خطبه 243 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(يذكر فيها آل محمد ص)

243 و من خطبة له ع يذكر فيها آل محمد ص

هُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَ مَوْتُ الْجَهْلِ- يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ- وَ صَمْتُهُمْ عَنْ حُكْمِ مَنْطِقِهِمْ- لَا يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ- وَ هُمْ دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ وَ وَلَائِجُ الِاعْتِصَامِ- بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ وَ انْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مَقَامِهِ- وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ- عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَ رِعَايَةٍ- لَا عَقْلَ سَمَاعٍ وَ رِوَايَةٍ- فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ يقول بهم يحيا العلم و يموت الجهل- فسماهم حياة ذاك و موت هذا نظرا إلى السببية- يدلكم حلمهم و صفحهم عن الذنوب على علمهم و فضائلهم- و يدلكم ما ظهر منهم من الأفعال الحسنة على ما بطن من إخلاصهم- و يدلكم صمتهم و سكوتهم عما لا يعنيهم- عن حكمة منطقهم- و يروى و يدلكم صمتهم على منطقهم- و ليس في هذه الرواية لفظة حكم- .

لا يخالفون الحق لا يعدلون عنه- و لا يختلفون فيه كما يختلف غيرهم من الفرق و أرباب المذاهب- فمنهم من له في المسألة قولان و أكثر- و منهم من يقول قولا ثم يرجع عنه و منهم من يرى في أصول الدين رأيا ثم ينفيه و يتركه- .

و دعائم الإسلام أركانه- . و الولائج جمع وليجة- و هي الموضع يدخل إليه و يستتر فيه و يعتصم به- . و عاد الحق إلى نصابه رجع إلى مستقره و موضعه- و انزاح الباطل زال و انقطع لسانه انقطع حجته- . عقلوا الدين عقل رعاية- أي عرفوا الدين و علموه- معرفة من وعى الشي‏ء و فهمه و أتقنه- و وعاية أي وعوا الدين و حفظوه و حاطوه- ليس كما يعقله غيرهم عن سماع و رواية- فإن من يروي العلم و يسنده إلى الرجال- و يأخذه من أفواه الناس كثير- و من يحفظ العلم حفظ فهم و إدراك- أصالة لا تقليدا قليل تم الجزء الثالث عشر- من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد- 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 242 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(في شأن الحكمين و ذم أهل الشام)

242 و من خطبة له ع في شأن الحكمين و ذم أهل الشام

جُفَاةٌ طَغَامٌ عَبِيدٌ أَقْزَامٌ- جُمِعُوا مِنْ كُلِّ أَوْبٍ وَ تُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْبٍ- مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَ يُؤَدَّبَ- وَ يُعَلَّمَ وَ يُدَرَّبَ وَ يُوَلَّى عَلَيْهِ- وَ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ- لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ لَا مِنَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَ الْإِيمَانَ- أَلَا وَ إِنَّ الْقَوْمَ اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ- أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا يُحِبُّونَ- وَ إِنَّكُمُ اخْتَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ- أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تَكْرَهُونَ- وَ إِنَّمَا عَهْدُكُمْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِالْأَمْسِ يَقُولُ- إِنَّهَا فِتْنَةٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وَ شِيمُوا سُيُوفَكُمْ- فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِيرِهِ غَيْرَ مُسْتَكْرَهٍ- وَ إِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهْمَةُ- فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ- وَ خُذُوا مَهَلَ الْأَيَّامِ وَ حُوطُوا قَوَاصِيَ الْإِسْلَامِ- أَ لَا تَرَوْنَ إِلَى بِلَادِكُمْ تُغْزَى وَ إِلَى صَفَاتِكُمْ تُرْمَى جفاة جمع جاف أي هم أعراب أجلاف- و الطغام أوغاد الناس الواحد و الجمع فيه سواء- . و يقال للأشرار و اللئام عبيد و إن كانوا أحرارا- .
و الأقزام بالزاي رذال الناس و سفلتهم- و المسموع قزم الذكر و الأنثى و الواحد و الجمع فيه سواء- لأنه في معنى المصدر قال الشاعر-

و هم إذا الخيل جالوا في كتائبها
فوارس الخيل لا ميل و لا قزم‏

 و لكنه ع قال أقزام- ليوازن بها قوله طغام- و قد روي قزام و هي رواية جيدة- و قد نطقت العرب بهذه اللفظة و قال الشاعر-

أحصنوا أمهم من عبدهم
تلك أفعال القزام الوكعه‏

 و جمعوا من كل أوب أي من كل ناحية- . و تلقطوا من كل شوب أي من فرق مختلطة- . ثم وصف جهلهم و بعدهم عن العلم و الدين- فقال ممن ينبغي أن يفقه و يؤدب- أي يعلم الفقه و الأدب- و يدرب أي يعود اعتماد الأفعال الحسنة- و الأخلاق الجميلة- . و يولى عليه أي لا يستحقون أن يولوا أمرا- بل ينبغي أن يحجر عليهم- كما يحجر على الصبي و السفيه لعدم رشده-

و روي و يولى عليه بالتخفيف- و يؤخذ على يديه أي يمنع من التصرف- . قوله ع- و لا الذين تبوءوا الدار و الإيمان- ظاهر اللفظ يشعر بأن الأقسام ثلاثة و ليست إلا اثنين- لأن الذين تبوءوا الدار و الإيمان الأنصار- و لكنه ع كرر ذكرهم تأكيدا- و أيضا فإن لفظة الأنصار- واقعة على كل من كان من الأوس و الخزرج- الذين أسلموا على عهد رسول الله ص- و الذين تبوءوا الدارو الإيمان في الآية- قوم مخصوصون منهم- و هم أهل الإخلاص و الإيمان التام- فصار ذكر الخاص بعد العام- كذكره تعالى جبريل و ميكائيل- ثم قال وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ و هما من الملائكة- و معنى قوله تبوءوا الدار و الإيمان سكنوهما- و إن كان الإيمان لا يسكن كما تسكن المنازل- لكنهم لما ثبتوا عليه و اطمأنوا- سماه منزلا لهم و متبوأ- و يجوز أن يكون مثل قوله-

و رأيت زوجك في الوغى
متقلدا سيفا و رمحا

 ثم ذكر ع أن أهل الشام- اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يحبونه- و هو عمرو بن العاص- و كرر لفظة القوم و كان الأصل أن يقول- ألا و إن القوم اختاروا لأنفسهم أقربهم مما يحبون- فأخرجه مخرج قول الله تعالى- وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ- و الذي يحبه أهل الشام- هو الانتصار على أهل العراق و الظفر بهم- و كان عمرو بن العاص أقربهم إلى بلوغ ذلك- و الوصول إليه بمكره و حيلته و خدائعه- و القوم في قوله ثانيا أقرب القوم بمعنى الناس- كأنه قال و اخترتم لأنفسكم أقرب الناس- مما تكرهونه و هو أبو موسى الأشعري- و اسمه عبد الله بن قيس- و الذي يكرهه أهل العراق هو ما يحبه أهل الشام- و هو خذلان عسكر العراق و انكسارهم- و استيلاء أهل الشام عليهم- و كان أبو موسى أقرب الناس إلى وقوع ذلك- و هكذا وقع لبلهه و غفلته و فساد رأيه- و بغضه عليا ع من قبل- .

ثم قال أنتم بالأمس يعني في واقعة الجمل- قد سمعتم أبا موسى ينهى أهل الكوفة عن نصرتي- و يقول لهم هذه هي الفتنة التي وعدنا بها- فقطعوا أوتار قسيكم- و شيموا سيوفكم أي أغمدوها- فإن كان صادقا فما باله سار إلي- و صار معي في الصف و حضر حرب صفين- و كثر سواد أهل العراق- و إن لم يحارب و لم يسل السيف- فإن من حضر في إحدى الجهتين-

و إن لم يحارب كمن حارب- و إن كان كاذبا فيما رواه من خبر الفتنة- فقد لزمته التهمة و قبح الاختلاف إليه في الحكومة- و هذا يؤكد صحة إحدى الروايتين في أمر أبي موسى- فإنه قد اختلفت الرواية- هل حضر حرب صفين مع أهل العراق أم لا- فمن قال حضر قال حضر و لم يحارب- و ما طلبه اليمانيون من أصحاب علي ع- ليجعلوه حكما كالأشعث بن قيس و غيره- إلا و هو حاضر معهم في الصف- و لم يكن منهم على مسافة- و لو كان على مسافة لما طلبوه- و لكان لهم فيمن حضر غناء عنه- و لو كان على مسافة لما وافق علي ع على تحكيمه- و لا كان علي ع ممن يحكم من لم يحضر معه- . و قال الأكثرون إنه كان معتزلا للحرب- بعيدا عن أهل العراق و أهل الشام- .

فإن قلت فلم لا يحمل قوله ع- فإن كان صادقا فقد أخطأ بسيره غير مستكره- على مسيره إلى أمير المؤمنين ع- و أهل العراق حيث طلبوه ليفوضوا إليه أمر الحكومة- قلت لو حملنا كلامه ع على هذا- لم يكن لازما لأبي موسى و كان الجواب عنه هينا- و ذلك لأن أبا موسى يقول- إنما أنكرت الحرب و ما سرت لأحارب- و لا لأشهد الحرب و لا أغري بالحرب- و إنما سرت للإصلاح بين الناس و إطفاء نائرة الفتنة- فليس يناقض ذلك ما رويته عن الرسول من خبر الفتنة- و لا ما قلته في الكوفة في واقعة الجمل- قطعوا أوتار قسيكم- .

قوله ع- فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس- يقال لمن يرام كفه عن أمر يتطاول له ادفع في صدره- و ذلك لأن من يقدم على أمر ببدنه- فيدفع دافع في صدره حقيقة- فإنه يرده أو يكاد فنقل ذلك إلى الدفع المعنوي- . قوله ع و خذوا مهل الأيام- أي اغتنموا سعة الوقت- و خذوه مناهبة قبل أن يضيق بكم أو يفوت- . قوله ع و حوطوا قواصي الإسلام- ما بعد من الأطراف و النواحي- . ثم قال لهم أ لا ترون إلى بلادكم تغزى- هذا يدل على أن هذه الخطبة- بعد انقضاء أمر التحكيم- لأن معاوية بعد أن تم على أبي موسى من الخديعة ما تم- استعجل أمره- و بعث السرايا إلى أعمال أمير المؤمنين علي ع- . و تقول قد رمى فلان صفاة فلان- إذا دهاه بداهية قال الشاعر-

و الدهر يوتر قوسه
يرمي صفاتك بالمعابل‏

و أصل ذلك الصخرة الملساء- لا يؤثر فيها السهام و لا يرميها الرامي- إلا بعد أن نبل غيرها- يقول قد بلغت غارات أهل الشام حدود الكوفة- التي هي دار الملك و سرير الخلافة- و ذلك لا يكون إلا بعد الإثخان في غيرها من الأطراف

فصل في نسب أبي موسى و الرأي فيه عند المعتزلة

و نحن نذكر نسب أبي موسى و شيئا من سيرته و حاله- نقلا من كتاب الإستيعاب لابن عبد البر المحدث- و نتبع ذلك بما نقلناه من غير الكتاب المذكور- قال ابن عبد البر هو عبد الله بن قيس بن سليم- بن حضارة بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر- بن عامربن عذر بن وائل بن ناجية- بن الجماهر بن الأشعر و هو نبت بن أدد- بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان- بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان- و أمه امرأة من عك أسلمت و ماتت بالمدينة- و اختلف في أنه هل هو من مهاجرة الحبشة أم لا- و الصحيح أنه ليس منهم- و لكنه أسلم ثم رجع إلى بلاد قومه- فلم يزل بها حتى قدم هو و ناس من الأشعريين- على رسول الله ص- فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين- جعفر بن أبي طالب و أصحابه من أرض الحبشة- فوافوا رسول الله ص بخيبر- فظن قوم أن أبا موسى قدم من الحبشة مع جعفر- .

و قيل إنه لم يهاجر إلى الحبشة- و إنما أقبل في سفينة مع قوم من الأشعريين- فرمت الريح سفينتهم إلى أرض الحبشة- و خرجوا منها مع جعفر و أصحابه فكان قدومهم معا- فظن قوم أنه كان من مهاجرة الحبشة- . قال و ولاه رسول الله ص من مخاليف اليمن زبيد- و ولاه عمر البصرة لما عزل المغيرة عنها- فلم يزل عليها إلى صدر من خلافة عثمان فعزله عثمان عنها- و ولاها عبد الله بن عامر بن كريز- فنزل أبو موسى الكوفة حينئذ و سكنها- فلما كره أهل الكوفة سعيد بن العاص و دفعوه عنها- ولوا أبا موسى و كتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه- فأقره على الكوفة- فلما قتل عثمان عزله علي ع عنها- فلم يزل واجدا لذلك على علي ع- حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه- فقد روى حذيفة فيه كلاما كرهت ذكره و الله يغفر له- .

قلت الكلام الذي أشار إليه أبو عمر بن عبد البر- و لم يذكره قوله فيه و قد ذكر عنده بالدين- أما أنتم فتقولون ذلك و أما أنا فأشهد أنه عدو لله و لرسوله- و حرب لهما في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد- يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم- و لهم اللعنة و لهم‏سوء الدار- و كان حذيفة عارفا بالمنافقين- أسر إليه رسول الله ص أمرهم و أعلمه أسماءهم- . و روي أن عمارا سئل عن أبي موسى فقال- لقد سمعت فيه من حذيفة قولا عظيما- سمعته يقول صاحب البرنس الأسود- ثم كلح كلوحا علمت منه أنه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط- .

و روي عن سويد بن غفلة قال- كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان- فروى لي خبرا عن رسول الله ص- قال سمعته يقول إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم- حتى بعثوا حكمين ضالين ضلا و أضلا من اتبعهما- و لا ينفك أمر أمتي حتى يبعثوا حكمين- يضلان و يضلان من تبعهما فقلت له- احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما- قال فخلع قميصه و قال أبرأ إلى الله من ذلك- كما أبرأ من قميصي هذا- .

فأما ما تعتقده المعتزلة فيه- فأنا أذكر ما قاله أبو محمد بن متويه- في كتاب الكفاية قال رحمه الله- أما أبو موسى فإنه عظم جرمه بما فعله- و أدى ذلك إلى الضرر الذي لم يخف حاله- و كان علي ع يقنت عليه و على غيره- فيقول اللهم العن معاوية أولا و عمرا ثانيا- و أبا الأعور السلمي ثالثا و أبا موسى الأشعري رابعا روي عنه ع أنه كان يقول في أبي موسى- صبغ بالعلم صبغا و سلخ منه سلخا – .

قال و أبو موسى هو الذي روى عن النبي ص أنه قال كان في‏بني إسرائيل حكمان ضالان- و سيكون في أمتي حكمان ضالان ضال من اتبعهما – . و أنه قيل له أ لا يجوز أن تكون أحدهما- فقال لا أو كلاما ما هذا معناه- فلما بلي به قيل فيه البلاء موكل بالمنطق- و لم يثبت في توبته ما ثبت في توبة غيره- و إن كان الشيخ أبو علي قد ذكر في آخر كتاب الحكمين- أنه جاء إلى أمير المؤمنين ع في مرض الحسن بن علي- فقال له أ جئتنا عائدا أم شامتا- فقال بل عائدا و حدث بحديث في فضل العيادة- . قال ابن متويه و هذه أمارة ضعيفة في توبته- .

انتهى كلام ابن متويه- و ذكرته لك لتعلم أنه عند المعتزلة من أرباب الكبائر- و حكمه حكم أمثاله ممن واقع كبيرة و مات عليها- . قال أبو عمر بن عبد البر و اختلف في تاريخ موته- فقيل سنة اثنتين و أربعين و قيل سنة أربع و أربعين- و قيل سنة خمسين و قيل سنة اثنتين و خمسين- . و اختلف في قبره فقيل مات بمكة و دفن بها- و قيل مات بالكوفة و دفن بها

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 241 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

241 و من خطبة له ع

فَاعْمَلُوا وَ أَنْتُمْ فِي نَفَسِ الْبَقَاءِ- وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ وَ التَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ- وَ الْمُدْبِرُ يُدْعَى وَ الْمُسِي‏ءُ يُرْجَى- قَبْلَ أَنْ يَخْمُدَ الْعَمَلُ وَ يَنْقَطِعَ الْمَهَلُ- وَ تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ وَ يُسَدَّ بَابُ التَّوْبَةِ- وَ تَصْعَدَ الْمَلَائِكَةُ- فَأَخَذَ امْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَ أَخَذَ مِنْ حَيٍّ لِمَيِّتٍ- وَ مِنْ فَانٍ لِبَاقٍ وَ مِنْ ذَاهِبٍ لِدَائِمٍ- امْرُؤٌ خَافَ اللَّهَ- وَ هُوَ مُعَمَّرٌ إِلَى أَجَلِهِ وَ مَنْظُورٌ إِلَى عَمَلِهِ- امْرُؤٌ أَلْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا وَ زَمَّهَا بِزِمَامِهَا- فَأَمْسَكَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ- وَ قَادَهَا بِزِمَامِهَا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ في نفس البقاء بفتح الفاء أي في سعته- تقول أنت في نفس من أمرك أي في سعة- .

و الصحف منشورة أي و أنتم بعد أحياء- لأنه لا تطوى صحيفة الإنسان إلا إذا مات- و التوبة مبسوطة لكم غير مقبوضة عنكم- و لا مردودة عليكم إن فعلتم- كما ترد على الإنسان توبته إذا احتضر- . و المدبر يدعى أي من يدبر منكم- و يولي عن الخير يدعى إليه- و ينادى يا فلان أقبل على ما يصلحك- .

و المسي‏ء يرجى أي يرجى عوده و إقلاعه- . قبل أن يجمد العمل استعارة مليحة- لأن الميت يجمد عمله و يقف- و يروى يخمد بالخاء من خمدت النار و الأول أحسن- . و ينقطع المهل أي العمر الذي أمهلتم فيه- . و تصعد الملائكة- لأن الإنسان عند موته تصعد حفظته إلى السماء- لأنه لم يبق لهم شغل في الأرض- .

قوله فأخذ امرؤ ماض يقوم مقام الأمر- و قد تقدم شرح ذلك- و المعنى أن من يصوم و يصلي- فإنما يأخذ بعض قوة نفسه مما يلقى من المشقة- لنفسه أي عدة و ذخيرة لنفسه يوم القيامة- و كذلك من يتصدق فإنه يأخذ من ماله- و هو جار مجرى نفسه لنفسه- .

و أخذ من حي لميت أي من حال الحياة لحال الموت- و لو قال من ميت لحي كان جيدا أيضا- لأن الحي في الدنيا ليس بحي على الحقيقة- و إنما الحياة حياة الآخرة كما قال الله تعالى- وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ- . و روي أمسكها بلجامها بغير فاء

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 240 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

240 و من كلام له ع اقتص فيه ذكر ما كان منه- بعد هجرة النبي ص ثم لحاقه به

فَجَعَلْتُ أَتْبَعُ مَأْخَذَ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَأَطَأُ ذِكْرَهُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْعَرْجِ- فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ قال الرضي رحمه الله تعالى- قوله ع فأطأ ذكره- من الكلام الذي رمي به إلى غايتي الإيجاز و الفصاحة- أراد أني كنت أغطي خبره ص- من بدء خروجي إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع- فكنى عن ذلك بهذه الكناية العجيبة العرج منزل بين مكة و المدينة- إليه ينسب العرجي الشاعر- و هو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان- بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس- .

قال محمد بن إسحاق في كتاب المغازي- لم يعلم رسول الله ص أحدا من المسلمين- ما كان عزم عليه من الهجرة- إلا علي بن أبي طالب و أبا بكر بن أبي قحافة- أما علي فإن رسول الله ص أخبره بخروجه- و أمره أن يبيت على‏فراشه- يخادع المشركين عنه ليروا أنه لم يبرح فلا يطلبوه- حتى تبعد المسافة بينهم و بينه- و أن يتخلف بعده بمكة- حتى يؤدي عن رسول الله ص الودائع التي عنده للناس- و كان رسول الله ص استودعه رجال من مكة ودائع لهم- لما يعرفونه من أمانته و أما أبو بكر فخرج معه- .

و سألت النقيب أبا جعفر- يحيى بن أبي زيد الحسني رحمه الله- فقلت إذا كانت قريش قد محصت رأيها- و ألقى إليها إبليس كما روي ذلك الرأي- و هو أن يضربوه بأسياف- من أيدي جماعة من بطون مختلفة- ليضيع دمه في بطون قريش فلا تطلبه بنو عبد مناف- فلما ذا انتظروا به تلك الليلة الصبح- فإن الرواية جاءت بأنهم كانوا تسوروا الدار- فعاينوا فيها شخصا مسجى بالبرد الحضرمي الأخضر- فلم يشكوا أنه هو فرصدوه إلى أن أصبحوا فوجدوه عليا- و هذا طريف- لأنهم كانوا قد أجمعوا على قتله تلك الليلة- فما بالهم لم يقتلوا ذلك الشخص المسجى- و انتظارهم به النهار- دليل على أنهم لم يكونوا أرادوا قتله تلك الليلة-

فقال في الجواب- لقد كانوا هموا من النهار بقتله تلك الليلة- و كان إجماعهم على ذلك و عزمهم في حقنه من بني عبد مناف- لأن الذين محصوا هذا الرأي و اتفقوا عليه- النضر بن الحارث من بني عبد الدار- و أبو البختري بن هشام و حكيم بن حزام- و زمعة بن الأسود بن المطلب- هؤلاء الثلاثة من بني أسد بن عبد العزى- و أبو جهل بن هشام و أخوه الحارث- و خالد بن الوليد بن المغيرة- هؤلاء الثلاثة من بني مخزوم- و نبيه و منبه ابنا الحجاج- و عمرو بن العاص- هؤلاء الثلاثة من بني سهم- و أمية بن خلف و أخوه أبي بن خلف- هذان من بني جمح- فنما هذا الخبر من الليل- إلى عتبة بن ربيعة بن عبد شمس- فلقي منهم قوما فنهاهم عنه-

و قال إن بني عبد مناف لا تمسك عن دمه- و لكن صفدوه في الحديد- و احبسوه في دار من دوركم- و تربصوا به أن يصيبه من الموت ما أصاب أمثاله من الشعراء- و كان عتبة بن ربيعة سيد بني عبد شمس و رئيسهم- و هم من بني عبد مناف و بنو عم الرجل و رهطه- فأحجم أبو جهل و أصحابه تلك الليلة عن قتله إحجاما- ثم تسوروا عليه و هم يظنونه في الدار- فلما رأوا إنسانا مسجى بالبرد الأخضر الحضرمي- لم يشكوا أنه هو و ائتمروا في قتله- فكان أبو جهل يذمرهم عليه فيهمون ثم يحجمون-

ثم قال بعضهم لبعض ارموه بالحجارة فرموه- فجعل علي يتضور منها- و يتقلب و يتأوه تأوها خفيفا- فلم يزالوا كذلك في إقدام عليه و إحجام عنه- لما يريده الله تعالى من سلامته و نجاته- حتى أصبح و هو وقيذ من رمي الحجارة- و لو لم يخرج رسول الله ص إلى المدينة و أقام بينهم بمكة- و لم يقتلوه تلك الليلة لقتلوه في الليلة التي تليها- و إن شبت الحرب بينهم و بين عبد مناف- فإن أبا جهل لم يكن بالذي ليمسك عن قتله- و كان فاقد البصيرة شديد العزم على الولوغ في دمه- . قلت للنقيب أ فعلم رسول الله ص و علي ع- بما كان من نهي عتبة لهم قال لا- إنهما لم يعلما ذلك تلك الليلة و إنما عرفاه من بعد- و لقد قال رسول الله ص يوم بدر- لما رأى عتبة و ما كان منه- إن يكن في القوم خير ففي صاحب الجمل الأحمر- و لو قدرنا أن عليا ع- علم ما قال لهم عتبة لم يسقط ذلك فضيلته في المبيت- لأنه لم يكن على ثقة من أنهم يقبلون قول عتبة- بل كان ظن الهلاك و القتل أغلب- .

و أما حال علي ع فلما أدى الودائع- خرج بعد ثلاث من هجرة النبي‏ص- فجاء إلى المدينة راجلا قد تورمت قدماه- فصادف رسول الله ص- نازلا بقباء على كلثوم بن الهدم- فنزل معه في منزله- و كان أبو بكر نازلا بقباء أيضا في منزل حبيب بن يساف- ثم خرج رسول الله ص و هما معه من قباء- حتى نزل بالمدينة على أبي أيوب- خالد بن يزيد الأنصاري و ابتنى المسجد

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 239 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

239 و من كلام له ع قاله لعبد الله بن عباس- و قد جاءه برسالة من عثمان

و هو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع- ليقل هتف الناس باسمه للخلافة- بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل- فقال ع- يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا يُرِيدُ عُثْمَانُ- إِلَّا أَنْ يَجْعَلَنِي جَمَلًا نَاضِحاً بِالْغَرْبِ أَقْبِلْ وَ أَدْبِرْ- بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدَمَ- ثُمَّ هُوَ الآْنَ يَبْعَثُ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ- وَ اللَّهِ لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ آثِماً ينبع على يفعل مثل يحلم و يحكم اسم موضع- كان فيه نخل لعلي بن أبي طالب ع- و ينبع الآن بلد صغير من أعمال المدينة- . و هتف الناس باسمه نداؤهم و دعاؤهم- و أصله الصوت يقال هتف الحمام يهتف هتفا- و هتف زيد بعمرو هتافا أي صاح به- و قوس هتافة و هتفى أي ذات صوت- . و الناضح البعير يستقى عليه- و قال معاوية لقيس بن سعد- و قد دخل عليه‏في رهط من الأنصار- ما فعلت نواضحكم يهزأ به- فقال أنصبناها في طلب أبيك يوم بدر- .

و الغرب الدلو العظيمة- . قوله أقبل و أدبر- أي يقول لي ذلك كما يقال للناضح- و قد صرح العباس بن مرداس بهذه الألفاظ فقال-أراك إذا أصبحت للقوم ناضحا يقال له بالغرب أدبر و أقبل‏- .

قوله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما- يحتمل أن يريد بالغت و اجتهدت في الدفاع عنه- حتى خشيت أن أكون آثما- في كثرة مبالغتي و اجتهادي في ذلك- و إنه لا يستحق الدفاع عنه لجرائمه و أحداثه- و هذا تأويل من ينحرف عن عثمان- و يحتمل أن يريد لقد دفعت عنه- حتى كدت أن ألقي نفسي في الهلكة- و أن يقتلني الناس الذين ثاروا به- فخفت الإثم في تغريري بنفسي- و توريطها في تلك الورطة العظيمة- و يحتمل أن يريد- لقد جاهدت الناس دونه و دفعتهم عنه- حتى خشيت أن أكون آثما بما نلت منهم- من الضرب بالسوط و الدفع باليد- و الإعانة بالقول- أي فعلت من ذلك أكثر مما يحب وصية العباس قبل موته لعليقرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي- في تقريظ الجاحظ- قال نقلت من خط الصولي- قال الجاحظ إن العباس بن عبد المطلب- أوصى علي بن أبي طالب ع في علته التي مات فيها- فقال أي بني-

إني مشف على الظعن عن الدنيا إلى الله- الذي فاقتي إلى عفوه و تجوزه- أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه و أشير عليك به-و لكن العرق نبوض و الرحم عروض- و إذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد- إن هذا الرجل يعني عثمان قد جاءني مرارا بحديثك- و ناظرني ملاينا و مخاشنا في أمرك- و لم أجد عليك إلا مثل ما أجد منك عليه- و لا رأيت منه لك إلا مثل ما أجد منك له- و لست تؤتى من قلة علم و لكن من قلة قبول- و مع هذا كله فالرأي الذي أودعك به- أن تمسك عنه لسانك و يدك و همزك و غمزك- فإنه لا يبدؤك ما لم تبدأه و لا يجيبك عما لم يبلغه- و أنت المتجني و هو المتأني و أنت العائب و هو الصامت- فإن قلت كيف هذا و قد جلس مجلسا أنا به أحق- فقد قاربت و لكن ذاك بما كسبت يداك- و نكص عنه عقباك لأنك بالأمس الأدنى- هرولت إليهم تظن أنهم يحلون جيدك- و يختمون إصبعك و يطئون عقبك- و يرون الرشد بك و يقولون لا بد لنا منك- و لا معدل لنا عنك- و كان هذا من هفواتك الكبر- و هناتك التي ليس لك منها عذر- و الآن بعد ما ثللت عرشك بيدك- و نبذت رأي عمك في البيداء يتدهده في السافياء- خذ بأحزم مما يتوضح به وجه الأمر- لا تشار هذا الرجل و لا تماره- و لا يبلغنه عنك ما يحنقه عليك- فإنه إن كاشفك أصاب أنصارا- و إن كاشفته لم تر إلا ضرارا- و لم تستلج إلا عثارا- و اعرف من هو بالشام له- و من هاهنا حوله من يطيع أمره و يمتثل قوله لا تغترر بناس يطيفون بك-

و يدعون الحنو عليك و الحب لك- فإنهم بين مولى جاهل و صاحب متمن- و جليس يرعى العين و يبتدر المحضر- و لو ظن الناس بك ما تظن بنفسك- لكان الأمر لك و الزمام في يدك- و لكن هذا حديث يوم مرض رسول الله ص فات- ثم حرم الكلام فيه حين مات- فعليك الآن بالعزوف عن شي‏ء عرضك له رسول الله ص فلم يتم- و تصديت له مرة بعد مرة فلم يستقم- و من ساور الدهر غلب و من حرص على ممنوع تعب- فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك- و بعثته على متابعتك و أوجرته محبتك- و وجدت عنده من ذلك ظني به لك- لا توتر قوسك إلا بعد الثقة بها- و إذا أعجبتك فانظر إلى سيتها- ثم لا تفوق إلا بعد العلم- و لا تغرق في النزع إلا لتصيب الرمية-

و انظر لا تطرف يمينك عينك و لا تجن شمالك شينك- ودعني بآيات من آخر سورة الكهف و قم إذا بدا لك قلت الناس يستحسنون رأي العباس لعلي ع- في ألا يدخل في أصحاب الشورى- و أما أنا فإني أستحسنه إن قصد به معنى- و لا أستحسنه إن قصد به معنى آخر- و ذلك لأنه إن أجرى بهذا الرأي إلى ترفعه عليهم- و علو قدره عن أن يكون مماثلا لهم- أو أجرى به إلى زهده في الإمارة و رغبته عن الولاية- فكل هذا رأي حسن و صواب- و إن كان منزعه في ذلك- إلى أنك إن تركت الدخول معهم- و انفردت بنفسك في دارك- أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك- فإنهم يطلبونك و يضربون إليك آباط الإبل- حتى يولوك الخلافة- و هذا هو الظاهر من كلامه- فليس هذا الرأي عندي بمستحسن- لأنه لو فعل ذلك لولوا عثمان أو واحدا منهم غيره- و لم يكن عندهم من الرغبة فيه ع ما يبعثهم على طلبه- بل كان تأخره عنهم قرة أعينهم و واقعا بإيثارهم- فإن قريشا كلها كانت تبغضه أشد البغض- و لو عمر عمر نوح- و توصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل- كالزهد فيها تارة و المناشدة بفضائله تارة- و بما فعله في ابتداء الأمر- من إخراج زوجته و أطفاله ليلا إلى بيوت الأنصار- و بما اعتمده إذ ذاك من تخلفه في بيته- و إظهار أنه قد انعكف على جمع القرآن- و بسائر أنواع الحيل فيها- لم تحصل له إلا بتجريد السيف- كما فعل في آخر الأمر و لست ألوم العرب- لا سيما قريشا في بغضها له و انحرافها عنه- فإنه وترها و سفك دماءها- و كشف القناع في منابذتها- و نفوس العرب و أكبادهم كما تعلم-و ليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس- كما نشاهده اليوم عيانا- و الناس كالناس الأول و الطبائع واحدة- فأحسب أنك كنت من سنتين أو ثلاث- جاهليا أو من بعض الروم-

و قد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت- أ كان إسلامك يذهب عنك- ما تجده من بغض ذلك القاتل و شنآنه- كلا إن ذلك لغير ذاهب- هذا إذا كان الإسلام صحيحا و العقيدة محققة- لا كإسلام كثير من العرب- فبعضهم تقليدا و بعضهم للطمع و الكسب- و بعضهم خوفا من السيف- و بعضهم على طريق الحمية و الانتصار- أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام و أعدائه- .

و اعلم أن كل دم أراقه رسول الله ص- بسيف علي ع و بسيف غيره- فإن العرب بعد وفاته ع- عصبت تلك الدماء بعلي بن أبي طالب ع وحده- لأنه لم يكن في رهطه- من يستحق في شرعهم و سنتهم و عادتهم- أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلي وحده- و هذه عادة العرب- إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل- فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته- طالبت بها أمثل الناس من أهله- . لما قتل قوم من بني تميم أخا لعمرو بن هند- قال بعض أعدائه يحرض عمرا عليهم-

من مبلغ عمرا بأن
المرء لم يخلق صباره‏

و حوادث الأيام لا
يبقى لها إلا الحجاره‏

ها إن عجزة أمه
بالسفح أسفل من أواره‏

تسفي الرياح خلال‏
كشحيه و قد سلبوا إزاره‏

فاقتل زرارة لا أرى
في القوم أمثل من زراره‏

فأمره أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم- و لم يكن قاتلا أخا الملك و لا حاضرا قتله- . و من نظر في أيام العرب- و وقائعها و مقاتلها عرف ما ذكرناه- . سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد رحمه الله- فقلت له إني لأعجب من علي ع- كيف بقي تلك المدة الطويلة بعد رسول الله ص- و كيف ما اغتيل و فتك به في جوف منزله- مع تلظي الأكباد عليه- . فقال لو لا أنه أرغم أنفه بالتراب- و وضع خده في حضيض الأرض لقتل- و لكنه أخمل نفسه- و اشتغل بالعبادة و الصلاة و النظر في القرآن- و خرج عن ذلك الزي الأول و ذلك الشعار- و نسي السيف و صار كالفاتك يتوب-

و يصير سائحا في الأرض أو راهبا في الجبال- و لما أطاع القوم الذين ولوا الأمر- و صار أذل لهم من الحذاء تركوه و سكتوا عنه- و لم تكن العرب لتقدم عليه- إلا بمواطاة من متولي الأمر و باطن في السر منه- فلما لم يكن لولاة الأمر باعث و داع إلى قتله- وقع الإمساك عنه- و لو لا ذلك لقتل ثم أجل بعد معقل حصين- . فقلت له أ حق ما يقال في حديث خالد- فقال إن قوما من العلوية يذكرون ذلك- .

ثم قال و قد روي أن رجلا جاء إلى زفر بن الهذيل- صاحب أبي حنيفة- فسأله عما يقول أبو حنيفة- في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم- نحو الكلام و الفعل الكثير أو الحدث- فقال إنه جائز قد قال أبو بكر في تشهده ما قال- فقال الرجل‏و ما الذي قاله أبو بكر- قال لا عليك- فأعاد عليه السؤال ثانية و ثالثة- فقال أخرجوه أخرجوه- قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي الخطاب- . قلت له فما الذي تقوله أنت- قال أنا أستبعد ذلك و إن روته الإمامية- .

ثم قال أما خالد فلا أستبعد منه الإقدام عليه- بشجاعته في نفسه و لبغضه إياه- و لكني أستبعده من أبي بكر فإنه كان ذا ورع- و لم يكن ليجمع بين أخذ الخلافة و منع فدك- و إغضاب فاطمة و قتل علي ع- حاش لله من ذلك- فقلت له أ كان خالد يقدر على قتله- قال نعم و لم لا يقدر على ذلك و السيف في عنقه- و علي أعزل غافل عما يراد به- قد قتله ابن ملجم غيلة و خالد أشجع من ابن ملجم- . فسألته عما ترويه الإمامية في ذلك كيف ألفاظه- فضحك و قال-
كم عالم بالشي‏ء و هو يسائل‏- . ثم قال دعنا من هذا- ما الذي تحفظ في هذا المعنى- قلت قول أبي الطيب-

نحن أدرى و قد سألنا بنجد
أ طويل طريقنا أم يطول‏

و كثير من السؤال اشتياق‏
و كثير من رده تعليل‏

فاستحسن ذلك و قال- لمن عجز البيت الذي استشهدت به- قلت لمحمد بن هانئ المغربي و أوله-

في كل يوم أستزيد تجاربا
كم عالم بالشي‏ء و هو يسائل‏

 فبارك علي مرارا ثم قال نترك الآن هذا- و نتمم ما كنا فيه- و كنت أقرأ عليه في ذلك الوقت- جمهرة النسب لابن الكلبي فعدنا إلى القراءة- و عدلنا عن الخوض عما كان اعترض الحديث فيه

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد) ج 13

خطبه 238 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(الثانی)

القول في إسلام أبي بكر و علي و خصائص كل منهما

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع- ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه- المعروف بكتاب العثمانية- في تفضيل إسلام أبي بكر على إسلام علي ع- لأن هذا الموضع يقتضيه- لقوله ع حكاية عن قريش لما صدق رسول الله ص- و هل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا- لأنهم استصغروا سنه- فاستحقروا أمر محمد رسول الله ص- حيث لم يصدقه في دعواه إلا غلام صغير السن- و شبهة العثمانية التي قررها الجاحظ- من هذه الشبهة نشأت و من هذه الكلمة تفرعت- لأن خلاصتها أن أبا بكر أسلم و هو ابن أربعين سنة- و علي أسلم و لم يبلغ الحلم- فكان إسلام أبي بكر أفضل- .

ثم نذكر ما اعترض به- شيخنا أبو جعفر الإسكافي على الجاحظ- في كتابه المعروف بنقض العثمانية- و يتشعب الكلام بينهما- حتى يخرج عن البحث في الإسلامين- إلى البحث في أفضلية الرجلين و خصائصهما- فإن ذلك لا يخلو عن فائدة جليلة- و نكتةلطيفة لا يليق أن يخلو كتابنا هذا عنها- و لأن كلامهما بالرسائل و الخطابة أشبه- و في الكتابة أقصد و أدخل- و كتابنا هذا موضوع لذكر ذلك و أمثاله- .

قال أبو عثمان قالت العثمانية- أفضل الأمة و أولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة- لإسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد في عصره- و ذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلاما- فقال قوم أبو بكر- و قال قوم زيد بن حارثة- و قال قوم خباب بن الأرت- .

و إذا تفقدنا أخبارهم- و أحصينا أحاديثهم و عددنا رجالهم- و نظرنا في صحة أسانيدهم- كان الخبر في تقدم إسلام أبي بكر- أعم و رجاله أكثر و أسانيده أصح- و هو بذاك أشهر و اللفظ فيه أظهر- مع الأشعار الصحيحة- و الأخبار المستفيضة في حياة رسول الله ص و بعد وفاته- و ليس بين الأشعار و الأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها- و أصل مخرجها التباعد و الاتفاق و التواطؤ- و لكن ندع هذا المذهب جانبا- و نضرب عنه صفحا اقتدارا على الحجة- و وثوقا بالفلج و القوة- و نقتصر على أدنى نازل في أبي بكر- و ننزل على حكم الخصم فنقول- إنا وجدنا من يزعم أنه أسلم قبل زيد و خباب- و وجدنا من يزعم أنهما أسلما قبله- و أوسط الأمور أعدلها و أقربها من محبة الجميع- و رضا المخالف أن نجعل إسلامهم كان معا- إذ الأخبار متكافئة و الآثار متساوية على ما تزعمون- و ليست إحدى القضيتين أولى- في صحة العقل من الأخرى- ثم نستدل على إمامه أبي بكر بما ورد فيه من الحديث- و بما أبانه به الرسول ص من غيره- . قالوا فمما روي من تقدم إسلامه- ما حدث به أبو داود و ابن مهدي عن شعبة- و ابن عيينة عن الجريري- عن أبي هريرة قال أبو بكر- أنا أحقكم بهذا الأمر يعني الخلافة- أ لست أول من صلى- .

روى عباد بن صهيب عن يحيى بن عمير- عن محمد بن المنكدر أن رسول الله ص قال إن الله بعثني بالهدى و دين الحق إلى الناس كافة- فقالوا كذبت و قال أبو بكر صدقت- . و روى يعلى بن عبيد قال جاء رجل إلى ابن عباس- فسأله من كان أول الناس إسلاما- فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت-

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

الثاني التالي المحمود مشهده‏
و أول الناس منهم صدق الرسلا

و قال أبو محجن

سبقت إلى الإسلام و الله شاهد
و كنت حبيبا بالعريش المشهر

و قال كعب بن مالك

سبقت أخا تيم إلى دين أحمد
و كنت لدى الغيران في الكهف صاحبا

و روى ابن أبي شيبة- عن عبد الله بن إدريس و وكيع- عن شعبة عن عمرو بن مرة قال- قال النخعي أبو بكر أول من أسلم- . وروى هيثم عن يعلى بن عطاء عن عمرو بن عنبسة قال أتيت النبي ص و هو بعكاظ- فقلت من بايعك على هذا الأمر- فقال بايعني حر و عبد- فلقد رأيتني يومئذ و أنا رابع الإسلام- .

قال بعض أصحاب الحديث- يعني بالحر أبا بكر و بالعبد بلالا- . وروى الليث بن سعد عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر عن أبي أمامه قال حدثني عمرو بن عنبسة أنه سأل النبي ص و هو بعكاظ- فقال له من تبعك قال تبعني حر و عبد- أبو بكر و بلالوروى عمرو بن إبراهيم الهاشمي عن عبد الملك بن عمير عن أسيد بن صفوان صاحب النبي ص قال لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب ع فقال- رحمك الله أبا بكر كنت أول الناس إسلاما- .

و روى عباد عن الحسن بن دينار- عن بشر بن أبي زينب عن عكرمة مولى ابن عباس- قال إذا لقيت الهاشميين قالوا- علي بن أبي طالب أول من أسلم- و إذا لقيت الذين يعلمون قالوا- أبو بكر أول من أسلم- . قال أبو عثمان الجاحظ قالت العثمانية- فإن قال قائل فما بالكم- لم تذكروا علي بن أبي طالب في هذه الطبقة- و قد تعلمون كثرة مقدميه و الرواية فيه- قلنا قد علمنا الرواية الصحيحة- و الشهادة القائمة أنه أسلم- و هو حدث غرير و طفل صغير- فلم نكذب الناقلين- و لم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغين- لأن المقلل زعم أنه أسلم و هو ابن خمس سنين- و المكثر زعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنين- فالقياس أن يؤخذ بالأوسط بين الروايتين- و بالأمر بين الأمرين و إنما يعرف حق ذلك من باطله- بأن نحصي سنيه التي ولي فيها الخلافة- و سني عمر و سني عثمان و سني أبي بكر- و مقام النبي ص بالمدينة- و مقامه بمكة عند إظهار الدعوة- فإذا فعلنا ذلك صح أنه أسلم و هو ابن سبع سنين- فالتاريخ المجمع عليه أنه قتل ع- في شهر رمضان سنة أربعين- .

قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي- لو لا ما غلب على الناس من الجهل و حب التقليد- لم نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانية- فقد علم الناس كافة أن الدولة و السلطان لأرباب مقالتهم- و عرف كل أحد علو أقدار شيوخهم- و علمائهم و أمرائهم و ظهور كلمتهم- و قهر سلطانهم و ارتفاع التقية عنهم و الكرامة- و الجائزة لمن روى الأخبار و الأحاديث- في فضل أبي بكر- و ما كان من تأكيد بني أمية لذلك- و ما ولده المحدثون من الأحاديث طلبا لما في أيديهم- فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا- أن يخملوا ذكر علي ع و ولده- و يطفئوا نورهم و يكتموا فضائلهم- و مناقبهم و سوابقهم- و يحملوا على شتمهم و سبهم و لعنهم على المنابر- فلم يزل السيف يقطر من دمائهم- مع قلة عددهم و كثرة عدوهم- فكانوا بين قتيل و أسير- و شريد و هارب و مستخف ذليل و خائف مترقب- حتى إن الفقيه و المحدث و القاضي و المتكلم- ليتقدم إليه و يتوعد- بغاية الإيعاد و أشد العقوبة- ألا يذكروا شيئا من فضائلهم- و لا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم- و حتى بلغ من تقية المحدث- أنه إذا ذكر حديثا عن علي ع كنى عن ذكره- فقال قال رجل من قريش- و فعل رجل من قريش- و لا يذكر عليا ع و لا يتفوه باسمه- .

ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله- و وجهوا الحيل و التأويلات نحوها- من خارجي مارق و ناصب حنق- و ثابت مستبهم و ناشئ معاند- و منافق مكذب و عثماني حسود- يعترض فيها و يطعن- و معتزلي قد نقض في الكلام و أبصر علم الاختلاف-و عرف الشبه و مواضع الطعن و ضروب التأويل- قد التمس الحيل في إبطال مناقبه و تأول مشهور فضائله- فمرة يتأولها بما لا يحتمل- و مرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض- و لا يزداد مع ذلك إلا قوة و رفعة و وضوحا و استنارة- و قد علمت أن معاوية و يزيد و من كان بعدهما- من بني مروان أيام ملكهم و ذلك نحو ثمانين سنة- لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه و لعنه- و إخفاء فضائله و ستر مناقبه و سوابقه روى خالد بن عبد الله الواسطي- عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف- عن عبد الله بن ظالم قال- لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة- خطباء يلعنون عليا ع- فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- أ لا ترون إلى هذا الرجل الظالم- يأمر بلعن رجل من أهل الجنة- .

روى سليمان بن داود عن شعبة- عن الحر بن الصباح قال سمعت عبد الرحمن بن الأخنس يقول- شهدت المغيرة بن شعبة خطب- فذكر عليا ع فنال منه- . روى أبو كريب قال حدثنا أبو أسامة- قال حدثنا صدقة بن المثنى النخعي- عن رياح بن الحارث قال- بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر- و عنده ناس إذ جاءه رجل يقال له- قيس بن علقمة فاستقبل المغيرة فسب عليا ع- .

روى محمد بن سعيد الأصفهاني عن شريك- عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن علي بن الحسين- عن أبيه علي بن الحسين ع قال قال لي مروان- ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم- قلت فما بالكم تسبونه على المنابر- قال إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك- . روى مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي- عن ابن أبي سيف قال خطب مروان و الحسن ع جالس- فنال من علي ع فقال الحسن- ويلك يا مروان أ هذا الذي تشتم شر الناس- قال لا و لكنه خير الناس- .

و روى أبو غسان أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز- كان أبي يخطب فلا يزال مستمرا في خطبته- حتى إذا صار إلى ذكر علي و سبه تقطع لسانه- و اصفر وجهه و تغيرت حاله- فقلت له في ذلك فقال أ و قد فطنت لذلك- إن هؤلاء لو يعلمون من علي ما يعلمه أبوك- ما تبعنا منهم رجل- . و روى أبو عثمان قال حدثنا أبو اليقظان- قال قام رجل من ولد عثمان- إلى هشام بن عبد الملك يوم عرفة- فقال إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب- . و روى عمرو بن الفناد عن محمد بن فضيل- عن أشعث بن سوار قال- سب عدي بن أرطاة عليا ع على المنبر- فبكى الحسن البصري و قال- لقد سب هذا اليوم رجل- إنه لأخو رسول الله ص في الدنيا و الآخرة- .

و روى عدي بن ثابت عن إسماعيل بن إبراهيم- قال كنت أنا و إبراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة- مما يلي أبواب كندة فخرج المغيرة فخطب- فحمد الله ثم ذكر ما شاء أن يذكر- ثم وقع في علي ع- فضرب إبراهيم على فخذي أو ركبتي- ثم قال أقبل علي- فحدثني فإنا لسنا في جمعة أ لا تسمع ما يقول هذا- .

و روى عبد الله بن عثمان الثقفي- قال حدثنا ابن أبي سيف قال- قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده- لا تذكر يا بني عليا إلا بخير- فإن بني أمية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة- فلم يزده الله بذلك إلا رفعة- إن الدنيا لم تبن شيئا قط- إلا رجعت على ما بنت فهدمته- و إن الدين لم يبن شيئا قط و هدمه- . و روى عثمان بن سعيد قال حدثنا مطلب بن زياد- عن أبي بكر بن عبد الله الأصبهاني قال- كان دعي لبني أمية يقال له خالد بن عبد الله- لا يزال يشتم عليا ع-فلما كان يوم جمعة و هو يخطب الناس- قال و الله إن كان رسول الله ليستعمله- و إنه ليعلم ما هو و لكنه كان ختنه- و قد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه- ثم قال ويحكم ما قال هذا الخبيث- رأيت القبر انصدع و رسول الله ص يقول- كذبت يا عدو الله- .

و روى القناد قال حدثنا أسباط بن نصر الهمداني- عن السدي قال بينما أنا بالمدينة عند أحجار الزيت- إذ أقبل راكب على بعير فوقف فسب عليا ع- فخف به الناس ينظرون إليه فبينما هو كذلك- إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فقال- اللهم إن كان سب عبدا لك صالحا فأر المسلمين خزيه- فما لبث أن نفر به بعيره فسقط فاندقت عنقه- . و روى عثمان بن أبي شيبة- عن عبد الله بن موسى عن فطر بن خليفة- عن أبي عبد الله الجدلي قال- دخلت على أم سلمة رحمها الله فقالت لي- أ يسب رسول الله ص فيكم و أنتم أحياء- قلت و أنى يكون هذا- قالت أ ليس يسب علي ع و من يحبه- .

و روى العباس بن بكار الضبي- قال حدثني أبو بكر الهذلي عن الزهري قال- قال ابن عباس لمعاوية أ لا تكف عن شتم هذا الرجل- قال ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير و يهرم فيه الكبير- فلما ولي عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه- فقال الناس ترك السنة- . قال و قد روي عن ابن مسعود إما موقوفا عليه أو مرفوعا كيف أنتم إذا شملتكم فتنة- يربو عليها الصغير و يهرم فيها الكبير- يجري عليها الناس فيتخذونها سنة- فإذا غير منها شي‏ء قيل غيرت السنة- .

قال أبو جعفر و قد تعلمون- أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا- أو دينا لهوى فيحملون الناس على ذلك- حتى لا يعرفوا غيره- كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان- و ترك قراءة ابن مسعود و أبي بن كعب- و توعد على ذلك بدون ما صنع هو و جبابرة بني أمية- و طغاة مروان بولد علي ع و شيعته- و إنما كان سلطانه نحو عشرين سنة- فما مات الحجاج- حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان- و نشأ أبناؤهم و لا يعرفون غيرها- لإمساك الآباء عنها و كف المعلمين عن تعليمها- حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله و أبي ما عرفوها- و لظنوا بتأليفها الاستكراه و الاستهجان- لإلف العادة و طول الجهالة- لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة- و طالت عليهم أيام التسلط- و شاعت فيهم المخافة و شملتهم التقية- اتفقوا على التخاذل و التساكت- فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم- و تنقص من ضمائرهم و تنقض من مرائرهم- حتى تصير البدعة التي أحدثوها- غامرة للسنة التي كانوا يعرفونها- و لقد كان الحجاج و من ولاه- كعبد الملك و الوليد و من كان قبلهما و بعدهما- من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي ع و فضائله- و فضائل ولده و شيعته و إسقاط أقدارهم- أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله و أبي- لأن تلك القراءات لا تكون سببا لزوال ملكهم- و فساد أمرهم و انكشاف حالهم- و في اشتهار فضل علي ع و ولده- و إظهار محاسنهم بوارهم و تسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم- فحرصوا و اجتهدوا في إخفاء فضائله- و حملوا الناس على كتمانها و سترها- و أبى الله أن يزيد أمره و أمر ولده- إلا استنارة و إشراقا و حبهم إلا شغفا و شدة- و ذكرهم إلا انتشارا و كثرة- و حجتهم إلا وضوحا و قوة- و فضلهم إلا ظهورا و شأنهم إلا علوا- و أقدارهم إلا إعظاما- حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء- و بإماتتهم ذكرهم أحياء- و ما أرادوا به و بهم من الشر تحول خيرا- فانتهى إلينا من ذكر فضائله و خصائصه- و مزاياه و سوابقه ما لم يتقدمه السابقون- و لا ساواه فيه القاصدون و لا يلحقه الطالبون- و لو لا أنها كانت‏كالقبلة المنصوبة في الشهرة- و كالسنن المحفوظة في الكثرة- لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد- إذا كان الأمر كما وصفناه- .

قال فأما ما احتج به الجاحظ بإمامة أبي بكر- بكونه أول الناس إسلاما- فلو كان هذا احتجاجا صحيحا- لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة- و ما رأيناه صنع ذلك لأنه أخذ بيد عمر- و يد أبي عبيدة بن الجراح و قال للناس- قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين- فبايعوا منهما من شئتم- و لو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر- كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها- و لو كان احتجاجا صحيحا- لادعى واحد من الناس لأبي بكر الإمامة- في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الإسلام- و ما عرفنا أحدا ادعى له ذلك- على أن جمهور المحدثين لم يذكروا- أن أبا بكر أسلم إلا بعد عدة من الرجال- منهم علي بن أبي طالب و جعفر أخوه- و زيد بن حارثة و أبو ذر الغفاري- و عمرو بن عنبسة السلمي و خالد بن سعيد بن العاص- و خباب بن الأرت و إذا تأملنا الروايات الصحيحة- و الأسانيد القوية و الوثيقة- وجدناها كلها ناطقة بأن عليا ع أول من أسلم- .

فأما الرواية عن ابن عباس أن أبا بكر أولهم إسلاما- فقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك- بأكثر مما رووا و أشهر- فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد- عن أبي عوانة و سعيد بن عيسى- عن أبي داود الطيالسي عن عمرو بن ميمون- عن ابن عباس أنه قال- أول من صلى من الرجال علي ع- .

وروى الحسن البصري قال حدثنا عيسى بن راشد- عن أبي بصير عن عكرمة عن ابن عباس قال فرض الله تعالى الاستغفار لعلي ع في القرآن-على كل مسلم بقوله تعالى- رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ- فكل من أسلم بعد علي فهو يستغفر لعلي عوروى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال السباق ثلاثة سبق يوشع بن نون إلى موسى- و سبق صاحب يس إلى عيسى- و سبق علي بن أبي طالب إلى محمد عليه و عليهم السلام- . فهذا قول ابن عباس في سبق علي ع إلى الإسلام- و هو أثبت من حديث الشعبي و أشهر- على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك- من حديثأبي بكر الهذلي و داود بن أبي هند عن الشعبي قال قال رسول الله ص لعلي ع- هذا أول من آمن بي و صدقني و صلى معي- .

قال فأما الأخبار الواردة بسبقه إلى الإسلام- المذكورة في الكتب الصحاح و الأسانيد الموثوق بها- فمنها ما روى شريك بن عبد الله- عن سليمان بن المغيرة عن زيد بن وهب- عن عبد الله بن مسعود أنه قال- أول شي‏ء علمته من أمر رسول الله ص- أني قدمت مكة مع عمومة لي و ناس من قومي- و كان من أنفسنا شراء عطر- فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهينا إليه- و هو جالس إلى زمزم فبينا نحن عنده جلوسا- إذ أقبل رجل من باب الصفا و عليه ثوبان أبيضان- و له وفرة إلى أنصاف أذنيه جعدة- أشم أقنى أدعج العينين- كث اللحية براق الثنايا- أبيض تعلوه حمرة كأنه القمر ليلة البدر- و على يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه- تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها- حتى قصدوا نحو الحجر فاستلمه و استلمه الغلام- ثم استلمته المرأة ثم طاف بالبيت سبعا- و الغلام و المرأة يطوفان معه ثم استقبل الحجر-فقام و رفع يديه و كبر- و قام الغلام إلى جانبه و قامت المرأة خلفها- فرفعت يديها و كبرت فأطال القنوت- ثم ركع و ركع الغلام و المرأة- ثم رفع رأسه فأطال- و رفع الغلام و المرأة معه يصنعان مثل ما يصنع- فلما رأينا شيئا ننكره لا نعرفه بمكة- أقبلنا على العباس فقلنا يا أبا الفضل- إن هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم- قال أجل و الله قلنا فمن هذا-

قال هذا ابن أخي هذا محمد بن عبد الله- و هذا الغلام ابن أخي أيضا هذا علي بن أبي طالب- و هذه المرأة زوجة محمد هذه خديجة بنت خويلد- و الله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين- إلا هؤلاء الثلاثة و من حديث موسى بن داود عن خالد بن نافع- عن عفيف بن قيس الكندي- و قد رواه عن عفيف أيضا مالك بن إسماعيل النهدي- و الحسن بن عنبسة الوراق و إبراهيم بن محمد بن ميمونة- قالوا جميعا حدثنا سعيد بن جشم- عن أسد بن عبد الله البجلي عن يحيى بن عفيف بن قيس- عن أبيه قال كنت في الجاهلية عطارا- فقدمت مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب- فبينا أنا جالس عنده أنظر إلى الكعبة- و قد تحلقت الشمس في السماء- أقبل شاب كان في وجهه القمر- حتى رمى ببصره إلى السماء- فنظر إلى الشمس ساعة- ثم أقبل حتى دنا من الكعبة- فصف قدميه يصلي فخرج على أثره فتى- كأن وجهه صفيحة يمانية فقام عن يمينه- فجاءت امرأة متلففة في ثيابها فقامت خلفهما- فأهوى الشاب راكعا فركعا معه- ثم أهوى إلى الأرض ساجدا فسجدا معه- فقلت للعباس يا أبا الفضل أمر عظيم- فقال أمر و الله عظيم أ تدري من هذا الشاب-

قلت لا قال هذا ابن أخي- هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- أ تدري من هذا الفتى قلت لا قال- هذا ابن أخي علي بن أبي طالب بن عبد المطلب- أ تدري من المرأة قلت لا- قال هذه ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى- هذه خديجة زوج محمد هذا- و إن محمدا هذا يذكر أن إلهه إله السماء و الأرض- و أمره بهذا الدين فهو عليه كما ترى‏و يزعم أنه نبي- و قد صدقه على قوله علي ابن عمه هذا الفتى- و زوجته خديجة هذه المرأة- و الله ما أعلم على وجه الأرض كلها- أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة- قال عفيف فقلت له- فما تقولون أنتم- قال ننتظر الشيخ ما يصنع يعني أبا طالب أخاه- .

وروى عبد الله بن موسى و الفضل بن دكين و الحسن بن عطية قالوا حدثنا خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار قال كنت أوصى النبي ص فقال لي- هل لك أن نعود فاطمة قلت نعم يا رسول الله- فقام يمشي متوكئا علي و قال- أما إنه سيحمل ثقلها غيرك و يكون أجرها لك- قال فو الله كأنه لم يكن علي من ثقل النبي ص شي‏ء- فدخلنا على فاطمة ع- فقال لها ص كيف تجدينك- قالت لقد طال أسفي و اشتد حزني- و قال لي النساء زوجك أبوك فقيرا لا مال له- فقال لها أ ما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما- و أكثرهم علما و أفضلهم حلما- قالت بلى رضيت يا رسول الله: و قد روى هذا الخبر يحيى بن عبد الحميد و عبد السلام بن صالح عن قيس بن الربيع عن أبي أيوب الأنصاري بألفاظه أو نحوها- .

وروى عبد السلام بن صالح عن إسحاق الأزرق عن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله ص لما زوج فاطمة- دخل النساء عليها فقلن يا بنت رسول الله- خطبك فلان و فلان فردهم عنك- و زوجك فقيرا لا مال له- فلما دخل عليها أبوها ص رأى ذلك في وجهها- فسألها فذكرت له ذلك فقال يا فاطمة- إن الله أمرني فأنكحتك أقدمهم سلما- و أكثرهم علما و أعظمهم حلما- و ما زوجتك إلا بأمر من السماء- أ ما علمت أنه أخي في الدنيا و الآخرة وروى عثمان بن سعيد عن الحكم بن ظهير عن السدي أن أبا بكر و عمر خطبا فاطمة ع- فردهما رسول الله ص- و قال لم أومر بذلك- فخطبها علي ع فزوجه إياها- و قال لها زوجتك أقدم الأمة إسلاماو ذكر تمام الحديث- قال و قد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة- منهم أسماء بنت عميس و أم أيمن- و ابن عباس و جابر بن عبد الله- .

قال و قد روى محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أبي رافع قال أتيت أبا ذر بالربذة أودعه- فلما أردت الانصراف قال لي و لأناس معي- ستكون فتنة فاتقوا الله- و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه- فإني سمعت رسول الله ص يقول له- أنت أول من آمن بي- و أول من يصافحني يوم القيامة- و أنت الصديق الأكبر- و أنت الفاروق الذي يفرق بين الحق و الباطل- و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين- و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي- تقضي ديني و تنجز موعديقال و قدروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال سمعت علي بن أبي طالب يقول أنا عبد الله و أخو رسوله- و أنا الصديق الأكبر- لا يقولها غيري إلا كذاب- و لقد صليت قبل الناس سبع سنين- .

وروت معاذة بنت عبد الله العدوية قالت سمعت عليا ع يخطب على منبر البصرة و يقول- أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر- و أسلمت قبل أن يسلم- .

وروى حبة بن جوين العرني أنه سمع عليا ع يقول أنا أول رجل أسلم‏مع رسول الله صرواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين وروى عثمان بن سعيد الخراز عن علي بن حرار عن علي بن عامر عن أبي الحجاف عن حكيم مولى زاذان قال سمعت عليا ع يقول صليت قبل الناس سبع سنين- و كنا نسجد و لا نركع- و أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر- فقلت يا رسول الله ما هذا قال أمرت به وروى إسماعيل بن عمرو عن قيس بن الربيع عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله- قال صلى رسول الله ص يوم الإثنين- و صلى علي يوم الثلاثاء بعدهو في الرواية الأخرىعن أنس بن مالك استنبئ النبي ص يوم الإثنين- و أسلم علي يوم الثلاثاء بعدهوروى أبو رافع أن رسول الله ص- صلى أول صلاة صلاها غداة الإثنين- و صلت خديجة آخر نهار يومها ذلك- و صلى علي ع يوم الثلاثاء غدا ذلك اليوم- .

قال و قد روي بروايات مختلفة كثيرة متعددة- عن زيد بن أرقم و سلمان الفارسي و جابر بن عبد الله- و أنس بن مالك أن عليا ع- أول من أسلم و ذكر الروايات و الرجال بأسمائهم- وروى سلمة بن كهيل عن رجاله الذين ذكرهم أبو جعفر في الكتاب أن رسول الله- ص قال أولكم ورودا علي الحوض- أولكم إسلاما علي بن أبي طالبوروى ياسين بن محمد بن أيمن عن أبي حازم مولى ابن عباس عن ابن عباس‏قال سمعت عمر بن الخطاب و هو يقول كفوا عن علي بن أبي طالب فإني سمعت من رسول الله ص يقول فيه خصالا- لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب- كان أحب لي مما طلعت عليه الشمس- كنت ذات يوم و أبو بكر و عثمان و عبد الرحمن بن عوف- و أبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله ص نطلبه- فانتهينا إلى باب أم سلمة- فوجدنا عليا متكئا على نجاف الباب- فقلنا أردنا رسول الله ص- فقال هو في البيت رويدكم- فخرج رسول الله ص فسرنا حوله- فاتكأ على علي ع و ضرب بيده على منكبه- فقال أبشر يا علي بن أبي طالب إنك مخاصم- و إنك تخصم الناس بسبع لا يجاريك أحد في واحدة منهن- أنت أول الناس إسلاما و أعلمهم بأيام الله و ذكر الحديث- .

قال و قد روى أبو سعيد الخدري- عن النبي ص مثل هذا الحديث- . قالروى أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله ص أنه قال لقد صلت الملائكة علي و على علي ع سبع سنين- و ذلك أنه لم يصل معي رجل فيها غيرهقال أبو جعفر فأما ما رواه الجاحظ- منقوله ص إنما تبعني حر و عبد- فإنه لم يسم في هذا الحديث أبا بكر و بلالا- و كيف و أبو بكر لم يشتر بلالا إلا بعد ظهور الإسلام بمكة- فلما أظهر بلال إسلامه عذبه أمية بن خلف- و لم يكن ذلك حال إخفاء رسول الله ص الدعوة- و لا في ابتداء أمر الإسلام- .

و قد قيل إنه ع إنما عنى بالحر- علي بن أبي طالب و بالعبد زيد بن حارثة- . و روى ذلك محمد بن إسحاق- قال و قد روى إسماعيل بن نصر الصفار- عن محمد بن ذكوان عن الشعبي قال- قال الحجاج للحسن و عنده جماعة من التابعين- و ذكر علي بن أبي طالب ما تقول أنت يا حسن- فقال ما أقول هو أول من صلى إلى القبلة- و أجاب دعوة رسول الله ص- و إن لعلي منزلة من ربه و قرابة من رسوله- و قد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها أحد- فغضب الحجاج غضبا شديدا و قام عن سريره- فدخل بعض البيوت و أمر بصرفنا- . قال الشعبي و كنا جماعة- ما منا إلا من نال من علي ع مقاربة للحجاج- غير الحسن بن أبي الحسن رحمه الله- .

و روى محرز بن هشام عن إبراهيم بن سلمة- عن محمد بن عبيد الله قال- قال رجل للحسن ما لنا لا نراك تثني على علي و تقرظه- قال كيف و سيف الحجاج يقطر دما- إنه لأول من أسلم و حسبكم بذلك- . قال فهذه الأخبار- . و أما الأشعار المروية فمعروفة كثيرة منتشرة- فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث- بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبة بن أبي معيط-

و إن ولي الأمر بعد محمد
علي و في كل المواطن صاحبه‏

وصي رسول الله حقا و صنوه‏
و أول من صلى و من لان جانبه‏

و قال خزيمة بن ثابت في هذا-

وصي رسول الله من دون أهله
و فارسه مذ كان في سالف الزمن‏

و أول من صلى من الناس كلهم‏
سوى خيرة النسوان و الله ذو منن‏

و قال أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس- حين بويع أبو بكر-

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن‏

أ ليس أول من صلى لقبلتهم‏
و أعلم الناس بالأحكام و السنن‏

و قال أبو الأسود الدؤلي يهدد طلحة و الزبير-

و إن عليا لكم مصحر
يماثله الأسد الأسود

أما إنه أول العابدين‏
بمكة و الله لا يعبد

و قال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين-

هذا علي و ابن عم المصطفى
أول من أجابه فيما روى‏
هو الإمام لا يبالي من غوى‏

و قال زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي-

فحوطوا عليا و انصروه فإنه
وصي و في الإسلام أول أول‏

و إن تخذلوه و الحوادث جمة
فليس لكم عن أرضكم متحول‏

قال و الأشعار كالأخبار- إذا امتنع في مجي‏ء القبيلين التواطؤ و الاتفاق- كان ورودهما حجة فأما قول الجاحظ- فأوسط الأمور أن نجعل إسلامهما معا- فقد أبطل بهذا ما احتج به لإمامة أبي بكر- لأنه احتج بالسبق و قد عدل الآن عنه- . قال أبو جعفر و يقال لهم- لسنا نحتاج من ذكر سبق علي ع- إلا مجامعتكم إيانا على أنه أسلم قبل الناس- و دعواكم أنه أسلم و هو طفل دعوى غير مقبولة لا بحجة- .

فإن قلتم و دعوتكم أنه أسلم- و هو بالغ دعوى غير مقبولة إلا بحجة-قلنا قد ثبت إسلامه بحكم إقراركم- و لو كان طفلا لكان في الحقيقة غير مسلم- لأن اسم الإيمان و الإسلام و الكفر- و الطاعة و المعصية إنما يقع على البالغين- دون الأطفال و المجانين- و إذا أطلقتم و أطلقنا اسم الإسلام- فالأصل في الإطلاق الحقيقة- كيف وقد قال النبي ص أنت أول من آمن بي- و أنت أول من صدقنيوقال لفاطمة زوجتك أقدمهم سلما أو قال إسلاما- فإن قالوا إنما دعاه النبي ص- إلى الإسلام على جهة العرض لا التكليف- . قلنا قد وافقتمونا على الدعاء- و حكم الدعاء حكم الأمر و التكليف- ثم ادعيتم أن ذلك كان على وجه العرض- و ليس لكم أن تقبلوا معنى الدعاء عن وجهه إلا لحجة- .

فإن قالوا لعله كان على وجه التأديب و التعليم- كما يعتمد مثل ذلك مع الأطفال- قلنا إن ذلك إنما يكون إذا تمكن الإسلام بأهله- أو عند النشوء عليه و الولادة فيه- فأما في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك- لا سيما إذا كان الإسلام غير معروف و لا معتاد بينهم- على أنه ليس من سنة النبي ص- دعاء أطفال المشركين إلى الإسلام- و التفريق بينهم و بين آبائهم قبل أن يبلغوا الحلم- .

و أيضا فمن شأن الطفل اتباع أهله و تقليد أبيه- و المضي على منشئه و مولده- و قد كانت منزلة النبي ص حينئذ- منزلة ضيق و شدة و وحدة- و هذه منازل لا ينتقل إليها- إلا من ثبت الإسلام عنده بحجة- و دخل اليقين قلبه بعلم و معرفة- . فإن قالوا إن عليا ع- كان يألف النبي ص فوافقه على طريق المساعدة له- قلنا إنه و إن كان يألفه- أكثر من أبويه و إخوته و عمومته و أهل بيته- و لم يكن الإلف ليخرجه عما نشأ عليه- و لم يكن الإسلام مما غذي به و كرر على سمعه-لأن الإسلام هو خلع الأنداد- و البراءة ممن أشرك بالله- و هذا لا يجتمع في اعتقاد طفل- .

و من العجب قول العباس لعفيف بن قيس- ننتظر الشيخ و ما يصنع- فإذا كان العباس و حمزة ينتظران أبا طالب- و يصدران عن رأيه فكيف يخالفه ابنه- و يؤثر القلة على الكثرة- و يفارق المحبوب إلى المكروه و العز إلى الذل- و الأمن إلى الخوف- عن غير معرفة و لا علم بما فيه- . فأما قوله إن المقلل يزعم- أنه أسلم و هو ابن خمس سنين- و المكثر يزعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنين- فأول ما يقال في ذلك- إن الأخبار جاءت في سنه ع يوم أسلم- على خمسة أقسام فجعلناه في قسمين- القسم الأول الذين قالوا- أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة- حدثنا بذلك أحمد بن سعيد الأسدي- عن إسحاق بن بشر القرشي- عن الأوزاعي عن حمزة بن حبيب- عن شداد بن أوس قال- سألت خباب بن الأرت عن إسلام علي- فقال أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة- و لقد رأيته يصلي قبل الناس مع النبي ص- و هو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ- و روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن- أن أول من أسلم علي بن أبي طالب- و هو ابن خمس عشرة سنة- . القسم الثاني الذين قالوا- إنه أسلم و هو ابن أربع عشرة سنة- رواه أبو قتادة الحراني عن أبي حازم الأعرج- عن حذيفة بن اليمان قال- كنا نعبد الحجارة و نشرب الخمر- و علي من أبناء أربع عشرة سنة- قائم يصلي مع النبي ص ليلا و نهارا- و قريش يومئذ تسافه رسول الله ص- ما يذب عنه إلا علي‏ع- و روى ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد قال- أسلم علي و هو ابن أربع عشرة سنة- . القسم الثالث الذين قالوا- أسلم و هو ابن إحدى عشرة سنة-رواه إسماعيل بن عبد الله الرقي عن محمد بن عمر عن عبد الله بن سمعان- عن جعفر بن محمد ع عن أبيه عن محمد بن علي ع أن عليا حين أسلم كان ابن إحدى عشرة سنةوروى عبد الله بن زياد المدني عن محمد بن علي الباقر ع قال أول من آمن بالله علي بن أبي طالب- و هو ابن إحدى عشرة سنة- و هاجر إلى المدينة و هو ابن أربعة و عشرين سنة- .

القسم الرابع الذين قالوا- إنه أسلم و هو ابن عشر سنين- رواه نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق- قال أول ذكر آمن و صدق بالنبوة علي بن أبي طالب ع- و هو ابن عشر سنين- ثم أسلم زيد بن حارثة- ثم أسلم أبو بكر و هو ابن ست و ثلاثين سنة فيما بلغنا- . القسم الخامس الذين قالوا- إنه أسلم و هو ابن تسع سنين- رواه الحسن بن عنبسة الوراق عن سليم مولى الشعبي- عن الشعبي قال أول من أسلم من الرجال- علي بن أبي طالب و هو ابن تسع سنين- و كان له يوم قبض رسول الله ص تسع و عشرون سنة- .

قال شيخنا أبو جعفر فهذه الأخبار كما تراها- فإما أن يكون الجاحظ جهلها أو قصد العناد- . فأما قوله فالقياس أن نأخذ- بأوسط الأمرين من الروايتين- فنقول إنه أسلم و هو ابن سبع سنين- فإن هذا تحكم منه- و يلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرةدراهم- فأنكر ذلك و قال- إنما يستحق قبلي أربعة دراهم- فينبغي أن نأخذ الأمر المتوسط و يلزمه سبعة دراهم- و يلزمه في أبي بكر حيث قال قوم كان كافرا- و قال قوم كان إماما عادلا أن نقول- أعدل الأقاويل أوسطها و هو منزلة بين المنزلتين- فنقول كان فاسقا ظالما- و كذلك في جميع الأمور المختلف فيها- . فأما قوله و إنما يعرف حق ذلك من باطله- بأن نحصي سني ولاية عثمان و عمر- و أبي بكر و سني الهجرة- و مقام النبي ص بمكة بعد الرسالة إلى أن هاجر- فيقال له لو كانت الروايات متفقة- على هذه التاريخات لكان لهذا القول مساغ- و لكن الناس قد اختلفوا في ذلك- فقيل إن رسول الله ص أقام بمكة- بعد الرسالة خمس عشرة سنة- رواه ابن عباس و قيل ثلاث عشرة سنة- و روي عن ابن عباس أيضا و أكثر الناس يرونه- و قيل عشر سنين رواه عرة بن الزبير- و هو قول الحسن البصري و سعيد بن المسيب- و اختلفوا في سن رسول الله ص فقال قوم- كان ابن خمس و ستين- و قيل كان ابن ثلاث و ستين- و قيل كان ابن ستين- و اختلفوا في سن علي ع- فقيل كان ابن سبع و ستين- و قيل كان ابن خمس و ستين- و قيل ابن ثلاث و ستين و قيل ابن ستين- و قيل ابن تسع و خمسين- .

فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال- و إنما الواجب أن يرجع إلى إطلاق قولهم أسلم علي- فإن هذا الاسم لا يكون مطلقا إلا على البالغ- كما لا يطلق اسم الكافر إلا على البالغ- على أن ابن إحدى عشرة سنة يكون بالغا- و يولد له الأولاد- فقد روت الرواة أن عمرو بن العاص- لم يكن أسن من ابنه عبد الله‏إلا باثنتي عشرة سنة- و هذا يوجب أنه احتلم و بلغ- في أقل من إحدى عشرة سنة- .

و روي أيضا أن محمد بن عبد الله بن العباس- كان أصغر من أبيه علي بن عبد الله بن العباس- بإحدى عشرة سنة- فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس- حين مات رسول الله ص غير مسلم على الحقيقة- و لا مثاب و لا مطيع بالإسلام- لأنه كان يومئذ ابن عشر سنين- رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- قال توفي رسول الله ص و أنا ابن عشر سنين- . قال الجاحظ فإن قالوا- فلعله و هو ابن سبع سنين أو ثماني سنين- قد بلغ من فطنته و ذكائه- و صحة لبه و صدق حدسه- و انكشاف العواقب له- و إن لم يكن جرب الأمور و لا فاتح الرجال- و لا نازع الخصوم- ما يعرف به جميع ما يحب على البالغ معرفته و الإقرار به- قيل لهم إنما نتكلم على ظواهر الأحوال- و ما شاهدنا عليه طبائع الأطفال- فإنا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان- ما لم يعلم باطن أمره و خاصة طبعه حكم الأطفال- و ليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه- و الذي نعرف من حال أفناء جنسه بلعل و عسى- لأنا و إن كنا لا ندري- لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة- فلعله قد كان ذا نقص فيها- .

هذا على تجويز أن يكون علي ع في الغيب- قد أسلم و هو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ- غير أن الحكم على مجرى أمثاله و أشكاله- الذين أسلموا و هم في مثل سنه- إذ كان إسلام هؤلاء عن تربية الحاضن- و تلقين القيم و رياضة السائس- .

فأما عند التحقيق فإنه لا تجويز لمثل ذلك- لأنه لو كان أسلم و هو ابن سبع‏أو ثمان- و عرف فضل ما بين الأنبياء و الكهنة- و فرق ما بين الرسل و السحرة- و فرق ما بين خبر النبي و المنجم- و حتى عرف كيد الأريب و موضع الحجة- و بعد غور المتنبئ كيف يلبس على العقلاء- و تستمال عقول الدهماء- و عرف الممكن في الطبع من الممتنع- و ما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب- و عرف قدر القوى و غاية الحيلة- و منتهى التمويه و الخديعة- و ما لا يحتمل أن يحدثه إلا الخالق سبحانه- و ما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز- و كيف التحفظ من الهوى و الاحتراس من الخداع- لكان كونه على هذه الحال و هذه مع فرط الصبا و الحداثة- و قلة التجارب و الممارسة خروجا من العادة- و من المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة- و ليس يصل أحد إلى معرفة نبي و كذب متنبئ- حتى يجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها- و الأسباب التي وصفناها و فصلناها- و لو كان علي ع على هذه الصفة- و معه هذه الخاصية لكان حجة على العامة- و آية تدل على النبوة- و لم يكن الله عز و جل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة- إلا و هو يريد أن يحتج بها- و يجعلها قاطعة لعذر الشاهد و حجة على الغائب- و لو لا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا- أنه آتاه الحكم صبيا- و أنه أنطق عيسى في المهد- ما كانا في الحكم و لا في المغيب- إلا كسائر الرسل و ما عليه جميع البشر- فإذا لم ينطق لعلي ع بذلك قرآن- و لا جاء الخبر به مجي‏ء الحجة القاطعة- و المشاهدة القائمة- فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه- كطباع عميه حمزة و العباس- و هما أمس بمعدن جماع الخير منه- أو كطباع جعفر و عقيل من رجال قومه و سادة رهطه- و لو أن إنسانا ادعى مثل ذلك- لأخيه جعفر أو لعميه حمزة و العباس- ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه أجاب شيخنا أبو جعفر رحمه الله فقال- هذا كله مبني على أنه أسلم و هو ابن سبع أو ثمان-

و نحن قد بينا أنه أسلم بالغا ابن خمس عشرة سنة- أو ابن أربع عشرة سنة- علىأنا لو نزلنا على حكم الخصوم- و قلنا ما هو الأشهر و الأكثر من الرواية- و هو أنه أسلم و هو ابن عشر لم يلزم ما قاله الجاحظ- لأن ابن عشر قد يستجمع عقله- و يعلم من مبادئ المعارف- ما يستخرج به كثيرا من الأمور المعقولة- و متى كان الصبي عاقلا مميزا كان مكلفا بالعقليات- و إن كان تكليفه بالشرعيات- موقوفا على حد آخر و غاية أخرى- فليس بمنكر أن يكون علي ع- و هو ابن عشر قد عقل المعجزة- فلزمه الإقرار بالنبوة و أسلم إسلام عالم عارف- لا إسلام مقلد تابع- و إن كان ما نسقه الجاحظ و عدده- من معرفة السحر و النجوم- و الفصل بينهما و بين النبوة- و معرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز- و ما لا يحدثه إلا الخالق- و الفرق بينه و بين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة- و معرفة التمويه و الخديعة و التلبيس و المماكرة- شرطا في صحة الإسلام- لما صح إسلام أبي بكر و لا عمر و لا غيرهما من العرب-

و إنما التكليف لهؤلاء بالجمل- و مبادئ المعارف لا بدقائقها و الغامض منها- و ليس يفتقر الإسلام إلى أن يكون المسلم- قد فاتح الرجال و جرب الأمور و نازع الخصوم- و إنما يفتقر إلى صحة الغريزة- و كمال العقل و سلامة الفطرة- أ لا ترى أن طفلا لو نشأ في دار- لم يعاشر الناس بها و لا فاتح الرجال- و لا نازع الخصوم ثم كمل عقله- و حصلت العلوم البديهية عنده لكان مكلفا بالعقليات- .

فأما توهمه أن عليا ع أسلم عن تربية الحاضن- و تلقين القيم و رياضة السائس- فلعمري إن محمدا ص كان حاضنه و قيمه و سائسه- و لكن لم يكن منقطعا عن أبيه أبي طالب- و لا عن إخوته طالب و عقيل و جعفر- و لا عن عمومته و أهل بيته- و ما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم مع خدمته لمحمد ص- فما باله لم يمل إلى الشرك و عبادة الأصنام- لمخالطته إخوته و أباه و عمومته و أهله- و هم كثير و محمد ص واحد- و أنت تعلم أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة- و فيهم واحد يذهب إلى رأي مفرد- لا يوافقه عليه غيره منهم- فإنه إلى ذوي الكثرة أميل- و عن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد- و على أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام-

و إنما ولد في دار الشرك و ربي بين المشركين- و شاهد الأصنام و عاين بعينه أهله و رهطه يعبدونها- فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجال- و لقيل إنه ولد بين المسلمين- فإسلامه عن تلقين الظئر و عن سماع كلمة الإسلام- و مشاهدة شعاره لأنه لم يسمع غيره- و لا خطر بباله سواه فلما لم يكن ولد كذلك- ثبت أن إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه- و لو لا أنه كذلك لما مدحه رسول الله ص بذلك- و لا أرضى ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه- بقوله لها زوجتك أقدمهم سلما- و لا قرن إلى قوله- و أكثرهم علما و أعظمهم حلما- و الحلم العقل و هذان الأمران غاية الفضل- فلو لا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز- لما ضم إسلامه إلى العلم و الحلم- اللذين وصفه بهما- و كيف يجوز أن يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه- و لا معاقبا به لو تركه- و لو كان إسلامه عن تلقين و تربية- لما افتخر هو ع به على رءوس الأشهاد- و لا خطب على المنبر و هو بين عدو و محارب- و خاذل منافق فقال- أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر- و الفاروق الأعظم- صليت قبل الناس سبع سنين- و أسلمت قبل إسلام أبي بكر و آمنت قبل إيمانه- فهل بلغكم أن أحدا من أهل ذلك العصر- أنكر ذلك أو عابه أو ادعاه لغيره- أو قال له إنما كنت طفلا أسلمت على تربية محمد ص ذلك- و تلقينه إياك- كما يعلم الطفل الفارسية و التركية منذ يكون رضيعا- فلا فخر له في تعلم ذلك- و خصوصا في عصر قد حارب فيه- أهل البصرة و الشام و النهروان- و قد اعتورته الأعداء و هجته الشعراء- فقال فيه النعمان بن بشير-

لقد طلب الخلافة من بعيد
و سارع في الضلال أبو تراب‏

معاوية الإمام و أنت منها
على وتح بمنقطع السراب‏

و قال فيه أيضا بعض الخوارج-

دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم
جزاء إذا ما جاء نفسا كتابها

أبا حسن خذها على الرأس ضربة
بكف كريم بعد موت ثوابها

و قال عمران بن حطان يمدح قاتله-

يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره حينا فأحسبه‏
أوفى البرية عند الله ميزانا

فلو وجد هؤلاء سبيلا إلى دحض حجة- فيما كان يفخر به من تقدم إسلامه- لبدءوا بذلك و تركوا ما لا معنى له- . و قد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الإسلام- فكيف لم يرد على هؤلاء الذين مدحوه بالسبق- شاعر واحد من أهل حربه- و لقد قال في أمهات الأولاد- قولا خالف فيه عمر فذكروه بذلك و عابوه- فكيف تركوا أن يعيبوه- بما كان يفتخر به مما لا فخر فيه عندهم- و عابوه بقوله في أمهات الأولاد- .

ثم يقال له خبرنا عن عبد الله بن عمر- و قد أجازه النبي ص يوم الخندق- و لم يجزه يوم أحد- هل كان يميز ما ذكرته- و هل كان يعلم فرق ما بين النبي و المتنبئ- و يفصل بين السحر و المعجزة- إلى غيره مما عددت و فصلت- . فإن قال نعم و تجاسر على ذلك- قيل له فعلي ع بذلك أولى من ابن عمر- لأنه أذكى و أفطن بلا خلاف بين العقلاء- و أنى يشك في ذلك- و قد رويتم أنه‏ لم يميز بين الميزان و العود- بعد طول السن و كثرة التجارب- و لم يميز أيضا بين إمام الرشد و إمام الغي- فإنه امتنع من بيعة علي ع- و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك- كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام زعم- لأنه روي عن النبي ص أنه قال- من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية- و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله- أن أخرج رجله من الفراش فقال- أصفق بيدك عليها- فذلك تمييزه بين الميزان و العود- و هذا اختياره في الأئمة- و حال علي ع في ذكائه و فطنته- و توقد حسه و صدق حدسه- معلومة مشهورة- فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر- و يقال عنه إنه عرف تلك الأمور- التي سردها الجاحظ و نسقها- و أظهر فصاحته و تشدقه فيها- فعلي بمعرفة ذلك أحق و بصحة إسلامه أولى- .

و إن قال لم يكن ابن عمر يعلم و يعرف ذلك- فقد أبطل إسلامه و طعن في رسول الله ص- حيث حكم بصحة إسلامه و أجازه يوم الخندق- لأنه ع كان قال لا أجيز إلا البالغ العاقل- و لذلك لم يجزه يوم أحد- . ثم يقال له إن ما نقوله في بلوغ علي ع- الحد الذي يحسن فيه التكليف العقلي بل يجب- و هو ابن عشر سنين- ليس بأعجب من مجي‏ء الولد لستة أشهر- و قد صحح ذلك أهل العلم و استنبطوه من الكتاب- و إن كان خارجا من التعارف و التجارب و العادة- و كذلك مجي‏ء الولد لسنتين- خارج أيضا عن التعارف و العادة- و قد صححه الفقهاء و الناس- .

و يروى أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل- تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنيتاه- فقال أبوه ابني و رب الكعبة- فثبت ذلك سنة يعمل بها الفقهاء- و قد وجدنا العادة تقضي- بأن الجارية تحيض لاثنتي عشرة سنة- و أنه أقل سن تحيض فيه المرأة- و قديكون في الأقل نساء يحضن لعشر و لتسع- و قد ذكر ذلك الفقهاء و قد قال الشافعي في اللعان- لو جاءت المرأة بحمل و زوجها صبي- له دون عشر سنين لم يكن ولدا له- لأن من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له- و إن كان له عشر سنين جاز أن يكون الولد له- و كان بينهما لعان إذا لم يقر به- .

و قال الفقهاء أيضا إن نساء تهامة- يحضن لتسع سنين لشدة الحر ببلادهن- . قال الجاحظ و لو لم يعرف باطل هذه الدعوى- من آثر التقوى و تحفظ من الهوى- إلا بترك علي ع ذكر ذلك لنفسه- و الاحتجاج به على خصمه- و قد نازع الرجال و ناوى الأكفاء- و جامع أهل الشورى لكان كافيا- و متى لم تصح لعلي ع هذه الدعوى في أيامه- و لم يذكرها أهل عصره- فهي عن ولده أعجز و منهم أضعف- .

و لم ينقل أن عليا ع احتج بذلك في موقف- و لا ذكره في مجلس و لا قام به خطيبا- و لا أدلى به واثقا- لا سيما و قد رضيه الرسول ص عندكم مفزعا و معلما- و جعله للناس إماما- و لا ادعى له أحد ذلك في عصره- كما لم يدعه لنفسه حتى يقول إنسان واحد- الدليل على إمامته أن النبي ص دعاه إلى الإسلام- أو كلفه التصديق قبل بلوغه- ليكون ذلك آية للناس في عصره- و حجة له و لولده من بعده- فهذا كان أشد على طلحة و الزبير و عائشة- من كل ما ادعاه من فضائله و سوابقه و ذكر قرابته- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- إن مثل الجاحظ مع فضله و علمه- لا يخفى عليه كذب‏ هذه الدعوى و فسادها- و لكنه يقول ما يقوله تعصبا و عنادا- و قد روى الناس كافة افتخار علي ع بالسبق إلى الإسلام- و أن النبي ص استنبئ يوم الإثنين- و أسلم علي يوم الثلاثاء- و أنه كان يقول صليت قبل الناس سبع سنين- و أنه ما زال يقول أنا أول من أسلم- و يفتخر بذلك و يفتخر له به أولياؤه- و مادحوه و شيعته في عصره و بعد وفاته- و الأمر في ذلك أشهر من كل شهير- و قد قدمنا منه طرفا- و ما علمنا أحدا من الناس فيما خلا- استخف بإسلام علي ع و لا تهاون به- و لا زعم أنه أسلم إسلام حدث غرير و طفل صغير- و من العجب أن يكون مثل العباس و حمزة- ينتظران أبا طالب و فعله ليصدرا عن رأيه- ثم يخالفه علي ابنه لغير رغبة و لا رهبة- يؤثر القلة على الكثرة و الذل على العزة- من غير علم و لا معرفة بالعاقبة و كيف ينكر الجاحظ و العثمانية- أن رسول الله ص دعاه إلى الإسلام و كلفه التصديق- .

و قد روي في الخبر الصحيح- أنه كلفه في مبدإ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام- و انتشارها بمكة أن يصنع له طعاما- و أن يدعو له بني عبد المطلب- فصنع له الطعام- و دعاهم له فخرجوا ذلك اليوم- و لم ينذرهم ص لكلمة قالها عمه أبو لهب- فكلفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام- و أن يدعوهم ثانية فصنعه و دعاهم فأكلوا- ثم كلمهم ص فدعاهم إلى الدين- و دعاه معهم لأنه من بني عبد المطلب- ثم ضمن لمن يوازره منهم و ينصره على قوله- أن يجعله أخاه في الدين- و وصيه بعد موته و خليفته من بعده- فأمسكوا كلهم و أجابه هو وحده و قال- أنا أنصرك على ما جئت به و أوازرك و أبايعك- فقال لهم لما رأى منهم الخذلان و منه النصر- و شاهد منهم المعصية و منه الطاعة- و عاين منهم الإباء و منه الإجابة- هذا أخي و وصيي و خليفتي من بعدي- فقاموا يسخرون و يضحكون- و يقولون لأبي طالب أطع ابنك فقد أمره عليك- فهل يكلف عمل‏الطعام و دعاء القوم- صغير مميز و غر غير عاقل- و هل يؤتمن على سر النبوة طفل ابن خمس سنين أو ابن سبع- و هل يدعى في جملة الشيوخ و الكهول إلا عاقل لبيب- و هل يضع رسول الله ص يده في يده- و يعطيه صفقة يمينه بالأخوة و الوصية و الخلافة- إلا و هو أهل لذلك بالغ حد التكليف- محتمل لولاية الله و عداوة أعدائه- و ما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه- و لم يلصق بأشكاله- و لم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه- و هو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته- .

و كيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته- فيقال دعاه داعي الصبا و خاطر من خواطر الدنيا- و حملته الغرة و الحداثة- على حضور لهوهم و الدخول في حالهم- بل ما رأيناه إلا ماضيا على إسلامه- مصمما في أمره محققا لقوله بفعله- قد صدق إسلامه بعفافه و زهده- و لصق برسول الله ص من بين جميع من بحضرته- فهو أمينه و أليفه في دنياه و آخرته- و قد قهر شهوته و جاذب خواطره- صابرا على ذلك نفسه- لما يرجو من فوز العاقبة و ثواب الآخرة- و قد ذكر هو ع في كلامه و خطبه- بدء حاله و افتتاح أمره- حيث أسلم لما دعا رسول الله ص الشجرة- فأقبلت تخد الأرض فقالت قريش- ساحر خفيف السحر فقال علي ع يا رسول الله- أنا أول من يؤمن بك آمنت بالله و رسوله- و صدقتك فيما جئت به- و أنا أشهد أن الشجرة فعلت ما فعلت- بأمر الله تصديقا لنبوتك- و برهانا على صحة دعوتك- فهل يكون إيمان قط أصح من هذا الإيمان- و أوثق عقدة و أحكم مرة- و لكن حنق العثمانية و غيظهم- و عصبية الجاحظ و انحرافه مما لا حيلة فيه- ثم لينظر المنصف و ليدع الهوى جانبا- ليعلم نعمة الله على علي ع بالإسلام- حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه-

فإنه لو لا الألطاف التي خص بها- و الهداية التي منحها- لما كان إلا كبعض أقارب محمد ص و أهله- فقد كان ممازجا له كممازجته- و مخالطا له كمخالطة كثير من أهله و رهطه- و لم يستجب منهم‏أحد له إلا بعد حين- و منهم من لم يستجب له أصلا- فإن جعفرا ع كان ملتصقا به- و لم يسلم حينئذ- و كان عتبة بن أبي لهب ابن عمه- و صهره زوج ابنته و لم يصدقه- بل كان شديدا عليه- و كان لخديجة بنون من غيره- و لم يسلموا حينئذ و هم ربائبه و معه في دار واحدة- و كان أبو طالب أباه في الحقيقة- و كافله و ناصره و المحامي عنه- و من لولاه لم تقم له قائمة- و مع ذلك لم يسلم في أغلب الروايات- و كان العباس عمه و صنو أبيه- و كالقرين له في الولادة و المنشإ و التربية- و لم يستجب له إلا بعد حين طويل- و كان أبو لهب عمه و كدمه و لحمه- و لم يسلم و كان شديدا عليه- فكيف ينسب إسلام علي ع إلى الإلف و التربية- و القرابة و اللحمة و التلقين و الحضانة- و الدار الجامعة و طول العشرة و الأنس و الخلوة- و قد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء أو لكثير منهم- و لم يهتد أحد منهم إذ ذاك- بل كانوا بين من جحد و كفر- و مات على كفره و من أبطأ و تأخر- و سبق بالإسلام و جاء سكيتا و قد فاز بالمنزلة غيره- .

