خطبه39شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام فى الخوارج لما سمع قولهم: لا حكم إلا للّه،

قال عليه السّلام

كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ- نَعَمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ- وَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ- إِلَّا لِلَّهِ- وَ إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ

أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ- يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ- وَ يَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ- وَ يُبَلِّغُ اللَّهُ فِيهَا الْأَجَلَ وَ يُجْمَعُ بِهِ الْفَيْ‏ءُ- وَ

يُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وَ تَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ- وَ يُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ- حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ- وَ

فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ ع لَمَّا سَمِعَ تَحْكِيمَهُمْ قَالَ حُكْمَ اللَّهِ أَنْتَظِرُ فِيكُمْ- وَ قَالَ أَمَّا الْإِمْرَةُ الْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا

التَّقِيُّ- وَ أَمَّا الْإِمْرَةُ الْفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا الشَّقِيُّ- إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ وَ تُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ

المعنى

قوله: كلمة حقّ يراد بها الباطل
أقول: قوله: كلمة حقّ يراد بها الباطل. هذه كلمة ردّ لما انغرس في أذهان الخوارج من حقيّة دعاء أصحاب معاوية إلى كتاب اللّه: أى أنّ دعائهم لكم إلى كتاب اللّه كلمة حقّ‏ لكن ليس مقصودهم بها كتاب اللّه بل غرض آخر باطل و هو فتور الحرب عنهم و تفرّق أهوائكم و نحوه ممّا لا يجوز أن يفعل.

قوله: لا حكم إلّا للّه.
 تصديق لقولهم لكن لما عليه الكلمة في نفس الأمر لا لما رأوه حقّا من ظاهرها فإنّ حصر الحكم ليس بحقّ على معنى أنّه ليس للعبد أن يحكم بغير ما نصّ كتاب اللّه عليه فإنّ أكثر الأحكام الفروعيّة غير منصوص عليها مع أنّها أحكام اللّه بل تكون منتزعة بحسب الاجتهاد و ساير طرقها لمن كان أهلا لذلك، و يجب على من ليس له أهليّة الاجتهاد امتثالها، و لمّا تصوّر الخوارج تلك الكلمة بمعنى أنّه لا يصحّ حكم لم يوجد في كتاب اللّه و لا يجوز امتثاله و العمل به لا جرم قال: نعم لا حكم إلّا للّه لكن هؤلاء القوم يقولون: لا إمرة: أي لمّا نفوا أن يكون لغير اللّه حكم لم ينصّ عليه فقد نفوا الإمرة لأنّ استنباط الأحكام و النظر في وجوه المصالح من لوازم الإمرة الّتي هى حال الأمير في رعيّته، و نفى اللازم يستلزم نفى الملزوم، و لمّا كانوا قد نفوا الإمرة كذّبهم عليه السّلام بقوله: و لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر. فكان جملة الكلام في معنى شرطيّة متّصلة هكذا: إذا قالوا لا حكم إلّا للّه كما تصوّروه فقد قالوا بنفى الإمرة لكنّ القول بنفى الإمرة باطل فالقول بنفى الحكم إلّا للّه كما تصوّروه باطل. فقوله: و لا بدّ للناس من أمير. في معنى استثناء نقيض تالى المتّصلة، و تقريره: أنّ الإنسان خلق ممنوّا بمقارنة النفس الأمّارة بالسوء محتاجا إلى مجموع قوى في بدنه هى منابع الشرّ. فأهواء الخلق لذلك مختلفة، و قلوبهم متفرّقة فكانت طبيعة نظام أحوالهم في معاشهم و بقائهم محوجة إلى سلطان قاهر تأتلف برهبته الأهواء، و تجتمع بهيبته القلوب، و تنكفّ بسطوته الأيدى العادية إذ في طباع الخلق من حبّ المغالبة على ما آثروه، و القهر لمن عاندوه ما لا ينكفّون عنه إلّا بمانع قوىّ و رادع ملىّ. و قد أفصح المتنبّى عن ذلك حيث يقول:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتّى يراق على جوانبه الدم‏
و الظلم من شيم النفوس فإن‏
تجد ذاعفة فلعلّة لا يظلم‏

و هذه العلّة المانعة من الظلم عند الاستقراء يرجع إلى امور أربعة: إمّا عقل زاجر، أو دين حاجز، أو عجز مانع، أو سلطان رادع. و السلطان القاهر أبلغها نفعا لأنّ العقل و الدين ربّما كانا مغلوبين بدواعى الهوى فيكون رهبة السلطان أقوى ردعا و أعمّ نفعا و إن كان جائرا فإنّه روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه ليؤيّد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة، و روى: بالرجل الفاسق، و روى عنه أنّه قال: الإمام الجائر خير من الفتنة فكلّ لا خير فيه في، و بعض الشرّ خيار: أى و أنّ وجود الإمام و إن كان جائرا خير من عدمه المستلزم لوجود الفتنة و وقوع الهرج و المرج بين الخلق إذ كان بوجوده صلاح بعض الامور على أنّه و إن كان لا خير فيه أيضا من جهة ما هو جائر كما قال: و كلّ لا خير فيه إلّا أنّ هيبته و وجوده بين الخلق ممّا يوجب الانزجار عن إثارة الفتن و يكون ذلك خيرا وقع في الوجود بوجوده لا يحصل مع عدمه فوجوده مطلقا واجب و ذلك معنى قوله عليه السّلام: لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر.

و قوله: يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر.
 الضمير في إمرته لمّا عاد إلى الأمير، و كان لفظ الأمير محتملا للبرّ و الفاجر كان المراد بالإمرة الّتي يعمل فيها المؤمن إمرة الأمير من حيث هو برّ، و بالّتي يستمتع فيها الكافر إمرته من حيث هو فاجر، و هذا أولى من قول بعض الشارحين: إنّ الضمير يعود إلى الفاجر فإنّ إمرة الفاجر ليست مظنّة تمكّن المؤمن من عمله، و المراد يعمل المؤمن في إمرة البرّ عمله على وفق أوامر اللّه و نواهيه إذ ذلك وقت تمكّنه منه، و المراد باستمتاع الكافر في إمرة الفاجر انهما كه في اللذّات الحاضرة الّتي يخالف فيها أوامر اللّه و ذلك في وقت تمكّنه من مخالفة الدين.

و قوله: يبلّغ اللّه فيها الأجل.
 أى في إمرة الأمير سواء كان برّا أو فاجرا، و فائدة هذه الكلمة تذكير العصاة ببلوغ الأجل و تخويفهم به.

و قوله: و يجمع به الفى‏ء. إلى قوله: القوىّ.
 الضمائر المجرورة كلّها راجعة إلى الأمير المطلق إذ قد تحصل الامور المذكورة كلّها من وجوده كيف كان برّا أو فاجرا. و ممّا يؤيّد ذلك أنّ أكثر الخلق متّفقون على أنّ‏ امراء بنى اميّة كانوا فجّارا عدا رجلين أو ثلاثة: كعثمان و عمر بن عبد العزيز و كان الفى‏ء يجمع بهم، و البلاد تفتح في أيّامهم، و الثغور الإسلاميّة محروسة، و السبل آمنة، و القوىّ مأخوذ بالضعيف، و لم يضرّ جورهم شيئا في تلك الامور.

و قوله: حتّى يستريح برّ و يستراح من فاجر.
 غاية من الامور المذكورة: أى غاية صدور هذه الامور أن يستريح برّ بوجودها و يستراح من تعدّى الفاجر و بغيه، و قيل: أراد أنّ هذه الامور لا تزال تحصل بوجود الأمير برّا كان أو فاجرا إلى أن يستريح برّ بموته، و يستراح من فاجر بموته أو بعزله، و أمّا الرواية الاخرى فمعنى الكلام فيها ظاهر، و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 102

خطبه38شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

مُنِيتُ بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ- وَ لَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ- لَا أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ- أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ

لَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ- أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَ أُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً- فَلَا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا وَ لَا تُطِيعُونَ لِي أَمْراً-

حَتَّى تَكَشَّفَ الْأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَسَاءَةِ- فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ وَ لَا يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ- دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ-

فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الْأَسَرِّ- وَ تَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ النِّضْوِ الْأَدْبَرِ- ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ- كَأَنَّما

يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ

أقول: يروى أنّ هذه الخطبة خطب بها عليه السّلام في غارة النعمان بن بشير بعين التمر. و السبب أنّ معاوية بعث النعمان بن بشير في ألفى فارس لإرهاب أهل العراق فأقبل حتّى دنا من عين التمر، و كان عاملها يومئذ من قبل علىّ عليه السّلام مالك بن كعب الأرجىّ و لم يكن معه إذ ذاك سوى مائة رجل و نحوها فكتب مالك إليه عليه السّلام يعلمه الخبر. فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: اخرجوا هداكم اللّه إلى مالك بن كعب أحنيكم فإنّ نعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير فانهضوا إلى إخوانكم لعلّ اللّه يقطع بكم طرفا من الكافرين. ثمّ نزل فتثاقلوا فأرسل إلى وجوههم فأمرهم بالنهوض فتثاقلوا و لم يجتمع منهم إلّا نفر يسير نحو ثلاث مائة رجل فقام عليه السّلام و قال: [ألا إنّى‏] منيت. الفصل، و يروى أنّ الدايرة كانت لمالك بمن معه على النعمان و جمعه.

اللغة

منيت: أى ابتليت. و يحمشكم: أى يغضبكم. و المستصرخ: المستجلب بصوته من ينصره. و الغوث: الصوت يستصرخ به، و قيل: هو قول الرجل: و اغوثاه. و الثار: الذحل.و الجرجرة: ترديد صوت البعير في ضجرته عند عسفه. و السرّ: داء يأخذ البعير في سرّته يقال منه جمل أسرّ. و النضو من الإبل: البالى من تعب السير. و الأدبر: الّذي به دبر و هى القروح في ظهره.

و في الفصل مطالب:

الأوّل: قوله: منيت بمن لا يطيع. إلى قوله: دعوت.
و هو إظهار لغدر نفسه على أصحابه لينسب إليهم التقصير دونه و يقع عليهم لائمة غيرهم.
الثاني: قوله: لا أبالكم. إلى قوله: مرام.
و هو استنهاض لهم إلى نصرة اللّه بسؤالهم عن سبب تثاقلهم عن نصرته و الذبّ عن دينه سؤالا على سبيل الإنكار للسبب، و تنبيه لهم على الأسباب الّتي توجب اجتماعهم لنصرة اللّه و الغضب له بسؤالهم عنها هل هى موجودة لهم أم لا سؤالا على سبيل الإنكار أيضا إذ هم يدّعون وجودها لهم و هى الدين الّذي امروا بلزومه و الاتّحاد فيه كما قال تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ«» الآية. ثمّ الحميّة و هى ملكة تحت الشجاعة، و كذلك قوله: أقوم فيكم. إلى قوله: أمرا. من الأسباب الباعثة لهم أيضا على الاجتماع فإنّ ذكر حاله من استصراخه لهم و استغاثته بهم مع ذكر حالهم في مقابلة ذلك من تثاقلهم عن ندائه و عدم طاعتهم له ممّا ينبّئهم على خطأهم و تقصيرهم. و قوله: حتّى تكشّف الامور عن عواقب المسائة. ذكر لغاية تثاقلهم عن دعوته و تنبيه بذكر استعقابه للمساءة على خطأهم فيه، و كذلك قوله: فما يدرك بكم ثار و لا يبلغ بكم مرام. عتاب و توبيخ يبعث طباع العرب على التآلف في النصرة إذ من شأنهم ثوران الطباع بمثل هذه الأقوال.

و قوله: دعوتكم. إلى قوله: الأدبر. استعار لفظ الجرجرة لكثرة تملّلهم و قوّة تضجّرهم من ثقل ما يدعوهم إليه، و لمّا كانت جرجرة الجمل الأسرّ أشدّ من جرجرة غيره لاحظ شبه ما نسبه إليهم من التضجّر بها. و كذلك تشبيهه تثاقلهم بتثاقل النضو الأدبر و ذكرهم ما دعاهم إليه من‏ نصرة أخوانهم أعنى أصحاب مالك بن كعب المذكور و جوابهم له بالتبرّم من ذلك و التثاقل ثمّ أردف ذلك بتصغير من خرج منهم من الجند و وصفه بالاضطراب و الضعف. و تشبيههم بمن يساق إلى الموت و هو ينظر في تثاقله و اضطرابه و ضعفه عن الحركة إلى ما يساق إليه لشدّة خوفه. كلّ ذلك ذمّ و توبيخ يستثير به طباعهم عمّا هى عليه من التثاقل عن ندائه و التقصير في إجابة دعائه. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 100

خطبه37شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

وَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ- فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ- وَ دَلِيلُهُمْ سَمْتُ

الْهُدَى- وَ أَمَّا أَعْدَاءُ اللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلَالُ- وَ دَلِيلُهُمُ الْعَمَى- فَمَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ وَ لَا يُعْطَى

الْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ‏

المعنى

أقول: يحتمل أن يكون هذا الكلام فصلين:

أحدهما: قوله: و إنّما سمّيت الشبهة. إلى قوله: و دليلهم العمى
و الثاني: و الباقى.

فالفصل الأوّل إشارة إلى علّة تسمية الشبهة شبهة، ثمّ إلى بيان حال الناس فيها.

أمّا الأوّل: فالشبهة عباره عمّا يشبه الحقّ ممّا يحتجّ به إمّا في صورته أو في مادّته أو فيهما معا، و ظاهر أنّ علّة تسميتها شبهة هو ذلك الشبه. فلذلك حصرها فيه.

و أمّا الثاني: فلأنّ الناس إمّا أولياء اللّه أو أعداء له. أمّا أولياؤه فلمّا كانت نفوسهم مشرقة بنور اليقين مستضيئة بمصباح النبوّة في سلوك الصراط المستقيم كان بتلك الأنوار هدى أذهانهم في ظلمات الشبهات و حرزهم عن الهوى في مهاوى الجهالات كما قال تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ«» الآية. و هو الهدى المأمور بلزوم سمته و السلوك إلى المطالب الحقّة، و هو المراد بقوله: فضياؤهم فيها اليقين، و دليلهم سمت الهدى، و أمّا أعداؤه فليس دعاؤهم إلى ما يدعون إليه إلّا ضلالا عن القصد القويم، و إضلالا للخلق عن الطريق الحقّ و ليس ما يعتمدونه دليلا يزعمون أنّهم يهدون به السبيل إلّا شبهة هى في نفسها عمى لأبصارهم [لبصائرهم خ‏] عن مطالعة نور الحقّ و طمس لأذهان من استجاب لهم عند اهتداء سلوك سبيل اللّه وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.

و أمّا الفصل الثاني: و هو قوله: فما ينجو. إلى آخره.
فصدق القضيّة الاولى قوله تعالى قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ«» و قوله أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ«» الآية. و حاصله التذكير بها دم اللذّات، و التخويف بذكره، و التنفير عن محبّة ما لا بدّ من زواله ليفرغ السامعون إلى العمل لما بعده إن أخذ التوفيق بأزمّة عقولهم فإنّ خوفه و محبّة ضدّه و هو البقاء لا ينفعان في الخلاص منه لكونه ضروريّا في الطبيعة، و يحتمل أن يكون الكلام متصّلا و يكون الفصل الثاني قد سبق له قبل الأوّل كلام يحسن تعلّقه به، و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 99

 

خطبه36شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام يجرى مجرى الخطبة

فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا- وَ تَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا- وَ نَطَقْتُ حِينَ تَمْنَعُوا-وَ مَضَيْتُ بِنُورِ اللَّهِ حِينَ وَقَفُوا- وَ كُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وَ أَعْلَاهُمْ فَوْتاً- فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا وَ اسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا- كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ- وَ لَا تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ- لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيَّ مَهْمَزٌ وَ لَا لِقَائِلٍ فِيَّ مَغْمَزٌ- الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ- وَ الْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ- رَضِينَا عَنِ اللَّهِ قَضَاءَهُ وَ سَلَّمْنَا لِلَّهِ أَمْرَهُ- أَ تَرَانِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص – وَ اللَّهِ لَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ- فَلَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ- فَنَظَرْتُ فِي أَمْرِي- فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي- وَ إِذَا الْمِيثَاقُ فِي عُنُقِي لِغَيْرِي

اللغة

أقول: التعتعة: الاضطراب في الكلام عند الحصر. و تطلّع الأمر: اختباره و تعرّفه. و التقبّع: التقبّض. يقال: قبع القنفذ إذا قبض رأسه بين كتفيه. و الاستبداد: الانفراد. و الرهان: ما يرهن و يستبق عليه. و الهمز: الغيبة بالعيب، و كذلك الغمز.

قال بعض الشارحين: هذا الفصل فيه فصول أربعة التقطها الرضىّ رحمه اللّه من كلام طويل له عليه السّلام قاله بعد وقعة النهروان ذكر فيه حاله منذ توفّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إلى آخر وقته.

الفصل الأوّل:

فقمت بالأمر حين فشلوا. إلى قوله: برهانها.
هذا الكلام ورد في معرض افتخاره و إثبات فضيلته على سائر الصحابة لغاية قبول رأيه. فقيامه بالأمر حين فشلهم إشارة إلى فضيلة شجاعته: أى فقمت بأمر اللّه بين يدي رسوله و بعده في الحروب و المقامات الصعبة الّتي ضعفوا عنها و الأوقات الّتي فشلوا فيها و أمره في ذلك ظاهر.

و قوله: و نطقت حين تعتعوا [تمنّعوا خ‏]. إشارة إلى ملكة الفصاحة المستتبعة لملكة العلم: أى نطقت في القضايا المهمّة و الأحكام المشكلة و المقاول الّتي حصرت فيها بلغاؤهم، فكنّى بنطقه و تعتعتهم عن فضاحتهم و عيّهم.

و قوله تطلّعت حين تقبّعوا. إشارة إلى كبر الهمّة في تحصيل ما ينبغي للإنسان أن يحصّله من تعرّف الامور و اختبارها و النظر في مصادرها و مواردها، و هي ملكة تحت الشجاعة، و لمّا كان التطّلع على الأمر يحتاج الإنسان فيه إلى نحو من التطاول و مدّ العنق و تحديق العين و نحوه، و كان تعرّف الامور و اختبارها لابدّ فيه من بعث رائد الفكر الّذي هو عين النفس الّتي بها يبصر و تحديقه نحو الامور المعقولة و إرسال المتخيّلة لتفتيش خزائن المحسوسات أشبه ذلك التطلّع فاستعار له لفظ التطلّع و كنّى به عنه،

و قوله: حين تقبّعوا. أي كان تعرّفي للأمور حين قصورهم عن ذلك، و لمّا كان التقبّع يقابل مدّ العين و التطاول إلى رؤية الأشياء المسمّى تطلّعا، و كان قصور أفكارهم و عدم اعتبارهم للأشياء يقابل مدّ الفكر و تطاول الذهن إلى معرفة الامور و كان قصور الفكر أيضا و العجز عن المعرفة يشبه التقبّع استعار لفظ التقبّع و كنّى به عنه.

و قوله: و مضيت بنور اللّه حين وقفوا. إشارة إلى فضيلة العلم أى كان سلوكى لسبيل الحقّ على وفق العلم و هو نور اللّه الّذي لا يضلّ من اهتدى به. و ذلك حين وقفوا حائرين متردّدين جاهلين بالقصد و كيفيّة سلوك الطريق. و إنّما أثبت لنفسه هذه الفضائل و قرن كلّ فضيلة له برذيلة فيهم يقابلها لتبيّن فضله بالنسبة إليهم إذ كان الغرض ذلك.

و قوله: و كنت أخفضهم صوتا و أعلاهم صوتا. كنّى بخفض الصوت عن ربط الجأش في الامور و الثبات فيها و التصميم على فعل ما ينبغي من غير التفات إلى الحوادث [الجواذب خ‏] و الموانع على فعل ما هو خير و مصلحة فإنّ كثرة الأصوات و علوّها في الأفعال الّتي هي مظنّة الخوف دليل الفشل، و لا شكّ أنّ من كان أشدّ في ذلك كان أعلى صوتا و أشدّ سبقا إلى مراتب الكمال و درجات السعادة ممّن كان أضعف فيه.

و قوله: فطرت بعنانها و استبددت برهانها. الضميران يعودان إلى الفضيلة و إن لم يجر لها ذكر لفظىّ فاستعار هاهنا لفظ الطيران للسبق العقلىّ لما يشتركان فيه من معنى السرعة، و استعار لفظى العنان و الرهان اللذين هما من متعلّقات الخيل للفضيلة الّتي استكملتها نفسه تشبيها لها مع فضائل نفوسهم بخيل الحلبة، و وجه المشابهة أنّ الصحابة- رضى اللّه عنهم- لمّا كانوا يقتنون الفضائل و يستبقون بها إلى رضوان اللّه و سعادات الآخرة كانت فضائلهم الّتي عليها يستبقون كخيل الرهان، و لمّا كانت فضيلته عليه السّلام أكمل فضايلهم و أتمّها كانت بالنسبة إلى فضائلهم كالفرس الّذي لا يشقّ غباره. فحسن منه أن يستعير لسبقه بها لفظ الطيران، و يجرى عليها لفظ العنان و الرهان.

الفصل الثاني:

قوله: لا تحرّكه القواصف. إلى قوله: آخذ الحقّ منه.
و هذا الفصل يحكى فيه قيامه بأعباء الخلافة حين انتهائها إليه و جريه فيها على القانون العدل و الأوامر الإلهيّة.

فقوله: كالجبل. تشبيه له في الثبات على الحقّ بالجبل فكما لا تحرّكها قواصف الرياح و عواصفها كذلك هو لا تحرّكه عن سواء السبيل مراعاة هوى لأحد أو اتّباع طبع يخالف ما يقتضيه سنّة اللّه و شرعه بل هو ثابت على القانون العدل و موافقة الأمر الإلهىّ.

و قوله: لم يكن لأحد فيّ مهمز و لا لقائل فيّ مغمز. أي لم يكن فيّ عيب اعاب به. و قد راعى في هذه القرائن الأربع مع الأربع الأخيرة من الفصل الأوّل السجع المتوازى.

و قوله: الذليل عندى عزيز حتّى آخذ الحقّ له. إعزازه للذليل اعتناؤه بحاله و اهتمامه بأمر ظلامته، و من اعتنى بحال إنسان فقد أعزّه ثمّ جعل لإعزازه غاية هى أخذ الحقّ له، و كذلك قوله: و القوىّ عندى ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه، فإنّ ضعف القوى هو قهره تحت حكمه إلى غايه يستوفى منه حقّ المظلوم.
فإن قلت: يفهم من هاتين الغايتين أنّ نظره إلى الذليل بعد استيفاء حقّه و إلى‏ القوىّ بعد أخذ الحقّ منه لا يكون على السواء بل يكون التفاته إلى القوىّ أكثر و ذلك ليس من العدل.

قلت: إنّه لمّا لم يكن الغرض من الأمر بمساواة النظر بين الخلق إلّا أخذ حقّ الضعيف من القوىّ و عدم التظالم بينهم لم تجب مساواة النظر بين الضعيف و القوىّ إلّا من تلك الجهة. و لم يكن إعزازه المقوىّ و إكرامه في غير وجه الظلم قبيحا لجواز انفراده بفضيلة يوجب إعزازه من جهة الدين أيضا.

الفصل الثالث:

قوله: رضينا عن اللّه قضاؤه و سلّمنا له أمره. إلى قوله: من كذب عليه.
قيل: ذكر ذلك عليه السّلام لما تفرّس في طائفة من قومه أنّهم يتّهمونه فيما يخبرهم به عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم من أخبار الملاحم في الامور المستقبلة، و قد كان منهم من يواجهه بذلك كما روى أنّه لمّا قال: سلونى قبل أن تفقدونى فو اللّه لا تسألونى عن فئة تضلّ مائة و تهدى مائة إلّا أنبأتكم بناعقها و سائقها. قام إليه أنس النخعىّ فقال: أخبرنى كم في رأسى و لحيتى طاقة شعر. فقال عليه السّلام: و اللّه لقد حدّثنى حبيبى أنّ على كلّ طاقة شعر من رأسك ملك يلعنك، و أنّ على كلّ طاقة شعر من لحيتك شيطانا يغويك، و أنّ في بيتك سخلا يقتل ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كان ابنه سنان بن أنس قاتل الحسين عليه السّلام يومئذ طفلا يحبو، و سيأتى بعض تلك الأخبار.

فقوله: رضينا عن اللّه قضاءه و سلّمنا له أمره. قد عرفت أنّ الرضا بقضاء اللّه و التسليم لأمره باب من أبواب الجنّة يفتحه اللّه لخواصّ أوليائه، و لمّا كان عليه السّلام سيّد العارفين بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كان قلم القضاء الإلهىّ قد جرى على قوم بالتكذيب له و التهمة فيما يقول لا جرم هو كان عليه السّلام أولى الناس بلزوم باب الرضا. و قوله: أ ترانى أكذب. إلى قوله: عليه. استنكار لما صدر منهم في حقّه من التكذيب، و إيراد حجّة لبطلان أوهامهم في حقّه بصورة قياس الضمير مع نتيجته، و تقديره و اللّه لأنا أوّل من صدّقه و كلّ من كان‏ أوّل مصدّق له فلن يكون أوّل مكذّب له ينتج أنّي لا أكون أوّل مكذّب له
الفصل الرابع: قوله: فنظرت في أمرى إلى آخره.

فيه إحتمالان: أحدهما قال بعض الشارحين: إنّه مقطوع من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّه كان معهودا إليه أن لا ينازع في أمر الخلافة بل إن حصل له بالرفق و إلّا فليمسك. فقوله: فنظرت فإذا طاعتى قد سبقت بيعتى: أى طاعتى لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيما أمرنى به من ترك القتال قد سبقت بيعتى للقوم فلا سبيل إلى الامتناع منها.

و قوله: و إذا الميثاق في عنقى لغيرى. أى ميثاق رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و عهده إلىّ بعدم المشاقّة، و قيل: الميثاق ما لزمه من بيعة أبى بكر بعد ايقاعها: أى فإذا ميثاق القوم قد لزمنى فلم يمكنني المخالفة بعده. الاحتمال الثاني: أن يكون ذلك في تضجّره و تبرّئه من ثقل أعباء الخلافة، و تكلّف مداراة الناس على اختلاف أهوائهم. و يكون المعنى إنّى نظرت فإذا طاعة الخلق لى و اتّفاقهم علىّ قد سبقت بيعتهم لى، و إذا ميثاقهم قد صار في عنقى فلم أجد بدّا من القيام بأمرهم و لم يسعني عند اللّه إلّا النهوض بأمرهم و لو لم يكن كذلك لتركت كما قال من قبل: أما و اللّه لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها. و الأوّل أشهر بين الشارحين، و اللّه أعلم بالصواب.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 93

خطبه35شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام (في تخويف أهل النهروان)

فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا النَّهَرِ- وَ بِأَهْضَامِ هَذَا الْغَائِطِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ- وَ لَا سُلْطَانٍ

مُبِينٍ مَعَكُمْ- قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ الدَّارُ وَ احْتَبَلَكُمُ الْمِقْدَارُ- وَ قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هَذِهِ الْحُكُومَةِ- فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ

الْمُخَالِفِينَ- حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَى هَوَاكُمْ- وَ أَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ- سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ وَ لَمْ آتِ لَا أَبَا لَكُمْ

بُجْراً- وَ لَا أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً

أقول: الخطاب للخوارج الّذين قتلهم عليه السّلام بالنهروان، و قد كان القضاءالالهىّ‏ سبق فيهم بما كان منهم من الخروج. روي في صحيح الأخبار أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بينا هو يقسم قسما جاءه رجل من بنى تميم يقال له ذو الخويصرة فقال: اعدل يا محمّد فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: قد عدلت. فقال له ثانية: اعدل يا محمّد فإنّك لم تعدل. فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ويلك من يعدل إذا لم أعدل. فقام عمر و قال: يا رسول اللّه ائذن لى في ضرب عنقه. فقال: دعه فسيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يخرجون على خير فرقة من الناس تحتقر صلاتكم عند صلاتهم و صومكم عند صومهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فيهم رجل أسود مخدج اليد إحدى يديه كأنّها ثدى امرأة أو بضعة يقتله أولى الفريقين بالحقّ. و في مسند أحمد عنه عن مسروق قال: قالت لى عايشة: إنّك من ولدى و أحبّهم إليّ فهل عندك علم من المخدج. فقلت: نعم قتله علىّ بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تأمر و لأسفله النهروان بين لخاقيق و طرفاء. فقالت: ايتنى على ذلك بيّنة. فأقمت على ذلك رجالا شهدوا عندها بذلك ثمّ قلت لها: سألتك بصاحب القبر ما الّذي سمعت منه فيهم. فقالت: سمعته يقول: إنّهم شرّ الخلق و الخليقة يقتلهم خير الخلق و الخليقة، و أقربهم عند اللّه وسيلة. فأمّا سبب خروج هؤلاء القوم فهو أنّه عليه السّلام لمّا قهره أصحابه على التحكيم و أظهروا عنه الرضى به بعد أنّ حذّرهم و وعظهم فلم يلتفوا كتبوا كتاب التحكيم و أخذه الأشعث بن قيس فطاف به على أصحاب معاوية فرضوا به، و طاف به على أصحاب علىّ فرض را به حتّى مرّ برايات عنزه و كان مع عليّ عليه السّلام منهم بصفّين أربعة آلاف فارس فلمّا قرء الكتاب عليهم قال فتيان منهم: لا حكم إلّا للّه ثمّ حملا على أصحاب معاوية فقتلا فهما أوّل من حكم، ثمّ مرّ على مراد، ثمّ على رايات بنى راسب، ثمّ على بنى تميم فكلّ فرقة فرأه عليهم قالوا: لا حكم إلّا للّه لا نرضى و لا نحكّم الرجال في دين اللّه فرجع الأشعث فأخبر عليّا عليه السّلام بذلك فاستصغر أمرهم و ظنّ أنّهم قليلون، فلمّا بلغهم أمر الحكمين ما راعه إلّا و الناس يتنادون من كلّ جانب لا حكم إلّا للّه الحكم للّه يا عليّ لا لك و قد كنّا أخطأنا حين رضينا بالحكمين فرجعنا إلى اللّه و تبنا فارجع أنت و تب إلى اللّه كما تبنا و إلّا برئنا منك. فأبى عليه السّلام الرجوع، و قال: و يحكم أبعد العهد نرجع فما نصنع بقوله تعالى أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ«» الآية و أبت الخوارج إلّا تضليل التحكيم‏ و الطعن فيه فبرئوا من علىّ و برى‏ء منهم ثمّ كان اجتماعهم بحرور فسمّاهم عليه السّلام لذلك الحروريّة فناظرهم بها فرجع منهم ألفان ثمّ مضوا إلى النهروان و كان أميرهم يومئذ عبد اللّه بن الكوّا، و حين القتال عبد اللّه بن وهب الراسبى فسار إليهم فخطبهم و قال: نحن أهل بيت النبوّة و موضع الرسالة و مختلف الملائكة و عنصر الرحمة و معدن العلم و الحكمة أيّها القوم إنّي نذير لكم. الفصل، و روى أنّه عليه السّلام لمّا قتلهم طلب ذو الثدية فيهم طلبا شديدا فلم يجده فجعل يقول: و اللّه ما كذب و لا كذبت اطلبوا الرجل و إنّه لفي القوم.
فلم يزل يطلبه حتّى وجده في و هدة من الأرض تحت القتلى و هو رجل مخدج اليد كأنّها ثدي في صدره و عليها شعرات كسبال الهرّة فكبّر عليّ عليه السّلام و كبّر الناس معه و سرّوا بذلك.

اللغة

الأهضام: جمع هضم و هو المطمئنّ من الوادي. وح الغائط: ما سفل من الأرض.
و طوّحت بكم: أي توّهتكم في اموركم و رمت بكم المرامى. و احتبلكم: أوقعكم في الحبالة. و النكر: المنكر، و يروى بحرا. و البحر: الأمر العظيم و الداهية، و يروى هجرا: و هو الساقط من القول، و يروى عرّا. و العرّ و المعرّة: الإثم، و العرّ أيضا: داء يأخذ الإبل في مشافرها و يستعار للداهية.

المعنى

و اعلم أنّ حاصل هذا الفصل تحذير للقوم من الهلاك و هم على غير بيّنة من ربّهم و لا حجّة واضحة يحتجّون بها على ما يدّعونه حقّا و يقاتلون عليه و ذلك ممّا يجب الحذر منه إذ فيه حرمان سعادة الدارين، و إنّما سمّيت الحجّة نفسها سلطانا لأنّ بها الغلبة و التسلّط و هو من باب الاستعارة.

