال الواقدي و هذا هو الثبت عندنا- قال و كان لواء رسول الله ص يومئذ الأعظم- لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير- و لواء الخزرج مع الحباب بن المنذر- و لواء الأوس مع سعد بن معاذ- و كان مع قريش ثلاثة ألوية- لواء مع أبي عزيز و لواء مع المنذر بن الحارث- و لواء مع طلحة بن أبي طلحة- .

قال الواقدي و خطب رسول الله ص المسلمين يومئذ- فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد- فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه- و أنهاكم عما نهاكم الله عنه- فإن الله عظيم شأنه- يأمر بالحق و يحب الصدق- و يعطي على الخير أهله- على منازلهم عنده‏ به يذكرون و به يتفاضلون- و إنكم أصبحتم بمنزل من منازل الحق- لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه- و إن الصبر في البأس مما يفرج الله به الهم- و ينجي به من الغم- تدركون به النجاة في الآخرة- فيكم نبي الله يحذركم و يأمركم- فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شي‏ء من أمركم- يمقتكم عليه- فإنه تعالى يقول- لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ- انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه- و أراكم من آياته و ما أعزكم به بعد الذلة- فاستمسكوا به يرض ربكم عنكم- و ابلوا ربكم في هذه المواطن أمرا- تستوجبون به الذي وعدكم من رحمته و مغفرته- فإن وعده حق و قوله صدق و عقابه شديد- و إنما أنا و أنتم بالله الحي القيوم- إليه ألجأنا ظهورنا و به اعتصمنا- و عليه توكلنا و إليه المصير و يغفر الله لي و للمسلمين – .

قال الواقدي- و لما رأى رسول الله ص قريشا تصوب من الوادي- و كان أول من طلع زمعة بن الأسود- على فرس له يتبعه ابنه- فاستجال بفرسه يريد أن يبنوا للقوم منزلا- فقال رسول الله ص اللهم إنك أنزلت علي الكتاب و أمرتني بالقتال- و وعدتني إحدى الطائفتين- و أنت لا تخلف الميعاد- اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها و فخرها- تخاذل و تكذب رسولك- اللهم نصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة
– و طلع عتبة بن ربيعة على جمل أحمر- فقال رسول الله ص- إن يك في أحد من القوم خير- ففي صاحب الجمل الأحمر- إن يطيعوه يرشدوا- .

قال الواقدي- و كان إيماء بن رحضة قد بعث إلى قريش ابنا له- بعشر جزائر حين مروا به أهداها لهم- و قال إن أحببتم أن يمدكم بسلاح و رجال- فإنا معدون لذلك مؤدون فعلنا- فأرسلوا أن وصلتك رحم- قد قضيت الذي عليك- و لعمري لئن‏ كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم- و لئن كنا نقاتل الله بزعم محمد- فما لأحد بالله طاقة- . قال الواقدي فروى خفاف بن إيماء بن رحضة- قال كان أبي ليس شي‏ء أحب إليه من إصلاح بين الناس- موكلا بذلك- فلما مرت به قريش أرسلني بجزائر عشر هدية لها- فأقبلت أسوقها و تبعني أبي- فدفعتها إلى قريش فقبلوها و وزعوها في القبائل- فمر أبي على عتبة بن ربيعة و هو سيد الناس يومئذ- فقال يا أبا الوليد ما هذا المسير- قال لا أدري و الله غلبت- قال فأنت سيد العشيرة- فما يمنعك أن ترجع بالناس و تحمل دم حليفك- و تحمل العير التي أصابوا بنخلة- فتوزعها على قومك- فو الله ما يطلبون قبل محمد إلا هذا- و الله يا أبا الوليد ما تقتلون بمحمد و أصحابه- إلا أنفسكم- . قال الواقدي- و حدثني ابن أبي الزناد عن أبيه- قال ما سمعنا بأحد سار بغير مال إلا عتبة بن ربيعة- .

قال الواقدي و روى محمد بن جبير بن مطعم- قال لما نزل القوم أرسل رسول الله ص- عمر بن الخطاب إلى قريش- فقال ارجعوا فلأن يلي هذا الأمر مني غيركم- أحب إلي من أن تلوه مني- و أن أليه من غيركم أحب إلى من أن أليه منكم- فقال حكيم بن حزام قد عرض نصفا فلبوه- و الله لا تنصرون عليه- بعد أن عرض عليكم من النصف ما عرض- و قال أبو جهل لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم- و لا نطلب أثرا بعد عين- و لا يعرض لعيرنا بعد هذا أبدا- .

قال الواقدي- و أقبل نفر من قريش حتى وردوا الحوض- منهم حكيم بن حزام فأراد المسلمون تنحيتهم عنه- فقال النبي ص دعوهم- فوردوا الماءفشربوا- فلم يشرب منهم أحد إلا قتل- إلا ما كان من حكيم بن حزام- . قال الواقدي فكان سعيد بن المسيب يقول- نجا حكيم من الدهر مرتين- لما أراد الله تعالى به من الخير- خرج رسول الله ص على نفر من المشركين- و هم جلوس يريدونه- فقرأ يس و نثر على رءوسهم التراب- فما أفلت منهم أحد إلا قتل ما عدا حكيم بن حزام- و ورد الحوض يوم بدر مع من ورده مع المشركين- فما ورده إلا من قتل إلا حكيم بن حزام- .

قال الواقدي فلما اطمأن القوم- بعثوا عمير بن وهب الجمحي و كان صاحب قداح- فقالوا احزر لنا محمدا و أصحابه- فاستجال بفرسه حول العسكر- و صوب في الوادي و صعد يقول- عسى أن يكون لهم مدد أو كمين- ثم رجع فقال لا مدد و لا كمين- و القوم ثلاثمائة إن زادوا قليلا- و معهم سبعون بعيرا و معهم فرسان- ثم قال يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا- نواضح يثرب تحمل الموت الناقع- قوم ليس لهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم- أ لا ترونهم خرسا لا يتكلمون- يتلمظون تلمظ الأفاعي- و الله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل رجلا- فإذا أصابوا منكم عددهم- فما خير في العيش بعد ذلك فروا رأيكم- .

قال الواقدي- و حدثني يونس بن محمد الظفري عن أبيه- أنه قال لما قال لهم عمير بن وهب هذه المقالة- أرسلوا أبا أسامة الجشمي و كان فارسا- فأطاف بالنبي ص و أصحابه- ثم رجع إليهم فقالوا له ما رأيت- قال و الله ما رأيت جلدا و لا عددا و لا حلقة و لا كراعا- و لكني و الله رأيت قوما- لا يريدون أن يردوا إلى أهليهم- رأيت قوما مستميتين- ليست معهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم- زرق العيون‏ كأنهم الحصا تحت الحجف- ثم قال أخشى أن يكون لهم كمين أو مدد- فصوب في الوادي ثم صعد ثم رجع إليهم- فقال لا كمين و لا مدد فروا رأيكم- .

قال الواقدي- و لما سمع حكيم بن حزام ما قال عمير بن وهب- مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة- فقال يا أبا الوليد- أنت كبير قريش و سيدها و المطاع فيها- فهل لك ألا تزال تذكر فيها بخير آخر الدهر- مع ما فعلت يوم عكاظ- و عتبة يومئذ رئيس الناس- فقال و ما ذاك يا أبا خالد- قال ترجع بالناس و تحمل دم حليفك- و ما أصابه محمد من تلك العير ببطن نخلة- إنكم لا تطلبون من محمد شيئا غير هذا الدم و العير- فقال عتبة قد فعلت و أنت علي بذلك- ثم جلس عتبة على جمله فسار في المشركين من قريش- يقول يا قوم أطيعوني- و لا تقاتلوا هذا الرجل و أصحابه- و اعصبوا هذا الأمر برأسي و اجعلوا جبنها في- فإن منهم رجالا قرابتهم قريبة- و لا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه و أخيه- فيورث ذلك بينكم شحناء و أضغانا- و لن تخلصوا إلى قتلهم حتى يصيبوا منكم عددهم- مع أنه لا آمن أن تكون الدائرة عليكم- و أنتم لا تطلبون إلا دم القتيل منكم- و العير التي أصيبت و أنا أحتمل ذلك- و هو علي يا قوم إن يك محمد كاذبا يكفيكموه ذؤبان العرب- و إن يك ملكا كنتم في ملك ابن أخيكم- و إن يك نبيا كنتم أسعد الناس به- يا قوم لا تردوا نصيحتي و لا تسفهوا رأيي- فحسده أبو جهل حين سمع خطبته- و قال إن يرجع الناس عن خطبة عتبة- يكن سيد الجماعة- و كان عتبة أنطق الناس- و أطولهم لسانا و أجملهم جمالا- ثم قال عتبة لهم أنشدكم الله في هذه الوجوه- التي كأنها المصابيح- أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه- التي كأنها وجوه الحيات- فلما فرغ عتبة من كلامه- قال أبو جهل إن عتبة يشير عليكم بهذا-لأن محمدا ابن عمه- و هو يكره أن يقتل ابنه و ابن عمه- امتلأ و الله سحرك يا عتبة و جبنت- حين التقت حلقتا البطان- الآن تخذل بيننا و تأمرنا بالرجوع- لا و الله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا و بين محمد- فغضب عتبة فقال يا مصفرا استه- ستعلم أينا أجبن و ألأم- و ستعلم قريش من الجبان المفسد لقومه و أنشد-

هذاي و أمرت أمري
فبشري بالثكل أم عمرو

قال الواقدي- و ذهب أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي- أخي عمرو بن الحضرمي المقتول بنخلة- فقال له هذا حليفك يعني عتبة- يريد أن يرجع بالناس و قد رأيت ثأرك بعينك- و تخذل بين الناس أ قد تحمل دم أخيك- و زعم أنك قابل الدية- أ لا تستحي تقبل الدية- و قد قدرت على قاتل أخيك- قم فانشد خفرتك فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف- ثم حثا على استه التراب و صرخ وا عمراه- يخزي بذلك عتبة لأنه حليفه من بين قريش- فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة- و حلف عامر لا يرجع حتى يقتل من أصحاب محمد- و قال أبو جهل لعمير بن وهب حرش بين الناس- فحمل عمير فناوش المسلمين لأن ينفض الصف- فثبت المسلمون على صفهم و لم يزولوا- و تقدم ابن الحضرمي فشد على القوم فنشبت الحرب- .

قال الواقدي- فروى نافع بن جبير عن حكيم بن حزام- قال لما أفسد الرأي أبو جهل على الناس- و حرش بينهم عامر بن الحضرمي فأقحم فرسه- كان أول من خرج إليه من المسلمين- مهجع مولى عمر بن الخطاب فقتله عامر- و كان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة بن سراقة- قتله حيان بن العرقة- . قال الواقدي و قال عمر بن الخطاب في مجلس ولايته- يا عمير بن وهب أنت‏ حاذرنا للمشركين يوم بدر- تصعد في الوادي و تصوب- كأني أنظر إلى فرسك تحتك تخبر المشركين- أنه لا كمين لنا و لا مدد- قال إي و الله يا أمير المؤمنين و أخرى- أنا و الله الذي حرشت بين الناس يومئذ- و لكن الله جاءنا بالإسلام و هدانا له- و ما كان فينا من الشرك أعظم من ذلك- قال عمر صدقت- .

قال الواقدي- و كان عتبة بن ربيعة كلم حكيم بن حزام- و قال ليس عند أحد خلاف إلا عند ابن الحنظلية- فاذهب إليه فقل له إن عتبة يحمل دم حليفه- و يضمن العير- قال حكيم فدخلت على أبي جهل- و هو يتخلق بخلوق طيب و درعه موضوعة بين يديه- فقلت إن عتبة بن ربيعة بعثني إليك- فأقبل علي مغضبا- فقال ما وجد عتبة أحدا يرسله غيرك- فقلت و الله لو كان غيره أرسلني ما مشيت في ذلك- و لكني مشيت في إصلاح بين الناس- و كان أبو الوليد سيد العشيرة- فغضب غضبة أخرى-

قال و تقول أيضا سيد العشيرة- فقلت أنا أقوله و قريش كلها تقوله- فأمر عامرا أن يصيح بخفرته و اكتشف- و قال إن عتبة جاع فاسقوه سويقا- و جعل المشركين يقولون- عتبة جاع فاسقوه سويقا- و جعل أبو جهل يسر بما صنع المشركون بعتبة- قال حكيم فجئت إلى منبه بن الحجاج- فقلت له مثل ما قلت لأبي جهل- فوجدته خيرا من أبي جهل- قال نعما مشيت فيه و ما دعا إليه عتبة- فرجعت إلى عتبة فوجدته قد غضب من كلام قريش- فنزل عن جمله- و قد كان طاف عليهم في عسكرهم- يأمرهم بالكف عن القتال- فيأبون فحمي فنزل فلبس درعه- و طلبوا له بيضة فلم يوجد في الجيش بيضة- تسع رأسه من عظم هامته- فلما رأى ذلك اعتجر- ثم برز راجلا بين أخيه شيبة و بين ابنه الوليد بن عتبة- فبينا أبو جهل في الصف على فرس أنثى- حاذاه عتبة و سل سيفه- فقيل هو و الله يقتله- فضرب بالسيف عرقوب فرس أبي جهل- فاكتسعت الفرس-و قال انزل فإن هذا اليوم ليس بيوم ركوب- ليس كل قومك راكبا- فنزل أبو جهل و عتبة يقول- سيعلم أينا شؤم عشيرته الغداة- قال حكيم فقلت تالله ما رأيت كاليوم- .

قال الواقدي- ثم دعا عتبة إلى المبارزة و رسول الله ص في العريش- و أصحابه على صفوفهم فاضطجع فغشيه النوم- و قال لا تقاتلوا حتى أوذنكم- و إن كثبوكم فارموهم- و لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم- فقال أبو بكر يا رسول الله قد دنا القوم- و قد نالوا منا فاستيقظ- و قد أراه الله إياهم في منامه قليلا- و قلل بعضهم في أعين بعض- ففزع رسول الله ص و هو رافع يديه- يناشد ربه ما وعده من النصر- و يقول اللهم إن تظهر علي هذه العصابة- يظهر الشرك و لا يقم لك دين – و أبو بكر يقول- و الله لينصرنك الله و ليبيضن وجهك- قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله- إني أشير عليك و أنت أعظم و أعلم بالله- من أن يشار عليك- إن الله أجل و أعظم من أن ينشد وعده- فقال ع يا ابن رواحة- أ لا أنشد الله وعده- إن الله لا يخلف الميعاد- و أقبل عتبة يعمد إلى القتال- فقال له حكيم بن حزام- مهلا مهلا يا أبا الوليد- لا تنه عن شي‏ء و تكون أوله- .

قال الواقدي قال خفاف بن إيماء- فرأيت أصحاب النبي ص يوم بدر- و قد تصاف الناس و تزاحفوا و هم لا يسلون السيوف- و لكنهم قد انتضوا القسي- و قد تترس بعضهم عن بعض- بصفوف متقاربة لا فرج بينها- و الآخرون قد سلوا السيوف حين طلعوا- فعجبت من ذلك- فسألت بعد ذلك رجلا من المهاجرين- فقال أمرنا رسول الله ص ألا نسل السيوف حتى يغشونا- . قال الواقدي- فلما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسد المخزومي- حين دنا من‏ الحوض- أعاهد الله لأشربن من حوضهم- أو لأهدمنه أو لأموتن دونه- فشد حتى دنا من الحوض- و استقبله حمزة بن عبد المطلب- فضربه فأطن قدمه- فزحف الأسود ليبر قسمه زعم- حتى وقف في الحوض فهدمه برجله الصحيحة- و شرب منه و أتبعه حمزة فضربه في الحوض فقتله- و المشركون ينظرون ذلك على صفوفهم- .

قال الواقدي- و دنا الناس بعضهم من بعض- فخرج عتبة و شيبة و الوليد حتى فصلوا من الصف- ثم دعوا إلى المبارزة- فخرج إليهم فتيان ثلاثة من الأنصار و هم بنو عفراء- معاذ و معوذ و عوف بنو الحارث- و يقال إن ثالثهم عبد الله بن رواحة- و الثابت عندنا أنهم بنو عفراء- فاستحى رسول الله ص من ذلك- و كره أن يكون أول قتال- لقي المسلمون فيه المشركين في الأنصار- و أحب أن تكون الشوكة لبني عمه و قومه- فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم و قال لهم خيرا- ثم نادى منادي المشركين- يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا- فقال لهم رسول الله ص يا بني هاشم قوموا فقاتلوا- بحقكم الذي بعث الله به نبيكم- إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله- فقام حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب- و عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف- فمشوا إليهم فقال عتبة- تكلموا نعرفكم و كان عليهم البيض- فأنكروهم فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم و روى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي- خلاف هذه الرواية- قال إن بني عفراء و عبد الله بن رواحة- برزوا إلى عتبة و شيبة و الوليد- فقالوا لهم من أنتم قالوا رهط من الأنصار- فقالوا ارجعوا فما لنا بكم من حاجة- ثم نادى مناديهم يا محمد-أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا- فقال رسول الله ص قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان- .