و هل يدل تأمل حال علي ع مع الإنصاف إلا على أنه أسلم- لأنه شاهد الأعلام و رأى المعجزات- و شم ريح النبوة و رأى نور الرسالة- و ثبت اليقين في قلبه بمعرفة- و علم و نظر صحيح لا بتقليد و لا حمية- و لا رغبة و لا رهبة إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة- . قال الجاحظ فلو أن عليا ع كان بالغا حيث أسلم- لكان إسلام أبي بكر و زيد بن حارثة- و خباب بن الأرت أفضل من إسلامه- لأن إسلام المقتضب الذي لم يعتد به و لم يعوده- و لم يمرن عليه أفضل من إسلام الناشئ الذي ربي فيه- و نشأ و حبب‏إليه- و ذلك لأن صاحب التربية يبلغ حيث يبلغ- و قد أسقط إلفه عنه مؤنة الروية و الخاطر- و كفاه علاج القلب و اضطراب النفس- و زيد و خباب و أبو بكر يعانون من كلفة النظر- و مؤنة التأمل و مشقة الانتقال- من الدين الذي قد طال إلفهم له ما هو غير خاف- و لو كان علي حيث أسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا- كان إسلامهم أفضل من إسلامه- لأن من أسلم و هو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب- و ردءا كبني هاشم و موضعا في بني عبد المطلب- ليس كالحليف و المولى و التابع و العسيف- و كالرجل من عرض قريش- أ و لست تعلم أن قريشا خاصة و أهل مكة عامة- لم يقدروا على أذى النبي ص- ما كان أبو طالب حيا- و أيضا فإن أولئك اجتمع عليهم مع فراق الإلف مشقة الخواطر- و علي ع كان بحضرة رسول الله ص- يشاهد الأعلام في كل وقت- و يحضر منزل الوحي- فالبراهين له أشد انكشافا- و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا- و على قدر الكلفة و المشقة يعظم الفضل و يكثر الأجر- .

قال أبو جعفر رحمه الله- ينبغي أن ينظر أهل الإنصاف هذا الفصل- و يقفوا على قول الجاحظ و الأصم في نصرة العثمانية- و اجتهادهما في القصد إلى فضائل هذا الرجل و تهجينها- فمرة يبطلان معناها- و مرة يتوصلان إلى حط قدرها- فلينظر في كل باب اعترضا فيه- أين بلغت حيلتهما- و ما صنعا في احتيالهما في قصصهما و سجعهما- أ ليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا معنى- و أنها عليها شجى و بلاء- و إلا فما عسى أن تبلغ حيلة الحاسد و يغني كيد الكائد الشانئ- لمن قد جل قدره عن النقص و أضاءت فضائله إضاءة الشمس- و أين قول الجاحظ من دلائل السماء- و براهين الأنبياء- و قد علم‏الصغير و الكبير و العالم و الجاهل- ممن بلغه ذكر علي ع- و علم مبعث النبي ص- أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام- و لا غذي في حجر الإيمان-

و إنما استضافه رسول الله ص- إلى نفسه سنة القحط و المجاعة- و عمره يومئذ ثماني سنين- فمكث معه سبع سنين حتى أتاه جبرئيل بالرسالة- فدعاه و هو بالغ كامل العقل إلى الإسلام- فأسلم بعد مشاهدة المعجزة و بعد إعمال النظر و الفكرة- و إن كان قد ورد في كلامه- أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم- فإنما يعني ما بين الثمان و الخمس عشرة- و لم يكن حينئذ دعوة و لا رسالة و لا ادعاء نبوة-

و إنما كان رسول الله ص- يتعبد على ملة إبراهيم و دين الحنيفية- و يتحنث و يجانب الناس- و يعتزل و يطلب الخلوة و ينقطع في جبل حراء- و كان علي ع معه كالتابع و التلميذ- فلما بلغ الحلم- و جاءت النبي ص الملائكة و بشرته بالرسالة- دعاه فأجابه عن نظر و معرفة بالأعلام المعجزة- فكيف يقول الجاحظ إن إسلامه لم يكن مقتضبا- . و إن كان إسلامه ينقص عن إسلام غيره في الفضيلة- لما كان يمرن عليه من التعبد- مع رسول الله ص قبل الدعوة- لتكونن طاعة كثير من المكلفين- أفضل من طاعة رسول الله ص و أمثاله من المعصومين- لأن العصمة عند أهل العدل- لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح- فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعة عليه أسهل- فوجب أن يكون ثوابه أنقص- من ثواب من أطاع مع تلك الألطاف- .

و كيف يقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غيره- و قد جاء في الخبر أنه أسلم يوم الثلاثاء- و استنبئ النبي ص يوم الإثنين- فمن هذه حاله لم تكثر حجج الرسالة على سمعه- و لا تواترت أعلام النبوة على مشاهدته- و لا تطاول الوقت عليه لتخف محنته و يسقط ثقل تكليفه- بل بان فضله و ظهر حسن اختياره لنفسه- إذ أسلم في حال بلوغه و عانى نوازع طبعه- و لم يؤخر ذلك بعد سماعه- .

و قد غمر الجاحظ في كتابه هذا- أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكورا- و رئيسا معروفا- يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الأشعار- و يتذاكرون الأخبار و يشربون الخمر- و قد كان سمع دلائل النبوة و حجج الرسل- و سافر إلى البلدان و وصلت إليه الأخبار- و عرف دعوى الكهنة و حيل السحرة- و من كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر- و الإسلام عليه أسهل- و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا- و كل ذلك عون لأبي بكر على الإسلام و مسهل إليه سبيله- و لذلك لما قال النبي ص أتيت بيت المقدس-

سأله أبو بكر عن المسجد و مواضعه فصدقه و بان له أمره- و خفت مئونته لما تقدم من معرفته بالبيت- فخرج إذا إسلام أبي بكر على قول الجاحظ- من معنى المقتضب- و في ذلك رويتم عنه ص- أنه قال ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا و كان له تردد و نبوة- إلا ما كان من أبي بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة و الإسلام- فأين هذا و إسلام من خلي و عقله و ألجئ إلى نظره- مع صغر سنه و اعتلاج الخواطر على قلبه و نشأته- في ضد ما دخل فيه- و الغالب على أمثاله و أقرانه حب اللعب و اللهو- فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة- و لم يتأخر إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية- فقهر شهوته و غالب خواطره-

و خرج من عادته و ما كان غذي به- لصحة نظره و لطافة فكره و غامض فهمه- فعظم استنباطه و رجح فضله و شرف قدر إسلامه- و لم يأخذ من الدنيا بنصيب- و لا تنعم فيها بنعيم حدثا و لا كبيرا- و حمى نفسه عن الهوى و كسر شرة حداثته بالتقوى- و اشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا- و أشغل هم الآخرة قلبه و وجه إليه رغبته- فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره- و ما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء- ليعلم أن منزلته من النبي ص كمنزلة هارون من موسى- و أنه و إن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا- و لمنهاجهم متبعا- و كانت حاله كحال إبراهيم ع- فإن‏أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيرا- جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد- فلما نشأ و درج و عقل قال لأمه من ربي قالت أبوك- قال فمن رب أبي فزبرته و نهرته- إلى أن طلع من شق السرب- فرأى كوكبا فقال هذا ربي- فلما أفل قال لا أحب الآفلين- فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي- فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين- فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر- فلما أفلت قال يا قوم إني بري‏ء مما تشركون- إني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا- و ما أنا من المشركين- و في ذلك يقول الله جل ثناؤه- وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ و على هذا كان إسلام الصديق الأكبر ع- لسنا نقول إنه كان مساويا له في الفضيلة- و لكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله تعالى- إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ- وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ-

و أما اعتلال الجاحظ- بأن له ظهرا كأبي طالب و ردءا كبني هاشم- فإنه يوجب عليه أن تكون محنة أبي بكر و بلال- و ثوابهما و فضل إسلامهما أعظم مما لرسول الله ص- لأن أبا طالب ظهره و بني هاشم ردؤه- و حسبك جهلا من معاند لم يستطع حط قدر علي ع- إلا بحطه من قدر رسول الله ص- و لم يكن أحد أشد على رسول الله ص من قراباته- الأدنى منهم فالأدنى- كأبي لهب عمه و امرأة أبي لهب- و هي أم جميل بنت حرب بن أمية و إحدى أولاد عبد مناف- ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط و هو ابن عمه- و ما كان من النضر بن الحارث- و هو من بني عبد الدار بن قصي و هو ابن عمه أيضا- و غير هؤلاء ممن يطول تعداده- و كلهم كان يطرح الأذى في طريقه و ينقل أخباره- و يرميه بالحجارة و يرمي الكرش‏و الفرث عليه- و كانوا يؤذون عليا ع كأذاه-

و يجتهدون في غمه و يستهزءون به- و ما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة علي- و لما كان بين علي و بين النبي ص- من الاتحاد و الإلف و الاتفاق- أحجم المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله ص- خوفا من سيفه- و لأنه صاحب الدار و الجيش و أمره مطاع و قوله نافذ- فخافوا على دمائهم منه- فاتقوه و أمسكوا عن إظهار بغضه- و أظهروا بغض علي ع و شنآنه- فقال رسول الله ص في حقه- فيالخبر الذي روي في جميع الصحاح لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق- و قال كثير من أعلام الصحابة- كماروي في الخبر المشهور بين المحدثين ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالبو أين كان ظهر أبي طالب عن جعفر- و قد أزعجه الأذى عن وطنه- حتى هاجر إلى بلاد الحبشة و ركب البحر- أ يتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليا و خذل جعفرا- .

قال الجاحظ و لأبي بكر فضيلة في إسلامه- أنه كان قبل إسلامه كثير الصديق- عريض الجاه ذا يسار و غنى- يعظم لماله و يستفاد من رأيه- فخرج من عز الغنى و كثرة الصديق- إلى ذل الفاقة و عجز الوحدة- و هذا غير إسلام من لا حراك به و لا عز له- تابع غير متبوع- لأن من أشد ما يبتلى الكريم به السب بعد التحية- و الضرب بعد الهيبة و العسر بعد اليسر- ثم كان أبو بكر دعية من دعاة الرسول- و كان يتلوه في جميع أحواله- فكان الخوف إليه أشد و المكروه نحوه أسرع- و كان ممن تحسن مطالبته- و لا يستحيا من إدراك الثأر عنده لنباهته و بعد ذكره- و الحدث الصغير يزدرى و يحتقر- لصغر سنه و خمول ذكره- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أما ما ذكر من كثرة المال و الصديق- و استفاضة الذكر و بعد الصيت و كبر السن- فكله عليه لا له- و ذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب و أخلاقها- حفظ الصديق و الوفاء بالذمام و التهيب لذي الثروة- و احترام ذي السن العالية- و في كل هذا ظهر شديد- و سند و ثقة يعتمد عليها عند المحن- و لذلك كان المرء منهم إذا تمكن من صديقه- أبقى عليه و استحيا منه- و كان ذلك سببا لنجاته و العفو عنه- على أن علي بن أبي طالب ع إن لم يكن شهره سنه- فقد شهره نسبه و موضعه من بني هاشم- و إن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال و كثرة الأسفار- استفاض بأبي طالب- فأنتم تعلمون أنه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم- و لا أبو قحافة كأبي طالب- و على حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن- و يبعد صيت الحدث على الشيخ- و معلوم أيضا أن عليا على أعناق المشركين أثقل- إذ كان هاشميا-

و إن كان أبوه حامى رسول الله ص و المانع لحوزته- و علي هو الذي فتح على العرب باب الخلاف و استهان بهم- بما أظهر من الإسلام و الصلاة و خالف رهطه و عشيرته- و أطاع ابن عمه فيما لم يعرف من قبل- و لا عهد له نظير كما قال تعالى- لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ- ثم كان بعد صاحب رسول الله ص و مشتكى حزنه- و أنيسه في خلوته و جليسه و أليفه في أيامه كلها- و كل هذا يوجب التحريض عليه و معاداة العرب له- ثم أنتم معاشر العثمانية- تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول ص- من مكة إلى يثرب و دخوله معه في الغار- فقلتم مرتبة شريفة و حالة جليلة- إذ كان شريكه في الهجرة و أنيسه في الوحشة- فأين هذه من صحبة علي ع له في خلوته- و حيث لا يجد أنيسا غيره ليله و نهاره- أيام مقامه بمكة يعبد الله‏معه سرا- و يتكلف له الحاجة جهرا و يخدمه كالعبد يخدم مولاه- و يشفق عليه و يحوطه و كالولد يبر والده و يعطف عليه- ولما سئلت عائشة من كان أحب الناس إلى رسول الله ص- قالت أما من الرجال فعلي و أما من النساء ففاطمة- .

قال الجاحظ و كان أبو بكر من المفتونين- المعذبين بمكة قبل الهجرة- فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين- حتى أدماه و شده مع طلحة بن عبيد الله في قرن- و جعلهما في الهاجرة- عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة- و لذلك كانا يدعيان القرينين- و لو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا- و بلوغ منزلته شديدا- و لو كان يوما واحدا لكان عظيما- و علي بن أبي طالب رافه وادع ليس بمطلوب و لا طالب- و ليس أنه لم يكن في طبعه الشهامة و النجدة- و في غريزته البسالة في الشجاعة- لكنه لم يكن قد تمت أداته و لا استكملت آلته- و رجال الطلب و أصحاب الثأر يغمصون ذا الحداثة- و يزدرون بذي الصبا و الغرارة- إلى أن يلحق بالرجال و يخرج من طبع الأطفال- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أما القول فممكن و الدعوى سهلة- سيما على مثل الجاحظ- فإنه ليس على لسانه من دينه و عقله رقيب- و هو من دعوى الباطل غير بعيد- فمعناه نزر و قوله لغو و مطلبه سجع- و كلامه لعب و لهو يقول الشي‏ء و خلافه- و يحسن القول و ضده- ليس له من نفسه واعظ و لا لدعواه حد قائم- و إلا فكيف تجاسر على القول بأن عليا حينئذ- لم يكن مطلوبا و لا طالبا- و قد بينا بالأخبار الصحيحة و الحديث المرفوع المسند- أنه كان يوم أسلم بالغا كاملا- منابذا بلسانه و قلبه لمشركي قريش‏ثقيلا على قلوبهم- و هو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب- و صاحب الخلوات برسول الله ص في تلك الظلمات- المتجرع لغصص المرار من أبي لهب و أبي جهل و غيرهما- و المصطلي لكل مكروه و الشريك لنبيه في كل أذى-

قد نهض بالحمل الثقيل و بان بالأمر الجليل- و من الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق- و يخفي نفسه و يضائل شخصه- حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش- كمطعم بن عدي و غيره- فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق و القمح- و هو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل و غيره- لو ظفروا به لأراقوا دمه- أ علي كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر-

و قد ذكر هو ع حاله يومئذ-فقال في خطبة له مشهورة فتعاقدوا ألا يعاملونا و لا يناكحونا- و أوقدت الحرب علينا نيرانها و اضطرونا إلى جبل وعر- مؤمننا يرجو الثواب و كافرنا يحامي عن الأصل- و لقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم- و قطعوا عنهم المارة و الميرة- فكانوا يتوقعون الموت جوعا صباحا و مساء- لا يرون وجها و لا فرجا- قد اضمحل عزمهم و انقطع رجاؤهم- فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن- بعد محمد ص إلا علي ع وحده- و ما عسى أن يقول الواصف و المطنب في هذه الفضيلة- من تقصي معانيها و بلوغ غاية كنهها- و فضيلة الصابر عندها- و دامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين- حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة و القصة مشهورة- .

و كيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي ع- إنه قبل الهجرة كان وادعا رافها- لم يكن مطلوبا و لا طالبا- و هو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله ص بنفسه- و وقاه بمهجته- و احتمل السيوف و رضح الحجارة دونه- و هل ينتهي الواصف و إن أطنب- و المادح و إن أسهب- إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة- و الإيضاح بمزية هذه الخصيصة- .

فأما قوله إن أبا بكر عذب بمكة- فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف- أو لمن لا عشيرة له تمنعه- فأنتم في أبي بكر بين أمرين- تارة تجعلونه دخيلا ساقطا و هجينا رذيلا مستضعفا ذليلا- و تارة تجعلونه رئيسا متبعا و كبيرا مطاعا- فاعتمدوا على أحد القولين- لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم- و لو كان الفضل في الفتنة و العذاب- لكان عمار و خباب و بلال- و كل معذب بمكة أفضل من أبي بكر- لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه- و نزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه- كقوله تعالى وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا- قالوا نزلت في خباب و بلال- و نزل في عمار قوله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ- و كان رسول الله ص-

يمر على عمار و أبيه و أمه و هم يعذبون- يعذبهم بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم-فيقول صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة- و كان بلال يقلب على الرمضاء- و هو يقول أحد أحد- و ما سمعنا لأبي بكر في شي‏ء من ذلك ذكرا- و لقد كان لعلي ع عنده يد غراء- إن صح ما رويتموه في تعذيبه- لأنه قتل نوفل بن خويلد و عمير بن عثمان يوم بدر- ضرب نوفلا فقطع ساقه- فقال أذكرك الله و الرحم- فقال قد قطع الله كل رحم و صهر- إلا من كان تابعا لمحمد- ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه- و صمد لعمير بن عثمان التميمي فوجده يروم الهرب- و قد ارتج عليه المسلك- فضربه على شراسيف صدره- فصار نصفه الأعلى بين رجليه- و ليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما و يجتهد- لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي ع- فبان علي ع بفعله دونه قال الجاحظ و لأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي و لا غيره-

و ذلك قبل الهجرة-فقد علم الناس أن عليا ع إنما ظهر فضله و انتشر صيته- و امتحن و لقي المشاق منذ يوم بدر- و أنه إنما قاتل في الزمان الذي- استوفى فيه أهل الإسلام و أهل الشرك- و طمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا- و أعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين- و أبو بكر كان قبل الهجرة معذبا و مطرودا مشردا- في الزمان الذي ليس بالإسلام و أهله نهوض و لا حركة- و لذلك قال أبو بكر في خلافته- طوبى لمن مات في فأفأة الإسلام- يقول في ضعفه- .

قال أبو جعفر رحمه الله- لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان و الخطأ أقعده- و الخذلان أصاره إلى الحيرة- فما علم و عرف حتى قال ما قال- فزعم أن عليا ع قبل الهجرة لم يمتحن و لم يكابد المشاق- و أنه إنما قاسى مشاق التكليف- و محن الابتلاء منذ يوم بدر- و نسي الحصار في الشعب و ما مني به منه- و أبو بكر وادع رافه- يأكل ما يريد و يجلس مع من يحب- مخلى سربه طيبة نفسه ساكنا قلبه- و علي يقاسي الغمرات و يكابد الأهوال- و يجوع و يظمأ- و يتوقع القتل صباحا و مساء- لأنه كان هو المتوصل المحتال- في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش و عقلائها سرا- ليقيم به رمق رسول الله ص و بني هاشم و هم في الحصار-

و لا يأمن في كل وقت- مفاجأة أعداء رسول الله ص له بالقتل- كأبي جهل بن هشام و عقبة بن أبي معيط- و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة- و غيرهم من فراعنة قريش و جبابرتها- و لقد كان يجيع نفسه و يطعم رسول الله ص زاده- و يظمئ نفسه و يسقيه ماءه- و هو كان المعلل له إذا مرض- و المؤنس له إذا استوحش- و أبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم- و لم يلحقه مما يلحقهم مشقة- و لا يعلم بشي‏ء من أخبارهم و أحوالهم- إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل- ثلاث سنين محرمة معاملتهم و مناكحتهم و مجالستهم- محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج-و التصرف في أنفسهم- فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة- و نسي هذه الخصيصة و لا نظير لها- و لكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه- و تنسق له خطابته ما ضيع من المعنى- و رجع عليه من الخطأ- .

فأما قوله و اعلموا أن العاقبة للمتقين- ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ- يعني أن لا فضيلة لعلي ع في الجهاد- لأن الرسول كان أعلمه أنه منصور و أن العاقبة له- و هذا من دسائس الجاحظ و همزاته و لمزاته- و ليس بحق ما قاله- لأن رسول الله ص أعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم- و لم يعلم واحدا منهم بعينه أنه لا يقتل لا عليا و لا غيره- و إن صح أنه كان أعلمه أنه لا يقتل- فلم يعلمه أنه لا يقطع عضو من أعضائه- و لم يعلمه أنه لا يمسه ألم جراح في جسده- و لم يعلمه أنه لا يناله الضرب الشديد- .

و على أن رسول الله ص قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر- و هو يومئذ بمكة أن العاقبة لهم- كما أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك- فإن لم يكن لعلي و المجاهدين- فضيلة في الجهاد بعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك- فلا فضيلة لأبي بكر و غيره في احتمال المشاق قبل الهجرة- لإعلامه إياهم بذلك- فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر- و أنه قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح- و إن الله تعالى سيغنمنا أموالهم و يملكنا ديارهم- فالقول في الموضعين متساو و متفق- .

قال الجاحظ- و إن بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي ص- مقرنين لأهل مكة و مشركي قريش- و معهم أهل يثرب أصحاب النخيل و الآطام- و الشجاعة و الصبر و المواساة- و الإيثار و المحاماة و العدد الدثر و الفعل الجزل- و بين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون و يشتمون- و يضربون و يشردون و يجوعون و يعطشون-مقهورين لا حراك بهم- و أذلاء لا عز لهم و فقراء لا مال عندهم- و مستخفين لا يمكنهم إظهار دعوتهم لفرقا واضحا- و لقد كانوا في حال أحوجت لوطا و هو نبي إلى أن قال- لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ- وقال النبي ص عجبت من أخي لوط كيف قال- أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ- و هو يأوي إلى الله تعالى- ثم لم يكن ذلك يوما و لا يومين و لا شهرا و لا شهرين- و لا عاما و لا عامين و لكن السنين بعد السنين- و كان أغلظ القوم و أشدهم محنة بعد رسول الله ص أبو بكر- لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله ص ثلاث عشرة سنة- و هو أوسط ما قالوا في مقام النبي ص- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- ما نرى الجاحظ احتج لكون أبي بكر أغلظهم و أشدهم محنة- إلا بقوله لأنه أقام بمكة مدة مقام الرسول ص بها- و هذه الحجة لا تخص أبا بكر وحده- لأن عليا ع أقام معه هذه المدة- و كذلك طلحة و زيد و عبد الرحمن و بلال و خباب و غيرهم- و قد كان الواجب عليه أن يخص أبا بكر وحده بحجة- تدل على أنه كان أغلظ الجماعة- و أشدهم محنة بعد رسول الله ص فالاحتجاج في نفسه فاسد- .

ثم يقال له ما بالك- أهملت أمر مبيت علي ع على الفراش بمكة ليلة الهجرة- هل نسيته أم تناسيته- فإنها المحنة العظيمة- و الفضيلة الشريفة التي متى امتحنها الناظر- و أجال فكره فيها- رأى تحتها فضائل متفرقة و مناقب متغايرة- و ذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين- أن رسول الله ص مجمع على الخروج من بينهم- للهجرةإلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته- و تعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه- و أن يضربوه بأسياف كثيرة- بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها- ليضيع دمه بين الشعوب و يتفرق بين القبائل- و لا يطلب بنو هاشم بدمه- قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش- و تحالفوا على تلك الليلة و اجتمعوا عليها- فلما علم رسول ص ذلك من أمرهم- دعا أوثق الناس عنده و أمثلهم في نفسه- و أبذلهم في ذات الإله لمهجته- و أسرعهم إجابة إلى طاعته-

فقال له إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة- فامض إلى فراشي و نم في مضجعي- و التف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج- و إني خارج إن شاء الله- فمنعه أولا من التحرز و إعمال الحيلة- و صده عن الاستظهار لنفسه- بنوع من أنواع المكايد- و الجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم- و ألجأه إلى أن يعرض نفسه- لظبات السيوف الشحيذة- من أيدي أرباب الحنق و الغيظة- فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه- و نام على فراشه صابرا محتسبا- واقيا له بمهجته ينتظر القتل- و لا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر- و لا يبلغها طالب- و الجود بالنفس أقصى غاية الجود- و لو لا أن رسول الله ص علم أنه أهل لذلك لما أهله- و لو كان عنده نقص في صبره- أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه- و اختير لذلك لكان من اختاره ص منقوضا في رأيه- مضرا في اختياره- و لا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الإسلام- و كلهم مجمعون على أن الرسول ص عمل الصواب- و أحسن في الاختيار- .

ثم في ذلك إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل- منها أنه و إن كان عنده في موضع الثقة- فإنه غير مأمون عليه ألا يضبط السر- فيفسد التدبير- بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقيه إلى الأعداء- . و منها أنه و إن كان ضابطا للسر و ثقة عند من اختاره- فغير مأمون عليه الجبن عندمفاجأة المكروه- و مباشرة الأهوال فيفر من الفراش- فيفطن لموضع الحيلة- و يطلب رسول الله ص فيظفر به- .

و منها أنه و إن كان ضابطا للسر شجاعا نجدا- فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش- لأن هذا أمر خارج عنالشجاعة- إن كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع- بل هو أشد مشقة من المكتوف الممنوع- لأن المكتوف الممنوع يعلم من نفسه- أنه لا سبيل له إلى الهرب- و هذا يجد السبيل إلى الهرب و إلى الدفع عن نفسه- و لا يهرب و لا يدافع- .

و منها أنه و إن كان ثقة عنده ضابطا للسر- شجاعا محتملا للمبيت على الفراش- فإنه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة- و العذاب النازل بساحته حتى يبوح بما عنده- و يصير إلى الإقرار بما يعلمه- و هو أنه أخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ- فلهذا قال علماء المسلمين- إن فضيلة علي ع تلك الليلة- لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها- إلا ما كان من إسحاق و إبراهيم عند استسلامه للذبح- و لو لا أن الأنبياء لا يفضلهم غيرهم- لقلنا إن محنة علي أعظم- لأنه قد روي أن إسحاق تلكأ لما أمره أن يضطجع- و بكى على نفسه- و قد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة- و لذلك قال له فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏- و حال علي ع بخلاف ذلك- لأنه ما تلكأ و لا تتعتع- و لا تغير لونه و لا اضطربت أعضاؤه- و لقد كان أصحاب النبي ص- يشيرون عليه بالرأي المخالف لما كان أمر به- و تقدم فيه فيتركه و يعمل بما أشاروا به- كما جرى يوم الخندق- في مصانعة الأحزاب بثلث تمر المدينة- فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه- و هذه كانت قاعدته معهم و عادته بينهم- و قد كان لعلي ع أن يعتل بعلة و أن يقف-

و يقول يا رسول الله- أكون معك أحميك من العدو- و أذب بسيفي عنك- فلست‏مستغنيا في خروجك عن مثلي- و نجعل عبدا من عبيدنا في فراشك قائما مقامك- يتوهم القوم برؤيته نائما في بردك أنك لم تخرج- و لم تفارق مركزك فلم يقل ذلك- و لا تحبس و لا توقف و لا تلعثم- و ذلك لعلم كل واحد منهما ص- أن أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة- و لا يتورط هذه الهلكة- إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها- و الفوز بفضيلتها- و له من جنس ذلك أفعال كثيرة- كيوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمين إلى المبارزة- فأحجم الناس كلهم عنه- لما علموا من بأسه و شدته ثم كرر النداء-

فقام علي ع-فقال أنا أبرز إليه- فقال له رسول الله ص إنه عمرو قال نعم و أنا علي- فأمره بالخروج إليه فلما خرجقال ص برز الإيمان كله إلى الشرك كلهو كيوم أحد حيث حمى رسول الله ص من أبطال قريش- و هم يقصدون قتله فقتلهم دونه- حتى قال جبرئيل ع يا محمد إن هذه هي المواساة-فقال إنه مني و أنا منهفقال جبريل و أنا منكما- و لو عددنا أيامه و مقاماته التي- شرى فيها نفسه لله تعالى لأطلنا و أسهبنا قال الجاحظ- فإن احتج محتج لعلي ع بالمبيت على الفراش- فبين الغار و الفراش فرق واضح- لأن الغار و صحبة أبي بكر للنبي ص- قد نطق به القرآن- فصار كالصلاة و الزكاة و غيرهما مما نطق به الكتاب- و أمر علي ع و نومه على الفراش و إن كان ثابتا صحيحا- إلا أنه لم يذكر في القرآن- و إنما جاء مجي‏ء الروايات و السير- و هذا لا يوازن هذا و لا يكايله- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا فرق غير مؤثر- لأنه قد ثبت بالتواتر حديث‏الفراش- فلا فرق بينه و بين ما ذكر في نص الكتاب- و لا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملة- أ رأيت كون الصلوات خمسا- و كون زكاة الذهب ربع العشر- و كون خروج الريح ناقضا للطهارة- و أمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه- هل هو مخالف لما نص في الكتاب عليه من الأحكام- هذا مما لا يقوله رشيد و لا عاقل- على أن الله تعالى لم يذكر اسم أبي بكر في الكتاب- و إنما قال إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ- و إنما علمنا أنه أبو بكر بالخبر و ما ورد في السيرة-

و قد قال أهل التفسير إن قوله تعالى- وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ- كناية عن علي ع لأنه مكر بهم- و أول الآية وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا- لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ- وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ- أنزلت في ليلة الهجرة- و مكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش- و مكر الله تعالى هو منام علي ع على الفراش- فلا فرق بين الموضعين في أنهما مذكوران كناية لا تصريحا-

و قد روى المفسرون كلهم أن قول الله تعالى- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ- أنزلت في علي ع ليلة المبيت على الفراش- فهذه مثل قوله تعالى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا فرق بينهما- . قال الجاحظ و فرق آخر- و هو أنه لو كان مبيت علي ع على الفراش- جاء مجي‏ء كون أبي بكر في الغار- لم يكن له في ذلك كبير طاعة- لأن الناقليننقلوا أنه ص قال له نم فلن يخلص إليك شي‏ء تكرهه- و لم ينقل ناقل أنه‏قال لأبي بكر في صحبته إياه- و كونه معه في الغار مثل ذلك- و لا قال له أنفق و أعتق- فإنك لن تفتقر و لن يصل إليك مكروه- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا هو الكذب الصراح- و التحريف و الإدخال في الرواية ما ليس منها- و المعروف المنقولأنه ص قال له اذهب فاضطجع في مضجعي- و تغش ببردي الحضرمي- فإن القوم سيفقدونني- و لا يشهدون مضجعي- فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا- فإذا أصبحت فاغد في أداء أمانتي- و لم ينقل ما ذكره الجاحظ- و إنما ولده أبو بكر الأصم- و أخذه الجاحظ و لا أصل له- و لو كان هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه- و قد وقع الاتفاق على أنه ضرب و رمي بالحجارة- قبل أن يعلموا من هو حتى تضور- و أنهم قالوا له رأينا تضورك- فإنا كنا نرمي محمدا و لا يتضور- و لأن لفظة المكروه إن كان قالها إنما يراد بها القتل- فهب أنه أمن القتل- كيف يأمن من الضرب و الهوان- و من أن ينقطع بعض أعضائه- و بأن سلمت نفسه- أ ليس الله تعالى قال لنبيه- بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ- وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ- و مع ذلك فقد كسرت رباعيته و شج وجهه و أدميت ساقه- و ذلك لأنها عصمة من القتل خاصة- و كذلك المكروه الذي أومن علي ع منه- و إن كان صح ذلك في الحديث إنما هو مكروه القتل- .

ثم يقال له و أبو بكر لا فضيلة له أيضا في كونه في الغار- لأن النبي ص قال له لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- و من يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كل سوء- فكيف قلت- و لم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك- فكل ما يجيب به عن هذا فهو جوابنا عما أورده- فنقول له هذا ينقلب عليك في النبي ص-لأن الله تعالى وعده بظهور دينه و عاقبة أمره- فيجب على قولك ألا يكون مثابا عند الله تعالى- على ما يحتمله من المكروه- و لا ما يصيبه من الأذى- إذ كان قد أيقن بالسلامة و الفتح في عدته- .

قال الجاحظ- و من جحد كون أبي بكر صاحب رسول الله ص فقد كفر- لأنه جحد نص الكتاب- ثم انظر إلى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- من الفضيلة لأبي بكر- لأنه شريك رسول الله ص في كون الله تعالى معه- و إنزال السكينة- قال كثير من الناس- إنه في الآية مخصوص بأبي بكر- لأنه كان محتاجا إلى السكينة- لما تداخله من رقة الطبع البشري- و النبي ص كان غير محتاج إليها- لأنه يعلم أنه محروس من الله تعالى- فلا معنى لنزول السكينة عليه- و هذه فضيلة ثالثة لأبي بكر- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- إن أبا عثمان يجر على نفسه- ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة- و لقد كان في غنية عن التعلق بما تعلق به- لأن الشيعة تزعم أن هذه الآية- بأن تكون طعنا و عيبا على أبي بكر- أولى من أن تكون فضيلة و منقبة له- لأنه لما قال له لا تَحْزَنْ- دل على أنه قد كان حزن و قنط و أشفق على نفسه- و ليس هذا من صفات المؤمنين الصابرين- و لا يجوز أن يكون حزنه طاعة- لأن الله تعالى لا ينهى عن الطاعة- فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه- و قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنا- أي إن الله عالم بحالنا- و ما نضمره من اليقين أو الشك- كما يقول الرجل لصاحبه- لا تضمرن سوءا و لا تنوين قبيحا- فإن الله تعالى يعلم ما نسره و ما نعلنه- و هذا مثل قوله تعالى- وَ لا أَدْنى‏ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا- أي هو عالم بهم و أما السكينةفكيف يقول- إنها ليست راجعة إلى النبي ص و بعدها قوله- وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها- أ ترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله ص- .

و قوله إنه مستغن عنها ليس بصحيح- و لا يستغني أحد عن ألطاف الله و توفيقه- و تأييده و تثبيت قلبه- و قد قال الله تعالى في قصة حنين- وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ- ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ ص- . و أما الصحبة فلا تدل إلا على المرافقة و الاصطحاب لا غير- و قد يكون حيث لا إيمان- كما قال تعالى قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ- أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ- و نحن و إن كنا نعتقد إخلاص أبي بكر- و إيمانه الصحيح السليم و فضيلته التامة- إلا أنا لا نحتج له- بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية- و لا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة و مطاعنها- .

قال الجاحظ و إن كان المبيت على الفراش فضيلة- فأين هي من فضائل أبي بكر أيام مكة- من عتق المعذبين و إنفاق المال و كثرة المستجيبين- مع فرق ما بين الطاعتين- لأن طاعة الشاب الغرير- و الحدث الصغير الذي في عز صاحبه عزه- ليست كطاعة الحليم الكبير- الذي لا يرجع تسويد صاحبه إلى رهطه و عشيرته- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما كثرة المستجيبين- فالفضل فيها راجع إلى المجيب‏لا إلى المجاب- على أنا قد علمنا أن من استجاب لموسى ع- أكثر ممن استجاب لنوح ع- و ثواب نوح أكثر لصبره على الأعداء- و مقاساة خلافهم و عنتهم- و أما إنفاق المال- فأين محنة الغني من محنة الفقير- و أين يعتدل إسلام من أسلم و هو غني- إن جاع أكل و إن أعيا ركب و إن عري لبس- قد وثق بيساره و استغنى بماله- و استعان على نوائب الدنيا بثروته- ممن لا يجد قوت يومه- و إن وجد لم يستأثر به فكان الفقر شعاره- و في ذلك قيل الفقر شعار المؤمن- وقال الله تعالى لموسى يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا- فقل مرحبا بشعار الصالحينوفي الحديث أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام
وكان النبي ص يقول اللهم احشرني في زمرة الفقراء- و لذلك أرسل الله محمدا ص فقيرا- و كان بالفقر سعيدا- فقاسى محنة الفقر و مكابدة الجوع- حتى شد الحجر على بطنه- و حسبك بالفقر فضيلة في دين الله لمن صبر عليه- فإنك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه- لأنه مناف لحال الدنيا و أهلها- و إنما هو شعار أهل الآخرة- .

و أما طاعة علي ع- و كون الجاحظ زعم أنها كانت لأن في عز محمد عزه و عز رهطه- بخلاف طاعة أبي بكر- فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك- و جهاد عبيدة بن الحارث- و هجرة جعفر إلى الحبشة- بل لعل محاماة المهاجرين من قريش- على رسول الله ص كانت لأن في دولته دولتهم- و في نصرته استجداد ملك لهم- و هذا يجر إلى الإلحاد- و يفتح باب الزندقة- و يفضي إلى الطعن في الإسلام و النبوة- . قال الجاحظ و على أنا لو نزلنا إلى ما يريدونه- جعلنا الفراش كالغار- و خلصت فضائل أبي بكر في غير ذلك عن معارض- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- قد بينا فضيلة المبيت على الفراش- على فضيلة الصحبةفي الغار بما هو واضح لمن أنصف- و نزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم- فنقول إن فضيلة المبيت على الفراش- على الصحبة في الغار لوجهين- أحدهما أن عليا ع قد كان أنس بالنبي ص- و حصل له بمصاحبته قديما أنس عظيم و إلف شديد- فلما فارقه عدم ذلك الأنس و حصل به أبو بكر- فكان ما يجده علي ع من الوحشة- و ألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه- لأن الثواب على قدر المشقة- .

و ثانيهما أن أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة- و قد كان خرج من قبل فردا فازداد كراهية للمقام- فلما خرج مع رسول الله ص وافق ذلك هوى قلبه- و محبوب نفسه- فلم يكن له من الفضيلة- ما يوازي فضيلة من احتمل المشقة العظيمة- و عرض نفسه لوقع السيوف و رأسه لرضخ الحجارة- لأنه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب قال الجاحظ ثم الذي لقي أبو بكر في مسجده- الذي بناه على بابه في بني جمح- فقد كان بنى مسجدا يصلي فيه- و يدعو الناس إلى الإسلام- و كان له صوت رقيق و وجه عتيق- و كان إذا قرأ بكى- فيقف عليه المارة- من الرجال و النساء و الصبيان و العبيد- فلما أوذي في الله و منع من ذلك المسجد- استأذن رسول الله ص في الهجرة فأذن له- فأقبل يريد المدينة فتلقاه الكناني- فعقد له جوارا و قال و الله لا أدع مثلك يخرج من مكة- فرجع إليها و عاد لصنيعه في المسجد- فمشت قريش إلى جاره الكناني و أجلبوا عليه- فقال له دع المسجد و ادخل بيتك- و اصنع فيه ما بدا لك- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- كيف كانت بنو جمح تؤذي عثمان بن مظعون و تضربه- و هو فيهم ذو سطوة و قدر- و تترك أبا بكر يبني مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم- و أنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال- ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب- و الذي تذكرونه من بناء المسجد- كان قبل إسلام عمر فكيف هذا- . و أما ما ذكرتم من رقة صوته و عتاق وجهه- فكيف يكون ذلك و قد روى الواقدي و غيره- أن عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين- معروق الخدين غائر العينين أجنأ لا يمسك إزاره- فقالت ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا- فلا نراها دلت على شي‏ء من الجمال في صفته- . قال الجاحظ و حيث رد أبو بكر جوار الكناني- و قال لا أريد جارا سوى الله- لقي من الأذى و الذل و الاستخفاف و الضرب ما بلغكم- و هذا موجود في جميع السير- و كان آخر ما لقي هو و أهله في أمر الغار- و قد طلبته قريش و جعلت فيه مائة بعير- كما جعلت في النبي ص- فلقي أبو جهل أسماء بنت بكر فسألها فكتمته- فلطمها حتى رمت قرطا كان في أذنها- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا الكلام و هجر السكران سواء- في تقارب المخرج و اضطراب المعنى- و ذلك أن قريشا لم تقدر على أذى النبي ص- و أبو طالب حي يمنعه- فلما مات طلبته لتقتله- فخرج تارة إلى بني عامر و تارة إلى ثقيف- و تارة إلى بني شيبان- و لم يكن يتجاسر على المقام بمكة إلا مستترا- حتى أجاره مطعم بن عدي ثم خرج إلى المدينة- فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه حين فاتها- فلم تقدر عليه- فما بالها بذلت في أبي بكر مائة بعير أخرى- و قد كان رد الجوار و بقي بينهم فردا لا ناصر له-و لا دافع عنده يصنعون به ما يريدون- إما أن يكونوا أجهل البرية كلها- أو يكون العثمانية أكذب جيل في الأرض و أوقحه وجها- فهذا مما لم يذكر في سيرة و لا روي في أثر- و لا سمع به بشر و لا سبق الجاحظ به أحد- .

قال الجاحظ- ثم الذي كان من دعائه إلى الإسلام و حسن احتجاجه- حتى أسلم على يديه طلحة و الزبير- و سعد و عثمان و عبد الرحمن- لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله و إلى رسوله- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما أعجب هذا القول- إذ تدعي العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء و حسن الاحتجاج- و قد أسلم و معه في منزله ابنه عبد الرحمن- فما قدر أن يدخله في الإسلام طوعا- برفقه و لطف احتجاجه- و لا كرها بقطع النفقة عنه و إدخال المكروه عليه- و لا كان لأبي بكر عند ابنه عبد الرحمن- من القدر ما يطيعه فيما يأمره به و يدعوه إليه- كما روي أن أبا طالب فقد النبي ص يوما- و كان يخاف عليه من قريش أن يغتالوه- فخرج و معه ابنه جعفر يطلبان النبي ص- فوجده قائما في بعض شعاب مكة يصلي- و علي ع معه عن يمينه- فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر- تقدم و صل جناح ابن عمك- فقام جعفر عن يسار محمد ص- فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول الله ص و تأخر الأخوان- فبكى أبو طالب و قال-

إن عليا و جعفرا ثقتي
عند ملم الخطوب و النوب‏

لا تخذلا و انصرا ابن عمكما
أخي لأمي من بينهم و أبي‏

و الله لا أخذل النبي و لا
يخذله من بني ذو حسب‏

فتذكر الرواة أن جعفرا أسلم منذ ذلك اليوم- لأن أباه أمره بذلك و أطاع أمره- و أبو بكر لم يقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في الإسلام- حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة- و خرج يوم أحد في عسكر المشركين ينادي- أنا عبد الرحمن بن عتيق هل من مبارز- ثم مكث بعد ذلك على كفره حتى أسلم عام الفتح- و هو اليوم الذي دخلت فيه قريش في الإسلام طوعا و كرها- و لم يجد أحد منها إلى ترك ذلك سبيلا- و أين كان رفق أبي بكر و حسن احتجاجه- عند أبيه أبي قحافة و هما في دار واحدة- هلا رفق به و دعاه إلى الإسلام فأسلم-

و قد علمتم أنه بقي على الكفر إلى يوم الفتح- فأحضره ابنه عند النبي ص و هو شيخ كبير رأسه كالثغامة- فنفر رسول الله ص منه و قال غيروا هذا- فخضبوه ثم جاءوا به مرة أخرى فأسلم- و كان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيئ الحال- و أبو بكر عندهم كان مثريا فائض المال- فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة و الإحسان- و قد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه- و اسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد بن ود العامرية لم تسلم- و أقامت على شركها بمكة و هاجر أبو بكر و هي كافرة- فلما نزل قوله تعالى وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ- فطلقها أبو بكر- فمن عجز عن ابنه و أبيه و امرأته- فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز- و من لم يقبل منه أبوه و ابنه و امرأته- لا برفق و احتجاج و لا خوفا من قطع النفقة عنهم- و إدخال المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولا منه- و أكثر خلافا عليه- .

قال الجاحظ و قالت أسماء بنت أبي بكر- ما عرفت أبي إلا و هو يدين بالدين- و لقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام- فما رمنا حتى أسلمنا و أسلم أكثر جلسائه- و لذلك قالوا- من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف- و لم يذهبوا في ذلك إلى العدد بل عنوا الكثرة في القدر- لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى-كلهم يصلح للخلافة و هم أكفاء علي ع- و منازعوه الرئاسة و الإمامة- فهؤلاء أكثر من جميع الناس- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أخبرونا من هذا الذي أسلم ذلك اليوم- من أهل بيت أبي بكر إذا كانت امرأته لم تسلم- و ابنه عبد الرحمن لم يسلم و أبو قحافة لم يسلم- و أخته أم فروة لم تسلم- و عائشة لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت- لأنها ولدت بعد مبعث النبي ص بخمس سنين- و محمد بن أبي بكر ولد بعد مبعث رسول الله ص- بثلاث و عشرين سنة- لأنه ولد في حجة الوداع- و أسماء بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها- كانت يوم بعث رسول الله ص بنت أربع سنين-

و في رواية من يقول بنت سنتين- فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم- نعوذ بالله من الجهل و الكذب و المكابرة- و كيف أسلم سعد و الزبير و عبد الرحمن بدعاء أبي بكر- و ليسوا من رهطه و لا من أترابه و لا من جلسائه- و لا كانت بينهم قبل ذلك صداقة متقدمة و لا أنس وكيد- و كيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة- لم يدخلهما في الإسلام برفقه و حسن دعائه- و قد زعمتم أنهما كانا يجلسان إليه- لعلمه و طريف حديثه- و ما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام-

و قد ذكرتم أنه أدبه و خرجه- و منه أخذ جبير العلم بأنساب قريش و مآثرها- فكيف عجز عن هؤلاء الذين عددناهم- و هم منه بالحال التي وصفنا- و دعا من لم يكن بينه و بينه أنس و لا معرفة- إلا معرفة عيان- و كيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب و قد كان شكله- و أقرب الناس شبها به في أغلب أخلاقه- و لئن رجعتم إلى الإنصاف- لتعلمن أن هؤلاء لم يكن إسلامهم- إلا بدعاء الرسول ص لهم و على يديه أسلموا- و لو فكرتم في حسن التأتي في الدعاء- ليصحن لأبي طالب في ذلكعلى شركه- أضعاف ما ذكرتموه لأبي بكر- لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي ع- يا بني الزمه فإنه لن يدعوك إلا إلى خير-

و قال لجعفر صل جناح ابن عمك فأسلم بقوله- و لأجله أصفق بنو عبد مناف على نصرة رسول الله ص بمكة- من بني مخزوم و بني سهم و بني جمح- و لأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب- و بدعائه و إقباله على محمد ص- أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد- فهو أحسن رفقا و أيمن نقيبة من أبي بكر و غيره- و إنما منعه عن الإسلام أن ثبت أنه لم يسلم إلا تقية- و أبو بكر لم يكن له إلا ابن واحد و هو عبد الرحمن- فلم يمكنه أن يدخله في الإسلام- و لا أمكنه إذ لم يقبل منه الإسلام- أن يجعله كبعض مشركي قريش في قلة الأذى لرسول الله ص- و فيه أنزل وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما- أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي- وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ- فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ-

و إنما يعرف حسن رفق الرجل و تأتيه- بأن يصلح أولا أمر بيته و أهله- ثم يدعو الأقرب فالأقرب- فإن رسول الله ص لما بعث كان أول من دعا زوجته خديجة- ثم مكفوله و ابن عمه عليا ع- ثم مولاه زيدا ثم أم أيمن خادمته- فهل رأيتم أحدا ممن كان يأوي إلى رسول الله ص لم يسارع- و هل التاث عليه أحد من هؤلاء- فهكذا يكون حسن التأتي و الرفق في الدعاء- هذا و رسول الله مقل- و هو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى- و أبو بكر عندكم كان موسرا و كان أبوه مقترا- و كذلك ابنه و امرأته أم عبد الله- و الموسر في فطرة العقول أولى أن يتبع من المقتر- و إنما حسن التأتي و الرفق في الدعاء- ما صنعه مصعب بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه- و ما صنع سعد بن معاذ ببني عبد الأشهل لما دعاهم- و ما صنع بريدة بن الحصيب بأسلم لما دعاهم- قالوا أسلم بدعائه ثمانون بيتا من قومه-

و أسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد في يوم واحد- و أما من لم يسلم ابنه و لا امرأته- و لا أبوه و لا أخته بدعائه- فهيهات أن يوصف و يذكر بالرفق في الدعاء- و حسن التأتي و الأناة- قال الجاحظ ثم أعتق أبو بكر بعد ذلك- جماعة من المعذبين في الله- و هم ست رقاب منهم بلال و عامر بن فهيرة- و زنيرة النهدية و ابنتها- و مر بجارية يعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه و أعتقها- و أعتق أبا عيسى فأنزل الله فيه فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏- وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ إلى آخر السورة- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أما بلال و عامر بن فهيرة فإنما أعتقهما رسول الله ص-

روى ذلك الواقدي و ابن إسحاق و غيرهما- و أما باقي مواليهم الأربعة- فإن سامحناكم في دعواكم- لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم- إلا مائة درهم أو نحوها فأي فخر في هذا- و أما الآية فإن ابن عباس قال في تفسيرها- فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏- فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ أي لأن يعود- . و قال غيره نزلت في مصعب بن عمير قال الجاحظ و قد علمتم ما صنع أبو بكر في ماله- و كان ماله أربعين ألف درهم- فأنفقه في نوائب الإسلام و حقوقه- و لم يكن خفيف الظهر قليل العيال و النسل- فيكون فاقد جميع اليسارين- بل كان ذا بنين و بنات و زوجة و خدم و حشم- و يعول والديه و ما ولدا- و لم يكن النبي ص قبل ذلك عنده مشهورا- فيخاف العار في ترك مواساته- فكان إنفاقه على الوجه الذي لا نجد في غاية الفضل مثله- و لقدقال النبي ص ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق هذا المال- و في أي وجه وضعه- فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك و يدرس- حتى يفوت حفظه و ينسى ذكره- و أنتم فلم تقفوا على شي‏ء- أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب- لعلها لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة درهم- و كيف يدعي له الإنفاق الجليل- و قد باع من رسول الله ص بعيرين عند خروجه إلى يثرب- و أخذ منه الثمن في مثل تلك الحال- و روى ذلك جميع المحدثين- و قد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا- و رويتم عن عائشة أنها قالت- هاجر أبو بكر و عنده عشرة آلاف درهم- و قلتم إن الله تعالى أنزل فيه- وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى‏- قلتم هي في أبي بكر و مسطح بن أثاثة- فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة-

و رويتم أن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة- و أن النبي ص رآهم ليلة الإسراء- فسأل جبرائيل عنهم فقال- هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة- صديقك في الأرض- فإنه سينفق عليك ماله حتى يخلل عباءه في عنقه- و أنتم أيضا رويتم أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى- فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ- فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ الآية- لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب وحده- مع إقراركم بفقره و قلة ذات يده- و أبو بكر في الحال التي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته- فعاتب الله المؤمنين في ذلك فقال- أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ- فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ- فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه- و هو إمساكهم عن تقديم الصدقة- فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفا- و أمسك عن مناجاة الرسول- و إنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمين- .

و أما ما ذكر من كثرة عياله و نفقته عليهم- فليس في ذلك دليل على تفضيله- لأن‏نفقته على عياله واجبة- مع أن أرباب السيرة ذكروا- أنه لم يكن ينفق على أبيه شيئا- و أنه كان أجيرا لابن جدعان- على مائدته يطرد عنها الذبان- . قال الجاحظ و قد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي ص- ببطن مكة من المشركين- و حسن صنيع كثير منهم- كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته- و أبو جهل يومئذ سيد البطحاء و رئيس الكفر- و أمنع أهل مكة- و قد عرفتم أن الزبير سل سيفه و استقبل به المشركين- لما أرجف أن محمدا ص قد قتل- و أن عمر بن الخطاب قال حين أسلم- لا يعبد الله سرا بعد اليوم- و أن سعدا ضرب بعض المشركين بلحي جمل فأراق دمه- فكل هذه الفضائل- لم يكن لعلي بن أبي طالب فيها ناقة و لا جمل- و قد قال الله تعالى- لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ- أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً- مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا- فإذا كان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح- لأنه لا هجرة بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح- فما ظنكم بمن أنفق من قبل الهجرة- و من لدن مبعث النبي ص إلى الهجرة و إلى بعد الهجرة- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- إننا لا ننكر فضل الصحابة و سوابقهم- و لسنا كالإمامية- الذين يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة- و لكننا ننكر تفضيل أحد من الصحابة- على علي بن أبي طالب- و لسنا ننكر غير ذلك- و ننكر تعصب الجاحظ للعثمانية- و قصده إلى فضائل هذا الرجل و مناقبه بالرد و الإبطال- و أما حمزة فهو عندنا ذو فضل عظيم و مقام جليل- و هو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول اللهص- و أما فضل عمر فغير منكر- و كذلك الزبير و سعد- و ليس فيما ذكر ما يقتضي كون علي ع مفضولا لهم أو لغيرهم- إلا قوله و كل هذه الفضائل- لم يكن لعلي ع فيها ناقة و لا جمل- فإن هذا من التعصب البارد و الحيف الفاحش- و قد قدمنا من آثار علي ع قبل الهجرة- و ما له إذ ذاك من المناقب و الخصائص- ما هو أفضل و أعظم و أشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء- على أن أرباب السيرة يقولون- إن الشجة التي شجها سعد- و إن السيف الذي سله الزبير- هو الذي جلب الحصار في الشعب على النبي ص و بني هاشم- و هو الذي سير جعفرا و أصحابه إلى الحبشة- و سل السيف- في الوقت الذي لم يؤمر المسلمون فيه بسل السيف- غير جائز- قال تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ- كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ- فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ- إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ- فتبين أن التكليف له أوقات- فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف- و منها وقت يصلح فيه و يجب- فأما قوله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ- فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال-

و أيضا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق المال مفردا- و إنما قرن به القتال- و لم يكن أبو بكر صاحب قتال و حرب فلا تشمله الآية- و كان علي ع صاحب قتال و إنفاق قبل الفتح- أما قتاله فمعلوم بالضرورة- و أما إنفاقه فقد كان على حسب حاله و فقره- و هو الذي أطعم الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا- و أنزلت فيه و في زوجته و ابنيه سورة كاملة من القرآن- و هو الذي ملك أربعة دراهم- فأخرج منها درهما سرا و درهما علانية ليلا- ثم أخرج منها في النهار درهما سرا و درهما علانية- فأنزل فيه قوله تعالى- الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً- و هو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة-دون المسلمين كافة- و هو الذي تصدق بخاتمه و هو راكع فأنزل الله فيه- إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ- .

قال الجاحظ- و الحجة العظمى للقائلين بتفضيل علي ع- قتله الأقران و خوضه الحرب- و ليس له في ذلك كبير فضيلة- لأن كثرة القتل و المشي بالسيف إلى الأقران- لو كان من أشد المحن و أعظم الفضائل- و كان دليلا على الرئاسة و التقدم- لوجب أن يكون للزبير و أبي دجانة- و محمد بن مسلمة و ابن عفراء و البراء بن مالك- من الفضل ما ليس لرسول الله ص- لأنه لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا- و لم يحضر الحرب يوم بدر و لا خالط الصفوف- و إنما كان معتزلا عنهم في العريش و معه أبو بكر- و أنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الأقران- و يجندل الأبطال- و فوقه من العسكر من لا يقتل و لا يبارز- و هو الرئيس أو ذوي الرأي و المستشير في الحرب- لأن للرؤساء من الاكتراث و الاهتمام- و شغل البال و العناية و التفقد ما ليس لغيرهم- و لأن الرئيس هو المخصوص بالمطالبة- و عليه مدار الأمور- و به يستبصر المقاتل و يستنصر- و باسمه ينهزم العدو- و لو لم يكن له إلا أن الجيش لو ثبت و فر هو- لم يغن ثبوت الجيش كله و كانت الدبرة عليه- و لو ضيع القوم جميعا و حفظ هو- لانتصر و كانت الدولة له- و لهذا لا يضاف النصر و الهزيمة إلا إليه- ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر- أعظم من جهاد علي ع ذلك اليوم و قتله أبطال قريش- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- لقد أعطي أبو عثمان مقولا و حرم معقولا- إن كان‏يقول هذا على اعتقاد و جد- و لم يذهب به مذهب اللعب و الهزل- أو على طريق التفاصح و التشادق و إظهار القوة- و السلاطة و ذلاقة اللسان- و حدة الخاطر و القوة على جدال الخصوم- أ لم يعلم أبو عثمان أن رسول الله ص كان أشجع البشر- و أنه خاض الحروب- و ثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب- و بلغت القلوب الحناجر- فمنها يوم أحد- و وقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم- و لم يبق معه إلا أربعة- علي و الزبير و طلحة و أبو دجانة- فقاتل و رمى بالنبل حتى فنيت نبله- و انكسرت سية قوسه و انقطع وتره- فأمر عكاشة بن محصن أن يوترها- فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر فقال أوتر ما بلغ- قال عكاشة فو الذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ- و طويت منه شبرا على سية القوس-

ثم أخذها فما زال يرميهم- حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت- و بارز أبي بن خلف فقال له أصحابه إن شئت عطف عليه بعضنا فأبى- و تناول الحربة من الحارث بن الصمة ثم انتقض بأصحابه- كما ينتقض البعير- قالوا فتطايرنا عنه تطاير الشعارير فطعنه بالحربة- فجعل يخور كما يخور الثور- و لو لم يدل على ثباته حين انهزم أصحابه و تركوه- إلا قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ- وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ- فكونه ع في أخراهم و هم يصعدون و لا يلوون هاربين- دليل على أنه ثبت و لم يفر- و ثبت يوم حنين في تسعة من أهله و رهطه الأدنين- و قد فر المسلمون كلهم و النفر التسعة محدقون به- العباس آخذ بحكمة بغلته- و علي بين يديه مصلت سيفه- و الباقون حول بغلة رسول الله ص يمنة و يسرة- و قد انهزم المهاجرون و الأنصار- و كلما فروا أقدم هو ص يمنة و يسرة- و قد انهزم المهاجرون و الأنصار- و كلما فرو أقدم هو ص و صمم مستقدما- يلقى السيوف و النبال بنحره و صدره- ثم أخذ كفا منالبطحاء و حصب المشركين-

و قال شاهت الوجوه والخبر المشهور عن علي ع و هو أشجع البشر كنا إذا اشتد البأس- و حمي الوطيس اتقينا برسول الله ص و لذنا به- فكيف يقول الجاحظ إنه ما خاض الحرب و لا خالط الصفوف- و أي فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله ص- إلى الإحجام و اعتزال الحرب- ثم أي مناسبة بين أبي بكر و رسول الله ص في هذا المعنى- ليقيسه و ينسبه إلى رسول الله ص صاحب الجيش و الدعوة- و رئيس الإسلام و الملة- و الملحوظ بين أصحابه و أعدائه بالسيادة- و إليه الإيماء و الإشارة- و هو الذي أحنق قريشا و العرب- و ورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم- و عيب دينهم و تضليل أسلافهم- ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم و أكابرهم- و حق لمثله إذا تنحى عن الحرب و اعتزلها-

أن يتنحى و يعتزل- لأن ذلك شأن الملوك و الرؤساء- إذا كان الجيش منوطا بهم و ببقائهم- فمتى هلك الملك هلك الجيش- و متى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه- و إن عطب جيشه فإنه يستجد جيشا آخر- و لذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه- و خطئوا الإسكندر لما بارز قوسرا ملك الهند- و نسبوه إلى مجانبة الحكمة و مفارقة الصواب و الحزم- فليقل لنا الجاحظ أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى- و من الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل- و هل هو إلا واحد من عرض المهاجرين- حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان و غيرهما- بل كان عثمان أكثر منه صيتا و أشرف منه مركبا- و العيون إليه أطمح- و العدو إليه أحنق و أكلب- و لو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك- هل كان يؤثر قتله في الإسلام ضعفا- أو يحدث فيه وهنا- أو يخاف على الملة- لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب- أن تندرس و تعفى آثارها و ينطمس منارها- ليقول الجاحظ إن أبا بكر كان حكمه حكم رسول الله ص- في مجانبة الحروب و اعتزالها- نعوذ بالله من الخذلان- و قد علم العقلاء كلهم ممن لهبالسير معرفة- و بالآثار و الأخبار ممارسة- حال حروب رسول الله ص كيف كانت- و حاله ع فيها كيف كان-

و وقوفه حيث وقف و حربه حيث حارب- و جلوسه في العريش يوم جلس- و إن وقوفه ص وقوف رئاسة و تدبير- و وقوف ظهر و سند يتعرف أمور أصحابه- و يحرس صغيرهم و كبيرهم بوقوفه من ورائهم- و تخلفه عن التقدم في أوائلهم- لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم- و لم تتعلق بأمره نفوسهم- فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم- و لا يكون لهم فئة يلجئون إليها و ظهر يرجعون إليه- و يعلمون أنه متى كان خلفهم- تفقد أمورهم و علم مواقفهم- و آوى كل إنسان مكانه في الحماية و النكاية- و عند المنازلة في الكر و الحملة- فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم- و أحمى و أحرس لبيضتهم- و لأنه المطلوب من بينهم إذ هو مدبر أمورهم- و والي جماعتهم- أ لا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف- و أن صلاح الحرب في وقوفه- و أن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته- فللرئيس حالات- الأولى حالة يتخلف و يقف آخرا ليكون سندا و قوة- و ردءا و عدة- و ليتولى تدبير الحرب و يعرف مواضع الخلل- .

و الحالة الثانية يتقدم فيها في وسط الصف- ليقوي الضعيف و يشجع الناكص- . و حالة ثالثة و هي إذا اصطدم الفيلقان- و تكافح السيفان- اعتمد ما تقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح- أو من مباشرة الحرب بنفسه فإنها آخر المنازل- و فيها تظهر شجاعة الشجاع النجد و فسالة الجبان المموه- . فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله ص- و أين منزلة أبي بكر ليسوي بين المنزلتين و يناسب بين الحالتين- .

و لو كان أبو بكر شريكا لرسول الله ص في الرسالة- و ممنوحا من الله‏بفضيلة النبوة- و كانت قريش و العرب تطلبه كما تطلب محمدا ص- و كان يدبر من أمر الإسلام و تسريب العساكر- و تجهيز السرايا و قتل الأعداء- ما يدبره محمد ص- لكان للجاحظ أن يقول ذلك- فأما و حاله حاله و هو أضعف المسلمين جنانا- و أقلهم عند العرب ترة لم يرم قط بسهم- و لا سل سيفا و لا أراق دما- و هو أحد الأتباع غير مشهور و لا معروف- و لا طالب و لا مطلوب- فكيف يجوز أن يجعل مقامه و منزلته- مقام رسول الله ص و منزلته- و لقد خرج ابنه عبد الرحمن- مع المشركين يوم أحد فرآه أبو بكر فقام مغيظا عليه- فسل من السيف مقدار إصبع يريد البروز إليه- فقال له رسول الله ص- يا أبا بكر شم سيفك و أمتعنا بنفسك- و لم يقل له و أمتعنا بنفسك- إلا لعلمه بأنه ليس أهلا للحرب و ملاقاة الرجال- و أنه لو بارز لقتل- .

و كيف يقول الجاحظ لا فضيلة لمباشرة الحرب- و لقاء الأقران و قتل أبطال الشرك- و هل قامت عمد الإسلام إلا على ذلك- و هل ثبت الدين و استقر إلا بذلك- أ تراه لم يسمع قول الله تعالى- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ- صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ- و المحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب- فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف و أعظم قتالا- كان أحب إلى الله- و معنى الأفضل هو الأكثر ثوابا- فعلي ع إذا هو أحب المسلمين إلى الله- لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص- لم يفر قط بإجماع الأمة و لا بارزه قرن إلا قتله- .

أ تراه لم يسمع قول الله تعالى- وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً- و قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ- بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ‏فِي سَبِيلِ اللَّهِ- فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ- وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ- ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع و الشراء- وَ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ- فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ- وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ- و قال الله تعالى- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا- إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ- .

فمواقف الناس في الجهاد على أحوال- و بعضهم في ذلك أفضل من بعض- فمن دلف إلى الأقران و استقبل السيوف و الأسنة- كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدة نكايته فيهم- ممن وقف في المعركة و أعان و لم يقدم- و كذلك من وقف في المعركة و أعان و لم يقدم- إلا أنه بحيث تناله السهام و النبل أعظم غناء- و أفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك- و لو كان الضعيف و الجبان يستحقان الرئاسة- بقلة بسط الكف و ترك الحرب- و أن ذلك يشاكل فعل النبي ص- لكان أوفر الناس حظا في الرئاسة- و أشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت- و إن بطل فضل علي ع في الجهاد- لأن النبي ص كان أقلهم قتالا كما زعم الجاحظ- ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق- لأن رسول الله ص كان أقلهم مالا- .

و أنت إذا تأملت أمر العرب و قريش- و نظرت السير و قرأت الأخبار- عرفت أنها كانت تطلب محمدا ص- و تقصد قصده و تروم قتله- فإن أعجزها و فاتها طلبت عليا ع و أرادت قتله- لأنه كان أشبههم بالرسول حالا- و أقربهم منه قربا و أشدهم عنه دفعا- و أنهم متى قصدوا عليا فقتلوه- أضعفوا أمر محمد ص و كسروا شوكته- إذ كان أعلى من ينصره في البأس و القوة- و الشجاعةو النجدة و الإقدام و البسالة- أ لا ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر- و قد خرج هو و أخوه شيبة و ابنه الوليد بن عتبة- فأخرج إليه الرسول نفرا من الأنصار- فاستنسبوهم فانتسبوا لهم- فقالوا ارجعوا إلى قومكم ثم نادوا- يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا- فقال النبي ص لأهله الأدنين- قوموا يا بني هاشم فانصروا حقكم الذي آتاكم الله- على باطل هؤلاء- قم يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة- أ لا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد- لأنه اشترك هو و حمزة في قتل أبيها يوم بدر- أ لم تسمع قول هند ترثي أهلها-

ما كان عن عتبة لي من صبر
أبي و عمي و شقيق صدري‏

أخي الذي كان كضوء البدر
بهم كسرت يا علي ظهري‏

و ذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة- و شرك في قتل أبيها عتبة- و أما عمها شيبة فإن حمزة تفرد بقتله- . و قال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد- إن قتلت محمدا فأنت حر- و إن قتلت عليا فأنت حر- و إن قتلت حمزة فأنت حر- فقال أما محمد فسيمنعه أصحابه- و أما علي فرجل حذر كثير الالتفات في الحرب- و لكني سأقتل حمزة فقعد له و زرقه بالحربة فقتله- .

و لما قلنا من مقاربة حال علي ع في هذا الباب- لحال رسول الله ص و مناسبتها إياها- ما وجدناه في السير و الأخبار- من إشفاق رسول الله ص و حذره عليه- و دعائه له بالحفظ و السلامة-قال ص يوم الخندق و قد برز علي إلى عمرو- و رفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه اللهم إنك أخذت مني‏حمزة يوم أحد- و عبيدة يوم بدر فاحفظ اليوم علي عليا- رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ‏- و لذلك ضن به عن مبارزة عمرو- حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا- في كلها يحجمون و يقدم علي فيسأل الإذن له في البراز- حتى قال له رسول الله ص- إنه عمرو فقال و أنا علي- فأدناه و قبله و عممه بعمامته- و خرج معه خطوات كالمودع له- القلق لحاله المنتظر لما يكون منه- ثم لم يزل ص رافعا يديه إلى السماء مستقبلا لها بوجهه- و المسلمون صموت حوله كأنما على رءوسهم الطير- حتى ثارت الغبرة و سمعوا التكبير من تحتها- فعلموا أن عليا قتل عمرا- فكبر رسول الله ص و كبر المسلمون- تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين- و لذلك قال حذيفة بن اليمان لو قسمت فضيلة علي ع بقتل عمرو يوم الخندق- بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم- و قال ابن عباس في قوله تعالى- وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ قال بعلي بن أبي طالب- .

قال الجاحظ على أن مشي الشجاع بالسيف إلى الأقران- ليس على ما توهمه من لا يعلم باطن الأمر- لأن معه في حال مشيه إلى الأقران بالسيف- أمورا أخرى لا يبصرها الناس- و إنما يقضون على ظاهر ما يرون من إقدامه و شجاعته- فربما كان سبب ذلك الهوج- و ربما كان الغرارة و الحداثة- و ربما كان الإحراج و الحمية- و ربما كان لمحبة النفخ و الأحدوثة- و ربما كان طباعا كطباع القاسي و الرحيم- و السخي و البخيل‏ قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال للجاحظ- فعلى أيها كان مشي علي بن أبي طالب إلى الأقران بالسيف- فأيما قلت من ذلك بانت عداوتك لله تعالى و لرسوله- و إن كان مشيه ليس على وجه مما ذكرت-

و إنما كان على وجه النصرة- و القصد إلى المسابقة إلى ثواب الآخرة- و الجهاد في سبيل الله و إعزاز الدين- كنت بجميع ما قلت معاندا و عن سبيل الإنصاف خارجا- و في إمام المسلمين طاعنا- و إن تطرق مثل هذا الوهم على علي ع- ليتطرقن مثله على أعيان المهاجرين و الأنصار- أرباب الجهاد و القتال- الذين نصروا رسول الله ص بأنفسهم و وقوه بمهجهم- و فدوه بأبنائهم و آبائهم- فلعل ذلك كان لعلة من العلل المذكورة- و في ذلك الطعن في الدين و في جماعة المسلمين- . و لو جاز أن يتوهم هذا في علي ع و في غيره- لماقال رسول الله ص حكاية عن الله تعالى لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم- و لاقال لعلي ع برز الإيمان كله إلى الشرك كله- و لا قال أوجب طلحة- .

و قد علمنا ضرورة من دين الرسول ص- تعظيمه لعلي ع- تعظيما دينيا لأجل جهاده و نصرته- فالطاعن فيه طاعن في رسول الله ص- إذ زعم أنه قد يمكن أن يكون جهاده لا لوجه الله تعالى- بل لأمر آخر من الأمور التي عددها- و بعثه على التفوه بها إغواء الشيطان و كيده- و الإفراط في عداوة من أمر الله بمحبته- و نهى عن بغضه و عداوته- .

أ ترى رسول الله ص خفي عليه من أمر علي ع- ما لاح للجاحظ و العثمانية فمدحه و هو غير مستحق للمدح- . قال الجاحظ فصاحب النفس المختارة المعتدلة- يكون قتاله طاعة و فراره معصية- لأن نفسه معتدلة كالميزان في استقامة لسانه و كفتيه- فإذا لم يكن كذلك كان إقدامه طباعا و فراره طباعا- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال له- فلعل إنفاق أبي بكر على ما تزعم أربعين ألف درهم لا ثواب له- لأن نفسه ربما تكون غير معتدلة- لأنه يكون مطبوعا على الجود و السخاء- و لعل خروجه مع النبي ص- يوم الهجرة إلى الغار لا ثواب له فيه- لأن أسبابه كانت له مهيجة و دواعيه غالبة- محبة الخروج و بغض المقام- و لعل رسول الله ص في دعائه إلى الإسلام- و إكبابه على الصلوات الخمس في جوف الليل- و تدبيره أمر الأمة لا ثواب له فيه- لأنه قد تكون نفسه غير معتدلة- بل يكون في طباعه الرئاسة و حبها- و العبادة و الالتذاذ بها- و لقد كنا نعجب من مذهب أبي عثمان- أن المعارف ضرورة و أنها تقع طباعا-

و في قوله بالتولد و حركة الحجر بالطبع- حتى رأينا من قوله ما هو أعجب منه- فزعم أنه ربما يكون جهاد علي ع و قتله المشركين- لا ثواب له فيه لأنه فعله طبعا- و هذا أطرف من قوله في المعرفة و في التولد- . قال الجاحظ و وجه آخر أن عليا لو كان كما يزعم شيعته- ما كان له بقتل الأقران كبير فضيلة و لا عظيم طاعة- لأنه قدروي عن النبي ص أنه قال له‏ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين- فإذا كان قد وعده بالبقاء بعده- فقد وثق بالسلامة من الأقران- و علم أنه منصور عليهم و قاتلهم- فعلى هذا يكون جهاد طلحة و الزبير أعظم طاعة منه- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- هذا راجع على الجاحظ في النبي ص لأن الله تعالى قال له- وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ- فلم يكن له في جهاده كبير طاعة و كثير طاعة- وكثير من الناس يروي عنه ص اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمرفوجب أن يبطل جهادهما- وقد قال للزبير ستقاتل عليا و أنت ظالم له- فأشعره بذلك أنه لا يموت في حياة رسول الله ص- و قال في الكتاب العزيز لطلحة- وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ- وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ- قالوا نزلت في طلحة- فأعلمه بذلك أنه يبقى بعده- فوجب ألا يكون لهما كبير ثواب في الجهاد- و الذي صح عندنا من الخبر و هو قوله- ستقاتل بعدي الناكثين- أنه قال لما وضعت الحرب أوزارها- و دخل الناس في دين الله أفواجا- و وضعت الجزية و دانت العرب قاطبة- .

قال الجاحظ- ثم قصد الناصرون لعلي و القائلون بتفضيله- إلى الأقران الذين قتلهم فأطروهم و غلوا فيهم- و ليسوا هناك- فمنهم عمرو بن عبد ود- تركتموه أشجع من عامر بن الطفيل- و عتبة بن الحارث و بسطام بن قيس- و قد سمعنا بأحاديث حروب الفجار- و ما كان بين قريش و دوس و حلف الفضول- فما سمعت لعمرو بن عبد ود ذكرا في ذلك- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أمر عمرو بن عبد ود أشهر و أكثر من أن يحتج له- فلنتلمح كتب المغازي و السير- و لينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل- فمن ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه- قال و قال مسافع بن عبد مناف بن زهرة بن حذافة بن جمح- يبكي عمرو بن عبد الله بن عبد ود- حين قتله علي بن أبي طالب ع- مبارزة لما جزع المذاد أي قطع الخندق-

عمرو بن عبد كان أول فارس
جزع المذاد و كان فارس مليل‏

سمح الخلائق ماجد ذو مرة
يبغي القتال بشكة لم ينكل‏

و لقد علمتم حين ولوا عنكم
أن ابن عبد منهم لم يعجل‏

حتى تكفنه الكماة و كلهم‏
يبغي القتال له و ليس بمؤتل‏

و لقد تكنفت الفوارس فارسا
بجنوب سلع غير نكس أميل‏

سال النزال هناك فارس غالب‏
بجنوب سلع ليته لم ينزل‏

فاذهب علي ما ظفرت بمثلها
فخرا و لو لاقيت مثل المعضل‏

نفسي الفداء لفارس من غالب‏
لاقى حمام الموت لم يتحلحل‏

أعني الذي جزع المذاد و لم يكن
فشلا و ليس لدى الحروب بزمل‏

و قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي- يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب- و تركه عمرا يوم الخندق و يبكيه-

لعمرك ما وليت ظهري محمدا
و أصحابه جبنا و لا خيفة القتل‏

و لكنني قلبت أمري فلم أجد
لسيفي غناء إن وقفت و لا نبلي‏

وقفت فلما لم أجد لي مقدما
صدرت كضرغام هزبر إلى شبل‏

ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد
مجالا و كان الحزم و الرأي من فعلي‏

فلا تبعدن يا عمرو حيا و هالكا
فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل‏

و لا تبعدن يا عمرو حيا و هالكا
فقد كنت في حرب العدا مرهف النصل‏

فمن لطراد الخيل تقدع بالقنا
و للبذل يوما عند قرقرة البزل‏

هنالك لو كان ابن عمرو لزارها
و فرجها عنهم فتى غير ما وغل‏

كفتك علي لن ترى مثل موقف
وقفت على شلو المقدم كالفحل‏

فما ظفرت كفاك يوما بمثلها
أمنت بها ما عشت من زلة النعل‏

و قال هبيرة بن أبي وهب أيضا يرثي عمرا و يبكيه-

لقد علمت عليا لؤي بن غالب
لفارسها عمرو إذا ناب نائب‏

و فارسها عمرو إذا ما يسوقه‏
علي و إن الموت لا شك طالب‏

عشية يدعوه علي و إنه
لفارسها إذ خام عنه الكتائب‏

فيا لهف نفسي إن عمرا لكائن
بيثرب لا زالت هناك المصائب‏

لقد أحرز العليا علي بقتله‏
و للخير يوما لا محالة جالب‏

و قال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر عمرا-

أمسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا
كيف العبور و ليته لم ينظر

و لقد وجدت سيوفنا مشهورة
و لقد وجدت جيادنا لم تقصر

و لقد لقيت غداة بدر عصبة
ضربوك ضربا غير ضرب الحسر

أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة
يا عمرو أو لجسيم أمر منكر

و قال حسان أيضا-

لقد شقيت بنو جمح بن عمرو
و مخزوم و تيم ما نقيل‏

و عمرو كالحسام فتى قريش‏
كأن جبينه سيف صقيل‏

فتى من نسل عامر أريحي
تطاوله الأسنة و النصول‏

دعاه الفارس المقدام لما
تكشفت المقانب و الخيول‏

أبو حسن فقنعه حساما
جرازا لا أفل و لا نكول‏

فغادره مكبا مسلحبا
على عفراء لا بعد القتيل‏

فهذه الأشعار فيه بل بعض ما قيل فيه- . و أما الآثار و الأخبار- فموجودة في كتب السير و أيام الفرسان و وقائعهم- و ليس‏أحد من أرباب هذا العلم يذكر عمرا إلا قال- كان فارس قريش و شجاعها- و إنما قال له حسانو لقد لقيت غداة بدر عصبةلأنه شهد مع المشركين بدرا و قتل قوما من المسلمين- ثم فر مع من فر و لحق بمكة- و هو الذي كان قال و عاهد الله عند الكعبة- ألا يدعوه أحد إلى واحدة من ثلاث إلا أجابه- و آثاره في أيام الفجار مشهورة- تنطق بها كتب الأيام و الوقائع- و لكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثة و هم- عتبة و بسطام و عامر- لأنهم كانوا أصحاب غارات و نهب و أهل بادية- و قريش أهل مدينة و ساكنو مدر و حجر- لا يرون الغارات و لا ينهبون غيرهم من العرب- و هم مقتصرون على المقام ببلدتهم و حماية حرمهم- فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء- .

و يقال له إذا كان عمرو كما تذكر ليس هناك- فما باله لما جزع الخندق في ستة فرسان هو أحدهم- فصار مع أصحاب النبي ص على أرض واحدة- و هم ثلاثة آلاف- و دعاهم إلى البراز مرارا- لم ينتدب أحد منهم للخروج إليه- و لا سمح منهم أحد بنفسه- حتى وبخهم و قرعهم و ناداهم- أ لستم تزعمون أنه من قتل منا فإلى النار- و من قتل منكم فإلى الجنة- أ فلا يشتاق أحدكم إلى أن يذهب إلى الجنة- أو يقدم عدوه إلى النار- فجبنوا كلهم و نكلوا و ملكهم الرعب و الوهل- فإما أن يكون هذا أشجع الناس كما قيل عنه- أو يكون المسلمون كلهم أجبن العرب و أذلهم و أفشلهم- و قد روى الناس كلهم الشعر الذي أنشده- لما نكل القوم بجمعهم عنه- و أنه جال بفرسه و استدار- و ذهب يمنة ثم ذهب يسرة- ثم وقف تجاه القوم فقال-

و لقد بححت من النداء
بجمعهم هل من مبارز

و وقفت إذ جبن المشيع
وقفة القرن المناجز

و كذاك أني لم أزل‏
متسرعا نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى
و الجود من خير الغرائز

فلما برز إليه علي أجابه فقال له-

لا تعجلن فقد أتاك
مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية و بصيرة
يرجو الغداة نجاة فائز

إني لأرجو أن أقيم
عليك نائحة الجنائز

من ضربة تفنى و يبقى‏
ذكرها عند الهزاهز

و لعمري لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار- لما رجع رسول الله من بدر- و قال فتى من الأنصار شهد معه بدرا- إن قتلنا إلا عجائز صلعا- فقال له النبي ص- لا تقل ذلك يا ابن أخ أولئك الملأ- . قال الجاحظ- و قد أكثروا في الوليد بن عتبة بن ربيعة- قتيله يوم بدر- و ما علمنا الوليد حضر حربا قط قبلها و لا ذكر فيها- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- كل من دون أخبار قريش و آثار رجالها- وصف الوليد بالشجاعة و البسالة- و كان مع شجاعته أنه يصارع الفتيان فيصرعهم- و ليس لأنه لم يشهد حربا قبلها- ما يجب أن يكون بطلا شجاعا- فإن عليا ع لم يشهد قبل بدر حربا- و قد رأى الناس آثاره فيها- .

قال الجاحظ- و قد ثبت أبو بكر مع النبي ص يوم أحد كما ثبت علي- فلا فخر لأحدهما على صاحبه في ذلك اليوم- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما ثباته يوم أحد- فأكثر المؤرخين و أرباب السير ينكرونه- و جمهورهم يروي أنه لم يبق مع النبي ص- إلا علي و طلحة و الزبير و أبو دجانة- و قد روي عن ابن عباس أنه قال- و لهم خامس و هو عبد الله بن مسعود- و منهم من أثبت سادسا و هو المقداد بن عمرو- و روى يحيى بن سلمة بن كهيل قال قلت لأبي- كم ثبت مع رسول الله ص يوم أحد- فقال اثنان قلت من هما قال علي و أبو دجانة- .

و هب أن أبا بكر ثبت يوم أحد كما يدعيه الجاحظ- أ يجوز له أن يقول ثبت كما ثبت علي- فلا فخر لأحدهما على الآخر- و هو يعلم آثار علي ع ذلك اليوم- و أنه قتل أصحاب الألوية من بني عبد الدار- منهم طلحة بن أبي طلحة- الذي رأى رسول الله ص في منامه أنه مردف كبشا- فأوله و قال كبش الكتيبة نقتله- فلما قتله علي ع مبارزة- و هو أول قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم- كبر رسول الله ص و قال- هذا كبش الكتيبة- . و ما كان منه من المحاماة عن رسول الله ص- و قد فر الناس و أسلموه- فتصمد له كتيبة من قريش فيقول- يا علي اكفني هذه فيحمل عليها فيهزمها و يقتل عميدها- حتى سمع المسلمون و المشركون صوتا من قبل السماء-

لا سيف إلا ذو الفقار
و لا فتى إلا علي‏

– و حتى قال النبي ص عن جبرائيل ما قال- . أ تكون هذه آثاره و أفعاله- ثم يقول الجاحظ لا فخر لأحدهما على صاحبه- .رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ- وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ- . قال الجاحظ و لأبي بكر في ذلك اليوم مقام مشهور- خرج ابنه عبد الرحمن فارسا مكفرا في الحديد- يسأل المبارزة و يقول- أنا عبد الرحمن بن عتيق فنهض إليه أبو بكر يسعى بسيفه- فقال له النبي ص- شم سيفك و ارجع إلى مكانك و متعنا بنفسك- . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- ما كان أغناك يا أبا عثمان- عن ذكر هذا المقام المشهور لأبي بكر- فإنه لو تسمعه الإمامية- لأضافته إلى ما عندها من المثالب- لأن قول النبي ص ارجع- دليل على أنه لا يحتمل مبارزة أحد- لأنه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه- و أنت تعلم حنو الابن علي الأب و تبجيله له- و إشفاقه عليه و كفه عنه- لم يحتمل مبارزة الغريب الأجنبي- .

و قوله له و متعنا بنفسك- إيذان له بأنه كان يقتل لو خرج- و رسول الله كان أعرف به من الجاحظ- فأين حال هذا الرجل من حال الرجل الذي صلى بالحرب- و مشى إلى السيف بالسيف- فقتل السادة و القادة و الفرسان و الرجالة- . قال الجاحظ على أن أبا بكر- و إن لم تكن آثاره في الحرب كآثار غيره- فقد بذل الجهد و فعل ما يستطيعه و تبلغه قوته- و إذا بذل المجهود- فلا حال أشرف من حاله- .

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله- أما قوله إنه بذل الجهد فقد صدق- و أما قوله لا حال أشرف من حاله فخطأ- لأن حال من بلغت قوته فأعملها في قتل المشركين- أشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغاية- أ لا ترى أن حال الرجل أشرف في الجهاد من حال المرأة- و حال البالغ الأيد أشرف من حال الصبي الضعيف- . فهذه جملة ما ذكره الشيخ أبو جعفر- محمد بن عبد الله الإسكافي رحمه الله- في نقض العثمانية اقتصرنا عليها هاهنا- و سنعود فيما بعد إلى ذكر جملة أخرى من كلامه- إذا اقتضت الحال ذكره

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 238 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(الخطبة بالقاصعة)(الاوّل)

238 و من خطبة له ع- و من الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة

و هي تتضمن ذم إبليس لعنه الله- على استكباره و تركه السجود لآدم ع- و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية- و تحذير الناس من سلوك طريقته- : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ- وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ- وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ- وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ- وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ- ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ- لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ- وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ- فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ- فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ- اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ- وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ- فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ- الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبَرِيَّةِ- وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ- أَلَا يَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ- وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً- وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الآْخِرَةِ سَعِيراً

يجوز أن تسمى هذه الخطبة القاصعة- من قولهم قصعت الناقة بجرتها- و هو أن تردها إلى جوفها- أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها- فلما كانت الزواجر و المواعظ في هذه الخطبة- مرددة من أولها إلى آخرها- شبهها بالناقة التي تقصع الجرة- و يجوز أن تسمى القاصعة- لأنها كالقاتلة لإبليس و أتباعه من أهل العصبية- من قولهم قصعت القملة إذا هشمتها و قتلتها- و يجوز أن تسمى القاصعة- لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره و نخوته- فيكون من قولهم قصع الماء عطشه- أي أذهبه و سكنه- قال ذو الرمة بيتا في هذا المعنى-

فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها
و قد تشح فلا ري و لا هيم‏

 الصرائر جمع صريرة و هي العطش- و يجوز أن تسمى القاصعة- لأنها تتضمن تحقير إبليس و أتباعه و تصغيرهم- من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته و حقرته- و غلام مقصوع أي قمي‏ء لا يشب و لا يزداد- . و العصبية على قسمين عصبية في الله و هي محمودة- و عصبية في الباطل و هي مذمومة- و هي التي نهى أمير المؤمنين ع عنها و كذلك الحمية- و جاء في الخبر العصبية في الله تورث الجنة- و العصبية في الشيطان تورث النار – .

و جاء في الخبر العظمة إزاري و الكبرياء ردائي- فمن نازعني فيهما قصمته – و هذا معنى قوله ع اختارهما لنفسه دون خلقه- إلى آخر قوله من عباده- . قال ع ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين- مع علمه بمضمراتهم و ذلك لأن اختباره سبحانه ليس ليعلم- بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع و عصيان من يعصي- و كذلك قوله سبحانه- وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها- إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ‏الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ- النون في لنعلم نون الجمع لا نون العظمة- أي لتصير أنت و غيرك من المكلفين- عالمين لمن يطيع و من يعصي كما أنا عالم بذلك- فتكونوا كلكم مشاركين لي في العلم بذلك- . فإن قلت و ما فائدة وقوفهم على ذلك و علمهم به- قلت ليس بممتنع أن يكون ظهور حال العاصي و المطيع- و علم المكلفين أو أكثرهم أو بعضهم به- يتضمن لطفا في التكليف- .

فإن قلت إن الملائكة لم تكن تعلم ما البشر- و لا تتصور ماهيته فكيف قال لهم- إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ- قلت قد كان قال لهم- إني خالق جسما من صفته كيت و كيت- فلما حكاه اقتصر على الاسم- و يجوز أن يكون عرفهم من قبل- أن لفظة بشر على ما ذا تقع ثم قال لهم- إني خالق هذا الجسم المخصوص الذي أعلمتكم- أن لفظة بشر واقعة عليه من طين- . قوله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي إذا أكملت خلقه- . فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمرهم بالسجود له- و قد اختلف في ذلك فقال قوم- كان قبلة كما الكعبة اليوم قبلة- و لا يجوز السجود إلا لله- و قال آخرون بل كان السجود له تكرمة و محنة- و السجود لغير الله غير قبيح في العقل- إذا لم يكن عبادة و لم يكن فيه مفسدة- .

و قوله تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي- أي أحللت فيه الحياة و أجريت الروح إليه في عروقه- و أضاف الروح إليه تبجيلا لها- و سمى ذلك نفخا على وجه الاستعارة- لأن العرب تتصور من الروح معنى الريح- و النفخ يصدق على الريح- فاستعار لفظة النفخ توسعا- .

و قالت الحكماء هذا عبارة عن النفس الناطقة- . فإن قلت هل كان إبليس من الملائكة أم لا- قلت قد اختلف في ذلك- فمن جعله منهم احتج بالاستثناء- و من جعله من غيرهم احتج بقوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ- و جعل الاستثناء منقطعا- و بأن له نسلا و ذرية قال تعالى- أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي- و الملائكة لا نسل لهم و لا ذرية- و بأن أصله نار و الملائكة أصلها نور- و قد مر لنا كلام في هذا في أول الكتاب- .

قوله فافتخر على آدم بخلقه و تعصب عليه لأصله- كانت خلقته أهون من خلقة آدم ع- و كان أصله من نار و أصل آدم ع من طين- . فإن قلت كيف حكم على إبليس بالكفر- و لم يكن منه إلا مخالفة الأمر- و معلوم أن تارك الأمر فاسق لا كافر- قلت إنه اعتقد أن الله أمره بالقبيح- و لم ير أمره بالسجود لآدم ع حكمة- و امتنع من السجود تكبرا- و رد على الله أمره و استخف بمن أوجب الله إجلاله- و ظهر أن هذه المخالفة عن فساد عقيدة فكان كافرا- . فإن قلت هل كان كافرا في الأصل أم كان مؤمنا ثم كفر- قلت أما المرجئة فأكثرهم يقول- كان في الأصل كافرا- لأن المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر- و أما أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلا- توقفوا في حال إبليس و جوزوا كلا الأمرين- .

قوله ع رداء الجبرية الباء مفتوحة- يقال فيه جبرية و جبروة و جبروت- و جبورة كفروجة أي كبر و أنشدوا-

فإنك إن عاديتني غضب الحصا
عليك و ذو الجبورة المتغطرف‏

– . و جعله مدحورا أي مطرودا مبعدا- دحره الله دحورا أي أقصاه و طرده: وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ- يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ- وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ- وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً- وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ- وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ- تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ- وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ- فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ- إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ- وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ- لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآْخِرَةِ- عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ- فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ- كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً- بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً- إِنْ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ- وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ- فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ خطفت الشي‏ء بكسر الطاء أخطفه- إذا أخذته بسرعة استلابا- و فيه لغة أخرى‏خطف بالفتح- و يخطف بالفتح و يخطف بالكسر- و هي لغة رديئة قليلة لا تكاد تعرف و قد قرأ بها يونس في قوله تعالى- يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ- . و الرواء بالهمزة و المد المنظر الحسن- و العرف الريح الطيبة- . و الخيلاء بضم الخاء و كسرها الكبر- و كذلك الخال و المخيلة- تقول اختال الرجل و خال أيضا أي تكبر- .

و أحبط عمله أبطل ثوابه- و قد حبط العمل حبطا بالتسكين و حبوطا- و المتكلمون يسمون إبطال الثواب إحباطا- و إبطال العقاب تكفيرا- . و جهده بفتح الجيم اجتهاده و جده- و وصفه بقوله الجهيد أي المستقصى- من قولهم مرعى جهيد- أي قد جهده المال الراعي و استقصى رعية- .

و كلامه ع يدل على أنه كان يذهب- إلى أن إبليس من الملائكة لقوله- أخرج منها ملكا و الهوادة الموادعة و المصالحة- يقول إن الله تعالى خلق آدم من طين- و لو شاء أن يخلقه من النور الذي يخطف- أو من الطيب الذي يعبق لفعل- و لو فعل لهال الملائكة أمره و خضعوا له- فصار الابتلاء و الامتحان و التكليف بالسجود له- خفيفا عليهم لعظمته في نفوسهم- فلم يستحقوا ثواب العمل الشاق- و هذا يدل على أن الملائكة تشم الرائحة كما نشمها نحن- و لكن الله تعالى يبتلي عباده- بأمور يجهلون أصلها اختبارا لهم- . فإن قلت ما معنى قوله ع تمييزا بالاختبار لهم- قلت لأنه ميزهم عن غيرهم من مخلوقاته- كالحيوانات العجم و أبانهم عنهم- و فضلهم عليهم بالتكليف و الامتحان- .

قال و نفيا للاستكبار عنهم- لأن العبادات خضوع و خشوع و ذلة- ففيها نفي الخيلاء و التكبر عن فاعليها- فأمرهم بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة- لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة- و هذا يدل على أنه قد سمع فيه نصا من رسول الله ص- مجملا لم يفسره له أو فسره له خاصة- و لم يفسره أمير المؤمنين ع للناس- لما يعلمه في كتمانه عنهم من المصلحة- . فإن قلت قوله لا يدرى- على ما لم يسم فاعله يقتضي أنه هو لا يدري- قلت إنه لا يقتضي ذلك- و يكفي في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة- أن يجهله الأكثرون- . فأما القول في سني الآخرة كم هي- فاعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز آيات مختلفات- إحداهن قوله تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ- فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ- .

و الأخرى قوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ- ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ- كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ- . و الثالثة قوله- وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ- . و أولى ما قيل فيها- أن المراد بالآية الأولى مدة عمر الدنيا- و سمي ذلك يوما- و قال إن الملائكة لا تزال تعرج إليه- بأعمال البشر طول هذه المدة حتى ينقضي التكليف- و ينتقل الأمر إلى دار أخرى- و أما الآيتان الأخيرتان- فمضمونهما بيان كمية أيام الآخرة- و هو أن كل يوم منها مثل ألف سنة من سني الدنيا- .

فإن قلت فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس- إذا كانت ستة آلاف سنة من سني الآخرة- قلت يكون ما يرتفع من ضرب أحد المضروبين في الآخرة- و هو ألفا ألف ألف ثلاث لفظات- الأولى منهم مثناة و مائة ألف ألف لفظتان- و ستون ألف ألف سنة لفظتان أيضا من سني الدنيا- و لما رأى أمير المؤمنين ع هذا المبلغ عظيما جدا- علم أن أذهان السامعين لا تحتمله- فلذلك أبهم القول عليهم و قال- لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة- . فإن قلت فإذا كنتم قد رجحتم قول من يقول- إن عمر الدنيا خمسون ألف سنة- فكم يكون عمرها إن كان الله تعالى- أراد خمسين ألف سنة من سني الآخرة- لأنه لا يؤمن أن يكون أراد ذلك- إذا كانت السنة عنده عبارة عن مدة غير هذه المدة- التي قد اصطلح عليها الناس- قلت يكون ما يرتفع من ضرب خمسين ألفا- في ثلاثمائة و ستين ألف من سني الدنيا- و مبلغ ذلك ثمانية عشر ألف ألف ألف سنة- من سني الدنيا ثلاث لفظات- و هذا القول قريب من القول المحكي عن الهند- .