و قوله: قد طوّحت بكم الدار.
 كنّى بالدار عن الدنيا و إنّما نسب هلاكهم أو إبعادهم و رميهم إليها لأنّ المهلك لهم و الموجب لتيههم إنّما هو اتّباع أهوائهم الباطلة الّتي منشاؤها إنّما هو تحصيل أمر دنيويّ من مال أو جاه و نحوه فكانت الدنيا هي الّتي رمت بهم المرامى عن رحمة اللّه و أخرجتهم عن طاعته.

و قوله: و احتبلكم المقدار.
استعارة حسنة لإحاطة القدر النازل عن قضاء اللّه بهم فهو كحبالة الصايد الّتي لا يخرج للطائر منها إذا نزلت به.

و قوله: كنت نهيتكم عن هذه الحكومة. إلى قوله: إلى هواكم.
 تقرير للحجّة عليهم و كأنّه يقول لهم: إن كان الحقّ هو عدم الحكومة فلم طلبتموها و أبيتم علىّ إباء المخالفين المنابذين لمّا نهيتكم عنها حتّى صرت إلى أهوائكم فيها، و إن كان الحقّ هو ايقاعها فلم شاققتمونى الآن لمّا أوقعتها و جعلت للّه علىّ بها عهدا. و على التقديرين يلزمهم الخطاء،

و قوله: و أنتم معاشر أخفّاء الهام سفهاء الأحلام.
 الواو للحال و العامل صرفت، و الإضافة في أخفّاء و سفهاء غير محضة و لذلك صحّ كونهما و صفين لمعاشر، و خفّة الهامة كناية عن رذيلة الطيش المقابلة لفضيلة الثبات، و السفة رذيلة مقابلة للحلم، و الثبات و الحلم فضيلتان تحت ملكة الشجاعة، و لمّا كانت لهاتين الرذيلتين نسبة إلى الفضيلتين صحّ إضافتها إليهما.

و قوله: و لم آت- لا أبالكم- نكرا و لا أردت بكم ضرّا.
 خرج مخرج الاعتذار إليهم و استدراجهم ببيان تحسين فعله و نفي المنكر عنه و عدم قصد الإساءه إليهم ليرجعوا عمّا شبّه إليهم، و قوله: لا أبا لكم كلمة اعتيدت في ألسنة العرب. قال الجوهرى: يراد بها المدح، و قال غيره: يراد بها الذمّ فإنّ عدم اللحوق بأب يستلزم العار و السبّة، و قيل: هي دعاء على المرء أن لا يكون له أب يعزّه و يشدًّ ظهره و نفي الأب يستلزم نفي العشيرة له فكأنّه دعاء بالذلّ و عدم الناصر.
و اللّه أعلم.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 90

خطبه34شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام بعد التحكيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ إِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ- وَ الْحَدَثِ الْجَلِيلِ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ-

لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ص أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ-

تُورِثُ الْحَيرَةَ وَ تُعْقِبُ النَّدَامَةَ- وَ قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي- وَ نَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي- لَوْ كَانَ

يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ- فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ وَ الْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ- حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ وَ ضَنَّ

الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ- فَكُنْتُ أَنَا وَ إِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ

أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى               فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ

أقول: روى أنّ عمرو بن العاص و أبا موسى الأشعريّ لمّا التقيا بدومة الجندل و قد حكما في أمر الناس كان علىّ يومئذ قد دخل الكوفة ينتظر ما يحكمان به. فلمّا تمّت خدعة عمرو لأبي موسى و بلغه ذلك عليه السّلام اغتمّ له غمّا شديدا و وجم منه و قام فخطب الناس.

فقال: الحمد للّه. الفصل. و زاد بعد الاستشهاد ببيت دريد في بعض الروايات: ألا إنّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب و أحييا ما أمات‏ و اتّبع كلّ واحد منهما هواه و حكم بغير حجّة و لا بيّنة ماضية و اختلفا فيما حكما فكلاهما لم يرشدا للّه. فاستعدّوا للجهاد و تأهّبوا للمسير و أصبحوا في معسكر كم يوم كذا. و أمّا قصّة التحكيم و سببها فمذكور في التواريخ.

اللغة

و الخطب: الأمر العظيم. و فدحه الأمر: إذا عاله و أبهظه. و الجافي: خشن الطباع الّذي ينبوا طبعه عن المؤانسة فيقاطع و يباين.

المعنى

فقوله: الحمد للّه. إلى قوله: الجليل.
 قد عرفت نسبة الخير و الشرّ إلى الدهر على أىّ وجه هي، و مراده أحمد اللّه على كلّ حال من السرّاء و الضرّاء. و إن هنا للغاية. و يفهم من هذا الصدر وقوع الخطب الفادح و هو ما وقع من أمر الحكمين. و حمد اللّه عليه.

و قوله: ليس معه إله غيره. تأكيد لمعنى كلمة التوحيد و تقرير لمقتضاها.

و قوله: أمّا بعد. إلى قوله: الندامة.
 القيود الأربعة الّتي ذكرها من صفات المشير معتبرة في حسن الرأى و وجوب قبوله: أمّا كونه ناصحا فلأنّ الناصح يصدق الفكر و يمحض الرأى و غير الناصح ربّما يشير بفطير الرأى فيوقع في المضرّة، و أمّا كونه شفيقا فلأنّ الشفقة تحمل على النصح فتحمل على حسن التروّى في الأمر و ايقاع الرأى فيه من تثبّت و اجتهاد.

و الباعث على هذين أعنى النصح و الشفقة إمّا الدين أو محبّة المستشير، و أمّا كونه عالما ففائدته إصابته لعلمه وجه المصلحة في الأمر فإنّ الجاهل أعمى لا يبصر وجه المصلحة فيه. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: استرشدوا العاقل ترشدوا و لا تعصوه فتندموا، و قال عبد اللّه بن الحسن لابنه محمّد: احذر مشورة الجاهل و إن كان ناصحا كما تحذر عداوة العدوّ العاقل فإنّه كما يوشك أن يقع بك مكر العاقل كذلك يوشك أن يورّطك شور الجاهل، و أمّا كونه مجرّبا فلأنّه لا يتمّ رأى العالم ما لم ينضمّ إليه التجربة. و ذلك أنّ العالم و إن علم وجه المصلحة في الأمر إلّا أنّ ذلك الأمر قد يشتمل على بعض وجوه المفاسد لا يطّلع عليه إلّا بالتجربة مرّة و مرّة فالمشورة من دون تجربة مظنّة الخطاء، و قيل‏ في منثور الحكم: كلّ شي‏ء محتاج إلى العقل و العقل محتاج إلى التجارب. و إذا عرفت أنّ طاعة المشير الموصوف بالصفات المذكورة مستلزمة في أغلب الأحوال للسرور بحسن ثمرة رأيه و الفوز بها لا جرم كان معصيته و مخالفة رأيه مستلزمة للحسرة مستعقبة للندامة.

و قوله: و قد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمرى.
 لمّا قدّم أنّ معصية المشير المذكور تعقّب الحسرة و الندامة أردف ذلك ببيان أنّه هو المشير و أنّه أشار عليهم فخالفوه ليتّضح لهم أنّهم عصوا مشيرا قد استكمل شرائط الرأى فيتوقّعوا الندم على معصيته.

و قوله: و نخلت لكم مخزون رأيى.
 استعارة للفظ النخل لاستخلاص أسدّ آرائه و أجودها لهم بحسب اجتهاده، و وجه المشابهه أنّ أجود ما ينتفع به ممّا ينخل من دقيق و نحوه هو المنخول كذلك الرأى أجوده و أنفعه ما استخلص وصفى من كدورات الشهوة و الغضب.

و قوله: لو كان يطاع لقصير أمر.
 مثل. و قصير هذا هو قصير بن سعد اللخمىّ مولى جذيمة الأبرش بعض ملوك العرب. و أصل المثل أنّ جذيمة كان قتل أبا الزباء ملكة الجزيرة فبعثت إليه عن حين ليتزوّج بها خدعة و سألته القدوم فأجابها إلى ذلك، و خرج في ألف فارس و خلّف باقى جنوده مع ابن اخته عمرو بن عدّى، و كان قصير أشار إلى جذيمة أن لا يتوجّه إليها فلم يقبل رأيه فلمّا قرب جذيمة من الجزيرة استقبله جنود الزباء بالعدّة و لم ير منهم إكراما له فأشار عليه قصير بالرجوع عنها، و قال: إنّها امرأة و من شأن النساء الغدر.

فلم يقبل. فلمّا دخل إليها غدرت به و قتلته. فعندها قال قصير: لا يطاع لقصير أمر.
فذهبت مثلا لكلّ ناصح عصى و هو مصيب في رأيه. و قد يتوهّم أنّ جواب لو هاهنا متقدّم، و الحقّ أنّ جوابها محذوف و المعنى يتّضح بترتيب الكلام، و التقدير إنّى كنت أمرتكم أمرى في هذه الحكومة و نصحت لكم فلو اطعتموني لفعلتم ما أمرتكم به و محّضت لكم النصيحة فيه، فقولنا: لفعلتم هو تقدير الجواب، و ممّا ينبّه عليه أنّ قوله: فأبيتم علىّ إباء المخالفين الجفاة و المنابذين العصاة. و هو في تقدير استثناء نقيض ذلك‏ التالى، و تقديره لكنّكم أبيتم علىّ إباء من خالف الأمر و جفا المشير و عصاه حتّى شكّ في نصحه هل كان صوابا أو خطاء. و هذا الحكم حقّ فإنّ المشير بالرأى الصواب إذ اكثر مخالفوه فيه قد يتّهم نفسه في صحّة ذلك الرأى و صوابه لأنّ استخراج وجه المصلحة في الأمر أمر اجتهادىّ يغلب على الظنّ بكثرة الأمارات اللايحة للمشير فإذا جوّز المشير أن يكون خلاف ما رآه هو المصلحة فلا مانع إذن أن يعرض لغيره.

أمارات اخرى يغلب على ظنّه أنّ ما رآه هو ليس بمصلحة فيعارض بها ما رآه الأوّل حقّا و يخالفه في رأيه فإذا كثرت تلك المخالفة من جمع عظيم جاز أن يتشكّك الإنسان فيما ظنّه من المصلحة أنّه ليس بمصلحة و أنّ الأمارات الّتي اقتضت ذلك الظنّ غير صحيحة فلذلك قال عليه السّلام: حتّى ارتاب الناصح بنصحه. و عنى بالناصح نفسه أو من رأى رأيه لإطباق أكثر أصحابه على مخالفتهم، و قال بعض الشارحين: يحمل ذلك على المبالغة لأنّه عليه السّلام منزّه عن أن يشكّ فيما يراه صوابا بعد شوره به.

و قوله: و ضنّ الزند بقدحه.
 قيل: هو مثل يضرب لمن يبخل بفوائده إذا لم يجد لها قابلا عارفا بحقّها أو لم يتمكّن من إفادتها فإنّ المشير إذا اتّهم و استغّش أو خطى‏ء في رأيه ربما لا ينقدح له بعد ذلك رأى صالح لحكم الغضب عليه من جهة مخالفته و عدم قبول رأيه.

و لمّا كان غرضه أن يقرّر عليهم الندامة في مخالفة رأيه و يريهم ثمرة عصيان أمره الصادر عن معاينة وجه المصلحة كما هو قال: فكنت و إيّاكم كما قال اخو هوازن: أمرتهم أمرى. البيت، و هو لدريد بن الصمة من قصيدة له في الحماسة أوّلها: نصحت لعارض و أصحاب عارض و رهط بنى السوداء و القوم سهّدو قصّته في هذه القصيدة أنّ أخاه عبد اللّه بن الصمة غزا بنى بكر بن هوازن بن غطفان فغنم منهم و استاق إبلهم فلمّا كان بمنعرج اللوى قال: لا و اللّه لا أبرح حتّى أنحر البقيعة و هي ما ينحر من النهب قبل القسمة، و احيل السهام. فقال له أخوه دريد: لا تفعل. فإنّ القوم في طلبك. فأبى عليه و أقام و أنحر البقيعة و بات فلمّا أصبح هجم القوم عليه و طعن عبد اللّه بن صمة فاستغاث بأخيه دريد فنهنه عنه القوم حتّى طعن هو

أيضا و صرع و قتل عبد اللّه و حال الليل بين القوم فنجا دريد بعد طعنات و جراح حصل له فقال القصيدة، و إنّما قال عليه السّلام: أخو هوازن. لنسبته إليهم فإنّ دريدا ابن الصمة بن بنى جشم بن معاويه بن بكر بن هوازن. و نحوه قوله تعالى وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ لنسبته فيهم و كذلك قال لهم أخوهم لوط و يكفي في إطلاق لفظ الأخوّة مجازا مجرّد الاتّصال بهم و الملابسة لهم و قد عرفت ذلك، و وجه تمثّله عليه السّلام بالبيت: إنّى كنت و إيّاكم في نصيحتي و نهيي من الحكومة و مخالفتكم أمرى المستلزمة لندامتكم على التفريط كهذا القائل مع قومه حيث نصح لهم فعصوه فلحقهم من الندامة و الهلاك. و اعلم أنّ الّذي كان أشار به على أصحابه: هو ترك الحكومة و الصبر على قتال أهل الشام. و مجمل السبب أنّ أمارات الغلبة ليلة الهرّير كانت لايحة على أهل الشام فلمّا عاينوا الهلاك استشار معاوية بعمرو بن العاص في كيفيّة الخلاص فقال عمرو: إنّ رجالك لا تقوم لرجاله، و لست مثله إنّه يقاتلك على أمر و أنت تقاتله على غيره و أنت تريد البقاء و هو يريد الفناء، و أهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم و أهل الشام لا يخافون عليّا إن ظفر بهم، و لكن ألق إلى القوم أمرا إن قبلوه اختلفوا و إن ردّوه اختلفوا:

ادعهم إلى كتاب اللّه حكما فيما بينك و بينهم فإنّك بالغ به حاجتك فإنّى لم أزل ادّخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه فعرف معاوية ذلك فلمّا أصبحوا رفعوا المصاحف على أطراف الرماح و كان عددها خمس مائة مصحف و رفعوا مصحف المسجد الأعظم على ثلاثة رماح مشدودة يمسكها عشرة رهط و نادوا بأجمعهم: اللّه اللّه معشر العرب في النساء و البنات اللّه اللّه دينكم هذا كتاب اللّه بيننا و بينكم. فقال عليه السّلام: اللّهمّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب‏  يريدون فاحكم بيننا و بينهم إنّك أنت الحكم الحقّ المبين، و حينئذ اختلف أصحابه فقالت طائفة: القتال القتال، و قال أكثرهم: المحاكمة إلى الكتاب و لا يحلّ لنا الحرب و قد دعينا إلى حكم الكتاب و تنادوا من كلّ جانب الموادعة فقال عليه السّلام في جوابهم: أيّها الناس إنّى أحقّ من أجاب إلى كتاب اللّه و لكن معاوية و عمرو بن العاص و ابن أبي معيط ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن إنّى أعرف بهم منكم صحبتهم صغارا و رجالا فكانوا شرّ صغار و شرّ رجال و يحكم إنّها كلمة حقّ يراد بها الباطل إنّهم ما رفعوها إنّهم يعرفونها و لا يعلمون بها و لكنّها الخديعة و المكيدة و الوهن أعيرونى سواعدكم و جماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحقّ مقطعه و لم يبق إلّا أن يقطع دابر القوم الظالمين، فجاءه عشرون ألفا من أصحابه و نادوه باسمه دون إمرة المؤمنين: أجب اليوم إلى كتاب اللّه إذا دعيت و إلّا قتلناك كما قتلنا عثمان.

فقال عليه السّلام: و يحكم أنا أوّل من أجاب إلى كتاب اللّه، و أوّل من دعا إليه فكيف لا أقبله و إنّما قاتلتهم ليدينو بحكم القرآن و لكنّى قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم و ليس العمل بالقرآن يريدون.
فقالوا: ابعث إلى الأشتر يأتيك. و قد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله و لاح له الظفر فبعث إليه فرجع على كره منه و وقع بينه و بين من أجاب إلى الحكومة من أصحاب عليّ عليه السّلام مسابّ و مجادلات على ما اختاروا من ترك الحرب و تنادوا من كلّ جانب رضى أمير المؤمنين بالتحكيم و كتبوا عهدا على الرضا به، و سنذكر كيفيّته إجمالا إنشاء اللّه تعالى. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 85

خطبه33شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام فى استنفار الناس إلى أهل الشام

أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ- أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً- وَ بِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً- إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى

جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ- كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ- وَ مِنَ الذُّهُولِ فِي سَكْرَةٍ- يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حَوَارِي

فَتَعْمَهُونَ- فَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ فَأَنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ- مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالِي- وَ مَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ

بِكُمْ- وَ لَا زَوَافِرُ عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ- مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا- فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ-

لَبِئْسَ لَعَمْرُ اللَّهِ سُعْرُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ- تُكَادُونَ وَ لَا تَكِيدُونَ- وَ تُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلَا تَمْتَعِضُونَ- لَا يُنَامُ عَنْكُمْ وَ

أَنْتُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ- غُلِبَ وَ اللَّهِ الْمُتَخَاذِلُونَ- وَ ايْمُ اللَّهِ- إِنِّي لَأَظُنُّ بِكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى- وَ اسْتَحَرَّ

الْمَوْتُ- قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الرَّأْسِ- وَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ‏ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ- يَعْرُقُ لَحْمَهُ وَ

يَهْشِمُ عَظْمَهُ- وَ يَفْرِي جِلْدَهُ لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ- ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ- أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ-

فَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ- تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ- وَ تَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَ الْأَقْدَامُ- وَ

يَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يَشاءُ أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَ لَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ- فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ

لَكُمْ- وَ تَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ- وَ تَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وَ تَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا- وَ أَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ

بِالْبَيْعَةِ- وَ النَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَ الْمَغِيبِ- وَ الْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَ الطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ

أقول: روى أنّه  عليه السّلام خطب بهذه الخطبة بعد فراغه من أمر الخوارج و قد كان قام بالنهروان فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: أمّا بعد فإنّ اللّه تعالى قد أحسن بنا نصرتكم فتوجّهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم من أهل الشام. فقالوا له: قد نفدت نبالنا و كلّت سيوفنا ارجع بنا إلى مصرنا لنصلح عدّتنا، و لعلّ أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منّا لنستعين به. فأجابهم يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِكُمْ«» الآية فتلكّؤوا عليه و قالوا: إنّ البرد شديد. فقال: إنّهم يجدون البرد كما تجدون افّ لكم ثمّ تلا قوله تعالى قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ«» الآية. فقام منهم ناس و اعتذروا بكثرة الجراح في الناس و طلبوا أن يرجع بهم إلى الكوفة أيّاما. ثمّ يخرج بهم. فرجع بهم غير راض و أنزلهم نخيلة. و أمرهم أن يزمّلوا معسكرهم و يوّطنوا على الجهاد أنفسهم و يقلّوا زيارة أهلهم. فلم يقبلوا و جعلوا يتسلّلون و يدخلون الكوفة حتّى لم يبق معه إلّا القليل منهم. فلمّا رأى ذلك دخل الكوفة فخطب الناس. فقال: أيّها الناس استعدّوا لقتال عدوّ في جهادهم القربة إلى اللّه و درك الوسيلة عنده قوم حيازى عن الحقّ لا ينصرونه، موزعين بالجور و الظلم لا يعدلون به.
جفاة عن الكتاب نكب عن الدين يعمهون في الطغيان، و يتسكّعون في غمرة الضلال وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ و تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ وَكِيلًا قال: فلم ينفروا. فتركهم أيّاما ثمّ خطبهم هذه الخطبة فقال: افّ لكم. الفصل.

اللغة

افّ: كلمة تضجّر من الشي‏ء. و غمرات الموت: سكراته الّتي يغمر فيها العقل. و الذهول: النسيان و السهو. و يرتج عليكم: أى يفلق. و الحوار. المخاطبة. و تعمهون: تتحيّرون و تتردّدون. و المألوس: المجنون و المختلط العقل. و سجيس الليالى و سجيس الأوجس: أى أبدا مدى الليالي. و الزوافر: جمع زافرة، و زافرة الرجل أنصاره و عشيرته. و سعر: جمع ساعر، و إسعار النار تهييجها و إلهابها. و الامتعاض: الغضب. و حمس الوغى: اشتداد الحرب و جلبة الأصوات. و عرقت اللحم أعرقه: إذا لم أبق على العظم منه شيئا. و المشرّفية: سيوف منسوبة إلى مشارف: قرى من أرض العرب تدنوا من الريف. و فراش الهام: العظام الرقيقة تلى القحف.

المعنى

و اعلم أنّه عليه السّلام لمّا أراد استنفارهم إلى الحرب. و كانوا كثيرا ما يتثاقلون عن دعوته استقبلهم بالتأنيف و التضجّر بما لا يرتضيه من أفعالهم.

و قوله: لقد سئمت عتابكم.  تفسير لبعض ما تأنف منه.

و قوله: أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا، و بالذلّ من العزّ خلفا.
 استفهام على سبيل الإنكار عليهم يستلزم الحثّ على الجهاد فإنّ الجهاد لمّا كان مستلزما لثواب الآخرة و لعزّة الجانب، و خوف الأعداء، و القعود عنه يستلزم في الأغلب السلامة في الدنيا و البقاء فيها لكن مع طمع العدوّ فيهم و ذلّتهم له كانوا بقعودهم عنه كمن اعتاض الدنيا من الآخرة، و استخلف الذلّ من العزّة. و ذلك ممّا لا يرضى به ذو عقل سليم. و عوضا و خلفا منصوبان على التمييز.

قوله إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم. إلى قوله: لا تعقلون.
 تبكيت لهم و توبيخ برذائل تعرض لهم عند دعائه لهم إلى الجهاد.
الاولى: بأنّه تدور أعينهم حيرة و تردّدا و خوفا من أحد أمرين: إمّا مخالفة دعوته، أو الإقدام على الموت. و في كلا الأمرين خطر. ثمّ شبّه حالتهم تلك في دوران أعينهم و حيرتهم بحال المغمور في سكرات الموت، الساهى فيها عن حاضر أحواله، المشغول بما يجده من الألم. و نحوه قوله تعالى يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى‏ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.
الثانية: أنّه يرتج عليهم حواره، و يرتج في موضع الحال و تعمهون عطف عليه أى يرتج عليكم فيتحيّرون. ثمّ شبّه حالهم عند دعائه إلى الجهاد تشبيها ثانيا بحال من اختلط عقله أى أنّهم في حيرتهم و تردّدهم في جوابه كمختلط العقل ما يفقه ما يقول.

الثالثة: أنّهم ليسوا له بثقة أبدا. و هو وصف لهم برذيلة الخلف و الكذب المستلزم لعدم ثقته بأقوالهم.

الرابعة: كونهم ليسوا بركن يميل به المستند إليه في خصمه. يقال: فلان ركن شديد. استعارة له من ركن الجبل و هو جانبه لما بينهما من المشاركة في الشدّة و امتناع المعتصم به. و نحوه قوله تعالى قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ«» أى قوىّ يمنعني منكم و هو وصف بالتخاذل و العجز.

الخامسة: و لا زوافر عزّ يفتقر إليهم. و هو وصف لهم برذيلة الذلّ و الحقارة.

السادسة: تشبيههم بإبل ضلّ رعاتها، و الإيماء إلى وجه الشبه و هو أنّها كلّما جمعت من جانب انتشرت من جانب. إشارة إلى أنّهم ضعيفوا العزوم متشتّتوا الآراء لا يجتمعون على مصلحة بها يكون نظام أحوالهم في الدارين. و قد علمت أنّ ذلك من نقصان القوّة العلميّة فكانوا منها على رذيلة البله.

السابعة: كونهم ليسوا بسعر نار الحرب: أى ليسوا من رجالها. و ذلك أنّ مدار الحرب على الشجاعة و الرأى. و قد سبقت منه الإشارة إلى ذمّهم بالفشل و ضعف الرأى.

فإذن ليسوا من رجال الحرب، و لمّا استعار لهيجان الحرب لفظ النار لما يستلزمانه من الأذى الشديد رشّح تلك الاستعارة بذكر الإسعار و وصف رجالها به. الثامنة: كونهم يكادون و لا يكيدون: أى يخدعون و يمكر بهم عدوّهم في ايقاع الحيلة، و ليس لهم قوّة المكر و الحيلة به. و ذلك أيضا من رذيلة ضعف الرأى.

التاسعة: كونهم تنقص أطرافهم فلا يمتعضون: أى يغار العدوّ في كلّ وقت على بعض بلادهم فيحوزها فلا يشقّ ذلك عليكم و لا يدرككم منه أنفة و لا حميّة، و هو وصف لهم برذيلة المهانة.

العاشرة: كونهم في غفلة ساهون مع انتباه عدوّهم. و هو وصف لهم برذيلة الغفلة أيضا عمّا يراد بهم، و قلّة عقليّتهم لمصالح أنفسهم، و كلّ هذا التوبيخ تثقيف لهم و تنبيه لنفوسهم الراقدة في مراقد طبائعها على ما ينبغي لهم من المصالح الّتي يكون بها نظام أحوالهم على قانون الدين.

و قوله: غلب و اللّه المتخاذلون.
 تنبيه على أنّهم بتخاذلهم سيغلبون. و أورد الغلب المطلق بعلّة التخاذل لأنّهم للحكم العامّ أشدّ قبولا منهم له على أنفسهم إذ لو خصّصهم به فقال غلبتم و اللّه أو تخاذلتم لم يكن وقعه في الذوق كوقعه عامّا.

و قوله: و أيم اللّه. إلى قوله: انفراج الرأس.
 أقسم أنّه ليظنّ بهم أنّهم عند اشتداد الحرب و حرارة الموت ينفرجون عند انفراج الرأس: أى يتفرّقون أشدّ تفريق. و انفراج الرأس مثل. قيل: أوّل من تكلّم به أكثم بن صيفى في وصيّة له: يا بنىّ لا تنفرجوا عند الشدائد انفراج الرأس فإنّكم بعد ذلك لا تجتمعون على عزّ. و في معناه أقوال.
أحدها: قال ابن دريد: معناه أنّ الرأس إذا انفرج عن البدن لا يعود إليه و لا يكون بعده اتّصال و ذلك أشدّ انفراج.

الثاني: قال المفضّل، الرأس اسم رجل ينسب إليه قرية من قرى الشام يقال لها بيت الرأس و فيها يباع الخمر. قال حسّان: كان سببه من بيت رأس يكون مزاجها عسلا و ماء و هذا الرجل قد انفرج عن قومه و مكانه فلم يعد إليه فضرب به المثل في المباينة و المفارقة.

الثالث: قال بعضهم: معناه أنّ الرأس إذا انفرج بعض عظامه عن بعض كان ذلك بعيد الالتيام و العود إلى الصحّة.

الرابع: قال بعضهم: معناه انفرجتم عنّى رأسا أى بالكلّيّة.

الخامس: قيل معناه: انفراج من يريد أن ينجو برأسه.

السادس: قيل معناه: انفراج المرأة عن رأس ولدها حالة الوضع فإنّه يكون في غاية من الشدّة و تفرّق الاتّصال و الانفراج. و نحوه قوله عليه السّلام في موضع آخر: انفراج المرأة عن قبلها، و على كلّ تقدير فمقصوده شدّة انفصالهم و تفرّقهم عنه لهم أحوج ما يكون إليهم، و استحرار الموت يحتمل أن يراد به شدّته الشبيهة بالحرارة مجازا كما سبق، و يحتمل أن يراد به خلوصه و حضوره فيكون اشتقاقه من الحريّة، و الجملة الشرطية خبر أن المخفّفه من المثقّلة. و اسمها الضمير الشأن و هى مع اسمها و خبرها قائمة مقام مفعولى ظنّ، و فيه توبيخ لهم على التقصير البالغ في حقّه إلى حدّ أن يظنّ بهم الظنّ المذكور.

و قوله: و اللّه إنّ امرأ. إلى قوله: إن شئت.
 من لطيف الحيلة في الخطاب الموجب للانفعال عنه، و ذلك أنّه صوّر لهم أفعالهم من التخاذل على العدوّ و الضعف و سائر أفعالهم المذمومة الّتي الفوا التوبيخ و التعنيف بعبارة تريهم إيّاها في أقبح صورة و أشدّها كراهة إليهم و أبلغها نكاية فيهم و هو تمكينهم للعدوّ من أنفسهم فإنّ أفعالهم من التخاذل و نحوه. و هي بعينها تمكين للعدوّ فيما يريد بهم و إعداد له و تقوية لحاله، و لمّا كان من عادة ظفر العدوّ احتياج المال و القتل و تفريق الحال كنّى عن الأوّل بقوله: يعرق لحمه، و وجه استعارة عرق اللحم لسلب المال بكلّيّته ظاهر، و كذلك كنّى عن القتل و سائر أسباب الهلاك من فعل العدوّ بهشم العظم، و عن تمزيق الحال المنتظم بفرى الجلد. ثمّ لمّا كان من البيّن أنّ تخاذلهم تمكين لعدوّهم منهم و كان تمكين الإنسان لعدوّ من نفسه يفعل به الأفعال المنكرة لا يكون إلّا عن عجز عظيم و ضعف في القلب عن مقاومته لا جرم أثبت العجز و ضعف القلب لامرء مكّن عدوّه من نفسه و أكدّ ذلك بأنّ، و بالقسم البارّ، و كنّى بضعف القلب عن الجبن و أتى بذلك الإثبات على وجه عامّ لكلّ امرء فعل ذلك و لم يخصّهم بالخطاب و لا نسب تمكين العدوّ إليهم صريحا و إن كانوا هم المقصودين بذلك رجاء لنفارهم عن الدخول تحت هذا العموم بالانقياد  لأمره و الجهاد. ثمّ أردفه بالأمر أن يكونوا ذلك المرء الّذي وصفه بما وصفه أمرا على سبيل التهديد و التنفير، و ذلك قوله: أنت فكن ذاك إن شئت. أى ذاك المرء الموصوف بالعجز و الضعف. خطاب للشخص المطلق الصادق على أىّ واحد منهم كان و أمر له أن يكون بصفة المرء الموصوف أوّلا تنفيرا له عمّا ذكره ممّا يلزم الإنسان من الأحوال الرديئة عند تمكينه عدوّه من نفسه.

و روى: أنّه خاطب بقوله: أنت فكن ذاك. الأشعث بن قيس. فإنّه روى: أنّه قال و هو يخطب و يلوم الناس عن تقاعدهم عن الحرب: هلّا فعلت فعل ابن عفان فقال عليه السّلام له: إنّ فعل ابن عفان مخزاة على من لا دين له و لا وثيقة معه، و إنّ امرء أمكن عدوّه من نفسه يهشم عظمه و يفرى جلده لضعيف رأيه ما فوق عقله أنت فكن ذاك إن شئت. الفصل.

و قوله. فأمّا أنا. إلى قوله: ما يشاء.
 لما خيّرهم أن يكونوا ذلك المرء على سبيل التهديد أردف ذلك بالتبرّء من حال المرء المذكور ليكون لهم به عليه السّلام اسوة في النفار عن تمكين العدوّ من أنفسهم إلّا بعد بذل النفس في الجهاد أى على تقدير اختيار المخاطب تلك الحال فإنّه هو لا يختار ذلك الحال بل دون أن يعطى عدوّه من نفسه ذلك التمكين ضرب بالمشرّفية يطير منه الهام و تطيح منه السواعد و الأقدام، و كلّ ذلك كناية عن أشدّ المجاهدة، و يفعل اللّه بعد ذلك الجهاد و المناجزة ما يشاء من تمكين العدوّ أو عدم تمكينه فإنّ إليه مصير الامور و عواقبها.

و قوله: أيّها الناس. إلى آخره.
ذكر ما لهم عليه من الحقّ و ما له عليهم منه ليعرفهم أنّه أدّى ما عليه من الواجب لهم فينبغى لهم أن يخرجوا إليه من واجب حقّه الّذي فرض اللّه عليهم فبدء ببيان حقّهم‏ عليه أدبا و استدراجا لطباعهم فإنّ البداءة بحقّ الغير قبل حقّ النفس أليق بالأدب و هم لسماعه أقبل. فذكر منها أربعة امور بها يكون صلاح حالهم في الدارين.

أحدها: النصيحة لهم و هي حثّهم على مكارم الأخلاق و جذبهم إلى ما هو الأليق بهم في معاشهم و معادهم.

الثاني: توفير فيئهم عليهم بترك ظلمهم فيه و تفريقه في غير وجوهه ممّا ليس بمصلحة لهم كما نسبوه إلى من كان قبله.

الثالث: تعليمهم كيلا يجهلوا. و إنّما لم يقل كيما يعلموا لأنّ ظهور المنّة عليهم بذكر نفى الجهل عنهم أشدّ من ظهورها في ذكر عرض إيجاد العلم لهم و لذلك كان تأذّى الرجل و أنفته من أن يقال له: يا جاهل. أشدّ بكثير من نفار من يقال له: لست بعالم.