قلت و هذه الرواية أشهر من رواية الواقدي- و في رواية الواقدي ما يؤكد صحة رواية محمد بن إسحاق- و هو قوله إن منادي المشركين نادى يا محمد- أخرج إلينا الأكفاء من قومنا- فلو لم يكن قد كلمهم بنو عفراء و كلموهم و ردوهم- لما نادى مناديهم بذلك- و يدل على ذلك قول بعض القرشيين- لبعض الأنصار في فخر فخر به عليه- أنا من قوم لم يرض مشركوهم- أن يقتلوا مؤمني قومك- . قال الواقدي فقال حمزة أنا حمزة بن عبد المطلب- أسد الله و أسد رسوله- فقال عتبة كف‏ء كريم و أنا أسد الحلفاء- من هذان معك قال علي بن أبي طالب- و عبيدة بن الحارث بن المطلب- فقال كفآن كريمان- .

قال الواقدي قال ابن أبي الزناد حدثني أبي- قال لم أسمع لعتبة كلمة قط أوهن من قوله- أنا أسد الحلفاء يعني بالحلفاء الأجمة- . قلت قد روي هذه الكلمة على صيغة أخرى- و أنا أسد الحلفاء- و روي أنا أسد الأحلاف- . قالوا في تفسيرهما أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين- و كان الذين حضروه بني عبد مناف- و بني أسد بن عبد العزى و بني تيم- و بني زهرة و بني الحارث بن فهر- خمس قبائل- و رد قوم هذا التأويل- فقالوا إن المطيبين لم يكن يقال لهم- الحلفاء و لا الأحلاف- و إنما ذلك لقب خصومهم و أعدائهم- الذين وقع التحالف لأجلهم- و هم بنو عبد الدار و بنو مخزوم- و بنو سهم و بنو جمح و بنو عدي بن كعب- خمس‏ قبائل- و قال قوم في تفسيرهما إنما عنى حلف الفضول- و كان بعد حلف المطيبين بزمان- و شهد حلف الفضول رسول الله ص- و هو صغير في دار ابن جدعان- و كان سببه أن رجلا من اليمن قدم مكة بمتاع- فاشتراه العاص بن وائل السهمي و مطله بالثمن حتى أتعبه- فقام بالحجر و ناشد قريشا ظلامته- فاجتمع بنو هاشم و بنو أسد بن عبد العزى- و بنو زهرة و بنو تميم في دار ابن جدعان- فتحالفوا غمسوا أيديهم في ماء زمزم- بعد أن غسلوا به أركان البيت- أن ينصروا كل مظلوم بمكة- و يردوا عليه ظلامته و يأخذوا على يد الظالم- و ينهوا عن كل منكر ما بل بحر صوفة- فسمي حلف الفضول لفضله- و
قد ذكره رسول الله ص فقال شهدته و ما أحب أن لي به حمر النعم- و لا يزيده الإسلام إلا شدة – و هذا التفسير أيضا غير صحيح- لأن بني عبد الشمس لم يكونوا في حلف الفضول- فقد بان أن ما ذكره الواقدي أصح و أثبت- .

قال الواقدي ثم قال عتبة لابنه- قم يا وليد فقام الوليد و قام إليه علي- و كانا أصغر النفر فاختلفا ضربتين- فقتله علي بن أبي طالب ع- ثم قام عتبة و قام إليه حمزة فاختلفا ضربتين- فقتله حمزة رضي الله عنه- ثم قام شيبة و قام إليه عبيدة- و هو يومئذ أسن أصحاب رسول الله ص- فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف- فأصاب عضلة ساقه فقطعها- و كر حمزة و علي على شيبة فقتلاه- و احتملا عبيدة فحازاه إلى الصف- و مخ ساقه يسيل- فقال عبيدة يا رسول الله أ لست شهيدا- قال بلى قال أما و الله لو كان أبو طالب حيا- لعلم أني أحق بما قال حين يقول-

كذبتم و بيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه و نناضل‏

و ننصره حتى نصرع حوله‏
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل‏

و نزلت فيهم هذه الآية- هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ- .و روى محمد بن إسحاق- أن عتبة بارز عبيدة بن الحارث- و أن شيبة بارز حمزة بن عبد المطلب- فقتل حمزة شيبة لم يمهله أن قتله- و لم يمهل علي الوليد أن قتله- و اختلف عبيدة و عتبة بينهما ضربتين- كلاهما أثبت صاحبه- و كر حمزة و علي ع على عتبة بأسيافهما- حتى وقعا عليه و احتملا صاحبهما- فحازاه إلى الصف- . قلت- و هذه الرواية توافق ما يذكره أمير المؤمنين ع في كلامه- إذ يقول لمعاوية- و عندي السيف الذي أعضضت به- أخاك و خالك و جدك يوم بدر- و يقول في موضع آخر- قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و خالك و جدك- و ما هي من الظالمين ببعيد- . و اختار البلاذري رواية الواقدي- و قال إن حمزة قتل عتبة- و إن عليا ع قتل الوليد و شرك في قتل شيبة- .

و هذا هو المناسب لأحوالهم من طريق السن- لأن شيبة أسن الثلاثة- فجعل بإزاء عبيدة و هو أسن الثلاثة- و الوليد أصغر الثلاثة سنا- فجعل بإزاء علي ع و هو أصغر الثلاثة سنا- و عتبة أوسطهم سنا فجعل بإزاء حمزة- و هو أوسطهم سنا- و أيضا فإن عتبة كان أمثل الثلاثة- فمقتضى القياس أن يكون قرنه أمثل الثلاثة- و هو حمزة إذ ذاك- لأن عليا ع لم يكن قد اشتهر أمره جدا- و إنما اشتهر الشهرة التامة بعد بدر- و لمن روى أن حمزة بارز شيبة و هي رواية ابن إسحاق- أن ينتصر بشعر هند بنت عتبة ترثي أباها-

أ عيني جودا بدمع سرب
على خير خندف لم ينقلب‏

تداعى له رهطه قصرة
بنو هاشم و بنو المطلب‏

يذيقونه حر أسيافهم
يعلونه بعد ما قد عطب‏

فإذا كانت قد قالت إن عتبة أباها- أذاقه بنو هاشم و بنو المطلب حر أسيافهم- فقد ثبت أن المبارز لعتبة إنما هو عبيدة- لأنه من بني المطلب جرح عتبة- فأثبته ثم ذفف عليه حمزة و علي ع- فأما الشيعة فإنها تروي أن حمزة بادر عتبة فقتله- و أن اشتراك علي و حمزة إنما هو في دم شيبة- بعد أن جرحه عبيدة بن الحارث- هكذا ذكر محمد بن النعمان في كتاب الإرشاد- و هو خلاف ما تنطق به كتب أمير المؤمنين ع إلى معاوية- و الأمر عندي مشتبه في هذا الموضع- .

و روى محمد بن النعمان عن أمير المؤمنين ع أنه كان يذكر يوم بدر و يقول- أختلف أنا و الوليد بن عتبة ضربتين- فأخطأتني ضربته- و أضربه فاتقاني بيده اليسرى فأبانها السيف- فكأني أنظر إلى وميض خاتم في شماله- ثم ضربته أخرى فصرعته و سلبته- فرأيت به الردع من خلوق- فعلمت أنه قريب عهد بعرس قال الواقدي- و قد روي أن عتبة بن ربيعة حين دعا إلى البراز- قام إليه ابنه أبو حذيفة بن عتبة يبارزه- فقال له النبي ص اجلس- فلما قام إليه النفر- أعان أبو حذيفة على أبيه عتبة بضربة- .

قال الواقدي و أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه- قال شيبة أكبر من عتبة بثلاث سنين- و حمزة أسن من النبي ص بأربع سنين- و العباس أسن من النبي ص بثلاث سنين- . قال الواقدي و استفتح أبو جهل يوم بدر- فقال اللهم أقطعنا للرحم و آتانا بما لا يعلم- فأحنه الغداة فأنزل الله تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ الآية- .

قال الواقدي و روى عروة عن عائشة- أن النبي ص جعل شعار المهاجرين يوم بدر- يا بني عبد الرحمن- و شعار الخزرج يا بني عبد الله- و شعار الأوس يا بني عبد الله- . قال و روى زيد بن علي بن الحسين ع- أن شعار رسول الله ص يوم بدر يا منصور أمت- . قال الواقدي- و نهى رسول الله ص عن قتل أبي البختري- و كان قد لبس السلاح بمكة يوما قبل الهجرة- في بعض ما كان ينال النبي ص من الأذى- و قال لا يعرض اليوم أحد لمحمد بأذى- إلا وضعت فيه السلاح- فشكر ذلك له النبي ص- قال أبو داود المازني فلحقته يوم بدر- فقلت له إن رسول الله ص- قد نهى عن قتلك إن أعطيت بيدك- قال و ما تريد إلي إن كان قد نهى عن قتلي- فقد كنت أبليته ذلك- فأما أن أعطي بيدي- فو اللات و العزى لقد علمت نسوة بمكة أني لا أعطي بيدي- و قد عرفت أنك لا تدعني فافعل الذي تريد- فرماه أبو داود بسهم- و قال اللهم سهمك و أبو البختري عبدك- فضعه في مقتله- و أبو البختري دارع ففتق السهم الدرع فقتله- .

قال الواقدي- و يقال إن المجذر بن ذياد قتل أبا البختري و لا يعرفه- و قال المجذر في ذلك شعرا عرف منه أنه قاتله- . و في رواية محمد بن إسحاق- أن رسول الله ص نهى يوم بدر عن قتل أبي البختري- و اسمه الوليد بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى- لأنه كان أكف‏الناس عن رسول الله ص بمكة- كان لا يؤذيه و لا يبلغه عنه شي‏ء يكرهه- و كان فيمن قام في نقض الصحيفة- التي كتبتها قريش على بني هاشم- فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار- فقال له إن رسول الله ص نهانا عن قتلك- و مع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة- يقال له جنادة بن مليحة فقال البختري و زميلي- قال المجذر و الله ما نحن بتاركي زميلك- ما نهانا رسول الله ص إلا عنك وحدك- قال إذا و الله لأموتن أنا و هو جميعا- لا تتحدث عني نساء أهل مكة- أني تركت زميلي حرصا على الحياة- فنازله المجذر و ارتجز أبو البختري فقال-

لن يسلم ابن حرة زميله
حتى يموت أو يرى سبيله‏

 ثم اقتتلا فقتله المجذر- و جاء إلى رسول الله ص فأخبره- و قال و الذي بعثك بالحق- لقد جهدت أن يستأسر فآتيك به- فأبى إلا القتال فقاتلته فقتلته- . قال الواقدي- و نهى النبي ص عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل- و قال ائسروه و لا تقتلوه و كان كارها للخروج إلى بدر- فلقيه خبيب بن يساف فقتله و لا يعرفه- فبلغ النبي ص ذلك- فقال لو وجدته قبل أن يقتل لتركته لنسائه- و نهى عن قتل زمعة بن الأسود- فقتله ثابت بن الجذع و لا يعرفه- . قال الواقدي- و ارتجز عدي بن أبي الزغباء يوم بدر فقال-

أنا عدي و السحل
أمشي بها مشي الفحل‏

يعني درعه- فقال النبي ص من عدي- فقال رجل من القوم أنا يا رسول الله- قال و ما ذا قال ابن فلان- قال لست أنت عديا- فقال عدي بن أبي‏الزغباء- أنا يا رسول الله عدي قال و ما ذا- قال و السحل أمشي بها مشي الفحل- قال النبي ص و ما السحل- قال درعي فقال ص- نعم العدي عدي بن أبي الزغباء- . قال الواقدي و كان عقبة بن أبي معيط قال بمكة- حين هاجر رسول الله ص إلى المدينة-

يا راكب الناقة القصواء ها
جرنا عما قليل تراني راكب الفرس‏

أعل رمحي فيكم ثم أنهله‏
و السيف يأخذ منكم كل ملتبس‏

فبلغ قوله النبي ص- فقال اللهم أكبه لمنخره و اصرعه- فجمح به فرسه يوم بدر بعد أن ولى الناس- فأخذه عبد الله بن سلمة العجلاني أسيرا- و أمر النبي ص عاصم بن أبي الأقلح فضرب عنقه صبرا- . قال الواقدي و كان عبد الرحمن يحدث يقول- إني لأجمع أدراعا يوم بدر بعد أن ولى الناس- فإذا أمية بن خلف و كان لي صديقا في الجاهلية- و كان اسمي عبد عمرو- فلما جاء الإسلام تسميت عبد الرحمن- فكان يلقاني بمكة فيقول يا عبد عمرو فلا أجيبه- فيقول إني لا أقول لك عبد الرحمن- إن مسيلمة باليمامة تسمى بالرحمن- فأنا لا أدعوك إليه- فكان يدعوني عبد الإله- فلما كان يوم بدر رأيته و كأنه جمل يساق- و معه ابنه علي فناداني يا عبد عمرو- فأبيت أن أجيبه فناداني يا عبد الإله- فأجبته فقال أ ما لكم حاجة في اللبن- نحن خير لك من أدرعك هذه- فقلت امضيا فجعلت أسوقهما أمامي- و قد رأى أمية أنه قد أمن بعض الأمن- فقال لي أمية رأيت رجلا فيكم اليوم- معلما في صدره بريشة نعامة من هو- فقلت حمزة بن عبد المطلب-فقال ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل- ثم قال فمن رجل دحداح قصير معلم بعصابة حمراء- قلت ذاك رجل من الأنصار يقال له سماك بن خرشة- قال و بذاك أيضا يا عبد الإله صرنا اليوم جزرا لكم- قال فبينا هو معي أزجيه أمامي و معه ابنه- إذ بصر به بلال و هو يعجن عجينا له فترك العجين- و جعل يفتل يديه منه فتلا ذريعا- و هو ينادي يا معشر الأنصار أمية بن خلف رأس الكفر- لا نجوت إن نجوت قال لأنه كان يعذبه بمكة- فأقبلت الأنصار كأنهم عوذ حنت إلى أولادها- حتى طرحوا أمية على ظهره- و اضطجعت عليه أحميه منهم- فأقبل الخباب بن المنذر فأدخل سيفه- فاقتطع أرنبة أنفه- فلما فقد أمية أنفه قال لي إيها عنك- أي خل بيني و بينهم- قال عبد الرحمن فذكرت قول حسان- أو عن ذلك الأنف جادع‏- .

قال و يقبل إليه خبيب بن يساف فضربه حتى قتله- و قد كان أمية ضرب خبيب بن يساف- حتى قطع يده من المنكب- فأعادها النبي ص فالتحمت و استوت- فتزوج خبيب بن يساف بعد ذلك ابنة أمية بن خلف- فرأت تلك الضربة- فقالت لا يشل الله يد رجل فعل هذا- فقال خبيب و أنا و الله قد أوردته شعوب- فكان خبيب يحدث يقول فأضربه فوق العاتق- فأقطع عاتقه حتى بلغت مؤتزره و عليه الدرع- و أنا أقول خذها و أنا ابن يساف- و أخذت سلاحه و درعه- و أقبل علي بن أمية فتعرض له الخباب فقطع رجله- فصاح صيحة ما سمع مثلها قط- و لقيه عمار فضربه ضربة فقتله- و يقال إن عمارا لاقاه قبل ضربة الخباب- فاختلفا ضربات فقتله عمار- و الأولى أثبت أنه ضربه بعد أن قطعت رجله- . قال الواقدي و قد سمعنا في قتل أمية غير ذلك-

حدثني عبيد بن يحيى عن معاذ بن‏ رفاعة عن أبيه- قال لما كان يوم بدر و أحدقنا بأمية بن خلف- و كان له فيهم شأن و معي رمحي و معه رمحه- فتطاعنا حتى سقطت أزجتها- ثم صرنا إلى السيفين فتضاربنا بهما حتى انثلما- ثم بصرت بفتق في درعه تحت إبطه- فحششت السيف فيه حتى قتلته- و خرج السيف عليه الودك قال الواقدي و قد سمعنا وجها آخر- حدثني محمد بن قدامة بن موسى عن أبيه- عن عائشة بنت قدامة- قالت قال صفوان بن أمية بن خلف يوما- يا قدام لقدامة بن مظعون- أنت المشلي بأبي يوم بدر الناس- فقال قدامة لا و الله ما فعلت- و لو فعلت ما اعتذرت من قتل مشرك- قال صفوان فمن يا قدام المشلي به يوم بدر- قال رأيت فتية من الأنصار أقبلوا إليه- فيهم معمر بن خبيب بن عبيد الحارث- يرفع سيفه و يضعه فيه- فقال صفوان أبو قرد و كان معمر رجلا دميما- فسمع بذلك الحارث بن حاطب فغضب له- فدخل على أم صفوان- فقال ما يدعنا صفوان من الأذى في الجاهلية و الإسلام- قالت و ما ذاك فأخبرها بمقالة صفوان لمعمر- حين قال أبو قرد فقالت أم صفوان- يا صفوان أ تنتقص معمر بن خبيب من أهل بدر- و الله لا أقبل لك كرامة سنة- قال صفوان يا أمة لا أعود و الله أبدا- تكلمت بكلمة لم ألق لها بالا- .

قال الواقدي و حدثني محمد بن قدامة عن أبيه- عن عائشة بنت قدامة- قالت قيل لأم صفوان بن أمية- و نظرت إلى الخباب بن المنذر بمكة- هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر- قالت دعونا عن ذكر من قتل على الشرك- قد أهان الله عليا بضربة الخباب بن المنذر- و أكرم الله الخباب بضربته عليا- و لقد كان على الإسلام حين خرج من هاهنا- فقتل على غير ذلك- .