و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه- روايات كثيرة بأسانيد أوردها- عن جماعة من الصحابة- أن إبليس كان إليه ملك السماء و ملك الأرض- و كان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن- و إنما سموا الجن لأنهم كانوا خزان الجنان- و كان إبليس رئيسهم و مقدمهم- و كان أصل خلقهم من نار السموم و كان اسمه الحارث- قال و قد روي أن الجن كانت في الأرض- و أنهم أفسدوا فيها- فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة- فقتلهم و طردهم إلى جزائر البحار- ثم تكبر في نفسه- و رأى أنه قد صنع شيئا عظيما لم يصنعه غيره- قال و كان شديد الاجتهاد في العبادة- .

و قيل كان اسمه عزازيل- و أن الله تعالى جعله حكما و قاضيا بين سكان الأرض- قبل خلق آدم فدخله الكبر و العجب- لعبادته و اجتهاده- و حكمه في سكان الأرض و قضائه بينهم- فانطوى على المعصية- حتى كان من أمره مع آدم ع ما كان- قلت و لا ينبغي أن نصدق من هذه الأخبار و أمثالها- إلا ما ورد في القرآن العزيز- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه- أو في السنة أو نقل عمن يجب الرجوع إلى قوله- و كل ما عدا ذلك فالكذب فيه أكثر من الصدق- و الباب مفتوح- فليقل كل أحد في أمثال هذه القصص ما شاء- و اعلم أن كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل- يطابق مذهب أصحابنا في أن الجنة لا يدخلها ذو معصية- أ لا تسمع قوله- فمن بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته- كلا ما كان الله ليدخل الجنة بشرا- بأمر أخرج به منها ملكا- إن حكمه في أهل السماء و الأرض لواحد- .

فإن قلت أ ليس من قولكم- إن صاحب الكبيرة إذا تاب دخل الجنة- فهذا صاحب معصية و قد حكمتم له بالجنة- قلت إن التوبة أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص- . فإن قلت إن أمير المؤمنين ع إنما قال- فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته- و لم يقل بالمعصية المطلقة- و المرجئة لا تخالف- في أن من وافى القيامة بمثل معصية إبليس- لم يكن من أهل الجنة- قلت كل معصية كبيرة فهي مثل معصيته- و لم يكن إخراجه من الجنة لأنه كافر- بل لأنه عاص مخالف للأمر- أ لا ترى أنه قال سبحانه- قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها- فعلل إخراجه من الجنة بتكبره لا بكفره- . فإن قلت هذا مناقض لما قدمت في شرح الفصل الأول-قلت كلا لأني في الفصل الأول- عللت استحقاقه اسم الكفر- بأمر زائد على المعصية المطلقة و هو فساد اعتقاده- و لم أجعل ذلك علة في خروجه من الجنة- و هاهنا عللت خروجه من الجنة- بنفس المعصية فلا تناقض- .

فإن قلت ما معنى قول أمير المؤمنين ع- ما كان الله ليدخل الجنة بشرا- بأمر أخرج به منها ملكا- و هل يظن أحد أو يقول- إن الله تعالى يدخل الجنة أحدا من البشر- بالأمر الذي أخرج به هاهنا إبليس- كلا هذا ما لا يقوله أحد- و إنما الذي يقوله المرجئة- إنه يدخل الجنة من قد عصى و خالف الأمر- كما خالف الأمر إبليس- برحمته و عفوه و كما يشاء- لا أنه يدخله الجنة بالمعصية- و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي- نفي دخول أحد الجنة بالمعصية- لأن الباء للسببية- قلت الباء هاهنا ليست للسببية- كما يتوهمه هذا المعترض- بل هي كالباء في قولهم خرج زيد بثيابه- و دخل زيد بسلاحه أي خرج لابسا- و دخل متسلحا أي يصحبه الثياب و يصحبه السلاح- فكذلك قوله ع بأمر أخرج به منها ملكا- معناه أن الله تعالى لا يدخل الجنة بشرا- يصحبه أمر أخرج الله به ملكا منها: فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ- وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجْلِهِ- فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ- وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ- وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ- فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ- وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّغَيْرِ مُصِيبٍ- صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ- وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِ وَ الْجَاهِلِيَّةِ- حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ- وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَةُ مِنْهُ فِيكُمْ- فَنَجَمَتْ فِيهِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ- اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ- وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ- فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ- وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ- وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ- وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ- وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ- إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ- فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً- وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً- مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ- فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ- فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ- وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ- وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجْلِهِ سَبِيلَكُمْ- يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ- لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ- فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ- وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ- فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ- مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ- مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ- وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ- وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ- وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ- وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ- مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَ جُنُودِهِ- فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً- وَ رَجْلًا وَ فُرْسَاناً- وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ- مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ- سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَبِ- وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ- وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ- الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ- وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

موضع أن يعديكم- نصب على البدل من عدو الله- و قال الراوندي يجوز أن يكون مفعولا ثانيا- و هذا ليس بصحيح لأن حذر لا يتعدى إلى المفعولين- و العدوى ما يعدي من جرب أو غيره- أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته- و هو مجاوزته من صاحبه إلى غيره- و في الحديث لا عدوى في الإسلام – .

فإن قلت فإذا كان النبي ص قد أبطل أمر العدوى- فكيف قال أمير المؤمنين فاحذروه أن يعديكم- قلت إن النبي ص- أبطل ما كانت العرب تزعمه- من عدوى الجرب في الإبل و غيرها- و أمير المؤمنين ع حذر المكلفين- من أن يتعلموا من إبليس الكبر و الحمية- و شبه تعلمهم ذلك منه بالعدوى- لاشتراك الأمرين- في الانتقال من أحد الشخصين إلى الآخر- . قوله ع يستفزكم أي يستخفكم- و هو من ألفاظ القرآن- وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ- أي أزعجه و استخفه و أطر قلبه- و الخيل الخيالة و منه الحديث يا خيل الله اركبي – . و الرجل اسم جمع لراجل كركب اسم جمع لراكب- و صحب اسم جمع لصاحب- و هذه أيضا من ألفاظ القرآن العزيز- وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ- و قرئ و رجلك- بكسر الجيم على أن فعلا بالكسر- بمعنى فاعل نحو تعب و تاعب-و معناه و قد تضم الجيم أيضا- فيكون مثل قولك- رجل حدث و حدث و ندس و ندس- .

فإن قلت فهل لإبليس خيل تركبها جنده- قلت يجوز أن يكون ذلك- و قد فسره قوم بهذا- و الصحيح أنه كلام خرج مخرج المثل- شبهت حاله في تسلطه على بني آدم- بمن يغير على قوم بخيله فيستأصلهم- و قيل بصوتك أي بدعائك إلى القبيح- و خيله و رجله كل ماش و راكب- من أهل الفساد من بني آدم قوله و فوقت السهم جعلت له فوقا- و هو موضع الوتر و هذا كناية عن الاستعداد- و لا يجوز أن يفسر قوله- فقد فوق لكم سهم الوعيد- بأنه وضع الفوق في الوتر ليرمي به- لأن ذلك لا يقال فيه قد فوق- بل يقال أفقت السهم و أوفقته أيضا- و لا يقال أفوقته و هو من النوادر- .

و قوله و أغرق إليكم بالنزع- أي استوفى مد القوس و بالغ في نزعها- ليكون مرماه أبعد و وقع سهامه أشد- . قوله و رماكم من مكان قريب- لأنه كما جاء في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم و يخالط القلب – و لا شي‏ء أقرب من ذلك- . و الباء في قوله فَبِما أَغْوَيْتَنِي- متعلق بفعل محذوف تقديره- أجازيك بما أغويتني تزييني لهم القبيح- فما على هذا مصدرية- أي أجازيك بإغوائك لي تزييني لهم القبيح- فحذف المفعول- و يجوز أن تكون الباء قسما- كأنه أقسم بإغوائه إياه ليزينن لهم- . فإن قلت و أي معنى في أن يقسم بإغوائه- و هل هذا مما يقسم به- قلت نعم لأنه ليس إغواء الله تعالى إياه- خلق الغي و الضلال في قلبه- بل تكليفه‏إياه السجود- الذي وقع الغي عنده من الشيطان لا من الله- فصار حيث وقع عنده كأنه موجب عنه فنسب إلى الباري- و التكليف تعريض للثواب و لذة الأبد- فكان جديرا أن يقسم به و قد أقسم في موضع آخر- فقال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- فأقسم بالعزة و هاهنا أقسم بالأمر و التكليف- و يجوز فيه وجه ثالث- و هو ألا تكون الباء قسما و يقدر قسم محذوف- و يكون المعنى بسبب ما كلفتني فأفضى إلى غوايتي- أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بي- و هو أن أزين لهم المعاصي التي تكون سبب هلاكهم- .

فإن قلت ليس هذا نحو ما فعله الباري به- لأن الباري أمره بالحسن فأباه- و عدل عنه إلى القبيح- و الشيطان لا يأمرنا بالحسن فنكرهه- و نعدل عنه إلى القبيح- فكيف يكون ذلك نحو واقعته مع الباري- قلت المشابهة بين الواقعتين- في أن كل واحدة منهما تقع عندها المعصية- لا على وجه الإجبار و القسر بل على قصد الاختيار- لأن معصية إبليس كانت من نفسه- و وقعت عند الأمر بالسجود- اختيارا منه لا فعلا من الباري- و معصيتنا نحن عند التزيين و الوسوسة- تقع اختيارا منا لا اضطرارا يضطرنا إبليس إليه- فلما تشابهت الصورتان في هذا المعنى حسن قوله- بما فعلت بي كذا لأفعلن بهم نحوه- .

فإن قلت ما معنى قوله فِي الْأَرْضِ- و من أين كان يعلم إبليس أن آدم سيصير له ذرية في الأرض- قلت أما علمه بذلك فمن قول الله تعالى له و للملائكة- إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً- و أما لفظة الأرض فالمراد بها هاهنا الدنيا- التي هي دار التكليف كقوله تعالى-وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ- ليس يريد به الأرض بعينها بل الدنيا- و ما فيها من الملاذ و هوى الأنفس- . قوله ع قذفا بغيب بعيد- أي قال إبليس هذا القول قذفا بغيب بعيد- و العرب تقول للشي‏ء المتوهم على بعد- هذا قذف بغيب بعيد- و القذف في الأصل رمي الحجر و أشباهه- و الغيب الأمر الغائب- و هذه اللفظة من الألفاظ القرآنية قال الله تعالى في كفار قريش- وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ- أي يقولون هذا سحر أو هذا من تعليم أهل الكتاب- أو هذه كهانة و غير ذلك مما كانوا يرمونه ع به- و انتصب قذفا على المصدر الواقع موقع الحال- و كذلك رجما- و قال الراوندي انتصبا لأنهما مفعول له- و ليس بصحيح- لأن المفعول له ما يكون عذرا و علة لوقوع الفعل- و إبليس ما قال ذلك الكلام لأجل القذف و الرجم- فلا يكون مفعولا له- .

فإن قلت كيف قال ع- قذفا من مكان بعيد و رجما بظن غير مصيب- و قد صح ما توهمه و أصاب في ظنه- فإن إغواءه و تزيينه تم على الناس كلهم- إلا على المخلصين- قلت أما أولا فقد روي و رجما بظن مصيب- بحذف غير و يؤكد هذه الرواية قوله تعالى- وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً- و أما ثانيا على الرواية التي هي أشهر فنقول- أما قذفا من مكان بعيد- فإنه قال ما قال على سبيل التوهم و الحسبان- لأمر مستبعد لا يعلم صحته و لا يظنها- و ليس وقوع ما وقع من المعاصي و صحة ما توهمه- بمخرج لكون قوله الأول قذفا بغيب بعيد- و أما رجما بظن غير مصيب-فيجب أن يحمل قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- على الغواية بمعنى الشرك أو الكفر- و يكون الاستثناء و هو قوله- إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ- معناه إلا المعصومين من كل معصية- و هذا ظن غير مصيب- لأنه ما أغوى كل البشر الغواية التي هي الكفر و الشرك- إلا المعصومين العصمة المطلقة- بل أغوى بعضهم كذلك- و بعضهم بأن زين له الفسق دون الكفر- فيكون ظنه أنه قادر على إغواء البشر كافة- بمعنى الضلال بالكفر ظنا غير مصيب- . قوله صدقه به أبناء الحمية موضع صدقه جر- لأنه صفة ظن و قد روي- صدقه أبناء الحمية من غير ذكر الجار و المجرور- و من رواه بالجار و المجرور كان معناه- صدقه في ذلك الظن أبناء الحمية فأقام الباء مقام في- .

قوله حتى إذا انقادت له الجامحة منكم- أي الأنفس الجامحة أو الأخلاق الجامحة- . قوله فنجمت فيه الحال أي ظهرت- و قد روي فنجمت الحال من السر الخفي- من غير ذكر الجار و المجرور- و من رواه بالجار و المجرور فالمعنى- فنجمت الحال في هذا الشأن المذكور- بينه و بينكم من الخفاء إلى الجلاء- . و استفحل سلطانه قوي و اشتد و صار فحلا- و استفحل جواب قوله حتى إذا- . دلف بجنوده تقدم بهم- . و الولجات جمع ولجة بالتحريك- و هي موضع أو كهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره- . و أقحموكم أدخلوكم و الورطة الهلكة- . قوله و أوطئوكم إثخان الجراحة- أي جعلوكم واطئين لذلك- و الإثخان مصدر أثخن في القتل- أي أكثر منه و بالغ حتى كثف شأنه- و صار كالشي‏ء الثخين- و معنى‏إيطاء الشيطان ببني آدم ذلك- إلقاؤه إياهم فيه و توريطهم و حمله لهم عليه- فالإثخان على هذا منصوب لأنه مفعول ثان- لا كما زعم الراوندي أنه انتصب بحذف حرف الخفض- .

قوله ع طعنا في عيونكم- انتصب طعنا على المصدر و فعله محذوف- أي فعلوا بكم هذه الأفعال فطعنوكم في عيونكم طعنا- فأما من روى و أوطئوكم لإثخان الجراحة- باللام فإنه يجعل طعنا منصوبا على أنه مفعول به- أي أوطئوكم طعنا و حزا- كقولك أوطأته نارا و أوطأته عشوة- و يكون لإثخان الجراحة مفعولا له- أي أوطئوكم الطعن ليثخنوا جراحكم- و ينبغي أن يكون قصدا و سوقا- خالصين للمصدرية لأنه يبعد أن يكون مفعولا به- . و اعلم أنه لما ذكر الطعن نسبه إلى العيون- و لما ذكر الحز و هو الذبح نسبه إلى الحلوق- و لما ذكر الدق و هو الصدم الشديد أضافه إلى المناخر- و هذا من صناعة الخطابة التي علمه الله إياها بلا تعليم- و تعلمها الناس كلهم بعده منه- . و الخزائم جمع خزامة- و هي حلقة من شعر تجعل في وتره أنف البعير- فيشد فيها الزمام- . و تقول قد ورى الزند أي خرجت ناره- و هذا الزند أورى من هذا- أي أكثر إخراجا للنار- يقول فأصبح الشيطان أضر عليكم- و أفسد لحالكم من أعدائكم الذين أصبحتم مناصبين لهم- أي معادين و عليهم متألبين أي مجتمعين- .

فإن قلت أما أعظم في الدين حرجا فمعلوم- فأي معنى لقوله و أورى في دنياكم قدحا- و هل يفسد إبليس أمر الدنيا كما يفسد أمر الدين- قلت نعم لأن أكثر القبائح الدينية- مرتبطة بالمصالح و المفاسد الدنيوية- أ لا ترى أنه إذا أغرى السارق بالسرقة- أفسد حال السارق من جهة الدين- و حال المسروق منه من جهة الدنيا-و كذلك القول في الغصب و القتل- و ما يحدث من مضار الشرور الدنيوية- من اختلاط الأنساب و اشتباه النسل- و ما يتولد من شرب الخمر و السكر الحاصل عنها- من أمور يحدثها السكران خبطا بيده و قذفا بلسانه- إلى غير ذلك من أمثال هذه الأمور و أشباهها- .

قوله ع فاجعلوا عليه حدكم- أي شباتكم و بأسكم- . و له جدكم من جددت في الأمر جدا- أي اجتهدت فيه و بالغت- . ثم ذكر أنه فخر على أصل بني آدم- يعني أباهم آدم ع- حيث امتنع من السجود له و قال أنا خير منه- . و وقع في حسبكم أي عاب حسبكم و هو الطين- فقال إن النار أفضل منه و دفع في نسبكم مثله- و أجلب بخيله عليكم أي جمع خيالته و فرسانه و ألبها- . و يقتنصونكم يتصيدونكم- و البنان أطراف الأصابع و هو جمع واحدته بنانة- و يجمع في القلة على بنانات و يقال بنان مخضب- لأن كل جمع ليس بينه و بين واحدة إلا الهاء- فإنه يذكر و يوحد- . و الحومة معظم الماء و الحرب و غيرهما- و موضع هذا الجار و المجرور نصب على الحال- أي يقتنصونكم في حومة ذل- . و الجولة الموضع الذي تجول فيه- . و كمن في قلوبكم استتر و منه الكمين في الحرب- . و نزغات الشيطان وساوسه التي يفسد بها و نفثاته مثله- . قوله و اعتمدوا وضع التذلل على رءوسكم- و إلقاء التعزز تحت أقدامكم- كلام شريف جليل المحل- و كذلك قوله ع و اتخذوا التواضع- مسلحة بينكم و بين عدوكم إبليس و جنوده- و المسلحة خيل معدة للحماية و الدفاع- .

ثم نهاهم أن يكونوا كقابيل- الذي حسد أخاه هابيل فقتله- و هما أخوان لأب و أم- و إنما قال ابن أمه فذكر الأم دون الأب- لأن الأخوين من الأم أشد حنوا و محبة- و التصاقا من الأخوين من الأب- لأن الأم هي ذات الحضانة و التربية- . و قوله من غير ما فضل- ما هاهنا زائدة و تعطي معنى التأكيد- نهاهم ع أن يحسدوا النعم- و أن يبغوا و يفسدوا في الأرض- فإن آدم لما أمر ولده بالقربان- قرب قابيل شر ماله و كان كافرا- و قرب هابيل خير ماله و كان مؤمنا- فتقبل الله تعالى من هابيل و أهبط من السماء نارا فأكلته- قالوا لأنه لم يكن في الأرض حينئذ فقير- يصل القربان إليه- فحسده قابيل و كان أكبر منه سنا- فقال لأقتلنك قال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين- أي بذنبك و جرمك كان عدم قبول قربانك- لانسلاخك من التقوى- فقتله فأصبح نادما- لا ندم التوبة بل ندم الحير و رقة الطبع البشري- و لأنه تعب في حمله كما ورد في التنزيل- أنه لم يفهم ما ذا يصنع به حتى بعث الله الغراب- .

قوله ع و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة- لأنه كان ابتدأ بالقتل- و من سن سنة شر كان عليه وزرها- و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة- كما أن من سن سنة خير كان له أجرها- و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه- أن الروايات اختلفت في هذه الواقعة- فروى قوم أن الرجلين كانا من بني إسرائيل- و ليسا من ولد آدم لصلبه- و الأكثرون خالفوا في ذلك- . ثم اختلف الأكثرون- فروى قوم أن القربان من قابيل و هابيل كان ابتداء- و الأكثرون قالوا بل أراد آدم ع- أن يزوج هابيل أخت قابيل توأمته- و يزوج‏قابيل أخت هابيل توأمته- فأبى قابيل لأن توأمته كانت أحسن- فأمرهما أبوهما بالقربان- فمن تقبل قربانه نكح الحسناء- فتقبل قربان هابيل- فقتله أخوه كما ورد في الكتاب العزيز- .

و روى الطبري مرفوعا أنه ص قال ما من نفس تقتل ظلما- إلا كان على ابن آدم ع الأول كفل منها- و ذلك بأنه أول من سن القتل و هذا يشيد قول أمير المؤمنين ع: أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ- مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ- وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ- فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ- الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ- حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ- ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ- أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ- وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ- أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ- الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ- وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ- وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ- مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لآِلَائِهِ- فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ آسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ- وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً- وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً-وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ- وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ- وَ هُمْ آسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ- اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ- وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ- وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ- اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ- وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ- فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ- فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ- مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ- وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعُ جُنُوبِهِمْ- وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ- كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ أمعنتم في البغي بالغتم فيه- من أمعن في الأرض أي ذهب فيها بعيدا- و مصارحة لله أي مكاشفة- .

و المناصبة المعاداة- . و ملاقح الشنئان قال الراوندي- الملاقح هي الفحول التي تلقح و ليس بصحيح- نص الجوهري على أن الوجه لواقح كما جاء في القرآن- وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ- و قال هو من النوادر لأن الماضي رباعي- و الصحيح أن ملاقح هاهنا جمع ملقح و هو المصدر- من لقحت كضربت مضربا و شربت مشربا- و يجوز فتح النون من الشنئان و تسكينها و هو البغض- . و منافخ الشيطان جمع منفخ- و هو مصدر أيضا من نفخ- و نفخ الشيطان و نفثه‏واحد و هو وسوسته و تسويله- و يقال للمتطاول إلى ما ليس له- قد نفخ الشيطان في أنفه- . و في كلامه ع يقوله لطلحة و هو صريع- و قد وقف عليه و أخذ سيفه سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ص- و لكن الشيطان نفخ في أنفه – .

قوله و أعنقوا أصرعوا- و فرس معناق و السير العنق- قال الراجز- يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا- . و الحنادس الظلم- . و المهاوي جمع مهواة بالفتح- و هي الهوة يتردى الصيد فيها- و قد تهاوى الصيد في المهواة- إذا سقط بعضه في أثر بعض- . قوله ع ذللا عن سياقه انتصب على الحال- جمع ذلول و هو السهل المقادة- و هو حال من الضمير في أعنقوا- أي أسرعوا منقادين لسوقه إياهم- . و سلسا جمع سلس و هو السهل أيضا- و إنما قسم ذللا و سلسا بين سياقه و قياده- لأن المستعمل في كلامهم- قدت الفرس فوجدته سلسا أو صعبا- و لا يستحسنون سقته فوجدته سلسا أو صعبا- و إنما المستحسن عندهم سقته فوجدته ذلولا أو شموسا- .

قوله ع أمرا منصوب بتقدير فعل- أي اعتمدوا أمرا و كبرا معطوف عليه- أو ينصب كبرا على المصدر- بأن يكون اسما واقعا موقعه- كالعطاء موضع الإعطاء- . و قال الراوندي أمرا منصوب هاهنا لأنه مفعول به- و ناصبه المصدر الذي هو سياقه و قياده- تقول سقت و قدت قيادا- و هذا غير صحيح لأن مفعول هذين المصدرين محذوف- تقديره عن سياقه إياهم و قياده إياهم- و هذا هو معنى الكلام- و لو فرضنا مفعول‏أحد هذين المصدرين- أمرا لفسد معنى الكلام- و قال الراوندي أيضا و يجوز أن يكون أمرا حالا- و هذا أيضا ليس بشي‏ء- لأن الحال وصف هيئة الفاعل أو المفعول- و أمرا ليس كذلك- . قوله ع تشابهت القلوب فيه- أي أن الحمية و الفخر و الكبر و العصبية- ما زالت القلوب متشابهة متماثلة فيها- . و تتابعت القرون عليه جمع قرن بالفتح- و هي الأمة من الناس- . و كبرا تضايقت الصدور به أي كبر في الصدور- حتى امتلأت به و ضاقت عنه لكثرته- . ثم أمر بالحذر من طاعة الرؤساء أرباب الحمية- و فيه إشارة إلى قوله تعالى- إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا- . و قد كان أمر في الفصل الأول بالتواضع لله- و نهى هاهنا عن التواضع للرؤساء- و قد جاء في الخبر المرفوع ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء- و أحسن منه تكبر الفقراء على الأغنياء – . الذين تكبروا عن حسبهم أي جهلوا أنفسهم- و لم يفكروا في أصلهم من النطف المستقذرة- من الطين المنتن- قال الشاعر

ما بال من أوله نطفة
و جيفة آخره يفخر

يصبح لا يملك تقديم ما
يرجو و لا تأخير ما يحذر

قوله ع و ألقوا الهجينة على ربهم- روي الهجينة على فعيلة كالطبيعة و الخليقة- و روي الهجنة على فعلة كالمضغة و اللقمة- و المراد بهما الاستهجان من قولك هو يهجن كذا- أي يقبحه و يستهجنه أي يستقبحه- أي نسبوا ما في الأنساب‏من القبح بزعمهم إلى ربهم- مثل أن يقولوا للرجل أنت عجمي و نحن عرب- فإن هذا ليس إلى الإنسان- بل هو إلى الله تعالى فأي ذنب له فيه- . قوله و جاحدوا الله- أي كابروه و أنكروا صنعه إليهم- . و آساس بالمد جمع أساس- . و اعتزاء الجاهلية قولهم يا لفلان- و سمع أبي بن كعب رجلا يقول يا لفلان فقال- عضضت بهن أبيك فقيل له- يا أبا المنذر ما كنت فحاشا- قال سمعت رسول الله ص يقول من تعزى بعزاء الجاهلية- فأعضوه بهن أبيه و لا تكنوا – . قوله فلا تكونوا لنعمة الله أضدادا- لأن البغي و الكبر- يقتضيان زوال النعمة و تبدلها بالنقمة- .

قوله و لا تطيعوا الأدعياء- مراده هاهنا بالأدعياء- الذين ينتحلون الإسلام و يبطنون النفاق- . ثم وصفهم فقال الذين شربتم بصفوكم كدرهم- أي شربتم كدرهم مستبدلين ذلك بصفوكم- و يروى الذين ضربتم أي مزجتم- و يروى شريتم أي بعتم و استبدلتم- . و الأحلاس جمع حلس و هو كساء رقيق- يكون على ظهر البعير ملازما له- فقيل لكل ملازم أمر هو حلس ذلك الأمر- . و الترجمان بفتح التاء- هو الذي يفسر لسانا بلسان غيره- و قد تضم التاء- و يروى و نثا في أسماعكم- من نث الحديث أي أفشاه‏:

فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ- لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ- وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ- فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ- وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ- وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ- وَ كَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ- قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ- وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَحَّصَهُمْ بِالْمَكَارِهِ- فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَا وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ- جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ- وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الْإِقْتَارِ- فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ- نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ التكابر التعاظم- و الغرض مقابلة لفظة التواضع- لتكون الألفاظ مزدوجة- . و عفر وجهه ألصقه بالعفر- . و خفضوا أجنحتهم ألانوا جانبهم- . و المخمصة الجوع و المجهدة المشقة- و أمير المؤمنين ع كثير الاستعمال لمفعل و مفعلة- بمعنى المصدر- إذا تصفحت كلامه عرفت ذلك- . و محصهم أي طهرهم- و روي مخضهم بالخاء و الضاد المعجمة- أي حركهم و زلزلهم- .

ثم نهى أن يعتبر رضا الله و سخطه- بما نراه من إعطائه الإنسان مالا و ولدا- فإن ذلك جهل بمواقع الفتنة و الاختبار- . و قوله تعالى أَ يَحْسَبُونَ الآية- دليل على ما قاله ع- و الأدلة العقلية أيضا دلت- على أن كثيرا من الآلام و الغموم و البلوى- إنما يفعله الله تعالى للألطاف و المصالح- و ما الموصولة في الآية- يعود إليها محذوف و مقدر لا بد منه- و إلا كان الكلام غير منتظم- و غير مرتبط بعضه ببعض- و تقديره نسارع لهم في الخيرات: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ- بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ- وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ع- عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ- وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ- بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامِ عِزِّهِ- فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ- وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ- وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ- فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ- إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ- وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ- وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ- حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ- وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ- وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ- لَفَعَلَ- وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ- وَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ- وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ- وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا- وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ- وَ ضَعَفَةً فِيمَاتَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ- مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى- وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى مدارع الصوف جمع مدرعة بكسر الميم- و هي كالكساء- و تدرع الرجل و تمدرع إذا لبسها- و العصي جمع عصا- .

و تقول هذا سوار المرأة و الجمع أسورة- و جمع الجمع أساورة- و قرئ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ- و قد يكون جمع أساور- قال سبحانه يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ- قال أبو عمرو بن العلاء أساور هاهنا- جمع إسوار و هو السوار- . و الذهبان بكسر الذال جمع ذهب- كخرب لذكر الحبارى و خربان- و العقيان الذهب أيضا قوله ع و اضمحلت الأنباء أي تلاشت و فنيت- و الأنباء جمع نبأ و هو الخبر- أي لسقط الوعد و الوعيد و بطلا- . قوله ع و لا لزمت الأسماء معانيها- أي من يسمى مؤمنا أو مسلما حينئذ- فإن تسميته مجاز لا حقيقة- لأنه ليس بمؤمن إيمانا من فعله و كسبه- بل يكون ملجأ إلى الإيمان بما يشاهده من الآيات العظيمة- . و المبتلين بفتح اللام جمع مبتلى- كالمعطين و المرتضين جمع معطى و مرتضى- . و الخصاصة الفقر- .

و هذا الكلام هو ما يقوله أصحابنا بعينه- في تعليل أفعال الباري سبحانه بالحكمة و المصلحة- و أن الغرض بالتكليف هو التعريض للثواب- و أنه يجب أن يكون خالصا من الإلجاء- و من أن يفعل الواجب بوجه غير وجه وجوبه- يرتدع عن القبيح لوجه غير وجه قبحه- . و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ- أن موسى قدم هو و أخوه هارون مصر على فرعون- لما بعثهما الله تعالى إليه- حتى وقفا على بابه يلتمسان الإذن عليه- فمكثا سنين يغدوان على بابه و يروحان لا يعلم بهما- و لا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما- و قد كانا قالا لمن بالباب- إنا رسولا رب العالمين إلى فرعون- حتى دخل عليه بطال له يلاعبه و يضحكه- فقال له أيها الملك إن على الباب رجلا- يقول قولا عجيبا عظيما و يزعم أن له إلها غيرك- قال ببابي قال نعم قال أدخلوه- فدخل و بيده عصاه و معه هارون أخوه- فقال أنا رسول رب العالمين إليك- و ذكر تمام الخبر- . فإن قلت أي خاصية في الصوف و لبسه- و لم اختاره الصالحون على غيره- قلت ورد في الخبر أن أول لباس- لبسه آدم لما هبط إلى الأرض- صوف كبش قيضه الله له- و أمره أن يذبحه فيأكل لحمه و يلبس صوفه- لأنه أهبط عريان من الجنة- فذبحه و غزلت حواء صوفه فلبس آدم منه ثوبا- و ألبس حواء ثوبا آخر- فلذلك صار شعار الأولياء و انتسبت إليه الصوفية:
وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ- وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ- لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ- وَ أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِكْبَارِ- وَ لآَمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ- فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً- وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ- وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ- وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ- أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا يَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ تمد نحوه أعناق الرجال أي لعظمته- أي يؤمله المؤملون و يرجوه الراجون- و كل من أمل شيئا فقد طمح ببصره إليه معنى لا صورة- فكنى عن ذلك بمد العنق- . و تشد إليه عقد الرحال يسافر أرباب الرغبات إليه- يقول لو كان الأنبياء ملوكا ذوي بأس و قهر- لم يمكن إيمان الخلق و انقيادهم إليهم- لأن الإيمان في نفسه واجب عقلا- بل كان لرهبة لهم أو رغبة فيهم- فكانت النيات مشتركة- هذا فرض سؤال و جواب عنه كأنه قال لنفسه- لم لا يجوز أن يكون إيمانهم على هذا التقدير لوجوبه- و لخوف ذلك النبي أو لرجاء نفع ذلك النبي ص- فقال لأن النيات تكون حينئذ مشتركة- أي يكون المكلف قد فعل الإيمان لكلا الأمرين- و كذلك تفسير قوله و الحسنات مقتسمة- قال و لا يجوز أن تكون طاعة الله تعالى تعلو- إلا لكونها طاعة له لا غير- و لا يجوز أن يشوبها و يخالطها من غيرها شائبة- .

فإن قلت ما معنى قوله- لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار- و أبعد لهم من الاستكبار- قلت أي لو كان الأنبياء كالملوك في السطوة و البطش- لكان المكلف لا يشق عليه الاعتبار- و الانزجار عن القبائح مشقته عليه- إذا تركه لقبحه لا لخوف السيف- و كان بعد المكلفين عن الاستكبار و البغي- لخوف السيف و التأديب- أعظم من بعدهم عنهما إذا تركوهما لوجه قبحهما- فكان يكون ثواب المكلف إما ساقطا و إما ناقصا: وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ- كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ- أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ- الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ص إِلَى الآْخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ- بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ- فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً- ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً- وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً- وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً- بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ- وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ- لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ- ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ع وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ- فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ- تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ- وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ- حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا- يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ- شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ- وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ- ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً- وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً- جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ-وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ- أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ- بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ- جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ- مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى- بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ- وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ- وَ زُرُوعٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ- لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ- وَ لَوْ كَانَ الْأَسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا- وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا- مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ- لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ- وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ- وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ- وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ- وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ- وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ- إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ- وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ- وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ- وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ كانت المثوبة أي الثواب- . و أجزل أكثر و الجزيل العظيم- و عطاء جزل و جزيل و الجمع جزال- و قد أجزلت له من العطاء أي أكثرت- . و جعله للناس قياما أي عمادا- و فلان قيام أهله أي يقيم شئونهم- و منه قوله تعالى- وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً- .
و أوعر بقاع الأرض حجرا أي أصعبها- و مكان وعر بالتسكين صعب المسلك أو المقام- .

و أقل نتائق الدنيا مدرا- أصل هذه اللفظة من قولهم- امرأة منتاق أي كثيرة الحبل و الولادة- و يقال ضيعة منتاق أي كثيرة الريع- فجعل ع الضياع ذوات المدر التي تثار للحرث نتائق- و قال إن مكة أقلها صلاحا للزرع لأن أرضها حجرية- . و القطر الجانب و رمال دمثة سهلة- و كلما كان الرمل أسهل كان أبعد عن أن ينبت- . و عيون وشلة أي قليلة الماء- و الوشل بفتح الشين الماء القليل- و يقال وشل الماء وشلانا أي قطر- .

قوله لا يزكو بها خف- أي لا تزيد الإبل فيها أي لا تسمن- و الخف هاهنا هو الإبل- و الحافر الخيل و الحمير و الظلف الشاة- أي ليس حولها مرعى يرعاه الغنم فتسمن- . و أن يثنوا أعطافهم نحوه أي يقصدوه و يحجوه- و عطفا الرجل جانباه- . و صار مثابة أي يثاب إليه- و يرجع نحوه مرة بعد أخرى- و هذه من ألفاظ الكتاب العزيز- . قوله ع لمنتجع أسفارهم أي لنجعتها- و النجعة طلب الكلأ في الأصل- ثم سمي كل من قصد أمرا يروم النفع منه منتجعا- . قوله و غاية لملقى رحالهم- أي صار البيت هو الغاية التي هي الغرض و المقصد- و عنده تلقى الرحال أي تحط رحال الإبل عن ظهورها- و يبطل السفر لأنهم قد انتهوا إلى الغاية المقصودة- .

قوله تهوي إليه ثمار الأفئدة- ثمرة الفؤاد هو سويداء القلب- و منه قولهم للولد هو ثمرة الفؤاد- و معنى تهوي إليه أي تتشوقه و تحن نحوه- . و المفاوز هي جمع مفازة الفلاة سميت مفازة- إما لأنها مهلكة من قولهم فوز الرجل أي هلك- و أما تفاؤلا بالسلامة و الفوز- و الرواية المشهورة من مفاوز قفار بالإضافة- و قد روى قوم من مفاوز بفتح الزاء- لأنه لا ينصرف و لم يضيفوا- جعلوا قفار صفة- . و السحيقة البعيدة- . و المهاوي المساقط- . و الفجاج جمع فج و هو الطريق بين الجبلين- . قوله ع حتى يهزوا مناكبهم- أي يحركهم الشوق نحوه إلى أن يسافروا إليه- فكنى عن السفر بهز المناكب- . و ذللا حال إما منهم و إما من المناكب- و واحد المناكب منكب بكسر الكاف- و هو مجمع عظم العضد و الكتف- .

قوله و يهللون يقولون لا إله إلا الله- و روي يهلون لله أي يرفعون أصواتهم بالتلبية و نحوها- . و يرملون الرمل السعي فوق المشي قليلا- . شعثا غبرا لا يتعهدون شعورهم و لا ثيابهم و لا أبدانهم- قد نبذوا السرابيل و رموا ثيابهم و قمصانهم المخيطة- . و شوهوا بإعفاء الشعور- أي غيروا و قبحوا محاسن صورهم- بأن أعفوا شعورهم فلم يحلقوا ما فضل منها- و سقط على الوجه و نبت في غيره من الأعضاء- التي جرت العادة بإزالتها عنها- .و التمحيص التطهير- من محصت الذهب بالنار إذا صفيته مما يشوبه- و التمحيص أيضا الامتحان و الاختبار- و المشاعر معالم النسك- . قوله و سهل و قرار أي في مكان سهل- يستقر فيه الناس و لا ينالهم من المقام به مشقة- . و جم الأشجار كثيرها و داني الثمار قريبها- . و ملتف البنى مشتبك العمارة- . و البرة الواحدة من البر و هو الحنطة- . و الأرياف جمع ريف و هو الخصب و المرعى في الأصل- و هو هاهنا السواد و المزارع- و محدقة محيطة و مغدقة غزيرة- و الغدق الماء الكثير- . و ناضرة ذات نضارة و رونق و حسن- .

قوله و لو كانت الإساس- يقول لو كانت إساس البيت التي حمل البيت عليها- و أحجاره التي رفع بها من زمردة و ياقوتة- فالمحمول و المرفوع كلاهما مرفوعان- لأنهما صفة اسم كان و الخبر من زمردة- و روي بين زمردة- و يجوز أن تحمل لفظتا المفعول- و هما المحمول و المرفوع ضمير البيت- فيكون قائما مقام اسم الفاعل- و يكون موضع الجار و المجرور نصبا- و يجوز ألا تحملهما ذلك الضمير- و يجعل الجار و المجرور هو الساد مسد الفاعل- فيكون موضعه رفعا- . و روي مضارعة الشك بالضاد المعجمة- و معناه مقارنة الشك و دنوه من النفس- و أصله من مضارعة القدر إذا حان إدراكها- و من مضارعة الشمس إذا دنت للمغيب- . و قال الراوندي في تفسير هذه الكلمة- من مضارعة الشك أي مماثلته و مشابهته- و هذا بعيد لأنه لا معنى للمماثلة و المشابهة هاهنا- و الرواية الصحيحة بالصاد المهملة- . قوله ع و لنفى متعلج الريب أي اعتلاجه- أي و لنفى اضطراب الشك في القلوب- و روي يستعبدهم و يتعبدهم و الثانية أحسن- .و المجاهد جمع مجهدة و هي المشقة- . و أبوابا فتحا أي مفتوحة و أسبابا ذللا أي سهلة- . و اعلم أن محصول هذا الفصل- أنه كلما كانت العبادة أشق كان الثواب عليها أعظم- و لو أن الله تعالى جعل العبادات سهلة على المكلفين- لما استحقوا عليها من الثواب إلا قدرا يسيرا- بحسب ما يكون فيها من المشقة اليسيرة- .

فإن قلت- فهل كان البيت الحرام موجودا أيام آدم ع- ثم أمر آدم و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه- قلت نعم هكذا روى أرباب السير و أصحاب التواريخ- روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى آدم لما أهبطه إلى الأرض- أن لي حرما حيال عرشي فانطلق فابن لي بيتا فيه- ثم طف به كما رأيت ملائكتي تحف بعرشي- فهنالك أستجيب دعاءك و دعاء من يحف به من ذريتك- فقال آدم إني لست أقوى على بنائه و لا أهتدي إليه- فقيض الله تعالى له ملكا فانطلق به نحو مكة- و كان آدم في طريقه كلما رأى روضة أو مكانا يعجبه- سأل الملك أن ينزل به هناك ليبني فيه- فيقول الملك إنه ليس هاهنا حتى أقدمه مكة- فبنى البيت من خمسة جبال- طور سيناء و طور زيتون و لبنان و الجودي- و بنى قواعده من حراء- فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات- فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم- ثم قدم به مكة و طاف بالبيت أسبوعا- ثم رجع إلى أرض الهند فمات – .

و روى الطبري في التاريخ- أن آدم حج من أرض الهند إلى الكعبة- أربعين حجة على رجليه- .و قد روي أن الكعبة أنزلت من السماء- و هي ياقوتة أو لؤلؤة على اختلاف الروايات- و أنها بقيت على تلك الصورة- إلى أن فسدت الأرض بالمعاصي أيام نوح- و جاء الطوفان فرفع البيت- و بنى إبراهيم هذه البنية على قواعده القديمة و روى أبو جعفر عن وهب بن منبه أن آدم دعا ربه فقال يا رب أ ما لأرضك هذه عامر- يسبحك و يقدسك فيها غيري- فقال الله إني سأجعل فيها- من ولدك من يسبح بحمدي و يقدسني- و سأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري- يسبحني فيها خلقي و يذكر فيها اسمي- و سأجعل من تلك البيوت بيتا أختصه بكرامتي- و أوثره باسمي فأسميه بيتي- و عليه وضعت جلالتي و خصصته بعظمتي- و أنا مع ذلك في كل شي‏ء- أجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله- و من تحته و من فوقه- فمن حرمه بحرمتي استوجب كرامتي- و من أخاف أهله فقد أباح حرمتي و استحق سخطي- و أجعله بيتا مباركا يأتيه بنوك شعثا غبرا- على كل ضامر من كل فج عميق- يرجون بالتلبية رجيجا و يعجون بالتكبير عجيجا- من اعتمده لا يريد غيره- و وفد إلي و زارني و استضاف بي أسعفته بحاجته- و حق على الكريم أن يكرم وفده و أضيافه- تعمره يا آدم ما دمت حيا ثم تعمره الأمم و القرون- و الأنبياء من ولدك أمة بعد أمة و قرنا بعد قرن – .

قال ثم أمر آدم أن يأتي إلى البيت الحرام- الذي أهبط له إلى الأرض فيطوف به- كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش- و كان البيت حينئذ من درة أو من ياقوتة- فلما أغرق الله تعالى قوم نوح رفعه- و بقي أساسه فبوأه الله لإبراهيم فبناه‏:

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ- وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ- فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى- الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ- فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً- لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ- وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ- بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ- وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ- تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ- وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ- وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ- وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً- وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً- وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا- مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ- وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ- انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ- مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ بلدة وخمة و وخيمة بينة الوخامة أي وبيئة- . مصيدة إبليس بسكون الصاد و فتح الياء- آلته التي يصطاد بها- . و تساور قلوب الرجال تواثبها- و سار إليه يسور أي وثب و المصدر السور- و مصدر تساور المساورة- و يقال إن لغضبه سورة و هو سوار أي وثاب معربد- .

و سورة الشراب وثوبه في الرأس- و كذلك مساورة السموم التي ذكرها أمير المؤمنين ع- . و ما تكدي ما ترد عن تأثيرها- من قولك أكدى حافر الفرس إذا بلغ الكدية- و هي الأرض الصلبة فلا يمكنه أن يحفر- . و لا تشوي أحدا- لا تخطئ المقتل و تصيب غيره- و هو الشوى و الشوى الأطراف كاليد و الرجل- . قال لا ترد مكيدته عن أحد لا عن عالم لأجل علمه- و لا عن فقير لطمره و الطمر الثوب الخلق- . و ما في قوله و عن ذلك ما حرس الله زائدة مؤكدة- أي عن هذه المكايد التي هي البغي و الظلم و الكبر- حرس الله عباده فعن متعلقة بحرس- و قال الراوندي يجوز أن تكون مصدرية- فيكون موضعها رفعا بالابتداء- و خبر المبتدأ قوله لما في ذلك- و قال أيضا يجوز أن تكون نافية- أي لم يحرس الله عباده عن ذلك إلجاء و قهرا- بل فعلوه اختيارا من أنفسهم- و الوجه الأول باطل لأن عن على هذا التقدير- تكون من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه-

و أيضا فإن لما في ذلك لو كان هو الخبر- لتعلق لام الجر بمحذوف- فيكون التقدير حراسة الله لعباده عن ذلك- كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه بالتراب- و هذا كلام غير مفيد و لا منتظم- إلا على تأويل بعيد لا حاجة إلى تعسفه- و الوجه الثاني باطل- لأن سياقة الكلام تدل على فساده- أ لا ترى قوله تسكينا و تخشيعا- و قوله لما في ذلك من كذا- و هذا كله تعليل الحاصل الثابت لا تعليل المنفي المعدوم- .

ثم بين ع الحكمة في العبادات- فقال إنه تعالى حرس عباده بالصلوات-التي افترضها عليهم من تلك المكايد- و كذلك بالزكاة و الصوم ليسكن أطرافهم- و يخشع أبصارهم- فجعل التسكين و التخشيع عذرا و علة للحراسة- و نصب اللفظات على أنها مفعول له- . ثم علل السكون و الخشوع الذي هو علة الحراسة- لما في الصلاة من تعفير الوجه على التراب- فصار ذلك علة العلة- قال و ذلك لأن تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا- يوجب هضم النفس و كسرها و تذليلها- . و عتاق الوجوه كرائمها- . و إلصاق كرائم الجوارح بالأرض- كاليدين و الساقين تصاغرا يوجب الخشوع و الاستسلام- و الجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن- يقتضي زوال الأشر و البطر- و يوجب مذلة النفس و قمعها عن الانهماك في الشهوات- و ما في الزكاة من صرف فواضل المكاسب- إلى أهل الفقر و المسكنة- يوجب تطهير النفوس و الأموال- و مواساة أرباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الأموال- و عاصم لهم من السرقات و ارتكاب المنكرات- ففي ذلك كله دفع مكايد الشيطان- . و تخفيض القلوب حطها عن الاعتلاء و التيه- . و الخيلاء التكبر- و المسكنة أشد الفقر في أظهر الرأيين- . و القمع القهر- . و النواجم جمع ناجمة- و هي ما يظهر و يطلع من الكبر و غيره- . و القدع بالدال المهملة الكف- قدعت الفرس و كبحته باللجام أي كففته- . و الطوالع كالنواجم‏:

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ- يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ- تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ- أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ- فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ- أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ- وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ- فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ- وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ- فَتَعَصَّبُوا لآِثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ- فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَ أَوْلَاداً- وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ- فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ- فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ- وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ- الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ- مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ- بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ- وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الآْثَارِ الْمَحْمُودَةِ- فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ- وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ- وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ- وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ- وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِ- وَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ قد روي تحتمل بالتاء- و روي تحمل و المعنى واحد- . و التمويه التلبيس- من موهت النحاس إذا طليته بالذهب ليخفى- . و لاط الشي‏ء بقلبي يلوط و يليط أي التصق- . و المترف الذي أطغته النعمة- .

و تفاضلت فيها أي تزايدت- . و المجداء جمع ماجد و المجد الشرف في الآباء- و الحسب و الكرم يكونان في الرجل- و إن لم يكونا في آبائه- هكذا قال ابن السكيت- و قد اعترض عليه بأن المجيد من صفات الله تعالى- قال سبحانه ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ- على قراءة من رفع- و الله سبحانه يتعالى عن الآباء- و قد جاء في وصف القرآن المجيد قال سبحانه- بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ- . و النجداء الشجعان واحدهم نجيد- و أما نجد و نجد بالكسر و الضم- فجمعه أنجاد مثل يقظ و أيقاظ- . و بيوتات العرب قبائلها- و يعاسيب القبائل رؤساؤها- و اليعسوب في الأصل ذكر النحل و أميرها- . و الرغيبة الخصلة يرغب فيها- . و الأحلام العقول و الأخطار الأقدار- .

ثم أمرهم بأن يتعصبوا لخلال الحمد و عددها- و ينبغي أن يحمل قوله ع- فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب و لا علة- على أنه لا يعرف له سبب مناسب- فكيف يمكن أن يتعصبوا لغير سبب أصلا- . و قيل إن أصل هذه العصبية و هذه الخطبة- أن أهل الكوفة كانوا- قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين- و كانوا قبائل في الكوفة- فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته- فيمر بمنازل قبيلة أخرى فينادي باسم قبيلته- يا للنخع مثلا أو يا لكندة نداء عاليا- يقصد به الفتنة و إثارة الشر- فيتألب عليه فتيان القبيلة- التي مر بها فينادون- يا لتميم‏و يا لربيعة- و يقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه- فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها- فتسل السيوف و تثور الفتن- و لا يكون لها أصل في الحقيقة- إلا تعرض الفتيان بعضهم ببعض: وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ- مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ- فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ- وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ- فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ- فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَهُمْ- وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ- وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ- وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ- مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ- وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا- وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ- مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ- وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي المثلات العقوبات- . و ذميم الأفعال ما يذم منها- . و تفاوت حاليهم اختلافهما- و زاحت الأعداء بعدت و له أي لأجله- . و التحاض عليها تفاعل يستدعي وقوع الحض- و هو الحث من الجهتين أي يحث بعضهم بعضا- . و الفقرة واحدة فقر الظهر- و يقال لمن قد أصابته مصيبة شديدة- قد كسرت فقرته- .

و المنة القوة- . و تضاغن القلوب و تشاحنها واحد- و تخاذل الأيدي ألا ينصر الناس بعضهم بعضا: وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ- كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ- أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً- وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا- اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ- وَ جَرَّعُوهُمْ جُرَعَ الْمُرَارِ- فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ- لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ- حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ- جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ- وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ- جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً- فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ- فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً- وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ- مَا لَمْ تَذْهَبِ الآْمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ تدبروا أي تأملوا- و التمحيص التطهير و التصفية- . و الأعباء الأثقال واحدها عب‏ء- . و أجهد العباد أتعبهم- . و الفراعنة العتاة و كل عات فرعون- .

و ساموهم سوء العذاب ألزموهم إياه- و هذا إشارة إلى قوله تعالى- يَسُومُونَكُمْ سُوءَالْعَذابِ- يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ- وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ- . و المرار بضم الميم شجر مر في الأصل- و استعير شرب المرار لكل من يلقى شديد المشقة- . و رأى الله منهم جد الصبر أي أشده- . و أئمة أعلاما أي يهتدى بهم كالعلم في الفلاة: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً- وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً- وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً- وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً- أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ- وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ- فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ- حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ- وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ- تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ- وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ- وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ- وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ- عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنْكُمْ الأملاء الجماعات الواحد ملأ- .

و مترادفة متعاونة- البصائر نافذة يقال نفذت بصيرتي في هذا الخبر- أي اجتمع همي عليه- و لم يبق عندي تردد فيه لعلمي به و تحقيقي إياه- . و أقطار الأرضين نواحيها- و تشتتت تفرقت- . و تشعبوا صاروا شعوبا و قبائل مختلفين- . و تفرقوا متحزبين اختلفوا أحزابا- و روي متحازبين- . و غضارة النعمة الطيب اللين منها- .

و القصص الحديث- . يقول انظروا في أخبار من قبلكم من الأمم- كيف كانت حالهم في العز و الملك- لما كانت كلمتهم واحدة- و إلى ما ذا آلت حالهم حين اختلفت كلمتهم- فاحذروا أن تكونوا مثلهم- و أن يحل بكم إن اختلفتم مثل ما حل بهم: فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ- وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ع- فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ- تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ- لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ- يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الآْفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ- وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ- وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ- فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ- أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً- لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا- وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا- فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ- وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ- فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ- مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ- وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ

لقائل أن يقول- ما نعرف أحدا من بني إسحاق و بني إسرائيل- احتازتهم الأكاسرة و القياصرة- عن ريف الآفاق إلى البادية و منابت الشيح- إلا أن يقال يهود خيبر و النضير- و بني قريظة و بني قينقاع- و هؤلاء نفر قليل لا يعتد بهم- و يعلم من فحوى الخطبة أنهم غير مرادين بالكلام- و لأنه ع قال تركوهم إخوان دبر و وبر- و هؤلاء لم يكونوا من أهل الوبر و الدبر- بل من أهل المدر لأنهم كانوا ذوي حصون و آطام- و الحاصل أن الذين احتازتهم- الأكاسرة و القياصرة من الريف إلى البادية- و صاروا أهل وبر ولد إسماعيل- لا بنو إسحاق و بنو إسرائيل- و الجواب أنه ع ذكر في هذه الكلمات- و هي قوله فاعتبروا بحال ولد إسماعيل- و بني إسحاق و بني إسرائيل- المقهورين و القاهرين جميعا- أما المقهورون فبنو إسماعيل- و أما القاهرون فبنو إسحاق و بنو إسرائيل- لأن الأكاسرة من بني إسحاق- ذكر كثير من أهل العلم أن فارس من ولد إسحاق- و القياصرة من ولد إسحاق أيضا- لأن الروم بنو العيص بن إسحاق- و على هذا يكون الضمير في أمرهم- و تشتتهم و تفرقهم يرجع إلى بني إسماعيل خاصة- .

فإن قلت فبنو إسرائيل أي مدخل لهم هاهنا- قلت لأن بني إسرائيل لما كانوا ملوكا بالشام- في أيام أجاب الملك و غيره- حاربوا العرب من بني إسماعيل غير مرة- و طردوهم عن الشام- و ألجئوهم على المقام ببادية الحجاز- و يصير تقدير الكلام- فاعتبروا بحال ولد إسماعيل- مع بني إسحاق و بني إسرائيل- فجاء بهم في صدر الكلام على العموم- ثم خصص فقال الأكاسرة و القياصرة- و هم داخلون في عموم ولد إسحاق- و إنما لم يخصص عموم بني إسرائيل- لأن العرب لم تكن تعرف ملوك‏ ولد يعقوب- فيذكر لهم أسماءهم في الخطبة- بخلاف ولد إسحاق فإنهم كانوا يعرفون ملوكهم- من بني ساسان و من بني الأصفر- .

قوله ع فما أشد اعتدال الأحوال- أي ما أشبه الأشياء بعضها ببعض- و إن حالكم لشبيهة بحال أولئك فاعتبروا بهم- . قوله يحتازونهم عن الريف يبعدونهم عنه- و الريف الأرض ذات الخصب و الزرع- و الجمع أرياف و رافت الماشية أي رعت الريف- و قد أرفنا أي صرنا إلى الريف- و أرافت الأرض أي أخصبت- و هي أرض ريفة بتشديد الياء- . و بحر العراق دجلة و الفرات- أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق- و أما القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق- أي عن الشام و ما فيه من المرعى و المنتجع- . قوله ع أربابا لهم أي ملوكا- و كانت العرب تسمى الأكاسرة أربابا- و لما عظم أمر حذيفة بن بدر عندهم سموه رب معد- . و منابت الشيح أرض العرب- و الشيح نبت معروف- . و مهافي الريح المواضع التي تهفو فيها- أي تهب و هي الفيافي و الصحاري- . و نكد المعاش ضيقه و قلته- . و تركوهم عالة أي فقراء جمع عائل- و العائل ذو العيلة و العيلة الفقر- قال تعالى- وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ- قال الشاعر

تعيرنا أننا عالة
صعاليك نحن و أنتم ملوك‏

نظيره قائد و قادة و سائس و ساسة- . و قوله إخوان دبر و وبر- الدبر مصدر دبر البعير أي عقره القتب- و الوبر للبعير بمنزلة الصوف للضأن و الشعر للمعز- . قوله أذل الأمم دارا- لعدم المعاقل و الحصون المنيعة فيها- . و أجدبهم قرارا لعدم الزرع و الشجر و النخل بها- و الجدب المحل- . و لا يأوون لا يلتجئون و لا ينضمون- . و الأزل الضيق- و أطباق جهل جمع طبق- أي جهل متراكم بعضه فوق بعض- . و غارات مشنونة متفرقة و هي أصعب الغارات

فصل في ذكر الأسباب التي دعت العرب إلى وأد البنات

من بنات موءودة- كان قوم من العرب يئدون البنات- قيل إنهم بنو تميم خاصة- و إنه استفاض منهم في جيرانهم- و قيل بل كان ذلك في تميم و قيس و أسد- و هذيل و بكر بن وائل- قالوا و ذلك أن رسول الله ص دعا عليهم-
فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر- و اجعل عليهم سنين كسني يوسف – فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم- و كانوا يسمونه العلهز- فوأدوا البنات لإملاقهم و فقرهم- و قد دل على ذلك بقوله- وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ- قال وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ- . و قال قوم بل وأدوا البنات أنفة- و زعموا أن تميما منعت النعمان الإتاوة- سنة من‏السنين- فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر- و جل من معه من بكر بن وائل- فاستاق النعم و سبى الذراري- و في ذلك يقول بعض بني يشكر-

لما رأوا راية النعمان مقبلة
قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن‏

يا ليت أم تميم لم تكن عرفت‏
مرا و كانت كمن أودى به الزمن‏

إن تقتلونا فأعيار مخدعة
أو تنعموا فقديما منكم المنن‏

منكم زهير و عتاب و محتضن‏
و ابنا لقيط و أودى في الوغى قطن‏

فوفدت بنو تميم إلى النعمان و استعطفوه- فرق عليهم و أعاد عليهم السبي- و قال كل امرأة اختارت أباها ردت إليه- و إن اختارت صاحبها تركت عليه- فكلهن اخترن آباءهن إلا ابنة قيس بن عاصم- فإنها اختارت من سباها- و هو عمرو بن المشمرخ اليشكري- فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي- ألا يولد له بنت إلا وأدها- و الوأد أن يخنقها في التراب- و يثقل وجهها به حتى تموت- ثم اقتدى به كثير من بني تميم قال سبحانه- وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ- أي على طريق التبكيت و التوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه- كما قال سبحانه يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ- اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ- . و من جيد شعر الفرزدق قوله في هجاء جرير-

أ لم تر أنا بني دارم
زرارة منا أبو معبد

و منا الذي منع الوائدات‏
و أحيا الوليد فلم يوأد

أ لسنا بأصحاب يوم النسار
و أصحاب ألوية المربد

أ لسنا الذين تميم بهم
تسامى و تفخر في المشهد

و ناجية الخير و الأقرعان‏
و قبر بكاظمة المورد

إذا ما أتى قبره عائذ
أناخ على القبر بالأسعد

أ يطلب مجد بني دارم‏
عطية كالجعل الأسود

قرنبى يحك قفا مقرف
لئيم مآثره قعدد

و مجد بني دارم فوقه‏
مكان السماكين و الفرقد

و في الحديث أن صعصعة بن ناجية بن عقال- لما وفد على رسول الله ص قال- يا رسول الله إني كنت أعمل في الجاهلية عملا صالحا- فهل ينفعني ذلك اليوم- قال ع و ما عملت- قال ضللت ناقتين عشراوين- فركبت جملا و مضيت في بغائهما- فرفع لي بيت حريد فقصدته- فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتين- فقال ما نارهما قلت ميسم بني دارم- قال هما عندي و قد أحيا الله بهما- قوما من أهلك من مضر- فجلست معه ليخرجهما إلى- فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت- فقال لها ما وضعت- إن كان سقبا شاركنا في أموالنا- و إن كان حائلا وأدناها- فقالت العجوز وضعت أنثى- فقلت له أ تبيعها قال و هل تبيع العرب أولادها- قلت إنما أشتري حياتها و لا أشتري رقها- قال فبكم قلت احتكم قال بالناقتين و الجمل- قلت أ ذاك لك على أن يبلغني الجمل و إياها- قال بعتك فاستنقذتهامنه بالجمل و الناقتين- و آمنت بك يا رسول الله- و قد صارت لي سنة في العرب- أن أشتري كل موءودة بناقتين عشراوين و جمل- فعندي إلى هذه الغاية- ثمانون و مائتا موءودة قد انقذتهن- قال ع لا ينفعك ذاك لأنك لم تبتغ به وجه الله- و أن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه – .

و روى الزبير في الموفقيات- أن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري- ما حملك على أن وأدت- قال مخافة أن يخلف عليهن مثلك فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا- فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ- كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا- وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا- وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا- فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ- وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَاكِهِينَ- قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ- وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ- وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ- فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ- وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ- يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ- وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ- لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ لما ذكر ما كانت العرب عليه من الذل و الضيم و الجهل- عاد فذكر ما أبدل الله‏به حالهم- حين بعث إليهم محمدا ص- فعقد عليهم طاعتهم كالشي‏ء المنتشر المحلول- فعقدها بملة محمد ص- .

و الجداول الأنهر- . و التفت الملة بهم أي كانوا متفرقين- فالتفت ملة محمد بهم أي جمعتهم- و يقال التف الحبل بالحطب أي جمعه- و التف الحطب بالحبل أي اجتمع به- . و في في قوله في عوائد بركتها متعلقة بمحذوف- و موضع الجار و المجرور نصب على الحال- أي جمعتهم الملة كائنة في عوائد بركتها- و العوائد جمع عائدة و هي المنفعة- تقول هذا أعود عليك أي أنفع لك- و روي و التقت الملة بالقاف أي اجتمعت بهم- من اللقاء و الرواية الأولى أصح- . و أصبحوا في نعمتها غرقين- مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة- .

و فاكهين ناعمين- و روي فكهين أي أشرين- و قد قرئ بهما في قوله تعالى وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ- و قال الأصمعي فاكهين مازحين- و المفاكهة الممازحة و من أمثالهم- لا تفاكه أمة و لا تبل على أكمة- فأما قوله تعالى فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ- فقيل تندمون و قيل تعجبون- .

و عن في قوله و عن خضرة عيشها- متعلقة بمحذوف تقديره فأصبحوا فاكهين- فكاهة صادرة عن خضرة عيشها- أي خضرة عيش النعمة سبب لصدور الفكاهة و المزاح عنه- . و تربعت الأمور بهم أي أقامت- من قولك ربع بالمكان أي أقام به- .و آوتهم الحال بالمد أي ضمتهم و أنزلتهم- قال تعالى آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ أي ضمه إليه و أنزله- و يجوز أوتهم بغير مد- أفعلت في هذا المعنى و فعلت واحد عن أبي زيد- . و الكنف الجانب- و تعطفت الأمور عليهم كناية عن السيادة و الإقبال- يقال قد تعطف الدهر على فلان- أي أقبل حظه و سعادته بعد أن لم يكن كذلك- . و في ذرا ملك بضم الذال أي في أعاليه- جمع ذروة و يكنى عن العزيز الذي لا يضام- فيقال لا يغمز له قناة أي هو صلب- و القناة إذا لم تلن في يد الغامز- كانت أبعد عن الحطم و الكسر- . و لا تقرع لهم صفاة- مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزته و قوته: أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ- وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ- فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ- الَّتِي يَتَقَلَّبُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا- بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً- لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً- وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً- مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ- وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ- تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ- كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ- انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ- حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ- وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ- ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلَ‏وَ لَا مِيكَائِيلَ- وَ لَا مُهَاجِرِينَ وَ لَا أَنْصَارَ يَنْصُرُونَكُمْ- إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ- وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ- وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ- فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ- وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ- إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ- فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي نفضتم أيديكم كلمة تقال في اطراح الشي‏ء و تركه- و هي أبلغ من أن تقول تركتم حبل الطاعة- لأن من يخلي الشي‏ء من يده ثم ينفض يده منه- يكون أشد تخلية له ممن لا ينفضها- بل يقتصر على تخليته فقط- لأن نفضها إشعار و إيذان بشدة الاطراح و الإعراض- .

و الباء في قوله بأحكام الجاهلية متعلقة بثلمتم- أي ثلمتم حصن الله بأحكام الجاهلية- التي حكمتم بها في ملة الإسلام- . و الباء في قوله بنعمة لا يعرف متعلقة بامتن- و في من قوله فيما عقد متعلقة بمحذوف- و موضعها نصب على الحال و هذا إشارة إلى قوله تعالى- لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ- وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ- و قوله فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً- .

و روي تتقلبون في ظلها- .قوله صرتم بعد الهجرة أعرابا- الأعراب على عهد رسول الله ص- من آمن به من أهل البادية و لم يهاجر إليه- و هم ناقصو المرتبة عن المهاجرين لجفائهم و قسوتهم- و توحشهم و نشئهم في بعد من مخالطة العلماء- و سماع كلام الرسول ص و فيهم أنزل- الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً- وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ- و ليست هذه الآية عامة في كل الأعراب بل خاصة ببعضهم- و هم الذين كانوا حول المدينة- و هم جهينة و أسلم و أشجع و غفار- و إليهم أشار سبحانه بقوله- وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ- و كيف يكون كل الأعراب مذموما- و قد قال تعالى وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ- و صارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل- . و أنشد الحجاج على منبر الكوفة-

قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الدوي‏
مهاجر ليس بأعرابي‏

و قال عثمان لأبي ذر أخشى أن تصير بعد الهجرة أعرابيا- . و روي و لا يعقلون من الإيمان- . و قولهم النار و لا العار منصوبتان بإضمار فعل- أي ادخلوا النار و لا تلتزموا العار- و هي كلمة جارية مجرى المثل أيضا- يقولها أرباب الحمية و الإباء- فإذا قيلت في حق كانت صوابا- و إذا قيلت في باطل كانت خطأ- . و أكفأت الإناء و كفأته لغتان أي كببته- .

قوله ثم لا جبرائيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين- الرواية المشهورة هكذا بالنصب و هو جائز على التشبيه بالنكرة- كقولهم معضلة و لا أبا حسن لها قال الراجز-

لا هيثم الليلة للمطي‏

و قد روي بالرفع في الجميع- . و المقارعة منصوبة على المصدر- و قال الراوندي هي استثناء منقطع و الصواب ما ذكرناه- و قد روي إلا المقارعة بالرفع- تقديره و لا نصير لكم بوجه من الوجوه إلا المقارعة- . و الأمثال التي أشار إليها أمير المؤمنين ع- هي ما تضمنه القرآن من أيام الله و نقماته على أعدائه- و قال تعالى وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ- . و التناهي مصدر تناهى القوم عن كذا- أي نهى بعضهم بعضا- يقول لعن الله الماضين من قبلكم- لأن سفهاءهم ارتكبوا المعصية- و حلماءهم لم ينهوهم عنها- و هذا من قوله تعالى كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ- لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ: أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ- وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ- أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ- بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ- فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ- وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ- وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ- وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ- بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ-وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ- وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ- لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً قد ثبت عن النبي ص أنه قال له ع- ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين – فكان الناكثون أصحاب الجمل لأنهم نكثوا بيعته ع- و كان القاسطون أهل الشام بصفين- و كان المارقون الخوارج في النهروان- و في الفرق الثلاث قال الله تعالى- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ- و قال وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً- و قال النبي ص يخرج من ضئضئ هذا قوم- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية- ينظر أحدكم في النصل فلا يجد شيئا- فينظر في الفوق فلا يجد شيئا- سبق الفرث و الدم – و هذا الخبر من أعلام نبوته ص- و من أخباره المفصلة بالغيوب- .

و أما شيطان الردهة فقد قال قوم- إنه ذو الثدية صاحب النهروان- و رووا في ذلك خبرا عن النبي ص- و ممن ذكر ذلك و اختاره الجوهري صاحب الصحاح- و هؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف- و لكن الله رماه يوم النهروان بصاعقة- و إليها أشار ع بقوله فقد كفيته بصعقة- سمعت لها وجبةقلبه- و قال قوم شيطان الردهة أحد الأبالسة المردة- من أعوان عدو الله إبليس- و رووا في ذلك خبرا عن النبي ص و أنه كان يتعوذ منه- و الردهة شبه نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء- و هذا مثل قوله ع هذا أزب العقبة أي شيطانها- و لعل أزب العقبة هو شيطان الردهة بعينه- فتارة يرد بهذا اللفظ و تارة يرد بذلك اللفظ- و قال قوم شيطان الردهة مارد يتصور في صورة حية- و يكون على الردهة- و إنما أخذوا هذا من لفظة الشيطان لأن الشيطان الحية- و منه قولهم شيطان الحماطة و الحماطة شجرة مخصوصة- و يقال إنها كثيرة الحيات- .

قوله و يتشذر في أطراف الأرض يتمزق و يتبدد- و منه قولهم ذهبوا شذر مذر- . و البقية التي بقيت من أهل البغي معاوية و أصحابه- لأنه ع لم يكن أتى عليهم بأجمعهم- و إنما وقفت الحرب بينه و بينهم بمكيدة التحكيم- . قوله ع و لئن أذن الله في الكرة عليهم- أي إن مد لي في العمر لأديلن منهم- أي لتكونن الدولة لي عليهم- أدلت من فلان أي غلبته و قهرته و صرت ذا دولة عليه

استدلال قاضي القضاة على إمامة أبي بكر و رد المرتضى عليه

و اعلم أن أصحابنا قد استدلوا على صحة إمامة أبي بكر- بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ- فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ- أَذِلَّةٍعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ- يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ- ثم قال قاضي القضاة في المعنى و هذا خبر من الله تعالى- و لا بد أن يكون كائنا على ما أخبر به- و الذين قاتلوا المرتدين هم أبو بكر و أصحابه- فوجب أن يكونوا هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله- يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و ذلك يوجب أن يكونوا على صواب- .

و اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج- في الشافي فقال من أين قلت- إن الآية نزلت في أبي بكر و أصحابه- فإن قال لأنهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله ص- و لا أحد قاتلهم سواهم قيل له- و من الذي سلم لك ذلك- أ و ليس أمير المؤمنين ع قد قاتل الناكثين- و القاسطين و المارقين بعد الرسول ص- و هؤلاء عندنا مرتدون عن الدين- و يشهد بصحة التأويل زائدا على احتمال القول له- ما روي عن أمير المؤمنين ع من قوله يوم البصرة- و الله ما قوتل أهل الآية حتى اليوم و تلاها- و قد روي عن عمار و حذيفة و غيرهما مثل ذلك- . فإن قال دليلي على أنها في أبي بكر و أصحابه- قول أهل التفسير قيل له- أ و كل أهل التفسير قال ذلك- فإن قال نعم كابر لأنه قد روي عن جماعة- التأويل الذي ذكرناه- و لو لم يكن إلا ما روي عن أمير المؤمنين ع- و وجوه أصحابه الذين ذكرناهم لكفى- و إن قال حجتي قول بعض المفسرين- قلنا و أي حجة في قول البعض- و لم صار البعض الذي قال ما ذكرت أولى بالحق- من البعض الذي قال ما ذكرنا- . ثم يقال له قد وجدنا الله تعالى- قد نعت المذكورين في الآية بنعوت- يجب أن‏تراعيها لنعلم أ في صاحبنا هي أم في صاحبك- و قد جعله الرسول ص في خيبر- حين فر من فر من القوم عن العدو صاحب هذه الأوصاف- فقال لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله- و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار- فدفعها إلى أمير المؤمنين ع – .

ثم قوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ- أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يقتضي ما ذكرنا- لأنه من المعلوم بلا خلاف- حال أمير المؤمنين ع في التخاشع و التواضع- و ذم نفسه و قمع غضبه- و أنه ما رئي قط طائشا- و لا متطيرا في حال من الأحوال- و معلوم حال صاحبيكم في هذا الباب- أما أحدهما فإنه اعترف طوعا- بأن له شيطانا يعتريه عند غضبه- و أما الآخر فكان معروفا بالجد و العجلة- مشهورا بالفظاظة و الغلظة و أما العزة على الكافرين- فإنما تكون بقتالهم و جهادهم و الانتقام منهم- و هذه حال لم يسبق أمير المؤمنين ع إليها سابق- و لا لحقه فيها لاحق- .

ثم قال تعالى- يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ- و هذا وصف أمير المؤمنين المستحق له بالإجماع- و هو منتف عن أبي بكر و صاحبه إجماعا- لأنه لا قتيل لهما في الإسلام- و لا جهاد بين يدي الرسول ص- و إذا كانت الأوصاف المراعاة في الآية- حاصلة لأمير المؤمنين ع و غير حاصلة لمن ادعيتم- لأنها فيهم على ضربين ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد- و ضرب مختلف فيه كالأوصاف التي هي غير الجهاد- و على من أثبتها لهم الدلالة على حصولها- و لا بد أن يرجع في ذلك إلى غير ظاهر الآية- لم يبق في يده من الآية دليل- .

هذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله- و لقد كان يمكنه التخلص من الاحتجاج بالآية-على وجه ألطف و أحسن و أصح مما ذكره- فيقول المراد بها من ارتد على عهد رسول الله ص- في واقعة الأسود العنسي باليمن- فإن كثيرا من المسلمين ضلوا به و ارتدوا عن الإسلام- و ادعوا له النبوة و اعتقدوا صدقه- و القوم الذين يحبهم الله و يحبونه- القوم الذين كاتبهم رسول الله ص- و أغراهم بقتله و الفتك به- و هم فيروز الديلمي و أصحابه و القصة مشهورة و قد كان له أيضا أن يقول لم قلت- إن الذين قاتلهم أبو بكر و أصحابه كانوا مرتدين- فإن المرتد من ينكر دين الإسلام- بعد أن كان قد تدين به- و الذين منعوا الزكاة لم ينكروا أصل دين الإسلام- و إنما تأولوا فأخطئوا لأنهم تأولوا قول الله تعالى- خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها- وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ- فقالوا إنما ندفع زكاة أموالنا إلى من صلاته سكن لنا- و لم يبق بعد وفاة النبي ص من هو بهذه الصفة- فسقط عنا وجوب الزكاة- ليس هذا من الردة في شي‏ء- و إنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز- إعظاما لما قالوه و تأولوه- .

فإن قيل إنما الاعتماد على قتال أبي بكر و أصحابه- لمسيلمة و طليحة اللذين ادعيا النبوة- و ارتد بطريقهما كثير من العرب- لا على قتال مانعي الزكاة- قيل إن مسيلمة و طليحة جاهدهما رسول الله ص قبل موته- بالكتب و الرسل- و أنفذ لقتلهما جماعة من المسلمين- و أمرهم أن يفتكوا بهما غيلة إن أمكنهم ذلك- و استنفر عليهما قبائل من العرب- و كل ذلك مفصل مذكور في كتب السيرة و التواريخ- فلم لا يجوز أن يكون أولئك النفر- الذين بعثهم رسول الله ص للفتك بهما- هم المعنيون بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ إلى آخر الآية- و لم يقل في الآية يجاهدون‏فيقتلون- و إنما ذكر الجهاد فقط- و قد كان الجهاد من أولئك النفر حاصلا و إن لم يبلغوا الغرض- كما كان الجهاد حاصلا عند حصار الطائف- و إن لم يبلغ فيه الغرض- .

و قد كان له أيضا أن يقول- سياق الآية لا يدل على ما ظنه المستدل بها- من أنه من يرتدد عن الدين- فإن الله يأتي بقوم يحبهم و يحبونه- يحاربونه لأجل ردته- و إنما الذي يدل عليه سياق الآية- أنه من يرتد منكم عن دينه- بترك الجهاد مع رسول الله ص- و سماه ارتدادا على سبيل المجاز- فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه- يجاهدون في سبيل الله معه عوضا عنكم- و كذلك كان كل من خذل النبي ص- و قعد عن النهوض معه في حروبه- أغناه الله تعالى عنه بطائفة أخرى من المسلمين- جاهدوا بين يديه- . و أما قول المرتضى رحمه الله- إنها أنزلت في الناكثين و القاسطين و المارقين- الذين حاربهم أمير المؤمنين ع فبعيد- لأنهم لا يطلق عليهم لفظ الردة عندنا- و لا عند المرتضى و أصحابه- أما اللفظ فبالاتفاق و إن سموهم كفارا- و أما المعنى فلأن في مذهبهم أن من ارتد- و كان قد ولد على فطرة الإسلام بانت امرأته منه- و قسم ماله بين ورثته- و كان على زوجته عدة المتوفى عنها زوجها- و معلوم أن أكثر محاربي أمير المؤمنين ع- كانوا قد ولدوا في الإسلام- و لم يحكم فيهم بهذه الأحكام- .

و قوله إن الصفات غير متحققة في صاحبكم- فلعمري إن حظ أمير المؤمنين ع منها هو الحظ الأوفى- و لكن الآية ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة- و إنما أطلقها على المجاهدين- و هم الذين يباشرون الحرب- فهب أن أبا بكر و عمر ما كانا بهذه الصفات- لم لا يجوز أن يكون مدحا- لمن جاهد بين أيديهما من المسلمين و باشر الحرب- و هم شجعان المهاجرين و الأنصار- الذين فتحوا الفتوح و نشروا الدعوة و ملكوا الأقاليم- .

و قد استدل قاضي القضاة أيضا عن صحة إمامة أبي بكر- و أسند هذا الاستدلال إلى شيخنا أبي علي بقوله تعالى- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ- شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا- يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ- و قال تعالى فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ- فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً- وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا- إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ- فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ- و قال تعالى- سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها- ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ- قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني قوله تعالى- لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا- ثم قال سبحانه قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ- أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ- فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً- وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً- فبين أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الأعراب- إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي ص- لأنه تعالى قد بين أنهم لا يخرجون معه- و لا يقاتلون معه عدوا بآية متقدمة- و لم يدعهم بعد النبي ص إلى قتال الكفار- إلا أبو بكر و عمر و عثمان- لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية- غير وجهين من التأويل فقال بعضهم- عنى بقوله سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ- بني حنيفة و قال بعضهم عنى فارس و الروم- و أبو بكر هو الذي دعا إلى قتال بني حنيفة- و قتال آل فارس و الروم- و دعاهم بعده إلى قتال فارس و الروم عمر- فإذا كان الله تعالى قد بين- أنهم بطاعتهم لهما يؤتهم أجرا حسنا- و إن تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذابا أليما- صح أنهما على حق- و أن طاعتهما طاعة لله تعالى- و هذا يوجب صحة إمامتهما- .

فإن قيل إنما أراد الله بذلك أهل الجمل و صفين- قيل هذا فاسد من وجهين- أحدهما قوله تعالى تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ- و الذين حاربوا أمير المؤمنين كانوا على الإسلام- و لم يقاتلوا على الكفر- و الوجه الثاني- أنا لا نعرف من الذين عناهم الله تعالى بهذا- من بقي إلى أيام أمير المؤمنين ع- كما علمنا أنهم كانوا باقين في أيام أبي بكر- . اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الكلام من وجهين- أحدهما أنه نازع في اقتضاء الآية- داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي ص- و ذلك لأن قوله تعالى- سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ- شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا- يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ- قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً- إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً- بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً- بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ- إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ- وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً- .

إنما أراد به سبحانه الذين تخلفوا عن الحديبية- بشهادة جميع أهل النقل و إطباق المفسرين- . ثم قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ- إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ- يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ- قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ- فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا- بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا- و إنما التمس هؤلاء المخلفون- أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى من ذلك- و أمر نبيه أن يقول لهم لن تتبعونا إلى هذه الغزاة- لأن الله تعالى كان حكم من قبل- بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية- و أنه لا حظ لمن لم يشهدها- و هذا هو معنى قوله تعالى- يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ- و قوله كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ- ثم قال تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ‏ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ- أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ – و إنما أراد أن الرسول سيدعوكم فيما بعد- إلى قتال قوم أولي بأس شديد- و قد دعاهم النبي ص بعد ذلك إلى غزوات كثيرة- إلى قوم أولي بأس شديد- كمؤتة و حنين و تبوك و غيرهما- فمن أين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي ص- مع ما ذكرناه من الحروب التي كانت بعد خيبر- . و قوله إن معنى قوله تعالى كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ- إنما أراد به ما بينه في قوله- فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ- فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً- وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا بتبوك سنة تسع- و آية الفتح نزلت في سنة ست فكيف يكون قبلها- . و ليس يجب أن يقال في القرآن بالإرادة- و بما يحتمل من الوجوه في كل موضع- دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآي- و الأسباب التي وردت عليها و تعلقت بها- .

و مما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير أولئك- لو لم نرجع في ذلك إلى نقل و تاريخ- قوله تعالى في هؤلاء- فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً- وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ- يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً- فلم يقطع منهم على طاعة و لا معصية- بل ذكر الوعد و الوعيد على ما يفعلونه- من طاعة أو معصية- و حكم المذكورين في آية سورة التوبة- بخلاف هذه لأنه تعالى بعد قوله- إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ- وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً- وَ لا تَقُمْ عَلى‏ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ- وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ- وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ- إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا- وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ- و اختلاف أحكامهم و صفاتهم يدلعلى اختلافهم- و أن المذكورين في آية سورة الفتح- غير المذكورين في آية سورة التوبة- .

و أما قوله لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية- غير وجهين من التأويل فذكرهما باطل- لأن أهل التأويل قد ذكروا شيئا آخر لم يذكره- لأن المسيب روى عن أبي روق عن الضحاك في قوله تعالى- سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الآية- قال هم ثقيف- و روى هشيم عن أبي يسر سعيد بن جبير- قال هم هوازن يوم حنين- .

و روى الواقدي عن معمر عن قتادة- قال هم هوازن و ثقيف- فكيف ذكر من أقوال المفسرين ما يوافقه- مع اختلاف الرواية عنهم- على أنا لا نرجع في كل ما يحتمله تأويل القرآن- إلى أقوال المفسرين- فإنهم ربما تركوا مما يحتمله القول وجها صحيحا- و كم استخرج جماعة من أهل العدل- في متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة- التي ظاهر التنزيل بها أشبه- و لها أشد احتمالا مما لم يسبق إليه المفسرون- و لا دخل في جملة تفسيرهم و تأويلهم- . و الوجه الثاني- سلم فيه أن الداعي هؤلاء المخلفين غير النبي ص- و قال لا يمتنع أن يعنى بهذا الداعي أمير المؤمنين ع لأنه قاتل بعده- الناكثين و القاسطين و المارقين- و بشره النبي ص بأنه يقاتلهم- و قد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة- . قال فأما تعلق صاحب الكتاب بقوله أَوْ يُسْلِمُونَ- و أن الذين حاربهم أمير المؤمنين ع كانوا مسلمين-

فأول ما فيه أنهم غير مسلمين عنده و عند أصحابه- لأن الكبائر تخرج من الإسلام عندهم- كما تخرج عن الإيمان- إذ كان الإيمان هو الإسلام‏على مذهبهم- ثم إن مذهبنا في محاربي أمير المؤمنين ع معروف- لأنهم عندنا كانوا كفارا بمحاربته لوجوه الأول منها أن من حاربه كان مستحلا لقتاله- مظهرا أنه في ارتكابه على حق- و نحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر- هو كافر بالإجماع- و استحلال دماء المؤمنين فضلا عن أفاضلهم و أكابرهم- أعظم من شرب الخمر و استحلاله- فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا- .

الثاني أنه ع قال له بلا خلاف بين أهل النقل حربك يا علي حربي و سلمك سلمي – و نحن نعلم أنه لم يرد إلا التشبيه بينهما في الأحكام- و من أحكام محاربي النبي ص الكفر بلا خلاف- .

الثالث أن النبي ص قال له بلا خلاف أيضا اللهم وال من والاه و عاد من عاداه- و انصر من نصره و اخذل من خذله – و قد ثبت عندنا أن العداوة من الله- لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه- دون فساق أهل الملة- .

الرابع قوله إنا لا نعلم ببقاء هؤلاء المخلفين- إلى أيام أمير المؤمنين ع فليس بشي‏ء- لأنه إذا لم يكن ذلك معلوما و مقطوعا عليه- فهو مجوز و غير معلوم خلافه- و الجواز كاف لنا في هذا الموضع- . و لو قيل له- من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الآية- على سبيل القطع إلى أيام أبي بكر- لكان يفزع إلى أن يقول- حكم الآية يقتضي بقاءهم- حتى يتم كونهم مدعوين إلى قتال أولي البأس الشديد- على وجه يلزمهم فيه الطاعة- و هذا بعينه يمكن أن يقال له- و يعتمد في بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين ع- على ما يوجبه حكم الآية- .

فإن قيل كيف يكون أهل الجمل و صفين كفارا- و لم يسر أمير المؤمنين ع‏فيهم بسيرة الكفار- لأنه ما سباهم و لا غنم أموالهم و لا تبع موليهم- قلنا أحكام الكفر تختلف- و إن شملهم اسم الكفر- لأن في الكفار من يقتل و لا يستبقى- و فيهم من يؤخذ منه الجزية- و لا يحل قتله إلا بسبب طارئ غير الكفر- و منهم من لا يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين- فعلى هذا يجوز أن يكون أكثر هؤلاء القوم كفارا- و إن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر- لأنا قد بينا اختلاف أحكام الكفار- و يرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار- إلى فعله ع و سيرته فيهم- على أنا لا نجد في الفساق- من حكمه أن يقتل مقبلا و لا يقتل موليا- و لا يجهز على جريحه- إلى غير ذلك من الأحكام- التي سيرها في أهل البصرة و صفين- .

فإذا قيل في جواب ذلك أحكام الفسق مختلفة- و فعل أمير المؤمنين هو الحجة- في أن حكم أهل البصرة و صفين ما فعله- قلنا مثل ذلك حرفا بحرف- و يمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء المخلفين أبو بكر- أن يقال ليس في الآية دلالة- على مدح الداعي و لا على إمامته- لأنه قد يجوز أن يدعو إلى الحق و الصواب من ليس عليهما- فيلزم ذلك الفعل من حيث كان واجبا في نفسه- لا لدعاء الداعي إليه- و أبو بكر إنما دعا إلى دفع أهل الردة عن الإسلام- و هذا يجب على المسلمين بلا دعاء داع- و الطاعة فيه طاعة لله تعالى- فمن أين له أن الداعي كان على حق و صواب- و ليس في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك- . و يمكن أيضا أن يكون قوله تعالى- سَتُدْعَوْنَ إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم- بإيجاب القتال عليهم- لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين- و رفعهم عن بيضة الإسلام فقد دعاهم إلى القتال- و وجبت عليهم الطاعة- و وجب لهم الثواب إن أطاعوا و هذا أيضا تحتمله الآية- .

فهذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله في هذا الموضع- و أكثره جيد لا اعتراض عليه- و قد كان يمكنه أن يقول- لو سلمنا بكل هذا لكان ليس في قوله- لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً الآية- ما يدل على أن النبي ص- لا يكون هو الداعي لهم- إلى القوم أولي البأس الشديد- لأنه ليس فيها إلا محض الإخبار عنهم- بأنهم لا يخرجون معه- و لا يقاتلون العدو معه- و ليس في هذا ما ينفي كونه داعيا لهم- كما أنه ع قال أبو لهب لا يؤمن بي – لم يكن هذا القول نافيا لكونه يدعوه إلى الإسلام- . و قوله فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ- ليس بأمر على الحقيقة و إنما هو تهديد كقوله- اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ- و لا بد للمرتضى و لقاضي القضاة جميعا- من أن يحملا صيغة افعل على هذا المحمل- لأنه ليس لأحدهما بمسوغ- أن يحمل الأمر على حقيقته- لأن الشارع لا يأمر بالقعود و ترك الجهاد- مع القدرة عليه و كونه قد تعين وجوبه- .

فإن قلت لو قدرنا أن هذه الآية- و هي قوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ- سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ- أنزلت بعد غزوة تبوك و بعد نزول سورة براءة- التي تتضمن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً- و قدرنا أن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً- ليس إخبارا محضا- كما تأولته أنت و حملت الآية عليه- بل معناه لا أخرجكم معي- و لا أشهدكم حرب العدو هل كان يتم الاستدلال- قلت لا لأن للإمامية أن تقول- يجوز أن يكون الداعي إلى حرب القوم- أولي البأس الشديد مع تسليم هذه المقدمات كلها- هو رسول الله ص لأنه دعاهم إلى حرب الروم- في سرية أسامة بن زيد في صفر من سنة إحدى عشرة- لما سيره إلى البلقاء و قال له- سر إلى الروم مقتل أبيك فأوطئهم الخيول- و حشد معه أكثر المسلمين- فهذا الجيش قد دعي فيه المخلفون من الأعراب- الذين قعدوا عن الجهادفي غزاة تبوك- إلى قوم أولي بأس شديد- و لم يخرجوا مع رسول الله ص و لا حاربوا معه عدوا- .

فإن قلت إذا خرجوا مع أسامة- فكأنما خرجوا مع رسول الله- و إذا حاربوا مع أسامة العدو- فكأنما حاربوا مع رسول الله ص- و قد كان سبق أنهم لا يخرجون مع رسول الله ص- و لا يحاربون معه عدوا- قلت و إذا خرجوا مع خالد بن الوليد و غيره- في أيام أبي بكر- و مع أبي عبيدة و سعد في أيام عمر- فكأنما خرجوا مع رسول الله ص- و حاربوا العدو معه أيضا- .

فإن اعتذرت بأنه و إن شابه الخروج معه- و الحرب معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه- و إنما هو مع امرئ من قبل خلفائه- قيل لك و كذلك خروجهم مع أسامة- و محاربة العدو معه- و إن شابه الخروج مع النبي و محاربة العدو معه- إلا أنه على الحقيقة ليس معه- و إنما هو مع بعض أمرائه- . و يمكن أن يعترض الاستدلال بالآية- فيقال لا يجوز حملها على بني حنيفة- لأنهم كانوا مسلمين- و إنما منعوا الزكاة مع قولهم- لا إله إلا الله محمد رسول الله ص- و منع الزكاة لا يخرج به الإنسان- عن الإسلام عند المرجئة- و الإمامية مرجئة- و لا يجوز حملها على فارس و الروم- لأنه تعالى أخبر أنه لا واسطة بين قتالهم و إسلامهم- كما تقول إما كذا و إما كذا- فيقتضي ذلك نفي الواسطة- و قتال فارس و الروم بينه و بين إسلامهم واسطة- و هو دفع الجزية- و إنما تنتفي هذه الواسطة في قتال العرب- لأن مشركي العرب لا تؤخذ منهم الجزية- فالآية إذن دالة على أن المخلفين- سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد الحكم فيهم- إما قتالهم و إما إسلامهم- و هؤلاء هم مشركو العرب- و لم يحارب مشركي العرب إلا رسول الله ص- فالداعي لهم إذا هو رسول الله و بطل الاستدلال بالآية:

أَنَا وَضَعْتُ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ- وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ- وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وَ أَنَا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ- وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ- وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ- وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ- وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ- وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ص- مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ- يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ- وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ- وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ- يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً- وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ- وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ- فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي- وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ- غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا- أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ- وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ص- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ- فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ- إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى- إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ- وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ الباء في قوله بكلاكل العرب زائدة- و الكلاكل الصدور الواحد كلكل- و المعنى أني أذللتهم و صرعتهم إلى الأرض- .

و نواجم قرون ربيعة و مضر- من نجم منهم و ظهر و علا قدره و طار صيته- . فإن قلت أما قهره لمضر فمعلوم فما حال ربيعة- و لم نعرف أنه قتل منهم أحدا- قلت بلى قد قتل بيده و بجيشه- كثيرا من رؤسائهم في صفين و الجمل- فقد تقدم ذكر أسمائهم من قبل- و هذه الخطبة خطب بها بعد انقضاء أمر النهروان- . و العرف بالفتح الريح الطيبة- و مضغ الشي‏ء يمضغه بفتح الضاد- . و الخطلة في الفعل الخطأ فيه و إيقاعه على غير وجهه- . و حراء اسم جبل بمكة معروف- . و الرنة الصوت

ذكر ما كان من صلة علي برسول الله في صغره

و القرابة القريبة بينه و بين رسول الله ص- دون غيره من الأعمام كونه رباه في حجره- ثم حامى عنه و نصره- عند إظهار الدعوة دون غيره من بني هاشم- ثم ما كان بينهما من المصاهرة- التي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الأصهار- و نحن نذكر ما ذكره أرباب السير من معاني هذا الفصل- .

روى الطبري في تاريخه قال حدثنا ابن حميد- قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق- قال حدثني عبد الله بن نجيح عن مجاهد- قال كان من نعمة الله عز و جل على علي بن أبي طالب ع- و ما صنع الله له و أراده به من الخير- أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة- و كان أبو طالب ذا عيال كثير- فقال رسول الله ص للعباس و كان من أيسر بني هاشم- يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال- و قد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة- فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله- آخذ من بيته واحدا و تأخذ واحدا-فنكفيهما عنه فقال العباس نعم- فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له- إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك- حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه- فقال لهما إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما- فأخذ رسول الله ص عليا فضمه إليه- و أخذ العباس جعفرا رضي الله عنه فضمه إليه- فلم يزل علي بن أبي طالب ع مع رسول الله ص- حتى بعثه الله نبيا- فاتبعه علي ع فأقر به و صدقه- و لم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم و استغنى عنه- .

قال الطبري و حدثنا ابن حميد- قال حدثنا سلمة قال حدثنا محمد بن إسحاق- قال كان رسول الله ص إذا حضرت الصلاة- خرج إلى شعاب مكة- و خرج معه علي بن أبي طالب ع- مستخفيا من عمه أبي طالب- و من جميع أعمامه و سائر قومه- فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا- فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا- . ثم إن أبا طالب عثر عليهما و هما يصليان- فقال لرسول الله ص يا ابن أخي- ما هذا الذي أراك تدين به- قال يا عم هذا دين الله و دين ملائكته- و دين رسله و دين أبينا إبراهيم- أو كما قال بعثني الله به رسولا إلى العباد- و أنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة- و دعوته إلى الهدى- و أحق من أجابني إليه- و أعانني عليه أو كما قال فقال أبو طالب يا ابن أخي- إني لا أستطيع أن أفارق ديني و دين آبائي- و ما كانوا عليه- و لكن و الله لا يخلص إليك شي‏ء تكرهه ما بقيت- . قال الطبري و قد روى هؤلاء المذكورون- أن أبا طالب قال لعلي ع- يا بني ما هذا الذي أنت عليه- فقال يا أبت إني آمنت بالله و برسوله- و صدقته بماجاء به و صليت لله معه- قال فزعموا أنه قال له- أما إنه لا يدعو إلا إلى خير فالزمه- .

و روى الطبري في تاريخه أيضا قال حدثنا أحمد بن الحسين الترمذي قال حدثنا عبد الله بن موسى قال أخبرنا العلاء عن المنهال بن عمر و عن عبد الله بن عبد الله قال سمعت عليا ع يقول أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر- لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر- صليت قبل الناس بسبع سنين – . و في غير رواية الطبري أنا الصديق الأكبر و أنا الفاروق الأول- أسلمت قبل إسلام أبي بكر- و صليت قبل صلاته بسبع سنين – كأنه ع لم يرتض أن يذكر عمر- و لا رآه أهلا للمقايسة بينه و بينه- و ذلك لأن إسلام عمر كان متأخرا- .