الرابع: تأديبهم كيما يعملوا. فهذه الامور الأربعة هي الواجبة على الإمام للرعيّة واحد منها يرجع إلى صلاح أبدانهم و قوامها: و هو توفير فيئهم عليهم بضبطه، و عدم التصرف فيه لغير وجوه مصالحهم. و إثنان يرجعان إلى صلاح حال نفوسهم إمّا من جهة إصلاح القوّة النظريّة: و هو التعليم لغرض العلم أو من جهة إصلاح القوّة العمليّة و هو التأديب لغرض العمل. و واحد مشترك بين مصلحتى البدن و النفس و نظام أحوالهما و هو النصيحة لهم. ثمّ أردف ذلك بيان حقّه عليه السّلام و ذكر أيضا أربعة.

الأوّل: الوفاء بالبيعة و هي أهمّ الامور إذ بها النظام الكلّىّ الجامع لهم معه.

الثاني: النصيحة له في غيبته و حضوره و الذبّ عنه إذ بذلك نظم شمل المصلحة بينهم و بينه أيضا.

الثالث: إجابته حين يدعوهم من غير تثاقل عن ندائه فإنّ للتثاقل عن دعوته ما علمت من قهر العدوّ. و غلبته عليهم و فوات مصالح عظيمة.

الرابع: طاعتهم له حين يأمرهم، و ظاهر أنّ شمل المصلحة لا ينتظم بدون ذلك. و أنت تعلم بأدنى تأمّل أنّ هذه الامور الأربعة و إن كانت حقوقا له عليهم إلّا أنّه إنّما يطلبها منهم لما يعود عليهم به من النفع في الدنيا و الآخرة فإنّ الوفاء ملكة تحت العفّة و النصيحة له سبب لانتظام امورهم به و إجابة دعوته إجابة لداعى اللّه الجاذب‏ إلى الخير و المصلحة، و كذلك طاعة أمره طاعة لأمر اللّه إذ هو الناطق به، و قد علمت ما تستلزمه إطاعة اللّه من الكرامة عنده. و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 77

خطبه32شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام عند خروجه لقتال أهل البصرة

قال عبد اللّه بن العباس: دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام بذى قار و هو يخصف نعله فقال لى: ما قيمة هذه النعل فقلت: لا قيمة لها. فقال‏ عليه السّلام:

و اللّه لهى أحب إلى من إمرتكم إلا أن أقيم حقا، أو أدفع باطلا، ثم خرج فحطب الناس فقال:- إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ

مُحَمَّداً ص- وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً وَ لَا يَدَّعِي نُبُوَّةً- فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ- وَ بَلَّغَهُمْ

مَنْجَاتَهُمْ- فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ وَ اطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ- أَمَا وَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا- حَتَّى وَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا مَا

ضَعُفْتُ وَ لَا جَبُنْتُ- وَ إِنَّ مَسِيرِي هَذَا لِمِثْلِهَا- فَلَأَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ- مَا لِي وَ لِقُرَيْشٍ-

وَ اللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ- وَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ- وَ إِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ

اللغة

أقول: ذوقار: موضع قريب من البصرة، و هو الموضع الّذي نصرت فيه العرب على الفرس قبل الإسلام. و يخصف نعله: أي يخرزها. و بوّأهم: أسكنهم. و المخلّة: المنزلة. و المنجاة: موضع النجاة. و القناة: الرمج، و عمود الظهر المنتظم للفقار.
و الصفاة: الحجر الأملس المنبسط. و الساقة: جمع سائق. و تولّت بحذافيرها: أي بأسرها. و البقر: الشقّ.

المعنى

و اعلم أنّه عليه السّلام قدّم لنفسه مقدّمة من الكلام أشار فيها إلى فضيلة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم في مبعثه و هو سوقه للخلق إلى الدين الحقّ ليبنى عليها فضيلة نفسه. و كانت غايته من ذلك توبيخ من خرج عليه من قريش و الاستعداد عليهم.

فقوله: إنّ اللّه بعث محمّدا. إلى قوله: صفاتهم. صدر الكلام. أشار فيه إلى فضيلة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم. و الواوان الداخلتان على حرفي النفى للحال. فإن قلت: كيف يجوز أن يقال إنّه لم يكن أحد من العرب في ذلك‏ الوقت يقرأ كتابا و كانت اليهود يقرءون التوراة و النصارى الإنجيل. قلت: إنّ الكتاب الّذي تدعيّه اليهود و تسميّه في ذلك الوقت التوراة ليس هو الكتاب الّذي انزل على. موسى عليه السّلام فإنّهم كانوا حرّفوه و بدلوه فصار كتابا آخر بدليل قوله تعالى قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى‏ نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً«» و ظاهر أنّه من حيث هو مبدّل و محرّف ليس هو المنزّل على موسى عليه السّلام، و أمّا الكتاب الّذي تدّعى النصارى بقاءه في أيديهم فغير معتمد على نقلهم فيه لكونهم كفّارا بسبب القول بالتثليث، و أمّا النافون للتثليث فهم في غاية القلّة فلا يفيد قولهم: إنّ ما في أيديهم هو إنجيل عيسى. علم فإذن لا يكون المقرّ و لهم حال مبعث محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم كتابا هو من عند اللّه. سلّمناه لكن يحتمل أن يريد بالعرب جمهورهم فإنّ أكثرهم لم يكن له دين و لا كتاب و إنّما كان بعضهم يتمسّك بآثار من شريعة إسماعيل و بعضهم برسوم لهم.

و قوله: فساق الناس حتّى بوّأهم محلّتهم.
الإشارة بسوقه لهم إلى سوقه العقلىّ لأذهانهم بحسب المعجزات إلى تصديقه فيما جاء به بحسب ما جاءهم من القرآن الكريم و السنّة النبويّة و إلى معرفة سبيل اللّه، ثمّ بحسب الترغيب لبعضهم و الترهيب للبعض إلى سلوك تلك السبيل. فأصبحوا و قد تبوّؤوا محلّتهم: أى منزلتهم و مرتبتهم الّتي خلقوا لأجلها، و كانت هي مطلوب العناية الأزليّة بوجودهم في هذا الدار و هي لزوم القصد في سبيل اللّه المسمّى إسلاما و دينا و إيمانا و هو في الحقيقة المنجاة الّتي لا خوف على سالكها و لا سلامة للمنحرف عنها، و ذلك معنى قوله: و بلّغهم منجاتهم.

و قوله: و استقامت قناتهم.

و المراد بالقناة: القوّة و الغلبة و الدولة الّتي حصلت لهم مجازا و هو من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب فإنّ الرمح أو الظهر سبب للقوّة و الشدّة، و معنى إسناد الاستقامة إليها انتظام قهرهم و دولتهم.

و قوله: و اطمأنّت صفاتهم.

استعارة للفظ الصفاة لحالهم الّتي كانوا عليها، و وجه المشابهة أنّهم كانوا قبل الإسلام في مواطنهم و على أحوالهم متزلزلين لا يقرّ بعضهم بعضا في موطن و لا على حال بل كانوا أبدا في الغارة و النهب و الجلاء. فكانوا كالواقف على حجر أملس متزلزل مضطرب. فاطمأنّت أحوالهم و سكنوا في مواطنهم. كلّ ذلك بسبب مقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قوله: أمّا و اللّه إن كنت لفى ساقتها.

إلى قوله: و لا جبنت. تقرير لفضيلته. فأثبت لنفسه أنّه كان من ساقتها إلى أن تولّت بأسرها من غير عجز اعتراه و لا جبن، و الضمير في ساقتها لكتائب الحرب و إن لم يجر لها ذكر صريح بل ما يحصل منه معنى الذكر و هو الناس فكأنّه قال: فساق الناس و هم يومئذ كتائب عليه فكنت في ساقتها حتّى تولّت تلك الكتائب بأسرها لم يبق منها من يغالبه، و قد علمت أنّ السوق قد يكون سوق طرد و هزيمة، و الأوّل هو غايته عليه السّلام من السوق الثاني إذ لم يكن مقصوده من حروبه إلّا السوق إلى الدين، و لمّا لم يمكن حصول الهداية للخلق إلّا بوجود النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و إيضاح سبيل الحقّ كان ذبّه و طرده الكتائب حتّى تولّت بحذافيرها حماية عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و عن حوزة الدين أمرا واجبا لا لذاته لكن لغرض تمام الهدى الّذي هو غاية وجود النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قوله: ما عجزت [ما ضعفت خ‏] و لا جبنت.

تمام لإثبات الفضيلة المذكورة له، و تقرير لما علم من شجاعته، و تأكيد لعدم العجز و الجبن الّذي هو طرف التفريط من فضيلة الشجاعة.

و قوله: و إنّ مسيرى هذا لمثلها.
. أى لمثل تلك الحال الّتي كنت عليها معهم زمان كفرهم من سوق كتائبهم و طردها من غير جبن و لا ضعف. و هو في معنى التهديد الّذي عساه أن يبلغ خصومه و تقوى به نفوس أوليائه، و كذلك قوله: و لأبقرنّ الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته. أيضا في معنى التهديد، و تنبيه على ما عليه خصومه من الباطل. و استعار هنا لفظ الخاصرة للباطل و البقر لتفريق الباطل و تمييز الحقّ منه تشبيها له في استتار الحقّ فيه و عدم‏ تمييزه منه بحيوان ابتلع جوهرا ثمينا أعزّ منه قيمة و أتمّ فايدة فاحتيج إلى شقّ بطنه في استخلاص ما ابتلع.

و قوله: ما لى و لقريش.
 استفهام على سبيل الإنكار لما بينه و بينهم ممّا يوجب الاختلاف و جحد فضيلته، و حسم لاعذار هم في حربه.

و قوله: و اللّه لقد قاتلتهم كافرين.
 إظهار للمنّة عليهم بسوقه لهم إلى الدين أوّلا و تعيير لهم بما كانوا عليه من الكفر ليعترفوا بفضيلته و نعمة اللّه عليهم به و ليخجلوا من مقابلته بالباطل و هو إظهار الإنكار عليه إذ كانوا أولى باتيان المنكر منه و هو أولى بردّهم عنه آخرا كما كان أوّلا. و كذلك قوله: و قاتلتهم مفتونين. على أحد الروايتين، و أمّا على رواية و لاقاتلنّهم مفتونين فهو تهديد بأن يوقع بهم القتال على فتنتهم و ضلالتهم على الدين. و كافرين و مفتونين نصبا على الحال، و في ذكر هذين الحالين تنبيه على علّة قتاله لهم في الحالتين و هو طلبه لاستقامتهم على الدين و رجوعهم إلى الحقّ عن الضلال و إغراء السامعين بهم.

و قوله: و إنّي لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم.
 إشارة إلى أنّه لم تتغيّر حالته الّتي بها قاتلهم كافرين، و فائدته تذكير الخصم الان بابتلاء الكفّار به في ذلك الوقت ليتقهقروا عن محاربته إذ في تذكّر وقايعه في بدو الإسلام و شدّة بأسه ما تطير منه القلوب و تقشعرّ منه الجلود. و قد نقلت في تمام هذه الخطبة في بعض النسخ: لتضجّ قريش ضجيجها إن تكن فينا النبوّة و الخلافة، و اللّه ما أتينا إليهم إلّا أنّا اجترأنا عليهم.
و ذلك إشارة إلى السبب الأصلىّ لخروج طلحة و الزبير و غيرهما من قريش عليه.

و هو الحسد و المنافسة إن تكن الخلافة و النبوّة في بني هاشم دونهم. و الضجيج: الصراح القوّى. و هو كناية عن أشدّ مخاصماتهم و منافراتهم معه على هذا الأمر.

و قوله: و اللّه ما آتينا. إلى آخره.

تأكيد لما نسبه إليهم من سبب الخروج بالقسم البارّ على أنّه لم يكن الباعث لهم على قتاله أو على حسده و البغى عليه أمرا من قبله سوى الاجتراء عليهم أى الشجاعة و الإقدام عليهم في منعهم عمّا يريدون من قول أو فعل لا تسوّغه الشريعة فإنّه لمّا لم يكن ذلك في الحقيقة إساءة في حقّهم يستحقّ بها المكافاة منهم بل إحسان و ردع عن سلوك طرق الضلال تعيّن أنّ السبب في الخروج عليه و نكث بيعته هو الحسد و المنافسة و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 72

خطبه31شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ وَ زَمَنٍ كَنُودٍ يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئاً- وَ يَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً- لَا

نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا وَ لَا نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا- وَ لَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا- وَ النَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ- مِنْهُمْ

مَنْ لَا يَمْنَعُهُ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ- إِلَّا مَهَانَةُ نَفْسِهِ وَ كَلَالَةُ حَدِّهِ- وَ نَضِيضُ وَفْرِهِ- وَ مِنْهُمْ الْمُصْلِتُ لِسَيْفِهِ وَ

الْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ- وَ الْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ- قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ وَ أَوْبَقَ دِينَهُ- لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ- أَوْ

مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ- وَ لَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً- وَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ عِوَضاً- وَ مِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا

بِعَمَلِ الْآخِرَةِ- وَ لَا يَطْلُبُ الْآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا- قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ- وَ قَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَ شَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ- وَ

زَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ- وَ اتَّخَذَ سِتْرَ اللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ- وَ مِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُئُولَةُ

نَفْسِهِ- وَ انْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ- فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ-

وَ تَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ- وَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَ لَا مَغْدًى- وَ بَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ-

وَ أَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ- فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ- وَ خَائِفٍ مَقْمُوعٍ وَ سَاكِتٍ مَكْعُومٍ- وَ دَاعٍ مُخْلِصٍ وَ ثَكْلَانَ

مُوجَعٍ- قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ التَّقِيَّةُ وَ شَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ- فَهُمْ فِي بَحْرٍ أُجَاجٍ- أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ- قَدْ وَعَظُوا

حَتَّى مَلُّوا- وَ قُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا وَ قُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا- فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ- أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ- وَ قُرَاضَةِ

الْجَلَمِ- وَ اتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ- وَ ارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً- فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ

أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ

قال الشريف: أقول: هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية، و هى من كلامأمير المؤمنين عليه

السّلام الذى لا يشك فيه، و أين الذهب من الرغام، و العذب من الأجاج و قد دل على  ذلك الدليل

الخرّيت، و نقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ، فإنه ذكر هذه الخطبة فى كتاب البيان و التبيين، و ذكر

من نسبها إلى معاوية، ثم قال: هى بكلام على عليه السّلام أشبه و بمذهبه فى تصنيف الناس، و

بالإخبار عما هم عليه من القهر و الإذلال، و من التقية و الخوف- أليق قال: و متى وجدنا معاوية فى حال

من الأحوال يسلك فى كلامه مسلك الزهاد، و مذاهب العباد

اللغة

أقول: عنود: جائر. و كنود: كفور. و العتوّ: الكبر. و القارعة: الخطب العظيم. و مهانة النفس: حقارتها. و كلّ حدّ السيف و غيره: إذا وقف عن القطع. و نضيض وفره:قلّة ماله. و المصلت بسيفه: الماضى في الامور بقوّته. و المجلب. المستعين على الأمر بالجمع. و الرجل: جمع راجل. و أشرط نفسه لكذا: أى أعلمها و أعدّها له. و أوبق دينا: أى أهلكه. و الحطام: متاع الدنيا، و أصله ما تكسر من اليبس. و الانتهار: الاختلاس و الاستلاب بقدر الامكان. و المقنب بكسر الميم و فتح النون: الجمع من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين. و فرع المنبر يفرعه: أى علاه. و طأمن من شخصه: أى خفض، و الاسم الطمأنينة. و شمّر من ذيله: إذا رفعه. و زخرف: أى زيّن و نمّق. و ضؤولة نفسه: حقارتها. المراح: المكان الّذي يأوى إليه الماشية بالليل. و المغدى: هو الّذي يأوى إليه بالغداة. و الشريد. المشرّد: و هو المطرود. و النادّ: الذاهب على وجهه. و القمع: الإذلال. و المكعوم: الّذي لا يمكنه الكلام كأنّه سدّ فوه بالكعام، و هو شي‏ء يجعل في فم.
البعير عند الهياج. و الثكل: الحزن على فقد بعض المحابّ. و اخملتهم: أى اسقطتهم و أرذلتهم بين الناس. و التقيّة و التقوى: الخوف. و الاجاج: الملح. و الضامز. بالزاء: الساكتة. و الحثالة الثفل. و القرظ، ورق السلم يدبغ به. و الجلم: المقراض تجزّ به أوبار الإبل، و قراضته ما تساقط من قرضه.

المعنى

و أعلم أن نسبة الخير إلى بعض الأزمنة و الشرّ إلى بعض آخر، و تفضيل بعض الأزمنة على بعض نسبة صحيحة لما أنّ الزمان من الأسباب المعدّه لحصول ما يحصل في هذا العالم من الامتزاجات و ما يتبعها ممّا يعدّ خيرا أو شرّا. و قد يتفاوت الأزمنة في الإعداد لقبول الخير و الشرّ ففى بعضها يكون بحسب الاستقراء ما يعدّ شرا كثيرا فيقال: زمان صعب و زمان جائر. و خصوصا زمان ضعف الدين و النواميس الشرعيّة الّتي هي سبب نظام العالم و بقاؤه و سبب الحياة الأبديّة في الدار الآخرة، و في بعضها يكون ما يعدّ خيرا كثيرا فيقال: زمان حسن و زمان عادل، و هو الزمان الّذي يكون أحوال الخلق فيه منتظمة صالحة خصوصا زمان قوّة الدين و ظهوره و بقاء ستر ناموس الشريعة مسدولا. هذا.

و إن كنّا إذا اعتبرنا أجزاء الخير و أجزاء الشرّ الواقعة في كلّ العالم بحسب كلّ زمان لم يكن هناك كثير تفاوت بين الأزمنة فيما يعدّ خيرا فيها و شرّا. و لذلك قال أفلاطون: الناس يتوهّمون بكلّ زمان أنّه آخرالأزمنة و يثبتون تقصيرا عمّا تقدّمه و ليس يوفون الزمان الماضى و المقيم حقّيهما من التأمّل.

و ذلك أنّهم يقيسون الأحداث في الزمان المقيم إلى من تناهت سنّه و تجاريبه في الزمان الماضى، و ينظرون إلى قصور المروّات في الزمان المقيم و اتّساعها في الماضى من غير أن ينظروا إلى الأغراض في الزمانين و ما يوجبه كلّ واحد منهما. و إذا تتّبع هذا بعدل و استقصى تصريف الزمانين من القوى و الجدات، و الأمن و الخوف، و الأسباب و الأحوال كانا متقاربين. إذا عرفت هذا فتقول:

قوله عليه السّلام إنّا قد أصبحنا. إلى قوله:

حتّى تحلّ بنا. ذمّ للزمان بوصفى الجور و الشدّة لمّا أعدله ممّا عدّد فيه من الأوصاف المعدودة شرّا بالقياس إلى نظام العالم و بقائه. و ذكر من تلك الأوصاف خمسة: أوّلها: أنّه يعدّ فيه المحسن مسيئا. و ذلك من حساب المسيئين الكسالى عن القيام بطاعة اللّه فيعدّون إنفاق المحسن لما له رياء و سمعة أو خوفا أو رغبه في مجازاة، و كذلك ساير فضايله رذايل. كلّ ذلك طعنا في فضيلته و حسدا أن ينال رتبة أعلى. فيلحقونه بدرجاتهم في الإساءه. و ثانيها: أنّه يزداد الظالم فيه عتوّا. و ذلك أنّ منشأ الظلم هو النفس الأمّارة بالسوء و هي في زمان العدل تكون مقهورة دائما أو في أكثر الأحوال. و ثورانها في ذلك الوقت طالبة للظلم يكون فلتة و انتهاز فرصة. فالظالم في زمان العدل إن ظلم أو تجاوز حدّه فكالسارق الّذي لا يأمن في كلّ لحظة أن يقع به المكروه فكذلك الظالم في زمن العدل مقموع بحرسة الشريعة مرصود بعيون طلايعها. أمّا في زمان ضعف الشريعة فالظالم فيه كالناهب معط لقوّته سؤلها، غير ملتفت إلى وازع الدين فلا جرم كان عتوّه فيه أزيد. و قد كان في زمانه بالنسبة إلى عهد الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم كذلك. و ثالثها: أنّه لا ينتفع أهله فيه بما علموا. و هو توبيخ للمقصّرين في أعمال الآخرة على وفق ما علموا من الشريعة ممّا ينبغي أن يعمل لها إذ الانتفاع بالعلم إنّما يكون إذا وافقه العمل، و إليه الإشارة بقوله عليه السّلام في موضع آخر: العلم مقرون بالعمل، و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلّا ارتحل. فإنّ المراد بارتحال العلم‏هو عدم الانتفاع به و بهتفه بالعمل اقتضاؤه ما ينبغي من مقارنه العمل له. و رابعها: أنّهم لا يسئلون عمّا جهلوا. و هو توبيخ للمقصّرين في طلب العلم بعدم السؤال عمّا جهلوا منه، و قلّة الالتفات لقصور أفهامهم عن فضيلته، و اشتغالهم بحاضر اللذّات الحسيّة. و خامسها: كونهم لا يتخوّفون قارعة حتّى تحلّ بهم. و ذلك لعدم فكرهم في عواقب امورهم و اشتغالهم بحاضرها عن الالتفات إلى مصالحهم و تدبيرها و هو توبيخ للمقصّرين في أمر الجهاد و تنبيه لهم بذكر القارعة و حلولها بهم. و كلّ هذه امور مضادّة لمصلحة العالم. فلذلك عدّ الزمان الواقعة فيه عنودا و شديدا.

قوله: فالناس على أربعة أصناف. إلى قوله: قلّوا.
أقول: وجه هذه القسمة أنّ الناس إمّا مريدون للدنيا أو للّه. و المريدون لها فإمّا قادرون عليها أو غير قادرين. و غير القادرين إمّا غير محتالين لها، أو محتالون.
و المحتالون إمّا أن يؤهّلوا نفوسهم للإمرة و الملك، أو لما هو دون ذلك. فهذه أقسام خمسة مطابقة لما ذكره عليه السّلام من الأوصاف الأربعة الّذين عرضهم للذمّ مع الصنف الخامس الّذين أفردهم بالمدح.
فالصنف الأوّل. فهم المريدون للدنيا القادرون عليها
المشار إليه في القسم الثاني من قسمته بقوله: و منهم المصلت لسيفه و المعلن بشرّة. إلى قوله: يفرعه. و المقصود بهذا الصنف القادرون على الدنيا المطلقون لعنان الشهوة و الغضب في تحصيل ما يتخيّل كمالا من القينات الدنيويّة. فإصلات السيف كناية عن التغلّب و تناول ما أمكن تناوله بالغلبة و القهر و إعلان الشرّ و المجاهرة بالظلم و غيره من رذائل الأخلاق. و الإجلاب بالخيل و الرجل كناية عن جمع أسباب الظلم و الغلبة و الاستعلاء على الغير. و إشراط نفسه: تأهيلها و إعدادها للفساد في الأرض. و ظاهر أنّ من كان كذلك فقد أوبق دينه و أفسده و قوله: لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه. إشارة إلى بعض العلل الغائيّة للصنف المذكور من كونهم بالأوصاف المذكورة.
و استعار لفظ الحطام للمال. و وجه المشابهة أنّ اليبس من النبات كما أنّه لا نفع له‏ بالقياس إلى ما يبقى خضرته و نضارته أو يكون ذا ثمرة كذلك المال بالنسبة إلى الأعمال الصالحة الباقى نفعها في الآخرة، و إنّما خصّ هذه الامور الثلاثة لأنّها الأغلب فيما يسعى أهل الدنيا لأجله إذ الغالب أنّ السعى فيها إمّا لجمع المال أو لرياسة دنيويّة باقتناء الخيل و النعم، أو دينيّة كافتراع المنابر و الترأس بناموس الدين مع قصد الدنيا.

و قوله: و لبئس المتجر. إلى آخره.
تنبيه لهذا الصنف من الناس على خسرانهم في أفعالهم الشبيهة بالتجارة الخاسرة فإنّ طالب الدنيا المحصّل لها كيف ما اتّفق هالك في الآخرة. فهو كالبائع لها بما حصل له من دنياه، و المعتاض بما له عند اللّه من الأجر الجزيل لو أطاعه حطاما تفنى عينه و تبقى تبعته. و لذلك استعار لفظ التجارة لها.
الصنف الثاني: و هم المريدون لها غير القادرين عليها و غير المحتالين لها
و هو المشار إليه بقوله: منهم من لا يمنعه من الفساد [في الأرض‏] إلّا مهانة نفسه و كلالة حدّه و نضيض وفره. و كنّى بقوله: كلالة حدّه. عن عدم صراحته في الامور و ضعفه عنها. و ظاهر أنّ المريد للدنيا المعرض عن اللّه لو خلّى عن الموانع المذكورة و وجد الدنيا لم يكن سعيه فيها إلّا فسادا.
الصنف الثالث: الغير القادرين على الدنيا مع احتيالهم لها و إعداد أنفسهم لامور دون الملك
و هو المشار إليه بقوله: و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا. إلى آخره. و قوله: يطلب الدنيا بعمل الآخرة إشارة إلى الحيلة للدنيا كالرياء و السمعة. و قوله: و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا إشارة إلى أنّه مريد للدنيا فقط. قوله: قد طأمن من شخصه. إلى آخره.

تفصيل لكيفيّة الحيلة فإنّ خضوع الإنسان و تطأمن شخصه و المقاربة بين خطوه و تشمير ثوبه و زخرفته لنفسه بما هو شعار الصالحين من عباد اللّه و ستر اللّه الّذي حمى به أهل التقوى أن يردوا موارد الهلكة يقع من صنف من الناس التماسا لدخولهم في عيون أهل الدنيا و أرباب أهل القينات ليسكنوا إليهم في الأمانات و نحوها و يجعلون‏ ذلك ذريعة لهم إلى ما أمّلوه من الدنيا الفانية فيكونون قد اتّخذوا ستر اللّه و ظاهر دينه وسيلة إلى معصيته.

الصنف الرابع: الغير القادرين عليها المحتالون لها المؤهّلون أنفسهم للملك و الإمرة
و هم المشار إليهم بقوله: و منهم من أقعدهم عن طلب الملك ضؤولة نفسه. إلى آخره. و ذكر من موانع هذا الصنف عمّا رامه مانعين: أحدهما ضؤولة نفسه و قصورها عن المناواة و تخيّلها العجز عن طلب الملك و إن كان مطلوبا ل ه، الثاني سبب ذلك الضعف و هو انقطاع سببه من قلّة المال و عدم الأعوان و الأنصار في الطلب. فلذلك وقفت به حال القدر على حالته الّتي لم يبلغ معها ما أراد، و قصّرته عليها. فعدل لذلك إلى الحيلة الجاذبة لرغبات الخلق إليه من التحلّى بالقناعة و التزيّن بلباس أهل الزهادة من المواظبة على العبادات و لزوم ظواهر أوامر اللّه و إن لم يكن ذلك عن أصل و اعتقاد قاده إليه. و قوله: و ليس [هو] من ذلك في مراح و لا مغدى. كناية عن أنّه ليس من القناعة و الزهد في شي‏ء أصلا، و يحتمل أن يكون هذا الصنف من غير القادرين و غير المحتالين.

الصنف الخامس: و هم المريدون للّه تعالى
و هم المشار إليهم بقوله عليه السّلام: و بقى رجال. إلى آخره. و ذكر لهم أوصافا: الأوّل: كونهم قد غضّ أبصارهم ذكر المرجع. و ذلك أنّ المريد للّه إذا التفت إلى جنابه المقدّس و استحضر أنّه راجع إليه بل مايل بين يديه. فلا بدّ أن يعرض عن غيره حياء منه و ابتهاجا بمطالعة أنواره و خوفا أن يحمّج به بصره عن صعود مراتب الأملاك إلى مهاوى الهلاك، و لأنّ الحسّ تابع للقلب فإذا كان بصر القلب مشغولا غريقا في جلال اللّه كان مستتبعا للحسّ فلم يكن له التفات من طريقه إلى أمر آخر.

و هو المراد بالغضّ. الثاني: كونهم قد أراق دموعهم خوف المحشر. و اعلم أنّ خوف الخائفين قد يكون لامور مكروهة لذاتها، و قد يكون لامور مكروهة لأدائها إلى ما هو مكروه لذاته، و أقسام القسم الثاني كثيرة كخوف الموت قبل التوبة، أو خوف نقض القربة، أو خوف الانحراف عن القصد في عبادة اللّه، أو خوف استيلاء القوى الشهوانيّة بحسب مجرى العادة في استعمال الشهوات المألوفة، أو خوف تبعات الناس عنده، أو خوف سوء الخاتمة، أو خوف سبق الشقاوة في علم اللّه تعالى. و كلّ هذه و نحوها مخاوف عباد اللّه الصالحين. و أغلبها على قلوب المتّقين خوف الخاتمة فإنّ الأمر فيه خطر، و أعلى الأقسام و أدّلها على كمال المعرفة خوف السابقة لكون الخاتمة تبعا لها و مظهرة لما سبق في اللوح المحفوظ. و قد مثّل من له خوف السابقة و من له خوف الخاتمة برجلين وقع لهما ملك بتوقيع يحتمل أن يكون لهما فيه غناء أو هلاك فتعلّق قلب أحدهما بحال نشر التوقيع و ما يظهر فيه من خير أو شرّ، و تعلّق قلب الآخر بما خطر للملك حالة التوقيع من رحمة أو غضب. و هذا التفات إلى السبب. فكان أعلى. فكذلك الالتفات إلى القضاء الأزلىّ الّذي جرى بتوقيعه القلم الإلهىّ في اللوح المحفوظ أعلى من الالتفات إلى الأبد. و إلى ذلك أشار الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم حيث كان على المنبر فقبض كفّه اليمنى ثمّ قال: هذا كتاب اللّه كتب فيه أهل الجنّة بأسمائهم و أسماء آبائهم لا يزاد فيه و لا ينقض.
و ليعمل أهل السعادة بعمل أهل الشقاوة حتّى يقال: كأنّهم منهم بل هم ثمّ يستخرجهم (يستنقذهم خ) اللّه قبل الموت و لو بفواق ناقة، و ليعمل أهل الشقاوة بعمل أهل السعادة حتّى يقال: كأنّهم منهم بل هم هم ثمّ يستخرجهم اللّه قبل الموت و لو بفواق ناقة. السعيد من سعد بقضاء اللّه، و الشقىّ من شقى بقضاء اللّه، و الأعمال بالخواتيم.

و أمّا أقسام القسم الأوّل فمثل أن يتمثّل في نفوسهم ما هو المكروه لذاته كسكرات الموت و شدّته، أو سؤال منكر و نكير، أو عذاب القبر، أو هول الموقف بين يدي اللّه تعالى و الحياء من كشف السرّ و السؤال عن النقير و القطمير، أو الخوف من الصراط و حدّته و كيفيّة العبور عليه، أو من النار و أغلالها و أحوالها، أو من حرمان الجنّة، أو من نقصان الدرجات فيها، أو خوف الحجاب من اللّه تعالى. و كلّ هذه الأسباب مكروهة في نفسها و مختلف حال السالكين إلى اللّه فيها، و أعلاها رتبة خوف الفراق و الحجاب عن اللّه تعالى و هو خوف العارفين، و ما قبل ذلك و هو خوف العابدين و الصالحين و الزاهدين و من لم تكمل معرفته بعد.