فأما محمد بن إسحاق- فإنه قال قال عبد الرحمن بن عوف- أخذت بيد أمية بن خلف- و يد ابنه علي بن أمية أسيرين يوم بدر- فبينا أنا أمشي بينهما رآنا بلال- و كان أمية هو الذي يعذب بلالا بمكة- يخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت- فيضجعه على ظهره ثم يأمره بالصخرة العظيمة- فتوضع بحرارتها على صدره- و يقول له لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد- فيقول بلال أحد أحد لا يزيده على ذلك- فلما رآه صاح رأس الكفر أمية بن خلف- لا نجوت إن نجوت- قال عبد الرحمن فقلت أي بلال أسيري- فقال لا نجوت إن نجا- فقلت استمع يا ابن السوداء- قال لا نجوت إن نجا ثم صرخ بأعلى صوته- يا أنصار الله أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجا- فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة و أنا أذب عنه- و يحذف عمار بن ياسر عليا ابنه بالسيف- فأصاب رجله فوقع- و صاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط- فخليت عنه و قلت انج بنفسك و لا نجاء به- فو الله ما أغني عنك شيئا- قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما- قال فكان عبد الرحمن بن عوف يقول- رحم الله بلالا أذهب أدرعي و فجعني بأسيري- .

قال الواقدي و كان الزبير بن العوام يحدث فيقول- لما كان يومئذ لقيت عبيدة بن سعد بن العاص على فرس- عليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه- و هو يقول و كانت له صبية صغيرة- يحملها و كان لها بطين و كانت مقسمة- أنا أبو ذات الكرش أنا أبو ذات‏الكرش- قال و في يدي عنزة فأطعن بها في عينه و وقع- و أطؤه برجلي على خده- حتى أخرجت العنزة متعقفة و أخرجت حدقته- و أخذ رسول الله ص تلك العنزة- فكانت تحمل بين يديه- ثم صارت تحمل بين يدي أبي بكر و عمر و عثمان- .

قال الواقدي- و أقبل عاصم بن أبي عوف بن صبيرة السهمي- لما جال الناس و اختلطوا و كأنه ذئب و هو يقول- يا معشر قريش عليكم بالقاطع مفرق الجماعة- الآتي بما لا يعرف محمد- لا نجوت إن نجا- و يعترضه أبو دجانة فاختلفا ضربتين- و يضربه أبو دجانة فقتله و وقف على سلبه يسلبه- فمر به عمر بن الخطاب فقال- دع سلبه حتى يجهض العدو- و أنا أشهد لك به قال الواقدي- و يقبل معبد بن وهب أحد بني عامر بن لؤي- فضرب أبا دجانة ضربة- برك منها أبو دجانة كما يبرك الجمل- ثم انتهض و أقبل على معبد- فضربه ضربات لم يصنع سيفه شيئا- حتى يقع معبد بحفرة أمامه لا يراها- و نزل أبو دجانة عليه- فذبحه ذبحا و أخذ سلبه- .

قال الواقدي- و لما كان يومئذ و رأت بنو مخزوم مقتل من قتل- قالت أبو الحكم لا يخلص إليه- فإن ابني ربيعة عجلا و بطرا- و لم تحام عنهما عشيرتهما- فاجتمعت بنو مخزوم فأحدقوا به- فجعلوه في مثل الحرجة- و أجمعوا أن يلبسوا لأمة أبي جهل رجلا منهم- فألبسوها عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة- فصمد له علي ع فقتله و هو يراه أبا جهل- و مضى عنه و هو يقول أنا ابن عبد المطلب- ثم ألبسوها أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة- فصمد له حمزة و هو يراه أبا جهل- فضربه فقتله و هو يقول- خذها و أنا ابن عبد المطلب- ثم ألبسوها حرملة بن عمرو- فصمد له علي ع فقتله- ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم- فأبى أن يلبسها- قال معاذ بن عمرو بن الجموح- فنظرت يومئذ إلى أبي جهل في مثل الحرجة- و هم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه- فعرفت أنه هو فقلت- و الله لأموتن دونه اليوم أو لأخلصن إليه- فصمدت له حتى إذا أمكنتني منه غرة حملت عليه- فضربته ضربة طرحت رجله من الساق- فشبهتها النواة تنزو من تحت المراضخ- فأقبل ابنه عكرمة علي فضربني على عاتقي- فطرح يدي من العاتق إلا أنه بقيت جلدة- فذهبت أسحب يدي بتلك الجلدة خلفي- فلما آذتني وضعت عليها رجلي- ثم تمطيت عليها فقطعتها- ثم لاقيت عكرمة و هو يلوذ كل ملاذ- و لو كانت يدي معي لرجوت يومئذ أن أصيبه- و مات معاذ في زمن عثمان- .

قال الواقدي- فروي أن رسول الله ص- نفل معاذ بن عمرو بن الجموح سيف أبي جهل- و أنه عند آل معاذ بن عمرو اليوم و به فل- بعد أن أرسل النبي ص- إلى عكرمة بن أبي جهل- يسأله من قتل أباك- قال الذي قطعت يده- فدفع رسول الله ص سيفه إلى معاذ بن عمرو- لأن عكرمة بن أبي جهل قطع يده يوم بدر- . قال الواقدي- و ما كان بنو المغيرة يشكون أن سيف أبي الحكم- صار إلى معاذ بن عمرو بن الجموح- و أنه قاتله يوم بدر- .

قال الواقدي- و قد سمعت في قتله و أخذ سلبه غير هذا- حدثني عبد الحميد بن جعفر عن عمر بن الحكم بن ثوبان- عن عبد الرحمن بن عوف- قال عبأنا رسول الله ص بليل- فأصبحنا و نحن على صفوفنا- فإذا بغلامين ليس منهما واحد- إلا قد ربطت حمائل سيفه في عنقه لصغره- فالتفت إلي أحدهما فقال يا عم أيهم أبو جهل- قال قلت و ما تصنع به يا ابن أخي- قال بلغني أنه يسب رسول الله ص- فحلفت لئن رأيته لأقتلنه أو لأموتن دونه- فأشرت إليه فالتفت إلي الآخر و قال لي مثل ذلك- فأشرت له إليه و قلت له من أنتما- قالا ابنا الحارث- قال فجعلا لا يطرفان عن أبي جهل- حتى إذا كان القتال خلصا إليه فقتلاه و قتلهما- .

قال الواقدي فحدثني محمد بن عوف- عن إبراهيم بن يحيى بن زيد بن ثابت- قال لما كان يومئذ قال عبد الرحمن- و نظر إليهما عن يمينه و عن شماله- ليته كان إلى جنبي من هو أبدن من هذين الصبيين- فلم أنشب أن التفت إلى عوف- فقال أيهم أبو جهل- فقلت ذاك حيث ترى- فخرج يعدو إليه كأنه سبع- و لحقه أخوه فأنا أنظر إليهم- يضطربون بالسيوف- ثم نظرت إلى رسول الله ص يمر بهم في القتلى- و هما إلى جانب أبي جهل- .

قال الواقدي و حدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة- قال سمعت أبي ينكر ما يقول الناس- في ابني عفراء من صغرهما- و يقول كانا يوم بدر أصغرهما ابن خمس و ثلاثين سنة- فهذا يربط حمائل سيفه- قال الواقدي و القول الأول أثبت- . و روى محمد بن عمار بن ياسر- عن ربيع بنت معوذ قالت- دخلت في نسوة من الأنصار على أسماء أم أبي جهل- في زمن عمر بن الخطاب- و كان ابنها عبد الله بن أبي ربيعة- يبعث إليها بعطر من اليمن- فكانت تبيعه إلى الأعطية فكنا نشتري منها- فلما جعلت لي في قواريري- و وزنت لي كما وزنت لصواحبي- قال اكتبن لي عليكن حقي- قلت نعم اكتب لها على الربيع بنت معوذ- فقالت أسماء خلفي و إنك لابنة قاتل سيده- فقلت لا و لكن ابنة قاتل عبده- فقالت و الله لا أبيعك شيئا أبدا- فقلت أنا و الله لا أشتري منك أبدا- فو الله ما هو بطيب و لا عرف- و الله يا بني ما شممت عطرا قط كان أطيب منه- و لكني يا بني غضبت قال الواقدي فلما وضعت الحرب أوزارها- أمر رسول الله ص أن يلتمس أبو جهل-

قال ابن مسعود فوجدته في آخر رمق- فوضعت رجلي على عنقه- فقلت الحمد لله الذي أخزاك- قال إنما أخزى الله العبد ابن أم عبد- لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا- لمن الدبرة قلت لله و لرسوله- قال ابن مسعود فأقلع بيضته عن قفاه- و قلت إني قاتلك- قال لست بأول عبد قتل سيده- أما إن أشد ما لقيته اليوم لقتلك إياي- ألا يكون ولي قتلي- رجل من الأحلاف أو من المطيبين- قال فضربه عبد الله ضربة وقع رأسه بين يديه- ثم سلبه و أقبل بسلاحه و درعه و بيضته- فوضعها بين يدي رسول الله ص- فقال أبشر يا نبي الله بقتل عدو الله أبي جهل- فقال رسول الله أ حقا يا عبد الله- فو الذي نفسي بيده لهو أحب إلي من حمر النعم- أو كما قال ثم قال إنه أصابه جحش- من دفع دفعته في مأدبة ابن جدعان- فجحشت ركبته فالتمسوه- فوجدوا ذلك الأثر- .

قال الواقدي- و روي أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي- كان عند النبي ص تلك الساعة- فوجد في نفسه- و أقبل على ابن مسعود و قال أنت قتلته- قال نعم الله قتله- قال أبو سلمة أنت وليت قتله قال نعم- قال لو شاء لجعلك في كمه- فقال ابن مسعود فقد و الله قتلته و جردته- فقال أبو سلمة فما علامته- قال شامة سوداء ببطن فخذه اليمنى- فعرف أبو سلمة النعت- فقال أ جردته و لم يجرد قرشي غيره- فقال‏ ابن مسعود- إنه و الله لم يكن في قريش و لا في حلفائها- أحد أعدى لله و لا لرسوله منه- و ما أعتذر من شي‏ء صنعته به فأمسك أبو سلمة- .

قال الواقدي سمع أبو سلمة بعد ذلك- يستغفر الله من كلامه في أبي جهل و قال- اللهم إنك قد أنجزت ما وعدتني فتمم علي نعمتك- قال و كان عبد الله بن عتبة بن مسعود يقول- سيف أبي جهل عندنا محلى بفضة- غنمه عبد الله بن مسعود يومئذ- . قال الواقدي اجتمع قول أصحابنا- أن معاذ بن عمرو و ابني عفراء أثبتوه- و ضرب ابن مسعود عنقه في آخر رمق- فكل شرك في قتله- . قال الواقدي و قد روي أن رسول الله ص وقف على مصرع ابني عفراء- فقال يرحم الله ابني عفراء- فإنهما قد شركا في قتل فرعون هذه الأمة- و رأس أئمة الكفر- فقيل يا رسول الله و من قتله معهما- قال الملائكة و ذفف عليه ابن مسعود- فكان قد شرك في قتله – .

قال الواقدي و حدثني معمر عن الزهري قال- قال رسول الله ص يوم بدر اللهم اكفني نوفل بن العدوية و هو نوفل بن خويلد- من بني أسد بن عبد العزى- و أقبل نوفل يومئذ يصيح و هو مرعوب- قد رأى قتل أصحابه- و كان في أول ما التقوا هم و المسلمون- يصيح بصوت له زجل رافعا عقيرته- يا معشر قريش إن هذا اليوم يوم العلاء و الرفعة- فلما رأى قريشا قد انكشفت جعل يصيح بالأنصار- ما حاجتكم إلى دمائنا- أ ما ترون من تقتلون- أ ما لكم في اللبن من حاجة- فأسره جبار بن صخر فهو يسوقه أمامه- فجعل نوفل يقول لجبار- و رأى عليا ع مقبلا نحوه- يا أخا الأنصار من هذا و اللات و العزى- إني لأرى رجلا إنه ليريدني- قال‏ جبار هذا علي بن أبي طالب- قال نوفل- تالله ما رأيت كاليوم رجلا أسرع في قومه- فصمد له علي ع- فيضربه فينشب سيف علي في حجفته ساعة- ثم ينزعه فيضرب به ساقيه- و درعه مشتمرة فيقطعها- ثم أجهز عليه فقتله- فقال رسول الله ص من له علم بنوفل بن خويلد- قال علي ع أنا قتلته- فكبر رسول الله ص- و قال الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه – .

قال الواقدي- و أقبل العاص بن سعيد بن العاص يبحث للقتال- فالتقى هو و علي ع و قتله علي- فكان عمر بن الخطاب- يقول لابنه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص- ما لي أراك معرضا تظن أني قتلت أباك- فقال سعيد لو قتلته لكان على الباطل و كنت على الحق- قال فقال عمر إن قريشا أعظم الناس أحلاما- و أكثرها أمانة- لا يبغيهم أحد الغوائل إلا كبه الله لفيه- . قال الواقدي- و روي أن عمر قال لسعيد بن العاص- ما لي أراك معرضا كأني قتلت أباك يوم بدر- و إن كنت لا أعتذر من قتل مشرك- لقد قتلت خالي بيدي العاص بن هاشم بن المغيرة- .

و نقلت من غير كتاب الواقدي- أن عثمان بن عفان و سعيد بن العاص- حضرا عند عمر في أيام خلافته- فجلس سعيد بن العاص حجرة- فنظر إليه عمر فقال ما لي أراك معرضا- كأني قتلت أباك إني لم أقتله- و لكنه قتله أبو حسن و كان علي ع حاضرا- فقال اللهم غفرا ذهب الشرك بما فيه- و محا الإسلام ما قبله- فلما ذا تهاج‏ القلوب فسكت عمر- و قال سعيد لقد قتله كف‏ء كريم- و هو أحب إلي من أن يقتله من ليس من بني عبد مناف- .

قال الواقدي و كان علي ع يحدث فيقول إني يومئذ بعد ما متع النهار- و نحن و المشركون قد اختلطت صفوفنا و صفوفهم- خرجت في إثر رجل منهم- فإذا رجل من المشركين على كثيب رمل و سعد بن خيثمة- و هما يقتتلان حتى قتل المشرك سعد بن خيثمة- و المشرك مقنع في الحديد و كان فارسا- فاقتحم عن فرسه فعرفني و هو معلم- فناداني هلم يا ابن أبي طالب إلى البراز- فعطفت إلى البراز فعطفت عليه- فانحط إلي مقبلا و كنت رجلا قصيرا- فانحططت راجعا لكي ينزل إلي- كرهت أن يعلوني- فقال يا ابن أبي طالب فررت- فقلت قريبا مفر ابن الشتراء- فلما استقرت قدماي و ثبت أقبل- فاتقيت فلما دنا مني ضربني بالدرقة- فوقع سيفه فلحج فأضربه على عاتقه و هو دارع- فارتعش و لقد قط سيفي درعه- فظننت أن سيفي سيقتله- فإذا بريق سيف من ورائي فطأطأت رأسي- و يقع السيف فأطن قحف رأسه بالبيضة- و هو يقول خذها و أنا ابن عبد المطلب- فالتفت من ورائي فإذا هو حمزة عمي- و المقتول طعيمة بن عدي – .

قلت في رواية محمد بن إسحاق بن يسار- أن طعيمة بن عدي قتله علي بن أبي طالب ع- ثم قال و قيل قتله حمزة- . و في رواية الشيعة قتله علي بن أبي طالب- شجره بالرمح- فقال له و الله لا تخاصمنا في الله بعد اليوم أبدا- و هكذا روى محمد بن إسحاق- .

و روى محمد بن إسحاق قال و خرج النبي ص من العريش إلى الناس ينظر القتال- فحرض المسلمين و قال كل امرئ بما أصاب- و قال و الذي نفس محمد بيده- لا يقاتلهم اليوم رجل في جملة- فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر- إلا أدخله الله الجنة – فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة- و في يده تمرات يأكلهن بخ بخ- فما بيني و بين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء- ثم قذف التمرات من يده- و أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل قال محمد بن إسحاق- و حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة- أن عوف بن الحارث و هو ابن عفراء- قال لرسول الله ص يوم بدر- يا رسول الله ص ما يضحك الرب من عبده- قال غمسه يده في العدو حاسرا- فنزع عوف درعا كانت عليه و قذفها- ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل- .

قال الواقدي و ابن إسحاق و أخذ رسول الله ص كفا من البطحاء- فرماهم بها و قال شاهت الوجوه- اللهم أرعب قلوبهم و زلزل أقدامهم
فانهزم المشركون لا يلوون على شي‏ء- و المسلمون يتبعونهم يقتلون و يأسرون- . قال الواقدي- و كان هبيرة بن أبي وهب المخزومي- لما رأى الهزيمة انخزل ظهره فعقر- فلم يستطع أن يقوم- فأتاه أبو أسامة الجشمي حليفه- ففتق درعه و احتمله- و يقال ضربه أبو داود المازني بالسيف فقطع درعه- و وقع لوجهه و أخلد إلى الأرض- و جاوزه أبو داود- و بصر به ابنا زهير الجشميان- مالك و أبو أسامة و هما حليفاه- فذبا عنه حتى نجوا به- و احتمله أبو أسامة و مالك يذب عنه حتى خلصاه- فقال رسول الله ص حماه كلباه الحليفان- .