و روى الفضل بن عباس رحمه الله- قال سألت أبي عن ولد رسول الله ص الذكور- أيهم كان رسول الله ص له أشد حبا- فقال علي بن أبي طالب ع- فقلت له سألتك عن بنيه- فقال إنه كان أحب إليه من بنيه جميعا و أرأف- ما رأيناه زايله يوما من الدهر منذ كان طفلا- إلا أن يكون في سفر لخديجة- و ما رأينا أبا أبر بابن منه لعلي- و لا ابنا أطوع لأب من علي له- .

و روى الحسين بن زيد بن علي بن الحسين ع- قال سمعت زيدا أبي ع يقول- كان رسول الله يمضغ اللحمة و التمرة حتى تلين- و يجعلهما في فم علي ع و هو صغير في حجره- و كذلك كان أبي علي بن الحسين ع يفعل بي- و لقد كان يأخذ الشي‏ء من الورك و هو شديد الحرارة- فيبرده في الهواء أو ينفخ عليه حتى يبرد- ثم يلقمنيه أ فيشفق علي من حرارة لقمة- و لا يشفق علي من النار- لو كان أخي إماما بالوصية كما يزعم هؤلاء- لكان أبي أفضى بذلك إلي و وقاني من حر جهنم- .

و روى جبير بن مطعم قال- قال أبي مطعم بن عدي لنا و نحن صبيان بمكة- أ لا ترون حب هذا الغلام يعني عليا لمحمد- و اتباعه له دون أبيه- و اللات و العزى- لوددت أن ابني بفتيان بني نوفل جميعا- . و روى سعيد بن جبير قال سألت أنس بن مالك- فقلت أ رأيت قول عمر عن الستة- إن رسول الله ص مات و هو عنهم راض- أ لم يكن راضيا عن غيرهم من أصحابه- فقال بلى مات رسول الله ص- و هو راض عن كثير من المسلمين- و لكن كان عن هؤلاء أكثر رضا- فقلت له فأي الصحابة كان رسول الله ص له أحمد- أو كما قال قال ما فيهم أحد- إلا و قد سخط منه فعلا- و أنكر عليه أمرا إلا اثنان- علي بن أبي طالب و أبو بكر بن أبي قحافة- فإنهما لم يقترفا منذ أتى الله بالإسلام أمرا- أسخطا فيه رسول الله ص

ذكر حال رسول الله في نشوئه

و ينبغي أن نذكر الآن ما ورد في شأن رسول الله ص- و عصمته بالملائكة- ليكون ذلك تقريرا و إيضاحا لقوله ع- و لقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته- و أن نذكر حديث مجاورته ع بحراء- و كون علي ع معه هناك- و أن نذكر ما ورد في أنه- لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام- غير رسول الله ص و عليا و خديجة- و أن نذكر ما ورد في سماعه رنة الشيطان- و أن نذكر ما ورد في كونه ع وزيرا للمصطفى ص- أما المقام الأول- فروى محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة النبوية- و رواه أيضا محمد بن جرير الطبري في تاريخه- قال كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية-أم رسول الله ص التي أرضعته- تحدث أنها خرجت من بلدها و معها زوجها و ابن لها- ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضاع بمكة- في سنة شهباء لم تبق شيئا- قالت فخرجت على أتان لنا قمراء عجفاء- و معنا شارف لنا ما تبض بقطرة- و لا ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا الذي معنا من الجوع- ما في ثديي ما يغنيه- و لا في شارفنا ما يغديه- و لكنا نرجو الغيث و الفرج- فخرجت على أتاني تلك- و لقد أراثت بالركب ضعفا و عجفا- حتى شق ذلك عليهم- حتى قدمنا مكة نلتمس الرضاع- فما منا امرأة إلا و قد عرض عليها محمد ص فتأباه- إذا قيل لها إنه يتيم- و ذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي- فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه و جده- فكنا نكرهه لذلك- فما بقيت امرأة ذهبت معي إلا أخذت رضيعا غيري- فلما اجتمعنا للانطلاق قلت لصاحبي-

و الله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي لم آخذ رضيعا- و الله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه- قال لا عليك أن تفعلي- و عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة فذهبت إليه فأخذته- و ما يحملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره- قالت فلما أخذته رجعت إلى رحلي- فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن- فرضع حتى روي و شرب معه أخوه حتى روي- و ما كنا ننام قبل ذلك من بكاء صبينا جوعا فنام- و قام زوجي إلى شارفنا تلك فنظر إليها فإذا أنها حافل- فحلب منها ما شرب و شربت حتى انتهينا ريا و شبعا- فبتنا بخير ليلة- قالت يقول صاحبي حين أصبحنا- أ تعلمين و الله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة- فقلت و الله إني لأرجو ذلك- ثم خرجنا و ركبت أتاني تلك و حملته معي عليها- فو الله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شي‏ء من حميرهم- حتى إن صواحبي ليقلن لي ويحك يا بنت أبي ذؤيب- اربعي علينا- أ ليس هذه أتانك التي كنت خرجت عليها- فأقول لهن بلى و الله- إنها لهي فيقلن و الله إن لها لشأنا- .

قالت ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد- و ما أعلم أرضا من أرض العرب أجدب منها- فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا ملأى لبنا- فكنا نحتلب و نشرب- و ما يحلب إنسان قطرة لبن- و لا يجدها في ضرع- حتى إن الحاضر من قومنا ليقولون لرعاتهم ويلكم- اسرحوا حيث يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب فيفعلون- فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة- و تروح غنمي شباعا لبنا- فلم نزل نعرف من الله الزيادة و الخير به- حتى مضت سنتاه و فصلته- فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه- حتى كان غلاما جفرا- فقدمنا به على أمه آمنة بنت وهب- و نحن أحرص شي‏ء على مكثه فينا- لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه- و قلنا لها لو تركته عندنا حتى يغلظ- فإنا نخشى عليه وباء مكة- فلم نزل بها حتى ردته معنا- .

فرجعنا به إلى بلاد بني سعد- فو الله إنه لبعد ما قدمنا- بأشهر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا- إذ أتانا أخوه يشتد- فقال لي و لأبيه ها هو ذاك أخي القرشي- قد جاءه‏ رجلان عليهما ثياب بياض- فأضجعاه و شقا بطنه فهما يسوطانه- قالت فخرجت أنا و أبوه نشتد نحوه- فوجدناه قائما ممتقعا وجهه- فالتزمته و التزمه أبوه و قلنا ما لك يا بني- قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض- فأضجعاني ثم شقا بطني- فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو- قالت فرجعنا به إلى خبائنا- و قال لي أبوه يا حليمة- لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله- قالت فاحتملته حتى قدمت به على أمه- فقالت ما أقدمك به يا ظئر- و قد كنت حريصة عليه و على مكثه عندك- فقلت لها قد بلغ الله بابني و قضيت الذي علي- و تخوفت عليه الأحداث و أديته إليك كما تحبين- قالت أ تخوفت عليه الشيطان قلت نعم- قالت كلا و الله ما للشيطان عليه من سبيل- و إن لابني شأنا أ فلا أخبرك خبره قلت بلى- قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور- أضاءت له قصور بصرى من الشام ثم حملت به- فو الله ما رأيت حملا قط كان أخف و لا أيسر منه- ثم وقع حين ولدته و إنه لواضع يديه بالأرض- و رافع رأسه إلى السماء- دعيه عنك و انطلقي راشدة- .

قال و روى الطبري في تاريخه عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله ص يحدث عن نفسه- و يذكر ما جرى له و هو طفل في أرض بني سعد بن بكر- قال لما ولدت استرضعت في بني سعد- فبينا أنا ذات يوم منتبذ من‏أهلي في بطن واد- مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بالجلة- إذا أتاني رهط ثلاثة- معهم طشت من ذهب مملوءة ثلجا- فأخذوني من بين أصحابي- فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا إلى شفير الوادي- ثم عادوا إلى الرهط- فقالوا ما أربكم إلى هذا الغلام- فإنه ليس منا هذا ابن سيد قريش- و هو مسترضع فينا غلام يتيم ليس له أب- فما ذا يرد عليكم قتله- و ما ذا تصيبون من ذلك- و لكن إن كنتم لا بد قاتليه- فاختاروا منا أينا شئتم فاقتلوه مكانه- و دعوا هذا الغلام فإنه يتيم- .

فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون لهم جوابا- انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي- يؤذنونهم و يستصرخونهم على القوم- فعمد أحدهم فأضجعني إضجاعا لطيفا- ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي- و أنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا- ثم أخرج بطني فغسلها بذلك الثلج- فأنعم غسلها ثم أعادها مكانها- ثم قام الثاني منهم- فقال لصاحبه تنح فنحاه عني- ثم أدخل يده في جوفي و أخرج قلبي و أنا أنظر إليه- فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرماها- ثم قال بيده يمنة منه و كأنه يتناول شيئا- فإذا في يده خاتم من نور- تحار أبصار الناظرين دونه فختم به قلبي- ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا-

ثم قال الثالث لصاحبه تنح عنه- فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي- فالتأم ذلك الشق- ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا- و قال للأول الذي شق بطني- زنه بعشرة من أمته فوزنني بهم فرجحتهم- فقال دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم- ثم ضموني إلى صدرهم- و قبلوا رأسي و ما بين عيني- و قالوا يا حبيب الله لا ترع- إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك- فبينا أنا كذلك إذا أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم- و إذا أمي و هي‏ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها- و تقول يا ضعيفاه فانكب علي أولئك الرهط- فقبلوا رأسي و ما بين عيني- و قالوا حبذا أنت من ضعيف- ثم قالت ظئري يا وحيداه- فانكبوا علي و ضموني إلى صدورهم- و قبلوا رأسي و ما بين عيني- ثم قالوا حبذا أنت من وحيد و ما أنت بوحيد-

إن الله و ملائكته معك و المؤمنين من أهل الأرض- ثم قالت ظئري يا يتيماه- استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك- فانكبوا علي و ضموني إلى صدورهم- و قبلوا رأسي و ما بين عيني- و قالوا حبذا أنت من يتيم- ما أكرمك على الله لو تعلم ما يراد بك من الخير- قال فوصل الحي إلى شفير الوادي- فلما بصرت بي أمي و هي ظئري- نادت يا بني أ لا أراك حيا بعد- فجاءت حتى انكبت علي- و ضمتني إلى صدرها- فو الذي نفسي بيده- إني لفي حجرها قد ضمتني إليها- و إن يدي لفي يد بعضهم- فجعلت ألتفت إليهم- و ظننت أن القوم يبصرونهم فإذا هم لا يبصرونهم- فيقول بعض القوم إن هذا الغلام قد أصابه لمم- أو طائف من الجن- فانطلقوا به إلى كاهن بني فلان- حتى ينظر إليه و يداويه- فقلت ما بي شي‏ء مما يذكرون نفسي سليمة- و إن فؤادي صحيح ليست بي قلبة- فقال أبي و هو زوج ظئري- أ لا ترون كلامه صحيحا- إني لأرجو ألا يكون على ابني بأس- .

فاتفق القوم على أن يذهبوا إلى الكاهن بي- فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه فقصوا عليه قصتي- فقال اسكتوا حتى أسمع من الغلام- فهو أعلم بأمره منكم- فسألني فقصصت عليه أمري- و أنا يومئذ ابن خمس سنين- فلما سمع قولي وثب و قال يا للعرب- اقتلوا هذا الغلام فهو و اللات و العزى- لئن عاش ليبدلن دينكم و ليخالفن أمركم- و ليأتينكم بما لم تسمعوا به قط- فانتزعتني ظئري من حجره- و قالت لو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به-ثم احتملوني فأصبحت و قد صار في جسدي أثر الشق- ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك

و روي أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر ع- سأله عن قول الله عز و جل- إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ- فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً- فقال ع يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم- و يؤدون إليه تبليغهم الرسالة- و وكل بمحمد ص ملكا عظيما- منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات و مكارم الأخلاق- و يصده عن الشر و مساوئ الأخلاق- و هو الذي كان يناديه- السلام عليك يا محمد يا رسول الله و هو شاب- لم يبلغ درجة الرسالة بعد- فيظن أن ذلك من الحجر و الأرض- فيتأمل فلا يرى شيئا

و روى الطبري في التاريخ عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي ع قال سمعت رسول الله ص يقول ما هممت بشي‏ء مما كان أهل الجاهلية- يعملون به غير مرتين- كل ذلك يحول الله تعالى بيني و بين ما أريد من ذلك- ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته- قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة- لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة- فأسمر بها كما يسمر الشباب فخرجت أريد ذلك- حتى إذا جئت أول دار من دور مكة- سمعت عزفا بالدف و المزامير- فقلت ما هذا- قالوا هذا فلان تزوج ابنة فلان- فجلست أنظر إليهم- فضرب الله على أذني فنمت- فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي- فقال ما فعلت فقلت ما صنعت شيئا ثم أخبرته الخبر- ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك- فقال أفعل فخرجت فسمعت حين دخلت مكة- مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة- فجلست‏أنظر فضرب الله على أذني- فما أيقظني إلا مس الشمس- فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر- ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله برسالته

و روى محمد بن حبيب في أماليه- قال قال رسول الله ص أذكر و أنا غلام ابن سبع سنين- و قد بنى ابن جدعان دارا له بمكة- فجئت مع الغلمان- نأخذ التراب و المدر في حجورنا فننقله- فملأت حجري ترابا فانكشفت عورتي- فسمعت نداء من فوق رأسي- يا محمد أرخ إزارك- فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئا- إلا أني أسمع الصوت فتماسكت و لم أرخه- فكأن إنسانا ضربني على ظهري- فخررت لوجهي و انحل إزاري فسترني- و سقط التراب إلى الأرض- فقمت إلى دار أبي طالب عمي و لم أعد – .

و أما حديث مجاورته ع بحراء فمشهور- و قد ورد في الكتب الصحاح- أنه كان يجاور في حراء من كل سنة شهرا- و كان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين- فإذا قضى جواره من حراء- كان أول ما يبدأ به إذا انصرف- أن يأتي باب الكعبة قبل أن يدخل بيته- فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته- حتى جاءت السنة التي أكرمه الله فيها بالرسالة- فجاور في حراء شهر رمضان و معه أهله خديجة و علي بن أبي طالب و خادم لهم- فجاءه جبريل بالرسالة- و قال ع جاءني و أنا نائم بنمط فيه كتاب- فقال اقرأ قلت ما أقرأ- فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني- فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ- إلى قوله عَلَّمَ الْإِنْسانَ‏ما لَمْ يَعْلَمْ فقرأته- ثم انصرف عني فانتبهت من نومي- و كأنما كتب في قلبي كتاب – و ذكر تمام الحديث- .

و أما حديث أن الإسلام لم يجتمع عليه بيت واحد يومئذ- إلا النبي و هو ع و خديجة- فخبر عفيف الكندي مشهور و قد ذكرناه من قبل- و أن أبا طالب قال له أ تدري من هذا قال لا- قال هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- و هذا ابني علي بن أبي طالب- و هذه المرأة خلفهما خديجة بنت خويلد- زوجة محمد ابن أخي- و ايم الله- ما أعلم على الأرض كلها أحدا على هذا الدين- غير هؤلاء الثلاثة- .

و أما رنة الشيطان- فروى أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مسنده عن علي بن أبي طالب ع قال كنت مع رسول الله ص صبيحة الليلة التي أسري به فيها- و هو بالحجر يصلي فلما قضى صلاته- و قضيت صلاتي سمعت رنة شديدة- فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة- قال أ لا تعلم هذه رنة الشيطان- علم أني أسري بي الليلة إلى السماء- فأيس من أن يعبد في هذه الأرض – .

و قد روي عن النبي ص ما يشابه هذا لما بايعه الأنصار السبعون ليلة العقبة- سمع من العقبة صوت عال في جوف الليل- يا أهل مكة هذا مذمم و الصباة معه قد أجمعوا على حربكم- فقال رسول الله ص للأنصار- أ لا تسمعون ما يقول- هذا أزب العقبة- يعني شيطانها و قد روي أزبب العقبة ثم التفت إليه- فقال استمع يا عدو الله أما و الله لأفرغن لك

و روي عن جعفر بن محمد الصادق ع قال كان علي ع يرى مع رسول الله ص قبل الرسالة الضوء- و يسمع الصوت- و قال له ص- لو لا أني خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوة- فإن لا تكن نبيا فإنك وصي نبي و وارثه- بل أنت سيد الأوصياء و إمام الأتقياء و أما خبر الوزارة فقد ذكره الطبري في تاريخه- عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب ع قال لما أنزلت هذه الآية- وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ على رسول الله ص دعاني- فقال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين- فضقت بذلك ذرعا- و علمت أني متى أنادهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره- فصمت حتى جاءني جبريل ع- فقال يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به يعذبك ربك- فاصنع لنا صاعا من طعام- و اجعل عليه رجل شاة- و املأ لنا عسا من لبن- ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أكلمهم- و أبلغهم ما أمرت به- ففعلت ما أمرني به- ثم دعوتهم و هم يومئذ أربعون رجلا- يزيدون رجلا أو ينقصونه و فيهم أعمامه- أبو طالب و حمزة و العباس و أبو لهب- فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم- فجئت به فلما وضعته- تناول رسول الله ص بضعة من اللحم فشقها بأسنانه- ثم ألقاها في نواحي الصحفة- ثم قال كلوا باسم الله- فأكلوا حتى ما لهم إلى شي‏ء من حاجة- و ايم الله الذي نفس علي بيده- إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمته لجميعهم- ثم قال اسق القوم يا علي- فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا- و ايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله- فلما أراد رسول الله ص أن يكلمهم- بدره أبو لهب إلى الكلام- فقال لشد ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم- و لم يكلمهم رسول الله ص- فقال من الغد يا علي- إن هذا الرجل قد سبقني‏إلى ما سمعت من القول- فتفرق القوم قبل أن أكلمهم- فعد لنا اليوم إلى مثل ما صنعت بالأمس- ثم اجمعهم لي ففعلت ثم جمعتهم- ثم دعاني بالطعام فقربته لهم- ففعل كما فعل بالأمس- فأكلوا حتى ما لهم بشي‏ء حاجة- ثم قال اسقهم فجئتهم بذلك العس- فشربوا منه جميعا حتى رووا- ثم تكلم رسول الله ص- فقال يا بني عبد المطلب- إني و الله ما أعلم أن شابا في العرب- جاء قومه بأفضل مما جئتكم به- إني قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة- و قد أمرني الله أن أدعوكم إليه- فأيكم يوازرني على هذا الأمر- على أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم- فأحجم القوم عنها جميعا- و قلت أنا و إني لأحدثهم سنا و أرمصهم عينا- و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا- أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه- فأعاد القول فأمسكوا و أعدت ما قلت- فأخذ برقبتي- ثم قال لهم هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم- فاسمعوا له و أطيعوا- فقام القوم يضحكون- و يقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع – .

و يدل على أنه وزير رسول الله ص- من نص الكتاب و السنة قول الله تعالى- وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي- هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي- وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي و قال النبي ص في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي – فأثبت له جميع مراتب هارون عن موسى- فإذن هو وزير رسول الله ص و شاد أزره- و لو لا أنه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره- .

و روى أبو جعفر الطبري أيضا في التاريخ أن رجلا قال لعلي ع يا أمير المؤمنين- بم ورثت ابن عمك دون عمك- فقال علي ع هاؤم ثلاث مرات- حتى اشرأب الناس و نشروا آذانهم- ثم قال جمع رسول الله ص بني عبد المطلب بمكة- و هم رهطه كلهم- يأكل الجذعة و يشرب الفرق- فصنع مدا من طعام- حتى أكلوا و شبعوا و بقي الطعام كما هو كأنه لم يمس- ثم دعا بغمر فشربوا و رووا- و بقي الشراب كأنه لم يشرب- ثم قال يا بني عبد المطلب- إني بعثت إليكم خاصة و إلى الناس عامة- فأيكم يبايعني على أن يكون أخي و صاحبي و وارثي- فلم يقم إليه أحد فقمت إليه- و كنت من أصغر القوم- فقال اجلس ثم قال ذلك ثلاث مرات- كل ذلك أقوم إليه- فيقول اجلس حتى كان في الثالثة- فضرب بيده على يدي- فعند ذلك ورثت ابن عمي دون عمي وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ص لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ- فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً- لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ- وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ- عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ- فَقَالَ ص وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا- تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا- وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ص- إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ‏شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ- فَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ- قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ- وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ- وَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ- ثُمَّ قَالَ ص يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ- إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآْخِرِ- وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ- حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ- وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا- وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ- وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ- حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ص مُرَفْرِفَةً- وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص- وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ص- فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً- فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا- فَأَمَرَهَا فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا- كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً- فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ص- فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ- فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ- فَأَمَرَهُ ص فَرَجَعَ- فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ- وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى- تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ- فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ- عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ- وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي- وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ- سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ- عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ- مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ- لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ- وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ- قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ‏

الملأ الجماعة و لا تفيئون لا ترجعون- و من يطرح في القليب كعتبة و شيبة- ابني ربيعة بن عبد شمس- و عمرو بن هشام بن المغيرة المكنى أبا جهل و غيرهم- طرحوا في قليب بدر بعد انقضاء الحرب- و من يحزب الأحزاب أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية- . و القصف و القصيف الصوت- و سيماهم علامتهم و مثله سيمياء- . و معنى قوله ع- قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل- أن قلوبهم ملتذة بمعرفة الله تعالى- و أجسادهم نصبة بالعبادة- . و أما أمر الشجرة التي دعاها رسول الله ص- فالحديث الوارد فيها كثير مستفيض- قد ذكره المحدثون في كتبهم- و ذكره المتكلمون في معجزات الرسول ص- و الأكثرون رووا الخبر فيها- على الوضع الذي جاء في خطبة أمير المؤمنين- و منهم من يروي ذلك مختصرا- أنه دعا شجرة فأقبلت تخد إليه الأرض خدا- .

و قد ذكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة حديث الشجرة- و رواه أيضا محمد بن إسحاق بن يسار- في كتاب السيرة و المغازي على وجه آخر- قال محمد بن إسحاق كان ركانة- بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف- أشد قريش كلها- فخلا يوما برسول الله ص في بعض شعاب مكة- فقال له رسول الله ص يا ركانة أ لا تتقي الله- و تقبل ما أدعوك إليه- قال لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك- قال أ فرأيت إن صرعتك- أ تعلم أن ما أقول لك حق قال نعم- قال فقم حتى أصارعك فقام ركانة- فلما بطش به رسول الله ص- أضجعه لا يملك من نفسه شيئا- فقال عد يا محمد فعاد فصرعه- فقال يا محمد إن هذا لعجب حين تصرعني- فقال رسول الله ص و أعجب من ذلك إن شئت أريتكه- إن اتقيت الله و اتبعت أمري-قال ما هو قال أدعو لك هذه الشجرة التي تراها- فتأتي قال فادعها فدعاها- فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله ص- ثم قال ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها- فرجع ركانة إلى قومه و قال- يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض- فما رأيت أسحر منه قط- ثم أخبرهم بالذي رأى و الذي صنع

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 237شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

237 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْفَاشِي فِي الْخَلْقِ حَمْدُهُ- وَ الْغَالِبِ جُنْدُهُ وَ الْمُتَعَالِي جَدُّهُ- أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ التُّؤَامِ وَ آلَائِهِ الْعِظَامِ- الَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا وَ عَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى- وَ عَلِمَ بِمَا يَمْضِي وَ مَا مَضَى- مُبْتَدِعِ الْخَلَائِقِ بِعِلْمِهِ وَ مُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِهِ- بِلَا اقْتِدَاءٍ وَ لَا تَعْلِيمٍ- وَ لَا احْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ- وَ لَا إِصَابَةِ خَطَإٍ وَ لَا حَضْرَةِ مَلٍا وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- ابْتَعَثَهُ وَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ- وَ يَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ- وَ اسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ- عِبَادَ اللَّهِ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ- فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ- وَ الْمُوجِبَةُ عَلَى اللَّهِ حَقَّكُمْ وَ أَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللَّهِ- وَ تَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اللَّهِ- فَإِنَّ التَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْحِرْزُ وَ الْجُنَّةُ- وَ فِي غَدٍ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ- مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ وَ سَالِكُهَا رَابِحٌ وَ مُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ- لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِينَ مِنْكُمْ- وَ الْغَابِرِينَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً- إِذَا أَعَادَ اللَّهُ مَا أَبْدَى- وَ أَخَذَ مَا أَعْطَى وَ سَأَلَ عَمَّا أَسْدَى- فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا وَ حَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا- أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَداً- وَ هُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذْ يَقُولُ- وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ- فَأَهْطِعُوا بِأَسْمَاعِكُمْ إِلَيْهَا وَ أَلِظُّوا بِجِدِّكُمْ عَلَيْهَا- وَ اعْتَاضُوهَا مِنْ كُلِّ سَلَفٍ خَلَفاً- وَ مِنْ كُلِّ مُخَالِفٍ مُوَافِقاً-أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ وَ اقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ- وَ أَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ وَ ارْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ- وَ دَاوُوا بِهَا الْأَسْقَامَ وَ بَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ- وَ اعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا وَ لَا يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا- أَلَا فَصُونُوهَا وَ تَصَوَّنُوا بِهَا- وَ كُونُوا عَنِ الدُّنْيَا نُزَّاهاً- وَ إِلَى الآْخِرَةِ وُلَّاهاً- وَ لَا تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى- وَ لَا تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْيَا- وَ لَا تَشِيمُوا بَارِقَهَا وَ لَا تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا- وَ لَا تُجِيبُوا نَاعِقَهَا وَ لَا تَسْتَضِيئُوا بِإِشْرَاقِهَا- وَ لَا تُفْتَنُوا بِأَعْلَاقِهَا- فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ وَ نُطْقَهَا كَاذِبٌ- وَ أَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ وَ أَعْلَاقَهَا مَسْلُوبَةٌ- أَلَا وَ هِيَ الْمُتَصَدِّيَةُ الْعَنُونُ وَ الْجَامِحَةُ الْحَرُونُ- وَ الْمَائِنَةُ الْخَئُونُ وَ الْجَحُودُ الْكَنُودُ- وَ الْعَنُودُ الصَّدُودُ وَ الْحَيُودُ الْمَيُودُ- حَالُهَا انْتِقَالٌ وَ وَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ- وَ عِزُّهَا ذُلٌّ وَ جِدُّهَا هَزْلٌ وَ عُلْوُهَا سُفْلٌ- دَارُ حَرْبٍ وَ سَلَبٍ وَ نَهْبٍ وَ عَطَبٍ- أَهْلُهَا عَلَى سَاقٍ وَ سِيَاقٍ وَ لَحَاقٍ وَ فِرَاقٍ- قَدْ تَحَيَّرَتْ مَذَاهِبُهَا وَ أَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا- وَ خَابَتْ مَطَالِبُهَا فَأَسْلَمَتْهُمُ الْمَعَاقِلُ- وَ لَفَظَتْهُمُ الْمَنَازِلُ وَ أَعْيَتْهُمُ الْمَحَاوِلُ- فَمِنْ نَاجٍ مَعْقُورٍ وَ لَحْمٍ مَجْزُورٍ- وَ شِلْوٍ مَذْبُوحٍ وَ دَمٍ مَسْفُوحٍ- وَ عَاضٍّ عَلَى يَدَيْهِ وَ صَافِقٍ بِكَفَّيْهِ- وَ مُرْتَفِقٍ بِخَدَّيْهِ وَ زَارٍ عَلَى رَأْيِهِ- وَ رَاجِعٍ عَنْ عَزْمِهِ- وَ قَدْ أَدْبَرَتِ الْحِيلَةُ وَ أَقْبَلَتِ الْغِيلَةُ- وَ لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ- قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ وَ ذَهَبَ مَا ذَهَبَ- وَ مَضَتِ الدُّنْيَا لِحَالِ بَالِهَا- فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَ الْأَرْضُ وَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ‏

الفاشي الذائع فشا الخبر يفشو فشوا أي ذاع- و أفشاه غيره و تفشى الشي‏ء أي اتسع- و الفواشي كل منتشر من المال- مثل الغنم السائمة و الإبل و غيرهما- و منه الحديث ضموا فواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء – فيجوز أن يكون عنى بفشو حمده- إطباق الأمم قاطبة على الاعتراف بنعمته- و يجوز أن يريد بالفاشي سبب حمده- و هو النعم التي لا يقدر قدرها فحذف المضاف- .

قوله و الغالب جنده فيه معنى قوله تعالى- فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ- . قوله و المتعالي جده فيه معنى قوله تعالى- وَ أَنَّهُ تَعالى‏ جَدُّ رَبِّنا- و الجد في هذا الموضع و في الآية العظمة- . و التؤام جمع توأم على فوعل- و هو الولد المقارن أخاه في بطن واحد- و قد أتأمت المرأة إذا وضعت اثنين كذلك فهي متئم- فإن كان ذلك عادتها فهي متآم- و كل واحد من الولدين توأم و هما توأمان- و هذا توأم هذا و هذه توأمته- و الجمع توائم مثل قشعم و قشاعم- و جاء في جمعه تؤام على فعال- و هي اللفظة التي وردت في هذه الخطبة- و هو جمع غريب لم يأت نظيره إلا في مواضع معدودة- و هي عرق العظم يؤخذ عنه اللحم و عراق- و شاة ربى للحديثة العهد بالولادة و غنم رباب- و ظئر للمرضعة غير ولدها و ظؤار- و رخل للأنثى من أولاد الضأن و رخال- و فرير لولد البقرة الوحشية و فرار- . و الآلاء النعم- .

قوله ع مبدع الخلائق بعلمه- ليس يريد أن العلم علة في الإبداع- كما تقول هوى الحجر بثقله- بل المراد أبدع الخلق و هو عالم- كما تقول خرج زيد بسلاحه أي خرج متسلحا- فموضع الجار و المجرور على هذا نصب بالحالية- و كذلك القول في و منشئهم بحكمه- و الحكم هاهنا الحكمة- . و منه قوله ع إن من الشعر لحكمة – .

قوله بلا اقتداء و لا تعليم و لا احتذاء- قد تكرر منه ع أمثاله مرارا- . قوله و لا إصابة خطأ تحته معنى لطيف- و ذلك لأن المتكلمين يوردون على أنفسهم سؤالا- في باب كونه عالما بكل معلوم- إذا استدلوا على ذلك فإنه علم بعض الأشياء- لا من طريق أصلا لا من إحساس- و لا من نظر و استدلال- فوجب أن يعلم سائرها لأنه لا مخصص- فقالوا لأنفسهم لم زعمتم ذلك- و لم لا يجوز أن يكون فعل أفعاله مضطربة- فلما أدركها علم كيفية صنعها- بطريق كونه مدركا لها فأحكمها بعد اختلالها و اضطرابها- و أجابوا عن ذلك بأنه لا بد أن يكون- قبل أن فعلها عالما بمفرداتها من غير إحساس- و يكفي ذلك في كونه عالما بما لم يتطرق إليه- ثم يعود الاستدلال المذكور أولا- .

قوله ع و لا حضره ملأ- الملأ الجماعة من الناس و فيه معنى قوله تعالى- ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ- . قوله يضربون في غمرة- أي يسيرون في جهل و ضلالة- و الضرب السير السريع- . و الحين الهلاك- و الرين الذنب على الذنب حتى يسود القلب- و قيل الرين‏الطبع و الدنس- يقال ران على قلبه ذنبه يرين رينا- أي دنسه و وسخه- و استغلقت أقفال الرين على قلوبهم تعسر فتحها- . قوله فإنها حق الله عليكم و الموجبة على الله حقكم- يريد أنها واجبة عليكم- فإن فعلتموها وجب على الله أن يجازيكم عنها بالثواب- و هذا تصريح بمذهب المعتزلة في العدل- و أن من الأشياء ما يجب على الله تعالى من باب الحكمة- .

قوله و أن تستعينوا عليها بالله- و تستعينوا بها على الله- يريد أوصيكم بأن تستعينوا بالله على التقوى- بأن تدعوه و تبتهلوا إليه أن يعينكم عليها- و يوفقكم لها و ييسرها و يقوي دواعيكم إلى القيام بها- و أوصيكم أن تستعينوا بالتقوى على لقاء الله- و محاكمته و حسابه- فإنه تعالى يوم البعث و الحساب كالحاكم بين المتخاصمين- وَ تَرى‏ كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا- فالسعيد من استعان على ذلك الحساب- و تلك الحكومة و الخصومة بالتقوى في دار التكليف- فإنها نعم المعونة وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏- . و الجنة ما يستتر به- . قوله و مستودعها حافظ يعني الله سبحانه- لأنه مستودع الأعمال و يدل عليه قوله تعالى- إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا- و ليس ما قاله الراوندي- من أنه أراد بالمستودع قلب الإنسان بشي‏ء- .

قوله لم تبرح عارضة نفسها كلام فصيح لطيف- يقول إن التقوى لم تزل عارضة نفسها- على من سلف من القرون- فقبلها القليل منهم- شبهها بالمرأة العارضة نفسها نكاحا على قوم- فرغب فيها من رغب و زهد من زهد- و على الحقيقة ليست‏هي العارضة نفسها- و لكن المكلفين ممكنون من فعلها و مرغبون فيها- فصارت كالعارضة- . و الغابر هاهنا الباقي و هو من الأضداد- يستعمل بمعنى الباقي و بمعنى الماضي- .

قوله ع إذا أعاد الله ما أبدى- يعني أنشر الموتى و أخذ ما أعطى- و ورث الأرض مالك الملوك- فلم يبق في الوجود من له تصرف في شي‏ء غيره- كما قال لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ- و قيل في الأخبار و الحديث إن الله تعالى يجمع الذهب و الفضة- كل ما كان منه في الدنيا- فيجعله أمثال الجبال ثم يقول- هذا فتنة بني آدم ثم يسوقه إلى جهنم- فيجعله مكاوي لجباه المجرمين
– .

و سأل عما أسدى أي سأل أرباب الثروة- عما أسدى إليهم من النعم- فيم صرفوها و فيم أنفقوها- . قوله ع فما أقل من قبلها- يعني ما أقل من قبل التقوى العارضة نفسها على الناس- . و إذا في قوله إذا أعاد الله ظرف لحاجتهم إليها- لأن المعنى يقتضيه أي لأنهم يحتاجون إليها- وقت إعادة الله الخلق- و ليس كما ظنه الراوندي- أنه ظرف لقوله فما أقل من قبلها- لأن المعنى على ما قلناه- و لأن ما بعد الفاء لا يجوز أن يكون عاملا فيما قبلها- . قوله فأهطعوا بأسماعكم أي أسرعوا- أهطع في عدوه أي أسرع- و يروى فانقطعوا بأسماعكم إليها- أي فانقطعوا إليها مصغين بأسماعكم- . قوله و ألظوا بجدكم أي ألحوا- و الإلظاظ الإلحاح في الأمر- و منه قول‏ابن مسعود ألظوا في الدعاء بيا ذا الجلال و الإكرام
– و منه الملاظة في الحرب- و يقال رجل ملظ و ملظاظ أي ملحاح- و ألظ المطر أي دام- .

و قوله بجدكم أي باجتهادكم- جددت في الأمر جدا بالغت و اجتهدت- و يروى و واكظوا بحدكم- و المواكظة المداومة على الأمر- و قال مجاهد في قوله تعالى- إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً- قال أي مواكظا- . قوله و أشعروا بها قلوبكم- يجوز أن يريد اجعلوها شعارا لقلوبكم- و هو ما دون الدثار و ألصق بالجسد منه- و يجوز أن يريد اجعلوها علامة- يعرف بها القلب التقي من القلب المذنب- كالشعار في الحرب يعرف به قوم من قوم- و يجوز أن يريد أخرجوا قلوبكم بها من أشعار البدن- أي طهروا القلوب بها و صفوها من دنس الذنوب- كما يصفى البدن بالفصاد من غلبة الدم الفاسد- و يجوز أن يريد الإشعار بمعنى الإعلام- من أشعرت زيدا بكذا أي عرفته إياه- أي اجعلوها عالمة بجلالة موقعها و شرف محلها- . قوله و ارحضوا بها أي اغسلوا- و ثوب رحيض و مرحوض أي مغسول- .

قال و داووا بها الأسقام يعني أسقام الذنوب- . و بادروا بها الحمام- عجلوا و اسبقوا الموت أن يدرككم و أنتم غير متقين- . و اعتبروا بمن أضاع التقوى فهلك شقيا- و لا يعتبرن بكم أهل التقوى- أي لا تكونوا أنتم لهم معتبرا بشقاوتكم و سعادتهم- . ثم قال و صونوا التقوى عن أن تمازجها المعاصي- و تصونوا أنتم بها عن الدناءة و ما ينافي العدالة- . و النزه جمع نزيه و هو المتباعد عما يوجب الذم- و الولاه جمع واله- و هو المشتاق ذو الوجد حتى يكاد يذهب عقله- .

ثم شرع في ذكر الدنيا فقال لا تشيموا بارقها- الشيم النظر إلى البرق انتظارا للمطر- . و لا تسمعوا ناطقها- لا تصغوا إليها سامعين و لا تجيبوا مناديها- . و الأعلاق جمع علق و هو الشي‏ء النفيس- و برق خالب و خلب لا مطر فيه- . و أموالها محروبة أي مسلوبة- . قوله ع ألا و هي المتصدية العنون- شبهها بالمرأة المومس تتصدى للرجال تريد الفجور- و تتصدى لهم تتعرض و العنون المتعرضة أيضا- عن لي كذا أي عرض- .

ثم قال و الجامحة الحرون شبهها بالدابة ذات الجماح- و هي التي لا يستطاع ركوبها لأنها تعثر بفارسها و تغلبه- و جعلها مع ذلك حرونا و هي التي لا تنقاد- . ثم قال و المائنة الخئون- مان أي كذب شبهها بامرأة كاذبة خائنة- . و الجحود الكنود جحد الشي‏ء أنكره- و كند النعمة كفرها- جعلها كامرأة تجحد الصنيعة- و لا تعترف بها و تكفر النعمة- و يجوز أن يكون الجحود من قولك- رجل جحد و جحد أي قليل الخير- و عام جحد أي قليل المطر- و قد جحد النبت إذا لم يطل- . قال و العنود الصدود- العنود الناقة تعدل عن مرعى الإبل و ترعى ناحية- . و الصدود المعرضة صد عنه أي أعرض- شبهها في انحرافها و ميلها عن القصد بتلك- .

قال و الحيود الميود- حادث الناقة عن كذا تحيد فهي حيود- إذا مالت عنه- . و مادت تميد فهي ميود أي مالت- فإن كانت عادتها ذلك- سميت الحيود الميود في كل حال- .

قال حالها انتقال- يجوز أن يعني به أن شيمتها و سجيتها- الانتقال و التغير- و يجوز أن يريد به معنى أدق- و هو أن الزمان على ثلاثة أقسام- ماض و حاضر و مستقبل- فالماضي و المستقبل لا وجود لهما الآن- و إنما الموجود أبدا هو الحاضر- فلما أراد المبالغة في وصف الدنيا- بالتغير و الزوال قال حالها انتقال- أي أن الآن الذي يحكم العقلاء عليه بالحضور منها- ليس بحاضر على الحقيقة بل هو سيال متغير- فلا ثبوت إذا لشي‏ء منها مطلقا- و يروى و حالها افتعال- أي كذب و زور و هي رواية شاذة- .

قال و وطئتها زلزال الوطأة كالضغطة- و منه قوله ص اللهم اشدد وطأتك على مضر – و أصلها موضع القدم- و الزلزال الشدة العظيمة و الجمع زلازل- . و قال الراوندي في شرحه يريد أن سكونها حركة- من قولك وطؤ الشي‏ء أي صار وطيئا ذا حال لينة- و موضع وطي‏ء أي وثير- و هذا خطأ لأن المصدر من ذلك وطاءة بالمد- و هاهنا وطأة ساكن الطاء فأين أحدهما من الآخر- .

قال و علوها سفل يجوز ضم أولهما و كسره- . قال دار حرب- الأحسن في صناعة البديع- أن تكون الراء هاهنا ساكنة ليوازي السكون هاء نهب- و من فتح الراء أراد السلب- حربته أي سلبت ماله- . قال أهلها على ساق و سياق- يقال قامت الحرب على ساق أي على شدة- و منه قوله سبحانه يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ- و السياق نزع الروح- يقال رأيت فلانا يسوق أي ينزع عند الموت- أو يكون مصدر ساق الماشية سوقا و سياقا- .

و قال الراوندي في شرحه- يريد أن بعض أهلها في أثر بعض- كقولهم ولدت فلانةثلاثة بنين على ساق- و ليس ما قاله بشي‏ء- لأنهم يقولون ذلك للمرأة إذا لم يكن بين البنين أنثى- و لا يقال ذلك في مطلع التتابع أين كان- . قال ع و لحاق و فراق- اللام مفتوحة مصدر لحق به- و هذا كقولهم الدنيا مولود يولد و مفقود يفقد- . قال ع قد تحيرت مذاهبها- أي تحير أهلها في مذاهبهم- و ليس يعني بالمذاهب هاهنا الاعتقادات بل المسالك- .

و أعجزت مهاربها- أي أعجزتهم جعلتهم عاجزين فحذف المفعول- . و أسلمتهم المعاقل لم تحصنهم- . و لفظتهم بفتح الفاء رمت بهم و قذفتهم- . و أعيتهم المحاول أي المطالب- . ثم وصف أحوال الدنيا فقال هم فمن ناج معقور- أي مجروح كالهارب من الحرب بحشاشة نفسه- و قد جرح بدنه- . و لحم مجزور أي قتيل قد صار جزرا للسباع- . و شلو مذبوح- الشلو العضو من أعضاء الحيوان المذبوح أو الميت- و في الحديث ائتوني بشلوها الأيمن – . و دم مفسوح أي مسفوك- و عاض على يديه أي ندما- . و صافق بكفيه أي تعسفا أو تعجبا- . و مرتفق بخديه- جاعل لهما على مرفقيه فكرا و هما- . و زار على رأيه أي عائب- أي يرى الواحد منهم رأيا و يرجع عنه و يعيبه- و هو البداء الذي يذكره المتكلمون- ثم فسره بقوله و راجع عن عزمه- .

فإن قلت فهل يمكن أن يفرق بينهما- ليكون الكلام أكثر فائدة- قلت نعم- بأن يريد بالأول من رأى رأيا و كشفه لغيره- و جامعه عليه ثم بدا له و عابه- و يريد بالثاني من عزم نفسه عزما- و لم يظهر لغيره ثم رجع عنه- و يمكن أيضا بأن يفرق بينهما- بأن يعني بالرأي الاعتقاد- كما يقال هذا رأي أبي حنيفة- و العزم أمر مفرد خارج عن ذلك- و هو ما يعزم عليه الإنسان من أمور نفسه- و لا يقال عزم في الاعتقادات ثم قال ع و قد أدبرت الحيلة أي ولت- و أقبلت الغيلة أي الشر و منه قولهم فلان قليل الغائلة- أو يكون بمعنى الاغتيال يقال قتله غيلة أي خديعة- يذهب به إلى مكان يوهمه أنه لحاجة ثم يقتله- .

قال ع و لات حين مناص- هذه من ألفاظ الكتاب العزيز- قال الأخفش شبهوا لات بليس- و أضمروا فيها اسم الفاعل- قال و لا تكون لات إلا مع حين- و قد جاء حذف حين في الشعر- و منه المثل حنت و لات هنت- أي و لات حين حنت و الهاء بدل من الحاء- فحذف الحين و هو يريده- قال و قرأ بعضهم وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ بالرفع و أضمر الخبر- و قال أبو عبيد هي لا و التاء إنما زيدت في حين- لا في لا و إن كتبت مفردة- و الأصل تحين كما قال في ألان تلان- فزادوا التاء و أنشد لأبي وجزة-

العاطفون تحين ما من عاطف
و المطعمون زمان أين المطعم‏

و قال المؤرج زيدت التاء في لات- كما زيدت في ربت و ثمت- . و المناص المهرب ناص عن قرنه ينوص نوصا و مناصا- أي ليس هذا وقت الهرب و الفرار- .و يكون المناص أيضا بمعنى الملجأ و المفزع- أي ليس هذا حين تجد مفزعا و معقلا تعتصم به- . هيهات اسم للفعل و معناه بعد- يقال هيهات زيد فهو مبتدأ و خبر- و المعنى يعطي الفعلية- و التاء في هيهات مفتوحة مثل كيف- و أصلها هاء و ناس يكسرونها على كل حال- بمنزلة نون التثنية و قال الراجز-

هيهات من مصبحها هيهات
هيهات حجر من صنيعات‏

و قد تبدل الهاء همزة فيقال- أيهات مثل هراق و أراق قال-

أيهات منك الحياة أيهاتا

 قال الكسائي فمن كسر التاء وقف عليها بالهاء- فقال هيهاه- و من فتحها وقف إن شاء بالتاء و إن شاء بالهاء- . قوله ع و مضت الدنيا لحال بالها- كلمة تقال فيما انقضى و فرط أمره- و معناها مضى بما فيه إن كان خيرا و إن كان شرا- . قوله ع فما بكت عليهم السماء- هو من كلام الله تعالى- و المراد أهل السماء و هم الملائكة و أهل الأرض و هم البشر- و المعنى أنهم لا يستحقون أن يتأسف عليهم- و قيل أراد المبالغة في تحقير شأنهم- لأن العرب كانت تقول في العظيم القدر يموت- بكته السماء و بكته النجوم قال الشاعر-

فالشمس طالعة ليست بكاسفة
تبكي عليك نجوم الليل و القمرا

 فنفى عنهم ذلك- و قال ليسوا من يقال فيه مثل هذا القول- و تأولها ابن عباس رضي الله عنه لما قيل له- أ تبكي السماء و الأرض على أحد- فقال نعم يبكيه مصلاه في الأرض و مصعد عمله في السماء- فيكون نفي البكاء عنهما- كناية عن أنه لم يكن لهم في الأرض- عمل صالح يرفع منهما إلى السماء

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 236 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

236 و من خطبة له ع

أَحْمَدُهُ شُكْراً لِإِنْعَامِهِ- وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ- عَزِيزَ الْجُنْدِ عَظِيمَ الْمَجْدِ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ- لَا يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعٌ عَلَى تَكْذِيبِهِ- وَ الْتِمَاسٌ لِإِطْفَاءِ نُورِهِ- فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ- وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ- وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ وَ امْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ- وَ أَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ- وَ كَفَى بِذَلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَ مُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ- وَ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الْأَرْمَاسِ- وَ شِدَّةِ الْإِبْلَاسِ وَ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ- وَ رَوْعَاتِ الْفَزَعِ وَ اخْتِلَافِ الْأَضْلَاعِ- وَ اسْتِكَاكِ الْأَسْمَاعِ وَ ظُلْمَةِ اللَّحْدِ- وَ خِيفَةِ الْوَعْدِ وَ غَمِّ الضَّرِيحِ وَ رَدْمِ الصَّفِيحِ- فَاللَّهَ اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ- فَإِنَّ الدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ- وَ أَنْتُمْ وَ السَّاعَةَ فِي قَرَنٍ- وَ كَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وَ أَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا- وَ وَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وَ كَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلَازِلِهَا- وَ أَنَاخَتْ بِكَلَاكِلِهَا وَ انْصَرَفَتِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا- وَ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا- فَكَانَتْ كَيَوْمَ مَضَى وَ شَهْرٍ انْقَضَى- وَ صَارَ جَدِيدُهَا رَثّاً وَ سَمِينُهَا غَثّاً- فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ الْمَقَامِ وَ أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ- وَ نَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا- سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا- مُتَأَجِّجٍ سَعِيرُهَا بَعِيدٍ خُمُودُهَا- ذَاكٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ‏ وَعِيدُهَا- عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا- حَامِيَةٍ قُدُورُهَا فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا- وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً- قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وَ انْقَطَعَ الْعِتَابُ- وَ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَ اطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ- وَ رَضُوا الْمَثْوَى وَ الْقَرَارَ- الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً- وَ أَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً- وَ كَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اسْتِغْفَارًا- وَ كَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلًا تَوَحُّشاً وَ انْقِطَاعاً- فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً وَ الْجَزَاءَ ثَوَاباً- وَ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا- فِي مُلْكٍ دَائِمٍ وَ نَعِيمٍ قَائِمٍ- فَارْعَوْا عِبَادَ اللَّهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ- وَ بِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ- وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ- فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ- وَ مَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ- وَ كَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الْمَخُوفُ- فَلَا رَجْعَةً تُنَالُونَ وَ لَا عَثْرَةً تُقَالُونَ- اسْتَعْمَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وَ طَاعَةِ رَسُولِهِ- وَ عَفَا عَنَّا وَ عَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ- الْزَمُوا الْأَرْضَ وَ اصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ- وَ لَا تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَ سُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ- وَ لَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَكُمْ- فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ- وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ- وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً- وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ- وَ اسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ- وَ قَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلَاتِهِ لِسَيْفِهِ- فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُدَّةً وَ أَجَلًا وظائف حقوقه الواجبات المؤقتة- كالصلوات الخمس و صوم شهر رمضان- و الوظيفة ما يجعل للإنسان في كل يوم- أو في كل شهر أو في كل سنة- من طعام أو رزق-و عزيز منصوب لأنه حال من الضمير في أستعينه- و يجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في حقوقه- و إضافة عزيز إلى الجند- إضافة في تقدير الانفصال- لا توجب تعريفه ليمتنع من كونه حالا- .

و قاهر أعداءه حاربهم و روي و قهر أعداءه- . و المعقل ما يعتصم به و ذروته أعلاه- . و امهدوا له اتخذوا مهادا- و هو الفراش و هذه استعارة- . قوله ع فإن الغاية القيامة- أي فإن منتهى كل البشر إليها و لا بد منها- . و الأرماس جمع رمس و هو القبر- و الإبلاس مصدر أبلس أي خاب و يئس- و الإبلاس أيضا الانكسار و الحزن- . و استكاك الأسماع صممها- . و غم الضريح ضيق القبر و كربه- و الصفيح الحجر و ردمه سده- .

و السنن الطريق و القرن الحبل- . و أشراط الساعة علاماتها- و أزفت قربت و أفراطها جمع فرط- و هم المتقدمون السابقون من الموتى- و من روى بإفراطها- فهو مصدر أفرط في الشي‏ء- أي قربت الساعة بشدة غلوائها- و بلوغها غاية الهول و الفظاعة- و يجوز أن تفسر الرواية الأولى- بمقدماتها و ما يظهر قبلها من خوارق العادات المزعجة- كالدجال و دابة الأرض و نحوهما- و يرجع ذلك إلى اللفظة الأولى- و هي أشراطها و إنما يختلف اللفظ- . و الكلاكل جمع كلكل و هو الصدر- و يقال للأمر الثقيل قد أناخ عليهم بكلكله- أي هدهم و رضهم كما يهد البعير البارك من تحته- إذا أنحى عليه بصدره- . قوله ع و انصرفت الدنيا بأهلها أي ولت- و يروى و انصرمت أي انقضت- .

و الحضن بكسر الحاء ما دون الإبط إلى الكشح- . و الرث الخلق و الغث الهزيل- . و مقام ضنك أي ضيق- . و شديد كلبها أي شرها و أذاها- و اللجب الصوت و وقودها هاهنا بضم الواو- و هو الحدث و لا يجوز الفتح- لأنه ما يوقد به كالحطب و نحوه- و ذاك لا يوصف بأنه ذاك- . قوله ع عم قرارها- أي لا يهتدى فيه لظلمته و لأنه عميق جدا- و يروى و كأن ليلهم نهار- و كذلك أختها على التشبيه- . و المآب المرجع و مدينون مجزيون- .

قوله ع فلا رجعة تنالون- الرواية بضم التاء أي تعطون- يقال أنلت فلانا مالا أي منحته- و قد روي تنالون بفتح التاء- . ثم أمر أصحابه أن يثبتوا- و لا يعجلوا في محاربة من كان مخالطا لهم- من ذوي العقائد الفاسدة كالخوارج- و من كان يبطن هوى معاوية- و ليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام- كيف و هو لا يزال يقرعهم و يوبخهم- عن التقاعد و الإبطاء في ذلك- و لكن قوما من خاصته- كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة- و يعرفون نفاقهم و فسادهم- و يرومون قتلهم و قتالهم فنهاهم عن ذلك- و كان يخاف فرقة جنده و انتثار حبل عسكره- فأمرهم بلزوم الأرض و الصبر على البلاء- .

و روي بإسقاط الباء من قوله بأيديكم- و من روى الكلمة بالباء جعلها زائدة- و يجوز ألا تكون زائدة- و يكون المعنى و لا تحركوا الفتنة بأيديكم و سيوفكم- في هوى ألسنتكم فحذف المفعول- . و الإصلات بالسيف مصدر أصلت أي سل- .

و اعلم أن هذه الخطبة من أعيان خطبه ع- و من ناصع كلامه و نادره- و فيها من صناعة البديع الرائقة المستحسنة- البريئة من التكلف ما لا يخفى- و قد أخذ ابن نباتة الخطيب- كثيرا من ألفاظها فأودعها خطبه- مثل قوله شديد كلبها عال لجبها- ساطع لهبها متغيظ زفيرها- متأجج سعيرها بعيد خمودها- ذاك وقودها مخوف وعيدها- عم قرارها- مظلمة أقطارها حامية قدورها فظيعة أمورها- فإن هذه الألفاظ كلها اختطفها- و أغار عليها و اغتصبها- و سمط بها خطبه و شذر بها كلامه- .

و مثل قوله هول المطلع و روعات الفزع- و اختلاف الأضلاع و استكاك الأسماع- و ظلمة اللحد و خيفة الوعد- و غم الضريح و ردم الصفيح- فإن هذه الألفاظ أيضا- تمضي في أثناء خطبه و في غضون مواعظه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 235 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

235 و من خطبة له ع

فَمِنَ الْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ- وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَ الصُّدُورِ- إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ- فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ- حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ- فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ- وَ الْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الْأَوَّلِ- مَا كَانَ لِلَّهِ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ حَاجَةٌ- مِنْ مُسْتَسِرِّ الْأُمَّةِ وَ مُعْلِنِهَا- لَا يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَى أَحَدٍ- إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الْأَرْضِ- فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ- وَ لَا يَقَعُ اسْمُ الِاسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ- فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ- إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ- امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ- وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِينَةٌ- أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي- فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ- قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا- وَ تَذْهَبُ بِأَحْلَامِ قَوْمِهَا

هذا الفصل يحمل على عدة مباحث-

أولها قولها ع فمن الإيمان ما يكون كذا- فنقول إنه قسم الإيمان إلى ثلاثة أقسام-أحدها الإيمان الحقيقي- و هو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان اليقيني- .

الثاني ما ليس ثابتا بالبرهان اليقيني- بل بالدليل الجدلي- كإيمان كثير ممن لم يحقق العلوم العقلية- و يعتقد ما يعتقده عن أقيسة جدلية- لا تبلغ إلى درجة البرهان- و قد سمى ع هذا القسم باسم مفرد- فقال إنه عواري في القلوب- و العواري جمع عارية- أي هو و إن كان في القلب و في محل الإيمان الحقيقي- إلا أن حكمه حكم العارية في البيت- فإنها بعرضة الخروج منه- لأنها ليست أصلية كائنة في بيت صاحبها- .

و الثالث ما ليس مستندا إلى برهان و لا إلى قياس جدلي- بل على سبيل التقليد و حسن الظن بالأسلاف- و بمن يحسن ظن الإنسان فيه من عابد أو زاهد أو ذي ورع- و قد جعله ع عواري بين القلوب و الصدور- لأنه دون الثاني- فلم يجعله حالا في القلب- و جعله مع كونه عارية حالا بين القلب و الصدر- فيكون أضعف مما قبله- .

فإن قلت فما معنى قوله إلى أجل معلوم- قلت إنه يرجع إلى القسمين الأخيرين- لأن من لا يكون إيمانه ثابتا بالبرهان القطعي- قد ينتقل إيمانه إلى أن يصير قطعيا- بأن يمعن النظر و يرتب البرهان ترتيبا مخصوصا- فينتج له النتيجة اليقينية- و قد يصير إيمان المقلد إيمانا جدليا- فيرتقي إلى ما فوقه مرتبته- و قد يصير إيمان الجدلي إيمانا تقليديا- بأن يضعف في نظره ذلك القياس الجدلي- و لا يكون عالما بالبرهان- فيئول حال إيمانه إلى أن يصير تقليديا- فهذا هو فائدة قوله إلى أجل معلوم في هذين القسمين- .

فأما صاحب القسم الأول- فلا يمكن أن يكون إيمانه إلى أجل معلوم- لأن من ظفر بالبرهان استحال أن ينتقل عن اعتقاده- لا صاعدا و لا هابطا- أما لا صاعدا فلأنه ليس فوق البرهان مقام آخر- و أما لا هابطا- فلأن مادة البرهان هي المقدمات البديهية-و المقدمات البديهية يستحيل أن تضعف عند الإنسان- حتى يصير إيمانه جدليا أو تقليديا- .

و ثانيها قوله ع فإذا كانت لكم براءة- فنقول إنه ع نهى عن البراءة من أحد ما دام حيا- لأنه و إن كان مخطئا في اعتقاده- لكن يجوز أن يعتقد الحق فيما بعد- و إن كان مخطئا في أفعاله لكن يجوز أن يتوب- فلا تحل البراءة من أحد حتى يموت على أمر- فإذا مات على اعتقاد قبيح أو فعل قبيح- جازت البراءة منه- لأنه لم يبق له بعد الموت حالة تنتظر- و ينبغي أن تحمل هذه البراءة- التي أشار إليها ع على البراءة المطلقة لا على كل براءة- لأنا يجوز لنا أن نبرأ من الفاسق و هو حي- و من الكافر و هو حي- لكن بشرط كونه فاسقا و بشرط كونه كافرا- فأما من مات و نعلم ما مات عليه- فإنا نبرأ منه براءة مطلقة غير مشروطة- .

و ثالثها قوله و الهجرة قائمة على حدها الأول- فنقول هذا كلام يختص به أمير المؤمنين ع- و هو من أسرار الوصية- لأن الناس يروون عن النبي ص أنه قال- لا هجرة بعد الفتح- فشفع عمه العباس في نعيم بن مسعود الأشجعي- أن يستثنيه فاستثناه- و هذه الهجرة التي يشير إليها أمير المؤمنين ع- ليست تلك الهجرة بل هي الهجرة إلى الإمام- قال إنها قائمة على حدها الأول ما دام التكليف باقيا- و هو معنى قوله ما كان لله تعالى في أهل الأرض حاجة- . و قال الراوندي ما هاهنا نافية- أي لم يكن لله في أهل الأرض من حاجة- و هذا ليس بصحيح- لأنه إدخال كلام منقطع- بين كلامين متصل أحدهما بالآخر- .

ثم ذكر أنه لا يصح أن يعد الإنسان من المهاجرين- إلا بمعرفة إمام زمانه- و هومعنى قوله- إلا بمعرفة الحجة في الأرض- قال فمن عرف الإمام و أقر به فهو مهاجر- . قال و لا يجوز أن يسمى من عرف الإمام مستضعفا- يمكن أن يشير به إلى آيتين في القرآن- أحدهما قوله تعالى- إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ- قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ- قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها- فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ- فالمراد على هذا- أنه ليس من عرف الإمام و بلغه خبره بمستضعف- كما كان هؤلاء مستضعفين- و إن كان في بلده و أهله- لم يخرج و لم يتجشم مشقة السفر- .

ثانيهما قوله تعالى في الآية التي تلي الآية المذكورة- إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ- لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا- فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ- فالمراد على هذا- أنه ليس من عرف الإمام و بلغه خبره بمستضعف- كهؤلاء الذين استثناهم الله تعالى من الظالمين- لأن أولئك كانت الهجرة بالبدن مفروضة عليهم- و عفي عن ذوي العجز عن الحركة منهم- و شيعة الإمام ع ليست الهجرة بالبدن مفروضة عليهم- بل تكفي معرفتهم به و إقرارهم بإمامته- فلا يقع اسم الاستضعاف عليهم- .

فإن قلت فما معنى قوله- من مستسر الأمة و معلنها- و بما ذا يتعلق حرف الجر- قلت معناه ما دام لله في أهل الأرض- المستسر منهم باعتقاده و المعلن حاجة- فمن على هذا زائدة- فلو حذفت لجر المستسر بدلا من أهل الأرض- و من إذا كانت زائدة لا تتعلق- نحو قولك ما جاءني من أحد- .

و رابعها قوله ع- إن أمرنا هذا صعب مستصعب- و يروى مستصعب بكسر العين- لا يحتمله إلا عبد امتحن الله تعالى قلبه للإيمان- هذه من ألفاظ القرآن العزيز قال الله تعالى- أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى‏- و هو من قولك امتحن فلان لأمر كذا- و جرب و درب للنهوض به- فهو مضطلع به غير وان عنه- و المعنى أنهم صبر على التقوى- أقوياء على احتمال مشاقها- و يجوز أن يكون وضع الامتحان موضع المعرفة- لأن تحققك الشي‏ء إنما يكون باختباره- كما يوضع الخبر موضع المعرفة- فكأنه قيل عرف الله قلوبهم للتقوى- فتتعلق اللام بمحذوف أي كائنة له- و هي اللام التي في قولك- أنت لهذا الأمر أي مختص به كقوله-

أعداء من لليعملات على الوجا

و تكون مع معمولها منصوبة على الحال- و يجوز أن يكون المعنى ضرب الله قلوبهم- بأنواع المحن و التكاليف الصعبة لأجل التقوى- أي لتثبت فيظهر تقواها و يعلم أنهم متقون- لأن حقيقة التقوى لا تعلم- إلا عند المحن و الشدائد و الاصطبار عليها- . و يجوز أن يكون المعنى أنه أخلص قلوبهم للتقوى- من قولهم امتحن الذهب إذا أذابه- فخلص إبريزه من خبثه و نقاه- . و هذه الكلمة قد قالها ع مرارا- و وقفت في بعض الكتب على خطبة من جملتها-
إن قريشا طلبت السعادة فشقيت- و طلبت النجاة فهلكت و طلبت الهدى فضلت- أ لم يسمعوا ويحهم قوله تعالى- وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ- أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ- فأين المعدل و المنزع عن ذرية الرسول- الذين شيد الله بنيانهم فوق بنيانهم- و أعلى رءوسهم فوق رءوسهم و اختارهم عليهم- ألا إن الذرية أفنان أنا شجرتها و دوحة أنا ساقها- و إني من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء- كناظلالا تحت العرش قبل خلق البشر- و قبل خلق الطينة التي كان منها البشر- أشباحا عالية لا أجساما نامية- إن أمرنا صعب مستصعب لا يعرف كنهه إلا ثلاثة- ملك مقرب أو نبي مرسل- أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان- فإذا انكشف لكم سر أو وضح لكم أمر فاقبلوه- و إلا فاسكتوا تسلموا- و ردوا علمنا إلى الله- فإنكم في أوسع مما بين السماء و الأرض – .

و خامسها قوله سلوني قبل أن تفقدوني – أجمع الناس كلهم على أنه لم يقل أحد من الصحابة- و لا أحد من العلماء سلوني- غير علي بن أبي طالب ع- ذكر ذلك ابن عبد البر المحدث في كتاب الاستيعاب- . و المراد بقوله- فلأنا أعلم بطرق السماء مني بطرق الأرض- ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور- و لا سيما في الملاحم و الدول- و قد صدق هذا القول عنه ما تواتر عنه- من الأخبار بالغيوب المتكررة- لا مرة و لا مائة مرة- حتى زال الشك و الريب في أنه إخبار عن علم- و أنه ليس على طريق الاتفاق- و قد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب- . و قد تأوله قوم على وجه آخر قالوا- أراد أنا بالأحكام الشرعية و الفتاوي الفقهية- أعلم مني بالأمور الدنيوية- فعبر عن تلك بطرق السماء لأنها أحكام إلهية- و عبر عن هذه بطرق الأرض لأنها من الأمور الأرضية- و الأول أظهر- لأن فحوى الكلام و أوله يدل على أنه المراد

قصة وقعت لأحد الوعاظ ببغداد

و على ذكر قوله ع سلوني- حدثني من أثق به من أهل العلم حديثا- و إن كان فيه بعض الكلمات العامية- إلا أنه يتضمن ظرفا و لطفا و يتضمن أيضا أدبا- . قال كان ببغداد في صدر أيام الناصر لدين الله- أبي العباس أحمد بن المستضي‏ء بالله- واعظ مشهور بالحذق و معرفة الحديث و الرجال- و كان يجتمع إليه تحت منبره خلق عظيم- من عوام بغداد و من فضلائها أيضا- و كان مشتهرا بذم أهل الكلام- و خصوصا المعتزلة و أهل النظر على قاعدة الحشوية- و مبغضي أرباب العلوم العقلية- و كان أيضا منحرفا عن الشيعة- برضا العامة بالميل عليهم- فاتفق قوم من رؤساء الشيعة- على أن يضعوا عليه من يبكته و يسأله تحت منبره- و يخجله و يفضحه بين الناس في المجلس- و هذه عادة الوعاظ- يقوم إليهم قوم فيسألونهم مسائل- يتكلفون الجواب عنها- و سألوا عمن ينتدب لهذا- فأشير عليهم بشخص كان ببغداد- يعرف بأحمد بن عبد العزيز الكزي كان له لسن- و يشتغل بشي‏ء يسير من كلام المعتزلة و يتشيع- و عنده قحة و قد شدا أطرافا من الأدب- و قد رأيت أنا هذا الشخص في آخر عمره- و هو يومئذ شيخ و الناس يختلفون إليه في تعبير الرؤيا- فأحضروه و طلبوا إليه أن يعتمد ذلك فأجابهم-

و جلس ذلك الواعظ في يومه الذي جرت عادته بالجلوس فيه- و اجتمع الناس عنده على طبقاتهم- حتى امتلأت الدنيا بهم- و تكلم على عادته فأطال- فلما مر في ذكر صفات الباري سبحانه في أثناء الوعظ- قام إليه الكزي فسأله أسئلة عقلية- على منهاج كلام المتكلمين من المعتزلة- فلم يكن للواعظ عنها جواب نظري- و إنما دفعه بالخطابة و الجدل و سجع الألفاظ- و تردد الكلام بينهما طويلا- و قال الواعظ في آخر الكلام أعين المعتزلة حول- و صوتي‏في مسامعهم طبول- و كلامي في أفئدتهم نصول- يا من بالاعتزال يصول ويحك كم تحوم و تجول- حول من لا تدركه العقول- كم أقول كم أقول خلوا هذا الفضول- . فارتج المجلس و صرخ الناس و علت الأصوات- و طاب الواعظ و طرب- و خرج من هذا الفصل إلى غيره فشطح شطح الصوفية-

و قال سلوني قبل أن تفقدوني و كررها- فقام إليه الكزي فقال- يا سيدي ما سمعنا أنه قال هذه الكلمة- إلا علي بن أبي طالب ع و تمام الخبر معلوم- و أراد الكزي بتمام الخبر قوله ع- لا يقولها بعدي إلا مدع- . فقال الواعظ و هو في نشوة طربه- و أراد إظهار فضله و معرفته برجال الحديث و الرواة- من علي بن أبي طالب- أ هو علي بن أبي طالب بن المبارك النيسابوري- أم علي بن أبي طالب بن إسحاق المروزي- أم علي بن أبي طالب بن عثمان القيرواني- أم علي بن أبي طالب بن سليمان الرازي- و عد سبعة أو ثمانية من أصحاب الحديث- كلهم علي بن أبي طالب- فقام الكزي و قام من يمين المجلس آخر- و من يسار المجلس ثالث انتدبوا له- و بذلوا أنفسهم للحمية و وطنوها على القتل- .

فقال الكزي أشا يا سيدي فلان الدين أشا- صاحب هذا القول هو علي بن أبي طالب- زوج فاطمة سيدة نساء العالمين ع- و إن كنت ما عرفته بعد بعينه فهو الشخص الذي- لما آخى رسول الله ص بين الأتباع و الأذناب- آخى بينه و بين نفسه و أسجل على أنه نظيره و مماثله- فهل نقل في جهازكم أنتم من هذا شي‏ء- أو نبت تحت خبكم من هذا شي‏ء- . فأراد الواعظ أن يكلمه- فصاح عليه القائم من الجانب الأيمن و قال- يا سيدي فلان الدين محمد بن عبد الله- كثير في الأسماء- و لكن ليس فيهم من قال له رب العزة-ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى‏- وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏- إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏- و كذلك علي بن أبي طالب كثير في الأسماء- و لكن ليس فيهم من قال له صاحب الشريعة أنت مني بمنزلة هرون من موسى- إلا أنه لا نبي بعديو قد تلتقي الأسماء في الناس و الكنى كثيرا و لكن ميزوا في الخلائق‏- .

فالتفت إليه الواعظ ليكلمه- فصاح عليه القائم من الجانب الأيسر- و قال يا سيدي فلان الدين حقك تجهله- أنت معذور في كونك لا تعرفه-

و إذا خفيت على الغبي فعاذر
ألا تراني مقلة عمياء

فاضطرب المجلس و ماج كما يموج البحر- و افتتن الناس و تواثبت العامة بعضها إلى بعض- و تكشفت الرءوس و مزقت الثياب- و نزل الواعظ- و احتمل حتى أدخل دارا أغلق عليه بابها- و حضر أعوان السلطان فسكنوا الفتنة- و صرفوا الناس إلى منازلهم و أشغالهم- و أنفذ الناصر لدين الله في آخر نهار ذلك اليوم- فأخذ أحمد بن عبد العزيز الكزي- و الرجلين اللذين قاما معه- فحبسهم أياما لتطفأ نائرة الفتنة ثم أطلقهم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 234 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

234 و من خطبة له ع-

أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى اللَّهِ- وَ كَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَى آلَائِهِ إِلَيْكُمْ- وَ نَعْمَائِهِ عَلَيْكُمْ وَ بَلَائِهِ لَدَيْكُمْ- فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَةٍ وَ تَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَةٍ- أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَكُمْ وَ تَعَرَّضْتُمْ لِأَخْذِهِ فَأَمْهَلَكُمْ- وَ أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ إِقْلَالِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ- وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ- وَ طَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ- فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ- حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ- وَ أُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ- كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً- وَ كَأَنَّ الآْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً- أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ- وَ أَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ- وَ اشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا- وَ أَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ انْتَقَلُوا- لَا عَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا- وَ لَا فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً- أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ- وَ وَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ- فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَنَازِلِكُمُ- الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا- وَ الَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا وَ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا- وَ اسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ- وَ الْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ- فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ- مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ- وَ أَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ- وَ أَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ- وَ أَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ

أعورتم أي انكشفتم و بدت عوراتكم- و هي المقاتل تقول أعور الفارس إذا بدت مقاتله- و أعورك الصيد إذا أمكنك منه- . قوله ع أوحشوا ما كانوا يوطنون- أي أوطنوا قبورهم التي كانوا يوحشونها- . قوله ع و اشتغلوا بما فارقوا- أي اشتغلوا و هم في القبور- بما فارقوه من الأموال و القينات- لأنها أذى و عقاب عليهم في قبورهم- و لولاها لكانوا في راحة- و يجوز أن يكون حكاية حالهم و هم بعد في الدنيا- أي اشتغلوا أيام حياتهم من الأموال و المنازل بما فارقوه- و أضاعوا من أمر آخرتهم ما انتقلوا إليه- .

ثم ذكر أنهم لا يستطيعون فعل حسنة و لا توبة من قبيح- لأن التكليف سقط- و المنازل التي أمروا بعمارتها و المقابر- و عمارتها الأعمال الصالحة- و قوله ع إن غدا من اليوم قريب- كلام يجري مجرى المثل- قال غد ما غد ما أقرب اليوم من غد- و الأصل فيه قول الله تعالى- إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ- . و قوله ع ما أسرع الساعات في اليوم إلى آخر الفصل- كلام شريف وجيز بالغ في معناه- و الفصل كله نادر لا نظير له

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 233 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

233 و من خطبة له ع تختص بذكر الملاحم-

أَلَا بِأَبِي وَ أُمِّي هُمْ مِنْ عِدَّةٍ- أَسْمَاؤُهُمْ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وَ فِي الْأَرْضِ مَجْهُولَةٌ- أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِكُمْ- وَ انْقِطَاعِ وُصَلِكُمْ وَ اسْتِعْمَالِ صِغَارِكُمْ- ذَاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ السَّيْفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ- أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلَّهِ- ذَاكَ حَيْثُ يَكُونُ الْمُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ الْمُعْطِي- ذَاكَ حَيْثُ تَسْكَرُونَ مِنْ غَيْرِ شَرَابٍ- بَلْ مِنَ النِّعْمَةِ وَ النَّعِيمِ- وَ تَحْلِفُونَ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ- وَ تَكْذِبُونَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَاجٍ- ذَاكَ إِذَا عَضَّكُمُ الْبَلَاءُ كَمَا يَعَضُّ الْقَتَبُ غَارِبَ الْبَعِيرِ- مَا أَطْوَلَ هَذَا الْعَنَاءَ وَ أَبْعَدَ هَذَا الرَّجَاءَ- أَيُّهَا النَّاسُ أَلْقُوا هَذِهِ الْأَزِمَّةَ- الَّتِي تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الْأَثْقَالَ مِنْ أَيْدِيكُمْ- وَ لَا تَصَدَّعُوا عَلَى سُلْطَانِكُمْ فَتَذُمُّوا غِبَّ فِعَالِكُمْ- وَ لَا تَقْتَحِمُوا مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ نَارِ الْفِتْنَةِ- وَ أَمِيطُوا عَنْ سَنَنِهَا وَ خَلُّوا قَصْدَ السَّبِيلِ لَهَا- فَقَدْ لَعَمْرِي يَهْلِكُ فِي لَهَبِهَا الْمُؤْمِنُ- وَ يَسْلَمُ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ- إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ- يَسْتَضِي‏ءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا- فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ- وَ عُوا وَ أَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا

الإمامية تقول- هذه العدة هم الأئمة الأحد عشر من ولده ع- و غيرهم يقول إنه عنى الأبدال- الذين هم أولياء الله في الأرض- و قد تقدم منا ذكر القطب و الأبدال- و أوضحنا ذلك إيضاحا جليا- . قوله ع أسماؤهم في السماء معروفة- أي تعرفها الملائكة المعصومون- أعلمهم الله تعالى بأسمائهم- . و في الأرض مجهولة أي عند الأكثرين- لاستيلاء الضلال على أكثر البشر- . ثم خرج إلى مخاطبة أصحابه- على عادته في ذكر الملاحم و الفتن- الكائنة في آخر زمان الدنيا- فقال لهم توقعوا ما يكون من إدبار أموركم- و انقطاع وصلكم جمع وصلة- . و استعمال صغاركم أي يتقدم الصغار على الكبار- و هو من علامات الساعة- .

قال ذاك حيث يكون احتمال ضربة السيف على المؤمن- أقل مشقة من احتمال المشقة في اكتساب درهم حلال- و ذلك لأن المكاسب تكون قد فسدت و اختلطت- و غلب الحرام الحلال فيها- . قوله ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطي- معناه أن أكثر من يعطي و يتصدق في ذلك الزمان- يكون ماله حراما فلا أجر له في التصدق به- ثم أكثرهم يقصد الرياء و السمعة بالصدقة- أو لهوى نفسه أو لخطرة من خطراته- و لا يفعل الحسن لأنه حسن و لا الواجب لوجوبه- فتكون اليد السفلى خيرا من اليد العليا- عكس ما ورد في الأثر- و أما المعطى فإنه يكون فقيرا ذا عيال- لا يلزمه أن يبحث عن المال أ حرام هو أم حلال- فإذا أخذه ليسد به خلته و يصرفه في قوت عياله- كان أعظم أجرا ممن أعطاه- .

و قد خطر لي فيه معنى آخر- و هو أن صاحب المال الحرام- إنما يصرفه في أكثر الأحوال و أغلبها- في الفساد و ارتكاب المحظور- كما قال من اكتسب مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر – فإذا أخذه الفقير منه على وجه الصدقة- فقد فوت عليه صرفه في تلك القبائح و المحضورات- التي كان بعرضته صرف ذلك القدر فيها- لو لم يأخذه الفقير- فإذا قد أحسن الفقير إليه بكفه عن ارتكاب القبيح- و من العصمة ألا يقدر فكان المعطى أعظم أجرا من المعطي- . قوله ع ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة- بفتح النون و هي غضارة العيش- و قد قيل في المثل سكر الهوى أشد من سكر الخمر- .

قال تحلفون من غير اضطرار- أي تتهاونون باليمين و بذكر الله عز و جل- . قال و تكذبون من غير إحراج- أي يصير الكذب لكم عادة و دربة- لا تفعلونه لأن آخر منكم قد أحرجكم- و اضطركم بالغيظ إلى الحلف- و روي من غير إحواج بالواو- أي من غير أن يحوجكم إليه أحد- – قال ذلك إذا عضكم البلاء- كما يعض القتب غارب البعير- هذا الكلام غير متصل بما قبله- و هذه عادة الرضي رحمه الله يلتقط الكلام التقاطا- و لا يتلو بعضه بعضا- و قد ذكرنا هذه الخطبة أو أكثرها- فيما تقدم من الأجزاء الأول- و قبل هذا الكلام ذكر ما يناله شيعته- من البؤس و القنوط و مشقة انتظار الفرج- . قوله ع ما أطول هذا العناء و أبعد هذا الرجاء- هذا حكاية كلام شيعته و أصحابه- .

ثم قال مخاطبا أصحابه الموجودين حوله- أيها الناس ألقوا هذه الأزمة- التي تحمل ظهورها الأثقال عن أيديكم- هذه كناية عن النهي عن ارتكاب القبيح- و ما يوجب الإثم و العقاب- و الظهور هاهنا هي الإبل أنفسها و الأثقال المآثم- و إلقاء الأزمة ترك اعتماد القبيح فهذا عمومه- و أما خصوصه فتعريض بما كان عليه أصحابه- من الغدر و مخامرة العدو عليه- و إضمار الغل و الغش له- و عصيانه و التلوي عليه- و قد فسره بما بعده فقال- و لا تصدعوا عن سلطانكم أي لا تفرقوا- فتذموا غب فعالكم أي عاقبته- .

ثم نهاهم عن اقتحام ما استقبلوه من فور نار الفتنة- و فور النار غليانها و احتدامها- و يروى ما استقبلكم- . ثم قال و أميطوا عن سننها- أي تنحوا عن طريقها- و خلوا قصد السبيل لها- أي دعوها تسلك طريقها- و لا تقفوا لها فيه فتكونوا حطبا لنارها- . ثم ذكر أنه قد يهلك المؤمن في لهبها- و يسلم فيه الكافر- كما قيل المؤمن ملقى و الكافر موقى- . ثم ذكر أن مثله فيهم كالسرج- يستضي‏ء بها من ولجها أي دخل في ضوئها- . و آذان قلوبكم كلمة مستعارة- جعل للقلب آذانا كما جعل الشاعر للقلوب أبصارا- فقال

يدق على النواظر ما أتاه
فتبصره بأبصار القلوب‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 232 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( التوحيد)

232 و من خطبة له ع في التوحيد

و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم- ما لا تجمعه خطبة غيرها- : مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَ لَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ- وَ لَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ- وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ- كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ كُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ- فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ- غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ- لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ- سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ- وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَوَّلُهُ هذا الفصل يشتمل على مباحث متعددة-

أولها قوله ما وحده من كيفه- و هذا حق لأنه إذا جعله مكيفا- جعله ذا هيئة و شكل- أو ذا لون و ضوء إلى غيرهما من أقسام الكيف- و متى كان كذلك كان جسما و لم يكن واحدا- لأن كل جسم قابل للانقسام- و الواحد حقا لا يقبل الانقسام- فقد ثبت أنه ما وحده من كيفه- .

و ثانيها قوله و لا حقيقته أصاب من مثله- و هذا حق لأنه تعالى لا مثل له- و قد دلت الأدلة الكلامية و الحكمية على ذلك- فمن أثبت له مثلا فإنه لم يصب‏ حقيقته تعالى- و السجعة الأخرى تعطي هذا المعنى أيضا- من غير زيادة عليه- و هي قوله ع و لا إياه عنى من شبهه- و لهذا قال شيوخنا إن المشبه لا يعرف الله- و لا تتوجه عباداته و صلواته إلى الله تعالى- لأنه يعبد شيئا يعتقده جسما- أو يعتقده مشابها لبعض هذه الذوات المحدثة- و العبادة تنصرف إلى المعبود بالقصد- فإذا قصد بها غير الله تعالى لم يكن قد عبد الله سبحانه و لا عرفه- و إنما يتخيل و يتوهم أنه قد عرفه و عبده- و ليس الأمر كما تخيل و توهم- .

و ثالثها قوله ع و لا صمده من أشار إليه- أي أثبته في جهة كما تقول الكرامية- الصمد في اللغة العربية السيد- و الصمد أيضا الذي لا جوف له- و صار التصميد في الاصطلاح العرفي عبارة عن التنزيه- و الذي قال ع حق لأن من أشار إليه- أي أثبته في جهة كما تقوله الكرامية فإنه ما صمده- لأنه ما نزهه عن الجهات- بل حكم عليه بما هو من خواص الأجسام- و كذلك من توهمه سبحانه- أي من تخيل له في نفسه صورة أو هيئة أو شكلا- فإنه لم ينزهه عما يجب تنزيهه عنه- .

و رابعها قوله كل معروف بنفسه مصنوع- هذا الكلام يجب أن يتأول- و يحمل على أن كل معروف بالمشاهدة و الحس فهو مصنوع- و ذلك لأن الباري سبحانه معروف من طريقين- إحداهما من أفعاله و الأخرى بنفسه- و هي طريقة الحكماء الذين بحثوا في الوجود من حيث هو وجود- فعلموا أنه لا بد من موجود واجب الوجود- فلم يستدلوا عليه بأفعاله بل أخرج لهم البحث في الوجود- أنه لا بد من ذات يستحيل عدمها من حيث هي هي- . فإن قلت كيف يحمل كلامه- على أن كل معروف بالمشاهدة و الحس فهو مصنوع- و هذا يدخل فيه كثير من الأعراض كالألوان- و إذا دخل ذلك فسدت عليه الفقرة الثانية-و هي قوله ع و كل قائم فيما سواه معلول- لأنها للأعراض خاصة- فيدخل أحد مدلول الفقرتين في الأخرى فيختل النظم- قلت يريد ع بالفقرة الأولى- كل معروف بنفسه من طريق المشاهدة مستقلا بذاته- غير مفتقر في تقومه إلى غيره فهو مصنوع- و هذا يختص بالأجسام خاصة- و لا يدخل الألوان و غيرها من الأعراض فيه- لأنها متقومة بمحالها- .

و خامسها قوله و كل قائم في سواه معلول- أي و كل شي‏ء يتقوم بغيره فهو معلول- و هذا حق لا محالة كالأعراض- لأنها لو كانت واجبة لاستغنت في تقومها عن سواها- لكنها مفتقرة إلى المحل الذي يتقوم به ذواتها- فإذا هي معلولة لأن كل مفتقر إلى الغير- فهو ممكن فلا بد له من مؤثر- .

و سادسها قوله فاعل لا باضطراب آلة- هذا لبيان الفرق بينه و بيننا- فإننا نفعل بالآلات- و هو سبحانه قادر لذاته فاستغنى عن الآلة- .

و سابعها قوله مقدر لا بجول فكرة- هذا أيضا للفرق بيننا و بينه- لأنا إذا قدرنا أجلنا أفكارنا و ترددت بنا الدواعي- و هو سبحانه يقدر الأشياء على خلاف ذلك- .

و ثامنها قوله غني لا باستفادة- هذا أيضا للفرق بيننا و بينه- لأن الغني منا من يستفيد الغنى بسبب خارجي- و هو سبحانه غني بذاته من غير استفادة أمر يصير به غنيا- و المراد بكونه غنيا أن كل شي‏ء من الأشياء يحتاج إليه- و أنه سبحانه لا يحتاج إلى شي‏ء من الأشياء أصلا- .

و تاسعها قوله لا تصحبه الأوقات- هذا بحث شريف جدا- و ذلك لأنه سبحانه ليس بزمان و لا قابل للحركة- فذاته فوق الزمان و الدهر- أما المتكلمون فإنهم يقولون-إنه تعالى كان و لا زمان و لا وقت- و أما الحكماء فيقولون- إن الزمان عرض قائم بعرض آخر- و ذلك العرض الآخر قائم بجسم- معلول لبعض المعلولات الصادرة عنه سبحانه- فالزمان عندهم و إن كان لم يزل- إلا أن العلة الأولى ليست واقعة تحته- و ذلك هو المراد بقوله- لا تصحبه الأوقات إن فسرناه على قولهم- و تفسيره على قول المتكلمين أولى- .

و عاشرها قوله و لا ترفده الأدوات- رفدت فلانا إذا أعنته و المراد الفرق بيننا و بينه لأننا مرفودون بالأدوات و لولاها لم يصح منا الفعل- و هو سبحانه بخلاف ذلك- . و حادي عشرها قوله سبق الأوقات كونه- إلى آخر الفصل هذا تصريح بحدوث العالم- . فإن قلت ما معنى قوله و العدم وجوده- و هل يسبق وجوده العدم- مع كون عدم العالم في الأزل لا أول له- قلت ليس يعني بالعدم هاهنا- عدم العالم بل عدم ذاته سبحانه- أي غلب وجود ذاته عدمها و سبقها- فوجب له وجود يستحيل تطرق العدم إليه- أزلا و أبدا بخلاف الممكنات- فإن عدمها سابق بالذات على وجودها و هذا دقيق: بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ- وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ- وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ- ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ- وَ الْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرْدِ-مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا- مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا- لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ وَ لَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ- وَ إِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا- وَ تُشِيرُ الآْلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا المشاعر الحواس قال بلعاء بن قيس-

و الرأس مرتفع فيه مشاعره
يهدي السبيل له سمع و عينان‏

 قال بجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له- و ذلك لأن الجسم لا يصح منه فعل الأجسام- و هذا هو الدليل الذي يعول عليه المتكلمون- في أنه تعالى ليس بجسم- . ثم قال و بمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له- و ذلك لأنه تعالى لما دلنا بالعقل على أن الأمور المتضادة- إنما تتضاد على موضوع تقوم به و تحله- كان قد دلنا على أنه تعالى لا ضد له- لأنه يستحيل أن يكون قائما بموضوع يحله- كما تقوم المتضادات بموضوعاتها- .

ثم قال و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له- و ذلك لأنه تعالى قرن بين العرض و الجوهر- بمعنى استحالة انفكاك أحدهما عن الآخر- و قرن بين كثير من الأعراض- نحو ما يقوله أصحابنا في حياتي القلب و الكبد- و نحو الإضافات التي يذكرها الحكماء- كالبنوة و الأبوة و الفوقية و التحتية- و نحو كثير من العلل و المعلولات و الأسباب و المسببات- فيما ركبه في العقول من وجوب هذه المقارنة- و استحالة انفكاك أحد الأمرين‏عن الآخر- علمنا أنه لا قرين له سبحانه- لأنه لو قارن شيئا على حسب هذه المقارنة- لاستحال انفكاكه عنه- فكان محتاجا في تحقق ذاته تعالى إليه- و كل محتاج ممكن فواجب الوجود ممكن- هذا محال- .

ثم شرع في تفصيل المتضادات فقال- ضاد النور بالظلمة و هما عرضان عند كثير من الناس- و فيهم من يجعل الظلمة عدمية- . قال و الوضوح بالبهمة يعني البياض و السواد- . قال و الجمود بالبلل يعني اليبوسة و الرطوبة- . قال و الحرور بالصرد يعني الحرارة و البرودة- و الحرور هاهنا مفتوح الحاء- يقال إني لأجد لهذا الطعام- حرورا و حرورة في فمي أي حرارة- و يجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف- أي و حرارة الحرور بالصرد- و الحرور هاهنا يكون الريح الحارة- و هي بالليل كالسموم بالنهار- و الصرد البرد- .

ثم قال و إنه تعالى مؤلف بين هذه المتباعدات- المتعاديات المتباينات و ليس المراد من تأليفه بينها- جمعه إياها في مكان واحد- كيف و ذلك مستحيل في نفسه- بل هو سبحانه مؤلف لها في الأجسام المركبة- حتى خلع منها صورة مفردة هي المزاج- ألا ترى أنه جمع الحار و البارد و الرطب و اليابس- فمزجه مزجا مخصوصا حتى انتزع منه طبيعة مفردة- ليست حارة مطلقة و لا باردة مطلقة- و لا رطبة مطلقة و لا يابسة مطلقة و هي المزاج- و هو محدود عند الحكماء- بأنه كيفية حاصلة من كيفيات متضادة- و هذا هو محصول كلامه ع بعينه- . و العجب من فصاحته في ضمن حكمته- كيف أعطى كل لفظة من هذه اللفظات- ما يناسبها و يليق بها- فأعطى المتباعدات لفظة مقرب- لأن البعد بإزاء القرب-و أعطى المتباينات لفظة مقارن- لأن البينونة بإزاء المقارنة- و أعطى المتعاديات لفظة مؤلف- لأن الائتلاف بإزاء التعادي- .

ثم عاد ع فعكس المعنى- فقال مفرق بين متدانياتها- فجعل الفساد بإزاء الكون و هذا من دقيق حكمته ع- و ذلك لأن كل كائن فاسد- فلما أوضح ما أوضح في الكون و التركيب و الإيجاد- أعقبه بذكر الفساد و العدم فقال- مفرق بين متدانياتها- و ذلك لأن كل جسم مركب من العناصر المختلفة الكيفيات- المتضادة الطبائع فإنه سيئول إلى الانحلال و التفرق- . ثم قال لا يشمل بحد- و ذلك لأن الحد الشامل ما كان مركبا من جنس و فصل- و الباري تعالى منزه عن ذلك- لأنه لو شمله الحد على هذا الوجه يكون مركبا- فلم يكن واجب الوجود و قد ثبت أنه واجب الوجود- و يجوز أن يعنى به أنه ليس بذي نهاية فتحويه الأقطار و تحده- .

ثم قال و لا يحسب بعد يحتمل أن يريد- لا تحسب أزليته بعد أي لا يقال له- منذ وجد كذا و كذا- كما يقال للأشياء المتقاربة العهد- و يحتمل أن يريد به أنه ليس مماثلا للأشياء- فيدخل تحت العدد- كما تعد الجواهر و كما تعد الأمور المحسوسة- . ثم قال و إنما تحد الأدوات أنفسها- و تشير الآلات إلى نظائرها- هذا يؤكد معنى التفسير الثاني- و ذلك لأن الأدوات كالجوارح- إنما تحد و تقدر ما كان مثلها من ذوات المقادير- و كذلك إنما تشير الآلات و هي الحواس- إلى ما كان نظيرا لها في الجسمية و لوازمها- و الباري تعالى ليس بذي مقدار و لا جسم- و لا حال في جسم- فاستحال أن تحده الأدوات و تشير إليه الآلات‏:

 مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وَ حَمَتْهَا قَدْ الْأَزَلِيَّةَ- وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ- وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ- وَ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَ السُّكُونُ- وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ- وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ يَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ- إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ- وَ لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ- وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ- وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ- وَ إِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ- وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ- وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ- مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ قد

اختلف الرواة في هذا الموضع من وجهين- أحدهما قول من نصب القدمة و الأزلية و التكملة- فيكون نصبها عنده على أنها مفعول ثان- و المفعول الأول الضمائر المتصلة بالأفعال- و تكون منذ و قد و لو لا- في موضع رفع بأنها فاعلة- و تقدير الكلام أن إطلاق لفظة منذ- على الآلات و الأدوات يمنعها عن كونها قديمة- لأن لفظة منذ وضعت لابتداء الزمان- كلفظة من لابتداء المكان- و القديم لا ابتداء له و كذلك إطلاق لفظة قد- على الآلات و الأدوات تحميها و تمنعها من كونها أزلية- لأن قد لتقريب الماضي من الحال- تقول قد قام زيد- فقد دل على أن قيامه قريب من الحال- التي أخبرت فيهابقيامه- و الأزلي لا يصح ذلك فيه- و كذلك إطلاق لفظة لو لا على الأدوات و الآلات- يجنبها التكملة و يمنعها من التمام المطلق- لأن لفظة لو لا وضعت لامتناع الشي‏ء لوجود غيره- كقولك لو لا زيد لقام عمرو- فامتناع قيام عمرو إنما هو لوجود زيد- و أنت تقول في الأدوات و الآلات و كل جسم- ما أحسنه لو لا أنه فان و ما أتمه لو لا كذا- فيكون المقصد و المنحى بهذا الكلام على هذه الرواية- بيان أن الأدوات و الآلات محدثة ناقصة- و المراد بالآلات و الأدوات أربابها- .

الوجه الثاني قول من رفع القدمة- و الأزلية و التكملة- فيكون كل واحد منها عنده فاعلا- و تكون الضمائر المتصلة بالأفعال مفعولا أولا- و منذ و قد و لو لا مفعولا ثانيا- و يكون المعنى أن قدم الباري و أزليته و كماله- منعت الأدوات و الآلات من إطلاق لفظة- منذ و قد و لو لا عليه سبحانه- لأنه تعالى قديم كامل- و لفظتا منذ و قد لا يطلقان إلا على محدث- لأن إحداهما لابتداء الزمان و الأخرى لتقريب الماضي من الحال- و لفظة لو لا لا تطلق إلا على ناقص- فيكون المقصد و المنحى بهذا الكلام على هذه الرواية- بيان قدم الباري تعالى و كماله- و أنه لا يصح أن يطلق عليه- ألفاظ تدل على الحدوث و النقص- .