إذا عرفت ذلك فنقول: الخوف الّذي أشار إليه عليه السّلام من هذا القسم إذ خوف المحشر يشمل ما ذكرناه من أقسامه. الثالث: كونهم بين شريد نادّ. أى مشرّد في البلاد مطرود إمّا لكثرة إنكاره المنكر أو لقلّة صبره على مشاهدة المنكر، و خائف مقموع و ساكت مكعوم: أى كأنّ التقيّة سدّت فاه عن الكلام. و هو من باب الاستعارة، وداع مخلص للّه و ثكلان موجع إمّا لمصابه في الدين أو من كثرة أذى الظالمين. و هذا تفصيل حال آحاد المتّقين، و يحتمل أن يكون ذلك تفصيلا لحالهم بالنسبة إلى خوف المحشر أى أنّ خوف المحشر أراق دموعهم و فعل بكلّ واحد منهم ما ذكر عنه من الحالة الّتي هو عليها. الرابع: كونهم قد أخملتهم التقيّة: أى تقيّة الظالمين و هو تأكيد لما سبق. الخامس: كونهم قد شملتهم الذلّة: أى بسبب التقيّة. السادس: كونهم في بحر اجاج، و استعار لفظ البحر بوصف الاجاج لما فيه من أحوال الدنيا الباطلة. و وجه المشابهة أنّ الدنيا كما لا تصلح للاقتناء و الاستمتاع بها بل يكون سببا للعذاب في الآخرة كذلك البحر لا يمكن سابحه و إن بلغ به جهد العطش مبلغه شربه و التروّى به. و قوله: أفواههم ضامرة و قلوبهم قرحة. أي إنّهم لمّا فطموا أنفسهم عن لذّاتها و مخالطة أهلها فيما هم فيه من الانهماك فيها لا جرم كانت أفواههم ضامرة لكثرة صيامهم بعيدة العهد بالمضغ، و قلوبهم قرحة جوعا أو خوفا من اللّه أو عطشا إلى رحمته و رضوانه أو لما يشاهدونه من كثرة المنكرات و عدم تمكّنهم من إنكارها. و من روى ضامزة بالزاى المعجمة أراد سكوتهم و قلّة كلامهم. السابع: كونهم قد وعظوا حتّى ملّوا: أي ملّوا وعظ الخلق لعدم نفعه فيهم. الثامن: كونهم قد قهروا حتّى ذلّوا. التاسع: كونهم قد قتلوا حتّى قلّوا: أي قتلهم الظالمون لعدم سلكهم في انتظامهم فان قلت: كيف يقال قتلوا مع بقائهم. قلت: إسناد الفعل إلى الكلّ لوجود القتل في‏ البعض مجازا من باب إسناد حكم الجزء إلى الكلّ، و لأنّ الكلّ لمّا كان مقصودا بالقتل كان كونهم مقتولين علّة غائيّة فجاز إسناد القتل إليهم و إن كان المقتول بعضهم.

و قوله: فلتكن الدنيا في أعينكم. إلى آخره.
أمر للسامعين باستصغار الدنيا و احتقارها إلى حدّ لا يكون في أعينهم ما هو أحقر منها فإنّ حثالة القرظ و قراضة الجلم في غاية الحقارة، و المراد من هذا الأمر.
و غايته الترك لها فإنّ استحقار الشي‏ء و استصغاره يستتبع تركه و الإعراض عنه، ثمّ أمرهم بالاتّعاظ بالامم السابقة فإنّ في الماضين عبرة لاولى الأبصار، و محلّ الاعتبار ما كانوا فيه من نعيم الدنيا و لذّاتها و المباهاة بكثرة قيناتها ثمّ مفارقتهم لذلك كلّه بالموت و بقاء الحسرة و الندامة للمستكثرين منها حجبا حايلة بينهم و بين الوصول إلى حضرة جلال اللّه، و نبّههم بقوله: قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم. على أنّهم مضطرّون إلى مفارقة ما هم فيه و سيصيرون عبرة لغيرهم، و فايدة الأمر بالاتّعاظ أيضا الإعراض عنها و الاقلاع و الاغترار بها، ثمّ لمّا أمرهم بهذه الأوامر الّتي ليست صريحة في الترك أردف ذلك بالأمر الصريح بالترك فقال: و ارفضوها ذميمة: أي أتركوا ما حاله الحقارة و الذمامة، ثمّ نبّه بعده على ما يصلح علّة لتركها و هو عدم دوام صحبتها و ثباتها لمن كان أحبّ منهم لها: أي و لو دام سرورها و نعيمها لأحد لدام لأحبّ الخلق لها و أحرصهم على المحافظة عليها فلمّا لم تدم لمن هو أشدّ حبّا لها منكم فبالأولى أن لا تدوم لكم، و إذا كان طباعها رفض كلّ محبّ فالأحرى بذي المروّة اللبيب الترفّع و الإعراض عمّن لا تدوم صحبته و لا تصفو محبّته. و باللّه التوفيق.

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏ميثم)، ج 2 ، صفحه‏ى 63

خطبه30شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لابن العباس

لما أرسله إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل

لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ- فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ- يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ- وَ لَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ

فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً- فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ- عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ- فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا قال

الشريف: أقول: هو أول من سمعت منه هذه الكلمة، أعنى «فما عدا مما بدا»

اللغة

أقول: يستفيئه: أى يسترجعه من فاء إذا رجع. و في رواية إن تلقه تلقه من الفيئه على كذا إذا وجدته عليه. و العقص: الاعوجاج، و عقص الثور قرنيه: بالفتح متعدّ، و عقص قرنه: بالكسر لازم. و الصعب: الدابّة الجموح السغبة. و الذلول: السهلة الساكنة. و العريكة: فعيل بمعنى مفعول و التاء لنقل الاسم من الوصفيّة إلى الاسميّة الصرفة، و أصل العرك دلك الجلد بالدباغ و غيره. و عدا: جاوز. و بدا: ظهر.

المعنى

و أعلم أنّه عليه السّلام لمّا نهى ابن عبّاس عن لقاء طلحة بحسب ما رأى في ذلك من المصلحة نبّهه على علّة وجه نهيه عنه بقوله:

فإنّك إن تلقه تجده كذا. و قد شبّهه بالثور، و أشار إلى وجه الشبه بعقص القرن. استعار لفظ القرن و كنّى به عن شجاعته، و لفظ العقص لما يتبع تعاطيه بالقوّة و الشجاعة من منع الجانب و عدم الانقياد تحت طاعة الغير اللازم عن الكبر و العجب بالنفس الّذي قد تعرض للشجاع. و وجه الاستعارة الاولى أنّ القرن آلة للثور بها يمنع ما يراد به عن نفسه. و كذلك الشجاعة يلزمها الغلبة و القوّة و منع الجانب. و وجه الاستعارة الثانية أنّ الثور عند إرادة الخصام يعقص قرنيه‏ أى يرخى رأسه و يعطف قرنيه ليصوّبهما إلى جهة خصمه. و يقارن ذلك منه نفح صادر عن توهّم غلبته لمقاومه و شدّته عليه و أنّه لا قدر له عنده كذلك المشبّه هينها علم منه عليه السّلام أنّه عند لقاء ابن عباس له يكون مانعا جانبه، متهيّئا للقتال، مقابلا للخشونة و عدم الانقياد له الصادر عن عجبه بنفسه و غروره لشجاعته. فذلك حسن التشبيه، و يحتمل أن يكون وجه الشبه هو التواء طلحة في آرائه و انحرافه عنه عليه السّلام الشبيه بالتواء القرن.

و هو تشبيه للمعقول بالمحسوس. و يقال: إنّ الكبر الّذي تداخل طلحة لم يكن فيه قبل يوم احد. و إنّما حدث به في ذلك اليوم و ذلك أنّه أبلى فيه بلاء حسنا. ثم أشار إلى بن عبّاس بلقاء الزبير، و أشار إلى وجه الرأى في ذلك، و هو كونه ألين عريكة، و يكنّى بالعريكة عن الطبع و الخلق كناية بالمستعار. فيقال: فلان ليّن العريكة إذا كان سهل الجانب لا يحتاج فيما يراد منه إلى تكلّف و مجاذبة قويّة كالجلد الليّن الّذي يسهل عركه. و فلان شديد العريكة: إذا كان بالضدّ بذلك. و ظاهر أنّ الزبير كان سهل الجانب. فلأجل ذلك أمره بلقائه لما عهد من طبيعته أنّها أقبل للاستدراج، و أقرب إلى الانفعال عن الموعظة، و تذكّر الرحم. و أحسن بهذه الاستماله له بذكر النسب المستلزم تصوّره للميل و الانعطاف من الطبايع السليمة: و نحوه قوله تعالى حكاية قول هرون لموسى عليه السّلام «قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا» «وَ: لَمَّا رَجَعَ مُوسى‏ إِلى‏ قَوْمِهِ» فإنّ فيه من الاستماله و الاسترقاق بتذكيره حقّ الاخوّة ممّا يدعو إلى عطفه عليه ممّا لم يوجد في كلام آخر. و أمّا كون علىّ عليه السّلام ابن خال الزبير فإنّ أبا طالب وصفيّه امّ الزبير من أولاد عبد المطلب بن هاشم.

و قوله: فما عدا ممّا بدا. قال ابن أبي الحديد. عدا بمعنى صرف. و من: هينها بمعنى عن. و معنى الكلام فما صرفك عمّا كان بدا منك أى ظهر: أى ما الّذي صدّك عن طاعتى بعد إظهارك لها، و حذف الضمير المفعول كثير كقوله تعالى وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ أى أرسلناه.

و قال القطب الراوندى: له معنيان:

أحدهما: ما الّذي منعك ممّا كان قد بدا منك من البيعة قبل هذه الحالة، الثاني: ما الّذي عاقك من البداء الّذي يبدو للإنسان، ويكون المفعول الثاني لعدا محذوفا يدلّ عليه الكلام أى ما عداك. يريد ما شغلك و ما منعك عمّا كان بدا لك من نصرتى.

قال ابن أبي الحديد: ليس في الوجه الثاني ممّا ذكره القطب زيادة على الوجه الأوّل إلّا زيادة فاسدة، أمّا أنّه لا زيادة. فلأنّه فسّر عدا في الوجهين بمعنى منع، و فسّر قوله ممّا كان بدا منك في الوجهين أيضا بتفسير واحد. فلم يبق بينهما تفاوت، و أمّا الزيادة الفاسدة فظنّه أنّ عدا يتعدّى إلى مفعولين و هو باطل باجماع النحاة.

و أقول: الوجه الّذي ذكره ابن أبي الحديد هو الوجه الأوّل من الوجهين اللذين ذكرهما الراوندى لأنّ الصرف و المنع لا كثير تفاوت بينهما و إن كان قد يفهم أنّ المنع أعمّ. و أمّا اعتراضه عليه بأنّه لا فرق بين الوجهين اللّذين ذكرهما فهو سهو. لأنّ معنى بدا في الوجه الأوّل ما ظهر للناس منك من البيعة لى. و مراده به في الثاني ما ظهر لك في الرأى من نصرتى و طاعتى. و فرق بين ما يظهر. من الإنسان لغيره، و بين ما يظهر له من نفسه أو من غيره، و أمّا ما ذكره من أنّه زيادة فاسدة فالأظهر أنّ لفظة الثاني في قوله المفعول الثاني زيادة من قلمه أو قلم الناسخ سهوا، و يؤيّده إظهاره للمفعول الأوّل تفسيرا لقوله و يكون المفعول لعدا محذوفا.

ثمّ أقول: و هذه الوجوه و إن احتملت أن يكون تفسيرا إلّا أنّ في كلّ واحد عدولا عن الظاهر من وجه: أمّا الوجه الّذي ذكره المدائنى فلأنّه لمّا حمل عدا على حقيقتها و هى المجاوزه، و حمل ما بدا على الطاعة السابقة. احتاج أن يجعل من بمعنى عن. و هو خلاف الظاهر. و أمّا الراوندى فإنّه فسّر عدا بمعنى منع أو عاق و شغل، و حمل ما بدا على الطاعة السابقة أو على البيعة. و لا يتمّ ذلك إلّا أن يكون من بمعنى عن.

و الحقّ أن يقال: إنّ عدا بمعنى جاوز. و من لبيان الجنس. و المراد ما الّذي جاوز بك عن بيعتى ممّا بدا لك بعدها من الامور الّتي ظهرت لك. و حينئذ يبقى الألفاظ على أوصاعها الأصليّة مع استقامة المعنى و حسنه. و روي عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن أبيه عن جدّه قال: سألت ابن عباس- رضوان اللّه عليه- عن تلك الرسالة فقال: بعثنى فأتيت الزبير فقلت له. فقال: إنّى اريد ما يريد. كأنّه يقول: الملك. و لم يزدني على‏ ذلك. فرجعت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبرته. و عن ابن عباس أيضا أنّه قال: قلت الكلمه لزبير فلم يزدني على أن قال: أنا مع الخوف الشديد لنطمع. و سئل ابن عباس عمّا يعنى الزنير بقوله هذا.

فقال: يقول: أنا على الخوف لنطمع أن نلى من الأمر ما ولّيتم، و قد فسرّ غيره ذلك بتفسير آخر. فقال: أراد أنا مع الخوف الشديد من اللّه نطمع أن يغفر لنا هذا الذنب.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 60

خطبه29شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام فى معنى قتل عثمان

لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلًا- أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِراً- غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ

مِنْهُ- وَ مَنْ خَذَلَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي- وَ أَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ- وَ

جَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ- وَ لِلَّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَأْثِرِ وَ الْجَازِعِ

اللغة

أقول: المستأثر بالشي‏ء: المستبدّ به

المعنى

و مقتضى هذا الفصل تبرّؤه عليه السّلام من الدخول في دم عثمان بأمر أو نهى كما نسبه إليه معاوية و غيره.

و قوله: لو أمرت به لكنت قاتلا. قضيّة شرطيّة بيّن فيها لزوم كونه قاتلا لكونه آمرا. و هذا اللزوم عرّفي. إذ يقال في العرف للآمر بالقتل قاتل. و الآمر شريك الفاعل و إن كان القاتل في اللغة هو المباشر للفعل و الّذي صدر عنه. و كذلك بيّن في قوله: أو نهيت عنه لكنت ناصرا لزوم كونه ناصرا لكونه ناهيا. و هو ظاهر، و قد عرفت أنّ استثناء نقيض اللازم يستلزم نقيض الملزوم، و اللازمان في هاتين القضيّتين هما القتل و النصرة، و معلوم أنّ القتل لم يوجد منه عليه السّلام بالاتّفاق فإنّ غاية ما يقول الخصم أنّ قعوده عن نصرته دليل على إرادته لقتله. و ذلك باطل. لأنّ القعود عن النصرة قد يكون لأسباب اخرى كما سنبيّنه. ثمّ لو سلّمنا أنّ القعود عن النصرة دليل إرادة القتل لكن إرادة القتل ليس بقتل. فإنّ كلّ أحد يحبّ قتل خصمه لكن لا يكون بذلك قاتلا. و كذلك‏ ظاهر كلامه يقتضى أنّ النصرة لم توجد منه، و إذا انتقى اللازمان استلزم نفى أمره بقتله و نهيه عنه. و يحتمل أن يريد في القضيّة الثانية استثناء عين مقدّمها لينتج تاليها: أى لكنّى نهيت عنه فكنت ناصرا. لا يقال: لا يخلو إمّا أن يكون مرتكب المنكر هو عثمان أو قاتليه و على التقديرين فيجب على عليّ عليه السّلام القيام و الإنكار إمّا على عثمان بالمساعدة عليه إن كان هو مرتكب المنكر، أو على قاتليه بالإنكار عليهم و نصرته. فقعوده عن أحد الأمرين يستلزم الخطأ، لكنّه لم يخطأ فلم يكن تاركا لأحد الأمرين.

فلا يثبت التبرّء. و الجواب البرى‏ء من العصبيّة في هذا الموضع: أنّ عثمان أحدث امورا نقمها جمهور الصحابة عليه، و قاتلوه أحدثوا حدثا يجب إنكاره: أمّا أحداث عثمان فلم ينته في نظر على عليه السّلام إلى حدّ يستحقّ بها القتل و إنّما استحقّ في نظره أن ينبّهه عليها. فلذلك ورد في النقل أنّه أنكرها عليه و حذّره من الناس غير مرّة كما سيجي‏ء في كلامه عليه السّلام. فإن صحّ ذلك النقل ثبت أنّه أنكر عليه ما أحدثه لكنّه لا يكون بذلك داخلا في دمه لاحتمال أنّه لمّا حذّره الناس و لم ينته اعتزله. و إن لم يثبت ذلك النقل فالإنكار ليس من فروض الأعيان بل هو من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين، و قد ثبت أنّ جمهور الصحابة أنكروا تلك الأحداث من عثمان فلا يتعيّن وجوب الإنكار على عليّ عليه السّلام، و أمّا حدث قاتليه فهو قتله. فإن ثبت أنّه عليه السّلام ما أنكر عليهم. قلنا: إنّ من جملة شروط إنكار المنكرات أن يعلم المنكر أو يغلب على ظنّه قبول قوله، أو تمكّنه من الدفع بيده فلعلّه عليه السّلام علم من حالهم أنّه لا يفيد إنكاره معهم. و ظاهر أنّ الأمر كان كذلك: أمّا عدم فائدة إنكاره بالقول معهم فلأنّه نقل عنه عليه السّلام أنّه كان يعد الناس بإصلاح الحال بينهم و بين عثمان و إزالته عمّا نقموه عليه و تكرّر منه وعده لهم بذلك و لم يتمكّن منه، و ظاهر أنّهم بعد تلك المواعيد لا يلتفتون إلى قوله، و أمّا إنكاره بيده فمعلوم بالضرورة أنّ الإنسان الواحد أو العشرة لا يمكنهم دفع الجمع العظيم من عوامّ العرب و دعاتهم خصوصا عن طباع ثارت و تألّفت و جمعها أشدّ جامع و هو ما نسبوه إليه حقّا و باطلا. ثمّ من المحتمل من تفرّقه مال المسلمين الّذي هو قوام حياتهم سواء كان ما نسبوه إليه حقّا أم لا أن يكون قد غلب على ظنّه أنّه لو قام في نصرته لقتل معه و لا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للأذى و القتل في دفع بعض المنكرات الجزئيّة. و أمّا إن ثبت أنّه أنكر عليهم كما نقلنا حملنا ذلك النهى على نهيه لهم حال اجتماعهم لقتله قبل حال قتله،

و قوله: و لو نهيت عنه لكنت ناصرا. على عدم المنع من قتله حال قتله لعدم تمكّنه من ذلك و عدم إفادة قوله. قال بعض الشارحين: هذا الكلام بظاهره يقتضى أنّه ما أمر بقتله و لا نهى عنه. فيكون دمه عنده في حكم الامور المباحة الّتي لا يؤمر بها و لا ينهى عنها. قلت: هذا سهو لأنّ التبرّء من الأمر بالشى‏ء و النهى عنه غاية ما يفهم منه عدم الدخول فيه و السكوت عنه و لا يلزم من ذلك الحكم بأنّه من الامور المباحة لاحتمال أنّ اعتزاله هذا الأمر كان لأحد ما ذكرناه. و بالجملة فإنّ أهل التحقيق متّفقون على أنّ السكوت على الأمر لا يدلّ على حال الساكت بمجرّده و إن دلّ بقرينة اخرى.

و ممّا يدلّ على أنّه كان متبرّئا من الدخول في دم عثمان بأمر أو نهى ما نقل عنه لمّا سئل: أساءك قتل عثمان أم سرّك فقال: ما ساءنى و لا سرّنى. و قيل: أرضيت بقتله فقال: لم أرض. فقيل: أسخطت قتله. فقال: لم أسخط. و هذا كلّه كلام حقّ يستلزم عدم التعرّض بأمره فإنّ من أعرض عن شي‏ء و لم يدخل فيه يصدق أن يقول: إنّي لم أسخط به و لم أرض و لم أسأ به و لم أسرّ، فإنّ السخط و الرضا و الإساءة و السرور حالات تتوارد على النفس بأسباب تتعلّق بها فخالع تلك الأسباب عن نفسه في أمر من الامور كيف يعرض له أحد هذه الحالات فيه. فإن قلت: إن كان قتل عثمان منكرا كان مستلزما لسخطه عليه السّلام و مساءته منه و قد نقل عنه أنّه لم يسخط له و ذلك يقتضى أحد الأمرين: أحدهما أنّه عليه السّلام لا يسخط للمنكر و هو باطل بالاتّفاق، و الثاني أن قتل عثمان لم يكن عنده منكرا، و التقدير أنّه منكر.

قلت: إنّ قتل عثمان يستلزم سخطة لكن لا من حيث إنّه قتل عثمان بل من جهة كونه منكرا، و المنقول أنّه لم يسخط لقتل عثمان و لا سائه ذلك أى من جهة كونه قتل عثمان و ذلك لا ينافي أن يسوئه و يسخطه من جهة كونه منكرا. و في الجواب‏ غموض. فليتفّطن. و لأجل اشتباه الحال خبط الجهّال. و فيها يقول شاعر أهل الشام:
و ما في عليّ لمستعتب مقال سوى صحبة المحدثينا
و ايثاره اليوم أهل الذنوب‏
و رفع القصاص عن القاتلينا
إذا سئل عنه حدا شبهة و عمّى الجواب على السائلينا
و ليس براض و لا ساخط
و لا في النهاة و لا الآمرينا
و لا هو سائه و لا [هو] سرّه و لا بدّ من بعض ذا أن يكونا

فأمّا تفصيل الاعتراضات و الأجوبة في معنى قتل عثمان و ما نسب إلى علىّ عليه السّلام من ذلك فمبسوط في كتب المتكلّمين كالقاضى عبد الجبّار و أبى الحسين البصريّ و السيّد المرتضى و غيرهم فلا نطول بذكرها، و ربّما أشرنا إلى شي‏ء من ذلك فيما بعد.

و قوله: غير أنّ من نصره لا يستطيع. إلى قوله: خير منّي. فأعلم أنّ هذا الفصل ذكره عليه السّلام جوابا لبعض من أنكر بحضرته قعود من قعد عن نصرة عثمان و جعلهم منشأ الفتنة، و قال: إنّهم لو نصروه و هم أكابر الصحابة لما اجترى‏ء عليه طغام الامّة و جهّالها، و إن كانوا رأوا أنّ قتله و قتاله هو الحقّ فقد كان يتعيّن عليهم أن يعرّفوا الناس ذلك حتّى يرتفع عنهم الشبهة، و فهم عليه السّلام أنّ القائل يعنيه بذلك. فأجابه بهذا الكلام تلويحا لا تصريحا. إذ كان في محلّ يلزمه التوقّى. فقرّر أوّلا أنّه ما أمر في ذلك بأمر و لا نهى ثمّ عاد إلى الاستثناء فقرّرها في هاتين القضيّتين: إنّ الّذين خذلوه كانوا أفضل من الناصرين له إذ لا يستطيع ناصروه كمروان و أشباهه أن يفضّلوا أنفسهم على خاذليه كعلىّ عليه السّلام بزعم المنكر و كطلحة و سائر أكابر الصحابة إذا العقل و العرف يشهد بأفضليّتهم، و كذلك لا يستطيع الخاذلون أن يفضّلوا الناصرين على أنفسهم اللّهمّ إلّا على سبيل التواضع. و ليس الكلام فيه. فكأنّه عليه السّلام سلّم تسليم جدل أنّه دخل في أمر عثمان و كان من الخاذلين له.

ثمّ أخذ في الردّ على المنكر بوجه آخر فقال: غير أنّى لو سلّمت أنّى ممّن خذله‏ لكنّ الخاذلون له أفضل من الناصرين و أثبت المقدّمة بهاتين القضيّتين و حذف التالية للعلم بها، و تقديرها: و الأفضل يجب على من عداه اتّباعه و الاقتداء به، فينتج هذا القياس أنّه كان يتعيّن على من نصره أن يتبع من خذله. و هذا عكس اعتقاد المنكر. و قال بعض النقّاد: إنّ هذه كلمة قرشيّة، و أراد بذلك أنّه عمّى على الناس في كلامه. قال: و لم يرد التبرّء من أمره. و إنّما أراد أنّ الخاذلين لا يلحقهم المفضوليّة بكونهم خاذلين له، و إنّ الناصرين له لا يلحقهم الأفضليّة بنصرته. و الّذي ذكره بعيد الفهم من هذا الكلام. و يمكن أن يحمل على وجه آخر و ذلك أنّه إنّما قرّر أفضليّة الخاذلين على الناصرين ليسلم هو من التخصيص باللائمة في القعود عن النصرة فكأنّه قال: و إذا كان الخاذلون له أفضل ممّن نصره. تعيّن عليهم السؤال عن التخلّف، و أن يستشهد عليهم بحال الناصرين له مع كونهم مفضولين. فلم خصّصت باللائمة من بينهم و المطالبة بدمه لو لا الأغراض الفاسدة. و قوله: و أنا جامع لكم أمره. إلى قوله: الأثرة. أشار عليه السّلام في هذا اللفظ الوجيز إجمالا إلى أنّ كلّ واحد. من عثمان و قاتليه كانا على طرف الإفراط من فضيلة العدالة: أمّا عثمان فاستيثاره و استبداده برأيه فيما الامّة شركاء فيه و الخروج في ذلك إلى حدّ الإفراط الّذي فسد معه نظام الخلافة عليه و أدّى إلى قتله، و أمّا قاتلوه فلخروجهم في الجزع من فعله إلى طرف التفريط عمّا كان ينبغي لهم من التثبّت و انتظار صلاح الحال بينهم و بينه بدون القتل، حتّى استلزم ذلك الجزع ارتكابهم لرذيلة الجور في قتله. فلذلك كان فعله إساءة للاستيثار، و فعلهم إساءة للجزع، و قيل: أراد أنّكم أسأتم الجزع عليه بعد القتل. و قد كان ينبغي منكم ذلك الجزع له قبل قتله

و قوله: و للّه حكم واقع في المستأثر و الجازع. المفهوم من ذلك أنّه يريد بالحكم الواقع للّه في المستأثر هو الحكم المقدّر اللاحق لعثمان بالقتل المكتوب بقلم القضاء الإلهىّ في اللوح المحفوظ، و في الجازغ هو الحكم اللاحق لقاتليه من كونهم قاتلين، أو قالين و جازعين. و في نسبة هذه الأحكام إلى اللّه تنبيه على‏ تبرّئه من الدخول في أمر عثمان و قاتليه بعد الإشارة إلى السبب المعدّ لوقوعها في حقّهم و هو الاسائه في الاستيثار و الجزع، و يحتمل أن يريد الحكم في الآخرة اللاحق للكلّ: من ثواب أو عقاب عمّا ارتكبه. و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 55

خطبه28شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ- الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ- كَلَامُكُمْ يُوهِي الصُّمَّ الصِّلَابَ- وَ فِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ

الْأَعْدَاءَ- تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ كَيْتَ وَ كَيْتَ- فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ- مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ- وَ لَا

اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ- أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ الْمَطُولِ- لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ- وَ لَا يُدْرَكُ الْحَقُّ

إِلَّا بِالْجِدِّ- أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ- وَ مَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ- الْمَغْرُورُ وَ اللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ- وَ مَنْ فَازَ بِكُمْ

فَقَدْ فَازَ وَ اللَّهِ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ- وَ مَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ-

أَصْبَحْتُ وَ اللَّهِ لَا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ- وَ لَا أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ- وَ لَا أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِكُمْ- مَا بَالُكُمْ مَا دَوَاؤُكُمْ مَا طِبُّكُمْ-

الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ- أَ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ- وَ غَفْلةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ- وَ طَمَعاً فِي غَيْرِ حَقٍّ

أقول: روى أنّ السبب في  هذه الخطبة هو غارة الضحّاك بن قيس بعد قصّة الحكمين و عزمه على المسير إلى الشام. و ذلك أنّ معاوية لمّا سمع باختلاف الناس على عليّ عليه السّلام، و تفرّقهم عنه، و قتله من قتل من الخوارج بعث الضحّاك بن قيس في نحو من أربعة آلاف فارس و أوعز عليه بالنهب و الغارة. فأقبل الضحّاك يقتل و ينهب حتّى مرّ بالثعلبيّة. فأغار على الحاجّ فأخذ أمتعتهم. و قتل عمرو بن عميس بن مسعود ابن أخي عبد اللّه بن مسعود صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قتل معه ناسا من أصحابه. فلمّا بلغ عليّا عليه السّلام ذلك استصرخ أصحابه على أطراف أعماله و استشارهم إلى لقاء العدوّ فتلكّؤوا.
و رأى منهم تعاجزا و فشلا. فخطبهم هذه الخطبة. و لنرجع إلى المتن.

اللغة

فالأهواء: الآراء، و الوهي: الضعف، و كيت و كيت: كنايه عن الحديث. و حاد عن الأمر: عدل عنه. قال الجوهري: قولهم حيدي حياد كقولهم: فيحي فياح، و نقل أنّ فياح اسم للغارة كقطام. فحياد أيضا اسم لها. و المعنيّ: اعزلي عنّا [عنها خ‏] أيّتها الحرب، و يحتمل أن يكون حياد من أسماء الأفعال كنزال. فيكون قد أمر بالتنحّي مرّتين بلفظين مختلفين. و أعاليل و أضاليل: جمع أعلال و أضلال و هما جمع علّة: اسم لما يتعلّل به من مرض و غيره، و ضلّة: اسم من الضلال بمعنى الباطل، و المطول: كثير المطال و هو تطويل الوعد و تسويفه، و الجدّ: الاجتهاد، و الأخيب: أشدّ خيبة و هي الحرمان، لأفوق: السهم المكسور الفوق و هو موضع الوتر منه، و الناصل: الّذي لا نصل فيه.

المعنى

و المقصود أنّه عليه السّلام نبّههم على ما يستقبح في الدين، و مراعاة حسن السيرة من أحوالهم و أقوالهم و أفعالهم: أمّا أحوالهم فاجتماع أبدانهم مع تفرّق آرائهم الموجب لتخاذلهم عن الذبّ عن الدين و المفرّق لشمل مصالحهم. و أمّا أقوالهم فكلامهم الّذي يضعف عند سماعه القلوب الصلبة الثابتة و يظنّ سامعه أن تحته نجدة و ثباتا و هو قولهم مثلا في مجالسهم: إنّه لا محلّ لخصومنا، و إنّا سنفعل بهم كذا، و سيكون منّا كذا. و أمثاله.

و استعار لفظي الصمّ الصلاب من أوصاف الحجارة للقلوب الّتي تضعف من سماع كلامهم كما شبّه القرآن الكريم بها: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً. و أمّا أفعالهم فهو تعقيب هذه الأقوال عند حضور القتال و دعوتهم إلى الحرب بالتخاذل و عدم التناصر و التقاعد عن إجابة داعي اللّه و كراهيّة الحرب و الفرار عن مقاتلة العدوّ، و كنّى بقوله: قلتم حيدي حياد. عن ذلك، و هى كلمة كانت تستعملها العرب عند الفرار. ثمّ أردف ذلك بما العادة أن يأنف منه من يطلب الانتصار به على وجه التضجّر منهم عن كثرة تقاعدهم عن صوته.

و ذلك قوله: ما عزّت دعوة من دعاكم. المستلزم للحكم بذلّة داعيهم، و لا استراح قلب من قاساكم. المتلزم للحكم بتعبه، و قوله: أعاليل بأضاليل. خبر مبتدأ محذوف أي و إذا دعوتكم إلى القتال تعللّتم بأعاليل هي باطلة ضلالا عن سبيل اللّه و سألتموني التأخير و تطويل المدّة دفاعا،

و قوله: دفاع ذي الدين المطول. يحتمل أن بكون تشبيها لدفاعهم له بدفاع ذي الدين فيكون منصوبا محذوف الجار، و يحتمل أن يكون قد استعار دفاع ذى الدين المطول لدفاعهم فيكون مرفوعا، و وجه الاستعارة أنّ المدين المطول أبدا مشتهي لعدم المطالبة و تودّ نفسه أن لا يراه غريمه فكذلك فهم عليه السّلام منهم أنّهم كانوا يحبّون أن لا يعرض لهم بذكر القتال و لا يطالبهم به. فاستعار لدفاعهم الدفاع المذكور لمكان المشابهة، ثمّ نبّههم على قبح الذلّ ليفيؤوا إلى فضيلة الشجاعة بذكر بعض لوازمه المنفرة و هو أنّ صاحبه لا يتمكّن من رفع الضيم عن نفسه، و على قبح التواني و التخاذل بأنّه لا يدرك الإنسان حقّه إلّا بضدّ ذلك و هو الجدّ و التشمير في طلبه، ثمّ أعقب ذلك بالسؤال على جهة الإنكار و التقريع عن تعبين الدار الّتي ينبغي لهم حمايتها بعد دار الإسلام الّتي لا نسبة لغيرها إليها في العزّ و الكرامة عند اللّه و وجوب الدفع عنها و الّتي هي موطنهم و محلّ دولتهم. كذلك قوله: و مع أىّ إمام بعدي تقاتلون. و فيه تنبيه لهم على أفضليّته و ما وثق به من إخلاص نفسه للّه في جميع حركاته، و تثبيت لهم على طاعته إذ كان عليه السّلام يتوهّم في بعضهم الميل إلى معاوية و الرغبة فيما عنده من الدنيا. ثمّ أردف ذلك بذمّ من اغترّ بكلامهم و نسبه إلى الغرور و الغفلة.