قال الواقدي- و حدثني عمر بن عثمان عن عكاشة بن محصن- قال انقطع سيفي يوم بدر- فأعطاني رسول الله ص عودا- فإذا هو سيف أبيض طويل- فقاتلت به حتى هزم الله المشركين- و لم يزل ذلك السيف عند عكاشة حتى هلك- . قال و قد روى رجال من بني عبد الأشهل عدة- قالوا انكسر سيف سلمة بن أسلم بن حريش يوم بدر- فبقي أعزل لا سلاح معه- فأعطاه رسول الله ص قضيبا- كان في يده من عراجين ابن طاب- فقال اضرب به فإذا هو سيف جيد- فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد- . قال الواقدي و أصاب حارثة بن سراقة- و هو يكرع في الحوض سهم غرب من المشركين- فوقع في نحره فمات- فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه- و بلغ أمه و أخته و هما بالمدينة مقتله- فقالت أمه و الله لا أبكي عليه- حتى يقدم رسول الله ص فأسأله- فإن كان في الجنة لم أبك عليه- و إن كان في النار بكيته لعمر الله فأعولته- فلما قدم رسول الله ص من بدر جاءت أمه إليه- فقالت يا رسول الله قد عرفت موضع حارثة في قلبي- فأردت أن أبكي عليه- ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله ص عنه- فإن كان في الجنة لم أبكه- و إن كان في النار بكيته فأعولته- فقال النبي ص هبلت- أ جنة واحدة إنها جنان كثيرة- و الذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى- قالت فلا أبكي عليه أبدا- .

قال الواقدي- و دعا رسول الله ص حينئذ بماء في إناء- فغمس يده فيه و مضمض فاه- ثم ناول أم حارثة بن سراقة- فشربت ثم ناولت ابنتها فشربت-ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما- ثم رجعتا من عند النبي ص- و ما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما و لا أسر- . قال الواقدي- و كان حكيم بن حزام يقول- انهزمنا يوم بدر فجعلت أسعى و أقول- قاتل الله ابن الحنظلية يزعم أن النهار قد ذهب- و الله إن النهار لكما هو- قال حكيم و ما ذا بي إلا حبا- أن يأتي الليل فيقصر عنا طلب القوم- فيدرك حكيم عبيد الله و عبد الرحمن بني العوام- على جمل لهما- فقال عبد الرحمن لأخيه- انزل فاحمل أبا خالد- و كان عبيد الله رجلا أعرج لا رجلة به- فقال عبيد الله إنه لا رجلة بي كما ترى- و قال عبد الرحمن و الله أن منه لا بد- ألا نحمل رجلا إن متنا كفانا ما خلفنا من عيالنا- و إن عشنا حملنا كلنا- فنزل عبد الرحمن و أخوه الأعرج- فحملاه فكانوا يتعاقبون الجمل- فلما دنا من مكة و كان بمر الظهران- قال و الله لقد رأيت هاهنا أمرا- ما كان يخرج على مثله أحد له رأي- و لكنه شؤم ابن الحنظلية- إن جزورا نحرت هاهنا- فلم يبق خباء إلا أصابه من دمها- فقالا قد رأينا ذلك- و لكن رأيناك و قومك قد مضيتم- فمضينا معكم و لم يكن لنا معكم أمر- .

قال الواقدي- فحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن مخلد بن خفاف- عن أبيه قال كانت الدروع في قريش كثيرة يومئذ- فلما انهزموا جعلوا يلقونها- و جعل المسلمون يتبعونهم و يلقطون ما طرحوا- و لقد رأيتني يومئذ- التقطت ثلاث أدرع جئت بها أهلي- فكانت عندنا بعد- فزعم لي رجل من قريش- و رأى درعا منها عندنا فعرفها- قال هذه درع الحارث بن هشام- .

قال الواقدي- و حدثني محمد بن حميد- عن عبد الله بن عمرو بن أمية- قال أخبرني من انكشف من قريش يومئذ منهزما- و إنه ليقول في نفسه- ما رأيت مثل هذا فر منه إلا النساء- .

قال الواقدي- كان قباث بن أشيم الكناني يقول- شهدت مع المشركين بدرا- و إني لأنظر إلى قلة أصحاب محمد في عيني- و كثرة من معنا من الخيل و الرجل- فانهزمت فيمن انهزم- فلقد رأيتني و إني لأنظر إلى المشركين- في كل وجه- و إني لأقول في نفسي- ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء- و صاحبني رجل- فبينا هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا- فقلت لصاحبي أ بك نهوض- قال لا و الله ما بي- قال و عقر و ترفعت فلقد صبحت غيقة- قال و غيقة عن يسار السقيا- بينها و بين الفرع ليلة- و بين الفرع و المدينة ثمانية برد قبل الشمس- كنت هاديا بالطريق- و لم أسلك المحاج- و خفت من الطلب فتنكبت عنها- فلقيني رجل من قومي بغيقة- فقال ما وراءك قلت لا شي‏ء- قتلنا و أسرنا و انهزمنا- فهل عندك من حملان- قال فحملني على بعير و زودني زادا- حتى لقيت الطريق بالجحفة- ثم مضيت حتى دخلت مكة- و إني لأنظر إلى الحيسمان بن حابس الخزاعي بالغميم- فعرفت أنه تقدم ينعى قريشا بمكة- فلو أردت أن أسبقه لسبقته- فتنكبت عنه حتى سبقني ببعض النهار- فقدمت و قد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم- و هم يلعنون الخزاعي و يقولون- ما جاءنا بخير فمكثت بمكة- فلما كان بعد الخندق قلت- لو قدمت المدينة فنظرت ما يقول محمد- و قد وقع في قلبي الإسلام فقدمت المدينة- فسألت عن رسول الله ص- فقالوا هو ذاك في ظل المسجد- مع ملأ من أصحابه- فأتيته و أنا لا أعرفه من بينهم- فسلمت فقال يا قباث بن أشيم- أنت القائل يوم بدر- ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء- قلت أشهد أنك رسول الله- و أن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط- و ما ترمرمت به- إلا شيئا حدثت به نفسي- فلو لا أنك نبي ما أطلعك الله عليه- هلم حتى أبايعك فأسلمت‏ قال الواقدي- و قد روي أنه لما توجه المشركون إلى بدر- كان فتيان ممن تخلف عنهم بمكة سمارا- يسمرون بذي طوى في القمر حتى يذهب الليل- يتناشدون الأشعار و يتحدثون- فبينا هم كذلك إذ سمعوا صوتا قريبا منهم- و لا يرون القائل رافعا صوته يتغنى-

أزاد الحنيفيون بدرا مصيبة
سينقض منها ركن كسرى و قيصرا

أرنت لها صم الجبال و أفزعت‏
قبائل ما بين الوتير فخيبرا

أجازت جبال الأخشبين و جردت
حرائر يضربن الترائب حسرا

 قال الواقدي أنشدنيه- و رواه لي عبد الله بن أبي عبيدة- عن محمد بن عمار بن ياسر- قال فاستمعوا الصوت- فلا يرون أحدا فخرجوا في طلبه- فلم يروا أحدا فخرجوا فزعين- حتى جازوا الحجر- فوجدوا مشيخة منهم جلة سمارا- فأخبروهم الخبر فقالوا لهم- إن كان ما تقولون- فإن محمدا و أصحابه يسمون الحنيفية- قال فلم يبق أحد من الفتيان- الذين كانوا بذي طوى إلا وعك- فما مكثوا إلا ليلتين أو ثلاثا- حتى قدم الحيسمان الخزاعي بخبر أهل بدر- و من قتل منهم فجعل يخبرهم- فيقول قتل عتبة و شيبة ابنا ربيعة- و قتل ابنا الحجاج و أبو البختري- و زمعة بن الأسود قال- و صفوان بن أمية في الحجر جالس يقول- لا يعقل هذا شيئا مما يتكلم به- سلوه عني فقالوا صفوان بن أمية لك به علم- قال نعم هو ذاك في الحجر- و لقد رأيت أباه و أخاه مقتولين- و رأيت سهيل بن عمرو- و النضر بن الحارث أسيرين- رأيتهما مقرونين في الحبال- .

قال الواقدي- و بلغ النجاشي مقتل قريش- و ما ظفر الله به رسوله- فخرج في ثوبين أبيضين- ثم جلس على الأرض- و دعا جعفر بن أبي طالب و أصحابه- فقال أيكم يعرف بدرا فأخبروه- فقال أنا عارف بها قد رعيت الغنم في جوانبها- هي من الساحل على بعض نهار- و لكني أردت أن أتثبت منكم- قد نصر الله رسوله ببدر فاحمدوا الله على ذلك- فقال بطارقته أصلح الله الملك- إن هذا شي‏ء لم تكن تصنعه- يريدون لبس البياض و الجلوس على الأرض- فقال إن عيسى ابن مريم كان إذا حدثت له نعمة- ازداد بها تواضعا- .

قال الواقدي فلما رجعت قريش إلى مكة- قام فيهم أبو سفيان بن حرب- فقال يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم- و لا تنح عليهم نائحة- و لا يندبهم شاعر و أظهروا الجلد و العزاء- فإنكم إذا نحتم عليهم و بكيتموهم بالشعر- أذهب ذلك غيظكم فأكلكم ذلك- عن عداوة محمد و أصحابه- مع أن محمدا إن بلغه و أصحابه ذلك شمتوا بكم- فتكون أعظم المصيبتين- و لعلكم تدركون ثأركم- فالدهن و النساء علي حرام حتى أغزو محمدا- فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر- و لا تنوح عليهم نائحة- .

قال الواقدي- و كان الأسود بن المطلب قد ذهب بصره- و قد كمد على من قتل من ولده- و كان يحب أن يبكي عليهم فتأبى عليه قريش ذلك- فكان يقول لغلامه بين اليومين- ويلك احمل معي خمرا- و اسلك بي الفج الذي سلكه أبو حكيمة- يعني زمعة ولده المقتول ببدر- فيأتي به غلامه على الطريق عند ذلك الفج فيجلس- فيسقيه الخمرحتى ينتشي- ثم يبكي على أبي حكيمة و إخوته- ثم يحثي التراب على رأسه- و يقول لغلامه ويحك اكتم علي- فإني أكره أن تعلم بي قريش- إني أراها لم تجمع البكاء على قتلاها- .

قال الواقدي- حدثني مصعب بن ثابت عن عيسى بن معمر- عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت- قالت قريش حين رجعوا إلى مكة- لا تبكوا على قتلاكم- فيبلغ محمدا و أصحابه فيشمتوا بكم- و لا تبعثوا في أسراكم فيأرب بكم القوم- ألا فأمسكوا عن البكاء- . قال و كان الأسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده- زمعة و عقيل و الحارث بن زمعة- فكان يحب أن يبكي على قتلاه- فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل- فقال لغلامه و قد ذهب بصره- انظر هل بكت قريش على قتلاها- لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة- فإن جوفي قد احترق- فذهب الغلام و رجع إليه- فقال إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلته- فقال الأسود-

تبكي أن يضل لها بعير
و يمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر و لكن‏
على بكر تصاغرت الخدود

فبكى إن بكيت على عقيل
و بكى حارثا أسد الأسود

و بكيهم و لا تسمي جميعا
فما لأبي حكيمة من نديد

على بدر سراة بني هصيص
و مخزوم و رهط أبي الوليد

ألا قد ساد بعدهم رجال‏
و لو لا يوم بدر لم يسودوا

قال الواقدي- و مشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة- فقلن أ لا تبكين على أبيك و أخيك و عمك و أهل بيتك- فقالت حلأني أن أبكيهم- فيبلغ محمدا و أصحابه فيشمتوا بنا و نساء بني الخزرج- لا و الله حتى أثأر محمدا و أصحابه- و الدهن علي حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمدا- و الله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت- و لكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة- فمكثت على حالها لا تقرب الدهن- و لا قربت فراش أبي سفيان من يوم حلفت- حتى كانت وقعة أحد- .

قال الواقدي- و بلغ نوفل بن معاوية الديلي و هو في أهله- و قد كان شهد معهم بدرا- أن قريشا بكت على قتلاها- فقدم مكة فقال يا معشر قريش- لقد خفت أحلامكم و سفه رأيكم- و أطعتم نساءكم أ مثل قتلاكم يبكى عليهم- هم أجل من البكاء- مع أن ذلك يذهب غيظكم عن عداوة محمد و أصحابه- فلا ينبغي أن يذهب الغيظ عنكم- إلا أن تدركوا ثأركم من عدوكم- فسمع أبو سفيان بن حرب كلامه- فقال يا أبا معاوية غلبت- و الله ما ناحت امرأة من بني عبد شمس- على قتيل لها إلى اليوم- و لا بكاهم شاعر إلا نهيته- حتى ندرك ثأرنا من محمد و أصحابه- و إني لأنا الموتور الثائر- قتل ابني حنظلة و سادة أهل هذا الوادي- أصبح هذا الوادي مقشعرا لفقدهم- .

قال الواقدي- و حدثني معاذ بن محمد الأنصاري- عن عاصم بن عمر بن قتادة قال- لما رجع المشركون إلى مكة- و قد قتل صناديدهم و أشرافهم- أقبل عمير بن وهب بن عمير الجمحي- حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر- فقال صفوان بن أمية قبح العيش بعد قتلى بدر- قال عمير بن وهب أجل و الله- ما في العيش بعدهم خير- و لو لا دين علي لا أجد له قضاء- و عيال لا أدع لهم شيئا- لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه- فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق- فإن لي عندهم علة- أقول قدمت على ابني هذا الأسير- ففرح صفوان بقوله و قال يا أبا أمية- و هل نراك فاعلا قال إي و رب هذه البنية- قال صفوان فعلي دينك و عيالك أسوة عيالي- فأنت تعلم أنه ليس بمكة- رجل أشد توسعا على عياله مني-

قال عمير قد عرفت ذلك يا أبا وهب- قال صفوان فإن عيالك مع عيالي- لا يسعني شي‏ء و نعجز عنهم و دينك علي- فحمله صفوان على بعيره و جهزه- و أجرى على عياله مثل ما يجري على عيال نفسه- و أمر عمير بسيفه فشحذ و سم- ثم خرج إلى المدينة- و قال لصفوان اكتم علي أياما حتى أقدمها- و خرج فلم يذكره صفوان- و قدم عمير فنزل على باب المسجد- و عقل راحلته و أخذ السيف فتقلده- ثم عمد نحو رسول الله ص- و عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون- و يذكرون نعمة الله عليهم في بدر- فرأى عميرا و عليه السيف ففزع عمر منه- و قال لأصحابه دونكم الكلب- هذا عمير بن وهب عدو الله- الذي حرش بيننا يوم بدر- و حزرنا للقوم و صعد فينا و صوب- يخبر قريشا أنه لا عدد لنا و لا كمين- فقاموا إليه فأخذوه- فانطلق عمر إلى رسول الله ص- فقال يا رسول الله هذا عمير بن وهب- قد دخل المسجد و معه السلاح- و هو الغادر الخبيث الذي لا يؤمن على شي‏ء فقال النبي ص أدخله علي فخرج عمر فأخذ بحمائل سيفه فقبض بيده عليها و أخذ بيده الأخرى قائم السيف- ثم أدخله على رسول الله ص- فلما رآه قال يا عمر تأخر عنه- فلما دنا عمير إلى النبي ص قال أنعم صباحا- فقال له النبي ص- قد أكرمنا الله عن تحيتك- و جعل تحيتنا السلام و هي تحية أهل الجنة-

قال عمير إن عهدك بها لحديث- فقال النبي ص قد أبدلنا الله خيرا- فما أقدمك يا عمير- قال قدمت في أسيري عندكم- تفادونه و تقاربوننا فيه- فإنكم العشيرة و الأصل- قال النبي ص فما بال السيف- قال عمير قبحها الله من سيوف- و هل أغنت من شي‏ء- إنما نسيته حين نزلت و هو في رقبتي- و لعمري إن لي لهما غيره فقال رسول الله ص- اصدق يا عمير ما الذي أقدمك- قال ما قدمت إلا في أسيري- قال ص فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر- ففزع عمير و قال ما ذا شرطت له- قال تحملت بقتلي- على أن يقضي دينك و يعول عيالك- و الله حائل بينك و بين ذلك- قال عمير أشهد أنك صادق- و أشهد أن لا إله إلا الله- كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي- و بما يأتيك من السماء- و إن هذا الحديث كان بيني و بين صفوان كما قلت- لم يطلع عليه غيره و غيري- و قد أمرته أن يكتمه ليالي- فأطلعك الله عليه فآمنت بالله و رسوله- و شهدت أن ما جئت به حق- الحمد لله الذي ساقني هذا المساق- و فرح المسلمون حين هداه الله- و قال عمر بن الخطاب- لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع- و هو الساعة أحب إلي من بعض ولدي-

و قال النبي ص- علموا أخاكم القرآن و أطلقوا له أسيره- فقال عمير يا رسول الله- إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله- فله الحمد أن هداني- فأذن لي فألحق قريشا- فأدعوهم إلى الله و إلى الإسلام- فلعل الله يهديهم و يستنقذهم من الهلكة- فأذن له فخرج فلحق بمكة- و كان صفوان يسأل عن عمير بن وهب- كل راكب يقدم من المدينة- يقول هل حدث بالمدينة من حدث- و يقول لقريش أبشروا بوقعة تنسيكم وقعة بدر- فقدم رجل من المدينة فسأله صفوان عن عمير- فقال أسلم فلعنه صفوان و لعنه المشركون بمكة- و قالوا صبأ عمير و حلف صفوان ألا يكلمه أبدا- و لا ينفعه و طرح عياله- و قدم عمير فنزل في أهله- و لم يأت صفوان و أظهر الإسلام- فبلغ صفوان فقال- قد عرفت حين لم يبدأ بي قبل منزله- و قد كان رجل أخبرني أنه ارتكس- لا أكلمه من رأسي أبدا- و لا أنفعه و لا عياله بنافعة أبدا- فوقع عليه عمير و هو في الحجر- فقال يا أبا وهب فأعرض صفوان عنه- فقال عمير أنت سيد من ساداتنا- أ رأيت الذي كنا عليه- من عبادة حجر و الذبح له أ هذا دين- أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله- فلم يجبه صفوان بكلمة و أسلم مع عمير بشر كثير- .