قوله ع بها تجلى صانعها للعقول- و بها امتنع عن نظر العيون- أي بهذه الآلات و الأدوات التي هي حواسنا و مشاعرنا- و بخلقه إياها و تصويره لها تجلى للعقول و عرف- لأنه لو لم يخلقها لم يعرف- و بها امتنع عن نظر العيون- أي بها استنبطنا استحالة كونه مرئيا بالعيون- لأنا بالمشاعر و الحواس كملت عقولنا- و بعقولنا استخرجنا الدلالة على أنه لا تصح رؤيته- فإذن بخلقه الآلات و الأدوات لنا عرفناه عقلا- و بذلك‏أيضا عرفنا أنه يستحيل- أن يعرف بغير العقل- و أن قول من قال- إنا سنعرفه رؤية و مشافهة بالحاسة باطل- .

قوله ع لا تجري عليه الحركة و السكون- هذا دليل أخذه المتكلمون عنه ع- فنظموه في كتبهم و قرروه- و هو أن الحركة و السكون معان محدثة- فلو حلت فيه لم يخل منها- و ما لم يخل من المحدث فهو محدث- . فإن قلت إنه ع لم يخرج كلامه هذا المخرج- و إنما قال كيف يجري عليه ما هو أجراه- و هذا نمط آخر غير ما يقرره المتكلمون- قلت بل هو هو بعينه- لأنه إذا ثبت أنه هو الذي أجرى الحركة و السكون- أي أحدثهما لم يجز أن يجريا عليه- لأنهما لو جريا عليه لم يخل- إما أن يجريا عليه على التعاقب- و ليسا و لا واحد منهما بقديم- أو يجريا عليه على أن أحدهما قديم ثم تلاه الآخر- و الأول باطل بما يبطل به حوادث لا أول لها- و الثاني باطل بكلامه ع- و ذلك لأنه لو كان أحدهما قديما معه سبحانه- لما كان أجراه لكن قد قلنا أنه أجراه- أي أحدثه و هذا خلف محال- و أيضا فإذا كان أحدهما قديما معه- لم يجز أن يتلوه الآخر لأن القديم لا يزول بالمحدث- .

ثم قال ع إذا لتفاوتت ذاته و لتجزأ كنهه- و لامتنع من الأزل معناه- هذا تأكيد لبيان استحالة جريان الحركة و السكون عليه- تقول لو صح عليه ذلك لكان محدثا- و هو معنى قوله لامتنع من الأزل معناه- و أيضا كان ينبغي أن تكون ذاته منقسمة- لأن المتحرك الساكن لا بد أن يكون متحيزا- و كل متحيز جسم و كل جسم منقسم أبدا- و في هذا إشارة إلى نفي الجوهر الفرد- .

ثم قال ع و لكان له وراء إذا وجد له أمام- هذا يؤكد ما قلناه إنه إشارة إلى نفي الجوهر الفرد- يقول لو حلته الحركة لكان جرما و حجما- و لكان أحد وجهيه غير الوجه الآخر لا محالة- فكان منقسما- و هذا الكلام لا يستقيم إلا مع نفي الجوهر الفرد- لأن من أثبته يقول يصح أن تحله الحركة- و لا يكون أحد وجهيه غير الآخر- فلا يلزم أن يكون له وراء و أمام- . ثم قال ع و لا التمس التمام إذ لزمه النقصان- هذا إشارة إلى ما يقوله الحكماء- من أن الكون عدم و نقص- و الحركة وجود و كمال فلو كان سبحانه يتحرك و يسكن- لكان حال السكون ناقصا قد عدم عنه كماله- فكان ملتمسا كماله بالحركة الطارئة على السكون- و واجب الوجود يستحيل أن يكون له حالة نقصان- و أن يكون له حالة بالقوة و أخرى بالفعل- .

قوله ع إذا لقامت آية المصنوع فيه- و ذلك لأن آية المصنوع- كونه متغيرا منتقلا من حال إلى حال- لأنا بذلك استدللنا على حدوث الأجسام- فلو كان تعالى متغيرا متحركا منتقلا من حال إلى حال- لتحقق فيه دليل الحدوث فكان مصنوعا- و قد ثبت أنه الصانع المطلق سبحانه- . قوله ع و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه- يقول إنا وجدنا دليلنا على الباري سبحانه- أنما هو الأجسام المتحركة- فلو كان الباري متحركا لكان دليلا على غيره- و كان فوقه صانع آخر صنعه و أحدثه- لكنه سبحانه لا صانع له و لا ذات فوق ذاته- فهو المدلول عليه و المنتهى إليه- . قوله ع و خرج بسلطان الامتناع- من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره- في هذا الكلام يتوهم سامعه أنه عطف على قوله- لتفاوتت و لتجزأ و لامتنع-و لكان له و لالتمس و لقامت- و لتحول و ليس كذلك- لأنه لو كان معطوفا عليها لاختل الكلام و فسد- لأنها كلها مستحيلات عليه تعالى- و المراد لو تحرك لزم هذه المحالات كلها- .

و قوله و خرج بسلطان الامتناع- ليس من المستحيلات عليه بل هو واجب له- و من الأمور الصادقة عليه- فإذا فسد أن يكون معطوفا عليها- وجب أن يكون معطوفا على ما كان مدلولا عليه- و تقدير الكلام كان يلزم- أن يتحول الباري دليلا على غيره- بعد أن كان مدلولا عليه- و بعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه- ما أثر في غيره- و خروجه بسلطان الامتناع المراد به- وجوب الوجود و التجريد- و كونه ليس بمتحيز و لا حال في المتحيز- فهذا هو سلطان الامتناع الذي به خرج عن أن يؤثر فيه- ما أثر في غيره من الأجسام و الممكنات:

الَّذِي لَا يَحُولُ وَ لَا يَزُولُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ- لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً- جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ وَ طَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ- لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ- وَ لَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لَا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ- وَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ وَ لَا يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ- وَ لَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامُ وَ لَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَ الظَّلَامُ هذا الفصل كله واضح مستغن عن الشرح- إلا قوله ع لم يلدفيكون مولودا- لأن لقائل أن يقول- كيف يلزم من فرض كونه والدا أن يكون مولودا- في جوابه أنه ليس معنى الكلام- أنه يلزم من فرض وقوع أحدهما وقوع الآخر- و كيف و آدم والد و ليس بمولود- و إنما المراد أنه يلزم من فرض صحة كونه والدا- صحة كونه مولودا و التالي محال و المقدم محال- و إنما قلنا إنه يلزم من فرض صحة كونه والدا- صحة كونه مولودا لأنه لو صح أن يكون والدا- على التفسير المفهوم من الوالدية- و هو أن يتصور من بعض أجزائه- حي آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء- كما نعقله في النطفة المنفصلة من الإنسان- المستحيلة إلى صورة أخرى- حتى يكون منها بشر آخر من نوع الأول- لصح عليه أن يكون هو مولودا من والد آخر قبله- و ذلك لأن الأجسام متماثلة في الجسمية- و قد ثبت ذلك بدليل عقلي- واضح في مواضعه التي هي أملك به- و كل مثلين فإن أحدهما يصح عليه ما يصح على الآخر- فلو صح كونه والدا يصح كونه مولودا- .

و أما بيان أنه لا يصح كونه مولودا- فلأن كل مولود متأخر عن والده بالزمان- و كل متأخر عن غيره بالزمان محدث- فالمولود محدث و الباري تعالى قد ثبت أنه قديم- و أن الحدوث عليه محال- فاستحال أن يكون مولودا و تم الدليل: وَ لَا يُوصَفُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ- وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَعْضَاءِ وَ لَا بِعَرَضٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ- وَ لَا بِالْغَيْرِيَّةِ وَ الْأَبْعَاضِ- وَ لَا يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لَا نِهَايَةٌ وَ لَا انْقِطَاعٌ وَ لَا غَايَةٌ- وَ لَا أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ- أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ‏أَوْ يَعْدِلَهُ- لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ وَ لَا عَنْهَا بِخَارِجٍ- يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَ لَهَوَاتٍ- وَ يَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وَ أَدَوَاتٍ يَقُولُ وَ لَا يَلْفِظُ- وَ يَحْفَظُ وَ لَا يَتَحَفَّظُ وَ يُرِيدُ وَ لَا يُضْمِرُ- يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ- وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ- يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ- لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَ لَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ- وَ إِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ- لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً- وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً

في هذا الفصل مباحث

أولها– أن الباري سبحانه لا يوصف بشي‏ء من الأجزاء- أي ليس بمركب لأنه لو كان مركبا لافتقر إلى أجزائه- و أجزاؤه ليست نفس هويته- و كل ذات تفتقر هويتها إلى أمر من الأمور فهي ممكنة- لكنه واجب الوجود فاستحال أن يوصف بشي‏ء من الأجزاء- .

و ثانيها أنه لا يوصف بالجوارح و الأعضاء- كما يقول مثبتو الصورة- و ذلك لأنه لو كان كذلك لكان جسما- و كل جسم ممكن و واجب الوجود غير ممكن- .

و ثالثها أنه لا يوصف بعرض من الأعراض- كما يقوله الكرامية- لأنه لو حله العرض لكان ذلك العرض- ليس بأن يحل فيه أولى- من أن يحل هو في العرض- لأن معنى‏الحلول حصول العرض في حيز المحل- تبعا لحصول المحل فيه- فما ليس بمتحيز لا يتحقق فيه معنى الحلول- و ليس بأن يجعل محلا أولى من أن يجعل حالا- .

و رابعها أنه لا يوصف بالغيرية و الأبعاض- أي ليس له بعض و لا هو ذو أقسام- بعضها غيرا للبعض الآخر- و هذا يرجع إلى البحث الأول- .

و خامسها أنه لا حد له و لا نهاية- أي ليس ذا مقدار و لذلك المقدار طرف و نهاية- لأنه لو كان ذا مقدار لكان جسما- لأن المقدار من لوازم الجسمية- و قد ثبت أنه تعالى ليس بجسم- .

و سادسها أنه لا انقطاع لوجوده و لا غاية- لأنه لو جاز عليه العدم في المستقبل لكان وجوده الآن- متوقفا على عدم سبب عدمه- و كل متوقف على الغير فهو ممكن في ذاته- و الباري تعالى واجب الوجوب فاستحال عليه العدم- و أن يكون لوجوده انقطاع أو ينتهي إلى غاية يعدم عندها- .

و سابعها أن الأشياء لا تحويه فتقله- أي ترفعه أو تهويه أي تجعله هاويا إلى جهة تحت- لأنه لو كان كذلك- لكان ذا مقدار أصغر من مقدار الشي‏ء الحاوي له- لكن قد بينا أنه يستحيل عليه المقادير- فاستحال كونه محويا- .

و ثامنها أنه ليس يحمله شي‏ء فيميله إلى جانب- أو يعدله بالنسبة إلى جميع الجوانب- لأن كل محمول مقدر و كل مقدر جسم- و قد ثبت أنه ليس بجسم- .

و تاسعها أنه ليس في الأشياء بوالج أي داخل- و لا عنها بخارج هذا مذهب الموحدين- و الخلاف فيه مع الكرامية و المجسمة- و ينبغي أن يفهم قوله ع و لا عنها بخارج- أنه لا يريد سلب الولوج- فيكون قد خلا من النقيضين لأن ذلك محال- بل المراد بكونه ليس خارجا عنها- أنه ليس كما يعتقده كثير من الناس- أن الفلك الأعلى المحيط لا يحتوي عليه- و لكنه ذات موجودة متميزة بنفسها- قائمة بذاتها- خارجة عن الفلك في الجهة العليا- بينها و بين الفلك بعد إما غير متناه- على ما يحكى عن ابن الهيصم- أو متناه على ما يذهب إليه أصحابه- و ذلك أن هذه القضية و هي قولنا- الباري خارج عن الموجودات كلها- على هذا التفسير ليست مناقضة للقضية الأولى- و هي قولنا الباري داخل العالم- ليكون القول بخلوه عنهما قولا بخلوه عن النقيضين- أ لا ترى أنه يجوز أن تكون القضيتان كاذبتين معا- بألا يكون الفلك المحيط محتويا عليه- و لا يكون حاصلا في جهة خارج الفلك- و لو كانت القضيتان متناقضتين لما استقام ذلك- و هذا كما تقول زيد في الدار زيد في المسجد- فإن هاتين القضيتين ليستا متناقضتين- لجواز ألا يكون زيد في الدار و لا في المسجد- فإن هاتين لو تناقضتا لاستحال الخروج عن النقيضين- لكن المتناقض زيد في الدار زيد ليس في الدار- و الذي يستشنعه العوام من قولنا- الباري لا داخل العالم و لا خارج العالم- غلط مبني على اعتقادهم و تصورهم أن القضيتين تتناقضان- و إذا فهم ما ذكرناه بان أنه ليس هذا القول بشنيع- بل هو سهل و حق أيضا- فإنه تعالى لا متحيز و لا حال في المتحيز- و ما كان كذلك استحال أن يحصل في جهة- لا داخل العالم و لا خارج العالم- و قد ثبت كونه غير متحيز و لا حال في المتحيز- من حيث كان واجب الوجود- فإذن القول بأنه ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج- صواب و حق- .

و عاشرها أنه تعالى يخبر بلا لسان و لهوات- و ذلك لأن كونه تعالى مخبرا هو كونه فاعلا للخبر- كما أن كونه ضاربا هو كونه فاعلا للضرب- فكما لا يحتاج في كونه ضاربا- إلى أداة و جارحة يضرب بها- كذلك لا يحتاج في كونه مخبرا- إلى لسان و لهوات يخبر بها- .

و حادي عشرها أنه تعالى يسمع بلا حروف و أدوات- و ذلك لأن الباري سبحانه حي لا آفة به- و كل حي لا آفة به- فواجب أن يسمع المسموعات و يبصر المبصرات-و لا حاجة به سبحانه إلى حروف و أدوات- كما نحتاج نحن إلى ذلك لأنا أحياء بحياة تحلنا- و الباري تعالى حي لذاته- فلما افترقنا فيما به كان سامعا و مبصرا- افترقنا في الحاجة إلى الأدوات و الجوارح- .

و ثاني عشرها أنه يقول و لا يتلفظ- هذا بحث لفظي و ذلك لأنه قد ورد السمع بتسميته قائلا- و قد تكرر في الكتاب العزيز ذكر هذه اللفظة- نحو قوله إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى‏ وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ- و لم يرد في السمع إطلاق كونه متلفظا عليه- و في إطلاقه إيهام كونه ذا جارحة- فوجب الاقتصار على ما ورد و ترك ما لم يرد- .

و ثالث عشرها أنه تعالى يحفظ و لا يتحفظ- أما كونه يحفظ فيطلق على وجهين- أحدهما أنه يحفظ بمعنى أنه يحصي أعمال عباده و يعلمها- و الثاني كونه يحفظهم و يحرسهم من الآفات و الدواهي- و أما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين- أحدهما أنه لا يجوز أن يطلق عليه أنه يتحفظ الكلام- أي يتكلف كونه حافظا له و محيطا و عالما به- كالواحد منا يتحفظ الدرس ليحفظه- فهو سبحانه حافظ غير متحفظ- و الثاني أنه ليس بمتحرز و لا مشفق على نفسه- خوفا أن تبدر إليه بادرة من غيره- .

و رابع عشرها أنه يريد و لا يضمر- أما كونه مريدا فقد ثبت بالسمع- نحو قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ- و بالعقل لاختصاص أفعاله بأوقات مخصوصة- و كيفيات مخصوصة جاز أن تقع على خلافها- فلا بد من مخصص لها بما اختصت به- و ذلك كونه مريدا- و أما كونه لا يضمر فهو إطلاق لفظي- لم يأذن فيه الشرع- و فيه إيهام كونه ذا قلب- لأن الضمير في العرف اللغوي ما استكن في القلب- و الباري ليس بجسم- .

و خامس عشرها أنه يحب و يرضى من غير رقة- و يبغض و يغضب من غير مشقة- و ذلك لأن محبته للعبد إرادته أن يثيبه- و رضاه عنه أن يحمد فعله- و هذا يصح و يطلق على الباري لا كإطلاقه علينا- لأن هذه الأوصاف يقتضي إطلاقها علينا رقة القلب- و الباري ليس بجسم- و أما بغضه للعبد فإرادة عقابه و غضبه- كراهية فعله و وعيده بإنزال العقاب به- و في الأغلب إنما يطلق ذلك علينا- و يصح منا مع مشقة تنالنا من إزعاج القلب و غليان دمه- و الباري ليس بجسم- .

و سادس عشرها أنه يقول لما أراد كونه- كن فيكون من غير صوت يقرع و نداء يسمع- هذا مذهب شيخنا أبي الهذيل- و إليه يذهب الكرامية و أتباعها من الحنابلة و غيرهم- و الظاهر أن أمير المؤمنين ع أطلقه- حملا على ظاهر لفظ القرآن- في مخاطبة الناس بما قد سمعوه و أنسوا به- و تكرر على أسماعهم و أذهانهم- فأما باطن الآية و تأويلها الحقيقي- فغير ما يسبق إلى أذهان العوام فليطلب من موضعه- .

و سابع عشرها أن كلامه سبحانه فعل منه أنشأه- و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا- و لو كان قديما لكان إلها ثانيا- هذا هو دليل المعتزلة- على نفي المعاني القديمة التي منها القرآن- و ذلك لأن القدم عندهم أخص صفات الباري تعالى- أو موجب عن الأخص- فلو أن في الوجود معنى قديما قائما بذات الباري- لكان ذلك المعنى مشاركا للباري في أخص صفاته- و كان يجب لذلك المعنى جميع ما وجب للباري من الصفات- نحو العالمية و القادرية و غيرهما فكان إلها ثانيا- . فإن قلت ما معنى قوله ع و مثله- قلت يقال مثلت له كذا تمثيلا- إذا صورت له مثاله بالكتابة أو بغيرها- فالباري مثل القرآن لجبريل ع بالكتابة- في اللوح المحفوظ فأنزله على محمد ص- .

و أيضا يقال مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائما- و مثلته بين يدي زيد أي أحضرته منتصبا- فلما كان الله تعالى فعل القرآن واضحا بينا- كان قد مثله للمكلفين: لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ- فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ- وَ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ- وَ لَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَ الْمَصْنُوعُ- وَ يَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَ الْبَدِيعُ- خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ- وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ- وَ أَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ- وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ وَ أَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ- وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ- وَ حَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَ الِاعْوِجَاجِ- وَ مَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَ الِانْفِرَاجِ- أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا- وَ اسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِيَتَهَا- فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ عاد
ع إلى تنزيه الباري تعالى عن الحدوث- فقال لا يجوز أن يوصف به- فتجري عليه الصفات المحدثات كما تجري على كل محدث- و روي: فتجري عليه صفات المحدثات و هو أليق- ليعود إلى المحدثات ذوات الصفات ما بعده- و هو قوله ع و لا يكون بينه و بينها فصل- لأنه لا يحسن أن يعود الضمير في قوله و بينها- إلى الصفات بل إلى ذوات الصفات- .

قال لو كان محدثا لجرت عليه صفات الأجسام المحدثة- فلم يكن بينه و بين الأجسام المحدثة فرق- فكان يستوي الصانع و المصنوع و هذا محال- . ثم ذكر أنه خلق الخلق غير محتذ لمثال- و لا مستفيد من غيره كيفية الصنعة بخلاف الواحد منا- فإن الواحد منا لا بد أن يحتذي في الصنعة- كالبناء و النجار و الصانع و غيرها- . قال ع و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه- لأنه تعالى قادر لذاته لا يعجزه شي‏ء- .

ثم ذكر إنشاءه تعالى الأرض- و أنه أمسكها من غير اشتغال منه بإمساكها- و غير ذلك من أفعاله و مخلوقاته- ليس كالواحد منا يمسك الثقيل- فيشتغل بإمساكه عن كثير من أموره- . قال و أرساها- جعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه- بل واقفة بإرادته التي اقتضت وقوفها- و لأن الفلك يجذبها من جميع جهاتها كما قيل- أو لأنه يدفعها من جميع جهاتها- أو لأن أحد نصفيها صاعد بالطبع و الآخر هابط بالطبع- فاقتضى التعادل وقوفها أو لأنها طالبة للمركز فوقفت- . و الأود الاعوجاج و كرر لاختلاف اللفظ- . و التهافت التساقط و الأسداد جمع سد- و هو الجبل و يجوز ضم السين- . و استفاض عيونها بمعنى أفاض أي جعلها فائضة- .و خد أوديتها أي شقها- فلم يهن ما بناه أي لم يضعف‏:

 هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ- وَ هُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ- وَ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ- لَا يُعْجِزُهُ شَيْ‏ءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ- وَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ- وَ لَا يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ- وَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ- خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ- لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ- فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ- وَ لَا كُفْ‏ءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ- وَ لَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ- هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا- حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا- وَ لَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا- بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا- وَ كَيْفَ وَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا- وَ مَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا- وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا- وَ مُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَ أَكْيَاسِهَا- عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا- وَ لَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا- وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ- وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ- وَ رَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً- عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا- مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا الظاهر الغالب القاهر و الباطن العالم الخبير- .

و المراح بضم الميم النعم ترد إلى المراح بالضم أيضا- و هو الموضع الذي تأوي إليه النعم- و ليس المراح ضد السائم على ما يظنه بعضهم- و يقول إن عطف أحدهما على الآخر- عطف‏على المختلف و المتضاد- بل أحدهما هو الآخر و ضدهما المعلوفة- و إنما عطف أحدهما على الآخر- على طريقة العرب في الخطابة- و مثله في القرآن كثير نحو قوله سبحانه- لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ- .

و أسناخها جمع سنخ بالكسر و هو الأصل -و قوله لو اجتمع جميع الحيوان على إحداث بعوضة- هو معنى قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ- . فإن قلت ما معنى قوله- لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره- فتمتنع من نفعه و ضره- و هلا قال من ضره- و لم يذكر النفع فإنه لا معنى لذكره هاهنا- قلت هذا كما يقول المعتصم بمعقل حصين عن غيره- ما يقدر اليوم فلان لي على نفع و لا ضر- و ليس غرضه إلا ذكر الضرر- و إنما يأتي بذكر النفع على سبيل سلب القدرة عن فلان- على كل ما يتعلق بذلك المعتصم- و أيضا فإن العفو عن المجرم نفع له- فهو ع يقول إنه ليس شي‏ء من الأشياء- يستطيع أن يخرج إذا أجرم من سلطان الله تعالى إلى غيره- فيمتنع من بأس الله تعالى- و يستغني عن أن يعفو عنه لعدم اقتداره عليه:

وَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْ‏ءَ مَعَهُ- كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا- بِلَا وَقْتٍ وَ لَا مَكَانٍ وَ لَا حِينٍ وَ لَا زَمَانٍ- عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الآْجَالُ وَ الْأَوْقَاتُ- وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ- فَلَا شَيْ‏ءَإِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ- الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ- بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا- وَ بِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا- وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا- لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ- وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ وَ خَلَقَهُ- وَ لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ- وَ لَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ- وَ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ- وَ لَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ- وَ لَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ- وَ لَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ- وَ لَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ- فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا- ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا- لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا- وَ لَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ- وَ لَا لِثِقَلِ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ- لَا يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ- وَ أَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ- ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا- وَ لَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا- وَ لَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ- وَ لَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَ عَمًى إِلَى عِلْمٍ وَ الْتِمَاسٍ- وَ لَا مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَةٍ إِلَى غِنًى وَ كَثْرَةٍ- وَ لَا مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَ قُدْرَةٍ شرع أولا في ذكر إعدام الله سبحانه الجواهر- و ما يتبعها و يقوم بها من الأعراض قبل القيامة- و ذلك لأن الكتاب العزيز قد ورد به- نحو قوله تعالى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ- و معلوم أنه بدأه عن عدم- فوجب أن تكون الإعادة عن عدم أيضا- و قال تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ- و إنما كان أولا لأنه كان موجودا- و لاشي‏ء من‏الأشياء بموجود- فوجب أن يكون آخرا كذلك- هذا هو مذهب جمهور أصحابنا و جمهور المسلمين- .

ثم ذكر أنه يكون وحده سبحانه بلا وقت و لا مكان- و لا حين و لا زمان- و ذلك لأن المكان أما الجسم- الذي يتمكن عليه جسم آخر أو الجهة- و كلاهما لا وجود له بتقدير عدم الأفلاك- و ما في حشوها من الأجسام أما الأول فظاهر- و أما الثاني فلأن الجهة- لا تتحقق إلا بتقدير وجود الفلك- لأنها أمر إضافي بالنسبة إليه- فبتقدير عدمه لا يبقى للجهة تحقق أصلا- و هذا هو القول في عدم المكان حينئذ- و أما الزمان و الوقت و الحين- فكل هذه الألفاظ تعطي معنى واحدا- و لا وجود لذلك المعنى بتقدير عدم الفلك- لأن الزمان هو مقدار حركة الفلك- فإذا قدرنا عدم الفلك فلا حركة و لا زمان- .

ثم أوضح ع ذلك و أكده فقال- عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات- و زالت السنون و الساعات- لأن الأجل هو الوقت الذي- يحل فيه الدين أو تبطل فيه الحياة- و إذا ثبت أنه لا وقت ثبت أنه لا أجل- و كذلك لا سنة و لا ساعة لأنها أوقات مخصوصة- . ثم عاد ع إلى ذكر الدنيا فقال- بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها- و بغير امتناع منها كان فناؤها- يعني أنها مسخرة تحت الأمر الإلهي- .

قال و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها- لأنها كانت تكون ممانعة للقديم سبحانه في مراده- و إنما تمانعه في مراده لو كانت قادرة لذاتها- و لو كانت قادرة لذاتها و أرادت البقاء لبقيت- . قوله ع لم يتكاءده بالمد أي لم يشق عليه- و يجوز لم يتكأده بالتشديد و الهمزة- و أصله من العقبة الكئود و هي الشاقة- .

قال و لم يؤده أي لم يثقله- . ثم ذكر أنه تعالى لم يخلق الدنيا ليشد بها سلطانه- و لا لخوفه من زوال أو نقص يلحقه- و لا ليستعين بها على ند مماثل له- أو يحترز بها عن ضد محارب له- أو ليزداد بها ملكه ملكا- أو ليكاثر بها شريكا في شركته له- أو لأنه كان قبل خلقها مستوحشا- فأراد أن يستأنس بمن خلق- . ثم ذكر أنه تعالى سيفنيها بعد إيجادها- لا لضجر لحقه في تدبيرها و لا لراحة تصله في إعدامها- و لا لثقل شي‏ء منها عليه حال وجودها- و لا لملل أصابه فبعثه على إعدامها- .

ثم عاد ع فقال- إنه سبحانه سيعيدها إلى الوجود بعد الفناء- لا لحاجة إليها و لا ليستعين ببعضها على بعض- و لا لأنه استوحش حال عدمها فأحب أن يستأنس بإعادتها- و لا لأنه فقد علما عند إعدامها- فأراد بإعادتها استجداد ذلك العلم- و لا لأنه صار فقيرا عند إعدامها- فأحب أن يتكثر و يثري بإعادتها- و لا لذل أصابه بإفنائها فأراد العز بإعادتها- . فإن قلت إذا كان يفنيها لا لكذا و لا لكذا- و كان من قبل أوجدها لا لكذا و لا لكذا- ثم قلتم إنه يعيدها لا لكذا و لا لكذا- فلأي حال أوجدها أولا و لأي حال أفناها ثانيا- و لأي حال أعادها ثالثا خبرونا عن ذلك- فإنكم قد حكيتم عنه عليه السلام الحكم و لم تحكوا عنه العلة- قلت إنما أوجدها أولا للإحسان إلى البشر ليعرفوه- فإنه لو لم يوجدهم لبقي مجهولا لا يعرف- ثم كلف البشر ليعرضهم للمنزلة الجليلة- التي لا يمكن وصولهم إليها إلا بالتكليف و هي الثواب- ثم يفنيهم لأنه لا بد من انقطاع التكليف- ليخلص الثواب من مشاق التكاليف- و إذا كان لا بد من انقطاعه- فلا فرق بين انقطاعه بالعدم المطلق-أو بتفريق الأجزاء- و انقطاعه بالعدم المطلق قد ورد به الشرع- و فيه لطف زائد للمكلفين- لأنه أردع و أهيب في صدورهم من بقاء أجزائهم- و استمرار وجودها غير معدومة- .

ثم إنه سبحانه يبعثهم و يعيدهم- ليوصل إلى كل إنسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب- و لا يمكن إيصال هذا المستحق إلا بالإعادة- و إنما لم يذكر أمير المؤمنين ع هذه التعليلات- لأنه قد أشار إليها فيما تقدم من كلامه- و هي موجودة في فرش خطبه- و لأن مقام الموعظة غير مقام التعليل- و أمير المؤمنين ع في هذه الخطبة يسلك مسلك الموعظة- في ضمن تمجيد الباري سبحانه و تعظيمه- و ليس ذلك بمظنة التعليل و الحجاج

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 231 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

231 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ- وَ لَا تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ- وَ لَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ- وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ- الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ- وَ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ- وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ- الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ- وَ ارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ- وَ قَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ- وَ عَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ- مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ- وَ بِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ- وَ بِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ- وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ وَ دَائِمٌ لَا بِأَمَدٍ وَ قَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ- تَتَلَقَّاهُ الْأَذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَةٍ- وَ تَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي لَا بِمُحَاضَرَةٍ- لَمْ تُحِطْ بِهِ الْأَوْهَامُ بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا- وَ بِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا وَ إِلَيْهَا حَاكَمَهَا- لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً- وَ لَا بِذِي عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً- بَلْ كَبُرَ شَأْناً وَ عَظُمَ سُلْطَاناً- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الصَّفِيُّ- وَ أَمِينُهُ الرَّضِيُّ ص- أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ وَ ظُهُورِ الْفَلَجِ وَ إِيضَاحِ الْمَنْهَجِ- فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا- وَ حَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دَالًّا عَلَيْهَا- وَ أَقَامَ أَعْلَامَ الِاهْتِدَاءِ وَ مَنَارَ الضِّيَاءِ- وَ جَعَلَ أَمْرَاسَ الْإِسْلَامِ مَتِينَةً- وَ عُرَا الْإِيمَانِ وَثِيقَةً

الشواهد هاهنا يريد بها الحواس- و سماها شواهد إما لحضورها- شهد فلان كذا أي حضره- أو لأنها تشهد على ما تدركه و تثبته عند العقل- كما يشهد الشاهد بالشي‏ء و يثبته عند الحاكم- . و المشاهد هاهنا المجالس و النوادي- يقال حضرت مشهد بني فلان أي ناديهم و مجتمعهم- . ثم فسر اللفظة الأولى و أبان عن مراده بها بقوله- و لا تراه النواظر- و فسر اللفظة الثانية و أبان عن مرادها- فقال و لا تحجبه السواتر- .

ثم قال الدال على قدمه بحدوث خلقه- و بحدوث خلقه على وجوده- هذا مشكل لأن لقائل أن يقول- إذا دل على قدمه بحدوث خلقه- فقد دخل في جملة المدلول كونه موجودا- لأن القديم هو الموجود و لم يزل- فأي حاجه إلى أن يعود فيقول- و بحدوث خلقه على وجوده- . و لمجيب أن يجيب على طريقة شيوخنا أصحاب أبي هاشم- فيقول لا يلزم من الاستدلال بحدوث الأجسام- على أنه لا بد من محدث قديم كونه موجودا- لأن عندهم أن الذات المعدومة قد تتصف بصفات ذاتية- و هي معدومة- فلا يلزم من كون صانع العالم عندهم عالما قادرا حيا- أن يكون موجودا بل لا بد من دلالة زائدة- على أن له صفة الوجود و هي و الدلالة التي يذكرونها- من أن كونه قادرا عالما- تقتضي تعلقه بالمقدور و المعلوم و كل ذات متعلقة- فإن عدمها يخرجها عن التعلق كالإرادة- فلو كان تعالى معدوما لم يجز أن يكون متعلقا- فحدوث الأجسام إذا قد دل على أمرين من وجهين مختلفين- أحدهما أنه لا بد من صانع له و هذا هو المعني بقدمه- .

و الثاني أن هذا الصانع له صفة- لأجلها يصح على ذاته أن تكون قادرة عالمة- و هذا هو المعني بوجوده- . فإن قلت أ يقول أصحاب شيخكم أبي هاشم- إن الذات المعدومة التي لا أول لها تسمى قديمة- قلت لا و البحث في هذا بحث في اللفظ لا في المعنى- . و المراد بقوله ع الدال بحدوث الأشياء على قدمه- أي على كونه ذاتا لم يجعلها جاعل- و ليس المراد بالقدم هاهنا الوجود لم يزل- بل مجرد الذاتية لم يزل- . ثم يستدل بعد ذلك بحدوث الأشياء- على أن له صفة أخرى لم تزل زائدة على مجرد الذاتية- و تلك الصفة هي وجوده- فقد اتضح المراد الآن- .

فإن قلت فهل لهذا الكلام مساغ على مذهب البغداديين- قلت نعم إذا حمل على منهج التأويل- بأن يريد بقوله و بحدوث خلقه على وجوده- أي على صحة إيجاده له فيما بعد- أي إعادته بعد العدم يوم القيامة- لأنه إذا صح منه تعالى إحداثه ابتداء- صح منه إيجاده ثانيا على وجه الإعادة- لأن الماهية قابلة للوجود و العدم- و القادر قادر لذاته- فأما من روى بحدوث خلقه على وجوده- فإنه قد سقطت عنه هذه الكلف كلها- و المعنى على هذا ظاهر- لأنه تعالى دل المكلفين بحدوث خلقه على أنه جواد منعم- و مذهب أكثر المتكلمين- أنه خلق العالم جودا و إنعاما و إحسانا إليهم- . قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له- هذا دليل صحيح- و ذلك لأنه إذا ثبت أن جسما ما محدث- ثبت أن سائر الأجسام محدثة لأن الأجسام متماثلة- و كل ما صح على الشي‏ء صح على مثله- و كذلك إذا ثبت أن سوادا ما أو بياضا ما محدث- ثبت أن سائر السوادات و البياضات محدثة- لأن حكم الشي‏ء حكم مثله- و السواد في معنى‏كونه سوادا غير مختلف- و كذلك البياض- فصارت الدلالة هكذا- الذوات التي عندنا يشبه بعضها بعضا و هي محدثة- فلو كان الباري سبحانه يشبه شيئا منها لكان مثلها- و لكان محدثا لأن حكم الشي‏ء حكم مثله- لكنه تعالى ليس بمحدث- فليس بمشابه لشي‏ء منها- فقد صح إذا قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له- .

قوله ع الذي صدق في ميعاده- لا يجوز ألا يصدق لأن الكذب قبيح عقلا- و الباري تعالى يستحيل منه- من جهة الداعي و الصارف أن يفعل القبيح- . قوله ع و ارتفع عن ظلم عباده- هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة و عن أمير المؤمنين ع أخذوه- و هو أستاذهم و شيخهم في العدل و التوحيد- فأما الأشعرية- فإنها و إن كانت تمتنع عن إطلاق القول- بأن الله تعالى يظلم العباد- إلا أنها تعطي المعنى في الحقيقة- لأن الله عندهم يكلف العباد ما لا يطيقونه- بل هو سبحانه عندهم لا يكلفهم إلا ما لا يطيقونه- بل هو سبحانه عندهم لا يقدر على أن يكلفهم ما يطيقونه- و ذلك لأن القدرة عندهم مع الفعل- فالقاعد غير قادر على القيام- و إنما يكون قادرا على القيام عند حصول القيام- و يستحيل عندهم أن يوصف الباري تعالى- بإقدار العبد القاعد على القيام- و هو مع ذلك مكلف له أن يقوم- و هذا غاية ما يكون من الظلم- سواء أطلقوا هذه اللفظة عليه أو لم يطلقوها- .

ثم أعاد الكلام الأول في التوحيد تأكيدا- فقال حدوث الأشياء دليل على قدمه- و كونها عاجزة عن كثير من الأفعال دليل على قدرته- و كونها فانية دليل على بقائه- . فإن قلت- أما الاستدلال بحدوث الأشياء على قدمه فمعلوم- فكيف يكون الاستدلال على الأمرين الأخيرين-قلت إذا شاركه سبحانه- بعض الموجودات في كونه موجودا- و افترقا في أن أحدهما لا يصح منه فعل الجسم- و لا الكون و لا الحياة و لا الوجود المحدث- و يصح ذلك من الموجودات القديمة- دل على افتراقهما في أمر لأجله صح من القديم ذلك- و تعذر ذلك على المحدث- و ذلك الأمر هو الذي يسمى من كان عليه قادرا- و ينبغي أن تحمل لفظة العجز هاهنا على المفهوم اللغوي- و هو تعذر الإيجاد- لا على المفهوم الكلامي- .

و أما الاستدلال الثاني- فينبغي أن يحمل الفناء هاهنا على المفهوم اللغوي- و هو تغير الصفات و زوالها- لا على المفهوم الكلامي فيصير تقدير الكلام- لما كانت الأشياء التي بيننا تتغير و تتحول- و تنتقل من حال إلى حال- و علمنا أن العلة المصححة لذلك كونها محدثة- علمنا أنه سبحانه لا يصح عليه التنقل و التغير- لأنه ليس بمحدث- ثم قال واحد لا بعدد- لأن وحدته ذاتية و ليست صفة زائدة عليه- و هذا من الأبحاث الدقيقة في علم الحكمة- و ليس هذا الكتاب موضوعا لبسط القول في أمثاله- .

ثم قال دائم لا بأمد لأنه تعالى ليس بزماني- و داخل تحت الحركة و الزمان- و هذا أيضا من دقائق العلم الإلهي- و العرب دون أن تفهم هذا أو تنطق به- و لكن هذا الرجل كان ممنوحا من الله تعالى- بالفيض المقدس و الأنوار الربانية- . ثم قال قائم لا بعمد- لأنه لما كان في الشاهد كل قائم فله عماد يعتمد عليه- أبان ع تنزيهه تعالى عن المكان- و عما يتوهمه الجهلاء من أنه مستقر على عرشه بهذه اللفظة- و معنى القائم هاهنا ليس ما يسبق إلى الذهن- من أنه المنتصب بل ما تفهمه من قولك- فلان قائم بتدبير البلد و قائم بالقسط- . ثم قال تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة- أي تتلقاه تلقيا عقليا- ليس كما يتلقى الجسم الجسم- بمشاعره و حواسه و جوارحه- و ذلك لأن تعقل الأشياء- و هو حصول صورهافي العقل بريئة من المادة- و المراد بتلقيه سبحانه هاهنا تلقي صفاته- لا تلقي ذاته تعالى لأن ذاته تعالى لا تتصورها العقول- و سيأتي إيضاح أن هذا مذهبه ع- .

ثم قال و تشهد له المرائي لا بمحاضرة- المرائي جمع مرئي و هو الشي‏ء المدرك بالبصر- يقول المرئيات تشهد بوجود الباري- لأنه لو لا وجوده لما وجدت- و لو لم توجد لم تكن مرئيات- و هي شاهدة بوجوده لا كشهادتها بوجود الأبصار- لأنها شهدت بوجود الأبصار لحضورها فيها- و أما شهادتها بوجود الباري- فليست بهذه الطريق بل بما ذكرناه- و الأولى أن يكون المرائي هاهنا جمع مرآة بفتح الميم- من قولهم هو حسن في مرآة عيني- يقول إن جنس الرؤية يشهد بوجود الباري- من غير محاضرة منه للحواس- . قوله ع لم تحط به الأوهام- إلى قوله ع و إليها حاكمها- هذا الكلام دقيق و لطيف- و الأوهام هاهنا هي العقول- يقول إنه سبحانه لم تحط به العقول- أي لم تتصور كنه ذاته- و لكنه تجلى للعقول بالعقول- و تجليه هاهنا هو كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول- من صفاته الإضافية و السلبية لا غير- و كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول- من أسرار مخلوقاته- فأما غير ذلك فلا- و ذلك لأن البحث النظري قد دل- على أنا لم نعلم منه سبحانه إلا الإضافة و السلب- أما الإضافة فكقولنا عالم قادر- و أما السلب فكقولنا ليس بجسم- و لا عرض و لا يرى- فأما حقيقة الذات المقدسة المخصوصة من حيث هي هي- فإن العقل لا يتصورها- و هذا مذهب الحكماء و بعض المتكلمين- من أصحابنا و من غيرهم- .

ثم قال و بالعقول امتنع من العقول- أي و بالعقول و بالنظر- علمنا أنه تعالى يمتنع أن تدركه العقول- . ثم قال و إلى العقول حكم العقول- أي جعل العقول المدعية أنها أحاطت‏به- و أدركته كالخصم له سبحانه- ثم حاكمها إلى العقول السليمة الصحيحة النظر- فحكمت له سبحانه- على العقول المدعية لما ليست أهلا له- . و اعلم أن القول بالحيرة في جلال ذات الباري- و الوقوف عند حد محدود لا يتجاوزه العقل- قول ما زال فضلاء العقلاء قائلين به

من أشعار الشارح في المناجاة

و من شعري الذي أسلك فيه مسلك المناجاة عند خلواتي- و انقطاعي بالقلب إليه سبحانه قولي-

و الله لا موسى و لا عيسى
المسيح و لا محمد

علموا و لا جبريل و هو
إلى محل القدس يصعد

كلا و لا النفس البسيطة
لا و لا العقل المجرد

من كنه ذاتك غير أنك‏
واحدي الذات سرمد

وجدوا إضافات و سلبا
و الحقيقة ليس توجد

و رأوا وجودا واجبا
يفنى الزمان و ليس ينفد

فلتخسأ الحكماء عن
جرم له الأفلاك تسجد

من أنت يا رسطو و من‏
أفلاط قبلك يا مبلد

و من ابن سينا حين قرر
ما بنيت له و شيد

هل أنتم إلا الفراش‏
رأى الشهاب و قد توقد

فدنا فأحرق نفسه
و لو اهتدى رشدا لأبعد

و مما قلته أيضا في قصور العقل- عن معرفته سبحانه و تعالى-

فيك يا أعجوبة الكون
غدا الفكر كليلا

أنت حيرت ذوي اللب‏
و بلبلت العقولا

كلما أقدم فكري
فيك شبرا فر ميلا

ناكصا يخبط في عمياء
لا يهدى السبيلا

و لي في هذا المعنى-

فيك يا أغلوطة الفكر
تاه عقلي و انقضى عمري‏

سافرت فيك العقول فما
ربحت إلا أذى السفر

رجعت حسرى و ما وقفت
لا على عين و لا أثر

فلحى الله الألى زعموا
أنك المعلوم بالنظر

كذبوا إن الذي طلبوا
خارج عن قوة البشر

 و قلت أيضا في المعنى-

أفنيت خمسين عاما معملا نظري
فيه فلم أدر ما آتي و ما أذر

من كان فوق عقول القائسين فما
ذا يدرك الفكر أو ما يبلغ النظر

 و لي أيضا-

حبيبي أنت لا زيد و عمرو
و إن حيرتني و فتنت ديني‏

طلبتك جاهدا خمسين عاما
فلم أحصل على برد اليقين‏

فهل بعد الممات بك اتصال
فأعلم غامض السر المصون‏

نوى قذف و كم قد مات قبلي‏
بحسرته عليك من القرون‏

 و من شعري أيضا في المعنى- و كنت أنادي به ليلا- في مواضع مقفرة خالية من الناس بصوت رفيع- و أجدح قلبي أيام كنت مالكا أمري- مطلقا من قيود الأهل و الولد و علائق الدنيا-

يا مدهش الألباب و الفطن
و محير التقوالة اللسن‏

أفنيت فيك العمر أنفقه‏
و المال مجانا بلا ثمن‏

أتتبع العلماء أسألهم
و أجول في الآفاق و المدن‏

و أخالط الملل التي اختلفت‏
في الدين حتى عابد الوثن‏

و ظننت أني بالغ غرضي
لما اجتهدت و مبرئ شجني‏

و مطهر من كل رجس هوى‏
قلبي بذاك و غاسل درني‏

فإذا الذي استكثرت منه هو
الجاني علي عظائم المحن‏

فضللت في تيه بلا علم‏
و غرقت في يم بلا سفن‏

و رجعت صفر الكف مكتئبا
حيران ذا هم و ذا حزن‏

أبكي و أنكت في الثرى بيدي‏
طورا و أدعم تارة ذقني‏

و أصيح يا من ليس يعرفه
أحد مدى الأحقاب و الزمن‏

يا من له عنت الوجوه و من‏
قرنت له الأعناق في قرن‏

آمنت يا جذر الأصم من الأعداد
بل يا فتنة الفتن‏

أن ليس تدركك العيون و أن‏
الرأي ذو أفن و ذو غبن‏

و الكل أنت فكيف يدركه
بعض و أنت السر في العلن‏

و مما قلته في المعنى-

ناجيته و دعوته اكشف عن عشا
قلبي و عن بصري و أنت النور

و ارفع حجابا قد سدلت ستوره‏
دوني و هل دون المحب ستور

فأجابني صه يا ضعيف فبعض ذا
قد رامه موسى فدك الطور

أعجبني هذا المعنى فنقلته إلى لفظ آخر فقلت-

حبيبي أنت من دون البرايا
و إن لم أحظ منك بما أريد

قنعت من الوصال بكشف حال‏
فقيل ارجع فمطلبها بعيد

أ لم تسمع جواب سؤال موسى
و ليس على مكانته مزيد

تعرض للذي حاولت يوما
فدك الصخر و اضطرم الصعيد

و لي في هذا المعنى أيضا-

قد حار في النفس جميع الورى
و الفكر فيها قد غدا ضائعا

و برهن الكل على ما ادعوا
و ليس برهانهم قاطعا

من جهل الصنعة عجزا فما
أجدره أن يجهل الصانعا

 و لي أيضا في الرد على الفلاسفة- الذين عللوا حركة الفلك- بأنه أراد استخراج الوضع أولا- ليتشبه بالعقل المجرد في كماله- و أن كل ما له بالقوة فهو خارج إلى الفعل-

تحير أرباب النهى و تعجبوا
من الفلك الأقصى لما ذا تحركا

فقيل بطبع كالثقيل إذا هوى‏
و قيل اختيارا و المحقق شككا

فرد حديث الطبع إذ كان دائرا
و ليس على سمت قويم فيسلكا

و قيل لمن قال اختيارا فما الذي
دعاه إلى أن دار ركضا فأوشكا

فقالوا لوضع حادث يستجده‏
يعاقب منه مطلبا ثم متركا

فقيل لهم هذا الجنون بعينه
و لو رامه منا امرؤ كان أعفكا

و لو أن إنسانا غدا ليس قصده‏
سوى الوضع و استخراجه عد مضحكا

و لي أيضا في الرد على من زعم أن النبي ص- رأى الله سبحانه بالعين و هو الذي أنكرته عائشة- و العجب لقوم من أرباب النظر- جهلوا ما أدركته امرأة من نساء العرب-

عجبت لقوم يزعمون نبيهم
رأى ربه بالعين تبا لهم تبا

و هل تدرك الأبصار غير مكيف‏
و كيف تبيح العين ما يمنع القلبا

إذا كان طرف القلب عن كنهه نبا
حسيرا فطرف العين عن كنهه أنبى‏

و المقطعات التي نظمتها في إجلال الباري سبحانه- عن أن تحيط به العقول كثيرة- موجودة في كتبي و مصنفاتي فلتلمح من مظانها- و غرضنا بإيراد بعضها أن لها هنا تشييدا- لما قاله أمير المؤمنين ع علي في هذا الباب- .

قوله ع ليس بذي كبر- إلى قوله و عظم سلطانا- معناه أنه تعالى يطلق عليه من أسمائه الكبير و العظيم- و قد ورد بهما القرآن العزيز- و ليس المراد بهما ما يستعمله الجمهور من قولهم- هذا الجسم أعظم و أكبر مقدارا من هذا الجسم- بل المراد عظم شأنه و جلالة سلطانه- . و الفلج النصرة و أصله سكون العين- و إنما حركه ليوازن بين الألفاظ- و ذلك‏لأن الماضي منه فلج الرجل على خصمه بالفتح- و مصدره الفلج بالسكون- فأما من روى و ظهور الفلج- بضمتين فقد سقط عنه التأويل- لأن الاسم من هذا اللفظ- الفلج بضم أول الكلمة- فإذا استعملها الكاتب أو الخطيب- جاز له ضم الحرف الثاني- .

و صادعا بهما مظهرا مجاهدا و أصله الشق- . و الأمراس الحبال و الواحد مرس بفتح الميم و الراء مِنْهَا فِي صِفَةِ عَجِيبِ خَلْقِ أَصْنَافٍ مِنَ الْحَيَوَانِ: وَ لَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَ جَسِيمِ النِّعْمَةِ- لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وَ خَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ- وَ لَكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَ الْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ- أَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ- وَ أَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ- وَ سَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَ الْبَشَرَ- انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا- لَا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَ لَا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ- كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا- تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا- تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا- مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا- لَا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَ لَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ- وَ لَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ وَ الْحَجَرِ الْجَامِسِ- وَ لَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا- وَ فِي عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا- وَ مَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا- وَ مَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا- لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً-فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا- وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا- لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ- وَ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ- وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ- مَا دَلَّتْكَ الدَّلَالَةُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ- هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ- لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْ‏ءٍ- وَ غَامِضِ اخْتِلَافِ كُلِّ حَيٍّ- وَ مَا الْجَلِيلُ وَ اللَّطِيفُ وَ الثَّقِيلُ وَ الْخَفِيفُ- وَ الْقَوِيُّ وَ الضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ- وَ كَذَلِكَ السَّمَاءُ وَ الْهَوَاءُ وَ الرِّيَاحُ وَ الْمَاءُ- فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ النَّبَاتِ وَ الشَّجَرِ- وَ الْمَاءِ وَ الْحَجَرِ وَ اخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ- وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ- وَ طُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ- وَ الْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ- فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ- زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ- وَ لَا لِاخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ- وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوْا- وَ لَا تَحْقِيقٍ لِمَا دَعَوْا- وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ مدخولة معيبة و فلق شق و خلق- و البشر ظاهر الجلد- . قوله ع و صبت على رزقها- قيل هو على العكس أي و صب رزقها عليها- و الكلام صحيح و لا حاجة فيه إلى هذا- و المراد كيف همت حتى انصبت على رزقها انصبابا- أي انحطت عليه و يروى و ضنت على رزقها- بالضاد المعجمة و النون أي بخلت- و جحرها بيتها- .

قوله ع و في وردها لصدرها- أي تجمع في أيام التمكن من الحركة لأيام العجز عنها- و ذلك لأن النمل يظهر صيفا- و يخفى في شدة الشتاء لعجزه عن ملاقاة البرد- . قوله ع رزقها وفقها أي بقدر كفايتها- و يروى مكفول برزقها مرزوقة بوفقها- . و المنان من أسماء الله تعالى العائد إلى صفاته الفعلية- أي هو كثير المن و الإنعام على عباده- . و الديان المجازي للعباد على أفعالهم قال تعالى- إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون- و الحجر الجامس الجامد- و الشراسيف أطراف الأضلاع المشرفة على البطن

فصل في ذكر أحوال الذرة و عجائب النملة

و اعلم أن شيخنا أبا عثمان- قد أورد في كتاب الحيوان في باب النملة و الذرة- و هي الصغيرة جدا من النمل- كلاما يصلح أن يكون كلام أمير المؤمنين ع أصله- و لكن أبا عثمان قد فرع عليه- قال الذرة تدخر في الصيف للشتاء- و تتقدم في حال المهلة و لا تضيع أوقات إمكان الحزم- ثم يبلغ من تفقدها و صحة تمييزها- و النظر في عواقب أمورها- أنها تخاف على الحبوب التي ادخرتها للشتاء في الصيف- أن تعفن و تسوس في‏بطن الأرض- فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها و تعيد إليها جفوفها- و يمر بها النسيم فينفي عنها اللخن و الفساد- .

ثم ربما بل في الأكثر تختار ذلك العمل ليلا- لأن ذلك أخفى و في القمر لأنها فيه أبصر- فإن كان مكانها نديا و خافت أن تنبت الحبة- نقرت موضع القطمير من وسطها- لعلمها أنها من ذلك الموضع تنبت- و ربما فلقت الحبة نصفين- فأما إن كان الحب من حب الكزبرة فإنها تفلقه أرباعا- لأن أنصاف حب الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب- فهي من هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوانات- حتى ربما كانت في ذلك أحزم من كثير من الناس- و لها مع لطافة شخصها و خفة وزنها- في الشم و الاسترواح ما ليس لشي‏ء- فربما أكل الإنسان الجراد أو بعض ما يشبه الجراد- فيسقط من يده الواحدة أو صدر واحدة- و ليس بقربه ذرة و لا له عهد بالذر في ذلك المنزل- فلا يلبث أن تقبل ذرة قاصدة إلى تلك الجرادة- فترومها و تحاول نقلها و جرها إلى جحرها- فإذا أعجزتها بعد أن تبلي عذرا مضت إلى جحرها راجعة- فلا يلبث ذلك الإنسان أن يجدها قد أقبلت- و خلفها كالخيط الأسود الممدود- حتى يتعاون عليها فيحملنها- فاعجب من صدق الشم لما لا يشمه الإنسان الجائع- ثم انظر إلى بعد الهمة و الجرأة- على محاولة نقل شي‏ء في وزن جسمها مائة مرة- و أكثر من مائة مرة بل أضعاف أضعاف المائة- و ليس شي‏ء من الحيوان- يحمل ما يكون أضعاف وزنه مرارا كثيرة غيرها- .

فإن قال قائل- فمن أين علمتم أن التي حاولت نقل الجرادة- فعجزت هي التي أخبرت صواحباتها من الذر- و أنها التي كانت على مقدمتهن- قيل له لطول التجربة- و لأنا لم نر قط ذرة حاولت جر جرادة فعجزت عنها- ثم‏رأيناها راجعة إلا رأينا معها مثل ذلك- و إن كنا لا نفصل في مرأى العين بينها و بين أخواتها- فإنه ليس يقع في القلب غير الذي قلنا- فدلنا ذلك على أنها في رجوعها عن الجرادة- أنها إنما كانت لأشباهها كالرائد الذي لا يكذب أهله قال أبو عثمان و لا ينكر قولنا- إن الذرة توحي إلى أخواتها بما أشرنا إليه- إلا من يكذب القرآن فإنه تعالى قال في قصة سليمان- قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ- لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ- فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها- فهل بعد هذا ريب أو شك في أن لها قولا و بيانا و تمييزا- .

فإن قلت فلعلها مكلفة- و مأمورة و منهية و مطيعة و عاصية- قيل هذا سؤال جاهل- و ذلك أنه لا يلزم أن يكون كل ذي حس و تمييز- مكلفا مأمورا منهيا مطيعا عاصيا- لأن الإنسان غير البالغ الحلم قد يحفظ القرآن- و كثيرا من الآثار و ضروبا من الأخبار- و يشتري و يبيع و يخدع الرجال و يسخر بالمعلمين- و هو غير مكلف و لا مأمور- و لا منهي و لا عاص و لا مطيع- فلا يلزم مما قلناه في الذرة أن تكون مكلفة- . قال أبو عثمان و من عجيب ما سمعته من أمر النملة- ما حدثني به بعض المهندسين- عن رجل معروف بصنعة الأسطرلابات- أنه أخرج طوقا من صفر أو قال من حديد من الكير- و قد أحماه فرمى به على الأرض ليبرد- فاشتمل الطوق على نملة- فأرادت أن تنفر يمنة فلقيها وهج النار- فأخذت يسرة فلقيها وهج النار- فمضت قدما فكذاك فرجعت إلى خلفها فكذلك- فرجعت إلى وسط الدائرة فوجدها قد ماتت- في موضع رجل البركار من الدائرة- و هذا من العجائب- .

قال أبو عثمان و حدثني أبو عبيد الله الأفوه- و ما كنت أقدم عليه- في زمانه من مشايخ‏المعتزلة إلا القليل- قال قد كنت ألقى من الذر و النمل- في الرطب يكون عندي و في الطعام عنتا كثيرا- و ذلك لأني كنت لا أستقذر النملة و لا الذرة- ثم وجدت الواحدة منهما- إذا وقعت في قارورة بان أو زئبق أو خيري- فسد ذلك الدهن و زنخ فقذرتها و نفرت منها- و قلت أخلق بطبيعتها أن تكون فاسدة خبيثة- و كنت أرى لها عضا منكرا- فأقول إنها من ذوات السموم- و لو أن بدن النملة زيد في أجزائه- حتى يلحق ببدن العقرب- ثم عضت إنسانا لكانت عضتها- أضر عليه من لسعة العقرب- .

قال فاتخذت عند ذلك لطعامي منملة و قيرتها- و صببت في خندقها الماء- و وضعت سلة الطعام على رأسها- فغبرت أياما أكشف رأس السلة بعد ذلك- و فيها ذر كثير و وجدت الماء في الخندق على حاله- فقلت عسى أن يكون بعض الصبيان أنزلها- و أكل مما فيها و طال مكثها في الأرض- و قد دخلها الذر ثم أعيدت على تلك الحال- و تكلمت في ذلك و تعرفت الحال فيه- فعرفت البراءة في عذرهم و الصدق في خبرهم- فاشتد تعجبي و ذهبت بي الظنون- و الخواطر كل مذهب- فعزمت على أن أرصدها و أحرسها- و أتثبت في أمري و أتعرف شأني- فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع عليها تركته جانبا- و صعدت في الحائط ثم مرت على جذع السقف- فلما صارت محاذية للسلة أرسلت نفسها- فقلت في نفسي انظر كيف اهتدت إلى هذه الحيلة- و لم تعلم أنها تبقى محصورة- .

ثم قلت و ما عليها أن تبقى محصورة- بل أي حصار على ذرة و قد وجدت ما تشتهي- . قال أبو عثمان و من أعاجيب الذرة- أنها لا تعرض لجعل و لا لجرادة- و لا لخنفساء و لا لبنت وردان- ما لم يكن بها حبل أو عقر أو قطع رجل أو يد- فإن وجدت بها من ذلك أدنى علة وثبت عليها- حتى لو أن حية بها ضربة أو خرق أو خدش- ثم كانت من‏ ثعابين مصر- لوثب عليها الذر حتى يأكلها- و لا تكاد الحية تسلم من الذر إذا كان بها أدنى عقر- . قال أبو عثمان و قد عذب الله بالذر و النمل أمما و أمما- و أخرج أهل قرى من قراهم و أهل دروب من دروبهم- .

و حدثني بعض من أصدق خبره- قال سألت رجلا كان ينزل ببغداد- في بعض الدروب التي في ناحية باب الكوفة- التي جلا أهلها عنها لغلبة النمل و الذر عليها- فسألته عن ذلك فقال و ما تصنع بالحديث- امض معي إلى داري التي أخرجني منها النمل- قال فدخلتها معه فبعث غلامه- فاشترى رءوسا من الرأسين ليتغذى بها- فانتقلنا هربا من النمل في أكثر من عشرين مكانا- ثم دعا بطست ضخمة و صب فيها ماء صالحا- ثم فرق عظام الرءوس في الدار و معه غلمانه- فكان كلما اسود منها عظم لكثرة النمل و اجتماعه عليه- و ذلك في أسرع الأوقات أخذه الغلام ففرغه في الطست- بعود ينثر به ما عليه في جوف الطست- فما لبثنا مقدار ساعة من النهار- حتى فاضت الطست نملا- فقال كم تظن أني فعلت مثل هذا قبل الجلاء- طمعا في أن أقطع أصلها- فلما رأيت عددها إما زائدا و إما ثابتا- و جاءنا ما لا يصبر عليه أحد- و لا يمكن معه مقام خرجت عنها- . قال أبو عثمان و عذب عمر بن هبيرة- سعيد بن عمرو الحرشي بأنواع العذاب- فقيل له إن أردت ألا يفلح أبدا- فمرهم فلينفخوا في دبره النمل- ففعلوا فلم يفلح بعدها- .

قال أبو عثمان و من الحيوان أجناس يشبه الإنسان- في العقل و الروية و النظر في العواقب و الفكر في الأمور- مثل النمل و الذر و الفأر و الجرذان- و العنكبوت و النحل- إلا أن النحل لا يدخر من الطعم إلا جنسا واحدا و هو العسل- . قال و زعم البقطري أنك لو أدخلت نملة في جحر ذر- لأكلتها حتى تأتي على عامتها- و ذكر أنه قد جرب ذلك- . قال و زعم صاحب المنطق- أن الضبع تأكل النمل أكلا ذريعا- لأنها تأتي قرية النمل وقت اجتماع النمل على باب القرية- فتلحس ذلك النمل كله بلسانها- بشهوة شديدة و إرادة قوية- .

قال و ربما أفسدت الأرضة على أهل القرى منازلهم- و أكلت كل شي‏ء لهم- فلا تزال كذلك حتى ينشأ في تلك القرى النمل- فيسلط الله عز و جل ذلك النمل على تلك الأرضة- حتى تأتي على آخرها على أن النمل بعد ذلك سيكون له أذى- إلا أنه دون أذى الأرضة بعيدا- و ما أكثر ما يذهب النمل أيضا من تلك القرى- حتى يتم لأهلها السلامة من النوعين جميعا- . قال و قد زعم بعضهم أن تلك الأرضة- بأعيانها تستحيل نملا- و ليس فناؤها لأكل النمل لها- و لكن الأرضة نفسها تستحيل نملا- فعلى قدر ما يستحيل منها يرى الناس- النقصان في عددها و مضرتها على الأيام- . قال أبو عثمان و كان ثمامة يرى أن الذر صغار النمل- و نحن نراه نوعا آخر كالبقر و الجواميس- . قال و من أسباب هلاك النمل نبات أجنحته- و قال الشاعر

و إذا استوت للنمل أجنحة
حتى يطير فقد دنا عطبه‏

و كان في كتاب عبد الحميد إلى أبي مسلم- لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا- فيقال إن أبا مسلم لما قرأ هذا الكلام- في أول الكتاب لم يتم قراءته و ألقاه في النار- و قال أخاف إن قرأته أن ينخب قلبي- . قال أبو عثمان- و يقتل النمل بأن يصب في أفواه بيوتها- القطران و الكبريت الأصفر- و أن يدس في أفواهها الشعر- على أنا قد جربنا ذلك فوجدناه باطلا- . فأما الحكماء فإنهم لا يثبتون للنمل- شراسيف و لا أضلاعا- و يجب إن صح قولهم أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع- على اعتقاد الجمهور و مخاطبة العرب بما تتخيله و تتوهمه حقا- و كذلك لا يثبت الحكماء للنمل آذانا- بارزة عن سطوح رءوسها- و يجب إن صح ذلك أن نحمل كلام أمير المؤمنين ع- على قوة الإحساس بالأصوات- فإنه لا يمكن الحكماء إنكار وجود هذه القوة للنمل- و لهذا إذا صيح عليهن هربن- .

و يذكر الحكماء من عجائب النمل أشياء- منها أنه لا جلد له و كذلك كل الحيوان المخرز- . و منها أنه لا يوجد في صقلية نمل كبار أصلا- . و منها أن النمل بعضه ماش و بعضه طائر- . و منها أن حراقة النمل إذا أضيف إليها شي‏ء- من قشور البيض و ريش هدهد- و علقت على العضد منعت من النوم قوله ع- و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته- أي غايات فكرك- و ضربت بمعنى سرت- و المذاهب الطرق قال تعالى- وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي‏الْأَرْضِ- و هذا الكلام استعارة- . قال لو أمعنت النظر لعلمت أن خالق النملة الحقيرة- هو خالق النخلة الطويلة- لأن كل شي‏ء من الأشياء تفصيل جسمه و هيئته تفصيل دقيق- و اختلاف تلك الأجسام في أشكالها و ألوانها و مقاديرها- اختلاف غامض السبب- فلا بد للكل من مدبر يحكم بذلك الاختلاف و يفعله- على حسب ما يعلمه من المصلحة- . ثم قال و ما الجليل و الدقيق في خلقه إلا سواء- لأنه تعالى قادر لذاته لا يعجزه شي‏ء من الممكنات- .

ثم قال فانظر إلى الشمس و القمر- إلى قوله و الألسن المختلفات- هذا هو الاستدلال بإمكان الأعراض على ثبوت الصانع- و الطرق إليه أربعة- أحدها الاستدلال بحدوث الأجسام- . و الثاني الاستدلال بإمكان الأعراض و الأجسام- . و الثالث الاستدلال بحدوث الأعراض- .

و الرابع الاستدلال بإمكان الأعراض- . و صورة الاستدلال هو أن كل جسم- يقبل للجسمية المشتركة بينه و بين سائر الأجسام- ما يقبله غيره من الأجسام- فإذا اختلفت الأجسام في الأعراض فلا بد من مخصص- خصص هذا الجسم بهذا العرض- دون أن يكون هذا العرض لجسم آخر- و يكون لهذا الجسم عرض غير هذا العرض- لأن الممكنات لا بد لها من مرجح- يرجح أحد طرفيها على الآخر- فهذا هو معنى قوله- فانظر إلى الشمس و القمر و النبات و الشجر- و الماء و الحجر و اختلاف هذا الليل و النهار- و تفجر هذه البحار و كثرة هذه الجبال- و طول هذه القلال و تفرق هذه اللغات- و الألسن المختلفات- أي أنه يمكن أن تكون هيئةالشمس و ضوءها- و مقدارها حاصلا لجرم القمر- و يمكن أن يكون النبات الذي لا ساق له شجرا- و الشجر ذو الساق نباتا- و يمكن أن يكون الماء صلبا و الحجر مائعا- و يمكن أن يكون زمان الليل مضيئا و زمان النهار مظلما- و يمكن ألا تكون هذه البحار متفجرة بل تكون جبالا- و يمكن ألا تكون هذه الجبال الكبيرة كبيرة- و يمكن ألا تكون هذه القلال طويلة- و كذلك القول في اللغات و اختلافها- و إذا كان كل هذا ممكنا فاختصاص الجسم المخصوص- بالصفات و الأعراض و الصور المخصوصة- لا يمكن أن يكون لمجرد الجسمية لتماثل الأجسام فيها- فلا بد من أمر زائد- و ذلك الأمر الزائد هو المعني بقولنا صانع العالم- .

ثم سفه آراء المعطلة و قال- إنهم لم يعتصموا بحجة و لم يحققوا ما وعوه- أي لم يرتبوا العلوم الضرورية ترتيبا صحيحا- يفضي بهم إلى النتيجة التي هي حق- . ثم أخذ في الرد عليهم من طريق أخرى- و هي دعوى الضرورة و قد اعتمد عليها كثير من المتكلمين- فقال نعلم ضرورة أن البناء لا بد له من بان- .

ثم قال و الجناية لا بد لها من جان- و هذه كلمة ساقته إليها القرينة- و المراد عموم الفعلية لا خصوص الجناية- أي مستحيل أن يكون الفعل من غير فاعل- و الذين ادعوا الضرورة في هذه المسألة من المتكلمين- استغنوا عن الطرق الأربع التي ذكرناها- و أمير المؤمنين ع اعتمد أولا على طريق واحدة- ثم جنح ثانيا إلى دعوى الضرورة و كلا الطريقين صحيح: وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ- إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ- وَ أَسْرَجَ لَهَاحَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ- وَ جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ وَ فَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ- وَ جَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ- وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ- يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ- وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ- حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا- وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لَا يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً- فَتَبَارَكَ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْضِ- طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ يُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً- وَ يُلْقِي بِالطَّاعَةِ إِلَيْهِ سِلْماً وَ ضَعْفاً- وَ يُعْطِي الْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً- فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِهِ- أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَ النَّفَسِ- وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَ الْيَبَسِ- وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا- فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ- وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ- دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وَ كَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ- وَ أَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا- وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ الْأَرْضُ بَعْدَ جُفُوفِهَا- وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا قوله و أسرج لها حدقتين- أي جعلهما مضيئتين كما يضي‏ء السراج- و يقال حدقة قمراء أي منيرة- كما يقال ليلة قمراء أي نيرة بضوء القمر- . و بهما تقرض أي تقطع و الراء مكسورة- . و المنجلان رجلاها- شبههما بالمناجل لعوجهما و خشونتهما- . و يرهبها يخافها و نزواتها وثباتها و الجدب المحل‏

ذكر غرائب الجراد و ما احتوت عليه من صنوف الصنعة

قال شيخنا أبو عثمان في كتاب الحيوان- من عجائب الجرادة التماسها لبيضها- الموضع الصلد و الصخور الملس- ثقة منها أنها إذا ضربت بأذنابها فيها انفرجت لها- و معلوم أن ذنب الجرادة ليس في خلقة المنشار- و لا طرف ذنبه كحد السنان و لا لها من قوة الأسر- و لا لذنبها من الصلابة ما إذا اعتمدت به- على الكدية خرج فيها- كيف و هي تتعدى إلى ما هو أصلب من ذلك- و ليس في طرفها كإبرة العقرب- و على أن العقرب ليس تخرق القمقم- من جهد الأيد و قوة البدن- بل إنما ينفرج لها بطبع مجعول هناك- و كذاك انفراج الصخور لأذناب الجراد- . و لو أن عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس- لما انخرق لها إلا بالتكلف الشديد- و العقاب هي التي تنكدر على الذئب الأطلس- فتقد بدابرتها ما بين صلاه إلى موضع الكاهل- .

فإذا غرزت الجرادة و ألقت بيضها- و انضمت عليها تلك الأخاديد التي هي أحدثها- و صارت كالأفاحيص لها صارت حاضنة لها و مربية- و حافظة و صائنة و واقية- حتى إذا جاء وقت دبيب الروح فيها حدث عجب آخر- و ذلك لأنه يخرج من بيضه‏أصهب إلى البياض- ثم يصفر و تتلون فيه خطوط إلى السواد- ثم يصير فيه خطوط سود و بيض ثم يبدو حجم جناحه- ثم يستقل فيموج بعضه في بعض- . قال أبو عثمان و يزعم قوم- أن الجراد قد يريد الخضرة و دونه النهر الجاري- فيصير بعضه جسرا لبعض- حتى يعبر إلى الخضرة و أن ذلك حيلة منها- . و ليس كما زعموا و لكن الزحف الأول من الدباء- يريد الخضرة فلا يستطيعها إلا بالعبور إليها- فإذا صارت تلك القطعة فوق الماء طافية- صارت لعمري أرضا للزحف الثاني الذي يريد الخضرة- فإن سموا ذلك جسرا استقام- فأما أن يكون الزحف الأول مهد للثاني- و مكن له و آثره بالكفاية فهذا ما لا يعرف- و لو أن الزحفين جميعا أشرفا على النهر- و أمسك أحدهما عن تكلف العبور- حتى يمهد له الآخر لكان لما قالوه وجه- .

قال أبو عثمان و لعاب الجراد سم على الأشجار- لا يقع على شي‏ء إلا أحرقه- . فأما الحكماء فيذكرون في كتبهم- أن أرجل الجراد تقلع الثآليل- و أنه إذا أخذت منه اثنتا عشرة جرادة- و نزعت رءوسها و أطرافها- و جعل معها قليل آس يابس- و شربت للاستسقاء كما هي نفعت نفعا بينا- و أن التبخر بالجراد ينفع من عسر البول- و خاصة في النساء و أن أكله ينفع من تقطيره- و قد يبخر به للبواسير و ينفع أكله من لسعة العقرب- . و يقال إن الجراد الطوال- إذا علق على من به حمى الربع نفعه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 230 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

230 و من كلام له ع

قَالَهُ وَ هُوَ يَلِي غُسْلَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ تَجْهِيزَهُ- بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ- لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ- مِنَ النُّبُوَّةِ وَ الْإِنْبَاءِ وَ أَخْبَارِ السَّمَاءِ- خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ- وَ عَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً- وَ لَوْ لَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَ نَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ- لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّئُونِ- وَ لَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلًا وَ الْكَمَدُ مُحَالِفاً- وَ قَلَّا لَكَ وَ لَكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ- وَ لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ- بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ وَ اجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ بأبي أنت و أمي أي بأبي أنت مفدي و أمي- . و الإنباء الإخبار مصدر أنبأ ينبئ- و روي و الأنباء بفتح الهمزة جمع نبأ و هو الخبر- و أخبار السماء الوحي- . قوله ع خصصت و عممت- أي خصت مصيبتك أهل بيتك- حتى أنهم لا يكترثون بما يصيبهم بعدك من المصائب- و لا بما أصابهم من قبل- و عمت هذه‏المصيبة أيضا الناس- حتى استوى الخلائق كلهم فيها- فهي مصيبة خاصة بالنسبة و عامة بالنسبة- . و مثل قوله حتى صرت مسليا عمن سواك- قول الشاعر

رزئنا أبا عمر و لا حي مثله
فلله در الحادثات بمن تقع‏

فإن تك قد فارقتنا و تركتنا
ذوي خلة ما في انسداد لها طمع‏

لقد جر نفعا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع‏

 و قال آخر

أقول للموت حين نازله
و الموت مقدامة على البهم‏

أظفر بمن شئت إذ ظفرت به‏
ما بعد يحيى للموت من ألم‏

و لي في هذا المعنى كتبته إلى صديق غاب عني- من جملة أبيات-

و قد كنت أخشى من خطوب غوائل
فلما نأى عني أمنت من الحذر

فأعجب لجسم عاش بعد حياته‏
و أعجب لنفع حاصل جره ضرر

 و قال إسحاق بن خلف يرثي بنتا له-

أمست أميمة معمورا بها الرجم
لقا صعيد عليها الترب مرتكم‏

يا شقة النفس إن النفس والهة
حرى عليك و إن الدمع منسجم‏

قد كنت أخشى عليها أن تقدمني
إلى الحمام فيبدي وجهها العدم‏

فالآن نمت فلا هم يؤرقني‏
تهدا العيون إذا ما أودت الحرم‏

للموت عندي أياد لست أكفرها
أحيا سرورا و بي مما أتى ألم‏

 و قال آخر

فلو أنها إحدى يدي رزيتها
و لكن يدي بانت على إثرها يدي‏

فآليت لا آسى على إثر هالك‏
قدي الآن من حزن على هالك قدي‏

و قال آخر

أ جاري ما أزداد إلا صبابة
عليك و ما تزداد إلا تنائيا

أ جاري لو نفس فدت نفس ميت‏
فديتك مسرورا بنفسي و ماليا

و قد كنت أرجو أن أملاك حقبة
فحال قضاء الله دون رجائيا

ألا فليمت من شاء بعدك إنما
عليك من الأقدار كان حذاريا

و قال آخر

لتغد المنايا حيث شاءت فإنها
محللة بعد الفتى ابن عقيل‏

فتى كان مولاه يحل بنجوة
فحل الموالي بعده بمسيل‏

قوله ع و لكان الداء مماطلا- أي مماطلا بالبرء أي لا يجيب إلى الإقلاع- . و الإبلال الإفاقة

ذكر طرف من سيرة النبي ع عند موته

فأما وفاة رسول الله ص و ما ذكره أرباب السيرة فيها- فقد ذكرنا طرفا منه فيما تقدم- و نذكر هاهنا طرفا آخر- مما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه- .

قال أبو جعفر روى أبو مويهبة مولى رسول الله ص قال أرسل إلي رسول الله ص في جوف الليل فقال- يا أبا مويهبة- إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع- فانطلق معي فانطلقت معه- فلما وقف بين أظهرهم قال- السلام عليكم يا أهل المقابر- ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه- أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم- يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى- ثم أقبل علي فقال- يا أبا مويهبة- إني قد أوهبت مفاتيح خزائن الدنيا- و الخلد فيها و الجنة- فخيرت بينها و بين الجنة فاخترت الجنة- فقلت بأبي أنت و أمي- فخذ مفاتيح خزائن الدنيا و الخلد فيها و الجنة جميعا- فقال لا يا أبا مويهبة اخترت لقاء ربي- ثم استغفر لأهل البقيع و انصرف- فبدأ بوجعه الذي قبضه الله فيه و روى محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة قالت رجع رسول الله ص تلك الليلة من البقيع- فوجدني و أنا أجد صداعا في رأسي- و أقول وا رأساه فقال بل أنا وا رأساه- ثم قال ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك فكفنتك- و صليت عليك و دفنتك- فقلت و الله لكأني‏ بك لو كان ذلك- رجعت إلى منزلي فأعرست ببعض نسائك- فتبسم ع و تتام به وجعه- و هو مع ذلك يدور على نسائه- حتى استعز به و هو في بيت ميمونة- فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي- فأذن له فخرج بين رجلين من أهله- أحدهما الفضل بن العباس و رجل آخر- تخط قدماه في الأرض- عاصبا رأسه حتى دخل بيته- قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة- فحدثت عبد الله بن العباس بهذا الحديث فقال- أ تدري من الرجل الآخر- قلت لا قال علي بن أبي طالب- لكنها كانت لا تقدر أن تذكره بخير و هي تستطيع- قالت ثم غمر رسول الله ص و اشتد به الوجع- فقال أهريقوا علي سبع قرب من آبار شتى- حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم- قالت فأقعدته في مخضب لحفصة بنت عمر- و صببنا عليه الماء حتى طفق يقول بيده- حسبكم حسبكم – .قلت المخضب المركن- .

و روى عطاء عن الفضل بن عباس رحمه الله قال جاءني رسول الله ص حين بدأ به مرضه فقال اخرج- فخرجت إليه فوجدته موعوكا قد عصب رأسه- فقال خذ بيدي فأخذت بيده حتى جلس على المنبر- ثم قال ناد في الناس فصحت فيهم فاجتمعوا إليه- فقال أيها الناس إني أحمد إليكم الله- إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم- فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه- و من كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه- و من كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه- و لا يقل رجل إني أخاف الشحناء من قبل رسول الله- ألا و إن الشحناء ليست من طبيعتي و لا من شأني- ألا و إن أحبكم إلي من أخذ مني حقاإن كان له- أو حللني فلقيت الله و أنا طيب النفس- و قد أراني أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم به مرارا- ثم نزل فصلى الظهر- ثم رجع فجلس على المنبر- فعاد لمقالته الأولى في الشحناء و غيرها- فقام رجل فقال يا رسول الله- إن لي عندك ثلاثة دراهم- فقال إنا لا نكذب قائلا و لا نستحلفه على يمين- فيم كانت لك عندي قال- أ تذكر يا رسول الله يوم مر بك المسكين- فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم- قال أعطه يا فضل فأمرته فجلس- ثم قال أيها الناس من كان عنده شي‏ء فليؤده- و لا يقل فضوح الدنيا- فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة- فقام رجل فقال يا رسول الله- عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله- قال و لم غللتها قال كنت محتاجا إليها- قال خذها منه يا فضل- ثم قال أيها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدعو له- فقام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب- و إني لفاحش و إني لنئوم- فقال اللهم ارزقه صدقا و صلاحا- و أذهب عنه النوم إذا أراد- ثم قام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب- و إني لمنافق و ما شي‏ء أو قال- و إن من شي‏ء إلا و قد جئته- فقام عمر بن الخطاب فقال فضحت نفسك أيها الرجل- فقال النبي ص يا ابن الخطاب- فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة- اللهم ارزقه صدقا و إيمانا و صير أمره إلى خير

و روى عبد الله بن مسعود قال نعى إلينا نبينا و حبيبنا نفسه قبل موته بشهر- جمعنا في بيت أمنا عائشة- فنظر إلينا و شدد و دمعت عينه- و قال مرحبا بكم حياكم الله- رحمكم الله آواكم الله- حفظكم الله رفعكم الله- نفعكم الله‏ وفقكم الله- رزقكم الله هداكم الله- نصركم الله سلمكم الله تقبلكم الله- أوصيكم بتقوى الله و أوصى الله بكم- و استخلفه عليكم إني لكم منه نذير و بشير- ألا تعلوا على الله في عباده و بلاده- فإنه قال لي و لكم تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ- نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً- وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ- فقلنا يا رسول الله فمتى أجلك- قال قد دنا الفراق- و المنقلب إلى الله و إلى سدرة المنتهى- و الرفيق الأعلى و جنة المأوى و العيش المهنا- قلنا فمن يغسلك يا رسول الله- قال أهلي الأدنى فالأدنى- قلنا ففيم نكفنك قال- في ثيابي هذه إن شئتم- أو في بياض مصر أو حلة يمنية- قلنا فمن يصلي عليك- فقال إذا غسلتموني و كفنتموني- فضعوني على سريري في بيتي هذا- على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة- فإن أول من يصلي علي- جليسي و حبيبي و خليلي جبرائيل- ثم ميكائيل ثم إسرافيل- ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة- ثم ادخلوا علي فوجا فوجا- فصلوا علي و سلموا و لا تؤذوني بتزكية- و لا ضجة و لا رنة- و ليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم- ثم أنتم بعد و أقرءوا أنفسكم مني السلام- و من غاب من أهلي فأقرءوه مني السلام- و من تابعكم بعدي على ديني فأقرءوه مني السلام- فإني أشهدكم أني قد سلمت- على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة- قلنا فمن يدخلك قبرك يا رسول الله قال- أهلي مع ملائكة كثيرة يرونكم و لا ترونهم
– .

قلت العجب لهم كيف لم يقولوا له في تلك الساعة- فمن يلي أمورنا بعدك- لأن ولاية الأمر أهم من السؤال عن الدفن- و عن كيفية الصلاة عليه- و ما أعلم ما أقول في هذا المقام قال أبو جعفر الطبري و روى سعيد بن جبير قال كان ابن عباس رحمه الله يقول‏ يوم الخميس و ما يوم الخميس- ثم يبكي حتى تبل دموعه الحصباء- فقلنا له و ما يوم الخميس- قال يوم اشتد برسول الله ص وجعه- فقال ائتوني باللوح و الدواة- أو قال بالكتف و الدواة- أكتب لكم ما لا تضلون بعدي- فتنازعوا فقال اخرجوا- و لا ينبغي عند نبي أن يتنازع- قالوا ما شأنه أ هجر استفهموه- فذهبوا يعيدون عليه فقال- دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه- ثم أوصى بثلاث قال- أخرجوا المشركين من جزيرة العرب- و أجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم- و سكت عن الثالثة عمدا أو قالها و نسيتها

و روى أبو جعفر عن ابن عباس قال خرج علي بن أبي طالب ع من عند رسول الله ص- في وجعه الذي توفي فيه فقال له الناس- يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله ص قال- أصبح بحمد الله بارئا- فأخذ العباس بيده و قال- أ لا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا- إني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب- فاذهب إلى رسول الله ص- فسله فيمن يكن هذا الأمر- فإن كان فينا علمنا ذلك- و إن كان في غيرنا وصى بنا- فقال علي أخشى أن أسأله فيمنعناها- فلا يعطيناها الناس أبدا

و روت عائشة قالت أغمي على رسول الله ص و الدار مملوءة من النساء- أم سلمة و ميمونة و أسماء بنت عميس- و عندنا عمه العباس بن عبد المطلب- فأجمعوا على أن يلدوه- فقال العباس لا ألده فلدوه- فلما أفاق قال من صنع بي هذا- قالوا عمك قال لنا- هذا دواء جاءنا من نحو هذه الأرض- و أشار إلى أرض الحبشة قال- فلم فعلتم ذلك فقال العباس- خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب- فقال إن ذلك‏لداء ما كان الله ليقذفني به- لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا عمي- قال فلقد لدت ميمونة و إنها لصائمة- لقسم رسول الله ص عقوبة لهم بما صنعوا قال أبو جعفر و قد وردت رواية أخرى عن عائشة قالت لددنا رسول الله ص في مرضه- فقال لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء- فلما أفاق قال لا يبقى أحد إلا لد غير العباس عمي فإنه لم يشهدكم – .

قال أبو جعفر و الذي تولى اللدود بيده أسماء بنت عميس- . قلت العجب من تناقض هذه الروايات- في إحداها أن العباس لم يشهد اللدود- فلذلك أعفاه رسول الله ص- من أن يلد و لد من كان حاضرا- و في إحداها أن العباس حضر لده ع- و في هذه الرواية التي تتضمن حضور العباس في لده كلام مختلف- فيها أن العباس قال لا ألده ثم قال- فلد فأفاق فقال من صنع بي هذا- قالوا عمك إنه قال- هذا دواء جاءنا من أرض الحبشة لذات الجنب- فكيف يقول لا ألده- ثم يكون هو الذي أشار بأن يلد- و قال هذا دواء جاءنا من أرض الحبشة لكذا- .

و سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد البصري- عن حديث اللدود فقلت- أ لد علي بن أبي طالب ذلك اليوم- فقال معاذ الله لو كان لد- لذكرت عائشة ذلك فيما تذكره و تنعاه عليه- قال و قد كانت فاطمة حاضرة في الدار- و ابناها معها أ فتراها لدت أيضا- و لد الحسن و الحسين كلا و هذا أمر لم يكن- و إنما هو حديث ولده من ولده- تقربا إلى بعض الناس- و الذي كان أن أسماء بنت عميس أشارت بأن يلد- و قالت هذا دواء جاءنا من أرض الحبشة- جاء به جعفر بن أبي طالب و كان بعلها-و ساعدتها على تصويب ذلك و الإشارة به- ميمونة بنت الحارث- فلد رسول الله ص فلما أفاق أنكره- و سأل عنه فذكر له كلام أسماء و موافقة ميمونة لها- فأمر أن تلد الامرأتان لا غير- فلدتا و لم يجر غير ذلك- و الباطل لا يكاد يخفى على مستبصر- .

و روت عائشة قالت كثيرا ما كنت أسمع رسول الله يقول- إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره- فلما احتضر رسول الله ص- كان آخر كلمة سمعتها منه- بل الرفيق الأعلى- فقلت إذا و الله لا يختارنا- و علمت أن ذلك ما كان يقوله من قبل
و روى الأرقم بن شرحبيل قال سألت ابن عباس رحمه الله هل أوصى رسول الله ص- فقال لا قلت فكيف كان فقال- إن رسول الله ص قال في مرضه- ابعثوا إلى علي فادعوه- فقالت عائشة لو بعثت إلى أبي بكر- و قالت حفصة لو بعثت إلى عمر- فاجتمعوا عنده جميعا- هكذا لفظ الخبر على ما أورده الطبري في التاريخ- و لم يقل فبعث رسول الله ص إليهما- قال ابن عباس فقال رسول الله ص- انصرفوا فإن تكن لي حاجة أبعث إليكم فانصرفوا- و قيل لرسول الله الصلاة- فقال مروا أبا بكر أن يصلي بالناس- فقالت عائشة إن أبا بكر رجل رقيق فمر عمر- فقال مروا عمر فقال عمر- ما كنت لأتقدم و أبو بكر شاهد- فتقدم أبو بكر فوجد رسول الله ص خفة- فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر- فجذب رسول الله ص ثوبه فأقامه مكانه- و قعد رسول الله ص- فقرأ من حيث انتهى أبو بكر – .

قلت عندي في هذه الواقعة كلام- و يعترضني فيها شكوك و اشتباه- إذا كان قدأراد أن يبعث إلى علي ليوصي إليه- فنفست عائشة عليه- فسألت أن يحضر أبوها- و نفست حفصة عليه فسألت أن يحضر أبوها- ثم حضرا و لم يطلبا فلا شبهة أن ابنتيهما طلبتاهما- هذا هو الظاهر- و قول رسول الله ص و قد اجتمعوا كلهم عنده- انصرفوا فإن تكن لي حاجة بعثت إليكم- قول من عنده ضجر و غضب باطن لحضورهما- و تهمة للنساء في استدعائهما- فكيف يطابق هذا الفعل و هذا القول- ما روي من أن عائشة قالت لما عين على أبيها في الصلاة- أن أبي رجل رقيق فمر عمر- و أين ذلك الحرص من هذا الاستعفاء و الاستقالة- و هذا يوهم صحة ما تقوله الشيعة- من أن صلاة أبي بكر كانت عن أمر عائشة- و إن كنت لا أقول بذلك و لا أذهب إليه- إلا أن تأمل هذا الخبر و لمح مضمونه يوهم ذلك- فلعل هذا الخبر غير صحيح- و أيضا ففي الخبر ما لا يجيزه أهل العدل- و هو أن يقول مروا أبا بكر- ثم يقول عقيبه مروا عمر- لأن هذا نسخ الشي‏ء قبل تقضي وقت فعله- .

فإن قلت قد مضى من الزمان- مقدار ما يمكن الحاضرين فيه أن يأمروا أبا بكر- و ليس في الخبر إلا أنه أمرهم أن يأمروه- و يكفي في صحة ذلك مضي زمان يسير جدا- يمكن فيه أن يقال يا أبا بكر صل بالناس- قلت الإشكال ما نشأ من هذا الأمر- بل من كون أبي بكر مأمورا بالصلاة- و إن كان بواسطة- ثم نسخ عنه الأمر بالصلاة- قبل مضي وقت يمكن فيه أن يفعل الصلاة- فإن قلت لم قلت في صدر كلامك هذا- إنه أراد أن يبعث إلى علي ليوصي إليه- و لم لا يجوز أن يكون بعث إليه لحاجة له- قلت لأن مخرج كلام ابن عباس هذا المخرج- أ لا ترى أن الأرقم بن شرحبيل الراوي لهذا الخبر قال- سألت ابن عباس هل أوصى رسول الله ص- فقال لا فقلت فكيف كان- فقال إن رسول الله ص قال في مرضه-ابعثوا إلى علي فادعوه- فسألته المرأة أن يبعث إلى أبيها- و سألته الأخرى أن يبعث إلى أبيها- فلو لا أن ابن عباس فهم من قوله ص- ابعثوا إلى علي فادعوه أنه يريد الوصية إليه- لما كان لإخبار الأرقم بذلك- متصلا بسؤاله عن الوصية معنى

و روى القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قالت رأيت رسول الله ص يموت- و عنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح- ثم يمسح وجهه بالماء و يقول- اللهم أعني على سكرة الموت و روى عروة عن عائشة قالت اضطجع رسول الله ص يوم موته في حجري- فدخل على رجل من آل أبي بكر- في يده مسواك أخضر- فنظر رسول الله ص إليه نظرا عرفت أنه يريده- فقلت له أ تحب أن أعطيك هذا المسواك- قال نعم فأخذته فمضغته حتى ألنته- ثم أعطيته إياه- فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قبله ثم وضعه- و وجدت رسول الله ص يثقل في حجري- فذهبت أنظر في وجهه- فإذا بصره قد شخص و هو يقول- بل الرفيق الأعلى من الجنة- فقلت لقد خيرت فاخترت و الذي بعثك بالحق- و قبض رسول الله ص – .

قال الطبري و قد وقع الاتفاق- على أنه كان يوم الإثنين من شهر ربيع الأول- و اختلف في أي الأثانين كان- فقيل لليلتين خلتا من الشهر- و قيل لاثنتي عشرة خلت من الشهر- و اختلف في تجهيزه أي يوم كان- فقيل يوم الثلاثاء الغد من وفاته- و قيل إنما دفن بعد وفاته بثلاثة أيام- اشتغل القوم عنه بأمر البيعة- . و قد روى الطبري ما يدل على ذلك- عن زياد بن كليب عن إبراهيم النخعي- أن‏أبا بكر جاء بعد ثلاث- إلى رسول الله ص و قد أربد بطنه- فكشف عن وجهه و قبل عينيه- و قال بأبي أنت و أمي- طبت حيا و طبت ميتا- قلت و أنا أعجب من هذا- هب أن أبا بكر و من معه اشتغلوا بأمر البيعة- فعلي بن أبي طالب و العباس و أهل البيت- بما ذا اشتغلوا حتى يبقى النبي ص مسجى بينهم- ثلاثة أيام بلياليهن لا يغسلونه و لا يمسونه- .

فإن قلت الرواية التي رواها الطبري- في حديث الأيام الثلاثة- إنما كانت قبل البيعة- لأن لفظ الخبر عن إبراهيم- و أنه لما قبض النبي ص كان أبو بكر غائبا فجاء بعد ثلاث- و لم يتجرأ أحد أن يكشف عن وجهه ع- حتى أربد بطنه فكشف عن وجهه و قبل عينيه- و قال بأبي أنت و أمي طبت حيا و طبت ميتا- ثم خرج إلى الناس فقال- من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات- الحديث بطوله- قلت لعمري إن الرواية هكذا أوردها- و لكنها مستحيلة- لأن أبا بكر فارق رسول الله ص و هو حي- و مضى إلى منزله بالسنح في يوم الإثنين- و هو اليوم الذي مات فيه رسول الله ص- لأنه رآه بارئا صالح الحال- هكذا روى الطبري في كتابه- و بين السنح و بين المدينة نصف فرسخ- بل هو طائفة من المدينة- فكيف يبقى رسول الله ص ميتا- يوم الإثنين و يوم الثلاثاء و يوم الأربعاء- لا يعلم به أبو بكر- و بينهما غلوة ثلاثة أسهم- و كيف يبقى طريحا بين أهله ثلاثة أيام- لا يجترئ أحد منهم أن يكشف عن وجهه- و فيهم علي بن أبي طالب و هو روحه بين جنبيه- و العباس عمه القائم مقام أبيه- و ابنا فاطمة و هما كولديه و فيهم فاطمة بضعة منه- أ فما كان في هؤلاء من يكشف عن وجهه- و لا من يفكر في جهازه و لا من يأنف له- من‏انتفاخ بطنه و اخضرارها- و ينتظر بذلك حضور أبي بكر ليكشف عن وجهه- أنا لا أصدق ذلك و لا يسكن قلبي إليه- و الصحيح أن دخول أبي بكر إليه و كشفه عن وجهه- و قوله ما قال إنما كان بعد الفراغ من البيعة- و أنهم كانوا مشتغلين بها كما ذكر في الرواية الأخرى- .

و بقي الإشكال في قعود علي ع عن تجهيزه- إذا كان أولئك مشتغلين بالبيعة فما الذي شغله هو- فأقول يغلب على ظني إن صح ذلك- أن يكون قد فعله شناعة على أبي بكر و أصحابه- حيث فاته الأمر و استؤثر عليه به- فأراد أن يتركه ص بحاله لا يحدث في جهازه أمرا- ليثبت عند الناس أن الدنيا شغلتهم عن نبيهم ثلاثة أيام- حتى آل أمره إلى ما ترون- و قد كان ع يتطلب الحيلة في تهجين أمر أبي بكر- حيث وقع في السقيفة ما وقع بكل طريق- و يتعلق بأدنى سبب من أمور كان يعتمدها- و أقوال كان يقولها فلعل هذا من جملة ذلك- أو لعله إن صح ذلك- فإنما تركه ص بوصية منه إليه- و سر كانا يعلمانه في ذلك- .