ثمّ بالإخبار عن سوء حال من كانوا حزبه و من يقاتل بهم: أمّا الأوّل: فهو قوله: المغرور و اللّه من غرّرتموه. و المقصود بالحقيقة ذمّهم و توبيخهم على خلف المواعيد و المماطلة بالنفار إلى الحرب لأنّه إنّما ينسب من وثق بهم إلى الغرور بعد خلفهم في وعدهم له بالنهوض معه. و جعل المغرور مبتدأ و من خبره أبلغ في إثبات الغرّة لمن اغترّ بهم من العكس لاقتضاء الكلام إذن انحصار المغرور في من اغترّ بهم. و لا كذلك لو كان من مبتدأ. و أمّا الثاني: فهو قوله: و من فاز بكم فقد فاز بالسهم الأخيب و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. و قد شبّه نفسه و خصومه باللاعبين بالميسر، و لا حظ شبه حصولهم في حقّه. بخروج أحد السهام الخائبة الّتي لا غنم لها أو الأوغاد الّتي فيها غرم كالّتي لم يخرج حتّى استوفيت أجزاء الجزور فحصل لصاحبها غرم و خيبة. فلأجل ملاحظة هذا الشبه استعار لهم لفظ السهم بصفة الأخيب، و إطلاق الفوز هنا مجاز في حصولهم له من باب إطلاق اسم أحد الضدّين على الآخر كتسمية السيّئة جزاء. كذلك لاحظ المشابهة بين رجال الحرب و بين السهام في كون كلّ منهما عدّة للحرب و دفع العدوّ و لاحظها أيضا بين إرسالهم في الحرب و بين الرمي بالسهام. فلأجل ذلك استعار أوصاف السهم من الأفوق و الناصل، و استعار لفظ الرمي لمقاتلته بهم ثمّ خصّصهم بأردء أوصاف السهم الّتي يبطل معها فائدته لمشابتهم ذلك السهم في عدم الانتفاع بهم في الحرب. و كأنّه أيضا خصّص بعثه لهم إلى الحرب باستعارة الرمى بالسهم الموصوف لزيادة الشبه و هي عدم انبعاثهم عن أمره.

و تجاوزهم أوطانهم كالرمى بالسهم الّذي لا فوق له و لا نصل فإنّه لا يكاد يتجاوز عن القوس مسافة. و هي من لطائف ملاحظات المشابهة و الاستعارة عنها. و المعنى أنّ من حصلتم في حربه فالخيبة حاصلة له فيما يطلب بكم، و من قاتل بكم عدوّه فلا نفع له فيكم. ثمّ أردفه بالإخبار عن نفسه بامور نشأت عن إساءة ظنّه بهم و عدم وثوقه بأقوالهم بكثرة خلفهم و مواعيدهم الباطلة بالنهوض معه و هي أنّه لا يصدّقهم لأنّه من أكثر من شي‏ء عرف به. و من أمثالهم: إنّ الكذوب‏ لا يصدّق و أنّه لا يطمع في نصرهم و أنّه لا يوعد بهم عدوّهم إذ كان وعيده بهم مع طول تخلّفهم و شعور العدوّ بذلك ممّا يوجب جرأته و تسلّطه و أمانه من المقاومة. ثمّ أردفه بالاستفهام على سبيل الاستنكار و التقريع عن حالهم الّتي توجب لهم التخاذل و التصامم عن ندائه و هو قوله: ما بالكم. ثمّ عن دوائهم الصالح للمرض الّذي هم فيه.
ثمّ عن كيفيّة علاجهم منه بقوله: ما دوائكم ما طبّكم. و قيل أراد بقوله ما طبّكم أي ما عادتكم و الأوّل أظهر و أليق. ثمّ نبّههم على ما عساهم يتوهّمونه من قوّة خصومهم و بأسهم بأنّهم رجال أمثالكم في الرجوليّة الّتي هي مظنّة الشجاعة و البأس فلا مزيّة لهم عليكم فلا معنى للخوف منهم. ثمّ عاد إلى سؤالهم على جهة التقريع و نبّههم به على امور لا ينبغي، منفور عنها، مستقبحة في الشريعة و العادة.
فأوّلا: عن قولهم ما لا يفعلون و هو إشارة إلى ما يعدون به من النهوض إلى الحرب ثمّ لا يفعلون و ذلك بقوله: أقولا بغير عمل تذكيرا لهم بما يستلزم ذلك من المقت عند اللّه كما اشير إليه في القرآن الكريم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ«» و على الرواية الثانية و هي أقولا بغير علم أى أ تقولون بألسنتكم ما ليس في قلوبكم و لا تعتقدونه و تجزمون به من أنّا سنفعل كذا. و يحتمل أن يكون معناه أ تقولون إنّا مخلصون للّه و إنّا مسلمون و لا تعلمون شرائط الإسلام و الايمان. و ثانيا: عن غفلتهم الّتي ليست عن ورع و هي عدم تعقّلهم للمصالح الّتي ينبغي أن يكونوا عليها و هي طرف التفريط من فضيلة الفطانة. و هذه بخلاف الغفلة مع الورع.

فإنّ تلك نافعة في المعاد إن كان الورع عبارة عن لزوم الأعمال الجميلة المستعدّة في الآخرة فالغفلة معه عن الامور الدنيويّة و المصالح المتعلّقة بجزئيّاتها ليست بضارّة، بل ربما كانت سببا للخلاص من عذاب ما في الآخرة. و ثالثا: عن طمعهم في غير حقّ أى في أن يمنحهم ما لا يستحقّونه لينهضوا معه و يجيبوا دعوته، و كأنّه عليه السّلام عقل من بعضهم أنّ أحد أسباب تخلّفهم من ندائه‏

إنّما هو طمعهم في أن يوفر عطيّاتهم و يمنحهم زيادة على ما يستحقّون كما فعل غيره مع غيرهم فأشار إلى ذلك و نبّههم على قبحه من حيث إنّه طمع في غير حقّ.
و اللّه أعلم.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 50

خطبه27شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَ آذَنَتْ بِوَدَاعٍ- وَ إِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ- أَلَا وَ إِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ وَ غَداً

السِّبَاقَ- وَ السَّبَقَةُ الْجَنَّةُ وَ الْغَايَةُ النَّارُ- أَ فَلَا تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ- أَ لَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ‏

بُؤْسِهِ- أَلَا وَ إِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ- فَمَنْ عَمِلَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ- فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ وَ

لَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ- وَ مَنْ قَصَّرَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ- فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ وَ ضَرَّهُ أَجَلُهُ- أَلَا فَاعْمَلُوا فِي

الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ- أَلَا وَ إِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا وَ لَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا- أَلَا وَ إِنَّهُ مَنْ لَا

يَنْفَعُهُ الْحَقُّ يَضُرُّهُ الْبَاطِلُ- وَ مَنْ لَا يَسْتَقِيمُ بِهِ الْهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلَالُ إِلَى الرَّدَى- أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ

وَ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ- وَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَ طُولُ الْأَمَلِ- فَتَزَوَّدُوا مِنَ الدُّنْيَا- مَا تَحْرُزُونَ بِهِ

أَنْفُسَكُمْ غَداً

قال الشريف: أقول: لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد فى الدنيا و يضطر إلى عمل الآخرة  لكان هذا الكلام، و كفى به قاطعا لعلائق الآمال، و قادحا زناد الاتعاظ و الازدجار، و من أعجبه قوله عليه السّلام «ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السّباق و السّبقة الجنّة و الغاية النّار» فإن فيه- مع فخامة اللفظ، و عظم قدر المعنى، و صادق التمثيل، و واقع التشبيه- سرا عجيبا، و معنى لطيفا، و هو قوله عليه السّلام: «و السبقة الجنة، و الغاية النار» فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين، و لم يقل «السبقة النار» كما قال «السبقة الجنة»، لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب، و غرض مطلوب، و هذه صفة الجنة و ليس هذا المعنى موجودا فى النار نعوذ باللّه منها، فلم يجز أن يقول «و السبقة النار» بل قال «و الغاية النار»، لأن الغاية ينتهى إليها من لا يسره الانتهاء و من يسره ذلك، فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا، فهى فى هذا الموضع كالمصير و المآل، قال اللّه تعالى: (وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ) و لا يجوز فى هذا الموضع أن يقال: سبقتكم- بسكون الباء- إلى النار، فتأمل ذلك فباطنه عجيب و غوره بعيد. و كذلك أكثر كلامه عليه السّلام، و فى بعض النسخ، و قد جاء في رواية أخرى «و السبقة الجنة»- بضم السين- و السبقة عندهم: اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض، و المعنيان متقاربان لأن ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم، و إنما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود. أقول: هذا الفصل من الخطبة الّتي في أوّلها الحمد للّه غير مقنوط من رحمته. و سيجي‏ء بعد، و إنّما قدّمه الرضيّ عليها لما سبق من اعتذاره في خطبة الكتاب أنّه لا يراعى التتالى و النسق في كلامه عليه السّلام.

اللغة

و قوله: قد أدبرت أى ولىّ دبره. و آذنت أى أعلمت. و أشرفت أى أطّلعت، و المضمار: المدّة الّتي يضمر فيها الخيل للمسابقة أى تعلف حتّى تسمن ثمّ تردّ إلى القوت و المدّة أربعون يوما، و قد يطلق على الموضع الّذي يضمر فيه أيضا. و السباق: مصدر مرادف للمسابقة و هو أيضا جمع سبقة كنظفة و نظاف، أو سبقة كحجلة و حجال، أو سبق كجمل و جمال. و الثلاثة اسم لما يجعل للسابق من مال أو غرض، و المنيّة: الموت، و البؤس: شدّة الحاجة، و تحرزون: تحفظون.

و اعلم انّ هذا الفصل يشتمل على أحد عشر تنبيها:

الأوّل: على وجوب النفار عن الدنيا و عدم الركون إليها.

و ذلك بقوله: ألا و إنّ الدنيا قد أدبرت و آذنت بوداع. و أشار بإدبار الدنيا و إعلامها بالوداع إلى تقضّى الأحوال الحاضرة بالنسبة إلى كلّ شخص من الناس من صحّة و شباب و جاه و مال و كلّ ما يكون سببا لصلاح حال الإنسان، و أنّ كلّ ذلك في هذا الحياة الدنيا لدنوّهامن الإنسان. و لمّا كانت هذه الامور أبدا في التغيّر و التقضّى المقتضى لمفارقة الإنسان لها و بعدها عنه لا جرم حسن إطلاق اسم الإدبار على تقضّيها و بعدها استعارة تشبيها لها بالحيوان في إدباره. فقيل لكلّ أمر يكون الإنسان فيه من خير و شرّ إذا كان في أوّله: أقبل، و إذا كان في آخره و بعد تقتضيّه: أدبر، و كذلك اسم الوداع فإنّ التقضّى لمّا استلزم المفارقة و كانت مفارقة الدنيا مستلزمة لأسف الإنسان عليها و وجده لها أشبه ذلك ما يفعله الإنسان في حقّ صديقه المرتحل عنه في وداعه له من الأسف على فراقه و الحزن و البكاء و نحوه. فاستعير اسم الوداع له، و كنّى بإعلامها بذلك عن الشعور الحاصل بمفارقتها من تقضّيها شيئا فشيئا، أو هو إعلام بلسان الحال.

الثاني: التنبيه على الإقبال على الآخرة و التيقّظ للاستعداد لها

بقوله: ألا و إنّ الآخرة- قد أقبلت- و أشرفت باطّلاع. و لمّا كانت الآخرة عبارة عن الدار الجامعة للأحوال الّتي يكون الناس عليها بعد الموت من سعادة و شقاوة و ألم و لذّة، و كان تقضّى العمر مقرّبا للوصول إلى تلك الدار و الحصول فيما يشمل عليه من خير أو شرّ حسن إطلاق لفظ الإقبال عليها مجازا. ثمّ نزّلها لشرفها على الدنيا في حال إقبالها منزلة حال عند سافل. فأسند إليها لفظ الإشراف. و لأجل إحصاء الأعمال الدنيويّة فيها منزله عالم مطّلع.
فأطلق عليها لفظ الاطّلاع، و يحتمل أن يكون إسناد الإشراف بكيفيّة الاطّلاع إلى ربّ الآخرة، و إنّما عبّر بالآخرة عنه تعظيما لجلاله كما يكنّى عن الرجل الفاضل بمجلسه و حضرته و يكون كيفيّة الاطّلاع قرينة ذلك.

الثالث: التنبيه على وجوب الاستعداد بذكر ما يستعدّ لأجله
و هو السباق، و ذكر ما يستبق إليه و ما هو غاية المقصّر المتخلّف عن نداء اللّه. و ذلك قوله: و إنّ اليوم المضمار. إلى قوله: و الغاية النار. كنّى باليوم عن عمر الإنسان الباقية له و أخبر بالمضمار عنها.
و اعلم أنّه قد ورد المضمار و السباق مرفوعين و منصوبين: فأمّا رفع المضمار فلأنّه خبر أنّ. و اليوم اسمها، و إنّما اطلق اسم المضمار على تلك المدّة لما بينهما من المشابهة فإنّ الإنسان في مدّة عمره يستعدّ بالتقوى و يرتاض بالأعمال الصالحة لتكميل قوّته فيكون من السابقين إلى لقاء اللّه و المقرّبين في حضرته كما يستعدّ الفرس بالتضمير لسبق مثله، و أمّا نصبه ففيه شكّ. إذ يحتمل أن يقال: إنّ المضمار زمان و اليوم زمان فلو أخبرنا عنه باليوم لكان ذلك إخبارا بوقوع الزمان في الزمان فيكون الزمان محتاجا إلى زمان آخر. و ذلك محال. و جوابه: لا نسلّم أنّ الإخبار بوقوع الزمان في الزمان محوج للزمان إلى زمان آخر. فإنّ بعض أجزاء الزمان قد يخبر عنها بالزمان بمعنى أنّها أجزاؤه و الجزء في الكلّ لا بمعنى أنّها حاصله في زمان آخر. و إن كان إنّما يحسن الإخبار عنها به إذا قيّدت بوصف و اشتملت على أحداث يتخصّص بها كما تقول: أنّ مصطبح القوم اليوم. فكذلك المضمار لمّا كان وقتا مشتملا على التضمير و هو حدث صحّ الإخبار عنه باليوم. و أمّا نصب السباق فلأنّه اسم إنّ أى و إنّ غدا السباق و كنّى بغد عمّا بعد الموت، و أمّا رفعه فلا وجه له إلّا أن يكون مبتدأ خبره غدا و يكون اسم إنّ ضمير الشأن. و قال بعض الشارحين: يجوز أن يكون خبر إنّ. و هو ظاهر الفساد لأنّ الحكم بشي‏ء على شي‏ء إمّا بمعنى أنّه هو هو كما يقال: الإنسان هو الضحّاك. و هو ما يسمّيه المنطقيّون حمل المواطاة، أو على أنّ المحكوم عليه ذو المحكوم به كما يقال: الجسم أبيض أى ذو بياض.

و هو ما يسمّونه حمل الاشتقاق. و لا واحد من المعنيين بحاصل في الحكم بالسباق على غد. فيمتنع أن يكون خبر إنّ، اللّهم إلّا على تقدير حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه: أى و إنّ غدا وقت السباق. لكن لا يكون السباق هو الخبر في الحقيقة.

ثمّ إن قلنا: إنّ السباق مصدر. كان التقدير ضمّروا أنفسكم اليوم فإنّكم غدا تستبقون.
و تحقيق ذلك أنّ الإنسان كلّما كان أكمل في قوّتيه النظريّة و العمليّة كان وصوله إلى حضرة القدس قبل وصول من هو أنقص منه و لمّا كان مبدء النقصان في هاتين القوّتين إنّما هو محبّة ما عدا الواحد الحقّ، و اتّباع الشهوات، و الميل إلى أنواع اللذّات الفانية، و الإعراض بسبب ذلك عن تولّى القبلة الحقيقيّة. و مبدء الكمال فيهما هو الإعراض عمّا عدا الواحد الحقّ من الامور المعدودة، و الإقبال عليه بالكلّية. و كان الناس في محبّة الدنيا و في الإعراض عنها و الاستكمال بطاعة اللّه على مراتب مختلفة و درجات متفاوته كان كون اليوم هو المضمار و غدا السباق متصوّرا جليّا. فإنّ كلّ من كان أكثر استعدادا و أقطع لعلائق الدنيا عن قلبه لم يكن له بعد الموت عائق يعوقه عن الوصول إلى اللّه‏ و ما أعدّ له في الجنّة من الثواب الجزيل، بل كان خفيف الظهر ناجيا من ثقل الوزر كما أشار إليه الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: نجا المخفّفون. و كما سبق من إشارة علىّ عليه السّلام إلى ذلك بقوله: تخفّفوا تلحقوا. فيكون بعد الموت سابقا ممّن كان أضعف استكمالا منه، و ممّن لسعت عقارب الهيئات البدنيّة و الملكات الرديئة قلبه و أثقلت الأوزار ظهره و أوجب له التخلّف عن درجة السابقين الأوّلين. و كذلك يكون سبق هذا بالنسبة إلى من هو أقلّ استعدادا منه و أشدّ علاقة للدنيا بقلبه. فكان معنى المسابقة ظاهرا إن كان استعارة من السباق المتعارف بين العرب.

و إن قلنا: إنّ السباق جمع سبقه: اسم لمّا يستبق إليه و يجعل للسابق. فالمعنى أيضا ظاهر فإنّ ما يستبق إليه إنّما يكمل الوصول إليه بعد المفارقة، و يكون الاستباق إمّا قبل المفارقة و هو السعى في درجات الرياضات كما أشار إليه سبحانه بقوله سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا«» الآية، و قوله فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ. أو بعد المفارقة كما أشرنا إليه.

و يكون قوله بعد ذلك: و السبقة الجنّة. تعيينا للمستبق إليه بعد التنبيه عليه إجمالا و أمّا قوله: و الغاية النار. فالّذي ذكره الرضىّ- رضوان اللّه عليه- في تخصيص الجنّة بالسبقة و النار بالغاية حسن و كاف في بيان مراده عليه السّلام إلّا أنّه يبقى هاهنا بحث و هو أنّ هذه الغاية من أىّ الغايات هي و هل هي غاية حقيقيّة أو لازمة لغاية فنقول: إنّ ما ينتهى إليه قد يكون بسوق طبيعىّ، و قد يكون بسوق إراديّ. و كلّ واحد منهما قد يكون ذاتيّا، و قد يكون عرضيّا. فالسوق الذّاتي منهما يقال له غاية إمّا طبيعيّة كاستقرار الحجر في حيّزه عن حركته بسوق طبيعته له إليه و إمّا إراديّة كغايات الإنسان من حركاته المنتهى إليها بسوق إرادته. و أمّا المنتهى إليه بالسوق العرضىّ فهو من لوازم إحدى الغايتين و قد يسمّى غاية عرضيّة. فاللازم عن الطبيعيّة كمنع الحجر غيره أن يحلّ بحيث هو فإنّ ذلك من لوازم استقراره في حيّزه، و عن الإراديّة كاستضاءة الجار بسراج جاره فإنّ ذلك من لواحق استضاءته و كهلاك الطائر في حبائل الصيّاد عن الميل إلى التقاط حبّة.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ كون النار غاية بهذا المعنى الرابع.

و بيانه: أن محبّة الدنيا و الميل إليها و الانهماك في مشتهياتها. سواء كان معها مسكة للإنسان باللّه تعالى أو لم يكن فإنّ من لوازمها الانتهاء إلى النار إلّا أن يشاء اللّه كما قال تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ«» و كان المقصود الأوّل للإنسان هو تناول اللذّات الحاضرة لكن لمّا كان من لوازم الوصول إلى تلك اللذّات و الإقبال عليها دخول النار و الانتهاء إليها كانت عرضيّة.

الرابع: التنبيه على التوبة قبل الموت

 هو قوله: أفلا تائب من خطيئة قبل منيّته. و لا شكّ أنّها يجب أن تكون مقدّمة على الأعمال لأنّك علمت أنّ التوبة هي انزجار النفس العاقلة عن متابعة النفس الأمّارة بالسوء لجاذب إلهىّ اطّلعت معه على قبح ما كانت عليه من اتّباع شياطينها و هو من مقام الزهد و التخلّى. و قد علمت في بيان كيفيّة السلوك إلى اللّه تعالى أنّ مقام التخلية مقدّم على مقام التحلية. فكان الأمر بها مقدّما على الأمر بساير الطاعات.

الخامس: التنبيه على العمل للنفس قبل يوم البؤس

و الإشارة إلى ما بعد الموت من العذاب اللازم للنقصان اللازم عن التقصير في العمل إذ الواصل إلى يوم بؤسه على غير عمل أسير في يد شياطينه. و قد علمت أن غاية الاسترسال في يد الشيطان دخول النار و الحجب عن لقاء ربّ العالمين. و لمّا كان العمل هو المعين على قهر الشياطين و المخلص من أسره نبّه عليه، ثمّ أردفه بالتنبيه على وجود الزمان الّذي يمكنهم فيه العمل و هو أيّام آمالهم للعمل و غيره على أنّ ذلك الزمان منقطع بلحوق الأجل، ثمّ أردفه ببيان فايدة العمل في ذلك الزمان و هي المنفعة بالثواب في الآخرة و ما يلزمها من عدم مضرّة الأجل، و بيان ثمرة التقصير في العمل فيه و هي خسران العمل المستلزم لمضرّة الأجل. و أحسن باستعارته عليه لفظ الخسران لفوات العمل فإنّ الخسران في البيع لمّا كان هو النقصان في رأس المال أو ذهاب جملته، و كان العمل هو رأس مال العامل الّذي يكتسب الكمال و السعادة الاخرويّة لا جرم حسنت استعارة لفظ الخسران لعدم العمل، و أمّا استلزام المنفعة لعدم مضرّة الموت و استلزام الخسران لمضرّته فهو أمر ظاهر إذ كان الكامل في‏ قوّتيه المعرض عن متاع الدنيا غير ملتفت إليها بعد المفارقة فلم يحصل له بسببها تعذيب.

فكانت المضرّة منفيّة عنه. و كان المقصّر عن الاستكمال فيهما من ضرورة طباعه الميل إلى اللذّات الحسّية. فإذا قصر عن العمل و التعلّق بطاعة اللّه الجاذبة إليه فلا بدّ و أن يستضرّ بحضور الأجل إذ كان الأجل قاطعا لزمان الاستكمال و حائلا بين الإنسان و بين ما هو معشوق له من حاضر اللذّات.

السادس: التنبيه على وجوب التسوية للعامل بين العمل في الرغبة و العمل في الرهبة.

و فيه شميمة التوبيخ للعبد على غفلته عن ذكر اللّه و إعراضه عن عبادته في حال صفاء اللذّات الحاضرة له، و لجأه إليه و فزعه عند نازلة إن نزلت به. فإنّ ذلك ليس من شأن العبوديّة الصادقة للّه. و إلى مثل هذا التوبيخ أشار التنزيل الإلهىّ بقوله وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً«» و غيره من الآيات، بل من شأن العابد للّه القاصد له أن يتساوى عبادته في أزمان شدّته و رخائه. فيقابل الشدّة بالصبر، و الرخاء بالشكر، و أن يعبده لا لرغبة و لا رهبة و أن يعبده فيهما من غير فرق.

السابع: قوله: ألا و إنّى لم أر كالجنّة نام طالبها و لا كالنار نام هاربها

قوله: ألا و إنّى لم أر كالجنّة نام طالبها و لا كالنار نام هاربها. و اعلم أنّ الضمير في طالبها و هاربها يعود إلى المفعول الأوّل لرأيت المحذوف المشبّه في الموضعين و التقدير لم أر نعمة كالجنّة نام طالبها و لا نقمة كالنار نام هاربها، و نام في محلّ النصب مفعولا ثانيا. و مغزى هذا الكلام أنّه نفى علمه بما يشبه الجنّة و ما يشبه النار و لم ينف علمه بذات التشبيه بل علمه من جهة الشبه و هي نوم الطالب و الهارب. و لذلك استدعت أرى بمعنى أعلم هنا مفعولين أى لم أر نعمة كالجنّة بصفة نوم الطالب لها. فنبّه على وجه الشبه بقوله: نام طالبها، ثمّ نفى التشبيه من تلك الجهة.

و كذلك قوله: و لا كالنار بصفة نوم هاربها. و المفعول الثاني في الجملتين صفة جارية على غير من هي له. و هي تنبيه للموقنين بالجنّة و النار على كونهم نائمين في مراقد الطبيعة لينتبهوا منها و يتفطّنوا [يتّعظوا خ‏] للاستعداد بالعمل التامّ لما ورائهم‏ من مرغوب و مرهوب. و فيه شميمه التعجّب من جمع الموقن بالجنّة و النار بين علمه بما في الجنّة من تمام النعمة و تقصيره عن طلبها بما يؤدّى إليها من الأعمال الصالحة، و جمع الموقن بالنار بين علمه بما فيها من عظيم العذاب و بين تقصيره و غفلته عن الهرب إلى ما يخلص منها.

الثامن: قوله ألا و إنّه من لم ينفعه الحقّ يضرّه الباطل

قوله ألا و إنّه من لم ينفعه الحقّ يضرّه الباطل. فالضمير في إنّه ضمير الشأن. و أراد بالحقّ الإقبال على اللّه بلزوم الأعمال الصالحة المطابقة للعقايد المطابقة، و بالباطل الالتفات عنه إلى غير ذلك ممّا لا يجدي نفعا في الآخرة. و هو تنبيه على استلزام عدم منفعة الحقّ لمضرّة الباطل في صورة شرطيّة متّصلة، و بيان الملازمة فيها ظاهر فإنّ وجود الحقّ مستلزم لمنفعته فعدم منفعته إذن مستلزم لعدمه و عدمه مستلزم لوجود الباطل لأن اعتقاد المكلّف و عمله إمّا أن يطابقا أوامر اللّه تعالي، أو ليس.

و الأوّل هو الحق، و الثاني هو الباطل. و ظاهر أنّ عدم الأوّل مستلزم لوجود الثاني. ثمّ إنّ وجود الباطل مستلزم لمضرّته. فيظهر بهذا البيان أنّ عدم منفعة الحقّ مستلزم لوجود مضرّة الباطل. و إذا ثبت ذلك فنقول: مراده عليه السّلام بلزوم الحقّ ما هو المستلزم لمنفعته و بنفى الباطل ما هو المستلزم لعدم مضرّته. فإنّ لزوم الطاعة للّه بامتثال أوامره و الإقبال عليه مستلزم للوصول إلى جواره المقدّس، و الالتفات إلى ما عداه المعبّر عنه بالباطل مستلزم للنقصان الموجب للتخلّف عن السابقين و الهوى في درك الهالكين. و ذلك محض المضرّة. فظهر أذن سرّ قوله: عليه السّلام من لم ينفعه الحقّ يضرره الباطل. و من غفلة بعض من يدّعى العلم عن بيان هذه الملازمة ذهب إلى أنّ الوعيدات الواردة في الكتب الإلهيّة إنما جاءت للتخويف دون أن يكون هناك شقاوة للعصاة.
محتجّا على ذلك بتمثيلات خطابيّة عن مشهورات في بادى‏ء الرأى إذا تعقّبها النظر زالت شهرتها.

التاسع و من لا يستقم به الهدى يجرّ به الضلال إلى الردى

و من لا يستقم به الهدى يجرّ به الضلال إلى الردى. أراد بالهدى نور العلم و الإيمان، و بالضلال الجهل و الخروج عن أمر اللّه. و المعنى أنّ من لم يكن الهدى دليله القائد له بزمام عقله في سبيل اللّه و يستقيم به في سلوك صراطه المستقيم‏ فلا بدّ و أن ينحرف به الضلال عن سواء الصراط إلى أحد جانبى التفريط و الإفراط.
و ملازمة هذه الشرطيّة أيضا ظاهرة. لأنّ وجود الهدى لمّا استلزم وجود استقامة بالإنسان على سواء السبيل كان عدم استقامة الهدى به مستلزما لعدم الهدى المستلزم لوجود الضلال المستلزم للجرّ بالإنسان إلى مهاوى الردى، و العدول به عن الصراط المستقيم إلى سواء الجحيم.

العاشر: ألا و إنّكم قد امرتم بالظعن و دللتم على الزاد

قوله: ألا و إنّكم قد امرتم بالظعن و دللتم على الزاد. و هو تنبيه على ملاحظة الأوامر الواردة بالظعن كقوله تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ«» و كقوله تعالى سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ«» على الأمر باتّخاذ الزاد كقوله تعالى وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏«» و أحسن باستعارته الظعن للسفر إلى اللّه و استعارة الزاد لما يقرّب إليه. و وجه درجه الاستعارة الاولى: أنّ الظعن لمّا كان عبارة عن قطع المراحل المحسوسة بالرجل و الجمل و نحوه فكذلك السفر إلى اللّه عبارة عن قطع المراحل المعقوله بقدم العقل، و وجه الثانية أنّ الزاد لمّا كان إنّما يعدّ لتقوى به الطبيعة على الحركة الحسّية و كانت الامور المقرّبة إلى اللّه تعالى ممّا تقوى به النفس على الوصول إلى جنابه المقدّس كان ذلك من أتمّ المشابهة الّتي يقرّب معها اتّحاد المتشابهين. و بحسب قوّة المشابهة يكون قوّة حسن الاستعارة.

الحادى عشر: التنبيه على أخوف الامور

الّتي ينبغي أن تخاف لتجتنب و هو الجمع بين اتّباع الهوى و طول الأمل. و سيذكر عليه السّلام هذا الكلام في موضع آخر مع ذكر علّة التحذير من هذين الأمرين، و سنوضح معناه هناك. و يكفى هاهنا أن يقال: إنّما حذّر منهما عقيب التنبيه على الظعن و الأمر باتّخاد الزاد لكون الجمع بينهما مستلزما للإعراض عن الآخرة فيكون مستلزما لعدم الظعن و عدم اتّخاذ الزاد. فخوّف منهما ليجتنبا. فيحصل مع اجتنابهما الإقبال على اتّخاذ الزاد و الاهبّة للظعن و لذلك أردف التخويف منهما بالأمر باتّخاذ الزاد. و في قوله: من الدنيا في الدنيا لطف. فإنّ الزاد الموصل إلى اللّه تعالى إمّا علم أو عمل و كلاهما يحصلان من الدنيا: أمّا العمل‏ فلا شكّ أنّه عبارة من حركات و سكنات تستلزم هيئات مخصوصة إنّما تحصل بواسطة هذا البدن و كلّ ذلك من الدنيا في الدنيا، و أمّا العلم فلأنّ الاستكمال به إنّما يحصل بواسطة هذا البدن أيضا إمّا بواسطة الحواسّ الظاهرة و الباطنة، أو بتفطّن النفس لمشاركات بين المحسوسات و مباينات بينها و ظاهر أنّ ذلك من الدنيا في الدنيا و أشار بقوله: ما تحرزون أنفسكم به غدا. أنّ كلّ زاد عدّ به الإنسان نفسه للوصول إلى جوا اللّه فقد تدرع به من غدا به و حفظ به نفسه يوم لا ينفع مال و لا بنون.

و قد اشتمل هذا الفصل على استدراجات لطيفة لانفعالات عن أوامر للّه و زواجره، و إذا تأمّلت اسلوب كلامه عليه السّلام، و راعيت ما فيه: من فخامة الألفاظ، و جزالة المعاني المطابقة للبراهين العقليّة، و حسن الاستعارات و التشبيهات و مواقعها، و صحّة ترتيب أجزائه. و وضع كلّ مع ما يناسبه. وجدته لا يصدر إلّا عن علم لدنىّ و فيض ربّانيّ. و أمكنك حينئذ الفرق بين كلامه عليه السّلام و كلام غيره و التمييز بينهما بسهولة. و باللّه العصمة و التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 40

خطبه26شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ- فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى- وَ دِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَ

جُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ- فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَ شَمِلَهُ الْبَلَاءُ- وَ دُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَ الْقَمَاءَةِ- وَ ضُرِبَ

عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ- وَ أُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ- وَ سِيمَ الْخَسْفَ وَ مُنِعَ النَّصَفَ أَلَا وَ إِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ

إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ- لَيْلًا وَ نَهَاراً وَ سِرّاً وَ إِعْلَاناً- وَ قُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ- فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ

قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا- فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ- حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ- وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ- وَ هَذَا

أَخُو غَامِدٍ وَ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ- وَ قَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ- وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا- وَ لَقَدْ

بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ- عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَ الْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ- فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ

قَلَائِدَهَا وَ رُعُثَهَا- مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَ الِاسْتِرْحَامِ- ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ- مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ وَ لَا

أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ- فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ‏ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً- مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً- فَيَا

عَجَباً وَ اللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَ يَجْلِبُ الْهَمَّ- مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ- وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ- فَقُبْحاً

لَكُمْ وَ تَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى- يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَ لَا تُغِيرُونَ- وَ تُغْزَوْنَ وَ لَا تَغْزُونَ وَ يُعْصَى اللَّهُ وَ تَرْضَوْنَ- فَإِذَا

أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ- قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ- أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ- وَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ

إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ- قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ- أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ- كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَ الْقُرِّ- «» فَأَنْتُمْ وَ

اللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ- يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَ لَا رِجَالَ- حُلُومُ الْأَطْفَالِ وَ عُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ- لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَ

لَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً- وَ اللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَ أَعْقَبَتْ سَدَماً- قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً- وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي

غَيْظاً- وَ جَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً- وَ أَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَ الْخِذْلَانِ- حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ

قُرَيْشٌ- إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ- وَ لَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ- لِلَّهِ أَبُوهُمْ- وَ هَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا

مِرَاساً وَ أَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي- لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَ مَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ- وَ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ- وَ

لَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ

أقول: هذه الخطبة مشهورة ذكرها أبو العباس المبرّد و غيره، و السبب المشهور لها أنّه ورد عليه علج من أهل الأنبار فأخبره أنّ سفيان بن عوف الغامدىّ قد ورد في خيل المعاوية إلى الأنبار و قتل عامله حسّان بن حسّان البكرىّ. فصعد عليه السّلام المنبر و خطب الناس و قال: إنّ أخاكم البكرىّ قد اصيب بالأنبار و هو مغترّ لا يخاف ما كان، و اختار ما عند اللّه على الدنيا. فانتدبوا إليهم حتّى تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفا انكلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا. ثمّ سكت رجاء أن يجيبوه بشى‏ء فلم يفه أحد منهم بكلمة. فلمّا رأى صمتهم نزل و خرج يمشى راجلا حتّى أتى النخيلة و الناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم و قالوا: ترجع يا أمير المؤمنين و نحن نكفيك. فقال: ما تكفونى و لا تكفون أنفسكم. فلم يزالوا به حتّى ردّوه إلى منزله. فبعث سعيد بن قيس الهمدانى في ثمانية آلاف في طلب سفيان بن عوف فخرج حتّى انتهى إلى أدانى أرض قنّسرين و قد فاتوه. فرجع و كان علىّ عليه السّلام في ذلك الوقت عليلا فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول.