قال الواقدي- و كان فتية من قريش خمسة قد أسلموا- فاحتبسهم آباؤهم- فخرجوا مع أهلهم و قومهم إلى بدر- و هم على الشك و الارتياب لم يخلصوا إسلامهم- و هم قيس بن الوليد بن المغيرة- و أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة- و الحارث بن زمعة بن الأسود- و علي بن أمية بن خلف- و العاص بن منبه بن الحجاج- فلما قدموا بدرا و رأوا قلة أصحاب النبي ص- قالوا غر هؤلاء دينهم ففيهم أنزل- إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ- غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ثم أنزل فيهم- إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ- قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ- قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها- إلى تمام ثلاث آيات- .

قال فكتب بها المهاجرون بالمدينة- إلى من أقام بمكة مسلما- فقال جندب بن ضمرة الخزاعي- لا عذر لي و لا حجة في مقامي بمكة- و كان مريضا فقال لأهله أخرجوني- لعلي أجد روحا قالوا أي وجه أحب إليك- قال نعم التنعيم فخرجوا به إلى التنعيم- و بين التنعيم و مكة أربعة أميال من طريق المدينة- فقال اللهم إني خرجت إليك مهاجرا فأنزل الله تعالى- وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ الآية- فلما رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج- خرجوا فطلبهم أبو سفيان في رجال من المشركين-فردوهم و سجنوهم فافتتن منهم ناس- و كان الذين افتتنوا إنما افتتنوا حين أصابهم البلاء- فأنزل الله تعالى فيهم- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ- فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ- الآية و ما بعدها- فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من كان بمكة مسلما- فلما جاءهم الكتاب بما أنزل فيهم- قالوا اللهم إن لك علينا إن أفلتنا- ألا نعدل بك أحدا- فخرجوا الثانية فطلبهم أبو سفيان و المشركون- فأعجزوهم هربا في الجبال- حتى قدموا المدينة- و اشتد البلاء على من ردوا من المسلمين- فضربوهم و آذوهم و أكرهوهم على ترك الإسلام- و رجع ابن أبي سرح مشركا- فقال لقريش ما كان يعلم محمدا- إلا ابن قمطة عبد نصراني- لقد كنت أكتب له فأحول ما أردت- فأنزل الله تعالى- وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ الآية 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14

نامه 8 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

8 و من كتاب له ع إلى جرير بن عبد الله البجلي- لما أرسله إلى معاوية

أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْفَصْلِ- وَ خُذْهُ بِالْأَمْرِ الْجَزْمِ- ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ- فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ- وَ إِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ وَ السَّلَامُ قد تقدم ذكر نسب جرير بن عبد الله البجلي- . و قوله ع فاحمل معاوية على الفصل- أي لا تتركه متلكئا مترددا- يطمعك تارة و يؤيسك أخرى- بل احمله على أمر فيصل- إما البيعة أو أن يأذن بالحرب- .

و كذلك قوله و خذه بالأمر الجزم- أي الأمر المقطوع به- لا تكن ممن يقدم رجلا و يؤخر أخرى- و أصل الجزم القطع- . و حرب مجلية- تجلي المقهورين فيها عن ديارهم أي تخرجهم- . و سلم مخزية أي فاضحة- و إنما جعلها مخزية لأن معاوية امتنع أولا من البيعة- فإذا دخل في السلم فإنما يدخل فيها بالبيعة- و إذا بايع بعد الامتناع فقد دخل تحت الهضم- و رضي بالضيم و ذلك هو الخزي- .

قوله فانبذ إليه من قوله تعالى- فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى‏ سَواءٍ و أصله العهد و الهدنة- و عقد الحلف يكون بين الرجلين أو بين القبيلتين- ثم يبدو لهما في ذلك- فينتقلان إلى الحرب فينبذ أحدهما إلى الآخر عهده- كأنه كتاب مكتوب بينهما- قد نبذه أحدهما يوم الحرب و أبطله- فاستعير ذلك للمجاهرة بالعداوة و المكاشفة- و نسخ شريعة السلام السابقة بالحرب المعاقبة لها

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14

نامه 7 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

7 و من كتاب منه ع إليه أيضا

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَتْنِي مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ وَ رِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ- نَمَّقْتَهَا بِضَلَالِكَ وَ أَمْضَيْتَهَا بِسُوءِ رَأْيِكَ- وَ كِتَابُ امْرِئٍ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ- وَ لَا قَائِدٌ يُرْشِدُهُ قَدْ دَعَاهُ الْهَوَى فَأَجَابَهُ- وَ قَادَهُ الضَّلَالُ فَاتَّبَعَهُ- فَهَجَرَ لَاغِطاً وَ ضَلَّ خَابِطاً

موعظة موصلة- أي مجموعة الألفاظ من هاهنا و هاهنا- و ذلك عيب في الكتابة و الخطابة- و إنما الكاتب من يرتجل فيقول قولا فصلا- أو يروي فيأتي بالبديع المستحسن- و هو في الحالين كليهما ينفق من كيسه- و لا يستعير كلام غيره- . و الرسالة المحبرة المزينة الألفاظ- كأنه ع يشير إلى أنه قد كان يظهر عليها- أثر التكلف و التصنع- . و التنميق التزيين أيضا- . و هجر الرجل أي هذى- و منه قوله تعالى في أحد التفسيرين- إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً- . و اللاغط ذو اللغط و هو الصوت و الجلبة- .

و خبط البعير فهو خابط- إذا مشى ضالا فحبط بيديه كل ما يلقاه- و لا يتوقى شيئا- . و هذا الكتاب كتبه علي ع- جوابا عن كتاب كتبه معاوية إليه في أثناء حرب صفين- بل في أواخرها و كان كتاب معاوية- من عبد الله معاوية بن أبي سفيان- إلى علي بن أبي طالب أما بعد- فإن الله تعالى يقول في محكم كتابه- وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ- لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ- وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ- و إني أحذرك الله أن تحبط عملك و سابقتك- بشق عصا هذه الأمة و تفريق جماعتها- فاتق الله و اذكر موقف القيامة- و أقلع عما أسرفت فيه من الخوض في دماء المسلمين- و إني سمعت رسول الله ص يقول لو تمالأ أهل صنعاء و عدن على قتل رجل واحد من المسلمين- لأكبهم الله على مناخرهم في النار – فكيف يكون حال من قتل أعلام المسلمين- و سادات المهاجرين- بله ما طحنت رحى حربه من أهل القرآن- و ذي العبادة و الإيمان- من شيخ كبير و شاب غرير- كلهم بالله تعالى مؤمن و له مخلص- و برسوله مقر عارف- فإن كنت أبا حسن إنما تحارب على الإمرة و الخلافة- فلعمري لو صحت خلافتك لكنت قريبا- من أن تعذر في حرب المسلمين- و لكنها ما صحت لك- أنى بصحتها و أهل الشام لم يدخلوا فيها- و لم يرتضوا بها- و خف الله و سطواته و اتق بأسه و نكاله- و أغمد سيفك عن الناس- فقد و الله أكلتهم الحرب- فلم يبق منهم إلا كالثمد في قرارة الغدير- و الله المستعان- .

فكتب علي ع إليه جوابا عن كتابه‏

من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى معاوية بن أبي سفيان- أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة- و رسالة محبرة- نمقتها بضلالك و أمضيتها بسوء رأيك- و كتاب امرئ ليس له بصر يهديه و لا قائد يرشده- دعاه الهوى فأجابه و قاده الضلال فاتبعه- فهجر لاغطا و ضل خابطا- فأما أمرك لي بالتقوى فأرجو أن أكون من أهلها- و أستعيذ بالله من أن أكون- من الذين إذا أمروا بها أخذتهم العزة بالإثم- و أما تحذيرك إياي أن يحبط عملي و سابقتي في الإسلام- فلعمري لو كنت الباغي عليك- لكان لك أن تحذرني ذلك- و لكني وجدت الله تعالى يقول- فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللَّهِ- فنظرنا إلى الفئتين- أما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها- لأن بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام- كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة- و أنت أمير لعمر على الشام- و كما لزمت يزيد أخاك- بيعة عمر و هو أمير لأبي بكر على الشام- و أما شق عصا هذه الأمة فأنا أحق أن أنهاك عنه- فأما تخويفك لي من قتل أهل البغي- فإن رسول الله ص أمرني بقتالهم و قتلهم- و قال لأصحابه- إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن- كما قاتلت على تنزيله- و أشار إلي و أنا أولى من اتبع أمره- و أما قولك- إن بيعتي لم تصح لأن أهل الشام لم يدخلوا فيها- كيف و إنما هي بيعة واحدة تلزم الحاضر و الغائب- لا يثنى فيها النظر و لا يستأنف فيها الخيار- الخارج منها طاعن و المروي فيها مداهن- فاربع على ظلعك و انزع سربال غيك- و اترك ما لا جدوى له عليك- فليس لك عندي إلا السيف- حتى تفي‏ء إلى أمر الله صاغرا- و تدخل في البيعة راغما و السلام

وَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ لِأَنَّهَا بَيْعَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُثَنَّى فِيهَا النَّظَرُ- وَ لَا يُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْخِيَارُ- الْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ وَ الْمُرَوِّي فِيهَا مُدَاهِنٌ لا يثنى فيها النظر أي لا يعاود و لا يراجع ثانية- و لا يستأنف فيها الخيار- ليس بعد عقدها خيار لمن عقدها و لا لغيرهم- لأنها تلزم غير العاقدين كما تلزم العاقدين- فيسقط الخيار فيها- الخارج منها طاعن على الأمة- لأنهم أجمعوا على أن الاختيار طريق الإمامة- . و المروي فيها مداهن- أي الذي يرتئي و يبطئ عن الطاعة و يفكر- و أصله من الروية و المداهن المنافق

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14

نامه 6 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

6 و من كتاب له ع إلى معاوية

إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَ عُمَرَ وَ عُثْمَانَ- عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ- فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ- وَ لَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ- وَ إِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ- فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَ سَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ رِضًا- فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ- بِطَعْنٍ أَوْ بِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ- فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتَّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ- وَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى- وَ لَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ- لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ- وَ لَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ- إِلَّا أَنْ تَتَجَنَّى فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ وَ السَّلَامُ

قد تقدم ذكر هذا الكلام- في أثناء اقتصاص مراسلة أمير المؤمنين ع- معاوية بجرير بن عبد الله البجلي- و قد ذكره أرباب السيرة كلهم- و أورده شيوخنا المتكلمون في كتبهم- احتجاجا على صحة الاختيار و كونه طريقا إلى الإمامة- و أول الكتاب- أما بعد- فإن بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام- لأنه بايعني القوم الذين بايعوا إلى آخر الفصل- .

و المشهور المروي- فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة- أي رغبة عن ذلك الإمام الذي وقع الاختيار له- . و المروي بعد قوله ولاه الله بعد ما تولى- و أصلاه جهنم و ساءت مصيرا- و إن طلحة و الزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي- فكان نقضهما كردتهما فجاهدتهما على ذلك- حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون- فادخل فيما دخل فيه المسلمون- فإن أحب الأمور إلي فيك العافية- إلا أن تتعرض للبلاء فإن تعرضت له قاتلتك- و استعنت بالله عليك- و قد أكثرت في قتلة عثمان- فادخل فيما دخل الناس فيه- ثم حاكم القوم إلي أحملك و إياهم على كتاب الله- فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن- و لعمري يا معاوية إن نظرت بعقلك – إلى آخر الكلام- .

و بعده و اعلم أنك من الطلقاء- الذين لا تحل لهم الخلافة و لا تعترض بهم الشورى- و قد أرسلت إليك جرير بن عبد الله البجلي- و هو من أهل الإيمان و الهجرة فبايع و لا قوة إلا بالله- . و اعلم أن هذا الفصل دال بصريحه- على كون الاختيار طريقا إلى الإمامة- كما يذكره أصحابنا المتكلمون- لأنه احتج على معاوية ببيعة أهل الحل و العقد له- و لم يراع في ذلك إجماع المسلمين كلهم- و قياسه على بيعة أهل الحل و العقد لأبي بكر- فإنه ما روعي فيها إجماع المسلمين- لأن سعد بن عبادة لم يبايع- و لا أحد من أهل بيته و ولده- و لأن عليا و بني هاشم و من انضوى إليهم- لم يبايعوا في مبدإ الأمر و امتنعوا- و لم يتوقف المسلمون في تصحيح إمامة أبي بكر- و تنفيذ أحكامه على بيعتهم- و هذا دليل على صحة الاختيار- و كونه طريقا إلى الإمامة- و أنه لا يقدح في إمامته ع- امتناع معاوية من البيعة و أهل الشام- فأما الإمامية فتحمل هذا الكتاب منه ع على التقية- و تقول إنه ما كان يمكنه‏ أن يصرح لمعاوية- في مكتوبه بباطن الحال- و يقول له أنا منصوص علي من رسول الله ص- و معهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل- فيكون في ذلك طعن على الأئمة المتقدمين- و تفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة- و هذا القول من الإمامية دعوى- لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها و يصار إليها- و لكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه- من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية- .

فأما قوله ع- و قد أكثرت في قتلة عثمان- فادخل فيما دخل فيه المسلمون- ثم حاكم القوم إلي أحملك و إياهم على كتاب الله- فيجب أن يذكر في شرحه ما يقول المتكلمون في هذه الواقعة- قال أصحابنا المعتزلة رحمهم الله- هذا الكلام حق و صواب- لأن أولياء الدم يجب أن يبايعوا الإمام- و يدخلوا تحت طاعته- ثم يرفعوا خصومهم إليه- فإن حكم بالحق استديمت إمامته- و إن حاد عن الحق انقضت خلافته- و أولياء عثمان الذين هم بنوه- لم يبايعوا عليا ع و لا دخلوا تحت طاعته ثم- و كذلك معاوية ابن عم عثمان لم يبايع و لا أطاع- فمطالبتهم له بأن يقتص لهم من قاتلي عثمان- قبل بيعتهم إياه و طاعتهم له ظلم منهم و عدوان- .

فإن قلت هب أن القصاص من قتلة عثمان- موقوف على ما ذكره ع- أ ما كان يجب عليه لا من طريق القصاص أن ينهى عن المنكر- و أنتم تذهبون إلى أن النهي عن المنكر واجب- على من هو سوقة فكيف على الإمام الأعظم- قلت هذا غير وارد هاهنا- لأن النهي عن المنكر إنما يجب قبل وقوع المنكر- لكيلا يقع- فإذا وقع المنكر فأي نهي يكون عنه- و قد نهى علي ع أهل مصر و غيرهم- عن قتل عثمان قبل قتله مرارا- و نابذهم بيده و لسانه و بأولاده فلم يغن‏ شيئا- و تفاقم الأمر حتى قتل- و لا يجب بعد القتل إلا القصاص- فإذا امتنع أولياء الدم من طاعة الإمام- لم يجب عليه أن يقتص من القاتلين- لأن القصاص حقهم- و قد سقط ببغيهم على الإمام و خروجهم عن طاعته- و قد قلنا نحن فيما تقدم- أن القصاص إنما يجب على من باشر القتل- و الذين باشروا قتل عثمان- قتلوا يوم قتل عثمان في دار عثمان- و الذين كان معاوية يطالبهم بدم عثمان لم يباشروا القتل- و إنما كثروا السواد و حصروه عثمان في الدار- و أجلبوا عليه و شتموه و توعدوه- و منهم من تسور عليه داره و لم ينزل إليه- و منهم من نزل فحضر محضر قتله و لم يشرك فيه- و كل هؤلاء لا يجب عليهم القصاص في الشرع

جرير بن عبد الله البجلي عند معاوية 

و قد ذكرنا فيما تقدم- شرح حال جرير بن عبد الله البجلي- في إرسال علي ع إياه إلى معاوية مستقصى- و ذكر الزبير بن بكار في الموفقيات- أن عليا ع لما بعث جريرا إلى معاوية- خرج و هو لا يرى أحدا قد سبقه إليه- قال فقدمت على معاوية فوجدته يخطب الناس- و هم حوله يبكون حول قميص عثمان- و هو معلق على رمح مخضوب بالدم- و عليه أصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة مقطوعة- فدفعت إليه كتاب علي ع- و كان معي في الطريق رجل يسير بسيري- و يقيم بمقامي- فمثل بين يديه في تلك الحال و أنشده-

إن بني عمك عبد المطلب
هم قتلوا شيخكم غير كذب‏
و أنت أولى الناس بالوثب فثب‏

 و قد ذكرنا تمام هذه الأبيات فيما تقدم- .