فإن قلت فلم لا يجوز أن يقال إن صح ذلك- إنه أخر جهازه ليجتمع رأيه و رأي المهاجرين- على كيفية غسله و تكفينه و نحو ذلك من أموره- قلت لأن الرواية الأولى تبطل هذا الاحتمال- و هي قوله ص لهم قبل موته يغسلني أهلي الأدنى منهم فالأدنى- و أكفن في ثيابي أو في بياض مصر- أو في حلة يمنية – . قال أبو جعفر فأما الذين تولوا غسله- فعلي بن أبي طالب و العباس بن عبد المطلب- و الفضل بن العباس و قثم بن العباس- و أسامة بن زيد و شقران مولى رسول الله ص-و حضر أوس بن خولي أحد الخزرج- فقال لعلي بن أبي طالب- أنشدك الله يا علي و حظنا من رسول الله- و كان أوس من أصحاب بدر- فقال له ادخل فدخل فحضر غسله ع- و صب الماء عليه أسامة و شقران- و كان علي ع يغسله و قد أسنده إلى صدره- و عليه قميصه يدلكه من ورائه- لا يفضي بيده إلى بدن رسول الله ص- و كان العباس و ابناه الفضل و قثم يساعدونه- على قلبه من جانب إلى جانب- .

قال أبو جعفر و روت عائشة أنهم اختلفوا في غسله- هل يجرد أم لا فألقى الله عليهم السنة- حتى ما منهم رجل إلا و ذقنه على صدره- ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدرى من هو- غسلوا النبي و عليه ثيابه- فقاموا إليه فغسلوه- و عليه قميصه- فكانت عائشة تقول- لو استقبلت من أمري- ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه- . قلت حضرت عند محمد بن معد العلوي في داره ببغداد- و عنده حسن بن معالي الحلي المعروف بابن الباقلاوي- و هما يقرءان هذا الخبر- و هذه الأحاديث من تاريخ الطبري- فقال محمد بن معد لحسن بن معالي- ما تراها قصدت بهذا القول- قال حسدت أباك على ما كان يفتخر به من غسل رسول الله ص- فضحك محمد فقال- هبها استطاعت أن تزاحمه في الغسل- هل تستطيع أن تزاحمه في غيره من خصائصه- . قال أبو جعفر الطبري- ثم كفن ص في ثلاثة أثواب- ثوبين صحاريين و برد حبرة أدرج فيها إدراجا- و لحد له على عادة أهل المدينة- فلما فرغوا منه وضعوه على سريره- .

و اختلفوا في دفنه- فقال قائل ندفنه في مسجده- و قال قائل ندفنه في البقيع مع أصحابه- و قال أبو بكر سمعت رسول الله ص يقول ما قبض نبي إلا و دفن حيث قبض – فرفع فراش رسول الله الذي توفي فيه فحفر له تحته- . قلت كيف اختلفوا في موضع دفنه- و قد قال لهم فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري – و هذا تصريح بأنه يدفن في البيت الذي جمعهم فيه- و هو بيت عائشة- فإما أن يكون ذلك الخبر غير صحيح- أو يكون الحديث الذي تضمن أنهم اختلفوا في موضع دفنه- و أن أبا بكر روى لهم أنه قال- الأنبياء يدفنون حيث يموتون غير صحيح- لأن الجمع بين هذين الخبرين لا يمكن- .

و أيضا فهذا الخبر ينافي ما ورد في موت جماعة من الأنبياء- نقلوا من موضع موتهم إلى مواضع أخر- و قد ذكر الطبري بعضهم في أخبار أنبياء بني إسرائيل- . و أيضا فلو صح هذا الخبر- لم يكن مقتضيا إيجاب دفن النبي ص حيث قبض- لأنه ليس بأمر بل هو إخبار محض- اللهم إلا أن يكونوا فهموا من مخرج لفظه ع و من مقصده- أنه أراد الوصية لهم بذلك- و الأمر بدفنه حيث يقبض- . قال أبو جعفر ثم دخل الناس فصلوا عليه أرسالا- حتى إذا فرغ الرجال أدخل النساء- حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان- ثم أدخل العبيد و لم يؤمهم إمام- ثم دفن ع وسط الليل من ليلة الأربعاء- .

قال أبو جعفر- و قد روت عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة قالت ما علمنا بدفن رسول الله ص- حتى سمعنا صوت المساحي في جوف الليل ليلة الأربعاء – .قلت و هذا أيضا من العجائب- لأنه إذا مات يوم الإثنين وقت ارتفاع الضحى- كما ذكر في الرواية و دفن ليلة الأربعاء وسط الليل- فلم يمض عليه ثلاثة أيام كما ورد في تلك الرواية- . و أيضا فمن العجب كون عائشة- و هو في بيتها لا تعلم بدفنه حتى سمعت صوت المساحي- أ تراها أين كانت- و قد سألت عن هذا جماعة- فقالوا لعلها كانت في بيت يجاور بيتها- عندها نساء كما جرت عادة أهل الميت- و تكون قد اعتزلت بيتها و سكنت ذلك البيت- لأن بيتها مملوء بالرجال من أهل رسول الله ص- و غيرهم من الصحابة و هذا قريب- و يحتمل أن يكون- .

قال الطبري- و نزل في قبر رسول الله ص علي بن أبي طالب ع- و الفضل بن عباس و قثم أخوه و شقران مولاهم- و قال أوس بن خولي لعلي ع- أنشدك الله يا علي و حظنا من رسول الله ص- فقال له انزل فنزل مع القوم- و أخذ شقران قطيفة كان رسول الله ص يلبسها- فقذفها معه في القبر- و قال لا يلبسها أحد بعده- . قلت من تأمل هذه الأخبار- علم أن عليا ع كان الأصل و الجملة- و التفصيل في أمر رسول الله ص و جهازه- أ لا ترى أن أوس بن خولي لا يخاطب أحدا من الجماعة غيره- و لا يسأل غيره في حضور الغسل و النزول في القبر- ثم انظر إلى كرم علي ع و سجاحة أخلاقه و طهارة شيمته- كيف لم يضن بمثل هذه المقامات الشريفة عن أوس- و هو رجل غريب من الأنصار- فعرف له حقه و أطلبه بما طلبه- فكم بين هذه السجية الشريفة- و بين قول من قال- لو استقبلت من أمري ما استدبرت-ما غسل رسول الله ص إلا نساؤه- و لو كان في ذلك المقام غيره من أولي الطباع الخشنة- و أرباب الفظاظة و الغلظة- و قد سأل أوس ذلك لزجر و انتهر و رجع خائبا- .

قال الطبري و كان المغيرة بن شعبة يدعي- أنه أحدث الناس عهدا برسول الله ص- و يقول للناس إنني أخذت خاتمي فألقيته في القبر- و قلت إن خاتمي قد سقط مني و إنما طرحته عمدا- لأمس رسول الله ص فأكون آخر الناس به عهدا- . قال الطبري فروى عبد الله بن الحارث بن نوفل- قال اعتمرت مع علي بن أبي طالب ع في زمان عمر أو عثمان- فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب- فلما فرغ من عمرته رجع و قد سكب له غسل- فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق- فقالوا يا أبا الحسن- جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا به- فقال أظن المغيرة يحدثكم- أنه أحدث الناس عهدا برسول الله ص- قالوا أجل عن ذا جئنا نسألك قال كذب- أحدث الناس عهدا برسول الله ص قثم بن العباس- كان آخرنا خروجا من قبره- .

قلت بحق ما عاب أصحابنا رحمهم الله المغيرة- و ذموه و انتقصوه- فإنه كان على طريقة غير محمودة- و أبى الله إلا أن يكون كاذبا على كل حال- لأنه إن لم يكن أحدثهم بالنبي عهدا- فقد كذب في دعواه أنه أحدثهم به عهدا- و إن كان أحدثهم به عهدا كما يزعم- فقد اعترف بأنه كذب في قوله لهم سقط خاتمي مني- و إنما ألقاه عمدا- و أين المغيرة و رسول الله ص ليدعي القرب منه- و أنه أحدث الناس عهدا به-و قد علم الله تعالى و المسلمون- أنه لو لا الحدث الذي أحدث- و القوم الذين صحبهم فقتلهم غدرا و اتخذ أموالهم- ثم التجأ إلى رسول الله ص ليعصمه لم يسلم- و لا وطئ حصا المدينة- . قال الطبري و قد اختلف في سن رسول الله ص- فالأكثرون أنه كان ابن ثلاث و ستين سنة- و قال قوم ابن خمس و ستين سنة- و قال قوم ابن ستين- . فهذا ما ذكره الطبري في تاريخه- .

و روى محمد بن حبيب في أماليه- قال تولى غسل النبي ص علي ع و العباس رضي الله عنه- . و كان علي ع يقول بعد ذلك ما شممت أطيب من ريحه- و لا رأيت أضوأ من وجهه حينئذ- و لم أره يعتاد فاه ما يعتاد أفواه الموتى
قال محمد بن حبيب فلما كشف الإزار عن وجهه بعد غسله انحنى عليه- فقبله مرارا و بكى طويلا- و قال بأبي أنت و أمي- طبت حيا و طبت ميتا- انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد سواك- من النبوة و الأنباء و أخبار السماء- خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك- و عممت حتى صارت المصيبة فيك سواء- و لو لا أنك أمرت بالصبر- و نهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون- و لكن أتى ما لا يدفع- أشكو إليك كمدا و إدبارا مخالفين و داء الفتنة- فإنها قد استعرت نارها و داؤها الداء الأعظم- بأبي أنت و أمي اذكرنا عند ربك- و اجعلنا من بالك و همك- ثم نظر إلى قذاة في عينه فلفظها بلسانه- ثم رد الإزار على وجهه – .

و قد روى كثير من الناس ندبة فاطمة ع أباها يوم موته- و بعد ذلك اليوم و هي ألفاظ معدودة مشهورة- منها يا أبتاه جنة الخلد مثواه- يا أبتاه عند ذي العرش مأواه- يا أبتاه كان جبرئيل يغشاه- يا أبتاه لست بعد اليوم أراه – . و من الناس من يذكر- أنها كانت تشوب هذه الندبة- بنوع من التظلم و التألم لأمر يغلبها- و الله أعلم بصحة ذلك- و الشيعة تروي أن قوما من الصحابة- أنكروا بكاءها الطويل و نهوها عنه- و أمروها بالتنحي عن مجاورة المسجد- إلى طرف من أطراف المدينة- . و أنا أستبعد ذلك- و الحديث يدخله الزيادة و النقصان- و يتطرق إليه التحريف و الافتعال- و لا أقول أنا في أعلام المهاجرين إلا خيرا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 229 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

229 و من كلام له ع

رَوَى ذِعْلَبٌ الْيَمَامِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِحْيَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمنِيِنَ ع- فَقَالَ وَ قَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ اخْتِلَافُ النَّاسِ- إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِئُ طِينِهِمْ- وَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ وَ عَذْبِهَا- وَ حَزْنِ تُرْبَةٍ وَ سَهْلِهَا- فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ- وَ عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِهَا يَتَفَاوَتُونَ- فَتَامُّ الرُّوَاءِ نَاقِصُ الْعَقْلِ- وَ مَادُّ الْقَامَةِ قَصِيرُ الْهِمَّةِ- وَ زَاكِي الْعَمَلِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ- وَ قَرِيبُ الْقَعْرِ بَعِيدُ السَّبْرِ- وَ مَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ- وَ تَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ- وَ طَلِيقُ اللِّسَانِ حَدِيدُ الْجَنَانِ ذعلب و أحمد و عبد الله و مالك- رجال من رجال الشيعة و محدثيهم- و هذا الفصل عندي لا يجوز أن يحمل على ظاهره- و ما يتسارع إلى أفهام العامة منه- و ذلك لأن قوله- إنهم كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها- إما أن يريد به أن كل واحد من الناس ركب من طين- و جعل صورة بشرية طينية- برأس و بطن و يدين و رجلين-

ثم نفخت فيه الروح كما فعل بآدم- أو يريد به أن الطين الذي ركبت منه صورة آدم فقط- كان مختلطا من سبخ و عذب- فإن أريد الأول فالواقع خلافه- لأن البشر الذين نشاهدهم- و الذين بلغتنا أخبارهم لم يخلقوا من الطين كما خلق آدم- و إنما خلقوا من نطف آبائهم- و ليس لقائل أن يقول لعل تلك النطف‏ افترقت- لأنها تولدت من أغذية- مختلفة المنبت من العذوبة و الملوحة- و ذلك لأن النطفة لا تتولد من غذاء بعينه- بل من مجموع الأغذية- و تلك الأغذية لا يمكن أن تكون كلها- من أرض سبخة محضة في السبخية- لأن هذا من الاتفاقات التي يعلم عدم وقوعها- كما يعلم أنه لا يجوز أن يتفق- أن يكون أهل بغداد في وقت بعينه- على كثرتهم لا يأكلون ذلك اليوم إلا السكباج خاصة-

و أيضا فإن الأرض السبخة- أو التي الغالب عليها السبخية- لا تنبت الأقوات أصلا- و إن أريد الثاني و هو أن يكون طين آدم ع- مختلطا في جوهره مختلفا في طبائعه- فلم كان زيد الأحمق يتولد من الجزء السبخي- و عمرو العاقل يتولد من الجزء العذبي- و كيف يؤثر اختلاف طين آدم- من ستة آلاف سنة في أقوام يتوالدون الآن- . و الذي أراه أن لكلامه ع تأويلا باطنا- و هو أن يريد به اختلاف النفوس المدبرة للأبدان- و كنى عنها بقوله مبادئ طينهم- و ذلك أنها لما كانت الماسكة للبدن من الانحلال- العاصمة له من تفرق العناصر- صارت كالمبدإ و كالعلة له من حيث إنها- كانت علة في بقاء امتزاجه- و اختلاط عناصره بعضها ببعض- و لذلك إذا فارقت عند الموت افترقت العناصر- و انحلت الأجزاء فرجع اللطيف منها إلى الهواء- و الكثيف إلى الأرض- .

و قوله كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها- و حزن تربة و سهلها- تفسيره أن البارئ جل جلاله لما خلق النفوس- خلقها مختلفة في ماهيتها- فمنها الزكية و منها الخبيثة- و منها العفيفة و منها الفاجرة- و منها القوية و منها الضعيفة- و منها الجريئة المقدمة و منها الفشلة الذليلة- إلى غير ذلك من أخلاق النفوس المختلفة المتضادة- . ثم فسر ع و علل تساوي قوم في الأخلاق- و تفاوت آخرين فيها فقال-إن نفس زيد قد تكون مشابهة- أو قريبة من المشابهة لنفس عمرو- فإذا هما في الأخلاق متساويتان أو متقاربتان- و نفس خالد قد تكون مضادة لنفس بكر- أو قريبة من المضادة- فإذا هما في الأخلاق متباينتان أو قريبتان من المباينة- .

و القول باختلاف النفوس في ماهياتها- هو مذهب أفلاطون- و قد اتبعه عليه جماعة من أعيان الحكماء- و قال به كثير من مثبتي النفوس من متكلمي الإسلام- . و أما أرسطو و أتباعه- فإنهم لا يذهبون إلى اختلاف النفوس في ماهيتها- و القول الأول عندي أمثل- . ثم بين ع اختلاف آحاد الناس- فقال منهم من هو تام الرواء لكنه ناقص العقل- و الرواء بالهمز و المد المنظر الجميل- و من أمثال العرب ترى الفتيان كالنخل- و ما يدريك ما الدخل- . و قال الشاعر

عقله عقل طائر
و هو في خلقة الجمل‏

و قال أبو الطيب

و ما الحسن في وجه الفتى شرف له
إذا لم يكن في فعله و الخلائق‏

 و قال الآخر

و ما ينفع الفتيان حسن وجوههم
إذا كانت الأخلاق غير حسان‏

فلا يغررنك المرء راق رواؤه‏
فما كل مصقول الغرار يماني‏

و من شعر الحماسة

لقومي أرعى للعلا من عصابة
من الناس يا حار بن عمرو تسودها

و أنتم سماء يعجب الناس رزها
بآبدة تنحي شديد وئيدها

تقطع أطناب البيوت بحاصب
و أكذب شي‏ء برقها و رعودها

فويل أمها خيلا بهاء و شارة
إذا لاقت الأعداء لو لا صدودها

 و منه أيضا

و كاثر بسعد إن سعدا كثيرة
و لا ترج من سعد وفاء و لا نصرا

يروعك من سعد بن زيد جسومها
و تزهد فيها حين تقتلها خبرا

قوله ع و ماد القامة قصير الهمة- قريب من المعنى الأول- إلا أنه خالف بين الألفاظ- فجعل الناقص بإزاء التام و القصير بإزاء الماد- و يمكن أن يجعل المعنيان مختلفين- و ذلك لأنه قد يكون الإنسان تام العقل- إلا أن همته قصيرة- و قد رأينا كثيرا من الناس كذلك- فإذن هذا قسم آخر من الاختلاف غير الأول- . قوله ع و زاكي العمل قبيح المنظر- يريد بزكاء أعماله حسنها و طهارتها- فيكون قد أوقع الحسن بإزاء القبيح- و هذا القسم موجود فاش بين الناس- .

قوله و قريب القعر بعيد السبر- أي قد يكون الإنسان قصير القامة- و هو مع ذلك داهية باقعة- و المراد بقرب قعره تقارب ما بين طرفيه- فليست بطنه بمديدةو لا مستطيلة- و إذا سبرته و اختبرت ما عنده وجدته لبيبا فطنا- لا يوقف على أسراره و لا يدرك باطنه- و من هذا المعنى قول الشاعر-

ترى الرجل النحيف فتزدريه
و في أثوابه أسد مزير

و يعجبك الطرير فتبتليه‏
فيخلف ظنك الرجل الطرير

و قيل لبعض الحكماء- ما بال القصار من الناس أدهى و أحذق- قال لقرب قلوبهم من أدمغتهم- . و من شعر الحماسة

إلا يكن عظمي طويلا فإنني
له بالخصال الصالحات وصول‏

و لا خير في حسن الجسوم و طولها
إذا لم تزن حسن الجسوم عقول‏

 و من شعر الحماسة أيضا- و هو تمام البيتين المقدم ذكرهما-

فما عظم الرجال لهم بفخر
و لكن فخرهم كرم و خير

ضعاف الطير أطولها جسوما
و لم تطل البزاة و لا الصقور

بغاث الطير أكثرها فراخا
و أم الصقر مقلات نزور

لقد عظم البعير بغير لب‏
فلم يستغن بالعظم البعير

قوله ع و معروف الضريبة منكر الجليبة- الجليبة هي الخلق الذي‏يتكلفه الإنسان و يستجلبه- مثل أن يكون جبانا بالطبع فيتكلف الشجاعة- أو شحيحا بالطبع فيتكلف الجود- و هذا القسم أيضا عام في الناس- . ثم لما فرغ من الأخلاق المتضادة- ذكر بعدها ذوي الأخلاق و الطباع المتناسبة المتلائمة- فقال و تائه القلب متفرق اللب- و هذان الوصفان متناسبان لا متضادان- . ثم قال و طليق اللسان حديد الجنان- و هذان الوصفان أيضا متناسبان- و هما متضادان للوصفين قبلهما- فالأولان ذم و الآخران مدح

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 228 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

228 و من كلام له ع

أَلَا وَ إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ- فَلَا يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ- وَ لَا يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ- وَ إِنَّا لَأُمَرَاءُ الْكَلَامِ وَ فِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ- وَ عَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ- وَ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّكُمْ فِي زَمَانٍ- الْقَائِلُ فِيهِ بِالْحَقِّ قَلِيلٌ- وَ اللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ- وَ اللَّازِمُ لِلْحَقِّ ذَلِيلٌ- أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ- مُصْطَلِحُونَ عَلَى الْإِدْهَانِ فَتَاهُمْ عَارِمٌ- وَ شَائِبُهُمْ آثِمٌ وَ عَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ- وَ فَارِئُهُمْ مُمَاذِقٌ لَا يُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ- وَ لَا يَعُولُ غَنِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ بضعة من الإنسان قطعة منه- و الهاء في يسعده ترجع إلى اللسان- .

و الضمير في امتنع يرجع إلى الإنسان- و كذلك الهاء في لا يمهله يرجع إلى اللسان- . و الضمير في اتسع يرجع إلى الإنسان- و تقديره فلا يسعد اللسان القول- إذا امتنع الإنسان عن أن يقول- و لا يمهل اللسان النطق إذا اتسع للإنسان القول- و المعنى أن اللسان آلة للإنسان- فإذا صرفه صارف عن الكلام لم يكن اللسان‏ناطقا- و إذا دعاه داع إلى الكلام- نطق اللسان بما في ضمير صاحبه- . و تنشبت عروقه أي علقت و روي انتشبت- و الرواية الأولى أدخل في صناعة الكلام- لأنها بإزاء تهدلت و التهدل التدلي- و قد أخذ هذه الألفاظ بعينها أبو مسلم الخراساني- فخطب بها في خطبة مشهورة من خطبه

ذكر من أرتج عليهم أو حصروا عند الكلام

و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع- في واقعة اقتضت أن يقوله- و ذلك أنه أمر ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي- أن يخطب الناس يوما فصعد المنبر- فحصر و لم يستطع الكلام- فقام أمير المؤمنين ع فتسنم ذروة المنبر- و خطب خطبة طويلة- ذكر الرضي رحمه الله منها هذه الكلمات- و روى شيخنا أبو عثمان في كتاب البيان و التبيين- أن عثمان صعد المنبر فأرتج عليه فقال- إن أبا بكر و عمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا- و أنتم إلى إمام عادل- أحوج منكم إلى إمام خطيب- و ستأتيكم الخطبة على وجهها ثم نزل- .

قال أبو عثمان و روى أبو الحسن المدائني قال- صعد ابن لعدي بن أرطاة المنبر- فلما رأى الناس حصر فقال- الحمد لله الذي يطعم هؤلاء و يسقيهم- و صعد روح بن حاتم المنبر- فلما رأى الناس قد رشقوه بأبصارهم- و صرفوا أسماعهم‏نحوه قال- نكسوا رءوسكم و غضوا أبصاركم- فإن أول مركب صعب- فإذا يسر الله عز و جل فتح قفل تيسر- ثم نزل- .

و خطب مصعب بن حيان- أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح فحصر فقال- لقنوا موتاكم لا إله إلا الله- فقالت أم الجارية عجل الله موتك أ لهذا دعوناك- . و خطب مروان بن الحكم فحصر فقال- اللهم إنا نحمدك و نستعينك و لا نشرك بك- . و لما حصر عبد الله بن عامر بن كريز- على المنبر بالبصرة و كان خطيبا- شق عليه ذلك فقال له زياد بن أبيه و كان خليفته- أيها الأمير لا تجزع- فلو أقمت على المنبر عامة من ترى- أصابهم أكثر مما أصابك- فلما كانت الجمعة تأخر عبد الله بن عامر- و قال زياد للناس- إن الأمير اليوم موعوك- فقيل لرجل من وجوه أمراء القبائل- قم فاصعد المنبر فلما صعد حصر- فقال الحمد لله الذي يرزق هؤلاء- و بقي ساكتا فأنزلوه و أصعدوا آخر من الوجوه- فلما استوى قائما قابل بوجهه الناس- فوقعت عينه على صلعة رجل- فقال أيها الناس إن هذا الأصلع قد منعني الكلام- اللهم فالعن هذه الصلعة- فأنزلوه- و قالوا لوازع اليشكري قم إلى المنبر فتكلم- فلما صعد و رأى الناس قال أيها الناس- إني كنت اليوم كارها لحضور الجمعة- و لكن امرأتي حملتني على إتيانها- و أنا أشهدكم أنها طالق ثلاثا- فأنزلوه- فقال زياد لعبد الله بن عامر- كيف رأيت قم الآن فاخطب الناس- .

و قال سهل بن هارون- دخل قطرب النحوي على المخلوع فقال- يا أمير المؤمنين كانت عدتك أرفع من جائزتك- و هو يتبسم- فاغتاظ الفضل بن الربيع- فقلت له إن هذا من الحصر و الضعف- و ليس من الجلد و القوة- أما تراه يفتل أصابعه و يرشح جبينه- . و دخل معبد بن طوق العنبري على بعض الأمراء- فتكلم و هو قائم فأحسن- فلما جلس تلهيع في كلامه- فقال له ما أظرفك قائما و أموقك قاعدا- قال إني إذا قمت جددت و إذا قعدت هزلت- فقال ما أحسن ما خرجت منها- . و كان عمرو بن الأهتم المنقري- و الزبرقان بن بدر عند رسول الله ص- فسأل ع عمرا عن الزبرقان فقال- يا رسول الله إنه لمانع لحوزته مطاع في أدانيه- فقال الزبرقان حسدني يا رسول الله- فقال عمرو يا رسول الله إنه لزمر المروءة- ضيق العطن لئيم الخال- فنظر رسول الله ص إلى وجه عمرو- فقال يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت- و غضبت فقلت أقبح ما علمت- و ما كذبت في الأولى و لقد صدقت في الأخرى- فقال ع إن من البيان لسحرا – .

و قال خالد بن صفوان- ما الإنسان لو لا اللسان- إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة-و قال ابن أبي الزناد- كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز- فكان يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب- في المظالم فيراجعه- فكتب إليه إنه يخيل إلي أني لو كتبت إليك- أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلي- أ ضأنا أم معزا- فإذا كتبت إليك بأحدهما- كتبت إلي أ ذكرا أم أنثى- و إذا كتبت إليك بأحدهما- كتبت إلي صغيرا أم كبيرا- فإذا كتبت إليك في مظلمة- فلا تراجعني و السلام- . و أخذ المنصور هذا- فكتب إلى سلم بن قتيبة عامله بالبصرة- يأمره بهدم دور من خرج- مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن و عقر نخلهم- فكتب إليه بأيهما أبدأ بالدور أم بالنخل- يا أمير المؤمنين فكتب إليه- لو قلت لك بالنخل لكتبت إلي بما ذا أبدأ- بالشهريز أم بالبرني- و عزله و ولى محمد بن سليمان- .

و خطب عبد الله بن عامر مرة فأرتج عليه- و كان ذلك اليوم يوم الأضحى فقال- لا أجمع عليكم عيا و لؤما- من أخذ شاة من السوق فهي له و ثمنها علي- . و خطب السفاح أول يوم صعد فيه المنبر فأرتج عليه- فقام عمه داود بن علي فقال- أيها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فيكم فعله- و لأثر الأفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال- و حسبكم كتاب الله علما فيكم- و ابن عم رسول الله ص خليفة عليكم- . قال الشاعر-

و ما خير من لا ينفع الدهر عيشه
و إن مات لم يحزن عليه أقاربه‏

كهام على الأقصى كليل لسانه‏
و في بشر الأدنى حديد مخالبه‏

 و قال أحيحة بن الجلاح-

و الصمت أجمل بالفتى
ما لم يكن عي يشينه‏

و القول ذو خطل إذا
ما لم يكن لب يزينه‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 227 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

227 و من كلام له ع كلم به عبد الله بن زمعة

و هو من شيعته- و ذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا- فَقَالَ ع: إِنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ لِي وَ لَا لَكَ- وَ إِنَّمَا هُوَ فَيْ‏ءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَ جَلْبُ أَسْيَافِهِمْ- فَإِنْ شَرِكْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ كَانَ لَكَ مِثْلُ حَظِّهِمْ- وَ إِلَّا فَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ لَا تَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِمْ

عبد الله بن زمعة و نسبه

هو عبد الله بن زمعة بفتح الميم لا كما ذكره الراوندي- و هو عبد الله بن زمعة بن الأسود- بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي- . كان الأسود من المستهزءين- الذين كفى الله رسوله أمرهم بالموت و القتل- و ابنه زمعة بن الأسود قتل يوم بدر كافرا- و كان يدعى زاد الركب و قتل أخوه عقيل بن الأسود- أيضا كافرا يوم بدر- و قتل الحارث بن زمعة أيضا يوم بدر كافرا- و الأسود هو الذي سمع امرأة- تبكي على بعير تضله بمكة بعد يوم بدر فقال-

أ تبكي أن يضل لها بعير
و يمنعها من النوم الهجود

و لا تبكي على بدر و لكن
على بدر تقاصرت الجدود

ألا قد ساد بعدهم أناس‏
و لو لا يوم بدر لم يسودوا

و كان عبد الله بن زمعة شيعة لعلي ع و من أصحابه- و من ولد عبد الله هذا أبو البختري القاضي- و هو وهب بن وهب بن كبير بن عبد الله بن زمعة- قاضي الرشيد هارون بن محمد المهدي- و كان منحرفا عن علي ع- و هو الذي أفتى الرشيد ببطلان الأمان الذي كتبه- ليحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن- بن علي بن أبي طالب ع و أخذه بيده فمزقه- . و قال أمية بن أبي الصلت يرثي قتلى بدر- و يذكر زمعة بن الأسود-

عين بكي لنوفل و لعمرو
ثم لا تبخلي على زمعه‏

نوفل بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى- و يعرف بابن العدوية- قتله علي ع- و عمرو أبو جهل بن هشام قتله عوف بن عفراء- و أجهز عليه عبد الله بن مسعود قوله ع و جلب أسيافهم- أي ما جلبته أسيافهم و ساقته إليهم- و الجلب المال المجلوب- و جناة الثمر ما يجنى منه و هذه استعارة فصيحة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 226 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

226 و من خطبة له ع خطبها بذي قار- و هو متوجه إلى البصرة

– ذكرها الواقدي في كتاب الجمل- : فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَ بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ- فَلَمَّ اللَّهُ بِهِ الصَّدْعَ وَ رَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ- وَ أَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ- بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ فِي الصُّدُورِ- وَ الضَّغَائِنِ الْقَادِحَةِ فِي الْقُلُوبِ ذو قار اسم موضع قريب من البصرة- و فيه كانت وقعة للعرب مع الفرس قبل الإسلام- . و صدع بما أمر به أي جهر و أصل الصدع الشق- . و لم به جمع و رتق خاط و ألحم- . و العداوة الواغرة ذات الوغرة و هي شدة الحر- . و الضغائن الأحقاد- . و القادحة في القلوب- كأنها تقدح النار فيها كما تقدح النار بالمقدحة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 225 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

225 و من خطبة له ع

– : فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ- وَ ذَخِيرَةُ مَعَادٍ وَ عِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ- وَ نَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ- وَ يَنْجُو الْهَارِبُ وَ تُنَالُ الرَّغَائِبُ- فَاعْمَلُوا وَ الْعَمَلُ يُرْفَعُ- وَ التَّوْبَةُ تَنْفَعُ وَ الدُّعَاءُ يُسْمَعُ- وَ الْحَالُ هَادِئَةٌ وَ الْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ- وَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ عُمُراً نَاكِساً- أَوْ مَرَضاً حَابِساً أَوْ مَوْتاً خَالِساً- فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ- وَ مُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ وَ مُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ- زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ وَ قِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ- وَ وَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوبٍ- قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ- وَ تَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ وَ أَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ- وَ عَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ وَ تَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ- وَ قَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ- فَيُوشِكُ أَنْ تَغْشَاكُمْ دَوَاجِي ظُلَلِهِ- وَ احْتِدَامُ عِلَلِهِ وَ حَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ- وَ غَوَاشِي سَكَرَاتِهِ وَ أَلِيمُ إِرْهَاقِهِ- وَ دُجُوُّ أَطْبَاقِهِ وَ خُشُونَةُ مَذَاقِهِ- فَكَأَنْ قَدْ أَتَاكُمْ بَغْتَةً فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ- وَ فَرَّقَ نَدِيَّكُمْ وَ عَفَّى آثَارَكُمْ- وَ عَطَّلَ دِيَارَكُمْ وَ بَعَثَ وُرَّاثَكُمْ- يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ بَيْنَ حَمِيمٍ خَاصٍّ لَمْ يَنْفَعْ- وَ قَرِيبٍ مَحْزُونٍ لَمْ يَمْنَعْ- وَ آخَرَ شَامِتٍ لَمْ يَجْزَعْ- فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ وَ الِاجْتِهَادِ وَ التَّأَهُّبِ وَ الِاسْتِعْدَادِ- وَ التَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ- وَ لَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا- كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ- وَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا- وَ أَصَابُوا غِرَّتَهَا وَ أَفْنَوْا عِدَّتَهَا- وَ أَخْلَقُوا جِدَّتَهَاوَ أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً- وَ أَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً لَا يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ- وَ لَا يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ وَ لَا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ- فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ- مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ- لَا يَدُومُ رَخَاؤُهَا- وَ لَا يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا وَ لَا يَرْكُدُ بَلَاؤُهَا عتق من كل ملكة- هو مثل

قوله ع التوبة تجب ما قبلها

– أي كل ذنب موبق يملك الشيطان فاعله و يستحوذ عليه- فإن تقوى الله تعتق منه و تكفر عقابه- و مثله قوله و نجاة من كل هلكة- . قوله ع و العمل ينفع- أي اعملوا في دار التكليف- فإن العمل يوم القيامة غير نافع- . قوله ع و الحال هادئة- أي ساكنة ليس فيها ما في أحوال الموقف- من تلك الحركات الفظيعة- نحو تطاير الصحف و نطق الجوارح- و عنف السياق إلى النار- . قوله ع و الأقلام جارية- يعني أن التكليف باق- و أن الملائكة الحفظة تكتب أعمال العباد- بخلاف يوم القيامة فإنه يبطل ذلك- و يستغنى عن الحفظة لسقوط التكليف- .

قوله عمرا ناكسا يعني الهرم- من قوله تعالى وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ- لرجوع الشيخ الهرم- إلى مثل حال الصبي الصغير في ضعف العقل و البنية-و الموت الخالس المختطف- و الطيات جمع طية بالكسر و هي منزل السفر- و الواتر القاتل و الوتر بالكسر الذحل- . و أعلقتكم حبائله جعلتكم معتلقين فيها- و يروى قد علقتكم بغير همز- . و تكنفتكم غوائله أحاطت بكم دواهيه و مصائبه- و أقصدتكم أصابتكم- .

و المعابل نصال عراض الواحدة معبلة بالكسر- . و عدوته بالفتح ظلمه- و نبوته مصدر نبا السيف- إذا لم يؤثر في الضريبة- . و يوشك بالكسر يقرب و تغشاكم تحيط بكم- . و الدواجي الظلم الواحدة داجية- و الظلل جمع ظلة و هي السحاب- و الاحتدام الاضطرام و الحنادس الظلمات- . و إرهاقه مصدر أرهقته أي أعجلته- و يروى إزهاقه بالزاي- . و الأطباق جمع طبق و هذا من باب الاستعارة- أي تكاثف ظلماتها طبق فوق طبق- . و يروى و جشوبة مذاقه بالجيم و الباء و هي غلظ الطعام- . و النجي القوم يتناجون- و الندي القوم يجتمعون في النادي- . و احتلبوا درتها فازوا بمنافعها كما يحتلب الإنسان اللبن- . و هذه الخطبة من محاسن خطبه ع- و فيها من صناعة البديع ما هو ظاهر للمتأمل:

مِنْهَا فِي صِفَةِ الزُّهَّادِ- كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا- فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا-عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ- وَ بَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ- تَقَلُّبُ أَبْدَانِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الآْخِرَةِ- وَ يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ- وَ هُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ بين ظهراني أهل الآخرة بفتح النون- و لا يجوز كسرها و يجوز بين ظهري أهل الآخرة لو روي- و المعنى في وسطهم- . قوله ع- كانوا قوما من أهل الدنيا و ليسوا من أهلها- أي هم من أهلها في ظاهر الأمر و في مرأى العين- و ليسوا من أهلها- لأنه لا رغبة عندهم في ملاذها و نعيمها- فكأنهم خارجون عنها- . قوله عملوا فيها بما يبصرون- أي بما يرونه أصلح لهم- و يجوز أن يريد أنهم لشدة اجتهادهم قد أبصروا المآل- فعملوا فيها على حسب ما يشاهدونه من دار الجزاء- و هذا كقوله ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا – .

قوله ع و بادروا فيها ما يحذرون- أي سابقوه يعني الموت- . قوله ع تقلب أبدانهم- هذا محمول تارة على الحقيقة و تارة على المجاز- أما الأول فلأنهم لا يخالطون إلا أهل الدين- و لا يجالسون أهل الدنيا- و أما الثاني فلأنهم لما استحقوا الثواب- كان الاستحقاق بمنزلة وصولهم إليه- فأبدانهم تتقلب بين ظهراني أهل الآخرة- أي بين ظهراني قوم هم بمنزلة أهل الآخرة- لأن المستحق للشي‏ء نظير لمن فعل به ذلك الشي‏ء- . ثم قال هؤلاء الزهاد يرون أهل الدنيا- إنما يستعظمون موت الأبدان- و هم أشد استعظاما لموت القلوب- و قد تقدم من كلامنا- في صفات الزهاد و العارفين ما فيه كفاية

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج13

خطبه 224 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

الجزء الثالث عشر

تتمة باب الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل

224 و من كلام له ع في وصف بيعته بالخلافة

– و قد تقدم مثله بألفاظ مختلفة- : وَ بَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا وَ مَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا- ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ الْإِبِلِ الْهِيمِ- عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا- حَتَّى انْقَطَعَتِ النَّعْلُ- وَ سَقَطَ الرِّدَاءُ وَ وُطِئَ الضَّعِيفُ- وَ بَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ- أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِيرُ وَ هَدَجَ إِلَيْهَا الْكَبِيرُ- وَ تَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِيلُ وَ حَسَرَتْ إِلَيْهَا الْكِعَابُ التداك الازدحام الشديد و الإبل الهيم العطاش- . و هدج إليها الكبير مشى مشيا ضعيفا مرتعشا- و المضارع يهدج بالكسر- . و تحامل نحوها العليل تكلف المشي على مشقة- .

و حسرت إليها الكعاب- كشفت عن وجهها حرصا على حضور البيعة- و الكعاب الجارية التي قد نهد ثديها- كعبت تكعب بالضم- . قوله حتى انقطع النعل و سقط الرداء- شبيه بقوله في الخطبة الشقشقية حتى لقد وطئ الحسنان و شق عطفاي – . و قد تقدم ذكر بيعته ع- بعد قتل عثمان و إطباق الناس عليها- و كيفية الحال فيها و شرح شرحا يستغنى عن إعادته

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 13

خطبه 223 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( اول)

الجزء الثاني عشر

تتمة باب الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل

223 و من كلام له ع

لِلَّهِ بِلَادُ فُلَانٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ الْأَوَدَ وَ دَاوَى الْعَمَدَ- وَ أَقَامَ السُّنَّةَ وَ خَلَّفَ الْفِتْنَةَ- ذَهَبَ نَقِيُّ الثَّوْبِ قَلِيلَ الْعَيْبِ- أَصَابَ خَيْرَهَا وَ سَبَقَ شَرَّهَا- . أَدَّى إِلَى اللَّهِ طَاعَتَهُ وَ اتَّقَاهُ بِحَقِّهِ- رَحَلَ وَ تَرَكَهُمْ فِي طُرُقِ مُتَشَعِّبَةٍ- لَا يَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ وَ لَا يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي العرب تقول لله بلاد فلان- و لله در فلان و لله نادي فلان- و لله نائح فلان- و المراد بالأول لله البلاد التي أنشأته و أنبتته- و بالثاني لله الثدي الذي أرضعه- و بالثالث لله المجلس الذي ربي فيه- و بالرابع لله النائحة التي تنوح عليه و تندبه- ما ذا تعهد من محاسنه- .

و يروى لله بلاء فلان أي لله ما صنع- و فلان المكنى عنه عمر بن الخطاب- و قد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن- جامع نهج البلاغة- و تحت فلان عمر-حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر- و سألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي- فقال لي هو عمر- فقلت له أ يثني عليه أمير المؤمنين ع هذا الثناء- فقال نعم- أما الإمامية فيقولون إن ذلك من التقية- و استصلاح أصحابه- و أما الصالحيون من الزيدية فيقولون- إنه أثنى عليه حق الثناء- و لم يضع المدح إلا في موضعه و نصابه- و أما الجارودية من الزيدية فيقولون- إنه كلام قاله في أمر عثمان أخرجه مخرج الذم له- و التنقص لأعماله- كما يمدح الآن الأمير الميت في أيام الأمير الحي بعده- فيكون ذلك تعريضا به- .

فقلت له إلا أنه لا يجوز التعريض- و الاستزادة للحاضر بمدح الماضي- إلا إذا كان ذلك المدح صدقا- لا يخالطه ريب و لا شبهة- فإذا اعترف أمير المؤمنين بأنه أقام السنة- و ذهب نقي الثوب قليل العيب- و أنه أدى إلى الله طاعته و اتقاه بحقه- فهذا غاية ما يكون من المدح- و فيه إبطال قول من طعن على عثمان بن عفان- . فلم يجبني بشي‏ء و قال هو ما قلت لك- .

فأما الراوندي فإنه قال في الشرح- إنه ع مدح بعض أصحابه بحسن السيرة- و إن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله ص- من الاختيار و الأثرة- . و هذا بعيد لأن لفظ أمير المؤمنين يشعر إشعارا ظاهرا- بأنه يمدح واليا ذا رعية و سيرة- أ لا تراه كيف يقول- فلقد قوم الأود و داوى العمد- و أقام السنة و خلف الفتنة- و كيف يقول أصاب خيرها و سبق شرها- و كيف يقول أدى إلى الله طاعته- و كيف يقول رحل و تركهم في طرق متشعبة- .

و هذا الضمير و هو الهاء و الميم في قوله ع و تركهم- هل يصح أن يعود إلا إلى الرعايا- و هل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقة من عرض الناس- و كل من مات قبل وفاة النبي ص كان سوقة لا سلطان له- فلا يصح أن يحمل هذا الكلام- على إرادة أحد من الذين قتلوا- أو ماتوا قبل وفاة النبي ص- كعثمان بن مظعون أو مصعب بن عمير- أو حمزة بن عبد المطلب أو عبيدة بن الحارث- و غيرهم من الناس- و التأويلات الباردة الغثة لا تعجبني- على أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري قد صرح أو كاد يصرح- بأن المعني بهذا الكلام عمر- قال الطبري لما مات عمر بكته النساء- فقالت إحدى نوادبه وا حزناه على عمر- حزنا انتشر حتى ملأ البشر- و قالت ابنة أبي حثمة وا عمراه أقام الأود و أبرأ العمد- و أمات الفتن و أحيا السنن- خرج نقي الثوب بريئا من العيب- .

قال الطبري فروى صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة قال لما دفن عمر أتيت عليا ع- و أنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئا- فخرج ينفض رأسه و لحيته و قد اغتسل- و هو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير إليه- فقال رحم الله ابن الخطاب لقد صدقت ابنة أبي حثمة- ذهب بخيرها و نجا من شرها- أما و الله ما قالت و لكن قولت – . و هذا كما ترى يقوي الظن- أن المراد و المعني بالكلام إنما هو عمر بن الخطاب- .

قوله فلقد قوم الأود أي العوج- أود الشي‏ء بالكسر يأود أودا أي أعوج- و تأود العود يتأود- . و العمد انفضاخ سنام البعير- و منه يقال للعاشق عميد القلب و معموده- . قوله أصاب خيرها أي خير الولاية- و جاء بضميرها و لم يجر ذكرها- لعادة العرب في أمثال ذلك- كقوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ- . و سبق شرها أي مات أو قتل قبل الأحداث- و الاختلاط الذي جرى بين المسلمين- . قوله و اتقاه بحقه أي بأداء حقه و القيام به- . فإن قلت و أي معنى في قوله و اتقاه بأداء حقه- و هل يتقى الإنسان الله بأداء الحق- إنما قد تكون التقوى علة في أداء الحق- فأما أن يتقي بأدائه فهو غير معقول- . قلت أراد ع أنه اتقى الله- و دلنا على أنه اتقى الله بأدائه حقه- فأداء الحق علة في علمنا بأنه قد اتقى الله سبحانه- .

ثم ذكر أنه رحل و ترك الناس في طرق متشعبة متفرقة- فالضال لا يهتدي فيها- و المهتدي لا يعلم أنه على المنهج القويم- و هذه الصفات إذا تأملها المنصف- و أماط عن نفسه الهوى- علم أن أمير المؤمنين ع لم يعن بها إلا عمر- لو لم يكن قد روي لنا توقيفا و نقلا أن المعني بها عمر- فكيف و قد رويناه عمن لا يتهم في هذا الباب نكت من كلام عمر و سيرته و أخلاقه و نحن نذكر في هذا الموضع- نكتا من كلام عمر و سيرته و أخلاقه- .

أتي عمر بمال فقال له عبد الرحمن بن عوف- يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال في بيت المال- لنائبة تكون أو أمر يحدث- فقال كلمة ما عرض بها إلا شيطان- كفاني حجتها و وقاني فتنتها- أعصي الله العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله- قال الله سبحانه- وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً- وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ- . استكتب أبو موسى الأشعري نصرانيا- فكتب إليه عمر اعزله و استعمل بدله حنيفيا- فكتب له أبو موسى- إن من غنائه و خيره و خبرته كيت و كيت- فكتب له عمر ليس لنا أن نأتمنهم و قد خونهم الله- و لا أن نرفعهم و قد وضعهم الله- و لا أن نستنصحهم في الدين و قد وترهم الإسلام- و لا أن نعزهم- و قد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون- . فكتب أبو موسى أن البلد لا يصلح إلا به- فكتب إليه عمر مات النصراني و السلام- .

و كتب إلى معاوية إياك و الاحتجاب دون الناس- و ائذن للضعيف و أدنه حتى ينبسط لسانه و يجترئ قلبه- و تعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه و دام إذنه- ضعف قلبه و ترك حقه عزل عمر زيادا عن كتابة أبي موسى الأشعري- في بعض قدماته عليه- فقال له عن عجز أم عن خيانة- فقال لا عن واحدة منهما- و لكني أكره أن أحمل على العامة فضل عقلك- .

و قال إني و الله لا أدع حقا لله لشكاية تظهر- و لا لضب يحتمل و لا محاباة لبشر- و إنك و الله ما عاقبت من عصى الله فيك- بمثل أن تطيع الله فيه- . و كتب إلى سعد بن أبي وقاص- يا سعد سعد بني أهيب- إن الله إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه- فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس- و اعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك- . و سأل رجلا عن شي‏ء فقال الله أعلم- فقال قد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم- إذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل لا أدري- .

و قال عبد الملك على المنبر- أنصفونا يا معشر الرعية- تريدون منا سيرة أبي بكر و عمر- و لم تسيروا في أنفسكم و لا فينا سيرة أبي بكر و عمر- نسأل الله أن يعين كلا على كل- . و دخل عمر على ابنه عبد الله- فوجد عنده لحما عبيطا معلقا- فقال ما هذا اللحم قال اشتهيت فاشتريت- فقال أ و كلما اشتهيت شيئا أكلته- كفى بالمرء سرفا أن أكل كل ما اشتهاه- . مر عمر على مزبلة فتأذى بريحها أصحابه- فقال هذه دنياكم التي تحرصون عليها- .

و من كلامه للأحنف- يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته- و من مزح استخف به- و من أكثر من شي‏ء عرف به- و من كثر كلامه كثر سقطه- و من كثر سقطه قل حياؤه- و من قل حياؤه قل ورعه و من قل ورعه مات قلبه- . و قال لابنه عبد الله يا بني اتق الله يقك- و أقرض الله يجزك و اشكره يزدك- و اعلم أنه لا مال لمن لا رفق له- و لا جديد لمن لا خلق له و لا عمل لمن لا نية له- . و خطب يوم استخلف- فقال أيها الناس- إنه ليس فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف- حتى آخذ الحق له- و لا أضعف من القوي حتى آخذ الحق منه- .

و قال لابن عباس يا عبد الله- أنتم أهل رسول الله و آله و بنو عمه- فما تقول منع قومكم منكم- قال لا أدري علتها و الله ما أضمرنا لهم إلا خيرا- قال اللهم غفرا- إن قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوة و الخلافة- فتذهبوا في السماء شمخا و بذخا- و لعلكم تقولون إن أبا بكر أول من أخركم- أما إنه لم يقصد ذلك- و لكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما فعل- و لو لا رأي أبي بكر في لجعل لكم من الأمر نصيبا- و لو فعل ما هنأكم مع قومكم- إنهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره- . و كان يقول ليت شعري متى أشفى من غيظي- أ حين أقدر فيقال لي لو عفوت- أم حين أعجل فيقال لو صبرت- . و رأى أعرابيا يصلي صلاة خفيفة- فلما قضاها قال اللهم زوجني الحور العين- فقال له لقد أسأت النقد و أعظمت الخطبة- .

و قيل له كان الناس في الجاهلية- يدعون على من ظلمهم فيستجاب لهم- و لسنا نرى‏ ذلك الآن- قال لأن ذلك كان الحاجز بينهم و بين الظلم- و أما الآن فالساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر- . و من كلامه- من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن- و من كتم سره كانت الخيرة بيده- . ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك- و لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم شرا- و أنت تجد لها في الخير محملا- أو عليك بإخوان الصدق و كيس أكياسهم- فإنهم زينة في الرخاء و عدة عند البلاء- و لا تتهاونن بالخلق فيهينك الله- و لا تعترض بما لا يعنيك- و اعتزل عدوك و تحفظ من خليلك إلا الأمين- فإن الأمين من الناس لا يعادله شي‏ء- و لا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره و لا تفش إليه سرك- و استشر في أمرك أهل التقوى- و كفى بك عيبا أن يبدو لك من أخيك- ما يخفى عليك من نفسك- و أن تؤذي جليسك بما تأتي مثله- .

و قال ثلاث يصفين لك الود في قلب أخيك- أن تبدأه بالسلام إذا لقيته- و أن تدعوه بأحب أسمائه إليه- و أن توسع له في المجلس- . و قال أحب أن يكون الرجل في أهله كالصبي- و إذا أصيخ إليه كان رجلا- . بينا عمر ذات يوم إذا رأى شابا يخطر بيديه- فيقول أنا ابن بطحاء مكة كديها و كداها- فناداه عمر فجاء فقال إن يكن لك دين فلك كرم- و إن يكن لك عقل فلك مروءة- و إن يكن لك مال فلك شرف- و إلا فأنت و الحمار سواء- .

و قال يا معشر المهاجرين- لا تكثروا الدخول على أهل الدنيا- و أرباب الإمرة و الولاية- فإنه مسخطة للرب- و إياكم و البطنة فإنها مكسلة عن الصلاة- و مفسدة للجسد مورثة للسقم- و إن الله يبغض الحبر السمين- و لكن عليكم بالقصد في قوتكم- فإنه أدنى من الإصلاح و أبعد من السرف- و أقوى على عبادة الله- و لن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه- . و قال تعلموا أن الطمع فقر و أن اليأس غنى- و من يئس من شي‏ء استغنى عنه- و التؤدة في كل شي‏ء خير إلا ما كان من أمر الآخرة- . و قال من اتقى الله لم يشف الله غيظه- و من خاف الله لم يفعل ما يريد- و لو لا يوم القيامة لكان غير ما ترون- . و قال إني لأعلم أجود الناس و أحلم الناس- أجودهم من أعطى من حرمه- و أحلمهم من عفا عمن ظلمه- . و كتب إلى ساكني الأمصار- أما بعد فعلموا أولادكم العوم و الفروسية- رووهم ما سار من المثل و حسن من الشعر- .

و قال لا تزال العرب أعزة ما نزعت في القوس- و نزت في ظهور الخيل- و قال و هو يذكر النساء- أكثروا لهن من قول لا- فإن نعم مفسدة تغريهن على المسألة- . و قال ما بال أحدكم يثني الوسادة عند امرأة معزبة- إن المرأة لحم على وضم إلا ما ذب عنه- .

و كتب إلى أبي موسى أما بعد- فإن للناس نفرة عن سلطانهم- فأعوذ بالله أن يدركني و إياك عمياء مجهولة- و ضغائن محمولة و أهواء متبعة و دنيا مؤثرة- أقم الحدود و اجلس للمظالم و لو ساعة من نهار- و إذا عرض لك أمران أحدهما لله و الآخر للدنيا- فابدأ بعمل الآخرة فإن الدنيا تفنى و الآخرة تبقى- و كن من مال الله عز و جل على حذر- و اجف الفساق و اجعلهم يدا و يدا و رجلا و رجلا- و إذا كانت بين القبائل نائرة يا لفلان يا لفلان- فإنما تلك نجوى الشيطان- فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله- و تكون دعواهم إلى الله و إلى الإسلام- و قد بلغني أن ضبة تدعو يا لضبة- و إني و الله أعلم أن ضبة ما ساق الله بها خيرا قط- و لا منع بها من سوء قط- فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكهم ضربا و عقوبة- حتى يفرقوا إن لم يفقهوا- و الصق بغيلان بن خرشة من بينهم- و عد مرضى المسلمين و اشهد جنائزهم- و افتح لهم بابك و باشر أمورهم بنفسك- فإنما أنت رجل منهم غير إن الله قد جعلك أثقلهم حملا- و قد بلغني أنه فشا لك و لأهل بيتك هيئة في لباسك و مطعمك- و مركبك ليس للمسلمين مثلها- فإياك يا عبد الله بن قيس أن تكون بمنزلة البهيمة- التي مرت بواد خصيب- فلم يكن لها همة إلا السمن- و إنما حظها من السمن لغيرها-

و اعلم أن للعامل مردا إلى الله- فإذا زاغ العامل زاغت رعيته- و إن أشقى الناس من شقيت به نفسه و رعيته و السلام و خطب عمر فقال أما بعد- فإني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى و يفنى ما سواه- و الذي بطاعته ينفع أولياءه و بمعصيته يضر أعداءه- إنه ليس لهالك هلك عذر في تعمد ضلالة حسبها هدى- و لا ترك حق حسبه ضلالة- قد ثبتت الحجة و وضحت الطرق- و انقطع العذر و لا حجة لأحد على الله عز و جل- ألا إن أحق ما تعاهد به الراعيرعيته- أن يتعاهدهم بالذي لله تعالى عليهم في وظائف دينهم- الذي هداهم به- و إنما علينا أن نأمركم بالذي أمركم الله به من طاعته- و ننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته- و أن نقيم أمر الله في قريب الناس و بعيدهم- و لا نبالى على من قال الحق- ليتعلم الجاهل و يتعظ المفرط و يقتدي المقتدي- و قد علمت أن أقواما يتمنون في أنفسهم- و يقولون نحن نصلي مع المصلين- و نجاهد مع المجاهدين- إلا أن الإيمان ليس بالتمني و لكنه بالحقائق- إلا من قام على الفرائض و سدد نيته و اتقى الله- فذلكم الناجي- و من زاد اجتهادا وجد عند الله مزيدا- .

و إنما المجاهدون الذين جاهدوا أهواءهم- و الجهاد اجتناب المحارم- ألا إن الأمر جد- و قد يقاتل أقوام لا يريدون إلا الذكر- و قد يقاتل أقوام لا يريدون إلا الأجر- و إن الله يرضى منكم باليسير- و أثابكم على اليسير الكثير- . الوظائف الوظائف أدوها تؤدكم إلى الجنة- و السنة السنة الزموها تنجكم من البدعة- . تعلموا و لا تعجزوا فإن من عجز تكلف- و إن شرار الأمور محدثاتها- و إن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في الضلالة- فافهموا ما توعظون به- فإن الحريب من حرب دينه- و إن السعيد من وعظ بغيره- .

و قال و عليكم بالسمع و الطاعة فإن الله قضى لهما بالعزة- و إياكم و التفرق و المعصية فإن الله قضى لهما بالذلة- . أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم لي و لكم- . بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر- قباء كسرى و سيفه و منطقته-و سراويله و تاجه و قميصه و خفيه- فنظر عمر في وجوه القوم عنده- فكان أجسمهم و أمدهم قامة- سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي- فقال يا سراق قم فالبس- قال سراقة طمعت فيه فقمت فلبست- فقال أدبر فأدبرت و قال أقبل فأقبلت- فقال بخ بخ أعرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى- و سراويله و سيفه و منطقته و تاجه و خفاه- رب يوم يا سراق لو كان فيه دون هذا- من متاع كسرى و آل كسرى- لكان شرفا لك و لقومك- انزع فنزعت- فقال اللهم إنك منعت هذا نبيك و رسولك- و كان أحب إليك مني و أكرم- و منعته أبا بكر و كان أحب إليك مني و أكرم- ثم أعطيتنيه- فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي- ثم بكى حتى رحمه من كان عنده- .

و قال لعبد الرحمن بن عوف- أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي- فما أدركه المساء إلا و قد بيع و قسم ثمنه على المسلمين- . جي‏ء بتاج كسرى إلى عمر فاستعظم الناس قيمته- للجواهر التي كانت عليه- فقال إن قوما أدوا هذا لأمناء- فقال علي ع إنك عففت فعفوا و لو رتعت لرتعوا- . كان عمر يعس ليلا فنزلت رفقة من التجار بالمصلى- فقال لعبد الرحمن بن عوف- هل لك أن تحرسهم الليلة من السرق- فباتا يحرسانهم و يصليان ما كتب الله لهما- فسمع عمر بكاء صبي فأصغى نحوه- فطال بكاؤه فتوجه إليه- فقال لأمه اتقي الله و أحسني إلى صبيك- ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى أمه- فقال لها مثل ذلك ثم عاد إلى مكانه- فسمع بكاءه فأتى أمه فقال ويحك إني لأراك أم سوء- لا أرى ابنك يقر منذ الليلة- فقالت يا عبد الله لقد آذيتني منذ الليلة- إني أريغه‏ على الفطام فيأبى-

قال و لم قالت لأن عمر لا يفرض لرضيع- و إنما يفرض للفطيم- قال و كم له قالت اثنا عشر شهرا- قال ويحك لا تعجليه- فصلى الفجر و ما يستبين الناس قراءته- من غلبة البكاء عليه- فلما سلم قال يا بؤسا لعمركم- كم قتل من أولاد المسلمين- فطلب مناديا فنادى ألا لا تعجلوا صبيانكم عن الرضاع- و لا تفطموا قبل أوان الفطام- فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام- . و كتب بذلك إلى سائر الآفاق- . مر عمر بشاب من الأنصار و هو ظمآن- فاستسقاه فخاض له عسلا- فرده و لم يشرب و قال إني سمعت الله سبحانه يقول- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها- فقال الفتى إنها و الله ليست لك- فاقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها- وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا- أ فنحن منهم فشرب و قال كل الناس أفقه من عمر- .

و أوصى عمر حين طعنه أبو لؤلؤة- من يستخلفه المسلمون بعده من أهل الشورى- فقال أوصيك بتقوى الله لا شريك له- و أوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا- أن تعرف لهم سابقتهم و أوصيك بالأنصار خيرا- أقبل من محسنهم و تجاوز عن مسيئهم- و أوصيك بأهل الأمصار خيرا- فإنهم ردء العدو و جباة الفي‏ء- لا تحمل فيئهم إلى غيرهم إلا عن فضل منهم- و أوصيك بأهل البادية خيرا- فإنهم أصل العرب و مادة الإسلام- أن يؤخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم- و أوصيك بأهل الذمة خيرا- أن تقاتل‏ من ورائهم و لا تكلفهم فوق طاقتهم- إذا أدوا ما عليهم للمسلمين طوعا أو عن يد و هم صاغرون- .

و أوصيك بتقوى الله- و شدة الحذر منه و مخافة مقته- أن يطلع منك على ريبة- و أوصيك أن تخشى الله في الناس- و لا تخشى الناس في الله- و أوصيك بالعدل في الرعية- و التفرغ لحوائجهم و ثغورهم- و ألا تعين غنيهم على فقيرهم- فإن في ذلك بإذن الله سلامة لقلبك- و حطا لذنوبك و خيرا في عاقبة أمرك- و أوصيك أن تشتد في أمر الله و في حدوده- و الزجر عن معاصيه على قريب الناس و بعيدهم- و لا تأخذك الرأفة و الرحمة في أحد منهم- حتى تنتهك منه مثل جرمه- و اجعل الناس عندك سواء- لا تبال على من وجب الحق- لا تأخذك في الله لومة لائم- و إياك و الأثرة و المحاباة فيما ولاك الله- مما أفاء الله على المسلمين- فتجور و تظلم- و تحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك- فإنك في منزلة من منازل الدنيا- و أنت إلى الآخرة جد قريب- فإن صدقت في دنياك عفة و عدلا فيما بسط لك- اقترفت رضوانا و إيمانا- و إن غلبك الهوى اقترفت فيه سخط الله و مقته- .

و أوصيك ألا ترخص لنفسك و لا لغيرك في ظلم أهل الذمة- . و اعلم أني قد أوصيتك و خصصتك و نصحت لك- أبتغي بذلك وجه الله و الدار الآخرة- و دللتك على ما كنت دالا عليه نفسي- فإن عملت بالذي وعظتك و انتهيت إلى الذي أمرتك- أخذت منه نصيبا وافرا و حظا وافيا- و إن لم تقبل ذلك و لم تعمل- و لم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضي الله به سبحانه عنك- يكن ذاك بك انتقاصا و يكن رأيك فيه مدخولا- فالأهواء مشتركة- و رأس الخطيئة إبليس الداعي إلى كل هلكة- قد أضل القرون السالفة قبلك و أوردهم النار- و لبئس الثمن أن يكون حظ امرئ من دنياه- موالاة عدو الله الداعي إلى معاصيه اركب الحق و خض إليه الغمرات- و كن واعظا لنفسك- .

و أنشدك لما ترحمت إلى جماعة المسلمين- و أجللت كبيرهم و رحمت صغيرهم- و قربت عالمهم- لا تضربهم فيذلوا و لا تستأثر عليهم بالفي‏ء فتغضبهم- و لا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم- و لا تجمرهم في البعوث فتقطع نسلهم- و لا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم- و لا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم- . هذه وصيتي إياك و أشهد الله عليك- و أقرأ عليك السلام و الله على كل شي‏ء شهيد- . و خطب عمر فقال- لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها- صداق زوجات رسول الله ص- إلا ارتجعت ذلك منها- فقامت إليه امرأة- فقالت و الله ما جعل الله ذلك لك إنه تعالى يقول- وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً- فقال عمر أ لا تعجبون من إمام أخطأ- و امرأة أصابت ناضلت إمامكم فنضلته- .

و كان يعس ليلة فمر بدار سمع فيها صوتا- فارتاب و تسور فرأى رجلا عند امرأة و زق خمر- فقال يا عدو الله- أ ظننت أن الله يسترك و أنت على معصيته- فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين- إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث- قال الله تعالى- وَ لا تَجَسَّسُوا و قد تجسست- و قال وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهاو قد تسورت- و قال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلمت- فقال هل عندك من خير إن عفوت عنك- قال نعم و الله لا أعود- فقال اذهب فقد عفوت عنك- . و خطب يوما- فقال أيها الناس ما الجزع مما لا بد منه- و ما الطمع فيما لا يرجى و ما الحيلة فيما سيزول- و إنما الشي‏ء من أصله- و قد مضت قبلكم الأصول و نحن فروعها- فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله- .

إنما الناس في هذه الدنيا أغراض- تنتبل فيهم المنايا نصب المصائب- في كل جرعة شرق و في كل أكلة غصص- لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى- و لا يستقبل معمر من عمره يوما- إلا بهدم آخر من أجله- و هم أعوان الحتوف على أنفسهم- فأين المهرب مما هو كائن- ما أصغر المصيبة اليوم مع عظم الفائدة غدا- و ما أعظم خيبة الخائب و خسران الخاسر- يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ- . و أكثر الناس روى هذا الكلام لعلي ع- و قد ذكره صاحب نهج البلاغة و شرحناه فيما سبق- . حمل من العراق إلى عمر مال فخرج هو و مولى له- فنظر إلى الإبل فاستكثرها- فجعل يقول الحمد لله يكررها و يرددها- و جعل مولاه يقول هذا من فضل الله و رحمته- و يكررها و يرددها- .

فقال عمر كذبت لا أم لك- أظنك ذهبت إلى أن هذا هو ما عناه سبحانه-بقوله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا- و إنما ذلك الهدى- أ ما تسمعه يقول هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ- و هذا مما يجمعون- . و روى الأحنف بن قيس- قال قدمنا على عمر بفتح عظيم نبشره به- فقال أين نزلتم قلنا في مكان كذا- فقام معنا حتى انتهينا إلى مناخ ركابنا- و قد أضعفها الكلال و جهدها السير- فقال هلا اتقيتم الله في ركابكم هذه- أ ما علمتم أن لها عليكم حقا هلا احترموها- هلا حللتم بها فأكلت من نبات الأرض- فقلنا يا أمير المؤمنين إنا قدمنا بفتح عظيم- فأحببنا التسرع إليك و إلى المسلمين بما يسرهم- .

فانصرف راجعا و نحن معه- فأتى رجل فقال يا أمير المؤمنين إن فلانا ظلمني- فأعدني عليه فرفع في السماء درته- و ضرب بها رأسه- و قال تدعون عمر و هو معرض لكم- حتى إذا شغل في أمر المسلمين أتيتموه أعدني أعدني- فانصرف الرجل يتذمر- فقال عمر علي بالرجل فجي‏ء به فألقى إليه المخفقة- فقال اقتص قال بل أدعه لله و لك- قال ليس كذلك بل تدعه إما لله و إرادة ما عنده- و إما تدعه لي- قال أدعه لله قال انصرف- ثم جاء حتى دخل منزله و نحن معه- فصلى ركعتين خفيفتين- ثم جلس فقال يا ابن الخطاب- كنت وضيعا فرفعك الله- و كنت ضالا فهداك الله- و كنت ذليلا فأعزك الله- ثم حملك على رقاب الناس- فجاء رجل يستعديك على من ظلمه فضربته- ما ذا تقول لربك غدا- فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه من خير أهل الأرض- .

و ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث- أن رجلا أتى عمر يسأله و يشكو إليه الفقر- فقال هلكت يا أمير المؤمنين- فقال أ هلكت و أنت تنث نثيث الحميت أعطوه- فأعطوه ربعة من مال الصدقة تبعها ظئراها- ثم أنشأ يحدث عن نفسه- فقال لقد رأيتني و أختا لي نرعى على أبوينا ناضحا لنا- قد ألبستنا أمنا نقبتها- و زودتنا يمنتيها هبيدا فنخرج بناضحنا- فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي- و خرجت أسعى عريان فنرجع إلى أمنا- و قد جعلت لنا لفيته من ذلك الهبيد فيا خصباه- .

و روى ابن عباس رضي الله عنه- قال دخلت على عمر في أول خلافته- و قد ألقي له صاع من تمر على خصفة- فدعاني إلى الأكل فأكلت تمرة واحدة- و أقبل يأكل حتى أتى عليه- ثم شرب من جر كان عنده- و استلقى على مرفقه له و طفق يحمد الله يكرر ذلك- ثم قال من أين جئت يا عبد الله قلت من المسجد- قال كيف خلفت ابن عمك- فظننته يعنى عبد الله بن جعفر- قلت خلفته يلعب مع أترابه- قال لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل البيت- قلت خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان- و هو يقرأ القرآن- قال يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها- هل بقي في نفسه‏ شي‏ء من أمر الخلافة قلت نعم- قال أ يزعم أن رسول الله ص نص عليه قلت نعم- و أزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال صدق- فقال عمر لقد كان من رسول الله ص في أمره ذرو من قول- لا يثبت حجة و لا يقطع عذرا- و لقد كان يربع في أمره وقتا ما- و لقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه- فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة على الإسلام- لا و رب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا- و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها- فعلم رسول الله ص أني علمت ما في نفسه- فأمسك و أبى الله إلا إمضاء ما حتم- .

ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر- صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا- . ابتنى أبو سفيان دارا بمكة فأتى أهلها عمر- فقالوا إنه قد ضيق علينا الوادي و أسال علينا الماء- فأتاه عمر فقال خذ هذا الحجر فضعه هناك- و ارفع هذا و اخفض هذا ففعل- فقال الحمد لله الذي أذل أبا سفيان بأبطح مكة- . و قال عمر- و الله لقد لان قلبي في الله حتى لهو ألين من الزبد- و لقد اشتد قلبي في الله حتى لهو أشد من الحجر- . كان عمر إذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه- و قال اللهم أعني عليهما- فإن كلا منهما يريدني عن ديني- .

و خطب عمر فقال أيها الناس- إنما كنا نعرفكم و النبي ص بين أظهرنا- إذ ينزل الوحي و إذ ينبئنا الله من أخباركم- ألا و إن النبي ص قد انطلق و الوحي قد انقطع- و إنما نعرفكم بما يبدو منكم- من أظهر خيرا ظننا به خيرا و أحببناه عليه- و من أظهر شرا ظننا به شرا و أبغضناه عليه- سرائركم بينكم و بين ربكم- ألا إنه قد أتى علي حين- و أنا أحسب أنه لا يقرأ القرآن أحد- إلا يريد به وجه الله و ما عند الله- و قد خيل إلي بأخرة- أن رجالا قد قرءوه يريدون به ما عند الناس- فأريدوا الله بقراءتكم و أريدوا الله بأعمالكم- . ألا و إني لا أرسل عمالي إليكم أيها الناس- ليضربوا أبشاركم- و لا ليأخذوا أموالكم- و لكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم و سنتكم- فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي لأقتص له- فقد رأيت رسول الله ص يقتص من نفسه- . ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم- و لا تمنعوهم حقوقهم فتفقروهم- و لا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم- .

و قال مرة قد أعياني أهل الكوفة- إن استعملت عليهم لينا استضعفوه- و إن استعملت عليهم شديدا شكوه- و لوددت أني وجدت رجلا قويا أمينا استعمله عليهم- فقال له رجل- أنا أدلك يا أمير المؤمنين على الرجل القوي الأمين- قال من هو قال عبد الله بن عمر- قال قاتلك الله و الله ما أردت الله بها- لاها الله لا أستعمله عليها و لا على غيرها- و أنت فقم فاخرج فمذ الآن لا أسميك إلا المنافق- فقام الرجل و خرج- . و كتب إلى سعد بن أبي وقاص- أن شاور طليحة بن خويلد و عمرو بن معديكرب- فإن كل صانع أعلم بصنعته- و لا تولهما من أمر المسلمين شيئاو غضب عمر على بعض عماله- فكلم امرأة من نساء عمر في أن تسترضيه له- فكلمته فيه فغضب- و قال و فيم أنت من هذا يا عدوة الله- إنما أنت لعبة نلعب بك و تفركين- . و من كلامه أشكو إلى الله جلد الخائن و عجز الثقة- .

قال عمرو بن ميمون- لقد رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يصاب بأيام- واقفا على حذيفة بن اليمان و عثمان بن حنيف- و هو يقول لهما- أ تخافان أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه- فقالا لا إنما حملناها أمرا هي له مطيقة- فأعاد عليهما القول- انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه- فقالا لا فقال عمر- إن عشت لأدعن أرامل العراق لا يحتجن بعدي إلى رجل أبدا- فما أتت عليه رابعة حتى أصيب- . كان عمر إذا استعمل عاملا كتب عليه كتابا- و أشهد عليه رهطا من المسلمين- ألا يركب برذونا و لا يأكل نقيا- و لا يلبس رقيقا و لا يغلق بابه دون حاجات المسلمين- ثم يقول اللهم اشهد- . و استعمل عمر النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان- فبلغه عنه الشعر الذي قاله و هو-

و من مبلغ الحسناء أن حليلها
بميسان يسقى من زجاج و حنتم‏

إذا شئت غنتني دهاقين قرية
و صناجة تحدو على كل منسم‏

فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
و لا تسقني بالأصغر المتثلم‏

لعل أمير المؤمنين يسوءه‏
تنادمنا بالجوسق المتهدم‏

فكتب إليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ- غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ- ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ- أما بعد فقد بلغني قولك- لعل أمير المؤمنين يسوءه‏- البيت و ايم الله إنه ليسوءني فاقدم فقد عزلتك- . فلما قدم عليه- قال يا أمير المؤمنين و الله ما شربتها قط- و إنما هو شعر طفح على لساني و إني لشاعر- . فقال عمر أظن ذاك و لكن لا تعمل لي على عمل أبدا- . استعمل عمر رجلا من قريش على عمل- فبلغه عنه أنه قال-

اسقني شربة تروي عظامي
و اسق بالله مثلها ابن هشام‏

فأشخصه إليه و فطن القرشي فضم إليه بيتا آخر- فلما مثل بين يديه قال له أنت القائل-

اسقني شربة تروي عظامي‏

قال نعم يا أمير المؤمنين فهلا أبلغك الواشي ما بعده- قال ما الذي بعده قال-

عسلا باردا بماء غمام
إنني لا أحب شرب المدام‏

قال آلله آلله ثم قال ارجع إلى عملك- .قال عمر أيما عامل من عمالي ظلم أحدا- ثم بلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا الذي ظلمته- . و قال للأحنف بن قيس- و قد قدم عليه فاحتبسه عنده حولا- يا أحنف إني قد خبرتك و بلوتك فرأيت علانيتك حسنة- و أنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك- و إن كنا لنحدث أنه إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم- . و كتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص- أن مترس بالفارسية هو الأمان- فمن قلتم له ذلك ممن لا يفقه لسانكم فقد أمنتموه- .

و قال لأمير من أمراء الشام- كيف سيرتك كيف تصنع في القرآن و الأحكام- فأخبره فقال أحسنت اذهب فقد أقررتك على عملك- فلما ولي رجع فقال يا أمير المؤمنين- إني رأيت البارحة رؤيا أقصها عليك- رأيت الشمس و القمر يقتتلان- و مع كل واحد منهما جنود من الكواكب- فقال فمع أيهما كنت قال مع القمر- فقال قد عزلتك قال الله تعالى- وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ- وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً- .

كان عمر جالسا في المسجد فمر به رجل- فقال ويل لك يا عمر من النار- فقال قربوه إلي فدنا منه فقال لم قلت لي ما قلت- قال تستعمل عمالك و تشترط عليهم-ثم لا تنظر هل وفوا لك بشروط أم لا- قال و ما ذاك قال عاملك على مصر اشترطت عليه- فترك ما أمرته به و ارتكب ما نهيته عنه- ثم شرح له كثيرا من أمره- فأرسل عمر رجلين من الأنصار- فقال لهما انتهيا إليه فاسألا عنه- فإن كان كذب عليه فأعلماني- و إن رأيتما ما يسوءكما- فلا تملكاه من أمره شيئا حتى تأتيا به- فذهبا فسألا عنه فوجداه قد صدق عليه- فجاءا إلى بابه فاستأذنا عليه-

فقال حاجبه إنه ليس عليه اليوم إذن- قالا ليخرجن إلينا أو لنحرقن عليه بابه- و جاء أحدهما بشعلة من نار- فدخل الآذن فأخبره فخرج إليهما- قالا إنا رسولا عمر إليك لتأتيه- قال إن لنا حاجة تمهلانني لأتزود- قالا إنه عزم علينا ألا نمهلك فاحتملاه فأتيا به عمر- فلما أتاه سلم عليه فلم يعرفه- و قال من أنت و كان رجلا أسمر- فلما أصاب من ريف مصر ابيض و سمن- فقال أنا عاملك على مصر أنا فلان- قال ويحك ركبت ما نهيت عنه و تركت ما أمرت به- و الله لأعاقبنك عقوبة أبلغ إليك فيها- ائتوني بكساء من صوف و عصا- و ثلاثمائة شاة من غنم الصدقة- فقال البس هذه الدراعة- فقد رأيت أباك و هذه خير من دراعته- و خذ هذه العصا فهي خير من عصا أبيك- و اذهب بهذه الشياه فارعها في مكان كذا- و ذلك في يوم صائف- و لا تمنع السابلة من ألبانها شيئا إلا آل عمر- فإني لا أعلم أحدا من آل عمر أصاب من ألبان غنم الصدقة- و لحومها شيئا- . فلما ذهب رده- و قال أ فهمت ما قلت فضرب بنفسه الأرض- و قال يا أمير المؤمنين لا أستطيع هذا- فإن شئت فاضرب عنقي- قال فإن رددتك فأي رجل تكون- قال و الله لا يبلغك بعدها إلا ما تحب- فرده فكان نعم الرجل- و قال عمر و الله‏ لا أنزعن فلانا من القضاء- حتى أستعمل عوضه رجلا إذا رآه الفاجر فرق- . و روى عبد الله بن بريدة- قال بينا عمر يعس ذات ليلة انتهى إلى باب متجاف- و امرأة تغني نسوة-

هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج‏

فقال عمر أما ما عشت فلا- . فلما أصبح دعا نصر بن حجاج- و هو نصر بن الحجاج بن علابط البهزي السلمي- فأبصره و هو من أحسن الناس وجها- و أصبحهم و أملحهم حسنا فأمر أن يطم شعره- فخرجت جبهته فازداد حسنا- فقال له عمر اذهب فاعتم فاعتم فبدت وفرته- فأمر بحلقها فازداد حسنا- فقال له فتنت نساء المدينة يا ابن حجاج- لا تجاورني في بلدة أنا مقيم بها- ثم سيره إلى البصرة- . فروى الأصمعي- قال أبرد عمر بريدا إلى عتبة بن أبي سفيان بالبصرة- فأقام بها أياما ثم نادى منادي عتبة- من أراد أن يكتب إلى أهله بالمدينة- أو إلى أمير المؤمنين شيئا- فليكتب فإن بريد المسلمين خارج- . فكتب الناس و دس نصر بن حجاج كتابا فيه- لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصر بن حجاج- سلام عليك أما بعد يا أمير المؤمنين-

لعمري لئن سيرتني أو حرمتني
لما نلت من عرضي عليك حرام‏

أ إن غنت الذلفاء يوما بمنية
و بعض أماني النساء غرام‏

ظننت بي الظن الذي ليس بعده
بقاء فما لي في الندي كلام‏

و أصبحت منفيا في غير ريبة
و قد كان لي بالمكتين مقام‏

سيمنعني مما تظن تكرمي
و آباء صدق سالفون كرام‏

و يمنعها مما تمنت صلاتها
و حال لها في دينها و صيام‏

فهاتان حالانا فهل أنت راجع
فقد جب مني كاهل و سنام‏

فقال عمر أما ولي ولاية فلا- و أقطعه أرضا بالبصرة و دارا- . فلما قتل عمر ركب راحلته و لحق بالمدينة- . و ذكر المبرد محمد بن يزيد الثمالي- قال كان عمر أصلع- فلما حلق وفرة نصر بن حجاج قال نصر و كان شاعرا-

تضن ابن خطاب علي بجمة
إذا رجلت تهتز هز السلاسل‏

فصلع رأسا لم يصلعه ربه‏
يرف رفيفا بعد أسود جائل‏

لقد حسد الفرعان أصلع لم يكن
إذا ما مشى بالفرع بالمتخايل‏

محمد بن سعيد- قال بينا يطوف عمر في بعض سكك المدينة- إذ سمع امرأة تهتف من خدرها-

هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج‏

إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل
سهل المحيا كريم غير ملجاج‏

تنميه أعراق صدق حين تنسبه‏
أخي قداح عن المكروب فراج‏

سامي النواظر من بهز له قدم
تضي‏ء صورته في الحالك الداجي‏

فقال عمر- ألا لا أدري معي رجلا يهتف به العواتق في خدورهن- علي بنصر بن حجاج فأتي به- فإذا هو أحسن الناس وجها و عينا و شعرا- فأمر بشعره فجز- فخرجت له وجنتان كأنه قمر- فأمره أن يعتم فاعتم ففتن النساء بعينيه- فقال عمر لا و الله لا تساكنني بأرض أنا بها- قال و لم يا أمير المؤمنين قال هو ما أقول لك- فسيره إلى البصرة- . و خافت المرأة التي سمع عمر منها ما سمع- أن يبدر إليها منه شي‏ء فدست إليه أبياتا-

قل للأمير الذي تخشى بوادره
ما لي و للخمر أو نصر بن حجاج‏

إني بليت أبا حفص بغيرهما
شرب الحليب و طرف فاتر ساج‏

لا تجعل الظن حقا أو تبينه
إن السبيل سبيل الخائف الراجي‏

ما منية قلتها عرضا بضائرة
و الناس من هالك قدما و من ناج‏

إن الهوى رعية التقوى تقيده
حتى أقر بإلجام و إسراج‏

فبكى عمر- و قال الحمد لله الذي قيد الهوى بالتقوى- . و أتته يوما أم نصر حين اشتدت عليها غيبة ابنها- فتعرضت لعمر بين الأذان و الإقامة- فقعدت له على الطريق فلما خرج يريد الصلاة هتفت به- و قالت يا أمير المؤمنين لأجاثينك غدا بين يدي الله عز و جل- و لأخاصمنك إليه- يبيت عاصم و عبد الله إلى‏جانبيك- و بيني و بين ابني الفيافي و القفار و المفاوز و الجبال- قال من هذه قيل أم نصر بن حجاج- فقال يا أم نصر- إن عاصما و عبد الله لم تهتف بهما العواتق من وراء الخدور- .

و يروى أن نصر بن الحجاج- لما سيره عمر إلى البصرة نزل بها على مجاشع بن مسعود السلمي- و كان خليفة أبي موسى عليها- و كانت له امرأة شابة جميلة فهويت نصرا و هويها- فبينا الشيخ جالس و نصر عنده إذ كتب في الأرض شيئا- فقرأته المرأة فقالت أنا و الله- فقال مجاشع ما قال لك- قالت إنه قال ما أصفى لقحتكم هذه- فقال مجاشع إن الكلمة التي قلت ليست أختا لهذا الكلام- عزمت عليك لما أخبرتني- قالت إنه قال ما أحسن سوار ابنتكم هذه- قال و لا هذه فإنه كتب في الأرض- فرأى الخط فدعا بإناء فوضعه عليه- ثم أحضر غلاما من غلمانه- فقال اقرأ فقرأه و إذا هو أنا و الله أحبك- فقال هذه لهذه- اعتدي أيتها المرأة و تزوجها يا ابن أخي إن أردت- .

ثم غدا على أبي موسى فأخبره- فقال أبو موسى أقسم ما أخرجه عمر عن المدينة من خير- ثم طرده إلى فارس و عليها عثمان بن أبي العاص الثقفي- فنزل على دهقانة فأعجبها فأرسلت إليه- فبلغ خبرها عثمان- فبعث إليه أن اخرج عن أرض فارس- فإنك لم تخرج عن المدينة و البصرة من خير- فقال و الله لئن أخرجتموني لألحقن ببلاد الشرك- فكتب بذلك إلى عمر- فكتب أن جزوا شعره و شمروا قميصه و ألزموه المساجد- .

و روى عبد الله بن بريدة أن عمر خرج ليلا يعس- فإذا نسوة يتحدثن- و إذا هن‏يقلن أي فتيان المدينة أصبح- فقالت امرأة منهن أبو ذؤيب و الله- فلما أصبح عمر سأل عنه فإذا هو من بني سليم- و إذا هو ابن عم نصر بن حجاج- فأرسل إليه فحضر فإذا هو أجمل الناس و أملحهم- فلما نظر إليه قال أنت و الله ذئبها- يكررها و يرددها- لا و الذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أبدا- .

فقال يا أمير المؤمنين إن كنت لا بد مسيري- فسيرني حيث سيرت ابن عمي نصر بن حجاج- فأمر بتسييره إلى البصرة فأشخص إليها- . خطب عمر في الليلة التي دفن فيها أبو بكر- فقال إن الله تعالى نهج سبيله و كفانا برسوله- فلم يبق إلا الدعاء و الاقتداء- الحمد لله الذي ابتلاني بكم و ابتلاكم بي- و أبقاني فيكم بعد صاحبي- و أعوذ بالله أن أزل أو أضل- فأعادي له وليا أو أوالي له عدوا- ألا إني و صاحبي كنفر ثلاثة قفلوا من طيبة- فأخذ أحدهم مهلة إلى داره و قراره- فسلك أرضا مضيئة متشابهة الأعلام- فلم يزل عن الطريق و لم يحرم السبيل- حتى أسلمه إلى أهله- ثم تلاه الآخر فسلك سبيله و اتبع أثره- فأفضى إليه و لقي صاحبه ثم تلاهما الثالث- فإن سلك سبيلهما و اتبع أثرهما أفضى إليهما و لاقاهما- و إن زل يمينا أو شمالا لم يجامعهما أبدا- . ألا و إن العرب جمل أنف قد أعطيت خطامه- ألا و إني حامله على المحجة و مستعين بالله عليه- .

ألا و إني داع فأمنوا اللهم إني شحيح فسخني- اللهم إني غليظ فليني اللهم إني ضعيف فقوني- اللهم أوجب لي بموالاتك- و موالاة أوليائك ولايتك و معونتك- و أبرئنيمن الآفات بمعاداة أعدائك- و توفني مع الأبرار و لا تحشرني في زمرة الأشقياء- اللهم لا تكثر لي من الدنيا فأطغى- و لا تقلل لي فأشقى- فإن ما قل و كفى خير مما كثر و ألهى- . وفد على عمر قوم من أهل العراق- منهم جرير بن عبد الله فأتاهم بجفنة قد صبغت بخل و زيت- و قال خذوا فأخذوا أخذا ضفيفا- فقال ما بالكم تقرمون قرم الشاة الكسيرة- أظنكم تريدون حلوا و حامضا و حارا و باردا- ثم قذفا في البطون- لو شئت أن أدهمق لكم لفعلت- و لكنا نستبقي من دنيانا ما نجده في آخرتنا- و لو شئنا أن نأمر بصغار الضأن فتسمط- و لبأت الخبز فيخبز- و نأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان- حتى إذا صار مثل عين اليعقوب- أكلنا هذا و شربنا هذا لفعلت- و الله إني ما أعجز عن كراكر- و أسنمة و صلائق و صناب- لكن الله تعالى قال لقوم عيرهم أمرا فعلوه- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا- و إني نظرت في هذا الأمر-فجعلت إن أردت الدنيا أضررت بالآخرة- و إن أردت الآخرة أضررت بالدنيا- و إذا كان الأمر هكذا فأضروا بالفانية- . خرج عمر يوما إلى المسجد- و عليه قميص في ظهره أربع رقاع- فقرأ حتى انتهى إلى قوله وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا- فقال ما الأب ثم قال إن هذا لهو التكلف- و ما عليك يا ابن الخطاب ألا تدري ما الأب- .

و جاء قوم من الصحابة إلى حفصة- فقالوا لو كلمت أباك في أن يلين من عيشه- لعله أقوى له على النظر في أمور المسلمين- فجاءته فقالت- إن ناسا من قومك كلموني- في أن أكلمك في أن تلين من عيشك- فقال يا بنية غششت أباك و نصحت لقومك- .

و روى سالم بن عبد الله بن عمر- قال لما ولي عمر قعد على رزق أبي بكر الذي كان فرضه لنفسه- فاشتدت حاجته فاجتمع نفر من المهاجرين- منهم علي و عثمان و طلحة و الزبير- و قالوا لو قلنا لعمر يزيد في رزقه- فقال عثمان إنه عمر- فهلموا فلنستبن ما عنده من وراء وراء- نأتي حفصة فنكلمها و نستكتمها أسماءنا- فدخلوا عليها و سألوها أن تكلمه- و لا تخبره بأسماء من أتاها إلا أن يقبل- فلقيت عمر في ذلك فرأت الغضب في وجهه- و قال من أتاك قالت لا سبيل إلى ذلك- فقال لو علمت من هم لسؤت أوجههم- أنت بيني و بينهم- نشدتك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله ص- في بيتك من الملبس- قالت ثوبان ممشقان كان يلبسهما للوفد- و يخطب‏ فيهما في الجمع- قال فأي طعام ناله عندك أرفع- قالت خبزنا مرة خبزة شعير- فصببت عليها و هي حارة أسفلها عكة لنا- كان فيها سمن و عسل- فجعلتها هشة حلوة دسمة- فأكل منها فاستطابها-

قال فأي مبسط كان يبسط عندك أوطأ- قالت كساء ثخين كنا نرقعه في الصيف فنجعله ثخينا- فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه و تدثرنا بنصفه- قال فأبلغيهم أن رسول الله ص قدر فوضع الفضول مواضعها- و تبلغ ما أبر- و إني قدرت فو الله لأضعن الفضول مواضعها- و لأتبلغن ما أبر حبة وفد على عمر وفد فيه رجال الناس من الآفاق- فوضع لهم بسطا من عباء- و قدم إليهم طعاما غليظا- فقالت له ابنته حفصة أم المؤمنين- إنهم وجوه الناس و كرام العرب- فأحسن كرامتهم- فقال يا حفصة أخبريني بألين فراش فرشته لرسول الله ص- و أطيب طعام أكله عندك- قالت أصبنا كساء ملبدا عام خيبر- فكنت أفرشه له فينام عليه- و إني رفعته ليلة- فلما أصبح قال ما كان فراشي الليلة- قلت فراشك كل ليلة- إلا أني الليلة رفعته لك ليكون أوطأ- فقال أعيديه لحالته الأولى فإن وطاءته منعتني الليلة من الصلاة- .
و كان لنا صاع من دقيق سلت فنخلته يوما و طبخته له- و كان لنا قعب من سمن فصببته عليه- فبينا هو ع يأكل إذ دخل أبو الدرداء-

فقال أرى سمنكم قليلا و إن لنا لقعبا من سمن- قال ع فأرسل فأت به- فجاء به فصبه عليه فأكل- فهذا أطيب طعام أكله عندي رسول الله ص- . فأرسل عمر عينيه بالبكاء- و قال لها و الله لا أزيدهم على ذلك العباء- و ذلك الطعام‏شيئا- و هذا فراش رسول الله ص و هذا طعامه- . لما قدم عتبة بن مرثد أذربيجان أتي بالخبيص- فلما أكله وجد شيئا حلوا طيبا- فقال لو صنعت من هذا لأمير المؤمنين- فجعل له خبيصا في منقلين عظيمين- و حملهما على بعيرين إلى المدينة- فقال عمر ما هذا قالوا الخبيص فذاقه فوجده حلوا- فقال للرسول ويحك أ كل المسلمين عندكم يشبع من هذا- قال لا قال فارددهما- ثم كتب إلى عتبة أما بعد- فإن خبيصك الذي بعثته ليس من كد أبيك و لا من كد أمك- أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك- و لا تستأثر فإن الأثرة شر و السلام- .

و روى عتبة بن مرثد أيضا- قال قدمت على عمر بحلواء من بلاد فارس في سلال عظام- فقال ما هذه قلت طعام طيب أتيتك به- قال ويحك و لم خصصتني به- قلت أنت رجل تقضي حاجات الناس أول النهار- فأحببت إذا رجعت إلى منزلك أن ترجع إلى طعام طيب- فتصيب منه فتقوى على القيام بأمرك- فكشف عن سلة منها فذاق فاستطاب- فقال عزمت عليك يا عتبة إذا رجعت- إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثله- قلت و الذي يصلحك يا أمير المؤمنين- لو أنفقت عليه أموال قيس كلها لما وسع ذلك- قال فلا حاجة لي فيه إذا- ثم دعا بقصعة من ثريد و لحم غليظ و خبز خشن- فقال كل ثم جعل يأكل أكلا شهيا- و جعلت أهوى إلى البضعة البيضاء- أحسبها سناما و إذا هي عصبة- و أهوى إلى البضعة من اللحم أمضغهافلا أسيغها- و إذا هي من علباء العنق- فإذا غفل عني جعلتها بين الخوان و القصعة- فدعا بعس من نبيذ كاد يكون خلا- فقال اشرب فلم أستطعه و لم أسغه أن أشرب- فشرب ثم نظر إلي- و قال ويحك إنه ليس بدرمك العراق و ودكه- و لكن ما تأكله أنت و أصحابك- .

ثم قال اسمع إنا ننحر كل يوم جزورا- فأما أوراكها و ودكها و أطائبها- فلمن حضرنا من المهاجرين و الأنصار- و أما عنقها فلآل عمر- و أما عظامها و أضلاعها فلفقراء المدينة- نأكل من هذا اللحم الغث- و نشرب من هذا النبيذ الخاثر- و ندع لين الطعام ليوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت- و تضع كل ذات حمل حملها- . حضر عند عمر قوم من الصحابة فأثنوا عليه- و قالوا و الله ما رأينا يا أمير المؤمنين رجلا أقضى منك بالقسط- و لا أقول بالحق و لا أشد على المنافقين منك- إنك لخير الناس بعد رسول الله ص- .

فقال عوف بن مالك كذبتم و الله- أبو بكر بعد رسول الله خير أمته رأينا أبا بكر- . فقال عمر صدق عوف و الله و كذبتم- لقد كان أبو بكر و الله أطيب من ريح المسك- و أنا أضل من بعير أهلي- . لما أتى عمر الخبر بنزول رستم القادسية- كان يخرج فيستخبر الركبان كل يوم عن أهل القادسية- من حين يصبح إلى انتصاف النهار- ثم يرجع إلى أهله فلما جاء البشير بالفتح-لقيه كما يلقى الركبان من قبل فسأله فأخبره- فجعل يقول يا عبد الله إيه حدثني- فيقول له هزم الله العدو- و عمر يحث معه و يسأله و هو راجل- و البشير يسير على ناقته و لا يعرفه- فلما دخل المدينة إذا الناس يسلمون عليه باسمه- بإمرة المؤمنين و يهنئونه- فنزل الرجل و قال هلا أخبرتني يا أمير المؤمنين رحمك الله- و جعل عمر يقول لا عليك يا ابن أخي لا عليك يا ابن أخي- .

و روى أبو العالية الشامي- قال قدم عمر الجابية على جمل أورق- تلوح صلعته ليس عليه قلنسوة- تصل رجلاه بين شعبتي رحله بغير ركاب- وطاؤه كساء أنبجاني كثير الصوف- و هو وطاؤه إذا ركب و فراشه إذا نزل- و حقيبته نمرة محشوة ليفا هي حقيبته إذا ركب- و وسادته إذا نزل- و عليه قميص من كرابيس قد دسم و تخرق جيبه- فقال ادعوا إلي رأس القرية- فدعوه له فقال اغسلوا قميصي هذا و خيطوه- و أعيروني قميصا ريثما يجف قميصي- فأتوه بقميص كتان فعجب منه- فقال ما هذا قالوا كتان- قال و ما الكتان فأخبروه فلبسه ثم غسل قميصه- و أتي به فنزع قميصهم و لبس قميصه- فقال له رأس القرية أنت ملك العرب- و هذه بلاد لا يصلح بها ركوب الإبل- فأتي ببرذون- فطرحت عليه قطيفة بغير سرج فركبه- فهملج تحته فقال للناس احبسوا فحبسوه- فقال ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا- قدموا لي جملي فجي‏ء به فنزل عن البرذون و ركبه- .