فجلس بباب السدّة الّتي تصل إلى المسجد و معه الحسن و الحسين عليهما السّلام و عبد اللّه بن جعفر، و دعى سعدا مولاه فدفع إليه كتابا كتب فيه هذه الخطبة و أمره أن يقرأها على الناس بحيث يسمع عليه السّلام و يسمعون، و في رواية المبرّد أنّه لمّا انتهى إليه ورود خيل معاوية الأنبار و قتل حسّان بن حسّان خرج مغضبا فجرّ ردائه حتّى أتى النخيلة و معه الناس فرقى رباوة من الأرض فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ قال الخطبة. و رواية المبرّد أليق بصورة الحال و أظهر، و روى أنّه قام إليه رجل في آخر الخطبة و معه ابن أخ له فقال: يا أمير المؤمنين: إنّى و ابن أخى هذا كما قال تعالى قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ«» فمرنا بأمرك فو اللّه لننهيّن إليه و لو حال بيننا و بينه جمر الغضا و شوك القتاد فدعا لهما بخير، و قال: و أين أنتما مما اريد.

اللغة

و لنرجع إلى التفسير فنقول: الجنّة: ما استترت به من سلاح أو غيره، و دّيث: أى ذلّل، و منه الديوث: الّذي لا غيرة له. و الصغار: الذلّ و الضيم، و القماء ممدود مصدر قمأ قمأة فهو قمي‏ء: الحقارة و الذلّ، و روى الراوندى القما بالقصر و هو غير معروف، و اسدل الرجل بالبناء للمفعول إذ ذهب عقله من أذى يلحقه. و اديل الحقّ من فلان أى غلبه عليه عدوّه،و سامه خسفا بضمّ الخاء و فتحها: أى أولاه ذلّا و كلّفه المشقّة، و النصف بكسر النون و سكون الصاد: الاسم من الانصاف، و ضمّ النون لغة فيه، و عقر الشي‏ء: أصله، و التواكل: أن يكل كلّ واحد منهم الأمر إلى صاحبه و يعتمد عليه فيه. و شنّ الغارة و أشنّها: فرّقها عليهم من كلّ وجه. و غامد: قبيلة من اليمن و هى من الأزد ازد شنوءة، و المسالح جمع مسلحة و هى الحدود الّتي ترتّب فيها ذو و الأسلحة مخافة عادية العدوّ كالثغر، و المعاهدة: الذميّة، و الحجل بكسر الحاء و فتحها: الخلخال، و القلب السوار المصمت، و الرعاث جمع رعثة بفتح الراء و سكون العين و فتحها: و هى القرط، و الرعاث أيضا: ضرب من الخرز و الحلى، و الاسترجاع قول: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و الاسترحام: مناشدة الرحم، و الوافر: التامّ، و الكلم: الجرح. و الترح: الحزن. و الغرض: الهدف، و حمارّة القيظ بتشديد الراء: شدّة حرّه: و سبخ الحرّ: فتر، و خفّ، و صبارّة القرّ بتشديد الراء أيضا: شدّة البرد، و ينسلخ: ينقضي، و ربّات الحجال: النساء، و الحجال جمع حجلة: و هى بيت العروس يزّين بالستور و الثياب، و السدم: الحزن عن الندم، و القيح: ما يكون في القرحة من المدّة و الصديد، و شحنتم: ملأتم و النغب جمع نغبة بضم النون و هى الجرعة، و التهمام بالفتح التهمّ، و المراس العلاج، و ذرّفت على الستّين بتشديد الراء أى زدت.

المعنى

و اعلم أنّ قوله: أمّا بعد. إلى قوله: و منع النصف. صدر الخطبة بيّن فيه غرضه إجمالا و هو الحثّ على الجهاد، فإنّه ممّا ذكر من أمر الجهاد و تعظيمه و خطأ من قصر عنه علم أنّه يريد أن يحثّ السامعين على جهاد عدوّهم فذكر من ممادح الجهاد امورا.
أحدها: أنّه باب من أبواب الجنّة.
و بيانه أنّ الجهاد تارة يراد به جهاد العدوّ الظاهر كما هو الظاهر هاهنا، و تارة يعنى به جهاد العدوّ الخفىّ و هو النفس الأمارة بالسوء.
و كلاهما بابان من أبواب الجنّة، و الثاني منهما مراد بواسطة الأوّل إذ هو لازمة له، و ذلك أنّك علمت أنّ لقاء اللّه سبحانه و مشاهدة حضرة الربوبيّة هى ثمرة الخلقة و غاية سعى عباد اللّه الأبرار، ثمّ. قد ثبت بالضرورة من دين محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الجهاد أحد العبادات الخمس، و ثبت أيضا في علم السلوك إلى اللّه أنّ العبادات الشرعيّة هى المتمّة و المعينة على تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة، و أنّ التطويع كيف يكون‏ وسيلة إلى الجنّة الّتي وعد المتّقون. فيعلم من هذه المقدّمات أنّ الجهاد الشرعىّ باب من أبواب الجنّة إذ منه يعبر المجاهد السالك إلى اللّه إلى الباب الأعظم للجنّة و هو الرياضة و قهر الشيطان.

و من وقوفك على هذا السرّ تعلم أنّ الصلاة و الصوم و سائر العبادات كلّها أبواب للجنّة إذ كان امتثالها على الوجه المأمور بها مستلزما للوصول إلى الجنّة. فإنّ باب كلّ شي‏ء هو ما يدخل إليه منه و يتوصّل به إليه. و نحوه قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم في الصلاة: إنّها مفتاح الجنّة، و في الصوم إنّ للجنّة بابا يقال له الريّان لا يدخله إلّا الصائمون.

الثاني من أوصاف الجهاد
أنّه باب فتحه اللّه لخاصّة أوليائه. و المراد بخواصّ الأولياء المخلصون له في المحبّة و العبادة. و ظاهر أنّ المجاهدة للّه لا لغرض آخر من خواصّ الأولياء، و ذلك أنّ المرء المسلم إذا فارق أهله و ولده و ماله و أقدم على من يغلب على ظنّه أنّه أقوى منه كما امر المسلمون بأن يثبت أحدهم لعشرة من الكفّار، ثمّ يعلم أنّه لو قهره لقتله و استباح ذرّيته و هو في كلّ تلك الأحوال صابر شاكر و معترف بالعبوديّة للّه مسلّم أمره إلى اللّه فذلك هو الولىّ الحقّ الّذي قد أعرض عن غير اللّه رأسا، و قهر شيطانه قهرا، و آيسه أن يطيع له أمرا.

فإن قلت: إذا كان الغرض من العبادات هو جهاد الشيطان و الإخلاص للّه و كان التخصيص بالوصفين المذكورين لاستلزامه ذلك المعنى لم يبق حينئذ لسائر العبادات مزيّة عليه فما معنى قول الصحابة و قد رجعوا من جهاد المشركين: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.

قلت: يحتمل معنيين: أحدهما: أنّ الجهاد الظاهر ليس كلّ غرضه الذاتىّ هو جهاد النفس، بل ربّما كان من أعظم أغراضه الذاتيّة هو قهر العدوّ الظاهر ليستقيم الناس على الدين الحقّ، و ينتظم أمرهم في سلوكه. و لذلك دخل فيه من أراد منه إلّا ذلك كالمؤلّفة قلوبهم و إن كانوا كفّارا. و ذلك بخلاف سائر العبادات إذ غرضها ليس إلّا جهاد النفس و لا شكّ أنّه هو الجهاد الأكبر: أمّا أوّلا فباعتبار مضرّة العدّوين فإنّ مضرّة العدّو الظاهر مضرّة دنياويّة فانية، و مضرّة الشيطان مضرّة اخرويّة باقية. و من كانت مضرّته أعظم كان جهاده‏ أكبر و أهمّ، و أمّا ثانيا فلأنّ مجاهدة الشيطان مجاهدة عدوّ لازم و مع ذلك فلا يزال مخادعا غرّارا لا ينال غرضه إلّا بالخروج في ذىّ الناصحين الأصدقاء، و لا شكّ أنّ الاحتراز من مثل هذا العدّو أصعب، و جهاده أكبر من جهاد عدوّ مظهر لعداوته‏ يقاتله الإنسان في عمره مرّة أو مرّتين. فحسن لذلك تخصيص الجهاد بالأصغر، و مجاهدة النفس بالأكبر.

المعنى الثاني: أنّا و إن قلنا: إنّ الغرض من الجهاد الأصغر هو جهاد النفس إلّا أنّ جهادها في حال جهاد العدوّ الظاهر قد يكون أسهل و ذلك أنّ القوى البدنيّة كالغضب و الشهوة يثوران عند مناجزة العدّو طلبا لدفعه، و تصيران مطيعين للنفس الإنسانيّة فيما تراه و تأمر به فلا يكون عليها كثير كلفة في تطويع تلك القوى. بخلاف سائر العبادات فإنّ طباع تلك القوى معاكسة فيها لرأى النفس. فلذلك كان جهادها في سائر العبادات أصعب و أكبر من جهادها في حال الحرب. و اللّه أعلم.

الثالث: كونه لباس التقوى، و درع اللّه الحصينة، و جنتّه الوثيقة.
و استعار لفظ اللباس و الدرع و الجنّة ثمّ رشّح الاستعارتين الأخيرتين بوصفى الحصانة و الوثاقة. و وجه المشابهة أنّ الإنسان يتّقى شرّ العدوّ أو سوء العذاب يوم القيامة كما يتّقى بثوبه ما يؤذيه من حرّ أو برد، و بدرعه و جنّته ما يخشاه من عدوّه ثمّ أردف عليه السّلام ممادح الجهاد بتوعيد من تركه رغبة عنه من غير عذر يوجب تخلّفه بامور منفور عنها طبعا:

منها: أنّه يستعدّ بالترك لأن يلبسه اللّه ثوب الذلّ. و استعار لفظ الثوب للذلّ و لفظ اللباس لشموله له. و وجه المشابهة إحاطة الذلّ به إحاطة الصفة بالموصوف كإحاطة الثوب بملابسه، و أن يشمله بلاء العدوّ فيذلّله بالصغار و القماء، و أن يضرب على قلبه بالأسهاب أى يذهب وجه عقله العملىّ في تدبير مصالحه: أمّا لحوق الذلّ به فذلك أنّ كثرة غارات العدوّ و تكرّرها منه موجب لتوهّم قهره و قوّته و ذلك ممّا ينفعل عنه النفس بالانقهار و الذلّ.

و حينئذ تذعن لشمول بلائه، و تذهب وجه عقلها في استخراج وجوه المصالح في دفعه و مقاومته إمّا لقلّة اهتمامها بذلك عن عدم طمعها في مقاومته أو لتشويشها لخوفه عن ملاحظة وجه المصلحة.
و في إطلاق لفظ الضرب على قلبه استعارة كقوله تعالى وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ و وجه الشبه فيها إحاطة القبّة المضروبة بمن فيها، أو لزوم قلّة العقل له كلزوم الطين المضروب على الحائط. و يحتمل أن يراد بالأسهاب كثرة الكلام من غير فائدة فإنّ الإنسان حال الخوف و الذلّ كثيرا ما يخبط في القول و يكثر من غير إصابة فيه. و كذلك لحوق باقى الامور به كإدالة الحقّ منه، و غلبة العدوّ له، و عدم انتصافه منه أمر ظاهر عن ترك جهاد عدوّه مع التمكن من ذلك. و هى امور منفور عنها طبعا و مضرّة بحال من تلحقه في الدارين.

و قد ورد في التنزيل الإلهىّ من فضل الجهاد و الحثّ عليه امور كثيرة كقوله تعالى لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً إلى قوله فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً«» و قوله وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ«» و قوله وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ«» و نحو ذلك.

قوله: ألا و إنّى قد دعوتكم. إلخ. لمّا ذكر صدر الخطبة أردفه بتفصيل غرضه ممّا أجمله فيه و هو حثّهم على الجهاد و توبيخهم على تركه. فنبّهم أوّلا على ما كان دعاهم إليه قبل من قتال معاوية و أصحابه مرارا كثيرة، و ذكّرهم نصيحة السابقة لهم في أمرهم بغزو عدوّهم قبل أن يغزوهم، و يذكّرهم بما كان أعلمهم أوّلا من القاعدة الكلّيّة المعلومة بالتجربة و البرهان و هو أنّه ما غزى قوم قطّ في عقر دارهم إلّا ذلّوا.

و قد أشرنا إلى علّة ذلك: و هو أنّ للأوهام أفعالا عجيبة في الأبدان تارة بزيادة القوّة و تارة بنقصانها حتّى أنّ الوهم ربّما كان سببا لمرض الصحيح لتوهّمه المرض، و بالعكس. فكان السبب في ذلّ من غزى في داره و إن كان معروفا بالشجاعة هو الأوهام: إمّا أوهامهم فلأنّها تحكم بأنّها لم تقدم على غزوهم إلّا لقوّة غازيهم، و اعتقادهم فيهم الضعف بالنسبة إليهم.

فينفعل إذن نفوسهم عن تلك الأوهام و تنقهر عن المقاومة و تضعف عن الانبعاث و تزول غيرتها و حميّتها. فتحصل على طرف رذيلة الذلّ، و إمّا أوهام غيرهم فلأنّ الغزو الّذي يلحقهم يكون باعثا لكثير الأوهام على الحكم بضعفهم و محرّكا لطمع كلّ طامع فيهم. فيثير ذلك لهم أحكاما و هميّة بعجزهم عن المقاومة. ثمّ إنّه أردف ذلك بما قابلوا به نّصيحته من‏ تواكلهم و تخاذلهم عن العمل بمقتضى أمره إلى غاية ظهور العدوّ عليهم و تفريق الغارات من كلّ جانب على أوطانهم و حدودهم. ثمّ عقّب ذكر العدوّ المطلق بذكره في شخص معيّن مشاهد، و نبّههم عليه ليكونوا إلى التصديق بظهور العدوّ عليهم أقبل، و قصّ عليهم ما أحدث من ورود خيله ديارهم و قتله لعاملهم و إزالة خيلهم عن ثغورهم و مسالحهم و هتك المسلمات و المعاهدات و سلب أموال المسلمين و سائر ما عدّده على الوجه المذكور ممّا هو مستغن عن الايضاح. ثمّ ختم ذلك القصص بما الأولى أن يلحق المسلم الحقّ ذا الغيرة و الحميّة للّه من الأسف و الحزن المميت له بسبب ما يشاهد من الأحوال المنكرة الواقعة بالمسلمين مع تقصيرهم عن مقاومة عدوّهم. كلّ ذلك التقرير ليمهّد قانونا يحسن معه توبيخهيم و ذمّهم على التقصير فيما ينبغي لهم من امتثال أمره و قبول شوره فيما هو الأولى و الأصحّ لهم. ثم أردف ذلك بالتعجّب من حالهم تأكيدا لذلك التمهيد. فنادى: العجب من حالهم منكّرا ليحضر له كأنّه غير متعيّن في حال ندائه، ثمّ تعيّن بندائه و حضر فكررّه ليصفه بالشدّة. و نصبه على المصدر كأنّه لمّا حضر و تعيّن قال عجبت عجبا من شأنه كذا.

و نحو هذا المنادى قوله تعالى: يا بُشْرى‏ في قراءة من قرء بغير إضافة، و يحتمل أن يكون العجب الأوّل نصبا على المصدر أيضا و الثاني للتأكيد أو لما ذكرناه، و يكون المنادى محذوفا تقديره يا قوم أو نحوه، و أمّا وصفه له بأنّه يميت القلب و يجلب الهمّ: فاعلم أنّ السبب في التعجّب من الامور عدم اطّلاع النفس على أسبابه لغموضها مع كونه في نفسه أمرا غريبا.

و لذلك وضع أهل اللغة قولهم ما أفعله صيغة للتعجّب كقولك ما أحسن زيدا، و علمت أن التقدير فيها السؤال عن أسباب حسنه. و كلّما كان الأمر أغرب و أسبابه أخفى كان أعجب. فإذا كان أمرا خطرا مهمّا و انبعثت النفس في طلب سببه فقد تعجز من تحصيله و تكلّ القوّة المتخيلّة عن تعيينه فيحدث بسبب عدم الاطّلاع على سببه همّ و غمّ لأنّه كالمرض الّذي لا يمكن علاجه إلّا بالوقوف على سببه فيسمّى ذلك الهمّ موتا للقلب تجوّزا بلفظ الموت في الهمّ و الغمّ تسمية للشي‏ء باسم ما يؤول إليه، و إطلاقا لاسم المسبّب على السبب.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ حال قومه عليه السّلام في تفرّقهم عن حقّهم مع علمهم بحقيّته، و حال اجتماعهم على باطلهم مع اشتراكهم في الشجاعة و كون قومه واثقين برضاء اللّه لو امتثلوا أمره من العجب المميت للقلب الّذي لا يهتدى بسببه.

و أمّا أنّه يجلب الهمّ فظاهر إذ كان حاله عليه السّلام معهم كحال طبيب لمرضى الزم بعلاجهم مع خطر أمراضهم و عدم لزومهم لما يأمر به من حمية أو شرب دواء. و ظاهر أنّ تلك الحال ممّا يجلب همّ الطبيب. ثمّ لمّا أظهر لهم التعجّب و وصفه بالشدّة أعقبه بذكر الأمر المتعجّب منه ليكون في نفوسهم أوقع.

ثمّ أردف ذلك المتعجّب بالدعاء عليهم بالبعد عن الخير و بالحزن بسبب تفريطهم، و أعقبه بالتوبيخ لهم و التبكيت بما يأنف منه أهل المروّة و الحميّة و يوجب لهم الخجل و الاستحياء من صيرورتهم بسبب تقصيرهم غرضا للرماة يغار عليهم و قد كان الأولى بهم أن يغزوا، و يغزون و قد كانوا هم أولى بأن يغزوا، و يعصى اللّه مع رضاهم بذلك.

ثمّ حكى صور أعذارهم في التخلّف عن أمره و هى تارة شدّة الحرّ و تاره شدّة القرّ و نحوها من الأعذار الّتي يذوق العاقل منها طعم الكسل و الفتور، و أنّه لم يكن لهم بها مقصود الّا المدافعة.

ثمّ تسلّم تلك الأعذار منهم و استثبتها و جعلها مهادا للاحتجاج عليهم بقوله: فأنتم و اللّه من السيف أفرّ. و ذلك أنّ الفارّ من الأهون فارّ من الأشدّ بطريق الأولى إذ لا مناسبة لشدّة الحرّ و البرد مع القتل و المجالدة بالسيف.

ثمّ أردف ذلك التبكيت بالذمّ لهم بثلاثة أوصاف: أحدها: أنّه نفى عنهم صفة الرجوليّة. لاستجماعها ما ينبغي من صفات الكمال الأنساىّ كالشجاعة و الأنفة و الحميّة و الغيرة. و عدم هذه الكمالات فيهم و إن كانوا بالصورة المحسوسة للرجال الموجبة لشبههم بهم.

و ذلك قوله: يا أشباه الرجال و لا رجال.
و ثانيها: أنّه وصفهم بحلوم الأطفال. و ذلك أنّ ملكة الحلم ليس بحاصل للطفل و إن كانت قوّة الحلم حاصلة له لكن قد يحصل لهم ما يتصوّر بصورة الحلم كعدم التسرّع إلى الغضب عن خيال يرضيه و أغلب أحواله أن يكون ذلك في غير موضعه، و ليس تحصل له ملكة تكسب نفسه طمأنينة كما في حقّ الكاملين. فهو إذن نقصان.

و لمّا كان تاركوا أمره عليه السّلام بالجهاد قد تركو المقاومة حلما عن أدنى خيال‏ كتركهم الحرب بصفّين عن خدعة أهل الشام لهم بالمسالمة و طلب المحاكمة إلى كتاب اللّه و رفع المصاحف فقالوا: إخواننا في الدين فلا يجوز لنا قتالهم. كان ذلك حلما في غير موضعه حتّى كان من أمرهم ما كان. فأشبه رضى الصبيان فأطلق اسمه عليه.

و ثالثها: إلحاق عقولهم بعقول النساء. و ذلك للمشاركة في النقصان و عدم عقليّتهم لوجوه المصالح المختصّة بتدبير المدن و الحرب. ثمّ عرّفهم محبّته لعدم رؤيتهم و عدم معرفتهم لاستلزامها ندمه على الدخول في أمرهم و الحزن من تقصيرهم في الذّب عن الدين لأنّ المتولّى لأمر يغلب على ظنّه استقامته حتّى إذا دخل فيه و طلب انتظامه و وجده غير ممكن له لا بدّ و أن يندم على تضييع الوقت به، و يحزن على عدم إمكانه له. و هذه حاله عليه السّلام مع أصحابه. و لذلك حزنت الأنبياء عليه السّلام على تقصير اممهم حتّى عاتبهم اللّه تعالى على ذلك كقوله لمحمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.

ثمّ عاد إلى الدعاء عليهم و الشكاية منهم،

و ذلك قوله: قاتلكم اللّه. إلى آخره. و أعظم بما دعا عليهم به فإنّ المقاتلة لمّا كانت مستلزمة للعداوة، و العداوة مستلزمه لأحكام كاللعن و الطرد و البعد من الشفقة و الخير من جهة العدوّ، و كان إطلاق المقاتلة و العداوة على اللّه بحسب حقيقتهما غير ممكن كان إطلاق لفظ المقاتلة و العداوة مقصودا به لوازمهما كالإبعاد عن الرحمة مجازا. قال المفسّرون: معنى قول العرب: قاتلكم اللّه: أى لعنكم. و قال ابن الأنبارى: المقاتله من القتل. فإذا أخبر اللّه بها كان معناها اللعنة منه لأنّ من لعنه اللّه فهو بمنزلة المقتول الهالك. و قوله: لقد ملأتم قلبى قيحا إشارة. إلى بلوغ الغاية في التألّم الحاصل له من شدّة الاهتمام بأمرهم مع تقصيرهم و عدم طاعتهم لأوامره. فعبّر بالقيح عن ألم قلبه مجازا من باب إطلاق اسم الغاية على ذى الغاية. إذ كان غاية ألم العضو أن يتقّيح. و كذلك إطلاق لفظ الشحن على فعلهم المولم لقلبه مجاز لأنّ الشحن حقيقة في نسبة بين جسمين،

و كذلك قوله: و جرّعتمونى نغب التهمام أنفاسا: أى جلبتم لى الهمّ وقتا فوقتا. مجاز لأنّ التجريع عبارة عن إدخال الماء أو نحوه في الحلق. و طريان الهمّ على نفسه و ما يلزم الهمّ من الآلام البدنيّة على بدنه، و تكرار ذلك منهم يشبه طريان المشروب و تجريعه. و قوله: أنفاسا. مجاز في الدرجة الثانية فإنّ النفس حقيقة لغويّة في الهواء الداخل و الخارج في الحيوان من قبل الطبيعة.

ثمّ استعمل عرفا لمقدار ما يشرب في مدّة إدخال الهواء بقدر الحاجة إطلاقا لاسم المتعلّق على المتعلّق، ثمّ استعمل هاهنا في كلّ مقدار من الهمّ يرد عليه من قبل أصحابه وقتا فوقتا و هي درجة ثانية من المجاز.

و قوله: و أفسدتم رأيى بالعصيان. من تمام شكايته منهم. و معنى إفسادهم له خروجه بسبب عدم التفاتهم إليه عن أن يكون منتفعا به لغيرهم حتّى قالت قريش: إنّه و إن كان رجلا شجاعا إلّا أنّه غير عالم بالحرب. فإنّ الخلق إذا رأوا من قوم سوء تدبير أو مقتضى رأى فاسد كان الغالب أن ينسبوه إلى رئيسهم و مقدّمهم و لا يعلمون أنّه عليه السّلام الألمعىّ الّذي يرى الرأي كأن قد رأى و قد سمع، و أنّ التقصير من قومه.

ثمّ أردف ذلك بالردّ على قريش في نسبتها له إلى قلّة العلم بالحرب بقوله: للّه أبوهم. إلى آخره.
و هي كلمة من ممادح العرب. ثمّ سألهم عن وجود من هو أشدّ للحرب معالجة أو أقدم منه فيها مقاما سؤالا على سبيل الإنكار عليهم، و نبّه على صدقه بنهوضه في الحرب و معاناة أحوالها عامّة عمره و هو من قبل بلوغ العشرين إلى آخر عمره. ثمّ بيّن أنّ السبب في فساد حال أصحابه ليس ما تخيّله قريش فيه من ضعف الرأى في الحرب كما يزعمون، بل عدم طاعتهم له فيما يراه و يشير عليهم به و ذلك قوله: و لكن لا رأى لمن لا يطاع. فإنّ الرأي الّذي لا يقبل بمنزلة الفاسد و إن كان صوابا. و المثل له عليه السّلام.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 30

خطبه25شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول

إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً ص نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ- وَ أَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ- وَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَ فِي شَرِّ دَارٍ- مُنِيخُونَ

بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ- تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وَ تَأْكُلُونَ الْجَشِبَ- وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ- الْأَصْنَامُ فِيكُمْ

مَنْصُوبَةٌ وَ الْآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ

اللغة

أقول: الإناخة: المقام بالمكان. و الحيّة الصمّاء: هى الّتي لا تنزجر بالصوت كأنّها لا تسمع، و ربّما يراد بها الصلبة الشديدة. و الجشب: هو الطعام الغليظ الخشن، و يقال: هو الّذي لا إدام معه، و معصوبة: مشدودة.

المعنى

و اعلم أنّه عليه السّلام اقتصّ امورا وقعت ليحسن مدحها و ذمّها. فبدأ بذكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ذكر بعض أسباب غاية البعثة فإنّه. لمّا كانت الغاية منها هو جذب الخلق عن دار الغرور إلى الواحد الحقّ و كان ذلك الجذب تارة بالنذارة و تارة بالبشارة. و ذكر هنا النذارة، و خصّها بالذكر لأنّها السبب الأقوى في الردع فإنّ عامّة الخلق و جمهورهم قلّما يلتفتون إلى ما وعدوا به في الآخرة إذا قابلوا ذلك بلذّاتهم الحاضرة فإنّ تلك امور غير متصوّرة لهم إلّا بحسب الوصف الّذي إنّما ينكشف لهم عن امور محسوسة تشبه ما هم فيه أو أضعف عندهم. ثمّ إنّ نيلها مشروط بشرائط صعبة في الدنيا تكدّر عليهم ما هم فيه من حاضر لذّتهم مع براءتها عن الشروط و التكاليف الشاقّة فلذلك قلّما يلتفتون إلى الوعد عمّا هم فيه.

فكان السبب الأقوى في الردع و الالتفات إلى اللّه إنّما هو الإنذار و التخويف فإذا انضمّ إليه الوعد أفاد المجموع الغاية. و لمّا كان مقصوده عليه السّلام في هذا الموضع التوبيخ المطلق للعرب و ترقيق قلوبهم المشتملة على الفظاظة و القسوة كان الأليق هاهنا ذكر إنذار النبيّ للعالمين ليتذكّروا بذلك تفصيل الإنذارات الواردة في القرآن و السنّة، ثمّ أردف ذلك بذكر كونه أمينا على التنزيل ليتذكّروا أنّ الإنذارات الواردة هى من عند اللّه تعالى أتى بها الرسول غير خائن فيها بتبديل أو زيادة أو نقصان فيتأكّد في قلوبهم ما قد علموه من ذلك ليكون أدعى لهم إلى الانفعال عن أقوله، ثمّ شرع بعده في اقتصاص أحوالهم الّتي كانوا عليها، و الواو في قوله: و أنتم. للحال أي حال ما كنتم بهذه الصفات بعث محمّدا، و ذكر أحوالهم في معرض الذمّ لهم.

فذكر أنّهم كانوا على شرّ دين، و هو عبادة الأصنام من دون اللّه. و أعظم بذلك افتضاحا لمن عقل منهم أسرار الشريعة و عرف اللّه سبحانه. فلا أحسبه عند سماع هذا التوبيخ إلّا خجلا ممّا فرّط في جنب اللّه و يقول: وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ، ثمّ أردف ذلك بتذكيرهم ما كانوا فيه من شرّ دار. و أراد نجد أو تهامة و أرض الحجاز، و بيّن كونها شرّا ببيان فساد أحوالهم، أمّا في مساكنهم فبانا ختهم بين الحجارة السود الخشن الّتي لا نداوة بها و لا نبات، و الحيّات الصمّ الّتي لا علاج لسمومها. و وصفها بالصمّ. لأنّ حيات تلك الأرض على غاية من القوّة و حدّة السموم لاستيلاء الحرارة و اليبس عليها، و أمّا في مشربهم فلأنّ الغالب علي المياه الّتي يشربونها أن يكون كدرة لا يكاد غير المعتاد بها أن يقبل عليها مع العطش إلّا عند الضرورة، و السبب الغالب في ذلك عدم إقامتهم بالمكان الواحد بل هم أبدا في الحلّ و الارتحال، و لا يحتفرون المياه و يصلحونها إلّا ريثماهم عليها. فربما كان بعضهم يحتفر و بعضهم يشرب. و مشاهدتهم توضح ذلك، و أمّا في مأكلهم فجشوبتها ظاهرة فإنّك تجد عامّتهم يأكل ما دبّ من حيوان، و سئل بعض العرب أىّ الحيوانات تأكلون في البادية فقال: نأكل كلّ ما دبّ و درج إلّا امّ حيين (امّ جبين خ) فقال السائل: ليت تدرى أمّ حيين السلامة. قال صاحب الجمل: و أمّ جبين: دويبة قدر كفّ الإنسان. و بعضهم يخلط الشعر بنوى التمر و يطحنها و يتخدّ منهما خبزا، و روى أنّهم كانو في أيّام المجاعة يلوّثون أوبار الإبل بدم القراد و يجفّفونها فإذا يبست و قوها و صنعوها طعاما، و أمّا في سفكهم الدماء بعضهم لبعض و قطع أرحامهم فظاهر أيضا فإنّ الولد كان يقتل أباه و بالعكس، و أمّا نصبهم للأصنام و عصب الآثام بهم في جاهليّتهم فغني عن البيان، و لفظ العصب مستعار للزوم الآثام لهم في تلك الحال عن معناه الأصلي و هي استعارة لفظ للنسبة بين محسوسين للنسبة بين معقولين أو بين معقول و محسوس، و إنّما ذكرهم عليه السّلام بهذه الأحوال لينبّههم لنسبة ما كانو عليه في الجاهليّة إلى ما هم عليه في تلك الحال من أضداد ذلك كلّه.

إذ بدّلوا ممّا كانوا فيه من فساد أحوالهم في الدنيا إلى صلاح حالهم فيها ففتحو المدن و كسروا الجيوش و قتلوا الملوك و غنموا أموالهم كما قال تعالى في المنّة عليهم و تذكيرهم أنواع ما أنعم عليهم به «وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها» و جعل لهم الذكر الباقي و الشرف الثابت. كلّ ذلك زيادة على هدايته لهم إلي الإسلام الّذي هو طريق دار السلام و سبب السعادة الباقيه.

و إنّما كان ذلك لسبب مقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم و اعلم أنّ سياق هذا الكلام يقتضى مدح النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيما حذف من الفصل بعده ليبني عليه مقصودا له، و فيه تنبيه على دوام ملاحظة السامعين لنعماء اللّه عليهم فيلاحظوا استحقاقه لتمام العبادة عامّة أحوالهم، و يكونون في و جل من خوفه و في و شوق إليه. و اللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقم.