قال ثم دفع إليه كتابا- من الوليد بن عقبة بن أبي معيط- و هو أخو عثمان لأمه- كتبه مع هذا الرجل من الكوفة سرا أوله- معاوي إن الملك قد جب غاربه‏- . الأبيات التي ذكرنا فيما تقدم- . قال فقال لي معاوية- أقم فإن الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا- فأقمت أربعة أشهر- ثم جاءه كتاب آخر من الوليد بن عقبة أوله-

ألا أبلغ معاوية بن حرب
فإنك من أخي ثقة مليم‏

قطعت الدهر كالسدم المعنى‏
تهدر في دمشق و لا تريم‏

و إنك و الكتاب إلى علي
كدابغة و قد حلم الأديم‏

فلو كنت القتيل و كان حيا
لشمر لا ألف و لا سئوم‏

قال فلما جاءه هذا الكتاب- وصل بين طومارين أبيضين- ثم طواهما و كتب عنوانهما-من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب- و دفعهما إلي لا أعلم ما فيهما- و لا أظنهما إلا جوابا- و بعث معي رجلا من بني عبس لا أدري ما معه- فخرجنا حتى قدمنا إلى الكوفة- و اجتمع الناس في المسجد لا يشكون أنها بيعة أهل الشام- فلما فتح علي ع الكتاب لم يجد شيئا- و قام العبسي فقال من هاهنا من أحياء قيس- و أخص من قيس غطفان- و أخص من غطفان عبسا- إني أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان- أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبي لحاهم بدموع أعينهم- متعاقدين متحالفين ليقتلن قتلته في البر و البحر- و إني أحلف بالله ليقتحمنها عليكم ابن أبي سفيان- بأكثر من أربعين ألفا من خصيان الخيل- فما ظنكم بعد بما فيها من الفحول- ثم دفع إلى علي ع- كتابا من معاوية ففتحه فوجد فيه-
أتاني أمر فيه للنفس غمة و فيه اجتداع للأنوف أصيل‏

مصاب أمير المؤمنين و هده‏
تكاد لها صم الجبال تزول‏

 و قد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14

 

نامه 5 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

5 و من كتاب له ع إلى الأشعث بن قيس- و هو عامل أذربيجان

وَ إِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَ لَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ- وَ أَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ- لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ- وَ لَا تُخَاطِرَ إِلَّا بِوَثِيقَةٍ- وَ فِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى- وَ أَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ- وَ لَعَلِّي أَلَّا أَكُونَ شَرَّ وُلَاتِكَ لَكَ وَ السَّلَامُ قد ذكرنا نسب أشعث بن قيس فيما تقدم- . و أذربيجان اسم أعجمي غير مصروف- الألف مقصورة و الذال ساكنة- قال حبيب-

و أذربيجان احتيال بعد ما
كانت معرس عبرة و نكال‏

 و قال الشماخ-

تذكرتها وهنا و قد حال دونها
قرى أذربيجان المسالح و الجال‏

و النسبة إليه أذري بسكون الذال هكذا القياس- و لكن المروي عن أبي بكر في الكلام الذي قاله عند موته- و لتألمن النوم على الصوف الأذري بفتح الذال- . و الطعمة بضم الطاء المهملة المأكلة- و يقال فلان خبيث الطعمة أي ردي‏ء الكسب- . و الطعمة بالكسر لهيئة التطعم- يقول إن عملك لم يسوغه الشرع- و الوالي من قبلي إياه-و لا جعله لك أكلا- و لكنه أمانة في يدك و عنقك للمسلمين- و فوقك سلطان أنت له رعية- فليس لك أن تفتات في الرعية الذين تحت يدك- يقال افتات فلان على فلان- إذا فعل بغير إذنه ما سبيله أن يستأذنه فيه- و أصله من الفوت و هو السبق- كأنه سبقه إلى ذلك الأمر و قوله و لا تخاطر إلا بوثيقة- أي لا تقدم على أمر مخوف فيما يتعلق بالمال الذي تتولاه- إلا بعد أن تتوثق لنفسك- يقال أخذ فلان بالوثيقة في أمره أي احتاط-

ثم قال له و لعلي لا أكون شر ولاتك- و هو كلام يطيب به نفسه و يسكن به جأشه- لأن في أول الكلام إيحاشا له- إذ كانت ألفاظه تدل على أنه لم يره أمينا على المال- فاستدرك ذلك بالكلمة الأخيرة- أي ربما تحمد خلافتي و ولايتي عليك- و تصادف مني إحسانا إليك- أي عسى ألا يكون شكرك لعثمان و من قبله- أكثر من شكرك لي- و هذا من باب وعدك الخفي و تسميه العرب الملث- .

و أول هذا الكتاب- من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأشعث بن قيس أما بعد فلو لا هنات و هنات كانت منك- كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس- و لعل أمرا كان يحمل بعضه بعضا- إن اتقيت الله عز و جل- و قد كان من بيعة الناس إياي ما قد علمت- و كان من أمر طلحة و الزبير ما قد بلغك- فخرجت إليهما فأبلغت في الدعاء- و أحسنت في البقية و إن عملك ليس لك بطعمة إلى آخر الكلام- و هذا الكتاب كتبه إلى الأشعث بن قيس بعد انقضاء الجمل

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14

نامه 4 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

4 و من كتاب له كتبه ع إلى بعض أمراء جيشه

فَإِنْ عَادُوا إِلَى ظِلِّ الطَّاعَةِ فَذَاكَ الَّذِي نُحِبُّ- وَ إِنْ تَوَافَتِ الْأُمُورُ بِالْقَوْمِ إِلَى الشِّقَاقِ وَ الْعِصْيَانِ- فَانْهَدْ بِمَنْ أَطَاعَكَ إِلَى مَنْ عَصَاكَ- وَ اسْتَغْنِ بِمَنِ انْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ- فَإِنَّ الْمُتَكَارِهَ مَغِيبُهُ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِهِ- وَ قُعُودُهُ أَغْنَى مِنْ نُهُوضِهِ انهد أي انهض و تقاعس أي أبطأ و تأخر- . و المتكاره- الذي يخرج إلى الجهاد من غير نية و بصيرة- و إنما يخرج كارها مرتابا- و مثل قوله ع- فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده- و قعوده أغنى من نهوضه قوله تعالى- لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14

نامه 3 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)( كتبه لشريح بن الحارث قاضيه)

3 و من كتاب له ع كتبه لشريح بن الحارث قاضيه

رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحَ بْنَ الْحَارِثِ قَاضِيَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع- اشْتَرَى عَلَى عَهْدِهِ دَاراً بِثَمَانِينَ دِينَاراً- فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَاسْتَدْعَى شُرَيْحاً- وَ قَالَ لَهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ ابْتَعْتَ دَاراً بِثَمَانِينَ دِينَاراً- وَ كَتَبْتَ لَهَا كِتَاباً وَ أَشْهَدْتَ فِيهِ شُهُوداً- فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ لَهُ- يَا شُرَيْحُ أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ- وَ لَا يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ- حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً وَ يُسْلِمَكَ إِلَى قَبْرِكَ خَالِصاً- فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لَا تَكُونُ ابْتَعْتَ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ- أَوْ نَقَدْتَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلَالِكَ- فَإِذَا أَنْتَ قَدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَ دَارَ الآْخِرَةِ- . أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ- لَكَتَبْتُ لَكَ كِتَاباً عَلَى هَذِهِ النُّسْخَةِ- فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هَذِهِ الدَّارِ بِالدِّرْهَمِ فَمَا فَوْقُ- وَ النُّسْخَةُ هَذِهِ- هَذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ أُزْعِجَ لِلرَّحِيلِ- اشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ- مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ وَ خِطَّةِ الْهَالِكِينَ- وَ تَجْمَعُ هَذِهِ الدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ- الْحَدُّ الْأَوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الآْفَاتِ- وَ الْحَدُّ الثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْمُصِيبَاتِ- وَ الْحَدُّ الثَّالِثُ يَنْتَهِي إِلَى الْهَوَى الْمُرْدِي- وَ الْحَدُّ الرَّابِعُ يَنْتَهِي إِلَى الشَّيْطَانِ الْمُغْوِي- وَ فِيهِ يُشْرَعُ بَابُ هَذِهِ الدَّارِ- اشْتَرَى هَذَا الْمُغْتَرُّ بِالْأَمَلِ مِنْ هَذَا الْمُزْعَجِ بِالْأَجَلِ- هَذِهِ الدَّارَ بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقَنَاعَةِ- وَ الدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ وَ الضَّرَاعَةِ- فَمَا أَدْرَكَ هَذَا الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَى مِنْ دَرَكٍ- فَعَلَى مُبَلْبِلِ أَجْسَامِ الْمُلُوكِ وَ سَالِبِ نُفُوسِ الْجَبَابِرَةِ- وَ مُزِيلِ مُلْكِ الْفَرَاعِنَةِ- مِثْلِ كِسْرَى وَ قَيْصَرَ وَ تُبَّعٍ وَ حِمْيَرَ- وَ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ عَلَى الْمَالِ فَأَكْثَرَ- وَ مَنْ بَنَى وَ شَيَّدَ وَ زَخْرَفَ وَ نَجَّدَ- وَ ادَّخَرَ وَ اعْتَقَدَ وَ نَظَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ- إِشْخَاصُهُمْ جَمِيعاً إِلَى مَوْقِفِ الْعَرْضِ وَ الْحِسَابِ- وَ مَوْضِعِ الثَّوَابِ وَ الْعِقَابِ- إِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ- شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى- وَ سَلِمَ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا  

نسب شريح و ذكر بعض أخباره

هو شريح بن الحارث بن المنتجع بن معاوية- بن جهم بن ثور بن عفير بن عدي بن الحارث- بن مرة بن أدد الكندي- و قيل إنه حليف لكندة من بني الرائش- . و قال ابن الكلبي ليس اسم أبيه الحارث- و إنما هو شريح بن معاوية بن ثور- . و قال قوم هو شريح بن هانئ- . و قال قوم هو شريح بن شراحيل- و الصحيح أنه شريح بن الحارث و يكنى أبا أمية- استعمله عمر بن الخطاب على القضاء بالكوفة- فلم يزل قاضيا ستين سنة- لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير- امتنع فيها من القضاء- ثم استعفى الحجاج من‏ العمل فأعفاه- فلزم منزله إلى أن مات و عمر عمرا طويلا- قيل إنه عاش مائة سنة و ثمانيا و ستين- و قيل مائة سنة و توفي سنة سبع و ثمانين- .

و كان خفيف الروح مزاحا- فقدم إليه رجلان فأقر أحدهما بما ادعى به خصمه- و هو لا يعلم فقضى عليه- فقال لشريح من شهد عندك بهذا- قال ابن أخت خالك- و قيل إنه جاءته امرأته تبكي و تتظلم على خصمها- فما رق لها حتى قال له إنسان كان بحضرته- أ لا تنظر أيها القاضي إلى بكائها- فقال إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون- .

و أقر علي ع شريحا على القضاء- مع مخالفته له في مسائل كثيرة من الفقه- مذكورة في كتب الفقهاء- . و استأذنه شريح و غيره من قضاة عثمان- في القضاء أول ما وقعت الفرقة- فقال اقضوا كما كنتم تقضون- حتى تكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي- . و سخط علي ع مرة عليه- فطرده عن الكوفة و لم يعزله عن القضاء- و أمره بالمقام ببانقيا- و كانت قرية قريبة من الكوفة- أكثر ساكنها اليهود- فأقام بها مدة حتى رضي عنه و أعاده إلى الكوفة- . و قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب- أدرك شريح الجاهلية و لا يعد من الصحابة- بل من التابعين و كان شاعرا محسنا- و كان سناطا لا شعر في وجهه

قوله ع و خطة الهالكين بكسر الخاء- و هي الأرض التي يختطها الإنسان-أي يعلم عليها علامة بالخط ليعمرها- و منه خطط الكوفة و البصرة- . و زخرف البناء- أي ذهب جدرانه بالزخرف و هو الذهب- . و نجد فرش المنزل بالوسائد- و النجاد الذي يعالج الفرش و الوسائد و يخيطهما- و التنجيد التزيين بذلك- و يجوز أن يريد بقوله نجد رفع و علا- من النجد و هو المرتفع من الأرض- . و اعتقد جعل لنفسه عقدة كالضيعة- أو الذخيرة من المال الصامت- . و إشخاصهم مرفوع بالابتداء- و خبره الجار المجرور المقدم- و هو قوله فعلى مبلبل أجسام الملوك- و موضع الاستحسان من هذا الفصل- و إن كان كله حسنا أمران-

أحدهما أنه ع نظر إليه نظر مغضب- إنكارا لابتياعه دارا بثمانين دينارا- و هذا يدل على زهد شديد في الدنيا- و استكثار للقليل منها- و نسبه هذا المشتري إلى الإسراف- و خوف من أن يكون ابتاعها بمال حرام- . الثاني أنه أملى عليه كتابا زهديا وعظيا- مماثلا لكتب الشروط التي تكتب في ابتياع الأملاك- فإنهم يكتبون هذا ما اشترى فلان من فلان- اشترى منه دارا من شارع كذا و خطة كذا- و يجمع هذه الدار حدود أربعة- فحد منها ينتهي إلى دار فلان- و حد آخر ينتهي إلى ملك فلان- و حد آخر ينتهي إلى ما كان يعرف بفلان- و هو الآن معروف بفلان و حد آخر ينتهي إلى كذا- و منه شروع باب هذه الدار- و طريقها اشترى هذا المشتري المذكور- من البائع المذكور جميع الدار المذكورة- بثمن مبلغه كذا و كذا دينارا أو درهما- فما أدرك المشتري المذكور من درك- فمرجوع به على من يوجب الشرع الرجوع به عليه- ثم تكتب الشهود في آخر الكتاب- شهد فلان ابن فلان بذلك- و شهد فلان ابن فلان به أيضا- و هذا يدل على أن الشروط المكتوبة الآن- قد كانت‏ في زمن الصحابة تكتب مثلها أو نحوها- إلا أنا ما سمعنا عن أحد منهم- نقل صيغة الشرط الفقهي إلى معنى آخر- كما قد نظمه هو ع- و لا غرو فما زال سباقا إلى العجائب و الغرائب- . فإن قلت لم جعل الشيطان المغوي في الحد الرابع- قلت ليقول و فيه يشرع باب هذه الدار- لأنه إذا كان الحد إليه ينتهي- كان أسهل لدخوله إليها و دخول أتباعه و أوليائه- من أهل الشيطنة و الضلال

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14

نامه 2 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(بعد فتح البصرة)

2 و من كتاب له ع إليهم بعد فتح البصرة

وَ جَزَاكُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ- أَحْسَنَ مَا يَجْزِي الْعَامِلِينَ بِطَاعَتِهِ- وَ الشَّاكِرِينَ لِنِعْمَتِهِ- فَقَدْ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ وَ دُعِيتُمْ فَأَجَبْتُمْ

موضع قوله من أهل مصر نصب على التمييز- و يجوز أن يكون حالا- . فإن قلت كيف يكون تمييزا- و تقديره و جزاكم الله متمدنين أحسن ما يجزي المطيع- و التمييز لا يكون إلا جامدا و هذا مشتق-

قلت إنهم أجازوا كون التمييز مشتقا- في نحو قولهم ما أنت جارة- و قولهم يا سيدا ما أنت من سيد- . و ما يجوز أن تكون مصدرية- أي أحسن جزاء العاملين- و يجوز أن تكون بمعنى الذي- و يكون قد حذف العائد إلى الموصول- و تقديره أحسن الذي يجزي به العاملين

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14

نامه 1 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(عند مسيره من المدينة إلى البصرة)

1 من كتاب له ع إلى أهل الكوفة- عند مسيره من المدينة إلى البصرة

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ- جَبْهَةِ الْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ الْعَرَبِ- أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ- حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ- إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ- فَكُنْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اسْتِعْتَابَهُ- وَ أُقِلُّ عِتَابَهُ- وَ كَانَ طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ أَهْوَنُ سَيْرِهِمَا فِيهِ الْوَجِيفُ- وَ أَرْفَقُ حِدَائِهِمَا الْعَنِيفُ- وَ كَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَبٍ- فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ قَتَلُوهُ- وَ بَايَعَنِي النَّاسُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهِينَ- وَ لَا مُجْبَرِينَ بَلْ طَائِعِينَ مُخَيَّرِينَ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَ قَلَعُوا بِهَا- وَ جَاشَتْ جَيْشَ الْمِرْجَلِ- وَ قَامَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْقُطْبِ- فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ- وَ بَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قوله جبهة الأنصار- يمكن أن يريد جماعة الأنصار- فإن الجبهة في اللغة الجماعة- و يمكن أن يريد به سادة الأنصار و أشرافهم- لأن جبهة الإنسان أعلى أعضائه- و ليس يريد بالأنصار هاهنا بني قيلة- بل الأنصار هاهنا الأعوان- .