قدم عمر الشام- فلقيه أمراء الأجناد و عظماء تلك الأرض- فقال و أين أخي قالوا من هو- قال أبو عبيدة قالوا سيأتيك الآن- فجاء أبو عبيدة على ناقة مخطومة بحبل- فسلم عليه و رد له ثم قال للناس انصرفوا عنا- فسار معه حتى أتى منزله فنزل عليه- فلم ير فيه إلا سيفا و ترسا- فقال له لو اتخذت متاع البيت- قال حسبي هذا يبلغني المقيل- . و روى طارق بن شهاب- أن عمر لما قدم الشام عرضت له مخاضة- فنزل عن بعيره و نزع جرموقيه فأمسكهما بيده- و خاض الماء و زمام بعيره في يده الأخرى- فقال له أبو عبيدة- لقد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل هذه الأرض- فصك في صدره و قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة- إنكم كنتم أذل الناس و أحقر الناس و أقل الناس- فأعزكم الله بالإسلام- فمهما تطلبوا العز بغيره يرجعكم إلى الذل- .

و روى محمد بن سعد صاحب الواقدي- أن عمر قال يوما على المنبر- لقد رأيتني و ما لي من أكال يأكله الناس- إلا أن لي خالات من بني مخزوم- فكنت أستعذب لهن الماء- فيقبضن لي القبضات من الزبيب- فلما نزل قيل له ما أردت بهذا- قال وجدت في نفسي بأوا فأردت أن أطأطئ منها- .

و من كلام عمر رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي- . قدم عمرو بن العاص على عمر و كان واليا لمصر- فقال له في كم سرت قال في عشرين- قال عمر لقد سرت سير عاشق- فقال عمرو إني و الله ما تأبطتنى الإماء- و لا حملتني في غبرات المآلي- فقال عمر و الله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه- و أن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل- و إنما تنسب البيضة إلى طرقها- فقام عمرو مربد الوجه- .

قلت المآلي خرق سود يحملها النوائح- و يسرن بها بأيديهن عند اللطم- و أراد خرق الحيص هاهنا و شبهها بتلك- و أنكر عمر فخره بالأمهات- و قال إن الفخر للأب الذي إليه النسب- و سألت النقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر- فقال إن عمرا فخر على عمر لأن أم الخطاب زنجية- و تعرف بباطحلي تسمى صهاك- فقلت له و أم عمرو النابغة أمه من سبايا العرب- فقال أمه عربية من عنزة سبيت في بعض الغارات- فليس يلحقها من النقص عندهم ما يلحق الإماء الزنجيات- فقلت له أ كان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت- قال قد يكون بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له- و نفث بما في صدره منه- و إن لم يكن جوابا مطابقا للسؤال و قد كان عمر مع خشونته يحتمل نحو هذا- فقد جبهه الزبير مرة و جعل يحكي كلامه يمططه- و جبهه سعد بن أبي وقاص أيضا فأغضى عنه- و مر يوما في السوق على ناقة له- فوثب غلام من بني ضبة فإذا هو خلفه- فالتفت إليه فقال فممن أنت قال ضبي- قال جسور و الله فقال الغلام على العدو- قال عمر و على الصديق أيضا- ما حاجتك فقضى حاجته- ثم قال دع الآن لنا ظهر راحلتنا- .

و من كلام عمر اخشع عند القبور إذا نظرت إليها- و استعص عند المعصية و ذل عند الطاعة- و لا تبذلن كلامك إلا عند من يشتهيه و يتخذه غنما- و لا تستعن على حاجتك إلا بمن يحب نجاحها لك- و آخ الإخوان على التقوى- و شاور في أمرك كله- و إذا اشترى أحدكم بعيرا فليشتره جسيما- فإن أخطأته النجابة لم يخطئه السوق- . أوفد بشر بن مروان و هو على العراق رجلا إلى عبد الملك- فسأله عن بشر- فقال يا أمير المؤمنين هو اللين في غير ضعف- الشديد في غير عنف- فقال عبد الملك ذاك الأحوذي ابن حنتمة- الذي كان يأمن عنده البري‏ء و يخافه السقيم- و يعاقب على الذنب و يعرف موضع العقوبة- لا بشر بن مروان- . أذن عمر يوما للناس- فدخل شيخ كبير يعرج- و هو يقود ناقة رجيعا يجاذبها- حتى وقف بين ظهراني الناس ثم قال-

و إنك مسترعى و إنا رعية
و إنك مدعو بسيماك يا عمر

لدى يوم شر شره لشراره‏
و خير لمن كانت مؤانسه الخير

فقال عمر لا حول و لا قوة إلا بالله من أنت- قال عمرو بن براقة قال ويحك- فما منعك أن تقول- وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ- ثم قرأها إلى آخرها و أمر بناقته فقبضت- و حمله على غيرها و كساه و زوده- .بينا عمر يسير في طريق مكة يوما- إذا بالشيخ بين يديه يرتجز و يقول-

ما إن رأيت كفتى الخطاب
أبر بالدين و بالأحساب‏
بعد النبي صاحب الكتاب‏

فطعنه عمر بالسوط في ظهره- فقال ويلك و أين الصديق- قال ما لي بأمره علم يا أمير المؤمنين- قال أما إنك لو كنت عالما ثم قلت هذا لأوجعت ظهرك- . قال زيد بن أسلم كنت عند عمر- و قد كلمه عمرو بن العاص في الحطيئة و كان محبوسا- فأخرجه من السجن ثم أنشده-

ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماء و لا شجر

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر

أنت الإمام الذي من بعد صاحبه
ألقت إليه مقاليد النهى البشر

ما آثروك بها إذ قدموك لها
لكن لأنفسهم كانت بك الأثر

فبكى عمر لما قال له ما ذا تقول لأفراخ- فكان عمرو بن العاص بعد ذلك يقول- ما أقلت الغبراء و لا أظلت الخضراء أتقي من رجل- يبكي خوفا من حبس الحطيئة- ثم قال عمر لغلامه يرفأ علي بالكرسي فجلس عليه- ثم قال علي بالطست فأتي بها- ثم قال علي بالمخصف لا بل علي بالسكين- فأتي بها فقال لا بل علي بالموسى- فإنها أوجي فأتي بموسى- ثم قال أشيروا علي في الشاعر- فإنه يقول الهجر و ينسب بالحرم- و يمدح الناس و يذمهم بغير ما فيهم- و ما أراني إلا قاطعا لسانه فجعل الحطيئة يزيد خوفا- فقال من حضر أنه لا يعود يا أمير المؤمنين- و أشاروا إليه قل لا أعود يا أمير المؤمنين- فقال النجاء النجاء- فلما ولى ناداه يا حطيئة فرجع مرعوبا- فقال كأني بك يا حطيئةعند فتى من قريش- قد بسط لك نمرقة و كسر لك أخرى- ثم قال غننا يا حطيئة فطفقت تغنيه بأعراض الناس- قال يا أمير المؤمنين لا أعود و لا يكون ذلك- .

قال زيد بن أسلم- ثم رأيت الحطيئة يوما بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر- قد بسط له نمرقة و كسر له أخرى- ثم قال تغنينا يا حطيئة و هو يغنيه- فقلت يا حطيئة أ ما تذكر قول عمر لك- ففزع و قال رحم الله ذلك المرء- أما لو كان حيا ما فعلنا هذا- قال فقلت لعبيد الله بن عمر سمعت أباك يذكر كذا- فكنت أنت ذلك الفتى- . كان عمر يصادر خونة العمال- فصادر أبا موسى الأشعري و كان عامله على البصرة- و قال له بلغني أن لك جاريتين- و أنك تطعم الناس من جفنتين- و أعاده بعد المصادرة إلى عمله- .

و صادر أبا هريرة و أغلظ عليه- و كان عامله على البحرين- فقال له أ لا تعلم أني استعملتك على البحرين- و أنت حاف لا نعل في رجلك- و قد بلغني أنك بعت أفراسا بألف و ستمائة دينار- قال أبو هريرة كانت لنا أفراس فتناتجت- فقال قد حبست لك رزقك و مئونتك و هذا فضل- قال أبو هريرة ليس ذلك لك قال بلى و الله و أوجع ظهرك- ثم قام إليه بالدرة فضرب ظهره حتى أدماه- ثم قال ائت بها فلما أحضرها- قال أبو هريرة سوف أحتسبها عند الله- قال عمر ذاك لو أخذتها من حل و أديتها طائعا- أما و الله ما رجت فيك أميمة- أن تجبي أموال هجر و اليمامة و أقصى البحرين لنفسك- لا لله و لا للمسلمين- و لم ترج فيك أكثر من رعية الحمر و عزله- . و صادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بكر بن كنانة- و قال له ما قلاص و أعبد بعتها بمائه دينار- قال خرجت بنفقة لي فاتجرت فيها- قال و إنا و الله ما بعثناك للتجارةأدها- قال أما و الله لا أعمل لك بعدها- قال إنا و الله لا أستعملك بعدها- ثم صعد المنبر فقال يا معشر الأمراء- إن هذا المال لو رأينا أنه يحل لنا لأحللناه لكم- فأما إذ لم نره يحل لنا و ظلفنا أنفسنا عنه- فاظلفوا عنه أنفسكم- فإني و الله ما وجدت لكم مثلا إلا عطشان ورد اللجة- و لم ينظر الماتح فلما روي غرق- .

و كتب عمر إلى عمرو بن العاص و هو عامله في مصر- أما بعد فقد بلغني أنه قد ظهر لك مال- من إبل و غنم و خدم و غلمان- و لم يكن لك قبله مال و لا ذلك من رزقك- فإني لك هذا- و لقد كان لي من السابقين الأولين من هو خير منك- و لكني استعملتك لغنائك- فإذا كان عملك لك و علينا- بم نؤثرك على أنفسنا- فاكتب إلي من أين مالك و عجل و السلام- .

فكتب إليه عمرو بن العاص- قرأت كتاب أمير المؤمنين و لقد صدق- فأما ما ذكره من مالي فإني قدمت بلدة- الأسعار فيها رخيصه و الغزو فيها كثير- فجعلت فضول ما حصل لي من ذلك فيما ذكره أمير المؤمنين- و الله يا أمير المؤمنين- لو كانت خيانتك لنا حلالا ما خناك حيث ائتمنتنا- فأقصر عنا عناك- فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن العمل لك- و أما من كان لك من السابقين الأولين- فهلا استعملتهم فو الله ما دققت لك بابا- . فكتب إليه عمر أما بعد- فإني لست من تسطيرك و تشقيقك الكلام في شي‏ء- إنكم معشر الأمراء أكلتم الأموال- و أخلدتم إلى الأعذار- فإنما تأكلون النار و تورثون العار- و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة- ليشاطرك على ما في يديك و السلام- .

فلما قدم إليه محمد اتخذ له طعاما و قدمه إليه- فأبى أن يأكل فقال ما لك لا تأكل طعامنا- قال إنك عملت لي طعاما هو تقدمة للشر- و لو كنت عملت لي طعام الضيف لأكلته- فأبعد عني طعامك و أحضر لي مالك- فلما كان الغد و أحضر ماله- جعل محمد يأخذ شطرا و يعطي عمرا شطرا- فما رأى عمرو ما حاز محمد من المال- قال يا محمد أقول قال قل ما تشاء- قال لعن الله يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب- و الله لقد رأيته و رأيت أباه- و إن على كل واحد منهما عباءة قطوانية- مؤتزرا بها ما تبلغ مأبض ركبتيه- و على عنق كل واحد منهما حزمة من حطب- و إن العاص بن وائل لفي مزررات الديباج- فقال محمد إيها يا عمرو فعمر و الله خير منك- و أما أبوك و أبوه ففي النار- و و الله لو لا ما دخلت فيه من الإسلام- لألفيت معتلفا شاة يسرك غزرها و يسوءك بكؤها- قال صدقت فاكتم علي قال أفعل- .

جاءت سرية لعبيد الله بن عمر إلى عمر تشكوه- فقالت يا أمير المؤمنين أ لا تعذرني من أبي عيسى- قال و من أبو عيسى قالت ابنك عبيد الله- قال ويحك و قد تكني بأبي عيسى و دعاه- و قال إيها اكتنيت بأبي عيسى فحذر و فزع- فأخذ يده فعضها حتى صاح- ثم ضربه و قال ويلك هل لعيسى أب- أ ما تدري ما كنى العرب- أبو سلمة أبو حنظلة أبو عرفطة أبو مرة- . كان عمر إذا غضب على بعض أهله- لم يشتف حتى يعض يده- و كان عبد الله بن الزبير كذلك- يقال إنه لم يل ولاية من ولد عمر وال عادل‏و قال مالك بن أنس- إن عمر بن الخطاب استفرغ كل عدل في ولده- فلم يعدل بعده أحد منهم في ولاية وليها- .

كان عمر و من بعده من الولاة- إذا أخذوا العصاة نزعوا عمائمهم و أقاموهم للناس- حتى جاء زياد فضربهم بالسياط- فجاء مصعب فحلق مع الضرب- فجاء بشر بن مروان فكان يصلب تحت الإبطين- و يضرب الأكف بالمسامير- فكتب إلى بعض الجند- قوم من أهله يستزيرونه و يتشوقونه- و قد أخرجه بشر إلى الري فكتب إليهم-

لو لا مخافة بشر أو عقوبته
أو أن يرى شأني كفي بمسمار

إذا لعطلت ثغري ثم زرتكم‏
إن المحب المعنى جد زوار

فلما جاء الحجاج قال- كل هذا لعب فقتل العصاة بالسيف- . زيد بن أسلم عن أبيه- قال خلا عمر لبعض شأنه و قال أمسك علي الباب- فطلع الزبير فكرهته حين رأيته- فأراد أن يدخل فقلت هو على حاجة- فلم يلتفت إلي و أهوى ليدخل- فوضعت يدي في صدره فضرب أنفي فأدماه- ثم رجع فدخلت على عمر فقال ما بك قلت الزبير- . فأرسل إلى الزبير- فلما دخل جئت فقمت لأنظر ما يقول له- فقال ما حملك على ما صنعت أدميتني للناس- فقال الزبير يحكيه و يمطط في كلامه أدميتني- أ تحتجب عنا يا ابن الخطاب- فو الله ما احتجب مني رسول الله و لا أبو بكر- فقال عمر كالمعتذر إني كنت في بعض شأني- . قال أسلم فلما سمعته يعتذر إليه- يئست من أن يأخذ لي بحقي منه- .

فخرج الزبير فقال عمر- إنه الزبير و آثاره ما تعلم فقلت حقي حقك- . و روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات- عن عبد الله بن عباس قال- إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة- إذ قال لي يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلا مظلوما- فقلت في نفسي و الله لا يسبقني بها- فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته- فانتزع يده من يدي- و مضى يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته- فقال يا ابن عباس- ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه- فقلت في نفسي هذه شر من الأولى- فقلت و الله ما استصغره الله و رسوله- حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك- .

فأعرض عني و أسرع فرجعت عنه- . و قال ابن عباس- قلت لعمر لقد أكثرت التمني للموت- حتى خشيت أن يكون عليك غير سهل عند أوانه- فما ذا سئمت من رعيتك أن تعين صالحا أو تقوم فاسدا- . قال يا ابن عباس إني قائل قولا فخذه إليك- كيف لا أحب فراقهم- و فيهم من هو فاتح فاه للشهوة من الدنيا- إما لحق لا ينوء به و إما لباطل لا يناله- و الله لو لا أن أسأل عنكم لبرئت منكم- فأصبحت الأرض مني بلاقع- و لم أقل ما فعل فلان و فلان- .

جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب- فقالت يا أمير المؤمنين- إن زوجي يصوم‏ النهار و يقوم الليل- و إني أكره أن أشكوه و هو يعمل بطاعة الله- فقال نعم الزوج زوجك- فجعلت تكرر عليه القول و هو يكرر عليها الجواب- . فقال له كعب بن سور يا أمير المؤمنين- إنها تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه- ففطن عمر حينئذ- و قال له قد وليتك الحكم بينهما- . فقال كعب علي بزوجها فأتي به- فقال إن زوجتك هذه تشكوك- قال في طعام أو شراب قال لا- قالت المرأة-

أيها القاضي الحكيم رشده
ألهى خليلي عن فراشي مسجده‏

زهده في مضجعي تعبده‏
نهاره و ليله ما يرقده‏
فلست في أمر النساء أحمده‏

فقال زوجها-

زهدني في فرشها و في الحجل
أني امرؤ أذهلني ما قد نزل‏

في سورة النمل و في السبع الطول‏
و في كتاب الله تخويف جلل‏

قال كعب-

إن لها حقا عليك يا رجل
تصيبها من أربع لمن عقل‏
فأعطها ذاك و دع عنك العلل‏

فقال لعمر يا أمير المؤمنين- إن الله أحل له من النساء مثنى و ثلاث و رباع- فله ثلاثة أيام و لياليهن- يعبد فيها ربه و لها يوم و ليلة- . فقال عمر و الله ما أعلم من أي أمريك أعجب- أ من فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما- اذهب فقد وليتك قضاء البصرة- . و روى زيد بن أسلم عن أبيه قال- خرجت مع عمر بن الخطاب و هو يطوف بالليل-فنظر إلى نار شرقي حرة المدينة- فقال إن هؤلاء الركب لم ينزلوا هاهنا إلا الليلة- ثم أهوى لهم فخرجت معه حتى دنونا- فسمعنا تضاغي الصبيان و بكاءهم- .

فقال السلام عليكم يا أصحاب الضوء هل ندنو منكم- و احتبسنا قليلا فقالت امرأة منهم ادنوا بسلام- فأقبلنا حتى وقفنا عليها فقال ما يبكي هؤلاء الصبيان- قالت الجوع قال فما هذا القدر على النار- قالت ماء أعللهم به- قال انتظريني فإني بالغك إن شاء الله- ثم خرج يهرول و أنا معه حتى جئنا دار الدقيق- و كانت دارا يطرح فيها ما يجي‏ء من دقيق العراق و مصر- و قد كان كتب إلى عمرو بن العاص و أبي موسى- حين أمحلت السنة الغوث الغوث- احملوا إلى أحمال الدقيق و اجعلوا فيها جمائد الشحم- فجاء إلى عدل منها فطأطأ ظهره- ثم قال احمله على ظهري يا أسلم فقلت أنا أحمله عنك- فنظر إلي و قال أنت تحمل عني وزري يوم القيامة- لا أبا لك قلت لا قال فاحمله على ظهري إذا- ففعلت و خرج به يدلج و أنا معه- حتى ألقاه عند المرأة- . ثم قال لي ذر علي ذرور الدقيق- لا يتعرد و أنا أخزر- ثم أخذ المسواط يخزر- ثم جعل ينفخ تحت البرمة- و أنا أنظر إلى الدخان يخرج من خلل لحيته- و يقول لا تعجل حتى ينضج- ثم قال ألق علي من الشحم- فإن القفار يوجع البطن- .

ثم أنزل القدر و قال للمرأة لا تعجلي- لا تعطيهم حارا و أنا أسطح لك- فجعل يسطح بالمسواط و يبرد طعامهم- حتى إذا شبعوا ترك عندها الفضل- ثم قال لها ائتي أمير المؤمنين غدا- فإنك عسيت أن تجديني قريبا منه فأشفع لك بخير- و هي تقول من أنت يرحمك الله- و تدعو له و تقول أنت أولى بالخلافة من أمير المؤمنين- فيقول قولي خيرا يرحمك الله لا يزيد على هذا- . ثم انصرف حتى إذا كان قريبا جلس فأقعى- و جعل يسمع طويلا- حتى سمع التضاحك منها و من الصبيان- و أنا أقول يا أمير المؤمنين قد فرغت من هذه- و لك شغل في غيرها و يقول لا تكلمني- حتى إذا هدأ حسهم قام فتمطى و قال- ويحك إني سمعت الجوع أسهرهم- فأحببت ألا أبرح حتى أسمع الشبع أنامهم- .

و من كلامه- الرجال ثلاثة الكامل و دون الكامل و لا شي‏ء- فالكامل ذو الرأي يستشير الناس- فيأخذ من آراء الرجال إلى رأيه- و دون الكامل من يستبد به و لا يستشير- و لا شي‏ء من لا رأى له و لا يستشير- . و النساء ثلاث- تعين أهلها على الدهر و لا تعين الدهر على أهلها- و قلما تجدها- و امرأة وعاء للولد ليس فيها غيره- و الثالثة غل قمل- يجعله الله في رقبة من يشاء و يفكه إذا شاء- . لما أخرج عمر الحطيئة من حبسه قال له إياك و الشعر- قال لا أقدر على تركه يا أمير المؤمنين- مأكلة عيالي و نملة تدب على لساني- قال فشبب بأهلك و إياك‏ و كل مدحة مجحفه- قال و ما المجحفة- قال تقول إن بني فلان خير من بني فلان- امدح و لا تفضل أحدا- قال أنت و الله يا أمير المؤمنين أشعر مني- .

و روى الزبير في الموفقيات عن عبد الله بن عباس- قال خرجت أريد عمر بن الخطاب فلقيته راكبا حمارا- و قد ارتسنه بحبل أسود في رجليه نعلان مخصوفتان- و عليه إزار و قميص صغير- و قد انكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه- فمشيت إلى جانبه و جعلت أجذب الإزار و أسويه عليه- كلما سترت جانبا انكشف جانب- فيضحك و يقول إنه لا يطيعك- حتى جئنا العالية فصلينا- ثم قدم بعض القوم إلينا طعاما من خبز و لحم- و إذا عمر صائم فجعل ينبذ إلي طيب اللحم- و يقول كل لي و لك- ثم دخلنا حائطا فألقى إلي رداءه و قال اكفنيه- و ألقى قميصه بين يديه و جلس يغسله و أنا أغسل رداءه- ثم جففناهما و صلينا العصر- فركب و مشيت إلى جانبه و لا ثالث لنا- .

فقلت يا أمير المؤمنين إني في خطبة فأشر علي- قال و من خطبت قلت فلانة ابنة فلان- قال النسب كما تحب و كما قد علمت- و لكن في أخلاق أهلها دقة- لا تعدمك أن تجدها في ولدك- قلت فلا حاجة لي إذا فيها- قال فلم لا تخطب إلى ابن عمك يعني عليا- قلت أ لم تسبقني إليه- قال فالأخرى قلت هي لابن أخيه- قال يا ابن عباس إن صاحبكم إن ولي هذا الأمر- أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به- فليتني أراكم بعدي قلت يا أمير المؤمنين إن صاحبنا ما قد علمت- أنه ما غير و لا بدل و لا أسخط رسول الله ص أيام صحبته له- .

قال فقطع علي الكلام- فقال و لا في ابنة أبي جهل- لما أراد أن يخطبها على فاطمة- . قلت قال الله تعالى وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً- و صاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله ص- و لكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه- و ربما كان من الفقيه في دين الله- العالم العامل بأمر الله- . فقال يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم- فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها- فقد ظن عجزا- أستغفر الله لي و لك خذ في غيرها- .

ثم أنشأ يسألني عن شي‏ء من أمور الفتيا و أجيبه- فيقول أصبت أصاب الله بك- أنت و الله أحق أن تتبع- . أشرف عبد الملك على أصحابه و هم يتذاكرون سيرة عمر- فغاظه ذلك و قال إيها عن ذكر سيرة عمر- فإنها مزراة على الولاة مفسدة للرعية- . قال ابن عباس كنت عند عمر- فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت- فقلت ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين- إلا هم شديد- قال إي و الله يا ابن عباس- إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي- ثم قال لعلك ترى صاحبك لها أهلا- قلت و ما يمنعه من ذلك- مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه- قال صدقت و لكنه امرؤ فيه دعابة- قلت فأين أنت عن طلحة قال ذو البأو- و بإصبعه المقطوعة قلت فعبد الرحمن- قال رجل ضعيف- لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته- قلت فالزبير قال شكس لقس- يلاطم في النقيع في صاع‏ من بر- قلت فسعد بن أبي وقاص- قال صاحب سلاح و مقنب- قلت فعثمان قال أوه ثلاثا- و الله لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس- ثم لتنهض العرب إليه- . ثم قال يا ابن عباس- إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا خصيف العقدة- قليل الغرة لا تأخذه في الله لومة لائم- ثم يكون شديدا من غير عنف- لينا من غير ضعف سخيا من غير سرف- ممسكا من غير وكف- قال ابن عباس و كانت و الله هي صفات عمر- .

قال ثم أقبل علي بعد أن سكت هنيهة- و قال أجرؤهم و الله إن وليها أن يحملهم على كتاب ربهم- و سنة نبيهم لصاحبك- أما إن ولى أمرهم- حملهم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم- . و روى عبد الله بن عمر قال كنت عند أبي يوما- و عنده نفر من الناس- فجرى ذكر الشعر فقال من أشعر العرب- فقالوا فلان و فلان- فطلع عبد الله بن عباس فسلم و جلس- فقال عمر قد جاءكم الخبير- من أشعر الناس يا عبد الله- قال زهير بن أبي سلمى- قال فأنشدني مما تستجيده له- فقال يا أمير المؤمنين إنه مدح قوما من غطفان- يقال لهم بنو سنان فقال-

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا

قوم أبوهم سنان حين تنسبهم‏
طابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا

أنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا
مرزءون بها ليل إذا جهدوا

محسدون على ما كان من نعم
لا بنزع الله منهم ماله حسدوا

فقال عمر و الله لقد أحسن- و ما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم- لقرابتهم من رسول الله ص- فقال ابن عباس وفقك الله يا أمير المؤمنين- فلم تزل موفقا- فقال يا ابن عباس أ تدري ما منع الناس منكم- قال لا يا أمير المؤمنين قال لكني أدري- قال ما هو يا أمير المؤمنين- قال كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة و الخلافة- فيجخفوا جخفا- فنظرت قريش لنفسها فاختارت و وفقت فأصابت- . فقال ابن عباس- أ يميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع- قال قل ما تشاء- قال أما قول أمير المؤمنين إن قريشا كرهت- فإن الله تعالى قال لقوم- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ- .

و أما قولك إنا كنا نجخف- فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة- و لكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله ص- الذي قال الله تعالى وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ- و قال له وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- . و أما قولك فإن قريشا اختارت- فإن الله تعالى يقول- وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ- و قد علمت يا أمير المؤمنين- أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار- فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها- لوفقت و أصابت قريش- . فقال عمر على رسلك يا ابن عباس- أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول- و حقدا عليها لا يحول- فقال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين-لا تنسب هاشما إلى الغش- فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله و زكاه- و هم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم- إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ- وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً- و أما قولك حقدا فكيف لا يحقد من غصب شيئه- و يراه في يد غيره- . فقال عمر أما أنت يا ابن عباس- فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به- فتزول منزلتك عندي- قال و ما هو يا أمير المؤمنين أخبرني به- فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه- و إن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به- .

قال بلغني أنك لا تزال تقول- أخذ هذا الأمر منك حسدا و ظلما- قال أما قولك يا أمير المؤمنين حسدا- فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة- فنحن بنو آدم المحسود- . و أما قولك ظلما فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو- . ثم قال يا أمير المؤمنين- أ لم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله- و احتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله ص- فنحن أحق برسول الله من سائر قريش- . فقال له عمر قم الآن فارجع إلى منزلك فقام- فلما ولى هتف به عمر أيها المنصرف- إني على ما كان منك لراع حقك- . فالتفت ابن عباس فقال- إن لي عليك يا أمير المؤمنين- و على كل المسلمين حقا برسول الله ص- فمن حفظه فحق نفسه حفظ- و من أضاعه فحق نفسه أضاع ثم مضى- .

فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس- ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه- . لما توفي عبد الله بن أبي- رأس المنافقين في حياة رسول الله ص- جاء ابنه و أهله- فسألوا رسول الله ص أن يصلي عليه- فقام بين يدي الصف يريد ذلك- فجاء عمر فجذبه من خلفه- و قال أ لم ينهك الله أن تصلي على المنافقين- فقال إني خيرت فاخترت- فقيل لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ- إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ- و لو أني أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت- ثم صلى رسول الله عليه و مشى معه و قام على قبره- . فعجب الناس من جرأة عمر على رسول الله ص- فلم يلبث الناس إلا أن نزل قوله تعالى- وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً- وَ لا تَقُمْ عَلى‏ قَبْرِهِ- فلم يصل ع بعدها على أحد من المنافقين- .

و روى أبو هريرة قال كنا قعودا حول رسول الله ص في نفر- فقام من بين أظهرنا فأبطأ علينا و خشينا أن يقطع دوننا فقمنا و كنت أول من فزع- فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا للأنصار- لقوم من بني النجار- فلم أجد له بابا إلا ربيعا- فدخلت في جوف الحائط و الربيع الجدول- فدخلت منه بعد أن احتفرته فإذا رسول الله ص- فقال أبو هريرة قلت نعم- قال ما شأنك قلت كنت بين أظهرنا- فقمت فأبطأت عنا فخشينا أن تقتطع دوننا- ففزعنا و كنت أول من فزع- فأتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثعلب- و الناس من ورائي- .

فقال يا أبا هريرة اذهب بنعلي هاتين- فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله- مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة- فخرجت فكان أول من لقيت عمر- فقال ما هذان النعلان- قلت نعلا رسول الله ص بعثني بهما- و قال من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه- فبشره بالجنة- . فضرب عمر في صدري فخررت لاستي- و قال ارجع إلى رسول الله ص- . فأجهشت بالبكاء راجعا- فقال رسول الله ما بالك- قلت لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به- فضرب صدري ضربة خررت لاستي- و قال ارجع إلى رسول الله- . فخرج رسول الله فإذا عمر- فقال ما حملك يا عمر على ما فعلت- فقال عمر أنت بعثت أبا هريرة بكذا- قال نعم قال فلا تفعل- فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فيتركوا العمل خلهم يعملون فقال رسول الله ص خلهم يعملون

و روى أبو سعيد الخدري قال أصابت الناس مجاعة في غزاة تبوك- فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فذبحنا نواضحنا- و أكلنا شحمها و لحمها فقال افعلوا- فجاء عمر فقال يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر- و لكن ادعهم بفضلات أزوادهم فاجمعها- ثم ادع لهم عليها بالبركة لعل الله يجعل في ذلك خيرا-ففعل رسول الله ص ذلك- فأكل الخلق الكثير من طعام قليل- و لم تذبح النواضح

و روى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله ص يذكر له ذنبا أذنبه- فانزل الله تعالى في أمره- وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ- إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى‏ لِلذَّاكِرِينَ- فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس عامة- . فضرب عمر صدره بيده و قال- لا و لا نعمى عين بل للناس عامة- فقال رسول الله ص بل للناس عامة
– . و كان عمر يقول وافقني ربي في ثلاث- قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى- فنزلت وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى- .

و قلت يا رسول الله- إن نساءك يدخل عليهن البر و الفاجر- فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب- . و تمالأ عليه نساؤه غيرة فقلت له- عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن- فنزلت بهذا اللفظ- . و قال عبد الله بن مسعود فضل عمر الناس بأربع- برأيه في أسارى بدر فنزل القرآن بموافقته- ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‏ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ- و برأيه في حجاب نساء النبي ص- فنزل قوله تعالى- وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَ‏ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ- و بدعوة النبي ص-

اللهم أيد الإسلام بأحد الرجلين- و برأيه في أبي بكر كان أول من بايعه- . و روت عائشة قالت- كنت آكل مع رسول الله ص حيسا- قبل أن تنزل آية الحجاب- و مر عمر فدعاه فأكل- فأصابت يده إصبعي فقال حس- لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب- . جاء عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس إلى أبي بكر- فقالا يا خليفة رسول الله- إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ و لا منفعة- فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها- و لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم- فقال أبو بكر لمن حوله من الناس المسلمين- ما ترون قالوا لا بأس- فكتب لهما بها كتابا و أشهد فيه شهودا- و عمر ما كان حاضرا- فانطلقا إليه ليشهد في الكتاب- فوجداه قائما يهنأ بعيرا- فقالا إن خليفة رسول الله ص كتب لنا هذا الكتاب- و جئناك لتشهد على ما فيه- أ فتقرؤه أم نقرؤه عليك- قال أ على الحال التي تريان إن شئتما فاقرآه- و إن شئتما فانتظرا حتى أفرغ- .

قالا بل نقرؤه عليك- فلما سمع ما فيه أخذه منهما ثم تفل فيه- فمحاه فتذامرا و قالا مقالة سيئة- .فقال إن رسول الله ص كان يتألفكما- و الإسلام يومئذ ذليل- و إن الله تعالى قد أعز الإسلام- فاذهبا فاجهدا جهدكما- لا رعى الله عليكما إن رعيتما- . فذهبا إلى أبي بكر و هما يتذمران- فقالا و الله ما ندري أنت أمير أم عمر- فقال بل هو لو شاء كان- . و جاء عمر و هو مغضب حتى وقف على أبي بكر- فقال أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين الرجلين- أ هي لك خاصة أم بين المسلمين عامة- فقال بين المسلمين عامة- قال فما حملك على أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين- قال استشرت الذين حولي فأشاروا بذلك- فقال أ فكل المسلمين أوسعتهم مشورة و رضا- فقال أبو بكر- فلقد كنت قلت لك إنك أقوى على هذا الأمر مني- لكنك غلبتني- .

لما كتب النبي ص كتاب الصلح- في الحديبية بينه و بين سهيل بن عمرو- كان في الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد- و من خرج من المشركين إلى النبي ص يرد عليهم- فغضب عمر و قال لأبي بكر ما هذا يا أبا بكر- أ يرد المسلمون إلى المشركين- ثم جاء إلى رسول الله ص فجلس بين يديه- و قال يا رسول الله أ لست رسول الله حقا قال بلى- قال و نحن المسلمون حقا قال نعم- قال و هم الكافرون حقا قال نعم- قال فعلام نعطي الدنية في ديننا- فقال رسول الله أنا رسول الله أفعل ما يأمرني به- و لن يضيعني- .

فقام عمر مغضبا- و قال لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا- و جاء إلى أبي بكرفقال له يا أبا بكر- أ لم يكن وعدنا أننا سندخل مكة- فأين ما وعدنا به فقال أبو بكر- أ قال لك إنه العام يدخلها قال لا- قال فسيدخلها فقال فما هذه الصحيفة التي كتبت- و كيف نعطي الدنية من أنفسنا- فقال أبو بكر يا هذا الزم غرزه- فو الله إنه لرسول الله و إن الله لا يضيعه- .

فلما كان يوم الفتح- و أخذ رسول الله ص مفتاح الكعبة- قال ادعوا لي عمر- فجاء فقال هذا الذي كنت وعدتكم به- . لما قتل المشركون يوم بدر أسر منهم سبعون أسيرا- فاستشار رسول الله ص فيهم أبا بكر و عمر- فقال أبو بكر- يا رسول الله هؤلاء بنو العم و العشيرة و الإخوان- و أرى أن تأخذ منهم الفدية- فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على المشركين- و عسى أن يهديهم الله بعد اليوم- فيكونوا لنا عذرا- فقال رسول الله ص ما تقول أنت يا عمر- قال أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر- فأضرب عنقه- و تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه- و تمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه- حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين- اقتلهم يا رسول الله فإنهم صناديدهم و قادتهم- فلم يهو رسول الله ما قاله عمر- . قال عمر فجئت رسول الله ص- فوجدته قاعدا و أبو بكر و هما يبكيان- فقلت ما يبكيكما حدثاني- فإن وجدت بكاء بكيت و إلا تباكيت- فقال رسول الله ص أبكي لأخذ الفداء- لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة منه- .

قال عبد الله بن عمر- فكان رسول الله ص يقول- كدنا أن يصيبنا شر في مخالفة عمر- . و قال عمر في خلافته- لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا- فإني أعلم أن للناس حوائج تقتطع دوني- أما عمالهم فلا يرفعونها إلي- و أما هم فلا يصلون إلي- أسير إلى الشام فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين- ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين- ثم إلى البصرة فأقيم بها شهرين- و الله لنعم الحول هذا- .

و قال أسلم- بعثني عمر بإبل من إبل الصدقة إلى الحمى- فوضعت جهازي على ناقة منها كريمة- فلما أردت أن أصدرها قال أعرضها علي- فعرضتها عليه فرأى متاعي على ناقة حسناء- فقال لا أم لك- عمدت إلى ناقة تغني أهل بيت من المسلمين- فهلا ابن لبون بوال أو ناقة شصوص- . و قيل لعمر إن هاهنا رجلا من الأحبار نصرانيا- له بصر بالديوان لو اتخذته كاتبا- فقال لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين- . قال و قد خطب الناس- و الذي بعث محمدا بالحق- لو أن جملا هلك ضياعا بشط الفرات- خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب- .

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم- يعني بآل الخطاب نفسه ما يعني غيرها- . و كتب إلى أبي موسى- أنه لم يزل للناس وجوه من الأمر- فأكرم من قبلك من وجوه الناس- و بحسب المسلم الضعيف من بين القوم- أن ينصف في الحكم و في القسم- . أتى أعرابي عمر- فقال إن ناقتي بها نقبا و دبرا فاحملني- فقال له و الله ما ببعيرك من نقب و لا دبر فقال-

أقسم بالله أبو حفص عمر
ما مسها من نقب و لا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر

فقال عمر اللهم اغفر لي ثم دعاه فحمله- . جاء رجل إلى عمر و كانت بينهما قرابة يسأله- فزبره و أخرجه فكلم فيه- و قيل يا أمير المؤمنين زبرته و أخرجته- قال إنه سألني من مال الله- فما معذرتي إذا لقيته ملكا خائنا فلو سألني من مالي- ثم بعث إليه ألف درهم من ماله- .

و كان يقول في عماله- اللهم إني لم أبعثهم ليأخذوا أموال المسلمين- و لا ليضربوا أبشارهم- من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني بينا عمر ذات ليلة يعس- سمع صوت امرأة من سطح و هي تنشد-

تطاول هذا الليل و أزور جانبه
و ليس إلى جنبي خليل ألاعبه‏

فو الله لو لا الله تخشى عواقبه‏
لزعزع من هذا السرير جوانبه‏

مخافة ربي و الحياء يصدني
و أكرم بعلي أن تنال مراكبه‏

و لكنني أخشى رقيبا موكلا
بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه‏

– فقال عمر لا حول و لا قوة إلا بالله- ما ذا صنعت يا عمر بنساء المدينة- ثم جاء فضرب على حفصة ابنته- فقالت ما جاء بك في هذه الساعة- قال أخبريني كم تصبر المرأة المغيبة عن بعلها- قالت أقصاه أربعة أشهر- . فلما أصبح كتب إلى أمرائه في جميع النواحي- ألا تجمر البعوث- و ألا يغيب رجل عن أهله أكثر من أربعة أشهر- .

و روى أسلم قال- كنت مع عمر و هو يعس بالمدينة- إذ سمع امرأة تقول لبنتها- قومي يا بنية إلى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه- قالت أ و ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين بالأمس- قالت و ما هو- قالت إنه أمر مناديا فنادى ألا يشاب اللبن بالماء- قالت فإنك بموضع لا يراك أمير المؤمنين- و لا منادي أمير المؤمنين- قالت‏ و الله ما كنت لأطيعه في الملأ و أعصيه في الخلاء- و عمر يسمع ذلك- فقال يا أسلم اعرف الباب ثم مضى في عسه- فلما أصبح قال يا أسلم امض إلى الموضع- فانظر من القائلة و من المقول لها و هل لهما من بعل- قال أسلم- فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم- و إذا المتكلمة بنت لها ليس لهما رجل- .

فجئت فأخبرته فجمع عمر ولده- و قال هل يريد أحد أن يتزوج- فأزوجه امرأة صالحة فتاة- و لو كان في أبيكم حركة إلى النساء لم يسبقه أحد إليها- فقال عاصم ابنه أنا فبعث إلى الجارية فزوجها ابنه عاصما- فولدت له بنتا هي المكناة أم عاصم- و هي أم عمر بن عبد العزيز بن مروان- . حج عمر فلما كان بضجنان- قال لا إله إلا الله العلي العظيم- المعطي ما يشاء لمن يشاء- أذكر و أنا أرعى إبل الخطاب- بهذا الوادي في مدرعة صوف- و كان فظا يتعبني إذا عملت- و يضربني إذا قصرت- و قد أمسيت اليوم و ليس بيني و بين الله أحد ثم تمثل-

لا شي‏ء مما يرى تبقى بشاشته
يبقى الإله و يودي المال و الولد

لم تغن عن هرمز يوما خزائنه‏
و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

و لا سليمان إذ تجري الرياح له
و الإنس و الجن فيما بينها يرد

أين الملوك التي كانت منازلها
من كل أوب إليها راكب يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب
لا بد من ورده يوما كما وردوا

و روى محمد بن سيرين- أن عمر في آخر أيامه اعتراه نسيان- حتى كان ينسى عدد ركعات الصلاة- فجعل أمامه رجلا يلقنه- فإذا أومى إليه أن يقوم أو يركع فعل- . و سمع عمر منشدا ينشد قول طرفه-

فلو لا ثلاث هن من عيشه الفتى
و جدك لم أحفل متى قام عودي‏

فمنهن سبقي العاذلات بشربه‏
كميت متى ما تعل بالماء تزبد

و كري إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا نبهته المتوسد

و تقصير يوم الدجن و الدجن معجب‏
ببهكنة تحت الطراف الممدد

فقال و أنا لو لا ثلاث هن من عيشه الفتى- لم أحفل متى قام عودي- أن أجاهد في سبيل الله- و أن أضع وجهي في التراب لله- و أن أجالس قوما يلتقطون طيب القول كما يلتقط طيب التمر- . و روى عبد الله بن بريدة- قال كان عمر ربما يأخذ بيد الصبي- فيقول ادع لي فإنك لم تذنب بعد- و كان عمر كثير المشاورة- كان يشاور في أمور المسلمين حتى المرأة- . و روى يحيى بن سعيد قال- أمر عمر الحسين بن علي ع- أن يأتيه‏ في بعض الحاجة- فلقي الحسين ع عبد الله بن عمر- فسأله من أين جاء- قال استأذنت على أبي فلم يأذن لي- فرجع الحسين و لقيه عمر من الغد- فقال ما منعك يا حسين أن تأتيني قال قد أتيتك- و لكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك- فرجعت فقال عمر و أنت عندي مثله- و هل أنبت الشعر على الرأس غيركم- .

قال عمر يوما و الناس حوله- و الله ما أدري أ خليفة أنا أم ملك- فإن كنت ملكا فقد ورطت في أمر عظيم- فقال له قائل يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا- و إنك إن شاء الله لعلى خير قال كيف- قال إن الخليفة لا يأخذ إلا حقا و لا يضعه إلا في حق- و أنت بحمد الله كذلك- و الملك يعسف الناس و يأخذ مال هذا فيعطيه هذا- فسكت عمر و قال أرجو أن أكونه- . و روى مالك عن نافع عن ابن عمر- أن عمر تعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة- فلما ختمها نحر جزورا- . و روى أنس- قال كان يطرح لعمر كل يوم صاع من تمر- فيأكله حتى حشفه- . و روى يوسف بن يعقوب الماجشون- قال قال لي ابن شهاب و لأخ لي و ابن عم لنا- و نحن صبيان أحداث- لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم- فإن عمر كان إذا نزل به الأمر المعضل- دعا الصبيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم- .

و روى الحسن- قال كان رجل لا يزال يأخذ من لحية عمر شيئا- فأخذ يوما من لحيته فقبض على يده فإذا فيها بشي‏ء- فقال إن الملق من الكذب ثم علاه بالدرة- . انقطع شسع نعل عمر فاسترجع- و قال كل ما ساءك فهو مصيبة- . وقف أعرابي على عمر فقال له-

يا ابن خطاب جزيت الجنة
اكس بنياتي و أمهنه‏
أقسم بالله لتفعلنه‏

فقال عمر إن لم أفعل يكون ما ذا- قال

إذا أبا حفص لأمضينه‏

فقال إذا مضيت يكون ما ذا- قال

تكون عن حالي لتسألنه
يوم تكون الأعطيات جنة

و الواقف المسئول يبهتنه‏
إما إلى نار و إما جنة

فبكى عمر ثم قال لغلامه- أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره- و الله ما أملك ثوبا غيره- . و روى ابن عباس- قال قال لي عمر ليلة أنشدني لشاعر الشعراء- قلت و من هو قال زهير الذي يقول-

إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية
من المجد من يسبق إليها يسود

فأنشدته حتى برق الفجر- فقال إيها الآن اقرأ يا عبد الله- قلت ما أقرأ قال سورة الواقعة- . سمع عمر صوت بكاء في بيت- فدخل و بيده الدرة- فمال عليهم ضربا حتى بلغ النائحة- فضربها حتى سقط خمارها- ثم قال لغلامه اضرب النائحة- ويلك اضربها فإنها نائحة لا حرمة لها- لأنها لا تبكي بشجوكم- إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم- إنها تؤذي أمواتكم في قبورهم و أحياءكم في دورهم- إنها تنهى عن الصبر و قد أمر الله به- و تأمر بالجزع و قد نهى الله عنه- . و من كلامه- من اتجر في شي‏ء ثلاث مرات فلم يصب فيه- فليتحول عنه إلى غيره- . و من كلامه- لو كنت تاجرا لما اخترت على العطر شيئا- إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه- .

و من كلامه تفقهوا قبل أن تسودوا- . و من كلامه تعلموا المهنة- فإنه يوشك أحدكم أن يحتاج إلى مهنته- . و من كلامه مكسبة فيها بعض الدناءة- خير من مسألة الناس- . و من كلامه أعقل الناس أعذرهم لهم- . رأى عمر ناسا يتبعون أبي بن كعب- فرفع عليه الدرة- فقال يا أمير المؤمنين اتق الله- قال فما هذه الجموع خلفك يا ابن كعب- أ ما علمت أنها فتنة للمتبوع مذلة للتابع- . جاء رجل إلى عمر- فقال إن بنتا لي واريتها في الجاهلية- فاستخرجناها قبل أن‏

تموت- فأدركت معنا الإسلام فأسلمت- ثم قارفت حدا من حدود الله- فأخذت الشفرة لتذبح نفسها- فأدركناها و قد قطعت بعض أوداجها- فداويناها حتى برئت و تابت توبة حسنة- و قد خطبها قوم أ فأخبرهم بالذي كان من شأنها- فقال عمر أ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه- و الله لئن أخبرت بشأنها أحدا- لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار- أنكحها نكاح العفيفة السليمة- .

أسلم غيلان بن سلمة الثقفي من عشر نسوة- فقال له النبي ص- اختر منهن أربعا و طلق ستا – فلما كان على عهد عمر طلق نساءه الأربع- و قسم ماله بين بنيه- فبلغ ذلك عمر فأحضره- فقال له إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع- سمع بموتك فقذفه في نفسك- و لعلك لا تمكث إلا قليلا- و ايم الله لتراجعن نساءك- و لترجعن في مالك- أو لأورثنهن منك- و لآمرن بقبرك فيرجم- كما رجم قبر أبي رغال و قال عمر- إن الجزف في المعيشة أخوف عندي عليكم من العيال- أنه لا يبقى مع الفساد شي‏ء- و لا يقل مع الإصلاح شي‏ء- . و كان عمر يقول أدبوا الخيل- و انتضلوا و اقعدوا في الشمس- و لا يجاورنكم الخنازير- و لا تقعدوا على مائدة يشرب عليها الخمر- أو يرفع عليها الصليب- و إياكم و أخلاق العجم- و لا يحل لمؤمن أن يدخل الحمام إلا مؤتزرا- و لا لامرأة أن تدخل الحمام إلا من سقم- فإذا وضعت المرأة خمارها في غير بيت زوجها- فقد هتكت الستر بينها و بين الله تعالى- .

و كان يكره أن يتزيا الرجال بزي النساء- و ألا يزال الرجل يرى مكتحلا مدهنا- و أن يحف لحيته و شاربه كما تحف المرأة- . سمع عمر سائلا يقول من يعشي السائل- فقال عشوا سائلكم- ثم جاء إلى دار إبل الصدقة يعشيها- فسمع صوته مرة أخرى- من يعشي السائل- فقال أ لم آمركم أن تعشوه فقالوا قد عشيناه- فأرسل إليه عمر و إذا معه جراب مملوء خبزا- فقال إنك لست سائلا إنما أنت تاجر تجمع لأهلك- فأخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدي الإبل- . و قال عمر من مزح استخف به- و قال أ تدرون لم سمي المزاح مزاحا- لأنه أزاح الناس عن الحق- .

و من كلامه لن يعطى أحد بعد الكفر بالله شرا- من زوجة حديدة اللسان سيئة الخلق عقيم- و لن يعطى أحد بعد الإيمان بالله خيرا- من زوجة كريمة ودود ولود حسنة الخلق- . و كان يقول- إن شقاشق الكلام من شقاشق اللسان- فأقلوا ما استطعتم- . و نظر إلى شاب قد نكس رأسه خشوعا- فقال يا هذا ارفع رأسك- فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب- فمن أظهر للخلق خشوعا فوق ما في قلبه- فإنما أظهر نفاقا- . و من كلامه- إن أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم أسماء- فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم أخلاقا- فإذا بلوناكم فأحبكم إلينا أعظمكم أمانة- و أصدقكم حديثا- . و كان يقول- لا تنظروا إلى صلاة امرئ و لا صيامه- و لكن انظروا إلى عقله و صدقه- .

و من كلامه إن العبد إذا تواضع لله رفع حكمته- و قال له انتعش نعشك الله- فهو في نفسه صغير و في أعين الناس عظيم- و إذا تكبر و عتا وهضه الله إلى الأرض- و قال اخسأ خسأك الله- فهو في نفسه عظيم- و في أعين الناس حقير- حتى يكون عندهم أحقر من الخنزير- . و قال الإنسان لا يتعلم العلم لثلاث و لا يتركه لثلاث- لا يتعلمه ليماري به و لا ليباهي به و لا ليرائي به- و لا يتركه حياء من طلبه- و لا زهادة فيه و لا رضا بالجهل بدلا منه- . و قال تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم- . و قال إني لا أخاف عليكم أحد الرجلين- مؤمنا قد تبين إيمانه و كافرا قد تبين كفره- و لكن أخاف عليكم منافقا يتعوذ بالإيمان و يعمل بغيره- . و من كلامه إن الرجف من كثرة الزناء- و إن قحوط المطر من قضاه السوء و أئمة الجور- .

و قال في النساء استعينوا عليهن بالعري- فإن إحداهن إذا كثرت ثيابها- و حسنت زينتها أعجبها الخروج- . و من كلامه إن الجبت السحر و إن الطاغوت الشيطان- و إن الجبن و الشجاعة غرائز تكون في الرجال- يقاتل الشجاع عمن لا يعرف- و يفر الجبان عن أمه- و إن كرم الرجل دينه- و حسب الرجل خلقه- و إن كان فارسيا أو نبطيا- . و قال تفهموا العربية- فإنها تشحذ العقل و تزيد في المروءة- . و قال النساء ثلاث- امرأة هينة لينة عفيفة ودود ولود- تعين بعلها على الدهر- و لا تعين الدهر على بعلها و قلما تجدها- و أخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئا- و الثالثة غل قمل- يجعله الله في عنق من يشاء- و ينزعه إذا شاء- .

و الرجال ثلاثة- رجل عاقل يورد الأمور و يصدرها- فيحسن إيرادا و إصدارا- و آخر يشاور الرجال و يقف عند آرائهم- و الثالث حائر بائر لا يأتمر رشدا- و لا يطيع مرشدا- . و قال ما يمنعكم إذا رأيتم السفيه- يخرق أعراض النساء أن تعربوا عليه- قالوا نخاف لسانه قال ذاك أدنى ألا تكونوا شهداء- . و رأى رجلا عظيم البطن- فقال ما هذا قال بركة من الله- . و قال إذا رزقت مودة من أخيك- فتشبث بها ما استطعت- . و قال لقوم يحصدون الزرع- إن الله جعل ما أخطأت أيديكم رحمة لفقرائكم- فلا تعودوا فيه- . و قال ما ظهرت قط نعمه على أحد إلا وجدت له حاسدا- و لو أن أمرا كان أقوم من قدح لوجدت له غامزا- . و قال إياكم و المدح فإنه الذبح- . و قال لقبيصه بن ذؤيب- أنت رجل حديث السن فصيح اللسان- و إنه يكون في الرجل تسعة أخلاق حسنة- و خلق واحد سيئ- فيغلب الواحد التسعة فتوق عثرات السيئات- .

و قال بحسب امرئ من الغي أن يؤذي جليسه- أو يتكلف ما لا يعنيه- أو يعيب الناس بما يأتي مثله- و يظهر له منهم ما يخفى عليهم من نفسه- . و قال احترسوا من الناس بسوء الظن- . و قال في خطبة له لا يعجبنكم من الرجل طنطنته- و لكن من أدى الأمانة- و كف عن أعراض الناس فهو الرجل- . و قال الراحة في مهاجرة خلطاء السوء- .

و قال إن لؤما بالرجل أن يرفع يديه من الطعام قبل أصحابه- . و أثنى رجل على رجل عند عمر- فقال له أ عاملته قال لا- قال أ صحبته في السفر قال لا- قال فأنت إذا القائل ما لا يعلم- . و قال لأن أموت بين شعبتي رحلي أسعى في الأرض- أبتغي من فضل الله كفاف وجهي- أحب إلي من أن أموت غازيا- . و كان عمر قاعدا و الدرة معه و الناس حوله- إذ أقبل الجارود العامري فقال رجل هذا سيد ربيعة- فسمعها عمر و من حوله و سمعها الجارود- فلما دنا منه خفقه بالدرة- فقال ما لي و لك يا أمير المؤمنين- قال ويلك سمعتها- قال و سمعتها فمه- قال خشيت أن تخالط القوم- و يقال هذا أمير فأحببت أن أطأطئ منك- .

و قال من أحب أن يصل أباه في قبره- فليصل إخوان أبيه من بعده- . و قال إن أخوف ما أخاف أن يكون- إعجاب المرء برأيه- فمن قال إني عالم فهو جاهل- و من قال إني في الجنة فهو في النار- . و خرج للحج- فسمع غناء راكب يغني و هو محرم- فقيل يا أمير المؤمنين أ لا تنهاه عن الغناء و هو محرم- فقال دعوه فإن الغناء زاد الراكب- .

و قال يثغر الغلام لسبع و يحتلم لأربع عشرة- و ينتهي طوله لإحدى و عشرين- و يكمل عقله لثمان و عشرين- و يصير رجلا كاملا لأربعين- .

و روى سعيد بن المسيب- أن عمر لما صدر من الحج في الشهر الذي قتل فيه- كوم كومة من بطحاء و ألقى عليها طرف ثوبه- ثم استلقى عليها و رفع يديه إلى السماء- و قال اللهم كبرت سني- و ضعفت قوتي و انتشرت رعيتي- فاقبضني إليك غير مضيع و لا مفرط- . ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال- أيها الناس قد فرضت لكم الفرائض- و سننت لكم السنن و تركتكم على الواضحة- إلا أن تضلوا بالناس يمينا و شمالا- إياكم أن تنتهوا عن آية الرجم- و أن يقول قائل لا نجد ذلك حدا في كتاب الله- فقد رأيت رسول الله رجم و رجمنا بعده- و لو لا أن يقول الناس- إن ابن الخطاب أحدث آية في كتاب الله لكتبتها- و لقد كنا نقرؤها- و الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة- فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن دفع إلى عمر صك محله في شعبان- فقال أي شعبان الذي مضى أم الذي نحن فيه- ثم جمع أصحاب رسول الله ص-

و قال ضعوا للناس تاريخا يرجعون إليه- فقال قائل منهم اكتبوا على تاريخ الروم- فقيل إنه يطول و إنه مكتوب من عهد ذي القرنين- و قال قائل بل اكتبوا على تاريخ الفرس- فقيل إن الفرس كلما قام ملك طرحوا ما كان قبله- فقال علي ع اكتبوا تاريخكم- منذ خرج رسول الله ص من دار الشرك إلى دار النصرة- و هي دار الهجرة – فقال عمر نعم ما أشرت به- فكتب للهجرة- بعد مضي سنتين و نصف من خلافة عمر- .

قال المؤرخون- إن عمر أول من سن قيام رمضان في جماعة- و كتب به إلى البلدان و أقام الحد في الخمر ثمانين- و أحرق بيت رويشد الثقفي و كان نباذا- و أقام في عمله بنفسه- و أول من حمل الدرة و أدب بها- و قيل بعده كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج- . و هو أول من فتح الفتوح- فتح العراق كله السواد و الجبال و أذربيجان- و كور البصرة و كور الكوفة و الأهواز و فارس- و فتح الشام كلها ما خلا أجنادين- فإنها فتحت في خلافة أبي بكر- و فتح كور الجزيرة و الموصل و مصر و الإسكندرية- و قتله أبو لؤلؤة و خيله على الري- .

و هو أول من مسح السواد و وضع الخراج على الأرض- و الجزية على جماجم أهل الذمة فيما فتحه من البلدان- و بلغ خراج السواد في أيامه مائة ألف ألف درهم- و عشرين ألف ألف درهم بالوافية- و هي وزن الدينار من الذهب- و هو أول من مصر الأمصار- و كوف الكوفة و بصر البصرة و أنزلها العرب- و أول من استقضى القضاة في الأمصار- و أول من دون الدواوين- و كتب الناس على قبائلهم- و فرض لهم الأعطية- و هو أول من قاسم العمال و شاطرهم أموالهم- و كان يستعمل قوما و يدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل- و قال أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل- و هو الذي هدم مسجد رسول الله ص- و زاد فيه و أدخل دار العباس فيما زاد- و هو الذي أخرج اليهود من الحجاز- و أجلاهم عن جزيرة العرب إلى الشام- و هو الذي فتح البيت المقدس و حضر الفتح بنفسه- و هو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم- و كان ملصقا بالبيت و حج بنفسه خلافته كلها إلا السنة الأولى- فإنه استخلف على الحج عبد الرحمن بن عوف- و هوالذي جاء بالحصى من العقيق فبسطه في مسجد المدينة- و كان الناس إذا رفعوا رءوسهم من السجود نفضوا أيديهم- .

و روى أبو هريرة قال- قدمت على عمر من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم- فقال لي بما ذا قدمت قلت بثمانمائة ألف درهم- فقال أ لم أقل لك إنك يمان أحمق- ويحك إنما قدمت بثمانين ألف درهم- فقلت يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم- فجعل يعجب و يكررها- فقال ويحك و كم ثمانمائة ألف درهم- فعددت مائة ألف و مائة ألف حتى بلغت ثمانية- فاستعظم ذلك- و قال أ طيب هو ويحك- قلت نعم فبات عمر ليلته تلك أرقا حتى إذا نودي لصلاة الصبح- قالت له امرأته ما نمت هذه الليلة- قال و كيف أنام و قد جاء الناس ما لم يأتهم مثله منذ قام الإسلام- فظنت المرأة أنها داهية- فسألته فقال مال جم حمله أبو موسى- قالت فما بالك- قال ما يؤمنني لو مت و هذا المال عندي لم أضعه في حقه- فخرج يصلي الصبح و اجتمع الناس إليه- فقال لهم قد رأيت في هذا المال رأيا فأشيروا علي- رأيت أن أكيله للناس بالمكيال- قالوا لا يا أمير المؤمنين-

قال لا بل أبدأ برسول الله ص و بأهله- ثم الأقرب فالأقرب فبدأ ببني هاشم- ثم ببني المطلب ثم بعبد شمس و نوفل- ثم بسائر بطون قريش- . قسم عمر مروطا بين نساء المدينة- فبقي مرط جيد له فقال بعض من عنده- أعط هذا يا أمير المؤمنين ابنة رسول الله التي عندك- يعنون أم كلثوم ابنة علي ع-فقال أم سليط أحق به- فإنها ممن بايع رسول الله ص- و كانت تزفر لنا القرب يوم أحد- . و روى زيد بن أسلم عن أبيه- قال خرجت مع عمر إلى السوق- فلحقته امرأة شابة- فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي- و ترك صبية صغارا لا ينضحون كراعا- لا زرع لهم و لا ضرع- و قد خشيت عليهم الضيعة- و أنا ابنة خفاف بن أسماء الغفاري- و قد شهد أبي الحديبية فوقف عمر معها و لم يمض- و قال مرحبا بنسيب قريب- ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار- فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما- و جعل بينهما نفقة و ثيابا ثم ناولها خطامه-

و قال اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير- فقال له رجل لقد أكثرت لها يا أمير المؤمنين- فقال ثكلتك أمك و الله لكأني أرى أبا هذه و أخاها- و قد حاصرا حصنا فافتتحاه فافترقنا- ثم أصبحنا نستقرئ سهماننا فيه- . و روى الأوزاعي أن طلحة تبع عمر ليلة- فرآه دخل بيتا ثم خرج- فلما أصبح ذهب طلحة إلى ذلك البيت- فرأى امرأة عمياء مقعده- فقال لها ما بال رجل أتاك الليلة- قالت إنه رجل يتعاهدني منذ كذا و كذا- يأتيني بما يصلحني- فقال طلحة ثكلتك أمك يا طلحة تريد تتبع عمر- .

خرج عمر إلى الشام- حتى إذا كان ببعض الطريق- لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح و أصحابه- فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام- فقال لابن عباس ادع لي المهاجرين- فدعاهم فسألهم فاختلفوا عليه- فقال بعضهم خرجت لأمر و لا نرى أن‏ ترجع عنه- و قال بعضهم معك بقية الناس و أصحاب رسول الله ص- و لا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء- فقال ارتفعوا عني- ثم قال لابن عباس ادع لي الأنصار فدعاهم فاستشارهم- فاختلفوا عليه اختلاف المهاجرين- فقال لابن عباس- ادع لي من كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح- فدعاهم فقالوا بأجمعهم- نرى أن ترجع بالناس و لا تقدمهم على هذا الوباء- فنادى عمر في الناس- إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه- فقال له أبو عبيدة بن الجراح- أ فرارا من قدر الله تعالى- فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة- نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله- أ رأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان- إحداهما خصبة و الأخرى جدبة- أ ليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله- و إن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله- فجاء عبد الرحمن بن عوف و كان متغيبا في بعض حاجته- فقال إن عندي من هذا علما-
سمعت رسول الله ص يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه- و إذا وقع بأرض و أنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
– فحمد عمر الله عز و جل و انصرف إلى المدينة- .

و روى ابن عباس- قال خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته- فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته- فقال لي يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك- سألته أن يخرج معي فلم يفعل- و لم أزل أراه واجدا فيم تظن موجدته- قلت يا أمير المؤمنين إنك لتعلم- قال أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة- قلت هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له- فقال يا ابن عباس و أراد رسول الله ص الأمر له- فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك- إن رسول الله ص أراد أمرا و أراد الله غيره- فنفذ مراد الله تعالى و لم ينفذ مراد رسوله- أ و كلما أراد رسول الله ص كان- إنه أراد إسلام عمه و لم يرده الله فلم يسلم- .

و قد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ و هو قوله- إن رسول الله ص أراد أن يذكره للأمر في مرضه- فصددته عنه خوفا من الفتنة و انتشار أمر الإسلام- فعلم رسول الله ما في نفسي و أمسك- و أبى الله إلا إمضاء ما حتم و حدثني الحسين بن محمد السيني- قال قرأت على ظهر كتاب- أن عمر نزلت به نازلة- فقام لها و قعد و ترنح لها و تقطر- و قال لمن عنده معشر الحاضرين- ما تقولون في هذا الأمر- فقالوا يا أمير المؤمنين أنت المفزع و المنزع- فغضب و قال- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ- وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً- ثم قال أما و الله إني و إياكم لنعلم ابن بجدتها و الخبير بها- قالوا كأنك أردت ابن أبي طالب- قال و أنى يعدل بي عنه و هل طفحت حرة مثله- قالوا فلو دعوت به يا أمير المؤمنين- قال هيهات إن هناك شمخا من هاشم و أثرة من علم- و لحمة من رسول الله ص يؤتى و لا يأتي- فامضوا بنا إليه فانقصفوا نحوه و أفضوا إليه- فألفوه في حائط له عليه تبان- و هو يتركل على مسحاته و يقرأ- أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً إلى آخر السورة- و دموعه تهمي على خديه- فأجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت و سكتوا- فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها- فقال عمر- أماو الله لقد أرادك الحق و لكن أبى قومك- فقال يا أبا حفص خفض عليك من هنا و من هنا- إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً- فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى- و أطرق إلى الأرض و خرج كأنما ينظر في رماد- . قلت أجدر بهذا الخبر أن يكون موضوعا- و فيه ما يدل على ذلك- من كون عمر أتى عليا يستفتيه في المسألة- و الأخبار كثيرة بأنه ما زال يدعوه إلى منزله و إلى المسجد- و أيضا فإن عليا لم يخاطب عمر منذ ولي الخلافة بالكنية- و إنما كان يخاطبه بإمرة المؤمنين- هكذا تنطق كتب الحديث و كتب السير و التواريخ كلها- . و أيضا فإن هذا الخبر لم يسند إلى كتاب معين- و لا إلى راو معين- بل ذكر ذلك أنه قرأه على ظهر كتاب فيكون مجهولا- و الحديث المجهول غير الصحيح- .

فأما ثناء عمر على أمير المؤمنين فصحيح غير منكر- و في الروايات منه الكثير الواسع- و لكنا أنكرنا هذا الخبر بعينه خاصة- و قد روي عن ابن عباس أيضا- قال دخلت على عمر يوما فقال يا ابن العباس- لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء- قلت من هو فقال هذا ابن عمك يعني عليا- قلت و ما يقصد بالرياء أمير المؤمنين- قال يرشح نفسه بين الناس للخلافة- قلت و ما يصنع بالترشيح- قد رشحه لها رسول الله ص فصرفت عنه- قال إنه كان شابا حدثا- فاستصغرت العرب سنه و قد كمل الآن- أ لم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد الأربعين- قلت يا أمير المؤمنين- أما أهل الحجى و النهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا- منذ رفع الله منار الإسلام- و لكنهم يعدونه محروما مجدودا- فقال أما إنه سيليها بعد هياط و مياط- ثم تزل فيها قدمه و لا يقضى منها أربه- و لتكونن شاهدا ذلك يا عبد الله- ثم يتبين الصبح لذي عينين- و تعلم العرب صحة رأي المهاجرين الأولين-الذين صرفوها عنه بادئ بدء- فليتني أراكم بعدي يا عبد الله- إن الحرص محرمة و إن دنياك كظلك- كلما هممت به ازداد عنك بعدا- .

نقلت هذا الخبر- من أمالي أبي جعفر محمد بن حبيب رحمه الله- . و نقلت منه أيضا ما رواه عن ابن عباس- قال تبرم عمر بالخلافة في آخر أيامه- و خاف العجز و ضجر من سياسة الرعية- فكان لا يزال يدعو الله بأن يتوفاه- فقال لكعب الأحبار يوما و أنا عنده- إني قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر- و أظن وفاتي قد دنت- فما تقول في علي- أشر علي في رأيك و أذكرني ما تجدونه عندكم- فإنكم تزعمون أن أمرنا هذا مسطور في كتبكم- فقال أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح- إنه رجل متين الدين لا يغضي على عورة- و لا يحلم عن زلة و لا يعمل باجتهاد رأيه- و ليس هذا من سياسة الرعية في شي‏ء- و أما ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الأمر و لا ولده- و إن وليه كان هرج شديد- قال كيف ذاك قال لأنه أراق الدماء فحرمه الله الملك- إن داود لما أراد أن يبني حيطان بيت المقدس- أوحى الله إليه إنك لا تبنيه- لأنك أرقت الدماء و إنما يبنيه سليمان- فقال عمر أ ليس بحق أراقها- قال كعب و داود بحق أراقها يا أمير المؤمنين-

قال فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم قال- نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة و الاثنين من أصحابه- إلى أعدائه الذين حاربهم و حاربوه و حاربهم على الدين- فاسترجع عمر مرارا- و قال أ تستمع يا ابن عباس- أما و الله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا سمعته يقول ليصعدن بنو أمية على منبري- و لقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة – و فيهم أنزل- وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ- وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ-

و قد روى الزبير بن بكار في الموفقيات- ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة- قال قال لي عمر يوما يا مغيرة- هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت- قلت لا قال أما و الله ليعورن بنو أمية الإسلام- كما أعورت عينك هذه- ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب و لا أين يجي‏ء- قلت ثم ما ذا يا أمير المؤمنين- قال ثم يبعث الله تعالى بعد مائة و أربعين- أو بعد مائة و ثلاثين وفدا كوفد الملوك طيبة ريحهم- يعيدون إلى الإسلام بصره و شتاته- قلت من هم يا أمير المؤمنين- قال حجازي و عراقي و قليلا ما كان و قليلا ما دام- .

و روى أبو بكر الأنباري في أماليه- أن عليا ع جلس إلى عمر في المسجد و عنده ناس- فلما قام عرض واحد بذكره و نسبه إلى التيه و العجب- فقال عمر حق لمثله أن يتيه- و الله لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام- و هو بعد أقضى الأمة و ذو سابقتها و ذو شرفها- فقال له ذلك القائل- فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه- قال كرهناه على حداثة السن و حبه بني عبد المطلب- . قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد- و قد قرأت عليه هذه الأخبار- فقلت له ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص- و لكني أستبعد أن يجتمع الصحابة- على دفع نص رسول الله ص على شخص بعينه- كما استبعدنا من الصحابة على رد نصه على الكعبة- و شهر رمضان و غيرهما من معالم الدين-

فقال لي رحمه الله أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة- ثم قال إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة- إلى أنها من معالم الدين- و أنها جارية مجرى العبادات الشرعية كالصلاة و الصوم- و لكنهم كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية و يذهبون لهذا- مثل تأمير الأمراء و تدبير الحروب و سياسة الرعية- و ما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه ص- إذا رأوا المصلحة في غيرها- أ لا تراه كيف نص على إخراج أبي بكر و عمر في جيش أسامة- و لم يخرجا لما رأيا أن في مقامهما مصلحة للدولة و للملة- و حفظا للبيضة و دفعا للفتنة- و قد كان رسول الله ص يخالف- و هو حي في أمثال ذلك فلا ينكره- و لا يرى به بأسا- أ لست تعلم أنه نزل في غزاة بدر منزلا- على أن يحارب قريشا فيه- فخالفته الأنصار-

و قالت له ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه- و انزل في منزل كذا فرجع إلى آرائهم- و هو الذي قال للأنصار عام قدم إلى المدينة- لا تؤبروا النخل- فعملوا على قوله فحالت نخلهم في تلك السنة و لم تثمر- حتى قال لهم أنتم أعرف بأمر دنياكم- و أنا أعرف بأمر دينكم- و هو الذي أخذ الفداء من أسارى بدر- فخالفه عمر فرجع إلى تصويب رأيه- بعد أن فات الأمر و خلص الأسرى و رجعوا إلى مكة- و هو الذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه- فأتى سعد بن معاذ و سعد بن عبادة فخالفاه- فرجع إلى قولهما و قد كان قال لأبي هريرة- اخرج فناد في الناس- من قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة- فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره- حتى وقع على الأرض فقال لا تقلها- فإنك إن تقلها يتكلوا عليها و يدعوا العمل- فأخبر أبو هريرة رسول الله ص بذلك-

فقال لا تقلها و خلهم يعملون- فرجع إلى قول عمر و قد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا- على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك- كإسقاطهم سهم ذوي القربى و إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم- و هذان الأمران أدخل في باب الدين منهما في باب الدنيا- و قد عملوا بآرائهم أمورا- لم يكن لها ذكر في الكتاب و السنة- كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا- و لم يحد رسول الله ص شاربي الخمر- و قد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم- و لقد كان أوصاهم في مرضه-أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم- حتى مضى صدر من خلافة عمر- و عملوا في أيام أبي بكر برأيهم في ذلك باستصلاحهم- و هم الذين هدموا المسجد بالمدينة و حولوا المقام بمكة- و عملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة- و لم يقفوا مع موارد النصوص- حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد- فرجح كثير منهم القياس على النص- حتى استحالت الشريعة- و صار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة- .

قال النقيب و أكثر ما يعملون بآرائهم- فيما يجري مجرى الولايات و التأمير و التدبير- و تقرير قواعد الدولة- و ما كانوا يقفون مع نصوص الرسول ص و تدبيراته- إذا رأوا المصلحة في خلافها- كأنهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا- و كأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله- و تقدير ذلك القيد افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحة- .

قال و أما مخالفتهم له فيما هو محض الشرع و الدين- و ليس بمتعلق بأمور الدنيا و تدبيراتها فإنه يقل جدا- نحو أن يقول الوضوء شرط في الصلاة- فيجمعوا على رد ذلك و يجيزوا الصلاة من غير وضوء- أو يقول صوم شهر رمضان واجب- فيطبقوا على مخالفة ذلك و يجعلوا شوالا عوضا عنه- فإنه بعيد إذ لا غرض لهم فيه- و لا يقدرون على إظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عنه ص- و القوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم- أن العرب لا تطيع عليا ع- فبعضها للحسد و بعضها للوتر و الثأر- و بعضها لاستحداثهم سنه- و بعضها لاستطالته عليهم و رفعه عنهم- و بعضها كراهة اجتماع النبوة و الخلافة في بيت واحد- و بعضها للخوف من شدة وطأته و شدته في دين الله- و بعضها خوفا لرجاء تداول قبائل العرب الخلافة- إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه- فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها ثابتا مستمرا- و بعضها ببغضه لبغضهم من قرابته‏ لرسول الله ص- و هم المنافقون من الناس- و من في قلبه زيغ من أمر النبوة- فأصفق الكل إصفاقا واحدا على صرف الأمر عنه لغيره-

و قال رؤساؤهم إنا خفنا الفتنة- و علمنا أن العرب لا تطيعه و لا تتركه- و تأولوا عند أنفسهم النص و لا ينكر النص- و قالوا إنه النص و لكن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب- و الغائب قد يترك لأجل المصلحة الكلية- و أعانهم على ذلك مسارعة الأنصار إلى ادعائهم الأمر- و إخراجهم سعد بن عبادة من بيته و هو مريض- لينصبوه خليفة فيما زعموا و اختلط الناس- و كثر الخبط و كادت الفتنة أن تشتعل نارها- فوثب رؤساء المهاجرين- فبايعوا أبا بكر و كانت فلتة كما قال قائلهم- و زعموا أنهم أطفئوا بها نائرة الأنصار- فمن سكت من المسلمين و أغضى و لم يتعرض- فقد كفاهم أمر نفسه- و من قال سرا أو جهرا- إن فلانا قد كان رسول الله ص ذكره- أو نص عليه أو أشار إليه- أسكتوه في الجواب بأنا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة الفتنة- و اعتذروا عنده ببعض ما تقدم- إما أنه حديث السن أو تبغضه العرب- لأنه وترها و سفك دماءها- أو لأنه صاحب زهو و تيه- أو كيف تجتمع النبوة و الخلافة في مغرس واحد- بل قد قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا و أوكد-

قالوا أبو بكر أقوى على هذا الأمر منه- لا سيما و عمر يعضده و يساعده- و العرب تحب أبا بكر و يعجبها لينه و رفقه- و هو شيخ مجرب للأمور لا يحسده أحد- و لا يحقد عليه أحد و لا يبغضه أحد- و ليس بذي شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه- و لا بذي قربى من الرسول ص فيدل بقربه- و دع ذا كله فإنه فضل مستغنى عنه- قالوا لو نصبنا عليا ع- ارتد الناس عن الإسلام و عادت الجاهلية كما كانت- فأيما أصلح في الدين- الوقوف مع النص المفضي إلى ارتداد الخلق- و رجوعهم إلى الأصنام و الجاهلية- أم العمل بمقتضى الأصلح- و استبقاء الإسلام و استدامة العمل بالدين- و إن كان فيه مخالفة النص- .

قال رحمه الله و سكت الناس عن الإنكار- فإنهم كانوا متفرقين- فمنهم من هو مبغض شانئ لعلي ع- فالذي تم من صرف الأمر عنه هو قرة عينه و برد فؤاده- و منهم ذو الدين و صحة اليقين- إلا أنه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الأمر عنه- ظن أنهم إنما فعلوا ذلك- لنص سمعوه من رسول الله ص- ينسخ ما قد كان سمعه من النص على أمير المؤمنين ع- لا سيما ما رواه أبو بكر من قول النبي ص الأئمة من قريش – فإن كثيرا من الناس توهموا أنه ناسخ للنص الخاص- و إن معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمام من قريش- من أي بطون قريش كان فإنه يكون إماما- . و أكد أيضا في نفوسهم رفض النص الخاص- ما سمعوه من قول رسول الله ص ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن و قوله ع سألت الله ألا يجمع أمتي على ضلال- فأعطانيها فأحسنوا الظن بعاقدي البيعة – .

و قالوا هؤلاء أعرف بأغراض رسول الله ص من كل أحد- فأمسكوا و كفوا عن الإنكار- و منهم فرقة أخرى و هم الأكثرون- أعراب و جفاة و طغام أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح- فهؤلاء مقلدون لا يسألون و لا ينكرون و لا يبحثون- و هم مع أمرائهم و ولاتهم- لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة لتركوها- فلذلك أمحق النص و خفي و درس- و قويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر- و قواها زيادة على ذلك- اشتغال علي و بني هاشم برسول الله ص- و إغلاق بابهم عليهم- و تخليتهم الناس يعملون ما شاءوا و أحبوا- من غير مشاركة لهم فيما هم فيه- لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات- و هيهات الفائت لا رجعة له- .

و أراد علي ع بعد ذلك نقض البيعة فلم يتم له ذلك- و كانت العرب لا ترى‏الغدر- و لا تنقض البيعة صوابا كانت أو خطأ- و قد قالت له الأنصار و غيرها أيها الرجل- لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك أحدا- و لكنا قد بايعنا- فكيف السبيل إلى نقض البيعة بعد وقوعها- . قال النقيب- و مما جرأ عمر على بيعة أبي بكر و العدول عن علي- مع ما كان يسمعه من الرسول ص في أمره- أنه أنكر مرارا على الرسول ص أمورا اعتمدها- فلم ينكر عليه رسول الله ص إنكاره- بل رجع في كثير منها إليه- و أشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته- فأطمعه ذلك في الإقدام على اعتماد كثير- من الأمور التي كان يرى فيها المصلحة- مما هي خلاف النص- و ذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق- و إنكاره فداء أسارى بدر- و إنكاره عليه تبرج نسائه للناس- و إنكاره قضية الحديبية- و إنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب- و إنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة- و إنكاره أمره بالنداء- من قال لا إله إلا الله دخل الجنة – و إنكاره أمره بذبح النواضح- و إنكاره على النساء بحضرة رسول الله ص هيبتهن له- دون رسول الله ص إلى غير ذلك- من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث- و لو لم يكن إلا إنكاره قول رسول الله ص في مرضه- ائتوني بدواة و كتف- أكتب لكم ما لا تضلون بعدي –

و قوله ما قال و سكوت رسول الله ص عنه- و أعجب الأشياء أنه قال ذلك اليوم حسبنا كتاب الله- فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار- فبعضهم يقول القول ما قال رسول الله ص- و بعضهم يقول القول ما قال عمر- فقال رسول الله و قد كثر اللغط و علت الأصوات- قوموا عني فما ينبغي لنبي أن يكون عنده هذا التنازع – فهل بقي للنبوة مزية أو فضل- إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين- و ميل‏ المسلمون بينهما- فرجح قوم هذا و قوم هذا- فليس ذلك دالا على أن القوم سووا بينه و بين عمر- و جعلوا القولين مسألة خلاف- ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما- كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام- فينصر قوم هذا و ينصر ذاك آخرون- فمن بلغت قوته و همته إلى هذا- كيف ينكر منه أنه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها- و يعدل عن النص- و من الذي كان ينكر عليه ذلك- و هو في القول الذي قاله للرسول ص في وجهه- غير خائف من الأنصار- و لا ينكر عليه أحد لا رسول الله ص و لا غيره- و هو أشد من مخالفة النص في الخلافة و أفظع و أشنع قال النقيب- على أن الرجل ما أهمل أمر نفسه- بل أعد أعذارا و أجوبة- و ذلك لأنه قال لقوم عرضوا له بحديث النص- أن رسول الله ص رجع عن ذلك- بإقامته أبا بكر في الصلاة مقامه- و أوهمهم أن ذلك جار مجرى النص عليه بالخلافة- و قال يوم السقيفة- أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين- قدمهما رسول الله ص في الصلاة-

ثم أكد ذلك بأن قال لأبي بكر- و قد عرض عليه البيعة- أنت صاحب رسول الله ص في المواطن كلها- شدتها و رخائها رضيك لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا- . ثم عاب عليا بخطبته بنت أبي جهل- فأوهم أن رسول الله ص كرهه لذلك و وجد عليه- و أرضاه عمرو بن العاص- فروى حديثا افتعله و اختلقه على رسول الله- قال سمعته يقول إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء- إنما وليي الله و صالح المؤمنين فجعلوا ذلك كالناسخ لقوله ص من كنت مولاه فهذا مولاه – .

قلت للنقيب أ يصح النسخ في مثل هذا- أ ليس هذا نسخا للشي‏ء قبل تقضي وقت فعله- فقال سبحان الله من أين تعرف العرب هذا- و أنى لها أن تتصوره فضلا عن أن تحكم بعدم جوازه- فهل يفهم حذاق الأصوليين هذه المسألة- فضلا عن حمقى العرب- هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة- و يستمالون بأضعف سبب- و تبنى الأمور معهم على ظواهرالنصوص و أوائل الأدلة- و هم أصحاب جهل و تقليد- لا أصحاب تفضيل و نظر- . قال ثم أكد حسن ظن الناس بهم- أنهم أطلقوا أنفسهم عن الأموال- و زهدوا في متاع الدنيا و زخرفها- و سلكوا مسلك الرفض لزينتها- و الرغبة عنها و القناعة بالطفيف النزر منها- و أكلوا الخشن و لبسوا الكرابيس- و لما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها- و فرقوا الأموال على الناس و قسموها بينهم- و لم يتدنسوا منها بقليل و لا كثير- فمالت إليهم القلوب و أحبتهم النفوس- و حسنت فيهم الظنون-

و قال من كان في نفسه شبهة منهم أو وقفه في أمرهم- لو كان هؤلاء قد خالفوا النص- لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا- و لظهر عليهم الميل إليها و الرغبة فيها و الاستئثار بها- و كيف يجمعون على أنفسهم مخالفة النص- و ترك لذات الدنيا و مآربها- فيخسروا الدنيا و الآخرة- و هذا لا يفعله عاقل و القوم عقلاء ذوو الباب و آراء صحيحة- فلم يبق عند أحد شك في أمرهم و لا ارتياب لفعلهم- و ثبتت العقائد على ولايتهم و تصويب أفعالهم- و نسوا لذة الرئاسة- و أن أصحاب الهمم العالية لا يلتفون- إلى المأكل و المشرب و المنكح- و إنما يريدون الرئاسة و نفوذ الأمر- كما قال الشاعر-

و قد رغبت عن لذة المال أنفس
و ما رغبت عن لذة النهي و الأمر

قال رحمه الله- و الفرق بين الرجلين و بين الثالث ما أصيب به الثالث- و قتل تلك القتلة و خلعه الناس و حصروه- و ضيقوا عليه بعد أن توالى إنكارهم أفعاله- و جبهوه في وجهه و فسقوه- و ذلك لأنه استأثر هو و أهله بالأموال- و انغمسوا فيها و استبدوا بها- فكانت طريقته و طريقتهم مخالفة لطريق الأولين- فلم تصبر العرب على ذلك- و لو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد- و جمع الناس و ردع الأمراء و الولاة عن الأموال- و تجنب استعمال أهل بيته- و وفر أعراض الدنيا و ملاذها و شهواتها على الناس- زاهدا فيها تاركا لها معرضا عنها- لما ضره شي‏ء قط و لا أنكر عليه أحد قط- و لو حول الصلاة من‏ الكعبة إلى بيت المقدس- بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات الخمس- و اقتنع منهم بأربع- و ذلك لأن همم الناس مصروفة إلى الدنيا و الأموال- فإذا وجدوها سكتوا و إذا فقدوها هاجوا و اضطربوا- أ لست ترى رسول الله ص- كيف قسم غنائم هوازن على المنافقين- و على أعدائه الذين يتمنون قتله و موته و زوال دولته- فلما أعطاهم أحبوه إما كلهم أو أكثرهم- و من لم يحبه منهم بقلبه جامله و داراه- و كف عن إظهار عداوته و الإجلاب عليه- و لو أن عليا صانع أصحابه بالمال- و أعطاه الوجوه و الرؤساء- لكان أمره إلى الانتظام و الاطراد أقرب- و لكنه رفض جانب التدبير الدنيوي- و آثر لزوم الدين و تمسك بأحكام الشريعة- و الملك أمر آخر غير الدين- فاضطرب عليه أصحابه- و هرب كثير منهم إلى عدوه- . و قد ذكرت في هذا الفصل- خلاصة ما حفظته عن النقيب أبي جعفر- و لم يكن إمامي المذهب و لا كان يبرأ من السلف- و لا يرتضي قول المسرفين من الشيعة- و لكنه كلام أجراه على لسانه البحث و الجدل بيني و بينه- على أن العلوي لو كان كراميا- لا بد أن يكون عنده نوع من تعصب- و ميل على الصحابة و إن قل- .

و لنرجع إلى ذكر كلام عمر من خطبته و سيرته- . كتب عمر إلى أبي موسى- لما استعمله قاضيا و بعثه إلى العراق- من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس- سلام عليك أما بعد- فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة- فافهم إذا أدلي إليك- فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له- آس بين الناس في وجهك و عدلك و مجلسك- حتى لا يطمع شريف في‏حيفك- و لا ييأس ضعيف من عدلك- البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر- و الصلح جائز بين المسلمين- إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا- لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك- و هديت فيه لرشدك- أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم- و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل- الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك- مما ليس في كتاب و لا سنة-

ثم اعرف الأشباه و الأمثال- و قس الأمور عند ذلك- و اعمد إلى أقربها إلى الله عز و جل و أشبهها بالحق- و اجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه- فإن أحضر بينته أخذت له بحقه- و إلا استحللت عليه القضية- فإنه أنفى للشك و أجلى للعمى- المسلمون عدول بعضهم على بعض- إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور- أو ظنينا في ولاء أو نسب- فإن الله عز و جل تولى منكم السرائر- و درأ عنكم بالبينات و الأيمان الشبهات- إياك و الغلق و الضجر و التأذي بالخصوم- و التنكر عند الخصومات- فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر- و يحسن به الذخر فمن صحت نيته- و أقبل على نفسه كفاه الله ما بينه و بين الناس- و من تخلق للناس بما يعلم الله عز و جل منه إنه ليس من نفسه- شانه الله فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه- و خزائن رحمته و السلام- .

ذكر هذه الرسالة أبو العباس محمد بن يزيد المبرد- في كتاب الكامل و أطراها- فقال إنه جمع فيها جمل الأحكام- و اختصرها بأجود الكلام- و جعل الناس بعده يتخذونه إماما فلا يجد محق عنها معدلا- و لا ظالم عن حدودها محيصا- .و كتب عمر إلى عماله يوصيهم- فقال في جملة الكتاب- ارتدوا و ائتزروا و انتعلوا- و ألقوا الخفاف و السراويلات و ألقوا الركب- و انزوا نزوا على الخيل و اخشوشنوا و عليكم بالمعدية- أو قال و تمعددوا و ارموا الأغراض- و علموا فتيانكم العوم و الرماية- و ذروا التنعم و زي العجم و إياكم و الحرير- فإن رسول الله ص نهى عنه- و قال لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا- و أشار بإصبعه- .

و كتب إلى بعض عماله- أن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته- و أن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته- فإياك أن تزيغ فتزيغ رعيتك- فيكون مثلك عند الله مثل البهيمة- رأت الخضرة في الأرض فرعت فيها تبغي السمن- و حتفها في سمنها و كتب إلى أبي موسى و هو بالبصرة- بلغني أنك تأذن للناس الجماء الغفير- فإذا جاءك كتابي هذا- فأذن لأهل الشرف و أهل القرآن و التقوى و الدين- فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة- و لا تؤخر عمل اليوم لغد- فتتداك عليك الأعمال فتضيع- و إياك و اتباع الهوى- فإن للناس أهواء متبعة و دنيا مؤثرة و ضغائن محمولة- و حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة- فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة- كان مرجعه إلى الرضا و الغبطة- و من ألهته حياته و شغلته أهواؤه- عاد أمره إلى الندامة و الحسرة- إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة- بعيد القرارة لا يحنق على جرة- و لا يطلع الناس منه على عورة- و لا يخاف في الحق لومة لائم- الزم أربع خصال يسلم لك دينك و تحيط بأفضل حظك- إذا حضر الخصمان- فعليك بالبينات العدول و الأيمان القاطعة- ثم ائذن للضعيف حتى ينبسط لسانه- و يجترئ قلبه و تعاهد الغريب- فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته و انصرف إلى أهله- و احرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء- و السلام عليك- .

و كان رجل من الأنصار- لا يزال يهدي لعمر فخذ جزور- إلى أن جاء ذات يوم مع خصم له- فجعل في أثناء الكلام يقول- يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني و بينه- كما يفصل فخذ الجزور- . قال عمر- فما زال يرددها حتى خفت على نفسي- فقضيت عليه و كتبت إلى عمالي- أما بعد فإياكم و الهدايا فإنها من الرشا- ثم لم أقبل له هدية فيما بعد و لا لغيره- . و كان عمر يقول- اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون- فإن الله عز و جل وكل بهم ملائكة- واضعة أيديهم على أفواههم- فلا يتكلمون إلا بما هيأه الله لهم- .

و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه- قال كان عمر يقول- جردوا القرآن و لا تفسروه- و أقلوا الرواية عن رسول الله ص و أنا شريككم- . و قال أبو جعفر- و كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شي‏ء جمع أهله- فقال إني عسيت أن أنهى الناس عن كذا- و أن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم- و أقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعل- إلا أضعفت عليه العقوبة- . قال أبو جعفر و كان عمر شديدا على أهل الريب- و في حق الله صليبا حتى يستخرجه- و لينا سهلا فيما يلزمه حتى يؤديه و بالضعيف رحيما- .

و روى زيد بن أسلم- عن أبيه أن نفرا من المسلمين- كلموا عبد الرحمن بن عوف- فقالوا كلم لنا عمر بن الخطاب- فقد و الله أخشانا حتى لا نستطيع أن نديم إليه أبصارنا- فذكر عبد الرحمن له ذلك- فقال أ و قد قالوا ذلك- و الله لقد لنت لهم حتى تخوفت الله في أمرهم- و قد تشددت عليهم حتى خفت الله في أمرهم- و أنا و الله أشد فرقا لله منهم لي- .

و روى جابر بن عبد الله قال- قال رجل لعمر يا خليفة الله قال خالف الله بك- قال جعلني الله فداك قال إذن يهينك الله- . و روى أبو جعفر- قال استشار عمر في أمر المال كيف يقسمه- فقال له علي بن أبي طالب ع- تقسم كل سنة ما اجتمع معك من المال- و لا تمسك منه شيئا- و قال عثمان بن عفان- أرى مالا كثيرا يسع الناس و إن لم يحصوا- حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر- فقال الوليد بن هشام بن المغيرة- يا أمير المؤمنين قد جئت الشام- فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا- و جندوا جنودا و فرضوا لهم أرزاقا- فأخذ بقوله فدعا عقيل بن أبي طالب- و مخرمة بن نوفل و جبير بن مطعم- و كانوا نساب قريش-

و قال اكتبوا الناس على منازلهم- فكتبوا فبدءوا ببني هاشم- ثم أتبعوهم أبا بكر و قومه- ثم عمر و قومه على ترتيب الخلافة- فلما نظر إليه قال وددت أنه كان هكذا- لكن ابدأ بقرابة النبي ص الأقرب فالأقرب- حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله- . قال أبو جعفر جاءت بنو عدي إلى عمر- فقالوا له يا عمر- أنت خليفة رسول الله‏ص- قال أو خليفة أبي بكر- و أبو بكر خليفة رسول الله ص- قالوا و ذاك فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم- فقال بخ بخ يا بني عدي- أردتم الأكل على ظهري- و أن أذهب حسناتي لكم- لا و الله و لو كتبتم آخر الناس- إن لي صاحبين سلكا طريقا- فإن أنا خالفتهما خولف بي- و الله ما أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد- و لا نرجو ما نرجو من الآخرة و ثوابها إلا بمحمد ص- فهو شرفنا و قومه أشرف العرب ثم الأقرب منه فالأقرب- و ما بيننا و بين أن نلقاه- ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة- و الله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال و جئنا بغير عمل- فإنهم أولى بمحمد ص منا يوم القيامة- لا ينظرن رجل إلى قرابته- و ليعمل بما عند الله- فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه- .

و روى السائب بن يزيد قال- سمعت عمر بن الخطاب يقول- و الله ما من أحد إلا له في هذا المال حق أعطيه أو منعه- و ما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك- و ما أنا فيه إلا كأحدكم- و لكنا على منازلنا من كتاب الله- و قسمنا من رسول الله ص- فالرجل و بلاؤه في الإسلام- و الرجل و غناؤه و الرجل و حاجته- و الله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء- حظه من المال و هو مكانه- . و روى نافع مولى آل الزبير قال- سمعت أبا هريرة يقول رحم الله ابن حنتمة- لقد رأيته عام الرمادة- و إنه ليحمل على ظهره جرابين- و عكة زيت في يده- و إنه ليعتقب هو و أسلم- فلما رآني قال من أين يا أبا هريرة- قلت قريبا فأخذت‏ أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار- فإذا صرم من نحو عشرين بيتا من محارب- فقال عمر ما أقدمكم قالوا الجهد- و أخرجوا لنا جلد الميتة مشويا كانوا يأكلونه- و رمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها- فرأيت عمر طرح رداءه ثم برز- فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا- و أرسل أسلم إلى المدينة- فجاء بأبعرة فحملهم عليها- ثم أنزلهم الجبانة ثم كساهم- و كان يختلف إليهم و إلى غيرهم حتى كفى الله ذلك- .