القسم الثاني و منها.

فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِي- فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ- وَ أَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وَ شَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا- وَ

صَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الْكَظَمِ- وَ عَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ

اللغة

أقول: ضننت بكسر النون: أى بخلت، و نقل الفرّاء بالفتح أيضا. و أغضيت على كذا: أى اطبقت عليه جفني. و القذى: ما يسقط في العين فيؤذيها. و الشجى: ما يعرض في الحلق عند الغبن و نحوه لا يكاد يسيغ الإنسان معه الشراب، و قد مرّ تفسيرهما. و أخذ بكظمه: أى بمجرى نفسه، و العلقم: شجر بالغ المرارة، و يصدق بالعرف على كلّ مرّ.

المعنى

و اعلم أنّ هذا الفصل يشمل على اقتصاص صورة حاله بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم في أمر الخلافة و هو اقتصاص في معرض التظلّم و الشكاية ممّن يرى أنّه أحقّ منه بالأمر. فأشار إلى أنّه فكّر في أمر المقامة و الدفاع عن هذا الحقّ الّذي يراه أولى فرأى أنّه لا ناصر له إلّا أهل بيته و هم قليلون بالنسبة إلى من لا يعينه و من يعين عليه.

فإنّه لم يكن له معين يغلب على الظنّ إلّا بنى هاشم كالعبّاس و بنيه و أبي سفيا بن الحرث بن عبد المطلب و من يخصّهم، و ضعفهم و قلّتهم عن مقاومة جمهور الصحابة ظاهر، فضنّ بهم على الموت لعلمه أنّهم لو قاوم بهم لقتلوا ثمّ لا يحصل على مقصوده، و لمّا ضنّ بهم عن الموت لزمه ما ذكر من الامور و هى الإغضاء على القذى، و كنّى بالإغضاء على القذى عن صبره عن المقاومة كناية بالمستعار، و وجه المشابهة بينهما استلزامهما للألم البالغ، و بالقذى عمّا يعتقده ظلما في حقّه،

و كذلك قوله: و شربت على الشجى. ملاحظة لوجه الشبه بين ما يجرى له من الامور الّتي توجب له الغضب و الغبن و بين الماء الّذي يشرب على الشجى و هو استلزامهما الأذى و عدم التلذّذ و الاساغة. و لذلك استعار له لفظة الشرب،

و كذلك قوله: و صبرت على أخذ الكظم و على أمرّ من طعم العلقم. فيه استعارات حسنة للفظ أخذ الكظم كنّى بها عن أخذ الوجوه عليه و تضييق الأمر فيما يطلبه، و لفظ المرارة الّتي هي حقيقة في الكيفيّة المخصوصة للأجسام لما يجده من التألّم بسبب فوت مطلوبه، و وجه المشابهة في هاتين الاستعارتين لزوم الأذى أيضا، و أمّا أنّ الّذي وجده أمرّ من العلقم فظاهر إذ لا نسبة للألم البدنيّ في الشدّة إلى الألم النفسانيّ. و أعلم أنّه قد اختلف الناقلون لكيفيّة حاله بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فروى المحدّثون من الشيعة و غيرهم أخبارا كثيرة ربما خالف بعضها بعضا بحسب اختلاف الأهواء: منها و هو الّذي عليه جمهور الشيعة أنّ عليّا عليه السّلام امتنع من البيعة لأبى بكر بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و امتنع معه جماعة بنى هاشم كالزبير و أبى سفيان بن الحرث و العبّاس و بنيه و غيرهم و قالوا: لا نبايع إلّا عليّا عليه السّلام و أنّ الزبير شهر سيفه فجاء عمر في جماعة من الأنصار فأخذ سيفه فضرب به الحجر فكسره و حملت جماعتهم إلى أبى بكر فبايعوه و بايع معهم علىّ إكراها،

و قيل: إنّ عليّا عليه السّلام اعتصم ببيت فاطمة عليها السّلام و علموا أنّه مفرد فتركوه، و روى نضر بن مزاحم في كتاب صفّين أنّه كان‏ يقول. لو وجدت أربعين ذوى عزم لقاتلت، و منها و هو الّذي عليه جمهور المحدّثين من غير الشيعة أنّه امتنع من البيعة ستّة أشهر حتّى ماتت فاطمة فبايع بعد ذلك طوعا،

و في صحيحى مسلم و البخارى: كانت وجوه الناس مختلف إليه و فاطمة لم تمت بعد فلمّا ماتت انصرفت وجوه الناس عنه. فخرج و بايع ابا بكر، و على الجملة فحال الصحابة في اختلافهم بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ما جرى في سقيفة بنى ساعدة و حال علىّ في طلب هذا لأمر ظاهر، و العاقل إذا طرح العصبيّة و الهوى عن نفسه و نظر فيما نقله الناس في هذا المعنى علم ما جرى بين الصحابة من الاختلاف و الاتّفاق، و هل بايع علىّ طوعا أو كرها و هل ترك المقاومة عجزا أو اختيارا. و لمّا لم يكن غرضنا إلّا تفسير كلامه كان الاشتغال بغيرذلك تطويلا و فضولا خارجا عن المقصود. و من رام ذلك فعليه بكتب التواريخ.

القسم الثالث و منها:

وَ لَمْ يُبَايِعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ عَلَى الْبَيْعَةِ ثَمَناً- فَلَا ظَفِرَتْ يَدُ الْبَائِعِ وَ خَزِيَتْ أَمَانَةُ الْمُبْتَاعِ- فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا وَ أَعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا- فَقَدْ

شَبَّ لَظَاهَا وَ عَلَا سَنَاهَا- وَ اسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى النَّصْرِ

اللغة

أقول: خزيت: أى ذلّت و هانت، و الاهبة: الاستعداد، و اعدّوا: أى هيّؤوا، و عدّة الحرب: ما يعدّ لها من الآلات و السلاح. و شبّ لظاها: أى أوقدت نارها و اثيرت، و روى شبّ بالبناء للفاعل أى ارتفع لهبها. و السنا مقصورا: الضؤ. و الشعار: ما يلي الجسد من الثياب، و يلازمه.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من الكلام اقتصاص ذكر عليه السّلام فيه حال عمرو بن العاص مع معاوية. فذكر أنّه لم يبايعه حتّى شرط أن يؤتيه على بيعته ثمنا، و ذلك أنّه لمّا نزل عليه السّلام بالكوفة بعد فراغه من أمر البصرة كتب إلى معاوية كتابا يدعوه فيه إلى البيعة فأهمّه ذلك. فدعا قوما من أهل الشام إلى الطلب بدم عثمان فأجابوه و أراد الاستظهار في أمره فأشار عليه أخوه عتبة بن أبي سفيان بالاستعانة بعمرو بن العاص و كان بالمدينة فاستدعاه فلمّا قدم عليه و عرف حاجته إليه تباعد عنه و جعل يمدح عليّا عليه السّلام في وجهه و يفضّله‏

ليخدعه عمّا يريد منه. فمن ذلك أنّ معاوية قال له يوما: يا أبا عبد اللّه إنى أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الّذي عصى اللّه و شقّ عصا المسلمين و قتل الخليفة و أظهر الفتنة و فرّق الجماعة و قطع الرحم. فقال عمرو: من هو. قال: علىّ. فقال: و اللّه يا معاوية ما أنت و علىّ حملي بعير، ليس لك هجرته و لا سابقته و لا صحبته و لا جهاده و لا علمه و اللّه إنّ له مع ذلك لحظّا في الحرب ليس لأحد غيره. و لكنّى قد تعوّدت من اللّه إحسانا و بلاء جميلا. فما تجعل لى إن بايعتك على حربه و أنت تعلم ما فيه من الغرور و الخطر قال له: حكمك.

قال له: مصر الطعمة. فلم يزل معاوية يتلكّأ عليه و يماطله و هو يمتنع عن مساعدته حتّى رضى معاوية أن يعطيه مصر. فعاهده على ذلك و بايع عمر و معاوية، و كتب له بمصر كتابا.

فذلك معنى قوله عليه السّلام: و لم يبايع معاوية حتّى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا، ثمّ أردف ذلك بالدعاء على البايع لدينه و هو عمرو بعدم الظفر في الحرب أو بالتمن بقوله: فلا ظفرت يد البايع، و ألحقه بالتوبيخ و الذّم للمبتاع بذكر هو ان أمانته عليه و هى بلاد المسلمين و أموالهم الّتي أفاءها اللّه عليهم، و يحتمل أن يكون إسناد الخزى إلى الأمانة إسنادا مجازّيا أو على سبيل إضمار الفاعل يفسّره المبتاع أى و الخزى المبتاع في أمانته بخيانته لها، و ذهب بعض الشارحين إلى أنّ المراد بالبايع معاوية و بالمبتاع عمرو.

و هو ضعيف. لأنّ الثمن إذا كان مصرا فالمبتاع هو معاوية. ثمّ لمّا ظهرت دعوة معاوية لأهل الشام و مبايعة عمرو له كان ذلك من دلائل الحرب فلذلك أمر عليه السّلام أصحابه بالتأهّب لها و إعداد عدّتها، و كنّى عمّا ذكرناه من إمارات وقوعها بقوله: و قد شبّ لظاها و علا سناها. كناية بالمستعار. و وجه المشابهة بين لهب النار و سناها و أمارات الحرب كونها علامات على أمرين هما مظنّة الهلاك و محلّ الفتنة، و يحتمل أن يكون إطلاق لفظ السنا ترشيحا للاستعارة، ثمّ أردف ذلك بالأمر بالصبر في الحرب و استشعاره إمّا أن يراد به اتّخاذه شعارا على وجه استعارته من الثوب لملازمته الجسد، أو يراد اتّخاذه علامة لأنّ شعار القوم علامتهم أيضا، و يحتمل أن يكون اشتقاقه من الشعور أى ليكن في شعوركم الصبر و إن كان الأشتقاقيّون يردّون الشعار بالمعنى الثاني إلى الشعور.

و قوله: فإنّ ذلك أدعى إلى النصر. بيان لفائدة اتّخاذ الصبر شعارا أو علامة، أمّا إن كان المقصود ألزموا أنفسكم الصبر فظاهر أنّ لزوم الصبر من أقوى أسباب النصر، و إن كان المقصود اتّخذوه علامة فلأنّ من كان الصبر في الحرب علامة له يعرفه الخصم بها كان الخصم يتصوّرها منه أدعى إلى الانقهار فكان المستشعر لتلك العلامة أدعى إلى القهر و النصر، و إن كان المراد إخطاره بالبال فلأنّه سبب لزومه. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بخرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 24

خطبه24شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

و قد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد و قدم عليه عاملاه على اليمن، و هما عبيد اللّه بن عباس و سعيد بن نمران لما غلب‏ عليهما بسر بن أبى أرطاة، فقام عليه السّلام على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد و مخالفتهم له فى الرأى،

فقال: مَا هِيَ إِلَّا الْكُوفَةُ أَقْبِضُهَا وَ أَبْسُطُهَا- إِنْ لَمْ تَكُونِي إِلَّا أَنْتِ تَهُبُّ أَعَاصِيرُكِ فَقَبَّحَكِ اللَّهُ- وَ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ-

لَعَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْرِ يَا عَمْرُو إِنَّنِي عَلَى وَضَرٍ مِنْ ذَا الْإِنَاءِ قَلِيلِ‏ ثُمَّ قَالَ ع أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ- وَ إِنِّي وَ اللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ

هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ- بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ- وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَ طَاعَتِهِمْ

إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ- وَ بِأَدَائِهِمُ الْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ- وَ بِصَلَاحِهِمْ فِي بِلَادِهِمْ وَ فَسَادِكُمْ- فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ

عَلَى قَعْبٍ- لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلَاقَتِهِ- اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَ مَلُّونِي وَ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُونِي- فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ

وَ أَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي- اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ- أَمَا وَ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ- مِنْ بَنِي

فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ-

هُنَالِكَ لَوْ دَعَوْتَ أَتَاكَ مِنْهُمْ فَوَارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ الْحَمِيمِ‏

ثم نزل عليه السّلام من المنبر

قال الشريف أقول: الأرمية جمع رمى و هو السحاب، و الحميم ههنا: وقت الصيف، و إنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولا و أسرع خفوفا لأنه لا ماء فيه. و إنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء، و ذلك لا يكون فى الأكثر إلا زمان الشتاء، و إنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا، و الإغاثة إذا استغيثوا، و الدليل على ذلك.
قوله هنا لك لو دعوت أتاك منهم أقول: السبب: أنّ قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان يعظّمون قتله فبايعوا عليّا عليه السّلام على دغل. فلمّا اختلف الناس عليه بالعراق، و كان العامل له يومئذ على صنعاء عبيد اللّه بن عباس، و على الجند بها سعيد بن نمران. ثمّ قتل محمّد بن ابى بكر بمصر و كثرت غارات أهل الشام. تكلّم هؤلاء و دعوا إلى الطلب بدم عثمان فأنكر عليهم عبيد اللّه ابن عباس فتظاهروا بمنابذة علىّ عليه السّلام فحبسهم فكتبو إلى أصحابهم: الجند. فعزلوا سعيد بن نمران عنهم و أظهروا أمرهم فانضمّ إليهم خلق كثير إرادة منع الصدقة. فكتب عبيد اللّه و سعيد إلى أمير المؤمنين عليه السّلام يخبر انه الخبر فكتب إلى أهل اليمن و الجند كتابا يهدّدهم فيه و يذكّرهم اللّه تعالى فأجابوه بأنّا مطيعون إن عزلت عنّا هذين الرجلين: عبيد اللّه و سعيدا. ثمّ كتبوا إلى معاوية فأخبروه فوجّه إليهم بسر بن أرطاة و كان فظّا سفّاكا للدماء فقتل في طريقه بمكّة داود و سليمان ابنى عبيد اللّه بن عباس، و بالطائف عبد اللّه بن المدان و كان صهرا لابن عبّاس ثمّ انتهى إلى صنعاء و قد خرج منها عبيد اللّه و سعيد، و استخلفا عليها عبد اللّه بن عمرو بن أراكة الثقفىّ فقتله بسر، و أخذ صنعاء فلمّا قدم ابن عبّاس و سعيد على عليّ عليه السّلام بالكوفة عاتبهما على تركهما قتال بسر فاعتذرا إليه بضعفهما عنه. فقام عليه السّلام إلى المنبر ضجرا من مخالفة أصحابه له في الرأى فقال: ما هى إلّا الكوفه. الفصل.
إذا عرفت ذلك فنقول

اللغة

الإعصار: ريح تهّب فتثير التراب. و الوضر: بفتح الضاد الدرن الباقى في الإناء بعد الأكل، و يستعار لكلّ بقيّة من شي‏ء يقلّ الانتفاع بها. و الأناء: بالفتح‏

شجر حسن المنظر مرّ الطعم. و اطّلع اليمن: أى غشيها. سيد الون أى: يصير الأمر إليهم و الدولة لهم. و القعب: القدح الضخم. و ماث الشي‏ء: أذابه

المعنى

و اعلم أنّ الضمير في قوله ما هي إلّا الكوفة و إن لم يجر لها ذكر في اللفظ إلّا أن تضجّره من أهلها قبل ذلك و خوضه في تدبيرها مرارا، و حضورها في ذهنه يجرى مجرى الذكر السابق لها، و أقبضها خبر ثان لمبتدأ محذوف تقديره: أنا، و يحتمل أن يكون هي ضمير القصّة و أقبضها خبر عن الكوفة. و نظيره في الاحتمالين قوله تعالى «كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏»«» و يفهم من هذا الكلام حصر ما بقى له من البلاد الّتي يعتمد عليها في الحرب و مقابلة العدوّ في الكوفه. و هو كلام في معرض التحقير لما هو فيه من أمر الدنيا و ما بقى له من التصرّف الحقّ بالنسبة إلى ما لغيره من التصرّف الباطل. و أقبضها و أبسطها كنايتان عن وجوه التصرّف فيها أى إنّ الكوفة و التصرّف فيها بوجوه التصرّف حقير بالنسبة إلى سائر البلاد الّتي عليها الخصم. فما عسى أصنع بتصرّفي فيها، و ما الّذي أبلغ به من دفع الخصم و مقاومته.

و هذا كما يقول الرجل في تحقير ما في يده من الماء القليل إذا رام به أمرا كبيرا: إنّما هو هذا الدينار فما عسى أبلغ به من الغرض، و قوله. إن لم تكونى إلّا أنت تهّب أعاصيرك. عدول من الغيبة إلى الخطاب، و الضمير بعد إلّا تأكيد للّذى قبلها و الجملة الفعليّة بعده في موضع الحال، و خبر كان محذوف. و لفظ الأعاصير يحتمل أن يحمل على حقيقته فإنّ الكوفة معروف بهبوب الأعصار فيها، و يحتمل أن يكون مستعارا لما يحدث من آراء أهلها المختلفة الّتي هي منبع الغدر به، و التثاقل عن ندائه. و وجه المشابهة ما يستلزمه المستعار منه و له من الأذى و الإزعاج. و تقدير الكلام فإن لم تكوني إلّا أنت عدّة لي و جنّة ألقى بها العدوّ، و حظّا من الملك و الخلافة مع ما عليه حالك من المذامّ فقبحا لك. و هو ذمّ لها بعد ذكر وجه الذمّ. و لأجل استصغاره لأمرها تمثّل بالبيت: لعمر ابيك. الخبر. و معنى تمثيله به أنّى على بقيّة من هذا الأمر كالوضر القليل في الإناء، و هو تمثيل على وجه الاستعارة فاستعار لفظ الإناء للدنيا و لفظ الوضر القليل فيه للكوفة، و وجه المشابهة ما يشرك فيه الكوفة و الوضر من الحقارة بالنسبة إلى ما استولى عليه خصمه من الدنيا و ما اشتمل عليه‏ الإناء من الطعام، و من روى الأناء فإنّما أراد أنّى على بقيّة من هذا الأمر كالقدر الحاصل لناظر الأناء من حسن المنظر مع عدم انتفاعه منه بشى‏ء آخر، و يكون قد استعار لفظ الأناء لسائر بلاد الإسلام، و لفظ الوضر لما في يده هو من حسن المنظر استعارة في الدرجة الثانية، و إنّما خصّص الكوفة دون البصره و غيرها لأنّ جمهور من كان يعتمد عليه في الحرب إذن هم أهل الكوفة،

و قوله: انبئت بسرا. إلى قوله: منكم. شروع في استنفارهم إلى الجهاد. فأعلمهم أوّلا بحال بسر و خروج اليمن من أيديهم، ثمّ خوّفهم بما حكم به من الظنّ الصادق أن سيدال القوم منهم، ثمّ أعقب ذلك بذكر أسباب توجب وقوع ما حكم به و هي الإمارات الّتي عنها حكم، فذكر أربعة امور من قبلهم هي أسباب الانقهار، و أربعة امور من قبل الخصم مضادّة لها هي أسباب القهر، و رتّب كلّ أمر عقيب ضدّه ليظهر لهم المناسبة بين أفعالهم و أفعال خصومهم فيدعوهم داعى الدين و المروّة إلى الفرار من سوء الرأى.

فالأول من أفعال الخصم: الاجتماع و التوازر و إن كانوا على الباطل و هو التصرّف الغير الحقّ في البلاد،

و الأوّل من أفعالهم ما يضادّ ذلك: و هو تفرّقهم عن حقّهم أى تصرّفهم المستحقّ لهم بإذن ولىّ الأمر:

الثاني من أفعال الخصم: الطاعة للإمام الجائر فيما يأمر به من الباطل، و من أفعالهم: معصية إمام الحقّ في أمره بالحقّ

الثالث للخصم: تأديتهم للأمانة إلى صاحبهم و هي لزوم عهده و الوفاء ببيعته، و من أفعالهم: ضدّ ذلك من الغدر و الخيانة في العهد بتركهم لموازرته في القتال و عصيانهم لأمره حتّى صار الغدر مثلا لأهل الكوفة

الرابع: صلاح القوم في بلادهم أى انتظام امورهم فيها الناشى عن طاعة إمامهم، و من إفعالهم: ما يضادّ ذلك من فسادهم في بلادهم لخروجهم عن طاعة إمامهم. و ظاهر أنّ الامور الأربعة المذكورة من أفعال الخصم من أسباب صلاح الحال و انتظام الدولة و الغلبة و القهر، و أنّ الامور الأربعة المضادّة لها من أفعالهم من أقوى الأسباب الموجبة للانقلاب و الانقهار،

و قوله: و لو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته. مبالغة في ذمّهم بالخيانة على سبيل الكناية عن خيانتهم لأمانتهم في عهده على‏ قبول أوامر اللّه.

و قوله: اللهمّ إنى قد مللتهم و ملّونى. شكاية إلى اللّه سبحانه منهم و عرض لما في ضميره و ضمائرهم بحسب ما شهدت به قرائن أحوالهم، و الملال و السأم مترادفان.
و حقيقته إعراض النفس عن شي‏ء إمّا لفتور القوى البدنيّة و كلالها عن كثرة الأفاعيل، و إمّا لاعتقاد النفس عن دليل و إمارة يتبيّن لها أنّ ما يطلبه غير ممكن لها. و هذان السببان كانا موجودين: أمّا سأمه عليه السّلام من أفعالهم (أفعاله خ) فإنّه لم يشك منهم و لم يدع عليهم حتّى عجزت قواه عن التطلّع إلى وجوه إصلاحهم و انصرفت نفسه عن معالجة أحوالهم لاعتقاد أنّ تقويمهم غير ممكن له، و أمّا سأمهم منه فإمّا لاعتقادهم أنّ مطلوباتهم الّتي كانوا أرادوه لها غير ممكنة منه، أو لكثرة تكرار أوامره بالجهاد و الذبّ عن دين اللّه و المواظبة على أوامر اللّه و زيادتها على قواهم الضعيفة الّتي هى مع ضعفها مشغولة بغير اللّه.

فلذلك تنصرف نفوسهم عن قبول قوله و امتثال أوامره، ثم أردف تلك الشكاية بالتضرّع إلى اللّه تعالى في الخلاص منهم، ثمّ الدعاء عليهم فدعا اللّه لنفسه أوّلا أن يبدله خيرا منهم أمّا في الدنيا: قوما صالحين ينظرون بنور اللّه نعمه عليهم فيخلصوا له الدين،

و أمّا في الآخرة: قوما غرقوا في مطالعة أنوار كبرياء اللّه فأعطاهم أعلى منازل جنّته و أسنى مراتب كرامته: قوما وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ. و طلبه الخير منهم في الدنيا هو الأرجح في الذهن. لما يتمنّاه بعد من فوارس بنى فرس. ثمّ دعا اللّه عليهم أن يبدلهم شرّا منه.

فإن قلت: إنّ صدور مثل هذا الدعاء منه عليه السّلام مشكل من وجهين: أحدهما: أنّه يقتضى أن يكون هو ذا شرّ. و قد ثبت أنّه كان منزّها عن الشرور، الثاني أنّه كيف يجوز منه أن يدعو بوجود الشرور و وجود الأشرار. قلت: الجواب عن الأوّل من وجهين: أحدهما: أنّ صيغة أفعل التفصيل كما ترد لإثبات الأفضلية كذلك قد ترد لإثبات الفضيلة. و حينئذ يحتمل أن يكون مراده

من قوله: شرا منّي: أى أبدلهم بمن فيه شرّ غيرى، الثاني: أن يكون شرّا منّي على عقائدهم أنّ فيه شرّا عليهم. و اعتقادهم أنّه ذو شرّ لا يوجب كونه كذلك، و عن الثاني من وجهين: أحدهما: أنّه لمّا كان في دعاء اللّه أن يبدلهم من هو شرّ منه مصلحة تامّة حسن منه ذلك، و بيان المصلحة من وجهين: أحدهما: أنّ ذلك الدعاء منه عليهم بمشهد منهم و مسمع من أعظم الأسباب المخوّفة الجاذبة لأكثرهم‏ إلى اللّه تعالى و ذلك مصلحة ظاهرة، الثاني أنّ نزول الأمر المدعوّ به عليهم بعده مما ينبّههم على فضله، و يذكّرهم أنّه لم يصبهم ذلك إلّا لتركهم أوامر اللّه تعالى و خروجهم عن طاعته فيتقهقروا عن مسالك الغىّ و الفساد إلى واضح سبيل الرشاد، و يكون ذلك بلاء من اللّه لهم. الثاني: لعلّه إنّما دعا عليهم لعلمه أنّه لا يرجى صلاحهم فيما خلقوا لأجله ممّا يدعوهم إليه. و من لا يرجى صلاح حاله مع فساد نظام العالم بوجوده و لزومه لما يضادّ مطلوب اللّه منه فعدمه أولى من وجوده. فكان دعاءهم عليهم إذن مندوبا إليه. و على ذلك يحمل أيضا دعائه عليهم: اللهمّ مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء. و نحوه. و ذلك تأسّ منه عليه السّلام بالسابقين من الأنبياء عليهم السّلام في التضجّر من قولهم و الشكاية منهم إلى اللّه تعالى و دعائهم عليه كنوح عليه السّلام إذ قال: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا إلى قوله إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، ثمّ ختم بالدعا على من لم يرج له صلاح، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً الآية. و كلوط إذ قال لقومه: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ، و غيرهما من الأنبياء و المراد بالميث المدعوّ به يشبه أن يكون ما يحصل في القلب من الانفعال عن الغمّ و الخوف و نحوهما، و ذلك أنّ الغمّ إذا وقع لزمه تكاثف الروح القلبي للبرد الحادث عند انطفاء الحرارة الغريزّية لشدّة انقباض الروح و اختناقه فيحسّ في القلب بانفعال شبيه بالعصر و المرس. و ذلك في الحقيقه ألم أو مستلزمة له فيحسن أن يكون مرادا له، و يحتمل أن يكون كناية عن أسبابه من الغمّ و الخوف فكأنّه طلب من اللّه أن يقتصّ له منهم إذ ماثوا قلبه بفساد افعالهم، و يروى أنّ اليوم الّذي دعا عليهم فيه ولد فيه الحجّاج بن يوسف، و روى أنّه ولد بعد اليوم بأوقات يسيرة. و فعل الحجّاج بأهل الكوفة ظاهر، و دماره لها مشهور.

و قوله: أما و اللّه لوددت أنّ لي بكم ألف فارس من بني فرس بن غنم. يصلح تعيينه لمن ذكر بيانا للخير منهم الّذي طلبه أوّلا من اللّه مجملا عوضا بهم. و بنو فرس حيّ من تغلب أبوهم غنم بفتح الغين و سكون النون، و هو غنم بن تغلب بن وائل، و إنّما خصّ هذا البطن لشهرتهم بالشجاعة و الحميّة و سرعة إجابة الداعي، و أمّا البيت: هنالك لو دعيت. فمعناه ما ذكره السيّد الرضيّ- رضوان اللّه عليه- و وجه تمثيله عليه السّلام بهذا البيت أنّ‏ هؤلاء القوم الّذين ودّ أنّهم كانوا له عوضا عن قومه هم بصفة الفوارس الّذين أشار إليهم الشاعر في المبادرة إلى إجابة الداعي و الاجتماع على دفع الضيم عنهم و نصرة حقّهم فلذلك تمنّاهم عوضا، و مقصوده في جميع ذلك ذمّهم و توبيخهم و تحقيرهم بتفضيل غيرهم عليهم تنفيرا لطباعهم عمّا هى عليه من التثاقل عن دعوته للذبّ عن دين اللّه، و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 17

خطبه23شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

وَ لَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ الْحَقَّ وَ خَابَطَ الْغَيَّ- مِنْ إِدْهَانٍ وَ لَا إِيهَانٍ- فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَ فِرُّوا إِلَى اللَّهِ مِنَ اللَّهِ- وَ امْضُوا فِي الَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ- وَ قُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ- فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ آجِلًا إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلًا

اللغة

أقول: الإدهان و المداهنة: المصانعة، و الإيهان مصدر أوهنه أى أضعفه، و خابط الغيّ بلفظ المفاعلة: يخبط كلّ منهما في الآخر. و قد مرّ أنّ الخبط: هو المشي على غير استقامة، و الغيّ: الجهل. و نهجه: أى أوضحه. و عصبه بكم أي علقه بكم و ربطه. و الفلج الفوز، و المنحة: العطيّة

المعنى

و في هذا الفصل ردّ لقول من قال إنّ متابعته عليه السّلام لمحاربيه و مخالفيه و مداهنتهم أولى من محاربتهم فردّ ذلك بقوله: لعمري ما عليّ إلى قوله: و لا إيهان. أى ليس مصانعتهم بواجبة عليّ من طريق المصلحة الدينيّة، و ليسوا بمضعفين لي، و لا عليّ في قتالهم عجز.

و في ذكره عليه السّلام لهم بصفة مخالفة الحقّ و مخابطة الغيّ و البغى تنبيه للسامعين و استدراج لهم لقيام عذره في قتالهم إذ كانت مقاتلة من هذه صفته واجبة فلا يمكن إنكار وقوعها منه. ثمّ أردف ذلك بأوامر:

أوّلها: الأمر بتقوى اللَّه، و قد علمت أنّ تقوى اللَّه هي خشيته المستلزمة للإعراض عن كلّ مناهيه المبعّدة عنه و هو الزهد الحقيقي كما سبقت الإشارة إليه.

الثاني: الأمر بالفرار إلى اللَّه و هو أمر بالإقبال على اللَّه و توجيه وجه النفس إلى كعبة وجوب وجوده، و اعلم أنّ فرار العبد إلى اللَّه تعالى على مراتب: فاوليها: الفرار عن بعض آثاره إلى بعض كما يفرّ من أثر غضبه إلى أثر رحمته كما قال تعالى حكاية عن المؤمنين في التضرّع إليه «رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ‏ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا»«» فكأنّهم لم يروا إلّا اللّه و أفعاله ففرُّوا إلى اللّه من بعضها إلى بعض.

الثانية: أن يفنى العبد عن مشاهدة الأفعال و يترقّى في درجات القرب و المعرفة إلى مصادر الأفعال، و هي الصفات فيفرّ من بعضها إلى بعض كما ورد عن زين العابدين عليه السّلام، اللّهم اجعلني اسوة من قد أنهضته بتجاوزك من مصارع المجرمين فأصبح طليق عفوك من اسر سخطك، و العفو و السخط صفتان فاستعاذ بإحديهما من الاخرى. الثالثة: أن يترقّى عن مقام الصفات إلى ملاحظة الذات فيفرّ منها إليها كقوله تعالى «لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ»«» و كالوارد في الدعاء في القيام إلى الصلاة: منك و بك و لك و إليك. أى منك بدء الوجود، و بك قيامه، و لك ملكه، و إليك رجوعه.

ثمّ أكّد ذلك بقوله لا ملجأ و لا منجأ و لا مفرّ منك إلّا إليك. و قد جمع الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم هذه المراتب حين امر بالقرب في قوله تعالى «وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ»«» و قال في سجوده: أعوذ بعفوك من عقابك. و هو كلام من شاهد فعل اللّه فاستعاذ ببعض أفعاله من بعض، و العفو كما يراد به صفة العافي كذلك قد يراد به الأثر الحاصل عن صفة العفو في المعفوّ عنه كالخلق و الصنع، ثمّ لمّا قرب فغنى عن مشاهدة الأفعال و تترقّى إلى مصادرها و هى الصفات قال: و أعوذ برضاك من سخطك و هما صفتان، ثمّ لمّا رأى ذلك نقصانا في التوحيد اقترب و ترقّى عن مقام مشاهدة الصفات إلى ملاحظة الذات فقال: و أعوذ بك منك، و هذا فرار إليه منه مع قطع النظر عن الأفعال و الصفات، و هو أوّل مقام الوصول إلى ساحل العزّة. ثمّ للسباحة في لجّة الوصول درجات اخر لا تتناهى. و لذلك لمّا ازداد صلى اللّه عليه و آله و سلّم قربا قال: لا احصى ثناء عليك. فكان ذلك حذفا لنفسه عن درجة الاعتبار في ذلك المقام و اعترافا منه بالعجز عن الإحاطة بما له من صفات الجلال و نعوت الكمال، و كان قوله بعد ذلك: أنت كما أثنيت على نفسك. كمالا للإخلاص و تجريدا للكمال المطلق الّذي به هو هو أجلّ من أن يلحقه لغيره حكم و هميّ أو عقليّ. إذا عرفت ذلك ظهر أنّ مقصوده عليه السّلام بقوله: و فرّو إلى اللّه من اللّه. أمر بالترقّي إلى المرتبة الثالثة من المراتب المذكورة.