قوله ع و سنام العرب- أي أهل الرفعة و العلو منهم- لأن السنام أعلى أعضاء البعير- . قوله ع أكثر استعتابه و أقل عتابه- الاستعتاب طلب العتبى و هي الرضا- قال كنت أكثر طلب رضاه- و أقل عتابه و تعنيفه على الأمور- و أما طلحة و الزبير فكانا شديدين عليه- . و الوجيف سير سريع- و هذا مثل للمشمرين في الطعن عليه- حتى إن السير السريع أبطأ ما يسيران في أمره- و الحداء العنيف أرفق ما يحرضان به عليه- . و دار الهجرة المدينة- . و قوله قد قلعت بأهلها و قلعوا بها- الباء هاهنا زائدة في أحد الموضعين- و هو الأول و بمعنى من في الثاني- يقول فارقت أهلها و فارقوها- و منه قولهم هذا منزل قلعة- أي ليس بمستوطن- . و جاشت اضطربت و المرجل القدر- . و من لطيف الكلام قوله ع- فكنت رجلا من المهاجرين- فإن في ذلك من التخلص و التبري- ما لا يخفى على المتأمل- أ لا ترى أنه لم يبق عليه في ذلك حجة لطاعن- حيث كان قد جعل نفسه كواحد من عرض المهاجرين- الذين بنفر يسير منهم انعقدت خلافة أبي بكر- و هم أهل الحل و العقد- و إنما كان الإجماع حجة لدخولهم فيه- . و من لطيف الكلام أيضا قوله فأتيح له قوم قتلوه- و لم يقل أتاح الله له قوما- و لا قال أتاح له الشيطان قوما- و جعل الأمر مبهما- . و قد ذكر أن خط الرضي رحمه الله مستكرهين بكسر الراء- و الفتح أحسن و أصوب- و إن كان قد جاء استكرهت الشي‏ء بمعنى كرهته- .

و قال الراوندي- المراد بدار الهجرة هاهنا الكوفة- التي هاجر أمير المؤمنين ع إليها و ليس بصحيح- بل المراد المدينة و سياق الكلام يقتضي ذلك- و لأنه كان حين كتب هذا الكتاب- إلى أهل الكوفة بعيدا عنهم- فكيف يكتب إليهم يخبرهم عن أنفسهم

أخبار علي عند مسيره إلى البصرة و رسله إلى أهل الكوفة

و روى محمد بن إسحاق- عن عمه عبد الرحمن بن يسار القرشي- قال لما نزل علي ع الربذة متوجها إلى البصرة- بعث إلى الكوفة محمد بن جعفر بن أبي طالب- و محمد بن أبي بكر الصديق- و كتب إليهم هذا الكتاب و
زاد في آخره فحسبي بكم إخوانا و للدين أنصارا- ف انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا- وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏ و روى أبو مخنف قال حدثني الصقعب قال سمعت عبد الله بن جنادة يحدث أن عليا ع لما نزل الربذة- بعث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى أبي موسى الأشعري- و هو الأمير يومئذ على الكوفة لينفر إليه الناس- و كتب إليه معه- من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس- أما بعد فإني قد بعثت إليك هاشم بن عتبة- لتشخص إلي من قبلك من المسلمين- ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي و قتلوا شيعتي- و أحدثوا في الإسلام هذا الحدث العظيم- فاشخص بالناس إلي معه حين يقدم عليك- فإني لم أولك المصر الذي أنت فيه- و لم أقرك عليه إلا لتكون من أعواني على الحق- و أنصاري على هذا الأمر و السلام .

فأما رواية محمد بن إسحاق فإنه قال- لما قدم محمد بن جعفر و محمد بن أبي بكر الكوفة- استنفرا الناس- فدخل قوم منهم على أبي موسى ليلا فقالوا له- أشر علينا برأيك في الخروج- مع هذين الرجلين إلى علي ع- فقال أما سبيل الآخرة فالزموا بيوتكم- و أما سبيل الدنيا فاشخصوا معهما- فمنع بذلك أهل الكوفة من الخروج- و بلغ ذلك المحمدين فأغلظا لأبي موسى- فقال أبو موسى و الله إن بيعة عثمان لفي عنق علي- و عنقي و أعناقكما- و لو أردنا قتالا ما كنا لنبدأ بأحد قبل قتلة عثمان- فخرجا من عنده فلحقا بعلي ع فأخبراه الخبر- . و أما رواية أبي مخنف فإنه قال- إن هاشم بن عتبة لما قدم الكوفة- دعا أبو موسى السائب بن مالك الأشعري- فاستشاره فقال اتبع ما كتب به إليك- فأبى ذلك و حبس الكتاب- و بعث إلى هاشم يتوعده و يخوفه- .

قال السائب فأتيت هاشما فأخبرته برأي أبي موسى- فكتب إلى علي ع- لعبد الله علي أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة- أما بعد يا أمير المؤمنين- فإني قدمت بكتابك على امرئ مشاق بعيد الود- ظاهر الغل و الشنآن فتهددني بالسجن- و خوفني بالقتل- و قد كتبت إليك هذا الكتاب- مع المحل بن خليفة أخي طيئ- و هو من شيعتك و أنصارك و عنده علم ما قبلنا- فاسأله عما بدا لك و اكتب إلي برأيك و السلام- . قال فلما قدم المحل بكتاب هاشم على علي ع- سلم عليه ثم قال- الحمد لله الذي أدى الحق إلى أهله- و وضعه موضعه- فكره ذلك قوم قد و الله كرهوا نبوة محمد ص- ثم بارزوه و جاهدوه- فرد الله عليهم كيدهم في نحورهم- و جعل دائرة السوء عليهم- و الله يا أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن- حفظا لرسول الله ص في أهل بيته- إذ صاروا أعداء لهم بعده- .

فرحب به علي ع و قال له خيرا- ثم أجلسه إلى جانبه و قرأ كتاب هاشم- و سأله عن الناس و عن أبي موسى- فقال و الله يا أمير المؤمنين- ما أثق به و لا آمنه على خلافك- إن وجد من يساعده على ذلك- فقال علي ع- و الله ما كان عندي بمؤتمن و لا ناصح- و لقد أردت عزله فأتاني الأشتر فسألني أن أقره- و ذكر أن أهل الكوفة به راضون فأقررته و روى أبو مخنف قال و بعث علي ع من الربذة- بعد وصول المحل بن خليفة أخي طيئ- عبد الله بن عباس و محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى- و كتب معهما- من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس- أما بعد يا ابن الحائك يا عاض أير أبيه- فو الله إني كنت لأرى أن بعدك من هذا الأمر- الذي لم يجعلك الله له أهلا و لا جعل لك فيه نصيبا- سيمنعك من رد أمري و الانتزاء علي- و قد بعثت إليك ابن عباس و ابن أبي بكر- فخلهما و المصر و أهله- و اعتزل عملنا مذءوما مدحورا- فإن فعلت و إلا فإني قد أمرتهما- أن ينابذاك على سواء- إن الله لا يهدي كيد الخائنين- فإذا ظهرا عليك قطعاك إربا إربا- و السلام على من شكر النعمة- و وفى بالبيعة و عمل برجاء العاقبة – .

قال أبو مخنف- فلما أبطأ ابن عباس و ابن أبي بكر- عن علي ع- و لم يدر ما صنعا- رحل عن الربذة إلى ذي قار فنزلها- فلما نزل ذا قار بعث إلى الكوفة الحسن ابنه ع- و عمار بن ياسر و زيد بن صوحان- و قيس بن سعد بن عبادة و معهم كتاب إلى أهل الكوفة- فأقبلوا حتى كانوا بالقادسية فتلقاهم الناس- فلما دخلوا الكوفة قرءوا كتاب علي و هو من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى من بالكوفة من المسلمين-أما بعد فإني خرجت مخرجي هذا- إما ظالما و إما مظلوما- و إما باغيا و إما مبغيا علي- فأنشد الله رجلا بلغه كتابي هذا إلا نفر إلي- فإن كنت مظلوما أعانني- و إن كنت ظالما استعتبني و السلام

قال أبو مخنف- فحدثني موسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى- عن أبيه قال أقبلنا مع الحسن- و عمار بن ياسر من ذي قار- حتى نزلنا القادسية فنزل الحسن و عمار- و نزلنا معهما فاحتبى عمار بحمائل سيفه- ثم جعل يسأل الناس عن أهل الكوفة و عن حالهم- ثم سمعته يقول- ما تركت في نفسي حزة أهم إلي- من ألا نكون نبشنا عثمان من قبره ثم أحرقناه بالنار- .

قال فلما دخل الحسن و عمار الكوفة- اجتمع إليهما الناس فقام الحسن- فاستنفر الناس فحمد الله و صلى على رسوله ثم قال- أيها الناس- إنا جئنا ندعوكم إلى الله و إلى كتابه و سنة رسوله- و إلى أفقه من تفقه من المسلمين- و أعدل من تعدلون و أفضل من تفضلون- و أوفى من تبايعون من لم يعبه القرآن- و لم تجهله السنة و لم تقعد به السابقة- إلى من قربه الله تعالى إلى رسوله قرابتين- قرابة الدين و قرابة الرحم- إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة- إلى من كفى الله به رسوله و الناس متخاذلون- فقرب منه و هم متباعدون و صلى معه و هم مشركون- و قاتل معه و هم منهزمون- و بارز معهم و هم محجمون و صدقه و هم يكذبون- إلى من لم ترد له رواية و لا تكافأ له سابقة- و هو يسألكم النصر و يدعوكم إلى الحق- و يأمركم بالمسير إليه- لتوازروه و تنصروه على قوم نكثوا بيعته- و قتلوا أهل الصلاح من أصحابه- و مثلوا بعماله و انتهبوا بيت ماله- فاشخصوا إليه رحمكم الله- فمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر- و احضروا بما يحضر به الصالحون .

قال أبو مخنف حدثني جابر بن يزيد- قال حدثني تميم بن حذيم الناجي- قال قدم علينا الحسن بن علي ع- و عمار بن ياسر يستنفران الناس إلى علي ع- و معهما كتابه فلما فرغا من قراءة كتابه- قام الحسن و هو فتى حدث- و الله إني لأرثي له من حداثة سنه و صعوبة مقامه- فرماه الناس بأبصارهم و هم يقولون- اللهم سدد منطق ابن بنت نبينا- فوضع يده على عمود يتساند إليه- و كان عليلا من شكوى به-
فقال الحمد لله العزيز الجبار الواحد القهار- الكبير المتعال- سواء منكم من أسر القول و من جهر به- و من هو مستخف بالليل و سارب بالنهار- أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء- و على ما أحببنا و كرهنا من شدة و رخاء- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أن محمدا عبده و رسوله امتن علينا بنبوته- و اختصه برسالته و أنزل عليه وحيه- و اصطفاه على جميع خلقه و أرسله إلى الإنس و الجن- حين عبدت الأوثان و أطيع الشيطان- و جحد الرحمن فصلى الله عليه و على آله و جزاه أفضل ما جزى المسلمين- أما بعد فإني لا أقول لكم إلا ما تعرفون- إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- أرشد الله أمره و أعز نصره- بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب- و إلى العمل بالكتاب و الجهاد في سبيل الله- و إن كان في عاجل ذلك ما تكرهون- فإن في آجله ما تحبون إن شاء الله- و لقد علمتم أن عليا صلى مع رسول الله ص وحده- و إنه يوم صدق به لفي عاشرة من سنه- ثم شهد مع رسول الله ص جميع مشاهده- و كان من اجتهاده في مرضاة الله و طاعة رسوله- و آثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم- و لم يزل رسول الله ص راضيا عنه- حتى غمضه بيده و غسله وحده- و الملائكة أعوانه و الفضل ابن عمه ينقل إليه الماء- ثم أدخله حفرته و أوصاه بقضاء دينه و عداته- و غير ذلك من أموره- كل ذلك من من الله عليه- ثم و الله ما دعا إلى نفسه- و لقد تداك الناس عليه- تداك الإبل الهيم عند ورودها- فبايعوه طائعين- ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه- و لا خلاف أتاه حسدا له و بغيا عليه- فعليكم عباد الله بتقوى الله و طاعته- و الجد و الصبر و الاستعانة بالله-و الخفوف إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين- عصمنا الله و إياكم بما عصم به أولياءه و أهل طاعته- و ألهمنا و إياكم تقواه- و أعاننا و إياكم على جهاد أعدائه- و أستغفر الله العظيم لي و لكم ثم مضى إلى الرحبة فهيأ منزلا لأبيه أمير المؤمنين- . قال جابر فقلت لتميم- كيف أطاق هذا الغلام ما قد قصصته من كلامه- فقال و لما سقط عني من قوله أكثر- و لقد حفظت بعض ما سمعت- .

قال و لما نزل علي ع ذا قار- كتبت عائشة إلى حفصة بنت عمر أما بعد- فإني أخبرك أن عليا قد نزل ذا قار- و أقام بها مرعوبا خائفا لما بلغه من عدتنا و جماعتنا- فهو بمنزلة الأشقر- إن تقدم عقر و إن تأخر نحر- فدعت حفصة جواري لها يتغنين و يضربن بالدفوف- فأمرتهن أن يقلن في غنائهن- ما الخبر ما الخبر علي في السفر كالفرس الأشقر- إن تقدم عقر و إن تأخر نحر- . و جعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة- و يجتمعن لسماع ذلك الغناء- . فبلغ أم كلثوم بنت علي ع فلبست جلابيبها- و دخلت عليهن في نسوة متنكرات- ثم أسفرت عن وجهها فلما عرفتها حفصة خجلت- و استرجعت فقالت أم كلثوم- لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم- لقد تظاهرتما على أخيه من قبل فأنزل الله فيكما ما أنزل- فقالت حفصة كفى رحمك الله- و أمرت بالكتاب فمزق و استغفرت الله- . قال أبو مخنف- روى هذا جرير بن يزيد عن الحكم- و رواه الحسن بن دينار عن الحسن البصري و ذكر الواقدي مثل ذلك- و ذكر المدائني أيضا مثله- قال فقال سهل بن حنيف في ذلك هذه الأشعار-

عذرنا الرجال بحرب
الرجال فما للنساء و ما للسباب‏

أ ما حسبنا ما أتينا به‏
لك الخير من هتك ذاك الحجاب‏

و مخرجها اليوم من بيتها
يعرفها الذنب نبح الكلاب‏

إلى أن أتانا كتاب لها
مشوم فيا قبح ذاك الكتاب‏

 قال فحدثنا الكلبي عن أبي صالح- أن عليا ع لما نزل ذا قار في قلة من عسكره- صعد الزبير منبر البصرة- فقال أ لا ألف فارس أسير بهم إلى علي- فأبيته بياتا و أصبحه صباحا- قبل أن يأتيه المدد- فلم يجبه أحد فنزل واجما- و قال هذه و الله الفتنة التي كنا نحدث بها- فقال له بعض مواليه رحمك الله يا أبا عبد الله- تسميها فتنة ثم نقاتل فيها- فقال ويحك و الله إنا لنبصر ثم لا نصبر- فاسترجع المولى ثم خرج في الليل فارا- إلى علي ع فأخبره فقال اللهم عليك به- .

قال أبو مخنف- و لما فرغ الحسن بن علي ع من خطبته- قام بعده عمار فحمد الله و أثنى عليه- و صلى على رسوله ثم قال أيها الناس- أخو نبيكم و ابن عمه يستنفركم لنصر دين الله- و قد بلاكم الله بحق دينكم- و حرمة أمكم فحق دينكم أوجب و حرمته أعظم- أيها الناس عليكم بإمام لا يؤدب- و فقيه لا يعلم و صاحب بأس لا ينكل- و ذي سابقة في الإسلام ليست لأحد- و إنكم لو قد حضرتموه بين لكم أمركم إن شاء الله- .

قال فلما سمع أبو موسى خطبة الحسن و عمار- قام فصعد المنبر و قال- الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد فجمعنا بعد الفرقة- و جعلنا إخوانا متحابين بعد العداوة- و حرم علينا دماءنا و أموالنا قال الله سبحانه- وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ-و قال تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها- فاتقوا الله عباد الله و ضعوا أسلحتكم- و كفوا عن قتال إخوانكم- . أما بعد يا أهل الكوفة إن تطيعوا الله باديا- و تطيعوني ثانيا تكونوا جرثومة من جراثيم العرب- يأوي إليكم المضطر و يأمن فيكم الخائف- إن عليا إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة- و طلحة و الزبير حواري رسول الله- و من معهم من المسلمين- و أنا أعلم بهذه الفتن أنها إذا أقبلت شبهت- و إذا أدبرت أسفرت- إني أخاف عليكم أن يلتقي غاران منكم فيقتتلا- ثم يتركا كالأحلاس الملقاة بنجوة من الأرض- ثم يبقى رجرجة من الناس- لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن منكر- إنها قد جاءتكم فتنة كافرة لا يدرى من أين تؤتى- تترك الحليم حيران- كأني أسمع رسول الله ص بالأمس يذكر الفتن- فيقول أنت فيها نائما خير منك قاعدا- و أنت فيها جالسا خير منك قائما- و أنت فيها قائما خير منك ساعيا- فثلموا سيوفكم و قصفوا رماحكم- و انصلوا سهامكم و قطعوا أوتاركم- و خلوا قريشا ترتق فتقها- و ترأب صدعها فإن فعلت فلأنفسها ما فعلت- و إن أبت فعلى أنفسها ما جنت سمنها في أديمها- استنصحوني و لا تستغشوني- و أطيعوني و لا تعصوني- يتبين لكم رشدكم و يصلى هذه الفتنة من جناها- فقام إليه عمار بن ياسر فقال- أنت سمعت رسول الله ص يقول ذلك- قال نعم هذه يدي بما قلت- فقال إن كنت صادقا فإنما عناك بذلك وحدك- و اتخذ عليك الحجة- فالزم بيتك و لا تدخلن في الفتنة- أما إني أشهد أن رسول الله ص- أمر عليا بقتال الناكثين- و سمى له فيهم من سمى- و أمره بقتال القاسطين- و إن شئت لأقيمن لك شهودا يشهدون- أن رسول الله ص‏ إنما نهاك وحدك- و حذرك من الدخول في الفتنة- ثم قال له أعطني يدك على ما سمعت- فمد إليه يده- فقال له عمار غلب الله من غالبه و جاهده- ثم جذبه فنزل عن المنبر- .

و روى محمد بن جرير الطبري في التاريخ- قال لما أتى عليا ع الخبر و هو بالمدينة- بأمر عائشة و طلحة و الزبير- و أنهم قد توجهوا نحو العراق- خرج يبادر و هو يرجو أن يدركهم و يردهم- فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا- فأقام بالربذة أياما- و أتاه عنهم أنهم يريدون البصرة فسر بذلك- و قال إن أهل الكوفة أشد لي حبا- و فيهم رؤساء العرب و أعلامهم- فكتب إليهم- إني قد اخترتكم على الأمصار و إني بالأثر- .

قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله كتب علي ع من الربذة إلى أهل الكوفة- أما بعد فإني قد اخترتكم- و آثرت النزول بين أظهركم- لما أعرف من مودتكم و حبكم لله و رسوله- فمن جاءني و نصرني فقد أجاب الحق- و قضى الذي عليه – .

قال أبو جعفر- فأول من بعثه علي ع من الربذة إلى الكوفة- محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر- فجاء أهل الكوفة إلى أبي موسى و هو الأمير عليهم- ليستشيروه في الخروج إلى علي بن أبي طالب ع- فقال لهم أما سبيل الآخرة فأن تقعدوا- و أما سبيل الدنيا فأن تخرجوا- . و بلغ المحمدين قول أبي موسى الأشعري- فأتياه و أغلظا له فأغلظ لهما- و قال‏لا يحل لك القتال مع علي- حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل- حيث كان- و قالت أخت علي بن عدي- من بني عبد العزى بن عبد شمس- و كان أخوها علي بن عدي من شيعة علي ع- و في جملة عسكره-

لا هم فاعقر بعلي جمله
و لا تبارك في بعير حمله‏
ألا علي بن عدي ليس له‏

قال أبو جعفر ثم أجمع علي ع على المسير- من الربذة إلى البصرة- فقام إليه رفاعة بن رافع- فقال يا أمير المؤمنين- أي شي‏ء تريد و أين تذهب بنا- قال أما الذي نريد و ننوي فإصلاح- إن قبلوا منا و أجابوا إليه- قال فإن لم يقبلوا- قال ندعوهم و نعطيهم من الحق ما نرجو أن يرضوا به- قال فإن لم يرضوا قال ندعهم ما تركونا- قال فإن لم يتركونا- قال نمتنع منهم قال فنعم إذا- . و قام الحجاج بن غزية الأنصاري- فقال و الله يا أمير المؤمنين لأرضينك بالفعل- كما أرضيتني منذ اليوم بالقول ثم قال-

دراكها دراكها قبل الفوت
و انفر بنا و اسم بنا نحو الصوت‏
لا وألت نفسي إن خفت الموت‏

و لله لننصرن الله عز و جل كما سمانا أنصارا- . قال أبو جعفر رحمه الله- و سار علي ع نحو البصرة- و رأيته مع ابنه محمد بن الحنفية- و على ميمنته عبد الله بن عباس- و على ميسرته عمر بن أبي سلمة- و علي ع في القلب على ناقة حمراء- يقود فرسا كميتا- فتلقاه بفيد غلام من‏ بني سعد بن ثعلبة يدعى مرة- فقال من هؤلاء- قيل هذا أمير المؤمنين فقال- سفرة قانية فيها دماء من نفوس فانية- فسمعها علي ع فدعاه- فقال ما اسمك قال مرة- قال أمر الله عيشك أ كاهن سائر اليوم- قال بل عائف فخلى سبيله- و نزل بفيد فأتته أسد و طيئ- فعرضوا عليه أنفسهم- فقال الزموا قراركم ففي المهاجرين كفاية- . و قدم رجل من الكوفة فيدا- فأتى عليا ع فقال له من الرجل- قال عامر بن مطرف- قال الليثي قال الشيباني- قال أخبرني عما وراءك- قال إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبك- و إن أردت القتال فأبو موسى ليس لك بصاحب- فقال ع ما أريد إلا الصلح إلا أن يرد علينا

قال أبو جعفر و قدم عليه عثمان بن حنيف- و قد نتف طلحة و الزبير شعر رأسه و لحيته و حاجبيه- فقال يا أمير المؤمنين- بعثتني ذا لحية و جئتك أمرد- فقال أصبت خيرا و أجرا- ثم قال أيها الناس إن طلحة و الزبير بايعاني- ثم نكثاني بيعتي و ألبا علي الناس- و من العجب انقيادهما لأبي بكر و عمر و خلافهما علي- و الله إنهما ليعلمان أني لست بدونهما- اللهم فاحلل ما عقدا- و لا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما- و أرهما المساءة فيما قد عملا – .

قال أبو جعفر- و عاد محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر إلى علي ع- فلقياه و قد انتهى إلى ذي قار فأخبراه الخبر- فقال علي ع لعبد الله بن العباس- اذهب أنت إلى الكوفة فادع أبا موسى إلى الطاعة- و حذره من العصيان و الخلاف و استنفر الناس- فذهب عبد الله بن عباس حتى قدم الكوفة- فلقي أبا موسى و اجتمع الرؤساء من أهل الكوفة- فقام أبو موسى فخطبهم و قال- إن أصحاب رسول الله ص صحبوه في مواطن كثيرة- فهم أعلم بالله ممن لم يصحبه- و إن لكم علي حقاو أنا مؤديه إليكم- أمر ألا تستخفوا بسلطان الله- و ألا تجترءوا على الله أن تأخذوا كل من قدم عليكم- من أهل المدينة في هذا الأمر فتردوه إلى المدينة- حتى تجتمع الأمة على إمام ترتضي به- إنها فتنة صماء النائم فيها خير من اليقظان- و اليقظان خير من القاعد و القاعد خير من القائم- و القائم خير من الراكب- فكونوا جرثومة من جراثيم العرب- أغمدوا سيوفكم و أنصلوا أسنتكم- و اقطعوا أوتار قسيكم- حتى يلتئم هذا الأمر و تنجلي هذه الفتنة- .

قال أبو جعفر رحمه الله- فرجع ابن عباس إلى علي ع فأخبره- فدعا الحسن ابنه ع و عمار بن ياسر- و أرسلهما إلى الكوفة- فلما قدماها كان أول من أتاهما مسروق بن الأجدع- فسلم عليهما و أقبل على عمار- فقال يا أبا اليقظان علام قتلتم أمير المؤمنين- قال على شتم أعراضنا و ضرب أبشارنا- قال فو الله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به- و لئن صبرتم لكان خيرا للصابرين- ثم خرج أبو موسى فلقي الحسن ع فضمه إليه- و قال لعمار يا أبا اليقظان- أ غدوت فيمن غدا على أمير المؤمنين- و أحللت نفسك مع الفجار- قال لم أفعل و لم تسوءني- فقطع عليهما الحسن و قال لأبي موسى- يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا- فو الله ما أردنا إلا الإصلاح- و ما مثل أمير المؤمنين يخاف على شي‏ء- قال أبو موسى صدقت بأبي و أمي- و لكن المستشار مؤتمن- سمعت رسول الله ص يقول- ستكون فتنة و ذكر تمام الحديث- فغضب عمار و ساءه ذلك و قال أيها الناس- إنما قال رسول الله ص ذلك له خاصة- و قام رجل من بني تميم- فقال لعمار اسكت أيها العبد- أنت أمس مع الغوغاء و تسافه أميرنا اليوم- و ثار زيد بن صوحان و طبقته فانتصروا لعمار- و جعل أبو موسى يكف الناس و يردعهم عن الفتنة- ثم انطلق حتى صعد المنبر- و أقبل زيد بن صوحان و معه كتاب من عائشة إليه خاصة- و كتاب منها إلى أهل الكوفة عامة- تثبطهم عن نصرة
علي و تأمرهم بلزوم الأرض- و قال أيها الناس انظروا إلى هذه- أمرت أن تقر في بيتها- و أمرنا نحن أن نقاتل حتى لا تكون فتنة- فأمرتنا بما أمرت به و ركبت ما أمرنا به- فقام إليه شبث بن ربعي فقال له- و ما أنت و ذاك أيها العماني الأحمق- سرقت أمس بجلولاء فقطعك الله و تسب أم المؤمنين- فقام زيد و شال يده المقطوعة- و أومأ بيده إلى أبي موسى و هو على المنبر- و قال له يا عبد الله بن قيس أ ترد الفرات عن أمواجه- دع عنك ما لست تدركه ثم قرأ- الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا- أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا… الآيتين- ثم نادى سيروا إلى أمير المؤمنين و صراط سيد المرسلين- و انفروا إليه أجمعين- و قام الحسن بن علي ع- فقال أيها الناس أجيبوا دعوة إمامكم- و سيروا إلى إخوانكم- فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه- و الله لأن يليه أولو النهى- أمثل في العاجلة و خير في العاقبة- فأجيبوا دعوتنا و أعينونا على أمرنا أصلحكم الله- .

و قام عبد خير فقال يا أبا موسى- أخبرني عن هذين الرجلين- أ لم يبايعا عليا قال بلى- قال أ فأحدث علي حدثا يحل به نقض بيعته- قال لا أدري قال لا دريت و لا أتيت- إذا كنت لا تدري فنحن تاركوك حتى تدري- أخبرني هل تعلم أحدا خارجا عن هذه الفرق الأربع- علي بظهر الكوفة و طلحة و الزبير بالبصرة- و معاوية بالشام و فرقة رابعة بالحجاز- قعود لا يجبى بهم في‏ء و لا يقاتل بهم عدو- فقال أبو موسى أولئك خير الناس- قال عبد خير اسكت يا أبا موسى- فقد غلب عليك غشك- . قال أبو جعفر- و أتت الأخبار عليا ع باختلاف الناس بالكوفة- فقال للأشتر- أنت شفعت في أبي موسى أن أقره على الكوفة- فاذهب فأصلح ما أفسدت-

فقام الأشتر فشخص نحو الكوفة- فأقبل حتى دخلها و الناس في المسجد الأعظم- فجعل لا يمر بقبيلة إلا دعاهم- و قال اتبعوني إلى القصر- حتى وصل القصر فاقتحمه- و أبو موسى يومئذ يخطب الناس على المنبر و يثبطهم- و عمار يخاطبه و الحسن ع يقول- اعتزل عملنا و تنح عن منبرنا لا أم لك- .

قال أبو جعفر فروى أبو مريم الثقفي- قال و الله إني لفي المسجد يومئذ- إذ دخل علينا غلمان أبي موسى- يشتدون و يبادرون أبا موسى- أيها الأمير هذا الأشتر قد جاء- فدخل القصر فضربنا و أخرجنا- فنزل أبو موسى من المنبر و جاء حتى دخل القصر- فصاح به الأشتر اخرج من قصرنا لا أم لك- أخرج الله نفسك- فو الله إنك لمن المنافقين قديما- قال أجلني هذه العشية قال قد أجلتك- و لا تبيتن في القصر الليلة- و دخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى- فمنعهم الأشتر و قال إني قد أخرجته و عزلته عنكم- فكف الناس حينئذ عنه- .

قال أبو جعفر فروى الشعبي- عن أبي الطفيل قال قال علي ع يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل و رجل واحد – فو الله لقعدت على نجفة ذي قار- فأحصيتهم واحدا واحدا- فما زادوا رجلا و لا نقصوا رجلا

فصل في نسب عائشة و أخبارها

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع- طرفا من نسب عائشة و أخبارها- و ما يقوله أصحابنا المتكلمون فيها- جريا على عادتنا في ذكر مثل ذلك- كلما مررنا بذكر أحد من الصحابة-أما نسبها فإنها ابنة أبي بكر- و قد ذكرنا نسبه فيما تقدم- و أمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر- بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع- بن دهمان بن الحارث بن تميم بن مالك بن كنانة- تزوجها رسول الله ص بمكة قبل الهجرة بسنتين- و قيل بثلاث و هي بنت ست سنين- و قيل بنت سبع سنين- و بنى عليها بالمدينة و هي بنت تسع لم يختلفوا في ذلك- .

و كانت تذكر لجبير بن مطعم و تسمى له- و ورد في الأخبار الصحيحة- أن رسول الله ص أري عائشة في المنام في سرقة حرير- متوفى خديجة رضي الله عنها- فقال إن يكن هذا من عند الله يمضه- فتزوجها بعد موت خديجة بثلاث سنين- و تزوجها في شوال و أعرس بها بالمدينة في شوال- على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره إلى المدينة- . و قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب- كانت عائشة تحب أن تدخل النساء- من أهلها و أحبتها في شوال على أزواجهن- و تقول هل كان في نسائه أحظى عنده مني- و قد نكحني و بنى علي في شوال- . قلت قرئ هذا الكلام على بعض الناس- فقال كيف رأت الحال بينها و بين أحمائها- و أهل بيت زوجها- .

و روى أبو عمر بن عبد البر في الكتاب المذكور- أن رسول الله ص توفي عنها- و هي بنت ثمان عشرة سنة- فكان سنها معه تسع سنين و لم ينكح بكرا غيرها- و استأذنت رسول الله ص في الكنية- فقال لها اكتني بابنك عبد الله بن الزبير- يعني ابن أختها- فكانت كنيتها أم عبد الله- و كانت فقيهة عالمة بالفرائض و الشعر و الطب- .

و روي أن النبي ص قال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام – و أصحابنا يحملون لفظة النساء- في هذا الخبر على زوجاته- لأن فاطمة ع عندهم أفضل منها لقوله ص إنها سيدة نساء العالمين – . و قذفت بصفوان بن المعطل السلمي في سنة ست- منصرف رسول الله ص من غزاة بني المصطلق و كانت معه- فقال فيها أهل الإفك ما قالوا- و نزل القرآن ببراءتها- . و قوم من الشيعة زعموا- أن الآيات التي في سورة النور لم تنزل فيها- و إنما أنزلت في مارية القبطية- و ما قذفت به مع الأسود القبطي- و جحدهم لإنزال ذلك في عائشة جحد- لما يعلم ضرورة من الأخبار المتواترة- ثم كان من أمرها و أمر حفصة- و ما جرى لهما مع رسول الله ص- في الأمر الذي أسره على إحداهما- ما قد نطق الكتاب العزيز به- و اعتزل رسول الله ص نساءه كلهن- و اعتزلهما معهن ثم صالحهن- و طلق حفصة ثم راجعها- و جرت بين عائشة و فاطمة إبلاغات و حديث يوغر الصدور- فتولد بين عائشة و بين علي ع نوع ضغينة- و انضم إلى ذلك إشارته على رسول الله ص- في قصة الإفك بضرب الجارية و تقريرها- و قوله إن النساء كثير- .

ثم جرى حديث صلاة أبي بكر بالناس- فتزعم الشيعة أن رسول الله ص لم يأمر بذلك- و أنه إنما صلى بالناس عن أمر عائشة ابنته- و أن رسول الله ص خرج متحاملا و هو مثقل- فنحاه عن المحراب- و زعم معظم المحدثين أن ذلك كان- عن أمر رسول الله ص و قوله- ثم اختلفوا فمنهم من قال نحاه و صلى هو بالناس- و منهم من قال بل ائتم بأبي بكر كسائر الناس- و منهم‏ من قال- كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر- و أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله ص- .

ثم كان منها في أمر عثمان و تضريب الناس عليه- ما قد ذكرناه في مواضعه ثم تلا ذلك يوم الجمل- . و اختلف المتكلمون في حالها- و حال من حضر واقعة الجمل- فقالت الإمامية كفر أصحاب الجمل كلهم- الرؤساء و الأتباع- و قال قوم من الحشوية و العامة- اجتهدوا فلا إثم عليهم- و لا نحكم بخطئهم و لا خطإ علي ع و أصحابه- . و قال قوم من هؤلاء بل نقول- أصحاب الجمل أخطئوا و لكنه خطأ مغفور- و كخطإ المجتهد في بعض مسائل الفروع- عند من قال بالأشبه- و إلى هذا القول يذهب أكثر الأشعرية- . و قال أصحابنا المعتزلة كل أهل الجمل هالكون- إلا من ثبتت توبته منهم- قالوا و عائشة ممن ثبتت توبتها- و كذلك طلحة و الزبير- أما عائشة فإنها اعترفت لعلي ع يوم الجمل- بالخطإ و سألته العفو- و قد تواترت الرواية عنها بإظهار الندم- و أنها كانت تقول- ليته كان لي من رسول الله ص بنون عشرة- كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- و ثكلتهم و لم يكن يوم الجمل- و أنها كانت تقول ليتني مت قبل يوم الجمل- و أنها كانت إذا ذكرت ذلك اليوم تبكي حتى تبل خمارها- و أما الزبير فرجع عن الحرب- معترفا بالخطإ لما أذكره علي ع ما أذكره- و أما طلحة فإنه مر به و هو صريع فارس- فقال له قف فوقف- قال من أي الفريقين أنت- قال من أصحاب أمير المؤمنين- قال أقعدني فأقعده- فقال امدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين فبايعه- .

و قال شيوخنا ليس لقائل أن يقول- ما يروى من أخبار الآحاد بتوبتهم- لا يعارض ما علم قطعا من معصيتهم- قالوا لأن التوبة إنما يحكم بها للمكلف- على غالب الظن في جميع المواضع لا على القطع- أ لا ترى أنا نجوز- أن يكون من أظهر التوبة منافقا و كاذبا- فبان أن المرجع في قبولها- في كل موضع إنما هو إلى الظن- فجاز أن يعارض ما علم من معصيتهم بما يظن من توبتهم

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 14