الثالث: الأمر بالمضيّ فيما نهجه لهم من السبيل الواضح العدل الّذي هو واسطة بين طرفى الإفراط و التفريط، و الصراط المستقيم المدلول عليه بالأوامر الشرعيّة. و قد علمت أنّ الغرض من سلوك هذا السبيل و امتثال التكاليف الّتي الزم الإنسان بها و عصبت به إنّما هو تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة بحيث تصير مؤتمرة لها و متصرّفة تحت حكمها العقليّ منقادة لها عن الانهماك في ميولها الطبيعيّة و لذّاتها الفانية. و حينئذ تعلم أنّ هذه الأوامر الثلاثة هي الّتي عليها مدار الرياضة و السلوك إلى اللّه تعالى، فالأمر الأوّل و الثالث أمر بما هو معين على حذف الموانع عن الالتفات إلى اللّه تعالى، و على تطويع النفس الأمّارة، و الأمر الثاني أمر بتوجيه السير إلى اللّه. و قد تبيّن فيما مرّ أنّ هذه الامور الثلاثة هي الأغراض الّتي يتوجّه نحوها الرياضة المستلزمة لكمال الاستعداد المستلزم للوصول التامّ.

و لذلك قال عليه السّلام: فعليّ ضامن لفلحكم آجلا إن لم تمنحوه عاجلا. أى إذا قمتم بواجب ما امرتم به من هذه الأوامر كان ذلك مستلزما لفوزكم في دار القرار بجنّات تجري من تحتها الأنهار الّتي هي الغايات الحقيقية و لمثلها يعمل العاملون و فيها يتنافس المتنافسون إن لم يتمّ تأهّلكم للفوز في الدار العاجلة فمنحوه فيها، و قد يتمّ الفوز بالسعادتين العاجليّة و الآجليّة لمن وفت قوّته بالقيام بهما و كمل استحقاقه لذلك في علم اللّه. و لمّا كان حصول السعادة و الفوز عن لزوم الأوامر المذكورة أمرا واجبا واضح الوجوب في علمه عليه السّلام لا جرم كان ضامنا له.

فإن قلت: فما وجه اتّصال هذه الأوامر بصدر هذا الفصل قلت: لمّا كان مقتضى صدر الفصل إلى قوله: و لا إيهان. هو الإعذار إلى السامعين في قتال مخالفي الحقّ، و كان مفهوم ذلك هو الحثّ على جهادهم و التنفير عمّا هم عليه من الطريق الجائر كان تعقيب ذلك بذكر الطريق الواضح المأمور بسلوكه و لزوم حدود اللّه فيه لهو اللايق الواجب.

و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 15

خطبه22شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

وَ لَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ الْحَقَّ وَ خَابَطَ الْغَيَّ- مِنْ إِدْهَانٍ وَ لَا إِيهَانٍ- فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَ فِرُّوا إِلَى اللَّهِ مِنَ اللَّهِ- وَ امْضُوا فِي الَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ- وَ قُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ- فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ آجِلًا إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلًا

اللغة

أقول: الإدهان و المداهنة: المصانعة، و الإيهان مصدر أوهنه أى أضعفه، و خابط الغيّ بلفظ المفاعلة: يخبط كلّ منهما في الآخر. و قد مرّ أنّ الخبط: هو المشي على غير استقامة، و الغيّ: الجهل. و نهجه: أى أوضحه. و عصبه بكم أي علقه بكم و ربطه. و الفلج الفوز، و المنحة: العطيّة

المعنى

و في هذا الفصل ردّ لقول من قال إنّ متابعته عليه السّلام لمحاربيه و مخالفيه و مداهنتهم أولى من محاربتهم فردّ ذلك بقوله: لعمري ما عليّ إلى قوله: و لا إيهان. أى ليس مصانعتهم بواجبة عليّ من طريق المصلحة الدينيّة، و ليسوا بمضعفين لي، و لا عليّ في قتالهم عجز.

و في ذكره عليه السّلام لهم بصفة مخالفة الحقّ و مخابطة الغيّ و البغى تنبيه للسامعين و استدراج لهم لقيام عذره في قتالهم إذ كانت مقاتلة من هذه صفته واجبة فلا يمكن إنكار وقوعها منه. ثمّ أردف ذلك بأوامر:

أوّلها: الأمر بتقوى اللَّه، و قد علمت أنّ تقوى اللَّه هي خشيته المستلزمة للإعراض عن كلّ مناهيه المبعّدة عنه و هو الزهد الحقيقي كما سبقت الإشارة إليه.

الثاني: الأمر بالفرار إلى اللَّه و هو أمر بالإقبال على اللَّه و توجيه وجه النفس إلى كعبة وجوب وجوده، و اعلم أنّ فرار العبد إلى اللَّه تعالى على مراتب:

فاوليها: الفرار عن بعض آثاره إلى بعض كما يفرّ من أثر غضبه إلى أثر رحمته كما قال تعالى حكاية عن المؤمنين في التضرّع إليه «رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ‏ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا»«» فكأنّهم لم يروا إلّا اللّه و أفعاله ففرُّوا إلى اللّه من بعضها إلى بعض.

الثانية: أن يفنى العبد عن مشاهدة الأفعال و يترقّى في درجات القرب و المعرفة إلى مصادر الأفعال، و هي الصفات فيفرّ من بعضها إلى بعض كما ورد عن زين العابدين عليه السّلام، اللّهم اجعلني اسوة من قد أنهضته بتجاوزك من مصارع المجرمين فأصبح طليق عفوك من اسر سخطك، و العفو و السخط صفتان فاستعاذ بإحديهما من الاخرى.

الثالثة: أن يترقّى عن مقام الصفات إلى ملاحظة الذات فيفرّ منها إليها كقوله تعالى «لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ»«» و كالوارد في الدعاء في القيام إلى الصلاة: منك و بك و لك و إليك. أى منك بدء الوجود، و بك قيامه، و لك ملكه، و إليك رجوعه.

ثمّ أكّد ذلك بقوله لا ملجأ و لا منجأ و لا مفرّ منك إلّا إليك. و قد جمع الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم هذه المراتب حين امر بالقرب في قوله تعالى «وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ»«» و قال في سجوده: أعوذ بعفوك من عقابك. و هو كلام من شاهد فعل اللّه فاستعاذ ببعض أفعاله من بعض، و العفو كما يراد به صفة العافي كذلك قد يراد به الأثر الحاصل عن صفة العفو في المعفوّ عنه كالخلق و الصنع، ثمّ لمّا قرب فغنى عن مشاهدة الأفعال و تترقّى إلى مصادرها و هى الصفات قال: و أعوذ برضاك من سخطك و هما صفتان، ثمّ لمّا رأى ذلك نقصانا في التوحيد اقترب و ترقّى عن مقام مشاهدة الصفات إلى ملاحظة الذات فقال: و أعوذ بك منك، و هذا فرار إليه منه مع قطع النظر عن الأفعال و الصفات، و هو أوّل مقام الوصول إلى ساحل العزّة. ثمّ للسباحة في لجّة الوصول درجات اخر لا تتناهى. و لذلك لمّا ازداد صلى اللّه عليه و آله و سلّم قربا قال: لا احصى ثناء عليك. فكان ذلك حذفا لنفسه عن درجة الاعتبار في ذلك المقام و اعترافا منه بالعجز عن الإحاطة بما له من صفات الجلال و نعوت الكمال، و كان قوله بعد ذلك: أنت كما أثنيت على نفسك.

كمالا للإخلاص و تجريدا للكمال المطلق الّذي به هو هو أجلّ من أن يلحقه لغيره حكم و هميّ أو عقليّ. إذا عرفت ذلك ظهر أنّ مقصوده عليه السّلام بقوله: و فرّو إلى اللّه من اللّه. أمر بالترقّي إلى المرتبة الثالثة من المراتب المذكورة.

الثالث: الأمر بالمضيّ فيما نهجه لهم من السبيل الواضح العدل الّذي هو واسطة بين طرفى الإفراط و التفريط، و الصراط المستقيم المدلول عليه بالأوامر الشرعيّة. و قد علمت أنّ الغرض من سلوك هذا السبيل و امتثال التكاليف الّتي الزم الإنسان بها و عصبت به إنّما هو تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة بحيث تصير مؤتمرة لها و متصرّفة تحت حكمها العقليّ منقادة لها عن الانهماك في ميولها الطبيعيّة و لذّاتها الفانية. و حينئذ تعلم أنّ هذه الأوامر الثلاثة هي الّتي عليها مدار الرياضة و السلوك إلى اللّه تعالى، فالأمر الأوّل و الثالث أمر بما هو معين على حذف الموانع عن الالتفات إلى اللّه تعالى، و على تطويع النفس الأمّارة، و الأمر الثاني أمر بتوجيه السير إلى اللّه. و قد تبيّن فيما مرّ أنّ هذه الامور الثلاثة هي الأغراض الّتي يتوجّه نحوها الرياضة المستلزمة لكمال الاستعداد المستلزم للوصول التامّ.

و لذلك قال عليه السّلام: فعليّ ضامن لفلحكم آجلا إن لم تمنحوه عاجلا. أى إذا قمتم بواجب ما امرتم به من هذه الأوامر كان ذلك مستلزما لفوزكم في دار القرار بجنّات تجري من تحتها الأنهار الّتي هي الغايات الحقيقية و لمثلها يعمل العاملون و فيها يتنافس المتنافسون إن لم يتمّ تأهّلكم للفوز في الدار العاجلة فمنحوه فيها، و قد يتمّ الفوز بالسعادتين العاجليّة و الآجليّة لمن وفت قوّته بالقيام بهما و كمل استحقاقه لذلك في علم اللّه. و لمّا كان حصول السعادة و الفوز عن لزوم الأوامر المذكورة أمرا واجبا واضح الوجوب في علمه عليه السّلام لا جرم كان ضامنا له.

فإن قلت: فما وجه اتّصال هذه الأوامر بصدر هذا الفصل قلت: لمّا كان مقتضى صدر الفصل إلى قوله: و لا إيهان. هو الإعذار إلى السامعين في قتال مخالفي الحقّ، و كان مفهوم ذلك هو الحثّ على جهادهم و التنفير عمّا هم عليه من الطريق الجائر كان تعقيب ذلك بذكر الطريق الواضح المأمور بسلوكه و لزوم حدوداللّه فيه لهو اللايق الواجب.

و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 4

 

خطبه21شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَلَا وَ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَرَ حِزْبَهُ وَ اسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ- لِيَعُودَ الْجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ وَ يَرْجِعَ الْبَاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ- وَ اللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً- وَ لَا جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نَصِفاً وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ- فَلَئِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ- وَ لَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا التَّبِعَةُ إِلَّا عِنْدَهُمْ- وَ إِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ- يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ وَ يُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ- يَا خَيْبَةَ الدَّاعِي مَنْ دَعَا وَ إِلَامَ أُجِيبَ- وَ إِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَ عِلْمِهِ فِيهِمْ- فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ- وَ كَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ الْبَاطِلِ وَ نَاصِراً لِلْحَقِّ- وَ مِنَ الْعَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلَادِ- هَبِلَتْهُمُ الْهَبُولُ- لَقَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَ لَا أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ- وَ إِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي وَ غَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِينِي‏

 

أقول: أكثر هذا الفصل من الخطبة الّتي ذكرنا أنّه عليه السّلام خطبها حين بلغه أنّ طلحة و الزبير خلعا بيعته، و فيه زيادة و نقصان، و قد أورد السيّد بعضه فيما قبل و إن كان قد نبّه في خطبته على سبب التكرار و الاختلاف بالزيادة و النقصان، و نحن نورد الخطبة بتمامها ليتّضح المقصود و هي بعد حمد اللّه و الثناء عليه و الصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أيّها الناس إنّ اللّه افترض الجهاد فعظّمه و جعله نصرته و ناصره و اللّه ما صلحت دنيا و لا دين إلّا به، و قد جمع الشيطان حزبه و استجلب خيله و من أطاعه ليعود له دينه و سنّته و خدعه و قد رأيت امورا قد تمحّضت، و اللّه ما أنكروا عليّ منكرا و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا، و إنّهم ليطلبون حقّا تركوه و دما سفكوه فإن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم لنصيبهم منه، و إن كانوا ولّوه دوني فما الطلبة إلّا قبلهم، و إنّ أوّل عدلهم لعلى أنفسهم، و لا أعتذر ممّا فعلته و لا أتبرء ممّا صنعت، و إنّ معي لبصيرتي ما لبست و لا لبّس عليّ و إنّها للفئة الباغية، فيها الحمّ و الحمة طالت جلبتها و انكفت جونتها ليعودنّ الباطل في نصابه يا خيبة الداعي من دعا لو قيل ما أنكر في ذلك، و ما أمامه و فيمن سنّته، و اللّه إذن لزاح الباطل عن نصابه و أنقطع لسانه، و ما أظنّ الطريق له فيه واضح حيث نهج، و اللّه ما تاب من قتلوه قبل موته و لا تنصّل من خطيئته و ما اعتذر إليهم فعذّروه و لا دعا فنصروه، و أيّم اللّه لأفرطنّ لهم حوضا أنا ماتحه لا يصدرون عنه برىّ و لا يعبّون حسوة أبدا، و إنّها لطيّبة نفسي بحجّة اللّه عليهم و علمه فيهم، و إنّي داعيهم فمعذّر إليهم فإن تابوا و قبلوا و أجابوا و أنابوا فالتوبة مبذولة و الحقّ مقبول و ليس عليّ كفيل، و إن أبوا أعطيتهم حدّ السيف و كفى به شافيا من باطل و ناصر المؤمن و مع كلّ صحيفة شاهدها و كاتبها و اللّه إنّ الزبير و طلحة و عائشة ليعلمون أنّي على الحقّ و هم مبطلون.

اللغة

ذمر مخفّفا و مشدّدا أي حثّ، و الجلب الجماعة من الناس و غيرهم تجمع و تؤلّف، و تمحضّت تحرّكت، و النصف بكسر النون و سكون الصاد النصفة و هي الاسم من الإنصاف، و التبعة ما يلحق الإنسان من درك، و الحمّ بفتح الحاء و تشديد الميم بقيّة الإليّة الّتي اذيبت و اخذ دهنها، و الحمة السواد و هما استعارتان لأرذال الناس و عوامهم، و الجبلة الأصوات، و جونتها بالضمّ سوادها، و انكفت و استكفت أي استدارت، و زاح و انزاح تنحى، و النصاب الأصل، و تنصلّ من الذنب تبرّأ منه، و العب‏ الشرب من غير مصّ، و الحسوة بضم الحاء قدر ما يحسى مرّة، و الجلاد المضاربة بالسيف، و الهبول الثكلى، و الهبل الثكل.

المعنى

و اعلم أنّه عليه السّلام نبّه أوّلا على فضل الجهاد لأنّ غرضه استنفارهم لقتال أهل البصرة فأشار أوّلا إلى وجوبه من اللّه تعالى و الكتاب العزيز مشحون بذلك كقوله تعالى «وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ»«» و نحوه، ثمّ أردفه بذكر تفضيل اللّه تعالى له و ذلك كقوله تعالى «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‏ وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً»«» ثمّ يذكر أنّ اللّه جعله نصرة له و ناصرا و ذلك كقوله تعالى «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ» و المراد نصرة دين اللّه و عباده الصالحين إذ هو الغنيّ المطلق الّذي لا حاجة به إلى معين و ظهير، ثمّ بالقسم الصادق أنّه ما صلحت دنيا و لا دين إلّا به أمّا صلاح الدنيا به فلأنّه لولا الجهاد في سبيل اللّه و مقاومة أهل الغلبة لخربت الأرض و البلاد كما قال اللّه تعالى «وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ»«» و أمّا صلاح الدين فظاهر أنّه إنّما يكون بمجاهدة أعداء دين اللّه الساعين في هدم قواعده، فأمّا قوله و قد ذمر الشيطان حزبه و استجلب جلبه و من أطاعه. فقد سبق بيانه، و قوله ليعود له دينه و سنّته و خدعه فظاهر أنّ غاية سعي الشيطان من وسوسته تمكّنه من الخداع و عود المذاهب الباطلة الّتي كانت قبل الرسول صلى اللّه عليه و آله دينه و طريقته، و كلّ ذلك تنفير للسامعين عمّا له من خالقه و جذب لهم إلى الحرب.

قوله و قد رأيت امورا قد تمحضت. إشارة إلى تعيين ما يستنفرهم إليه، و تلك الامور هي ما يحسّ به من مخالفة القوم و اهبّتهم لقتاله. قوله و اللّه ما أنكروا عليّ منكرا و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا و إنّهم إلى قوله سفكوه. إشارة إلى إنكار ما إدّعوه منكرا و نسبوه إليه من قتل عثمان و السكوت عن النكير على قاتليه فأنكر أوّلا إنكارهم عليه تخلّفه عن عثمان الّذي زعموا أنّه منكر، و لمّا لم يكن منكرا كما ستعلم ذلك كان الإنكار عليه هو المنكر، و أشار بقوله و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا إلى أنّهم لو وضعوا العدل بينهم و بينه لظهر أنّ دعواهم باطلة، و قوله و إنّهم ليطلبون حقّا هم تركوه و دما هم سفكوه. إشارة إلى طلبهم لدم عثمان مع كونهم شركاء فيه. روى أبو جعفر الطبريّ في تاريخه أنّ عليا عليه السّلام كان في ماله بخير لمّا أراد الناس حصر عثمان فقدم المدينة و الناس مجتمعون على طلحة في داره فبعث عثمان إليه يشكو أمر طلحة فقال عليه السّلام: أنا أكفيكه فانطلق إلى دار طلحة و هي مملوّة بالناس فقال له: يا طلحة ما هذا الأمر الّذي صنعت بعثمان فقال طلحة: يا أبا الحسن بعد ما مسّ الحزام طبيين فانصرف عليّ عليه السّلام إلى بيت المال فأمر بفتحه فلم يجدوا المفتاح فكسّر الباب و فرّق ما فيه على الناس فانصرفوا من عند طلحة حتّى بقى وحده فسرّ عثمان بذلك، و جاء طلحة إلى عثمان فقال له: يا أمير المؤمنين إنّي أردت أمرا فحال اللّه بيني و بينه و قد جئتك تائبا فقال: و اللّه ما جئت تائبا و لكن جئت مغلوبا اللّه حسيبك يا طلحة، و روى أبو جعفر أيضا أنّه كان لعثمان على طلحة بن عبد اللّه خمسون ألفا فقال له يوما قد تهيّى‏ء مالك فاقبضه فقال هو لك معونة على مرّوتك فلمّا حصر عثمان قال عليّ عليه السّلام بطلحة أنشدك اللّه إلّا كففت عن عثمان فقال لا و اللّه حتّى تعطى بني اميّة الحقّ من أنفسها فكان عليّ عليه السّلام يقول بعد ذلك ألحا اللّه ابن الصعبة أعطاه عثمان ما أعطاه و فعل به ما فعل، و روى أنّ الزبير لمّا برز لعليّ عليه السّلام يوم الجمل قال له: ما حملك يا عبد اللّه على ما صنعت قال: أطلب بدم عثمان فقال له: أنت و طلحة و ليّتماه و إنّما توبتك من ذلك أن تقدّم نفسك و تسلّمها إلى ورثته، و بالجملة فدخولهم في قتل عثمان ظاهر و هذه مقدّمة من الحجّة عليهم.

و قوله فلئن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم لنصيبهم منه و لئن كانوا ولّوه دوني فما التبعة إلّا عندهم. تمام للحجّة و تقريرها أنّهم دخلوا في دم عثمان و كلّ من دخل فيه فإمّا بالشركة أو بالاستقلال و على التقديرين فليس لهم أن يطلبوا بدمه، و أشار إلى القسم الأوّل بقوله فإن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم لنصيبهم منه أي على تقدير كونهم شركائي في ذلك فعليهم أن يبدئوا بتسليمهم أنفسهم إلى أوليائه، و أشار إلى الثاني بقوله و إن كانوا ولّوه دوني فما الطلبة إلّا قبلهم، و قوله و إنّ أوّل عدلهم لعلى أنفسهم زيادة تقرير للحجّة أي أنّ العدل الّذي يزعمون أنّهم يقيمونه في الدم المطلوب ينبغي أن يصنعوه أوّلا على أنفسهم،

و قوله و لا أعتذر ممّا فعلت‏ و لا أبرء ممّا صنعت أي أنّ الاعتزال الّذي فعلته في وقت قتل عثمان لم يكن على وجه تقصير في الدين يوجب الاعتذار و التبرّء منه فاعتذروا تبرّء كما سنبيّن وجه ذلك إنشاء اللّه قوله و إنّ معي لبصيرتي ما لبست و لا لبّس عليّ. تقدّم بيانه،

و قوله و إنّها للفئة الباغية فيها الحمّ و الحمة. استعار هاتين اللفظتين لاسقاط الناس و أرذا لهم الّذين جمعوا لقتاله، و وجه الاستعارة مشابهتهم فحم الإلية و ما اسوّد منها في قلّة المنفعة و الخير، و قوله طالت جلبتها أي ارتفعت أصواتها، و هي كناية عمّا ظهر من القوم من تهديدهم و توعيدهم بالقتال،

و قوله و انكفت جونتها أي استدار سوادها و اجتمع و هو كناية أيضا عن مجمع جماعتهم لما يقصدون، و قوله يرتضعون أمّا قد فطمت استعار لفظ الامّ لنفسه عليه السّلام أو للخلافة فبيت المال لبنها، و المسلمون أولادها المرتضعون، و كنّى بارتضاعهم لها و قد فطمت عن التماسهم منه عليه السّلام من الصلات و التفصيلات مثل ما كان عثمان يصلهم به و يفضل بعضهم على بعض و منعه لهم من ذلك،

و قوله و يحيون بدعة قد اميتت إشارة إلى ذلك التفضيل فإنّه كان بخلاف سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سنّة الشيخين و البدعة مقابلة للسنّة، و إماتتها تركه عليه السّلام في ولايته و قوله ليعودنّ الباطل في نصابه توعّد لهم بعود ما كانوا عليه من الباطل في الجاهليّة و استنفار للسامعين إلى القتال،

و قوله يا خيبة الداعي من دعا خرج مخرج التعجّب من عظم خيبة الدعاة إلى قتاله و من دعا، و إلى ما اجيب استفهام على سبيل الاستحقار للمدعوّين لقتاله و الناصرين إذ كانوا عوامّ الناس و رعاعهم و للمدعوّ إليه و هو الباطل الّذي دعوا لنصرته،

و قوله لو قيل ما أنكر في ذلك و ما إمامه و فيمن سنّته و اللّه إذن لزاح الباطل عن نصابه و انقطع لسانه متّصلة معناها لو سأل سائل مجادلا لهؤلاء الدعاة إلى الباطل عمّا أنكروه من أمري و عن إمامهم‏ الّذي به يقتدون و فيمن سنّتهم الّتي إليها يرجعون لشهد لسان حالهم فأنّي أنا إمامهم و فيّ سنّتهم فانزاح باطلهم الّذي أتوابه و انقطع لسانه، و استعمال لفظ اللسان هاهنا حقيقة على تقدير حذف المضاف أي انقطع لسان صاحبه عن الجواب به و تكون الاستعارة في لفظ الانقطاع للسكوت، أو مجاز في العبارة عن الباطل و التكلّم به أي انقطع الجواب الباطل،

و قوله و ما أظنّ الطريق له فيه واضح حيث نهج الجملة عطف على قوله و انقطع لسانه، و واضح مبتدأ و فيه خبره و الجملة في موضع النصب مفعول ثان لأظنّ أي و ما أظنّ لو سأل السائل عن ذلك أنّ الطريق الّذي يرتكبه المجيب له فيه مجال بيّن و مسلك واضح حيث سلك بل كيف توجّه في الجواب انقطع،

و قوله و اللّه ما طاب من قتلوه إلى قوله فنصروه. إشارة إلى عثمان و ذمّ لهم من جهة طلبهم بدم من اعتذر إليهم قبل موته فلم يغدروه، و دعاهم إلى نصرته في حصاره فلم ينصروه مع تمكّنهم من ذلك، و قوله و ايم اللّه لأفرطنّ لهم حاضا أنا ماتحه ثمّ لا يصدرون عنه بري‏ء. قد تقدّم تفسيره، و قوله و لا يعبّون حسوة أبدا كناية عن عدم تمكينه لهم من هذا الأمر أو شي‏ء منه كما تقول لخصمك في شي‏ء و اللّه لا تذوق منه و لا تشرب منه جرعة، و قوله أنّها لطيّبة نفسي بحجّة اللّه عليهم و علمه فيهم. نفسي منصوب بدلا من الضمير المتّصل بأن أو بإضمار فعل تفسيرا له، و حجّة اللّه إشارة إلى أوامر اللّه الصادرة بقتال الفئة الباغية كقوله تعالى «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏»«» و كذلك كلّ أمر للّه أو نهي عصى فيه فهو حجّة للحقّ و كلّ حجّة للحقّ فهي حجّة للّه أي أنّي راض بقيام حجّة اللّه عليهم و علم بما يصنعون، و أيّ رضى للعاقل أتمّ و طيبة نفس أعظم من كونه لازما للحقّ و كون خصمه على الباطل خارجا من طاعة اللّه و هو القائم على كلّ نفس بما كسبت، و قوله و إنّي داعيهم فمعذّر إلى قوله و ناصر المؤمن واضح بيّن،

و قوله و ليس علىّ كفيل أي لا أحتاج فيما أبذله لهم من الصفح و الأمان على تقدير إنابتهم إلى ضامن، و شافيا و ناصرا منصوبان على التمييز،

و قوله و مع كلّ صحيفة شاهدها و كاتبها الواو للحال أي أنّهم إن لم يرجعوا اعطيتهم حدّ السيف، و الملائكة الكرام الكاتبون الّذين يعلمون ما نفعل يكتب كلّ منهم أعمال من وكلّ به في صحيفة و يشهد بها في محفل القيامة، و قوله و من العجب بعثتهم إلىّ أن أبرز للطعان و أن أصبر للجلاد تعجّب من تهدّدهم له بذلك مع علمهم بحاله في الشجاعة و الحرب و الصبر على المكاره، و هو محلّ الاستهزاء و التعجّب منهم، و قوله هبلتهم الهبول أي ثكلتهم الثواكل، و هي من الكلمات الّتي تدعو بها العرب، و قوله لقد كنت و ما أهدّد بالحرب و لا أرهب بالضرب أي من حيث أنا كنت كذلك،

و قوله و إنّي لعلى يقين من ربّي و في غير شبهة من أمري تأكيد لقوّته على الحرب و إقدامه على الجلاد و جذب لقلوب السامعين إلى الثقة بأنّهم‏ على بيّنة من اللّه و بصيرة في متابعته على القتال و الحرب فإنّ الموقن بأنّه على الحقّ ناصر للّه ذابّ عن دينه عار عن غبار الشبه الباطلة في وجه يقينه يكون أشدّ صبرا و أقوى جلدا و أثبت في المكاره ممّن لا يكون كذلك فيقدم على القتال بشبهة عظّت على عين بصيرته أو هوى لزخرف الدنيا و باطلها قاده إلى ذلك، و باللّه التوفيق

هذا آخر الجلد الأوّل و يتلوه أوّل الجلد الثاني من هذا الكتاب‏

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 333

 

 

خطبه20شرح ابن میثم

و من خطبة له عليه السّلام

فَإِنَّ الْغَايَةَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ- تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ قال الشريف:

أقول: إن هذا الكلام لو وزن، بعد كلام اللّه سبحانه و بعد كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، بكل كلام لمال به راجحا، و برّز عليه سابقا. فأما قوله عليه السّلام «تخففوا تلحقوا» فما سمع كلام أقل منه مسموعا و لا أكثر محصولا و ما أبعد غورها من كلمة، و أنقع نطفتها من حكمة، و قد نبهنا في كتاب الخصائص على عظم قدرها و شرف جوهرها

المعنى

أقول: لا شكّ أنّ هذه الكلمات اليسيرة قد جمعت وجازة الألفاظ و جزالة المعنى المشتمل على الموعظة الحسنة و الحكمة البالغة و هي أربع كلمات: الاولى أنّ الغاية أمامكم. و اعلم أنّه لمّا كانت الغاية من وجود الخلق أن يكونوا عباد اللّه كما قال تعالى «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»«» و كان المقصود من العبادة إنّما هو الوصول إلى جناب عزّته و الطيران في حظائر القدس بأجنحة الكمال مع الملائكة المقرّبين، و كان ذلك هو غاية الإنسان المطلوبة منه و المقصودة له و المأمور بالتوجّه إليها بوجهه الحقيقي فإن سعى لها سعيها أدركها و فاز بحلول جنّات النعيم و إن قصّر في طلبها و انحرف سواء الصراط الموصل إليها و قد علمت أنّ أبواب جهنّم عن جنبتي الصراط مفتّحة كان فيها من الهاوين، و كانت غايته فدخلها مع الداخلين.

فإذن ظهر أن غاية كلّ إنسان أمامه إليها يسير و بها يصير. الثانية قوله و إنّ ورائكم الساعة تحدوكم، و المراد بالساعة القيامة الصغرى و هي ضرورة الموت، فأمّا كونها ورائهم فلأنّ الإنسان لمّا كان بطبعه ينفر من الموت و يفرّ منه و كانت العادة في الهارب من الشي‏ء أن يكون ورائه مهروب منه و كان الموت متأخّرا عن وجود الإنسان و لاحقا تاخّرا و لحوقا عقليّا أشبه المهروب منه المتأخّر اللاحق تأخّرا و لحوقا حسيّا، فلا جرم استعير لفظ الجهة المحسوسة و هي الوراء. و أمّا كونها تحدوهم فلأنّ الحادي لمّا كان من شأنه سوق الإبل بالحداء و كان تذكّر الموت و سماع نواد به مقلقا مزعجا للنفوس إلى الاستعداد لامور الآخرة و الاهبّة للقاء اللّه سبحانه فهو يحملها على قطع عقبات طريق الآخرة كما يحمل الحادي الإبل على قطع الطريق البعيدة الوعرة لا جرم أشبه الحادي فأسند الحداء إليه. الثالثة قوله تخفّفوا تلحقوا.

و لمّا نبّههم بكون الغاية أمامهم و أنّ الساعة تحدوهم في سفر واجب و كان السابق إلى الغاية من ذلك السفر هو الفائز برضوان اللّه، و قد علمت أنّ التخفيف و قطع العلائق في الأسفار سبب للسبق و الفوز بلحوق السابقين لا جرم أمرهم بالتخفيف لغاية اللحوق في كلمتين: فالاولى منهما قوله تخفّفوا و كنّى بهذا الأمر عن الزهد الحقيقيّ الّذي هو أقوى أسباب السلوك إلى اللّه سبحانه و هو عبارة عن حذف كلّ شاغل عن التوجّه إلى القبلة الحقيقيّة و الإعراض عن متاع الدنيا و طيّباتها و تنحية كلّ ما سوى الحقّ الأوّل عن مستن الإيثار فإنّ ذلك تخفيف لأثقال الأوزار المانعة عن الصعود في درجات الأبرار الموجبة لحلول دار البوار و هي كناية باللفظ المستعار، و هذا الأمر في معنى الشرط، و الثانية قوله تلحقوا و هو جزاء الشرط أي أن تخفّفوا تلحقوا، و المراد تلحقوا بدرجات السابقين الّذين هم أولياء اللّه و الواصلون إلى ساحل عزّته، و ملازمة هذه الشرطيّة قد علمت بيانها فإنّ الجود الإلهيّ لا بخل فيه و لا قصور من جهته و الزهد الحقيقيّ أقوى أسباب السلوك إلى اللّه كما سبق فإذا استعدّت النفس بالإعراض عمّا سوى الحقّ سبحانه و توجّهت إلى استشراق أنوار كبريائه فلا بدّ أن يفاض عليها ما تقبله من الصورة التماميّة فيلحق بدرجة السابقين و يتّصل بساحل العزّة في مقام أمين. الرابعة فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم أي إنّما ينتظر بالبعث الأكبر و القيامة الكبرى للّذين ماتوا أوّلا وصول الباقين و موتهم، و تحقيق ذلك الانتظار أنّه لمّا كان نظر العناية الإلهيّة إلى الخلق نظرا واحدا و المطلوب‏

منهم واحد و هو الوصول إلى جناب عزّة اللّه الّذي هو غايتهم أشبه طلب العناية الإلهيّة وصول الخلق إلى غايتهم انتظار الإنسان لقوم يريد حضور جميعهم و ترقّبه بأوائلهم وصول أواخرهم فاطلق عليه لفظ الانتظار على سبيل الاستعارة، و لمّا صوّر هاهنا صورة انتظارهم لوصولهم جعل ذلك علّة لحثّهم على التخفيف و قطع العلائق، و لا شكّ أنّ المعقول لاولي الألباب من ذلك الانتظار حاثّ لهم أيضا على التوجّه بوجوه أنفسهم إلى اللّه و الإعراض عمّا سواه.
فهذا ما حضرني من أسرار هذه الكلمات. و كفى بكلام السيّد- رحمه اللّه- مدحا لها و تنبيها على عظم قدرها، و قد استعار لفظ النطفة و هو الماء الصافي للحكمة. و باللّه التوفيق و العصمة

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 331