و روى راشد بن سعد أن عمر أتي بمال- فجعل يقسم بين الناس فازدحموا عليه- فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه- فعلاه عمر بالدرة- و قال إنك أقبلت- لا تهابن سلطان الله في الأرض- فأحببت بأن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك- . و قالت الشفاء ابنة عبد الله- و رأت فتيانا من النساك يقتصدون في المشي- و يتكلمون رويدا ما هؤلاء- فقيل نساك- فقالت كان عمر بن الخطاب هو الناسك حقا- و كان إذا تكلم أسمع- و إذا مشى أسرع و إذا ضرب أوجع- .

أعان عمر رجلا على حمل شي‏ء فدعا له الرجل- و قال نفعك بنوك يا أمير المؤمنين- قال بل أغناني الله عنهم- . و من كلامه- القوة في العمل ألا يؤخر عمل اليوم لغد- و الأمانة ألا تخالف سريرتك علانيتك- و التقوى بالتوقي و من يتق الله يقه- .

و قال عمر كنا نعد المقرض بخيلا إنما كانت المواساة- . أتى رهط إلى عمر- فقالوا يا أمير المؤمنين- كثر العيال و اشتدت المئونة فزدنا في أعطياتنا- فقال فعلتموها جمعتم بين الضرائر- و اتخذتم الخدم من مال الله- أما لوددت أني و إياكم في سفينتين في لجة البحر- تذهب بنا شرقا و غربا- فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم- فإن استقام اتبعوه و إن جنف قتلوه- فقال طلحة و ما عليك لو قلت و إن أعوج عزلوه- فقال القتل أرهب لمن بعده- احذروا فتى قريش- فإنه كريمها الذي لا ينام إلا على الرضا- و يضحك عند الغضب- و يتناول ما فوقه من تحته- .

و كان يقول في آخر أيامه- عند تبرمه بالأمر و ضجره من الرعية- اللهم ملوني و مللتهم و أحسست من نفسي و أحسوا مني- و لا أدري بأينا يكون اللوت- و قد أعلم أن لهم قتيلا منهم فاقبضني إليك- . و ذكر قوم من الصحابة لعمر رجلا- فقالوا فاضل لا يعرف الشر- قال ذاك أوقع له فيه و روى الطبري في التاريخ- أن عمر استعمل عتبة بن أبي سفيان على عمل- فقدم منه بمال فقال له ما هذا يا عتبة- قال مال خرجت به معي و تجرت فيه- قال و ما لك تخرج المال معك إلى هذا الوجه- فأخذ المال منه فصيره في بيت المال- فلما قام عثمان قال لأبي سفيان-إنك إن طلبت ما أخذه عمر من عتبة رددته عليك- فقال له أبو سفيان إياك و ما هممت به- إنك إن خالفت صاحبك قبلك- ساء رأي الناس فيك- إياك أن ترد على من كان قبلك فيرد عليك من بعدك- .

و روى الطبري أيضا- أن هندا بنت عتبة بن ربيعة قامت إلى عمر- فسألته أن يقرضها من بيت المال أربعة آلاف درهم- تتجر فيها و تضمنها- فخرجت بها إلى بلاد كلب فباعت و اشترت- و بلغها أن أبا سفيان قد أتى معاوية يستميحه- و معه ابنه عمرو بن أبي سفيان- فعدلت إليه من بلاد كلب- و كان أبو سفيان قد طلقها- فقال معاوية ما أقدمك يا أمه- قالت النظر إليك يا بني إنه عمر- و إنما يعمل لله و قد أتاك أبوك- فخشيت أن تخرج إليه من كل شي‏ء- و أهل ذلك هو- و لكن لا يعلم عمر من أين أعطيته- فيؤنبوك و يؤنبك و لا تستقبلها أبدا- فبعث معاوية إلى أبيه و أخيه مائة دينار- و كساهما و حملهما فسخطها عمر- فقال أبو سفيان لا تسخطها- فإنها عطاء لم تغب عنه هند- و رجع هو و ابنه إلى المدينة- فسأله عمر بكم أجازك معاوية- فقال بمائة دينار فسكت عمر- .

و روى الأحنف قال- أتى عبد الله بن عمير عمر- و هو يقرض الناس- فقال يا أمير المؤمنين- أقرض لي فلم يلتفت إليه فنخسه- فقال عمر حس و أقبل عليه- فقال من أنت فقال عبد الله بن عمير- و كان أبوه استشهد يوم حنين- فقال يا يرفأ أعطه ستمائة- فأعطاه ستمائة فلم يقبلها- و رجع إلى عمر فأخبره- فقال يا يرفأ أعطه ستمائة حلة فأعطاه- فلبس الحلة التي كساه عمر و رمى ما كان عليه- فقال له خذ ثيابك هذه- فلتكن في مهنة أهلك و هذه لزينتك- .

و روى إياس بن سلمة عن أبيه- قال مر عمر في السوق و معه الدرة- فخفقني خفقة فأصاب طرف ثوبي- و قال أمط عن الطريق- فلما كان في العام المقبل لقيني- فقال يا سلمة أ تريد الحج قلت- نعم فأخذ بيدي و انطلق بي إلى منزله- فأعطاني ستمائة درهم و قال استعن بها على حجك- و اعلم أنها بالخفقة التي خفقتك- فقلت يا أمير المؤمنين ما ذكرتها- قال و أنا ما نسيتها- .

و خطب عمر فقال أيتها الرعية- إن لنا عليكم حقا النصيحة بالغيب و المعاونة على الخير- إنه ليس من حلم أحب إلى الله- و لا أعم نفعا من حلم إمام و رفقه- و ليس من جهل أبغض إلى الله من جهل إمام و خرفه- أيها الرعية إنه من يأخذ بالعافية من بين ظهرانيه- فوته الله العافية من فوقه- .

و روى الربيع بن زياد- قال قدمت على عمر بمال من البحرين- فصليت معه العشاء ثم سلمت عليه- فقال ما قدمت به قلت خمسمائة ألف- قال ويحك إنما قدمت بخمسين ألفا- قلت بل خمسمائة ألف- قال كم يكون ذلك- قلت مائة ألف و مائة ألف و مائة ألف حتى عددت خمسا- فقال إنك ناعس ارجع إلى بيتك- ثم اغد علي فغدوت عليه- فقال ما جئت به قلت ما قلته لك- قال كم هو قلت خمسمائة ألف- قال أ طيب هو قلت نعم- لا أعلم إلا ذلك فاستشار الصحابة فيه- فأشير عليه بنصب الديوان فنصبه- و قسم المال بين المسلمين ففضلت عنده فضلة-فأصبح فجمع المهاجرين و الأنصار- و فيهم علي بن أبي طالب- و قال للناس ما ترون في فضل فضل عندنا من هذا المال- فقال الناس يا أمير المؤمنين- إنا شغلناك بولاية أمورنا عن أهلك و تجارتك و صنعتك فهو لك- فالتفت إلى علي فقال ما تقول أنت- قال قد أشاروا عليك قال فقل أنت- فقال له لم تجعل يقينك ظنا فلم يفهم عمر قوله- فقال لتخرجن مما قلت- قال أجل و الله لأخرجن منه- أ تذكر حين بعثك رسول الله ص ساعيا- فأتيت العباس بن عبد المطلب فمنعك صدقته- فكان بينكما شي‏ء فجئتما إلي و قلتما- انطلق معنا إلى رسول الله ص فجئنا إليه- فوجدناه خاثرا فرجعنا- ثم غدونا عليه فوجدناه طيب النفس- فأخبرته بالذي صنع العباس- فقال لك يا عمر- أ ما علمت أن عم الرجل صنو أبيه- فذكرنا له ما رأينا من خثوره في اليوم الأول- و طيب نفسه في اليوم الثاني- فقال إنكم أتيتم في اليوم الأول- و قد بقي عندي من مال الصدقة ديناران- فكان ما رأيتم من خثوري لذلك- و أتيتم في اليوم الثاني و قد وجهتهما- فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي- أشير عليك ألا تأخذ من هذا الفضل شيئا- و أن تفضه على فقراء المسلمين- فقال صدقت و الله لأشكرن لك الأولى و الأخيرة- .

و روى أبو سعيد الخدري قال- حججنا مع عمر أول حجة حجها في خلافته- فلما دخل المسجد الحرام- دنا من الحجر الأسود فقبله و استلمه- و قال إني لأعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع- و لو لا أني رأيت رسول الله ص قبلك و استلمك- لما قبلتك و لا استلمتك- فقال له علي بلى يا أمير المؤمنين- إنه ليضر و ينفع- و لو علمت تأويل ذلك من كتاب الله- لعلمت أن الذي أقول لك- كما أقول قال الله تعالى- وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ- وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ‏ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ – فلما أشهدهم و أقروا له- أنه الرب عز و جل و أنهم العبيد- كتب ميثاقهم في رق ثم ألقمه هذا الحجر- و أن له لعينين و لسانا و شفتين- تشهد لمن وافاه بالموافاة- فهو أمين الله عز و جل في هذا المكان- فقال عمر لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن- .

قلت- قد وجدنا في الآثار و الأخبار في سيرة عمر أشياء- تناسب قوله في هذا الحجر الأسود- كما أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله ص تحتها بيعة الرضوان- في عمرة الحديبية- لأن المسلمين بعد وفاة رسول الله ص كانوا يأتونها- فيقيلون تحتها فلما تكرر ذلك أوعدهم عمر فيها- ثم أمر بها فقطعت- . و روى المغيرة بن سويد قال- خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر- أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ- و لِإِيلافِ قُرَيْشٍ- فلما فرغ رأى الناس يبادرون إلى مسجد هناك- فقال ما بالهم- قالوا مسجد صلى فيه النبي ص و الناس يبادرون إليه- فناداهم فقال هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم- اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا- من عرضت له صلاة في هذا المسجد فليصل- و من لم تعرض له صلاة فليمض- . و أتى رجل من المسلمين إلى عمر فقال- أنا لما فتحنا المدائن أصبنا كتابا- فيه علم من علوم الفرس و كلام معجب- فدعا بالدرة فجعل يضربه بها- ثم قرأ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ- و يقول ويلك أ قصص أحسن من كتاب الله- إنما هلك‏ من كان قبلكم- لأنهم أقبلوا على كتب علمائهم و أساقفتهم- و تركوا التوراة و الإنجيل حتى درسا- و ذهب ما فيهما من العلم- . و جاء رجل إلى عمر فقال- إن ضبيعا التميمي لقينا يا أمير المؤمنين- فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن- فقال اللهم أمكني منه- فبينا عمر يوما جالس يغدي الناس- إذ جاءه الضبيع و عليه ثياب و عمامة فتقدم فأكل- حتى إذا فرغ قال يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى- وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً- فَالْحامِلاتِ وِقْراً- قال ويحك أنت هو- فقام إليه فحسر عن ذراعيه- فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فإذا له ضفيرتان فقال- و الذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك- ثم أمر به فجعل في بيت- ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة- فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى- ثم حمله على قتب و سيره إلى البصرة- و كتب إلى أبي موسى يأمره أن يحرم على الناس مجالسته- و أن يقوم في الناس خطيبا- ثم يقول إن ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه- فلم يزل وضيعا في قومه و عند الناس حتى هلك- و قد كان من قبل سيد قومه- .

و قال عمر على المنبر- ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنن- أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها- فأفتوا بآرائهم فضلوا و أضلوا- ألا إنا نقتدي و لا نبتدي و نتبع و لا نبتدع- إنه ما ضل متمسك بالأثر و روى زيد بن أسلم عن أبيه- قال سمعت عمر يقول في الحج- فيم الرملان الآن و الكشف عن المناكب- و قد أظهر الله الإسلام و نفى الكفر و أهله- و مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله ص- .

مر عمر برجل فسلم عليه فرد عليه- فقال ما اسمك قال جمرة- قال أبو من قال أبو شهاب- قال ممن قال من الحرقة- قال و أين مسكنك قال بحرة النار- قال بأيها قال بذات لظى- فقال ويحك أدرك أهلك فقد احترقوا- فمضى عليهم فوجدهم قد احترقوا- . و روى الليث بن سعد قال- أتي عمر بفتى أمرد- قد وجد قتيلا ملقى على وجه الطريق- فسأل عن أمره و اجتهد فلم يقف له على خبر فشق عليه- فكان يدعو و يقول اللهم أظفرني بقاتله- حتى إذا كان رأس الحول أو قريبا من ذلك- وجد طفل مولود ملقى في موضع ذلك القتيل- فأتي به عمر- فقال ظفرت بدم القتيل إن شاء الله تعالى- فدفع الطفل إلى امرأة-

و قال لها قومي بشأنه- و خذي منا نفقته و انظري من يأخذه منك- فإذا وجدت امرأة تقبله و تضمه إلى صدرها- فأعلميني مكانها- فلما شب الصبي جاءت جارية- فقالت للمرأة- إن سيدتي بعثتني إليك لتبعثي إليها بهذا الصبي- فتراه و ترده إليك قالت نعم- اذهبي به إليها و أنا معك- فذهبت بالصبي حتى دخلت على امرأة شابة- فأخذت الصبي- فجعلت تقبله و تفديه و تضمه إليها- و إذا هي بنت شيخ من الأنصار- من أصحاب رسول الله ص- فجاءت المرأة و أخبرت عمر- فاشتمل على سيفه و أقبل إلى منزلها- فوجد أباها متكئا على الباب- فقال له ما الذي تعلم من حال ابنتك- قال أعرف الناس بحق الله و حق أبيها- مع حسن صلاتها و صيامها و القيام بدينها فقال- إني أحب أن أدخل إليها و أزيدها رغبة في الخير- فدخل الشيخ ثم خرج- فقال ادخل يا أمير المؤمنين- فدخل و أمر أن يخرج كل من في الدار إلا أباها- ثم سألها عن الصبي فلجلجت- فقال لتصدقيني ثم انتضى السيف- فقالت على رسلك يا أمير المؤمنين- فو الله لأصدقنك- إن عجوزا كانت تدخل علي فاتخذتها أما- و كانت تقوم في أمري بما تقوم به الوالدة- و أنا لها بمنزلة البنت-فمكثت كذلك حينا- ثم قالت إنه قد عرض لي سفر- و لي بنت أتخوف عليها بعدي الضيعة-

و أنا أحب أن أضمها إليك- حتى أرجع من سفري- ثم عمدت إلى ابن لها أمرد- فهيأته و زينته كما تزين المرأة و أتتني به- و لا أشك أنه جارية- فكان يرى مني ما ترى المرأة من المرأة- فاغتفلني يوما و أنا نائمة- فما شعرت به حتى علاني و خالطني- فمددت يدي إلى شفرة كانت عندي فقتلته- ثم أمرت به فألقي حيث رأيت- فاشتملت منه على هذا الصبي- فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه- هذا و الله خبرهما على ما أعلمتك- فقال عمر صدقت بارك الله فيك- ثم أوصاها و وعظها و خرج- و كان عمر يقول- لو أدركت عروة و عفراء لجمعت بينهما- . ذكر عمرو بن العاص يوما عمر فترحم عليه- و قال ما رأيت أحدا أتقي منه و لا أعمل بالحق منه- لا يبالي على من وقع الحق- من ولد أو والد- إني لفي منزلي بمصر ضحى إذ أتاني آت-

فقال قدم عبد الله و عبد الرحمن ابنا عمر غازيين- فقلت أين نزلا قال في موضع كذا لأقصى مصر- و قد كان عمر كتب إلي- إياك و أن يقدم عليك أحد من أهل بيتي- فتجيزه أو تحبوه بأمر لا تصنعه بغيره- فافعل بك ما أنت أهله- فضقت ذرعا بقدومهما- و لا أستطيع أن أهدي لهما- و لا أن آتيهما في منزلهما خوفا من أبيهما- فو الله إني لعلى ما أنا عليه- و إذا قائل يقول- هذا عبد الرحمن بن عمر بالباب- و أبو سروعة يستأذنان عليك- فقلت يدخلان فدخلا و هما منكسران- فقالا أقم علينا حد الله- فإنا أصبنا الليلة شرابا فسكرنا- فزبرتهما و طردتهما- و قلت ابن أمير المؤمنين و آخر معه من أهل بدر- فقال عبد الرحمن- إن لم تفعل أخبرت أبي- إذا قدمت عليه أنك لم تفعل- فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر و عزلني- فنحن على ما نحن عليهإذ دخل عبد الله بن عمر- فقمت إليه و رحبت به- و أردت أن أجلسه في صدر مجلسي فأبى علي-

و قال إن أبي نهاني أن أدخل عليك- إلا ألا أجد من الدخول بدا- و إني لم أجد من الدخول عليك بدا- إن أخي لا يحلق على رءوس الناس أبدا- فأما الضرب فاصنع ما بدا لك- قال و كانوا يحلقون مع الحد- فأخرجتهما إلى صحن الدار و ضربتهما الحد- و دخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن- إلى بيت من الدار فحلق رأسه- و حلق أبا سروعة- و الله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان- و إذا كتابه قد ورد- من عبد الله عمر أمير المؤمنين- إلى العاصي ابن العاصي- عجبت لك يا ابن العاصي و لجرأتك علي و مخالفتك عهدي- أما إني خالفت فيك أصحاب بدر و من هو خير منك- و اخترتك و أنت الخامل و قدمتك و أنت المؤخر- و أخبرني الناس بجرأتك و خلافك و أراك كما أخبروا- و ما أراني إلا عازلك فمسي‏ء عزلك- ويحك تضرب عبد الرحمن بن عمر في داخل بيتك- و تحلق رأسه في داخل بيتك- و قد عرفت أن في هذا مخالفتي-

و إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك- تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين- و لكن قلت هو ولد أمير المؤمنين- و قد عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي- في حق يجب لله عز و جل- فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب- حتى يعرف سوء ما صنع- قال فبعثت به كما قال أبوه- و أقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما- و كتبت إلى عمر كتابا أعتذر فيه- و أخبرته أني ضربته في صحن الدار- و حلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه- أنه الموضع الذي أقيم فيه الحدود على المسلم و الذمي- و بعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر- فذكر أسلم مولى عمر قال- قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما- فدخل عليه في عباءة- و هو لا يقدر على المشي من مركبه- فقال يا عبد الرحمن فعلت و فعلت السياط السياط- فكلمه‏ عبد الرحمن بن عوف-

و قال يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد مرة- فلم يلتفت إليه و زبره فأخذته السياط- و جعل يصيح أنا مريض و أنت و الله قاتلي- فلم يرق له حتى استوفى الحد و حبسه- ثم مرض شهرا و مات- . و روى الزبير بن بكار- قال خطب عمر أم كلثوم بنت علي ع- فقال له إنها صغيرة فقال زوجنيها يا أبا الحسن- فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد- فقال أنا أبعثها إليك فإن رضيتها زوجتكها- فبعثها إليه ببرد- و قال لها قولي هذا البرد الذي ذكرته لك- فقالت له ذلك- فقال قولي له قد رضيته رضي الله عنك و وضع يده على ساقها- فقالت له أ تفعل هذا- لو لا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك- ثم جاءت أباها فأخبرته الخبر- و قالت بعثتني إلى شيخ سوء- قال مهلا يا بنية إنه زوجك- فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين في الروضة- و كان يجلس فيها المهاجرون الأولون- فقال رفئوني رفئوني قالوا بما ذا يا أمير المؤمنين- قال تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب- سمعت رسول الله ص يقول كل سبب و نسب و صهر ينقطع يوم القيامة- إلا سببي و نسبي و صهري – .

و كتب عثمان إلى أبي موسى- إذا جاءك كتابي هذا فأعط الناس أعطياتهم- و احمل ما بقي إلي ففعل- و جاء زيد بن ثابت بالمال فوضعه بين يدي عثمان- فجاء ابن لعثمان فأخذ منه أستاندانة من فضة- فمضى بها فبكى زيد- قال عثمان ما يبكيك- قال أتيت عمر مثل ما أتيتك به- فجاء ابن له فأخذ درهما فأمر به فانتزع منه- حتى أبكى‏الغلام و أن ابنك قد أخذ هذه فلم أر أحدا قال شيئا- فقال عثمان إن عمر كان يمنع أهله و قرابته- ابتغاء وجه الله- و أنا أعطي أهلي و أقاربي ابتغاء وجه الله- و لن تلقى مثل عمر و روى إسماعيل بن خالد- قال قيل لعثمان أ لا تكون مثل عمر- قال لا أستطيع أن أكون مثل لقمان الحكيم- .

ذكرت عائشة عمر فقالت كان أجودنا- نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها- . جاء عبد الله بن سلام بعد أن صلى الناس على عمر- فقال إن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه- فلا تسبقوني بالثناء عليه- ثم قال نعم أخو الإسلام كنت يا عمر- جوادا بالحق بخيلا بالباطل- ترضى حين الرضا و تسخط حين السخط- لم تكن مداحا و لا معيابا- طيب الطرف عفيف الطرف- . و روى جويرية بن قدامة- قال دخلت مع أهل العراق على عمر حين أصيب- فرأيته قد عصب بطنه بعمامة سوداء- و الدم يسيل فقال له الناس أوصنا- فقال عليكم بكتاب الله- فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه- فأعدنا القول عليه ثانية أوصنا- قال أوصيكم بالمهاجرين- فإن الناس سيكثرون و يقلون- و أوصيكم بالأنصار فإنهم شعب الإسلام الذي لجأ إليه- و أوصيكم بالأعراب- فإنهم أصلكم الذي لجأتم إليه و مأواكم- و أوصيكم بأهل الذمة- فإنهم عهد نبيكم و رزق عيالكم- قوموا عني- .
فلم أحفظ من كلامه إلا هذه الكلمات- . و روى عمرو بن ميمون قال- سمعت عمر و هو يقول و قد أشار إلى الستة- و لم يكلم أحدا منهم إلا علي بن أبي طالب و عثمان- ثم أمرهم بالخروج فقال لمن كان عنده- إذا اجتمعوا على رجل فمن خالف فلتضرب رقبته- ثم قال إن يولوها الأجلح يسلك بهم الطريق- فقال له قائل فما يمنعك من العهد إليه- قال أكره أن أتحملها حيا و ميتا

خطب عمر الطوال

و قال الجاحظ في كتاب البيان و التبيين- لم يكن عمر من أهل الخطب الطوال- و كان كلامه قصيرا- و إنما صاحب الخطب الطوال علي بن أبي طالب ع- . و قد وجدت أنا لعمر خطبا فيها بعض الطول- ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ- . فمنها خطبة خطب بها حين ولي الخلافة- و هي بعد حمد الله و الثناء عليه و على رسوله- أيها الناس إني وليت عليكم- و لو لا رجاء أن أكون خيركم لكم- و أقواكم عليكم- و أشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم أموركم- ما توليت ذلك منكم- و لكفى عمر فيها مجزى العطاء موافقة الحساب- بأخذ حقوقكم كيف آخذها و وضعها أين أضعها-و بالسير فيكم كيف أسير فربي المستعان- فإن عمر لم يصبح يثق بقوة و لا حيلة- إن لم يتداركه الله برحمته و عونه- .

أيها الناس إن الله قد ولاني أمركم- و قد علمت أنفع ما لكم- و أسأل الله أن يعينني عليه- و أن يحرسني عنده كما حرسني عند غيره- و أن يلهمني العدل في قسمكم كالذي أمر به- فإني امرؤ مسلم و عبد ضعيف إلا ما أعان الله- و لن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا- إن شاء الله- إنما العظمة لله و ليس للعباد منها شي‏ء- فلا يقولن أحدكم إن عمر تغير منذ ولي- و إني أعقل الحق من نفسي- و أتقدم و أبين لكم أمري- فأيما رجل كانت له حاجة- أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق فليؤذني- فإنما أنا رجل منكم- فعليكم بتقوى الله في سركم و علانيتكم- و حرماتكم و أعراضكم- و أعطوا الحق من أنفسكم- و لا يحمل بعضكم بعضا على ألا تتحاكموا إلي- فإنه ليس بيني و بين أحد هوادة- و أنا حبيب إلى صلاحكم عزيز على عنتكم- و أنتم أناس عامتكم حضر في بلاد الله- و أهل بلد لا زرع فيه و لا ضرع إلا ما جاء الله به إليه- و إن الله عز و جل قد وعدكم كرامة كبيرة- و أنا مسئول عن أمانتي و ما أنا فيه- و مطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله- لا أكله إلى أحد- و لا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء- و أهل النصح منكم للعامة- و لست أحمل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله- .

و خطب عمر مرة أخرى- فقال بعد حمد الله و الصلاة على رسول الله ص-أيها الناس إن بعض الطمع فقر- و إن بعض اليأس غنى- و إنكم تجمعون ما لا تأكلون- و تؤملون ما لا تدركون- و أنتم مؤجلون في دار غرور- و قد كنتم على عهد رسول الله ص تؤخذون بالوحي- و من أسر شيئا أخذ بسريرته- و من أعلن شيئا أخذ بعلانيته- فأظهروا لنا حسن أخلاقكم و الله أعلم بالسرائر- فإنه من أظهر لنا قبيحا- و زعم أن سريرته حسنة لم نصدقه- و من أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسنا- و اعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق- فأنفقوا خيرا لأنفسكم- و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون- .

أيها الناس أطيبوا مثواكم و أصلحوا أموركم- و اتقوا الله ربكم و لا تلبسوا نساءكم القباطي- فإنه إن لم يشف فإنه يصف- . أيها الناس إني لوددت أن أنجو كفافا لا لي و لا علي- إني لأرجو أن عمرت فيكم يسيرا أو كثيرا- أن أعمل فيكم بالحق إن شاء الله- و ألا يبقى أحد من المسلمين و إن كان في بيته- إلا أتاه حقه و نصيبه من مال الله- و إن لم يعمل إليه نفسه و لم ينصب إليه بدنه- فأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله- فقليل في رفق خير من كثير في عنف- . و اعلموا أن القتل حتف من الحتوف- يصيب البر و الفاجر- و الشهيد من احتسب نفسه- و إذا أراد أحدكم بعيرا فليعمد إلى الطويل العظيم- فليضربه بعصاه فإن وجده حديد الفؤاد فليشتره- . و خطب عمر مرة أخرى فقال-إن الله سبحانه قد استوجب عليكم الشكر- و اتخذ عليكم الحجج فيما آتاكم- من كرامة الدنيا و الآخرة من غير مسألة منكم- و لا رغبة منكم فيه إليه- فخلقكم تبارك و تعالى- و لم تكونوا شيئا لنفسه و عبادته- و كان قادرا أن يجعلكم لأهون خلقه عليه- فجعلكم عامة خلقه- و لم يجعلكم لشي‏ء غيره- و سخر لكم ما في السموات و الأرض- و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة- و حملكم في البر و البحر- و رزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون-

ثم جعل لكم سمعا و بصرا- و من نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم- و منها نعم اختص بها أهل دينكم- ثم صارت تلك النعم خواصها في دولتكم و زمانكم و طبقتكم- و ليس من تلك النعم نعمة وصلت إلى امرئ خاصة- إلا لو قسمتم ما وصل منها بين الناس كلهم- أتعبهم شكرها و فدحهم حقها- إلا بعون الله مع الإيمان بالله و رسوله- فأنتم مستخلفون في الأرض قاهرون لأهلها- قد نصر الله دينكم فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم- إلا أمتين أمة مستعبدة للإسلام و أهله- يتجرون لكم تستصفون معايشهم و كدائحهم- و رشح جباههم عليهم المئونة و لكم المنفعة- و أمة تنتظر وقائع الله و سطواته في كل يوم و ليلة- قد ملأ الله قلوبهم رعبا- فليس لهم معقل يلجئون إليه و لا مهرب يتقون به- قد دهمتهم جنود الله و نزلت بساحتهم- مع رفاغة العيش و استفاضة المال- و تتابع البعوث و سد الثغور بإذن الله- في العافية الجليلة العامة- التي لم تكن الأمة على أحسن منها منذ كان الإسلام- و الله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد- فما عسى أن يبلغ شكر الشاكرين- و ذكر الذاكرين و اجتهاد المجتهدين- مع هذه النعم التي لا يحصى عددها و لا يقدر قدرها- و لا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله و رحمته و لطفه- فنسأل الله الذي أبلانا هذا- أن يرزقنا العمل بطاعته و المسارعة إلى مرضاته- و اذكروا عباد الله بلاء الله عندكم- و استتموا نعمة الله عليكم و في مجالسكم مثنى و فرادى- فإن الله تعالى قال لموسى-أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ- وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ-

و قال لمحمد ص- وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ- فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين- خير الدنيا على شعبة من الحق تؤمنون بها- و تستريحون إليها- مع المعرفة بالله و بدينه- و ترجون الخير فيما بعد الموت- و لكنكم كنتم أشد الناس عيشة- و أعظم الناس بالله جهالة- فلو كان هذا الذي ابتلاكم به- لم يكن معه حظ في دنياكم- غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد و المنقلب- و أنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه- كنتم أحرياء إن تشحوا على نصيبكم منه- و إن تظهروه على غيره فبله- أما إنه قد جمع لكم فضيلة الدنيا و كرامة الآخرة- أو لمن شاء أن يجمع ذلك منكم- فأذكركم الله الحائل بينكم و بين قلوبكم- إلا ما عرفتم حق الله و عملتم له- و سيرتم أنفسكم على طاعته- و جمعتم مع السرور بالنعم خوفا لزوالها و انتقالها- و وجلا من تحويلها- فإنه لا شي‏ء أسلب للنعمة من كفرانها- و أن الشكر أمن للغير و نماء للنعمة و استجلاب للزيادة- و هذا علي في أمركم و نهيكم واجب إن شاء الله

و روى أبو عبيدة معمر بن المثنى- في كتاب مقاتل الفرسان- قال كتب عمر إلى سلمان بن ربيعة الباهلي- أو إلى النعمان بن مقرن- أن في جندك رجلين من العرب- عمرو بن معديكرب و طليحة بن خويلد- فأحضرهما الناس و أدبهما و شاورهما في الحرب- و ابعثهما في الطلائع و لا تولهما عملا من أعمال المسلمين- و إذا وضعت الحرب أوزارها- فضعهما حيث وضعا أنفسهما- قال و كان عمرو ارتد و طليحة تنبأ- .

و روى أبو عبيدة أيضا في هذا الكتاب- قال قدم عمرو بن معديكرب- و الأجلح بن وقاص الفهمي على عمر- فأتياه و بين يديه مال يوزن- فقال متى قدمتما قالا يوم الخميس- قال فما حبسكما عني قالا شغلنا المنزل يوم قدمنا- ثم كانت الجمعة ثم غدونا عليك اليوم- فلما فرغ من وزن المال نحاه و أقبل عليهما- فقال هيه فقال عمرو بن معديكرب- يا أمير المؤمنين هذا الأجلح بن وقاص الشديد المرة- البعيد الغرة الوشيك الكرة- و الله ما رأيت مثله حين الرجال صارع و مصروع- و الله لكأنه لا يموت- فقال عمر للأجلح و أقبل عليه- و قد عرف الغضب في وجهه هيه يا أجلح- فقال الأجلح- يا أمير المؤمنين تركت الناس خلفي صالحين- كثيرا نسلهم داره أرزاقهم- خصبة بلادهم أجرياء على عدوهم- فأكلا عدوهم عنهم- فسيمتع الله بك فما رأينا مثلك إلا من سبقك- فقال ما منعك أن تقول في صاحبك مثل ما قال فيك- قال ما رأيت من وجهك قال أصبت- أما إنك لو قلت فيه مثل الذي قال فيك- لأوجعتكما ضربا و عقوبة- فإذ تركتك لنفسك فسأتركه لك- و الله لوددت لو سلمت لكم حالكم و دامت عليكم أموركم- أما إنه سيأتي عليك يوم تعضه و ينهشك- و تهره و ينبحك و لست له يومئذ و ليس لك- فإن لا يكن بعدكم فما أقربه منكم- .

لما أسر الهرمزان صاحب الأهواز و تستر و حمل إلى عمر- حمل و معه رجال من المسلمين- فيهم الأحنف بن قيس و أنس بن مالك- فأدخلوه في المدينة في هيئته- و عليه تاجه الذهب و كسوته- فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد- فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه- فقال الهرمزان أين عمر فقالوا هو ذا- قال و أين حراسه و حجابه- قالوا لا حارس له و لا حاجب- قال فينبغي أن يكون هذا نبيا- قالوا إنه يعمل عمل الأنبياء- .

فاستيقظ عمر فقال الهرمزان قالوا نعم- قال لا أكلمه حتى لا يبقى عليه من حليته شي‏ء- فرموا بالحلية و ألبسوه ثوبا ضعيفا- فقال عمر يا هرمزان كيف رأيت وبال الغدر- و قد كان صالح المسلمين مرة ثم نكث- فقال يا عمر إنا و إياكم في الجاهلية كنا نغلبكم- إذ لم يكن الله معكم و لا معنا- فلما كان الله معكم غلبتمونا- قال فما عذرك في انتقاضك مرة بعد مرة- قال أخاف إن قلت أن تقتلني- قال لا بأس عليك فأخبرني- فاستسقى ماء فأخذه و جعلت يده ترعد- قال ما لك قال أخاف أن تقتلني و أنا أشرب- قال لا بأس عليك حتى تشربه- فألقاه من يده فقال ما بالك- أعيدوا عليه الماء و لا تجمعوا عليه بين القتل و العطش- قال كيف تقتلني و قد أمنتني- قال كذبت قال لم أكذب- فقال أنس صدق يا أمير المؤمنين قال ويحك يا أنس- أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور و البراء بن مالك- و الله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك- قال إنك قلت لا بأس عليك حتى تخبرني- و لا بأس عليك حتى تشرب- و قال له ناس من المسلمين مثل قول أنس- فأقبل على الهرمزان- فقال تخدعني و الله لا تخدعني إلا أن تسلم- فأسلم ففرض له ألفين و أنزله المدينة- .

بعث عمر عمير بن سعيد الأنصاري عاملا على حمص- فمكث حولا لا يأتيه خبره- ثم كتب إليه بعد حول- إذا أتاك كتابي هذا فأقبل- و احمل ما جبيت من مال المسلمين- فأخذ عمير جرابه و جعل فيه زاده و قصعته- و علق أداته و أخذ عنزته- و أقبل ماشيا من حمص حتى دخل المدينة- و قد شحب لونه و اغبر وجهه و طال شعره- فدخل على عمر فسلم- فقال عمر ما شأنك يا عمير- قال ما ترى من شأني أ لست تراني صحيح البدن- ظاهر الدم معي الدنيا أجرها بقرنيها- قال و ما معك فظن عمر أنه قد جاء بمال- قال معي جرابي أجعل فيه زادي- و قصعتي آكل فيها و أغسل منها رأسي و ثيابي- و أداتي أحمل فيها وضوئي و شرابي- و عنزتي أتوكأ عليها و أجاهد بها عدوا إن عرض لي- قال عمر أ فجئت ماشيا قال نعم لم يكن لي دابة- قال أ فما كان في رعيتك أحد يتبرع لك بدابة تركبها- قال ما فعلوا و لا سألتهم ذلك- قال عمر بئس المسلمون خرجت من عندهم- قال عمير اتق الله يا عمر و لا تقل إلا خيرا- قد نهاك الله عن الغيبة و قد رأيتهم يصلون-

قال عمر فما ذا صنعت في إمارتك- قال و ما سؤالك قال سبحان الله- قال أما إني لو لا أخشى أن أعمل ما أخبرتك- أتيت البلد فجمعت صلحاء أهله فوليتهم جبايته- و وضعه في مواضعه و لو أصابك منه شي‏ء لأتاك- قال أ فما جئت بشي‏ء قال لا- فقال جددوا لعمير عهدا- قال إن ذلك لشي‏ء لا أعمله بعد لك و لا لأحد بعدك- و الله ما كدت أسلم بل لم أسلم- قلت لنصراني معاهد أخزاك الله- فهذا ما عرضتني له يا عمر إن أشقى أيامي ليوم صحبتك- ثم استأذنه في الانصراف فأذن له- و منزله بقباء بعيدا عن المدينة- فأمهله عمر أياما ثم بعث رجلا يقال له الحارث- فقال انطلق إلى عمير بن سعد و هذه مائة دينار- فإن وجدت عليه أثرا فأقبل علي بها- و إن رأيت حالا شديدة فادفع إليه هذه المائة- فانطلق الحارث فوجد عميرا جالسا- يفلي قميصا له إلى جانب حائط- فسلم عليه فقال عمير انزل رحمك الله- فنزل فقال من أين جئت قال من المدينة-

قال كيف تركت أمير المؤمنين قال صالحا- قال كيف تركت المسلمين قال صالحين- قال أ ليس عمر يقيم الحدود قال بلى- ضرب ابنا له على فاحشة فمات من ضربه- فقال عمير اللهم أعن عمر- فإني لا أعلمه إلا شديدا حبه لك- قال فنزل به ثلاثة أيام- و ليس لهم إلا قرص من شعير- كانوا يخصونه كل يوم به و يطوون حتى نالهم الجهد- فقال له عمير إنك قد أجعتنا- فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل- فأخرج الحارث الدنانير فدفعها إليه- و قال بعث بها أمير المؤمنين فاستغن بها- فصاح و قال ردها لا حاجة لي فيها- فقالت المرأة خذها ثم ضعها في موضعها- فقال ما لي شي‏ء أجعلها فيه- فشقت أسفل درعها فأعطته خرقة فشدها فيها-

ثم خرج فقسمها كلها بين أبناء الشهداء و الفقراء- فجاء الحارث إلى عمر فأخبره- فقال رحم الله عميرا ثم لم يلبث أن هلك- فعظم مهلكه على عمر- و خرج مع رهط من أصحابه ماشين إلى بقيع الغرقد- فقال لأصحابه ليتمنين كل واحد منا أمنيته- فكل واحد تمنى شيئا و انتهت الأمنية إلى عمر- فقال وددت أن لي رجلا مثل عمير بن سعد- أستعين به على أمور المسلمين

نبذ من كلام عمر

و من كلام عمر إياكم و هذه المجازر- فإن لها ضراوة كضراوة الخمر- . و قال إياكم و الراحة فإنها غفلة- . و قال السمن غفلة- . و قال لا تسكنوا نساءكم الغرف و لا تعلموهن الكتابة- و استعينوا عليهن بالعرى- و عودوهن قول لا فإن نعم تجرئهن على المسألة- .

و قال تبين عقل المرء في كل شي‏ء حتى في علته- فإذا رأيته يتوقى على نفسه الصبر عن شهوته و يحتمي من مطعمه و مشربه- عرفت ذلك في عقله- و ما سألني رجل عن شي‏ء قط إلا تبين لي عقله في ذلك- . و قال إن للناس حدودا و منازل فأنزلوا كل رجل منزلته- و ضعوا كل إنسان في حده و احملوا كل امرئ بفعله على قدره- . و قال اعتبروا عزيمة الرجل بحميته و عقله بمتاع بيته- قال أبو عثمان الجاحظ- لأنه‏ ليس من العقل أن يكون فرشه لبدا و مرقعته طبرية- . و قال من يئس من شي‏ء استغنى عنه- و عز المؤمن استغناؤه عن الناس- . و قال لا يقوم بأمر الله إلا من لا يصانع- و لا يصارع و لا يتبع المطامع- .

و قال لا تضعفوا همتكم- فإني لم أر شيئا أقعد برجل- عن مكرمة من ضعف همته و وعظ رجلا فقال- لا تلهك الناس عن نفسك- فإن الأمور إليك تصل دونهم- و لا تقطع النهار سادرا فإنه محفوظ عليك- فإذا أسأت فأحسن- فإني لم أر شيئا أشد طلبا- و لا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم- . و قال احذر من فلتات السباب- و كل ما أورثك النبز و أعلقك اللقب- فإنه إن يعظم بعده شأنك يشتد على ذلك ندمك- .

و قال كل عمل كرهت من أجله الموت فاتركه- ثم لا يضرك متى مت- . و قال أقلل من الدين تعش حرا- و أقلل من الذنوب يهن عليك الموت- و انظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس- . و قال ترك الخطيئة أسهل من معالجة التوبة- . و قال احذروا النعمة حذركم المعصية- و هي أخفهما عليكم عندي- . و قال احذروا عاقبة الفراغ- فإنه أجمع لأبواب المكروه من السكر- . و قال أجود الناس من يجود على من لا يرجو ثوابه- و أحلمهم من عفا بعد القدرة و أبخلهم من بخل بالسلام- و أعجزهم من عجز في دعائه- . و قال رب نظرة زرعت شهوة- و رب شهوة أورثت حزنا دائما- .

و قال ثلاث خصال من لم تكن فيه لم ينفعه الإيمان- حلم يرد به جهل الجاهل- و ورع يحجزه عن المحارم- و خلق يداري به الناس

 

خطبه 222 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(دعاء)

222 و من دعاء له ع

اللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الآْنِسِينَ لِأَوْلِيَائِكَ- وَ أَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ- تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ- وَ تَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ- فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ- إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ- وَ إِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ لَجَئُوا إِلَى الِاسْتِجَارَةِ بِكَ- عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدِكَ- وَ مَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ- اللَّهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَوْ عَمِيتُ عَنْ طِلْبَتِي- فَدُلَّنِي عَلَى مَصَالِحِي- وَ خُذْ بِقَلْبِي إِلَى مَرَاشِدِي- فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُكْرٍ مِنْ هِدَايَاتِكَ- وَ لَا بِبِدْعٍ مِنْ كِفَايَاتِكَ- اللَّهُمَّ احْمِلْنِي عَلَى عَفْوِكَ وَ لَا تَحْمِلْنِي عَلَى عَدْلِكَ أنست ضد وحشت و الإيناس ضد الإيحاش- و كان القياس أن يقول إنك آنس المؤنسين- لأن الماضي أفعل و إنما الآنسون جمع آنس- و هو الفاعل من أنست بكذا لا من آنست- فالرواية الصحيحة إذن بأوليائك- أي أنت أكثرهم أنسا بأوليائك و عطفا و تحننا عليهم- . و أحضرهم بالكفاية- أي أبلغهم إحضارا لكفاية المتوكلين عليهم- و أقومهم بذلك-تشاهدهم في سرائرهم أي تطلع على غيبهم- و البصائر العزائم نفذت بصيرته في كذا أي حق عزمه- . و قلوبهم إليك ملهوفة أي صارخة مستغيثه- . و فههت عن مسألتي بالكسر عييت- و الفهة و الفهاهة العي- رجل أفه و رجل فه أيضا و امرأة فههة- قال الشاعر-

فلم تلفني فها و لم تلف حاجتي
ملجلجة أبغي لها من يقيمها

 و قد فههت يا رجل فهها أي عييت- و يقال سفيه فهيه و فههه الله- و خرجت لحاجة فأفهني عنها فلان أي أنسانيها- . و يروى أو عمهت بالهاء و الميم المكسورة- و العمه التحير و التردد- عمه الرجل فهو عمه و عامه و الجمع عمه- و أرض عمهاء لا أعلام بها- . و النكر العجب و البدع المبتدع- و منه قوله تعالى- قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ- أي لم آت بما لم أسبق إليه- . و مثل قوله ع- اللهم احملني على عفوك و لا تحملني على عدلك- قول المروانية للهاشمية- لما قتل مروان في خبر قد اقتصصناه قديما- ليسعنا عدلكم- قالت الهاشمية إذن لا نبقي منكم أحدا- لأنكم حاربتم عليا ع- و سممتم الحسن ع- و قتلتم الحسين و زيدا و ابنه و ضربتم علي بن عبد الله- و خنقتم إبراهيم الإمام في جراب النورة- . قالت قد يسعنا عفوكم قالت أما هذا فنعم‏

أدعية فصيحة من كلام أبي حيان التوحيدي

و من الدعوات الفصيحة المستحسنة- فصول من كلام أبي حيان التوحيدي نقلتها- . فمنها اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك- و من الأمل إلا فيك و من التسليم إلا لك- و من التفويض إلا إليك و من التوكل إلا عليك- و من الطلب إلا منك و من الرضا إلا عنك- و من الذل إلا في طاعتك- و من الصبر إلا على بلائك- و أسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي- و الشكر على نعمك شعاري و دثاري- و النظر إلى ملكوتك دأبي و ديدني- و الانقياد لك شأني و شغلي و الخوف منك أمني و إيماني- و اللياذ بذكرك بهجتي و سروري- .

اللهم تتابع برك و اتصل خيرك و عظم رفدك- و تناهى إحسانك و صدق وعدك- و بر قسمك و عمت فواضلك و تمت نوافلك- و لم تبق حاجة إلا و قد قضيتها أو تكلفت بقضائها- فاختم ذلك كله بالرضا و المغفرة- إنك أهل ذلك و القادر عليه و الملي به- . و منها اللهم إني أسألك خفايا لطفك- و فواتح توفيقك و مألوف برك- و عوائد إحسانك و جاه المقدسين من ملائكتك- و منزلة المصطفين من رسلك و مكاثرة الأولياء من خلقك- و عاقبة المتقين من عبادك- .

و أسألك القناعة برزقك و الرضا بحكمك- و النزاهة عن محظورك- و الورع في شبهاتك و القيام بحجتك- و الاعتبار بما أبديت و التسليم لما أخفيت- و الإقبال على ما أمرت و الوقوف عما زجرت- حتى أتخذ الحق حجة عند ما خف و ثقل- و الصدق سنة فيما عسر و سهل- و حتى أرى أن شعار الزهد أعز شعار- و منظر الباطل أشوه منظر-فأتبختر في ملكوتك بفضفاض الرداء بالدعاء إليك- و أبلغ الغاية القصوى بين خلقك بالثناء عليك- .

و منها اللهم إليك أرفع عجري و بجري- و بك أستعين في عسري و يسري- و إياك أدعو رغبا و رهبا- فإنك العالم بتسويل النفس و فتنة الشيطان- و زينة الهوى و صرف الدهر- و تلون الصديق و بائقة الثقة- و قنوط القلب و ضعف المنة و سوء الجزع- . فقني اللهم ذلك كله- و اجمع من أمري شمله و انظم من شأني شتيته- و احرسني عند الغنى من البطر و عند الفقر من الضجر- و عند الكفاية من الغفلة و عند الحاجة من الحسرة- و عند الراحة من الفسولة و عند الطلب من الخيبة- و عند المنازلة من الطغيان- و عند البحث من الاعتراض عليك- و عند التسليم من التهمة لك- .

و أسألك أن تجعل صدري خزانة توحيدك- و لساني مفتاح تمجيدك و جوارحي خدم طاعتك- فإنه لا عز إلا في الذل لك- و لا غنى إلا في الفقر إليك- و لا أمن إلا في الخوف منك- و لا قرار إلى في القلق نحوك- و لا روح إلا في الكرب لوجهك- و لا ثقة إلا في تهمة خلقك- و لا راحة إلا في الرضا بقسمك- و لا عيش إلا في جوار المقربين عندك- .

و منها اللهم ببرهانك الصادع و بنور وجهك الساطع- صل على محمد نبيك نبي الرحمة- و قائد الأمة و إمام الأئمة- و احرس علي إيماني بك بالتسليم لك- و خفف عني مئونة الصبر على امتحانك- و واصل لي أسباب المزيد عند الشكر على نعمتك- و اجعل بقية عمري في غنى عن خلقك- و رضا بالمقدم من رزقك- .

اللهم إنك إن آخذتنا بذنوبنا خسفت الأرض بنا- و إن جازيتنا على ظلمنا قطعت دوابرنا- فإنك قلت فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا- وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- اللهم إليك نشكو قسوة قلوبنا- و غل صدورنا و فتنة أنفسنا و طموح أبصارنا- و رفث ألسنتنا و سخف أحلامنا و سوء أعمالنا- و فحش لجاجنا و قبح دعوانا و نتن أشرارنا- و خبث أخيارنا و تلزق ظاهرنا و تمزق باطننا- .

اللهم فارحمنا و ارأف بنا و اعطف علينا- و أحسن إلينا و تجاوز عنا- و اقبل الميسور منا فإننا أهل عقوبة- و أنت أهل مغفرة- و أنت بما وصفت به نفسك أحق منا بما وسمنا به أنفسنا- فإن في ذلك ما اقترن بكرمك و أدى إلى عفوك- و من قبل ذلك و بعده- فألب عيشنا بنعمتك- و أرح أرواحنا من كد الأمل في خلقك- و خذ بأزمتنا إلى بابك- و أله قلوبنا عن هذه الدار الفانية- و ازرع فيها محبة الدار الباقية- و قلبنا على بساط لطفك و حثنا بالإحسان إلى كنفك- و رفهنا عن التماس ما عند غيرك- و اغضض عيوننا من ملاحظة ما حجب من غيرك- و صل بيننا و بين الرضا عنك- و ارفع عنا مئونة العرض عليك- و خفف علينا كل ما أوصلنا إليك- و أذقنا حلاوة قربك- و اكشف عن سرائرنا سواتر حجبك- و وكل بنا الحفظة و ارزقنا اليقظة- حتى لا نقترف سيئة و لا نفارق حسنة- إنك قائم على كل نفس بما كسبت- و أنت بما نخفي و ما نعلن خبير بصير- .

و منها اللهم أنت الحي القيوم- و الأول الدائم و الإله القديم و البارئ المصور- و الخالق المقدس و الجبار الرفيع و القهار المنيع- و الملك الصفوح و الوهاب المنوح-و الرحمن الرءوف و الحنان العطوف- و المنان اللطيف مالك الذوائب و النواصي- و حافظ الأداني و الأقاصي- و مصرف المطيع و العاصي- .

اللهم أنت الظاهر الذي لا يجحدك جاحد- إلا زايلته الطمأنينة و أسلمه اليأس- و أوحشه القنوط و رحلت عنه العصمة- و تردد بين رجاء قد نأى عنه التوفيق- و أمل قد حفت به الخيبة- و طمع يحوم على أرجاء التكذيب- و سر قد أطاف به الشقاء و علانية قد أناف عليها البلاء- موهون المنة منسوخ العقدة مسلوب العدة- تشنؤه العين و تقليه النفس- عقله عقل طائر و لبه لب حائر و حكمه حكم جائر- لا يروم قرارا إلا أزعج عنه- و لا يستفتح بابا إلا أرتج دونه- و لا يقتبس ضرما إلا أجج عليه- عثرته موصولة بالعثرة و حسرته مقرونة إلى حسرة- إن سمع زيف و إن قال حرف- و إن قضى خرف و إن احتج زخرف- و لو فاء إلى الحق لوجد ظله ظليلا- و أصاب تحته مثوى و مقيلا و أنت الباطن الذي لا يرومك رائم- و لا يحوم على حقيقتك حائم- إلا غشيه من نور إلهيتك و عز سلطانك- و عجيب قدرتك و باهر برهانك و غرائب غيوبك- و خفي شأنك و مخوف سطوتك و مرجو إحسانك- ما يرده خاسئا من مزحزحه عن الغاية خجلا مبهورا- و يرده إلى عجزه ملتحفا بالندم مرتديا بالاستكانة- راجعا إلى الصغار موقوفا مع الذلة- فظاهرك يدعو إليك بلسان الاضطرار- و باطنك يحير فيك لسعة قضاء الاعتبار- و فعلك يدل عليك الأسماع و الأبصار- و حكمتك تعجب منك الألباب و الأسرار- لك السلطان و الملكة و بيدك النجاة و الهلكة- فإليك المفر و معك المقر- و منك صنوف الإحسان و البر- أسألك بأصح سر و أكرم لفظ و أفصح لغة- و أتم إخلاص و أشرف همة و أفضل نية- و أطهر عقيدة و أثبت يقين- أن تصد عنيكل ما يصد عنك و تصلني بكل ما يصل بك- و تحبب إلي كل ما يحبب إليك- فإنك الأول و الثاني- و المشار إليه في جميع المعاني لا إله إلا أنت- .

و منها اللهم إني أسألك جدا مقرونا بالتوفيق- و علما بريئا من الجهل و عملا عريا من الرياء- و قولا موشحا بالصواب و حالا دائرة مع الحق- و فطنة عقل مضروبة في سلامة صدور- و راحة جسم راجعة إلى روح بال- و سكون نفس موصولا بثبات يقين- و صحة حجة بعيدة من مرض شبهة- حتى تكون غايتي في هذه الدنيا موصولة بالأمثل فالأمثل- و عاقبتي عندك محمودة بالأفضل فالأفضل- من حياة طيبة أنت الواعد بها- و نعيم دائم أنت المبلغ إليه- .

اللهم لا تخيب رجاء هو منوط بك- و لا تصفر كفا هي ممدودة إليك- و لا تعذب عينا فتحتها بنعمتك- و لا تذل نفسا هي عزيزه بمعرفتك- و لا تسلب عقلا هو مستضي‏ء بنور هدايتك- و لا تخرس لسانا عودته الثناء عليك- فكما كنت أولا بالتفضل- فكن آخرا بالإحسان- . الناصية بيدك و الوجه عان لك- و الخير متوقع منك و المصير على كل حال إليك- . ألبسني في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة- و حلني في تلك الدار الباقية بزينة الأمن- و أفطم نفسي عن طلب العاجلة الزائدة- و أجرني على العادة الفاضلة- و لا تجعلني ممن سها عن باطن ما لك عليه- بظاهر ما لك عنده- فالشقي من لم تأخذ بيده و لم تؤمنه من غده- و السعيد من آويته إلى كنف نعمتك- و نقلته حميدا إلى منازل رحمتك- غير مناقش في الحساب- و لا سائق له إلى العذاب فإنك على ذلك قدير- .

و منها اللهم اجعل غدونا إليك مقرونا بالتوكل عليك- و رواحنا عنك موصولابالنجاح منك- و إجابتنا لك راجعة إلى التهالك فيك- و ذكرنا إياك منوطا بالسكون معك- و ثقتنا بك هادئة إلى التفويض إليك- و لا تخلنا من يد تستوعب الشكر- و من شكر يمتري خلف المزيد- و من مزيد يسبق اقتراح المقترحين- و صنع يفوق ذرع الطالبين- حتى نلقاك مبشرين بالرضا- محكمين في المنى غير مناقشين و لا مطرودين- .

اللهم أعذنا من جشع الفقير و ريبة المنافق- و تجليح المعاند و طيشة العجول و فترة الكسلان- و حيلة المستبد و فتور العقل- و حيرة المخرج و حسرة المحوج- و فلتة الذهول و حرقة النكول- و رقة الخائف و طمأنينة المغرور و غفلة الغرور- . و اكفنا مئونة أخ يرصد مسكونا إليه- و يمكر موثوقا به و يخيس معتمدا عليه- . و صل الكفاية بالسلوة عن هذه الدنيا- و اجعل التهافنا عليها حنينا إلى دار السلام- و محل القرار- و غلب إيماننا بالغيب على يقيننا بالعيان- و احرسنا من أنفسنا فإنها ينابير الشهوة- و مفاتيح البلوى- . و أرنا من قدرتك ما يحفظ علينا هيبتك- و أوضح لنا من حكمتك ما يقلبنا في ملكوتك- و أسبغ علينا من نعمتك ما يكون لنا عونا على طاعتك- و أشع في صدورنا من نورك ما تتجلى به حقائق توحيدك- و اجعل ديدننا ذكرك و عادتنا الشوق إليك- و علمنا النصح لخلقك و اجعل غايتنا الاتصال بك- و احجبنا عن قول يبرئ من رضاك- و عمل يعمى صاحبه عن هداك- و ألف بيننا و بين الحق- و قربنا من معادن الصدق- و اعصمنا من بوائق الخلق- و انقلنا من مضايق الرق و اهدنا إلى فوائد العتق- .

اللهم إنك بدأت بالصنع و أنت أهله- فعد بالتوفيق فإنك أهله- .

اللهم إنا نتضاءل لك عند مشاهدة عظمتك- و ندل عليك عند تواتر برك- و نذل لك عند ظهور آياتك- و نلح عليك عند علمنا بجودك- . و نسألك من فضلك ما لا يرزؤك و لا ينكؤك- و نتوسل إليك بتوحيد لا ينتمي إليه خلق- و لا يفارقه حق- . و منها اللهم عليك أتوكل و بك أستعين- و فيك أوالي و بك أنتسب و منك أفرق- و معك أستأنس و لك أمجد و إياك أسأل- لسانا سمحا بالصدق و صدرا قد ملئ من الحق- و أملا منقطعا عن الخلق- و حالا مكنونها يبوئ الجنة و ظاهرها يحقق المنة- و عاقبة تنسي ما سلف و تتصل بما يتمنى و يتوكف- .

و أسألك اللهم كبدا رجوفا خئوفا- و دمعا نطوفا شوقا إليك- و نفسا عزوفا إذعانا لك- و سرا ناقعا ببرد الإيمان بك- و نهارا مشتملا على ما كسب من مرضاتك- و ليلا مالئا بما أزلف لديك- . أشكو إليك اللهم تلهفي على ما يفوتني من الدنيا- و إنني في طاعة الهوى جاهلا بحقك- ساهيا عن واجبك- ناسيا ما تكرره من وعظك- و إرشادك- و بيانك و تنبيهك حتى كان حلاوة وعدك لم تلج أذني- و لم تباشر فؤادي- و حتى كأني مرارة عتابك و لائمتك لم تهتك حجابي- و لم تعرض علي أوصابي- . اللهم إليك المفر من دار منهومها لا يشبع- و حائمها لا ينقع و طالبها لا يربع- و واجدها لا يقنع- و العيش عنك رقيق و للأمل فيك تحقيق- .

اللهم كما ابتليت بحكمتك الخفية- التي أشكلت على العقول- و حارت معها البصائر- فعاف برحمتك اللطيفة التي تطاولت إليها الأعناق- و تشوفت نحوها السرائر- و خذ معنا بالفضل الذي إليك هو منسوب- و عنك هو مطلوب- و أفطم نفوسنا من رضاع الدنيا-و الطف بما أنت له أهل إنك على كل شي‏ء قدير- .

اللهم قدنا بأزمة التوحيد إلى محاضر طاعتك- و اخلطنا في زمرة المخلصين لذكرك- و اجعل إجابتك من قبيل ما يتصل بكرم عفوك- و لا تجعل خيبتنا من قبل جهلنا بقدرك- و إضرابنا عن أمرك- فلا سائل أحوج منا و لا مسئول أجود منك- . اللهم احجر بيننا و بين كل ما دل على غيرك ببيانك- و دعا إلى سواك ببرهانك- و انقلنا عن مواطن العجز مرتقيا بنا إلى شرفات العز- فقد استحوذ الشيطان و خبثت النفس- و ساءت العادة و كثر الصادون عنك- و قل الداعون إليك و ذهب المراعون لأمرك- و فقد الواقفون عند حدودك- و خلت ديار الحق من سكانها- و بيع دينك بيع الخلق- و استهزئ بناشر مجدك و أقصي المتوسل بك- .

اللهم فأعد نضارة دينك- و أفض بين خلقك بركات إحسانك- و امدد عليهم ظل توفيقك- و اقمع ذوي الاعتراض عليك- و اخسف بالمقتحمين في دقائق غيبك- و اهتك أستار الهاتكين لستر دينك- و القارعين أبواب سرك- القائسين بينك و بين خلقك- اللهم إني أسألك أن تخصني بإلهام اقتبس الحق منه- و توفيق يصحبني و أصحبه- و لطف لا يغيب عني و لا أغيب عنه- حتى أقول إذا قلت لوجهك و أسكت إذا سكت بإذنك- و أسأل إذا سألت بأمرك و أبين إذا أبنت بحجتك- و أبعد إذا بعدت بإجلالك- و أقرب إذا قربت برحمتك- و أعبد إذا عبدت مخلصا لك- و أموت إذا مت منتقلا إليك- اللهم فلا تكلني إلى غيرك- و لا تؤيسني من خيرك- .

و منها اللهم إنا بك نعز كما إنا بغيرك نذل- و إياك نرجو كما إنا من غيرك نيأس- و إليك نفوض كما إنا من غيرك نعرض- أذنت لنا في دعائك و أدنيتنا إلى فنائك- و هيأتنا لعطائك و خصصتنا بحبائك- و وسمتنا بولائك و عممتنا بآلائك- و غمستنا في نعمائك- و ناغيتنا بألسن ملكوتك عن دفائن ما في عالمك- و لاطفتنا بظاهر قولك-و توليتنا بباطن فعلك فسمت نحوك أبصارنا- و شامت بروق جودك بصائرنا- فلما استقر ما بيننا و بينك- أرسلت علينا سماء فضلك مدرارا- و فتحت لنا منا أسماعا و أبصارا- فرأينا ما طاح معه تحصيلنا- و سمعنا ما فارقنا عنده تفضيلنا- فلما سرنا إلى خلقك من ذلك ذروا- اتخذونا من أجله لعبا و هزوا- فبقدرتك على بلوانا بهم أرنا بك الغنى عنهم-

اللهم قيض لنا فرجا من عندك- و أنح لنا مخلصا إليك فإنا قد تعبنا بخلقك- و عجزنا عن تقويمهم لك- و نحن إلى مقاربتهم في مخالفتك- أقرب منا إلى منابذتهم في موافقتك- لأنه لا طاقة لنا بدهمائهم و لا صبر لنا على بلوائهم- و لا حيلة لنا في شفائهم- فنسألك بالضراعة التامة و بالإخلاص المرفود- إلا أخذت بأيدينا و أرسلت رحمتك علينا- فما أقدرك على الإجابة- و ما أجودك بكل مصون يا ذا الجلال و الإكرام- . و منها اللهم إنا قربنا بك فلا تنئنا عنك- و ظهرنا لك فلا تبطنا دونك- و وجدناك بما ألقيت إلينا من غيب ملكوتك- و عزفنا عن كل ما لوانا عن بابك- و وثقنا بكل ما وعدتنا في كتابك- و توكلنا بالسر و العلن على لطيف صنعك- .

اللهم إليك نظرت العيون فعادت خاسئة عبرى- و فيك تقسمت الظنون فانقلبت يائسة حسرى- و في قدرتك حارت الأبصار- و في حكمتك طاحت البصائر- و في آلائك غرقت الأرواح- و على ما كان منك تقطعت الأنفاس- و من أجل إعراضك التهبت الصدور- و لذكر ما مضى منك هملت الدموع-

اللهم تولنا فيما وليتنا حتى لا نتولى عنك- و أمنا مما خوفتنا حتى نقر معك- و أوسعنا رحمتك حتى نطمئن إلى ما وعدتنا في كتابك- و فرق بيننا و بين الغل حتى لا نعامل به خلقك- و أغننا بك حتى لا نفتقر إلى عبادك- فإنك إذا يسرت أمرا تيسر- و مهما بلوتنا فلا تبلنا بهجرك- و لا تجرعنا مرارة سخطك- لا قد اعترفنا بربوبيتك عبودية لك- فعرفنا حقيقتها بالعفو عنا- و الإقبال علينا و الرفق بنا يا رحيم- .

و منها اللهم إن الرغبات بك منوطة- و الوسائل إليك متداركة و الحاجات ببابك مرفوعة- و الثقة بك مستحصفة أي مستحكمة- و الأخبار بجودك شائعة و الآمال نحوك نازعة- و الأماني وراءك منقطعة- و الثناء عليك متصل و وصفك بالكرم معروف- و الخلائق إلى لطفك محتاجة- و الرجاء فيك قوي- و الظنون بك جميلة و الأعناق لعزك خاضعة- و النفوس إلى مواصلتك مشتاقة- و الأرواح لعظمتك مبهوته- لأنك لإله العظيم و الرب الرحيم و الجواد الكريم- و السميع العليم- تملك العالم كله و ما بعده و ما قبله- و لك فيه تصاريف القدرة و خفيات الحكمة- و نوافذ الإرادة- و لك فيه ما لا ندريه مما تخفيه و لا تبديه- جللت عن الإجلال و عظمت عن التعظيم- و قد أزف ورودنا عليك- و وقوفنا بين يديك و ظننا ما قد علمت- و رجاؤنا ما قد عرفت- فكن عند ظننا بك و حقق رجاءنا فيك- فما خالفناك جرأة عليك- و لا عصيناك تقحما في سخطك- و لا اتبعنا هوانا استهزاء بأمرك و نهيك- و لكن غلبت علينا جواذب الطينة التي عجنتنا بها- و بذور الفطرة التي أنبتنا منها- فاسترخت قيودنا عن ضبط أنفسنا- و عزبت ألبابنا عن تحصيل حظوظنا- و لسنا ندعي حجة و لكن نسألك رأفة- فبسترك السابغ الذيال و فضلك الذي يستوعب كل مقال- إلا تممت ما سلف منك إلينا- و عطفت بجودك الفياض علينا- و جذبت بأضباعنا- و أقررت عيوننا و حققت آمالنا- إنك أهل ذلك و أنت على كل شي‏ء قدير

شرح‏نهج‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد)، ج11

خطبه 221 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

221 و من خطبة له ع

دَارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ وَ بِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ- لَا تَدُومُ أَحْوَالُهَا وَ لَا يَسْلَمُ نُزَّالُهَا- أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَ تَارَاتٌ مُتَصَرِّفَةٌ- الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ وَ الْأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ- وَ إِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدِفَةٌ- تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا وَ تُفْنِيهِمْ بِحِمَامِهَا- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا- عَلَى سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ- مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَاراً وَ أَعْمَرَ دِيَاراً وَ أَبْعَدَ آثَاراً- أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً وَ رِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً- وَ أَجْسَادُهُمْ بَالِيَةً وَ دِيَارُهُمْ خَالِيَةً وَ آثَارُهُمْ عَافِيَةً- فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ الْمَشَيَّدَةِ وَ النَّمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ- الصُّخُورَ وَ الْأَحْجَارَ الْمُسْنَدَةَ وَ الْقُبُورَ اللَّاطِئَةَ الْمُلْحَدَةَ- الَّتِي قَدْ بُنِيَ عَلَى الْخَرَابِ فِنَاؤُهَا- وَ شُيِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا فَمَحَلُّهَا مُقْتَرِبٌ وَ سَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ- بَيْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِينَ وَ أَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِينَ- لَا يَسْتَأْنِسُونَ بِالْأَوْطَانِ وَ لَا يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِيرَانِ- عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ وَ دُنُوِّ الدَّارِ- وَ كَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَزَاوُرٌ وَ قَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى- وَ أَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ وَ الثَّرَى- وَ كَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ- وَ ارْتَهَنَكُمْ ذَلِكَ الْمَضْجَعُ وَ ضَمَّكُمْ ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ- فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الْأَمُورُ- وَ بُعْثِرَتِ الْقُبُورُ هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُ‏نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ- وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ- وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ بالبلاء محفوفة قد أحاط بها من كل جانب- . و تارات جمع تارة و هي المرة الواحدة- و متصرفة منتقلة متحولة- . و مستهدفة بكسر الدال منتصبة مهيأة للرمي- و روي مستهدفة بفتح الدال على المفعولية- كأنها قد استهدفها غيرها أي جعلها أهدافا- . و رياحهم راكدة ساكنة و آثارهم عافية مندرسة- . و القصور المشيدة العالية- و من روى المشيدة بالتخفيف و كسر الشين- فمعناه المعمولة بالشيد و هو الجص- .

و النمارق الوسائد- . و القبور الملحدة ذوات اللحود- . و روي و الأحجار المسندة بالتشديد- . قوله ع قد بني على الخراب فناؤها- أي بنيت لا لتسكن الأحياء فيها- كما تبنى منازل أهل الدنيا- . و الكلكل الصدر و هو هاهنا استعارة- . و الجنادل الحجارة و بعثرت القبور أثيرت- . و تبلو كل نفس ما أسلفت تخبر و تعلم جزاء أعمالها- و فيه حذف مضاف- و من‏ قرأ تتلو بالتاء بنقطتين أي تقرأ كل نفس كتابها- و ضل عنهم ما كانوا يفترون- بطل عنهم ما كانوا يدعونه- و يكذبون فيه من القول بالشركاء و أنهم شفعاء

ذكر بعض الآثار و الأشعار الواردة في ذم الدنيا

و من كلام بعض البلغاء في ذم الدنيا- أما بعد فإن الدنيا قد عاتبت نفسها بما أبدت من تصرفها- و إنبات عن مساوئها بما أظهرت عن مصارع أهلها- و دلت على عوراتها بتغير حالاتها- و نطقت ألسنة العبر فيها بزوالها- و شهد اختلاف شئونها على فنائها و لم يبق لمرتاب فيها ريب- و لا ناظر في عواقبها شك- بل عرفها جل من عرفها معرفة يقين- و كشفوها أوضح تكشيف- ثم اختلجتهم الأهواء عن منافع العلم- و دلتهم الآمال بغرور- فلججت بهم في غمرات العجز- فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة- و رتعوا في عراصها عارفين بالخدعة- فكان يقينهم شكا و علمهم جهلا- لا بالعلم انتفعوا و لا بما عاينوا اعتبروا- قلوبهم عالمة جاهلة و أبدانهم شاهدة غائبة- حتى طرقتهم المنية فأعجلتهم عن الأمنية- فبغتتهم القيامة و أورثتهم الندامة و كذلك الهوى حلت مذاقته- و سمت عاقبته و الأمل ينسى طويلا- و يأخذ وشيكا فانتفع امرؤ بعلمه- و جاهد هواه أن يضله- و جانب أمله أن يغره و قوي يقينه على العمل- و نفى عنه الشك بقطع الأمل- فإن الهوى و الأمل إذا استضعفا اليقين صرعاه- و إذا تعاونا على ذي غفلة خدعاه- فصريعهما لا ينهض سالما و خديعهما لا يزال نادما- و القوي من قوي عليهما و الحازم من احترس منهما- ألبسنا الله و إياكم جنة السلامة- و وقانا و إياكم سوء العذاب- .

كان عمر بن عبد العزيز إذا جلس للقضاء قرأ- أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ- ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ- ما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ- . قال منصور بن عمار لأهل مجلسه- ما أرى إساءة تكبر على عفو الله فلا تيأس- و ربما آخذ الله على الصغير فلا تأمن- و قد علمت أنك بطول عفو الله عنك- عمرت مجالس الاغترار به و رضيت لنفسك المقام على سخطه- و لو كنت تعاقب نفسك بقدر تجاوزه عن سيئاتك- ما استمر بك لجاج فيما نهيت عنه- و لا قصرت دون المبالغة فيه- و لكنك رهين غفلتك و أسير حيرتك- .

قال إسماعيل بن زياد أبو يعقوب- قدم علينا بعبادان راهب من الشام- و نزل دير ابن أبي كبشة فذكروا حكمة كلامه- فحملني ذلك على لقائه فأتيته و هو يقول- إن لله عبادا سمت بهم هممهم فهووا عظيم الذخائر- فالتمسوا من فضل سيدهم توفيقا يبلغهم سمو الهمم- فإن استطعتم أيها المرتحلون عن قريب- أن تأخذوا ببعض أمرهم- فإنهم قوم قد ملكت الآخرة قلوبهم- فلم تجد الدنيا فيها ملبسا- فالحزن بثهم و الدمع راحتهم و الدءوب وسيلتهم- و حسن الظن قربانهم- يحزنون بطول المكث في الدنيا إذا فرح أهلها- فهم فيها مسجونون و إلى الآخرة منطلقون- . فما سمعت موعظة كانت أنفع لي منها- . و من جيد شعر أبي نواس في الزهد-

و الشكول التي تباين
في الطول و القصر

أين من كان قبلكم‏
من ذوي البأس و الخطر

سائلوا عنهم المدائن
و استبحثوا الخبر

سبقونا إلى الرحيل‏
و إنا لبالأثر

من مضى عبرة لنا
و غدا نحن معتبر

أن للموت أخذة
تسبق اللمح بالبصر

فكأني بكم غدا
في ثياب من المدر

قد نقلتم من القصور
إلى ظلمة الحفر

حيث لا تضرب القباب
عليكم و لا الحجر

حيث لا تطربون منه‏
للهو و لا سمر

رحم الله مسلما
ذكر الموت فازدجر

رحم الله مؤمنا
خاف فاستشعر الحذر

و هل نحن إلا مرامي السهام
يحفزها نابل دائب‏

نسر إذا جازنا طائش‏
و نجزع إن مسنا صائب‏

ففي يومنا قدر لا بد
و عند غد قدر واثب‏

طرائد تطردها النائبات
و لا بد أن يدرك الطالب‏

أرى المرء يفعل فعل الحديد
و هو غدا حمأ لازب‏

عواري من سلب الهالكين
يمد يدا نحوها السالب‏

لنا بالردى موعد صادق‏
و نيل المنى موعد كاذب‏

حبائل للدهر مبثوثه
يرد إلى جذبها الهارب‏

و كيف نجاوز غاياتنا
و قد بلغ المورد القارب‏

نصبح بالكأس مجدحة
ذعافا و لا يعلم الشارب‏

 و قال أيضا و هي من محاسن شعره-

ما أقل اعتبارنا بالزمان
و أشد اغترارنا بالأماني‏

وقفات على غرور و إقدام‏
على مزلق من الحدثان‏

في حروب مع الردى فكانا اليوم
في هدنة مع الأزمان‏

و كفانا مذكرا بالمنايا
علمنا أننا من الحيوان‏

كل يوم رزية بفلان
و وقوع من الردى بفلان‏

كم تراني أضل نفسا و ألهو
فكأني وثقت بالوجدان‏

قل لهذي الهوامل استوقفي السير
أو استنشدي عن الأعطان‏

و استقيمي قد ضمك اللقم النهج‏
و غني وراءك الحاديان‏

كم محيدا عن الطريق وقد ضرح
خلج البرى و جذب العران‏

ننثني جازعين من عدوة الدهر
و نرتاع للمنايا الرواني‏

جفلة السرب في الظلام و قد ذعذع
روعا من عدوة الذؤبان‏

ثم ننسى جرح الحمام و إن كان‏
رغيبا يا قرب ذا النسيان‏

كل يوم تزايل من خليط
بالردى أو تباعد من دان‏

و سواء مضى بنا القدر الجد
عجولا أو ماطل العصران‏

 و أيضا من هذه القصيدة-

قد مررنا على الديار خشوعا
و رأينا البنا فأين الباني‏

و جهلنا الرسوم ثم علمنا
فذكرنا الأوطار بالأوطان‏

التفاتا إلى القرون الخوالي
هل ترى اليوم غير قرن فان‏

أين رب السدير فالحيرة البيضاء
أم أين صاحب الإيوان‏

و السيوف الحداد من آل بدر
و القنا الصم من بني الريان‏

طردتهم وقائع الدهر عن لعلع‏
طرد السفاف عن نجران‏

و المواضي من آل جفنة أرسى
طنبا ملكهم على الجولان‏

يكرعون العقار في فلق الإبريز
كرع الظماء في الغدران‏

من أباة اللعن الذين يحيون
بها في معاقد التيجان‏

تتراءاهم الوفود بعيدا
ضاربين الصدور بالأذقان

في رياض من السماح حوال
و جبال من الحلوم رزان‏

و هم الماء لذ للناهل الظمآن‏
بردا و النار للحيران‏

كل مستيقظ الجنان إذا أظلم
ليل النوامة المبطان‏

يغتدي في السباب غير شجاع‏
و يرى في النزال غير جبان‏

ما ثنت عنهم المنون يدا شوكاء
أطرافها من المران‏

عطف الدهر فرعهم فرءاه‏
بعد بعد الذرى قريب المجاني‏

وثنتهم بعد الجماح المنايا
في عنان التسليم و الإذعان‏

عطلت منهم المقاري و باخت‏
في حماهم مواقد النيران‏

ليس يبقى على الزمان جري‏ء
في إباء أو عاجز في هوان‏

لا شبوب من الصوار و لا أعنق‏
يرعى منابت العلجان‏

لا و لا خاضب من الربد يختال
بريط أحم غير يمان‏

يرتمي وجهة الرئال إذا آنس‏
لون الإظلام و الإدجان‏

و عقاب الملاع تلحم فرخيها
بإزليقة زلول القنان‏

نائلا في مطامح الجو هاتيك‏
و ذا في مهابط الغيطان‏

 و هذا شعر فصيح نادر معرق في العربية- .

و من شعره الجيد أيضا في ذكر الدنيا و مصائبها-

أ و ما رأيت وقائع الدهر
أ فلا تسي‏ء الظن بالعمر

بينا الفتى كالطود تكنفه‏
هضباته و العضب ذي الأثر

يأبى الدنية في عشيرته
و يجاذب الأيدي على الفخر

و إذا أشار إلى قبائله‏
حشدت عليه بأوجه غر

يترادفون على الرماح فهم
سيل يعب و عارض يسري‏

إن نهنهوا زادوا مقاربة
فكأنما يدعون بالزجر

عدد النجوم إذا دعي بهم
يتزاحمون تزاحم الشعر

عقدوا على الجلى مآزرهم‏
سبطي الأنامل طيبي النشر

زل الزمان بوطء أخمصه
و مواطئ الأقدام للعثر

نزع الإباء و كان شملته‏
و أقر إقرارا على صغر

صدع الردى أعيا تلاحمه
من ألحم الصدفين بالقطر

جر الجياد على الوجى و مضى‏
أمما يدق السهل بالوعر

حتى التقى بالشمس مغمدة
في قعر منقطع من البحر

ثم انثنت كف المنون به‏
كالضغث بين الناب و الظفر

لم تشتجر عنه الرماح و لا
رد القضاء بماله الدثر

جمع الجنود وراءه فكأنما
لاقته و هو مضيع الظهر

و بنى الحصون تمنعا فكأنما
أمسى بمضيعة و ما يدري‏

و بري المعابل للعدا فكأنما
لحمامه كان الذي يبري‏

إن التوقي فرط معجزة
فدع القضاء يقد أو يفري‏

و حمى المطاعم للبقا و ذي الآجال‏
مل‏ء فروجها تجري‏

لو كان حفظ النفس ينفعنا
كان الطبيب أحق بالعمر

الموت داء لا دواء له‏
سيان ما يوبي و ما يمري‏

 و هذا من حر الكلام و فصيحه و نادره- و لا عجب فهذه الورقة من تلك الشجرة- و هذا القبس من تلك النار

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 220 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(دعاء)

220 و من دعاء له ع

اللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ وَ لَا تَبْذُلْ جَاهِي بِالْإِقْتَارِ- فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقِكَ وَ أَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ- وَ أُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي وَ أُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي- وَ أَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِيُّ الْإِعْطَاءِ وَ الْمَنْعِ- إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ صن وجهي باليسار- أي استره بأن ترزقني يسارا و ثروة- أستغني بهما عن مسألة الناس- . و لا تبذل جاهي بالإقتار- أي لا تسقط مروءتي و حرمتي بين الناس بالفقر- الذي أحتاج معه إلى تكفف الناس- .

و روي أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الجواد- رقت حاله في آخر عمره- لأن عبد الملك جفاه- فراح يوما إلى الجمعة فدعا فقال- اللهم إنك عودتني عادة جريت عليها- فإن كان ذلك قد انقضى فاقبضني إليك- فلم يلحق الجمعة الأخرى- . وكان الحسن بن علي ع يدعو فيقول اللهم وسع علي فإنه لا يسعني إلا الكثير- .

قوله فأسترزق منصوب لأنه جواب الدعاء- كقولهم ارزقني بعيرا فأحج عليه- بين ع كيفية تبذل جاهه بالإقتار- و فسره فقال بأن أطلب الرزق ممن يطلب منك الرزق- . و أستعطف الأشرار من الناس- أي أطلب عاطفتهم و إفضالهم- و يلزم من ذلك أمران محذوران- أحدهما أن أبتلى بحمد المعطي- .

و الآخر أن أفتتن بذم المانع- . قوله ع و أنت من وراء ذلك كله- مثل يقال للمحيط بالأمر- القاهر له القادر عليه كما نقول للملك العظيم- هو من وراء وزرائه و كتابه- أي مستعد متهيئ لتتبعهم و تعقبهم- و اعتبار حركاتهم لإحاطته بها و إشرافه عليها- . و ولي مرفوع بأنه خبر المبتدإ- و يكون خبرا بعد خبر- و يجوز أن يكون ولي هو الخبر- و يكون من وراء ذلك- جملة مركبة من جار و مجرور منصوبة الموضع لأنه حال

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 219 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

219 و من كلام له ع

وَ اللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً- أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً- أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً- لِبَعْضِ الْعِبَادِ- وَ غَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ- وَ كَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا- وَ يَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا- وَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَ قَدْ أَمْلَقَ- حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً- وَ رَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ- كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ- وَ عَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَ كَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً- فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي- وَ أَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي- فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا- فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا- وَ كَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا- فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ- أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ- وَ تَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ- أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَ لَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى- وَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا- وَ مَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا- كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا- فَقُلْتُ أَ صِلَةٌ أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ- فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ- فَقَالَ لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ وَ لَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ- فَقُلْتُ هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ أَ عَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي- أَ مُخْتَبِطٌ أَمْ ذُو جِنَّةٌ أَمْ تَهْجُرُ- وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا- عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍمَا فَعَلْتُهُ- وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا- مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لَا تَبْقَى- نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِينُ السعدان نبت ذو شوك- يقال له حسك السعدان و حسكة السعدان- و تشبه به حلمة الثدي فيقال سعدانة الثندوة- و هذا النبت من أفضل مراعي الإبل- و في المثل مرعى و لا كالسعدان- و نونه زائدة لأنه ليس في الكلام فعلال غير مضاعف- إلا خزعال و هو ظلع يلحق الناقة- و قهقار و هو الحجر الصلب- و قسطال و هو الغبار- .

و المسهد الممنوع النوم و هو السهاد- . و الأغلال القيود و المصفد المقيد- و الحطام عروض الدنيا و متاعها- شبه لزواله و سرعة فنائه بما يتحطم من العيدان و يتكسر- . ثم قال كيف أظلم الناس لأجل نفس تموت سريعا- يعني نفسه ع- . فإن قلت أ ليس قوله عن نفس يسرع إلى البلى قفولها- يشعر بمذهب من قال بقدم الأنفس- لأن القفول الرجوع- و لا يقال في مذهبه للمسافرة قافلة إلا إذا كانت راجعة- . قلت لا حاجة إلى القول بقدم الأنفس محافظة على هذه اللفظة- و ذلك لأن النفس إذا كانت حادثة فقد كان أصلها العدم- فإذا مات الإنسان عدمت نفسه فرجعت إلى العدم الأصلي- و هو المعبر عنه بالبلى- .

و أملق افتقر- قال تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ- . و استماحني طلب مني أن أعطيه صاعا من الحنطة- و الصاع أربعة أمداد و المد رطل و ثلث- فمجموع ذلك خمسة أرطال و ثلث رطل- و جمع الصاع أصوع و إن شئت همزت- و الصواع لغة في الصاع و يقال هو إناء يشرب فيه- . و العظلم بالكسرة في الحرفين- نبت يصبغ به ما يراد اسوداده- و يقال هو الوسمة- و شعث الألوان أي غبر- . و أصغيت إليه أملت سمعي نحوه- . و أتبع قياده أطيعه و انقاد له- . و أحميت الحديدة في النار فهي محماة- و لا يقال حميت الحديدة- . و ذي دنف أي ذي سقم مؤلم- . و من ميسمها من أثرها في يده- . و ثكلتك الثواكل دعاء عليه و هو جمع ثاكلة- و فواعل لا يجي‏ء إلا جمع المؤنث إلا فيما شذ- نحو فوارس أي ثكلتك نساؤك- . قوله أحماها إنسانها أي صاحبها- و لم يقل إنسان- لأنه يريد أن يقابل هذه اللفظة بقوله جبارها- .

و سجرها بالتخفيف أوقدها و أحماها- و السجور ما يسجر به التنور- . قوله بملفوفة في وعائها- كان أهدى له الأشعث بن قيس نوعا من الحلواء تأنق فيه- و كان ع يبغض الأشعث لأن الأشعث كان يبغضه- و ظن الأشعث أنه يستميله بالمهاداة- لغرض دنيوي كان في نفس الأشعث- و كان أمير المؤمنين‏ع يفطن لذلك و يعلمه- و لذلك رد هدية الأشعث- و لو لا ذلك لقبلها لأن النبي ص قبل الهدية- و قد قبل علي ع هدايا جماعة من أصحابه- و دعاء بعض من كان يأنس إليه- إلى حلواء عملها يوم نوروز فأكل- و قال لم عملت هذا فقال لأنه يوم نوروز- فضحك و قال نوروزا لنا في كل يوم إن استطعتم- . و كان ع من لطافة الأخلاق و سجاحة الشيم- على قاعدة عجيبة جميلة- و لكنه كان ينفر عن قوم كان يعلم من حالهم الشنآن له- و عمن يحاول أن يصانعه بذلك عن مال المسلمين- و هيهات حتى يلين لضرس الماضغ الحجر- . و قال بملفوفة في وعائها لأنه كان طبق مغطى- .

ثم قال و معجونة شنئتها أي أبغضتها و نفرت عنها- كأنها عجنت بريق الحية أو بقيئها- و ذلك أعظم الأسباب للنفرة من المأكول- . و قال الراوندي وصفها باللطافة فقال- كأنها عجنت بريق الحية و هذا تفسير أبعد من الصحيح- . قوله أ صلة أم زكاة أم صدقة- فذلك محرم علينا أهل البيت- الصلة العطية لا يراد بها الأجر- بل يراد وصلة التقرب إلى الموصول- و أكثر ما تفعل للذكر و الصيت- و الزكاة هي ما تجب في النصاب من المال- . و الصدقة هاهنا هي صدقة التطوع- و قد تسمى الزكاة الواجبة صدقة- إلا أنها هنا هي النافلة- . فإن قلت كيف قال فذلك محرم علينا أهل البيت- و إنما يحرم عليهم الزكاة الواجبة خاصة- و لا يحرم عليهم صدقة التطوع و لا قبول الصلات- قلت أراد بقوله أهل البيت الأشخاص الخمسة- محمدا و عليا و فاطمة و حسنا و حسيناع- فهؤلاء خاصة دون غيرهم من بني هاشم- محرم عليهم الصلة و قبول الصدقة- و أما غيرهم من بني هاشم فلا يحرم عليهم إلا الزكاة الواجبة خاصة- .

فإن قلت- كيف قلت إن هؤلاء الخمسة يحرم عليهم قبول الصلات- و قد كان حسن و حسين ع يقبلان صلة معاوية- . قلت كلا لم يقبلا صلته و معاذ الله أن يقبلاها- و إنما قبلا منه ما كان يدفعه إليهما- من جملة حقهما من بيت المال- فإن سهم ذوي القربى منصوص عليه في الكتاب العزيز- و لهما غير سهم ذوي القربى سهم آخر للإسلام من الغنائم- . قوله هبلتك الهبول أي ثكلتك أمك- و الهبول التي لها عادة بثكل الولد- .

فإن قلت ما الفرق بين مختبط و ذي جنة و يهجر- . قلت المختبط المصروع من غلبه الأخلاط السوداوية- أو غيرها عليه- و ذو الجنة من به مس من الشيطان- و الذي يهجر هو الذي يهذي في مرض ليس بصرع- كالمحموم و المبرسم و نحوهما- . و جلب الشعيرة بضم الجيم قشرها- و الجلب و الجلبة أيضا جليدة تعلو الجرح عند البرء- يقال منه جلب الجرح يجلب و يجلب- و أجلب الجرح أيضا- و يقال للجليدة التي تجعل على القتب جلبة أيضا- . و تقضمها بفتح الضاد و الماضي قضم بالكسر

نبذ من أخبار عقيل بن أبي طالب

و عقيل هو عقيل بن أبي طالب ع- بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف- أخو أمير المؤمنين ع لأمه و أبيه- و كان بنو أبي طالب أربعة- طالب و هو أسن من عقيل بعشر سنين- و عقيل و هو أسن من جعفر بعشر سنين- و جعفر و هو أسن من علي بعشر سنين- و علي و هو أصغرهم سنا و أعظمهم قدرا- بل و أعظم الناس بعد ابن عمه قدرا- . و كان أبو طالب يحب عقيلا أكثر من حبه سائر بنيه- فلذلك قال للنبي ص و للعباس حين أتياه- ليقتسما بنيه عام المحل فيخففا عنه ثقلهم- دعوا لي عقيلا و خذوا من شئتم فأخذ العباس جعفرا- و أخذ محمد ص عليا ع- .

و كان عقيل يكنى أبا يزيد-قال له رسول الله ص يا أبا يزيد إني أحبك حبين- حبا لقرابتك مني و حبا لما كنت أعلم من حب عمي إياك- . أخرج عقيل إلى بدر مكرها كما أخرج العباس- فأسر و فدي و عاد إلى مكة- ثم أقبل مسلما مهاجرا قبل الحديبية- و شهد غزوة مؤتة مع أخيه جعفر ع- و توفي في خلافة معاوية في سنة خمسين- و عمره ست و تسعون سنة- . و له دار بالمدينة معروفة- و خرج إلى العراق ثم إلى الشام ثم عاد إلى المدينة- و لم يشهد مع أخيه أمير المؤمنين ع شيئا من حروبه- أيام خلافته- و عرض نفسه و ولده عليه فأعفاه و لم يكلفه حضور الحرب- . و كان أنسب قريش و أعلمهم بأيامها- و كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساوئهم-و كانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله ص فيصلي عليها- و يجتمع إليه الناس في علم النسب و أيام العرب- و كان حينئذ قد ذهب بصره- و كان أسرع الناس جوابا و أشدهم عارضة- .

كان يقال إن في قريش أربعة يتحاكم إليهم- في علم النسب و أيام قريش- و يرجع إلى قولهم عقيل بن أبي طالب- و مخرمة بن نوفل الزهري و أبو الجهم بن حذيفة العدوي- و حويط بن عبد العزى العامري- . و اختلف الناس في عقيل- هل التحق بمعاوية و أمير المؤمنين حي فقال قوم نعم- و رووا أن معاوية قال يوما و عقيل عنده هذا أبو زيد- لو لا علمه أني خير له من أخيه لما أقام عندنا و تركه- فقال عقيل أخي خير لي في ديني- و أنت خير لي في دنياي و قد آثرت دنياي- أسأل الله خاتمة خير- .

و قال قوم- إنه لم يعد إلى معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين ع- و استدلوا على ذلك بالكتاب الذي كتبه إليه في آخر خلافته- و الجواب الذي أجابه ع و قد ذكرناه فيما تقدم- و سيأتي ذكره أيضا في باب كتبه ع- و هذا القول هو الأظهر عندي و روى المدائني- قال قال معاوية يوما لعقيل بن أبي طالب- هل من حاجة فأقضيها لك- قال نعم جارية عرضت علي و أبى أصحابها أن يبيعوها- إلا بأربعين ألفا- فأحب معاوية أن يمازحه فقال- و ما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا و أنت أعمى- تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهما- قال أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما- إذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف- فضحك معاوية و قال مازحناك يا أبا يزيد- و أمر فابتيعت له الجاريةالتي أولد منها مسلما- فلما أتت على مسلم ثماني عشرة سنة و قد مات عقيل أبوه- قال لمعاوية- يا أمير المؤمنين إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة- و إني أعطيت بها مائة ألف- و قد أحببت أن أبيعك إياها فادفع إلي ثمنها- فأمر معاوية بقبض الأرض و دفع الثمن إليه- .

فبلغ ذلك الحسين ع فكتب إلى معاوية أما بعد فإنك غررت غلاما من بني هاشم- فابتعت منه أرضا لا يملكها- فاقبض من الغلام ما دفعته إليه و اردد إلينا أرضنا- . فبعث معاوية إلى مسلم فأخبره ذلك- و أقرأه كتاب الحسين ع- و قال اردد علينا مالنا و خذ أرضك فإنك بعت ما لا تملك- فقال مسلم أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا- فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه- فقال يا بني هذا و الله كلام قاله لي أبوك- حين ابتعت له أمك- . ثم كتب إلى الحسين إني قد رددت عليكم الأرض- و سوغت مسلما ما أخذ- فقال الحسين ع أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما- .

و قال معاوية لعقيل- يا أبا يزيد أين يكون عمك أبو لهب اليوم- قال إذا دخلت جهنم- فاطلبه تجده مضاجعا لعمتك أم جميل بنت حرب بن أمية- . و قالت له زوجته ابنة عتبة بن ربيعة- يا بني هاشم لا يحبكم قلبي أبدا- أين عمي أين أخي كان أعناقهم أباريق الفضة- ترى آنافهم الماء قبل شفاههم- قال إذا دخلت جهنم فخذي على شمالك- .

سأل معاوية عقيلا عن قصة الحديدة المحماة المذكورة- فبكى و قال أنا أحدثك يا معاوية عنه- ثم أحدثك عما سألت- نزل بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهما اشترى به خبزا- و احتاج إلى الإدام فطلب من قنبر خادمهم- أن يفتح له زقا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن- فأخذ منه رطلا فلما طلبها ع ليقسمها- قال يا قنبر أظن أنه حدث بهذا الزق حدث- فأخبره فغضب ع- و قال علي بحسين- فرفع عليه الدرة- فقال بحق عمي جعفر- و كان إذا سئل بحق جعفر سكن- فقال له ما حملك أن أخذت منه قبل القسمة- قال إن لنا فيه حقا فإذا أعطيناه رددناه- قال فداك أبوك و إن كان لك فيه حق- فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم- أما لو لا أني رأيت رسول الله ص يقبل ثنيتك لأوجعتك ضربا- ثم دفع إلى قنبر درهما كان مصرورا في ردائه- و قال اشتر به خير عسل تقدر عليه- قال عقيل- و الله لكأني أنظر إلى يدي علي و هي على فم الزق- و قنبر يقلب العسل فيه- ثم شده و جعل يبكي- و يقول اللهم اغفر لحسين فإنه لم يعلم- . فقال معاوية ذكرت من لا ينكر فضله- رحم الله أبا حسن فلقد سبق من كان قبله- و أعجز من يأتي بعده هلم حديث الحديدة- .

قال نعم أقويت و أصابتني مخمصة شديدة- فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبياني و جئته بهم- و البؤس و الضر ظاهران عليهم- فقال ائتني عشية لأدفع إليك شيئا- فجئته يقودني أحد ولدي فأمره بالتنحي- ثم قال أ لا فدونك فأهويت حريصا قد غلبني الجشع- أظنها صرة فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا- فلما قبضتها نبذتها- و خرت كما يخور الثور تحت يد جازره- فقال لي ثكلتك أمك- هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا- فكيف بك و بي غدا إن سلكنا في سلاسل جهنم- ثم قرأ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ- . ثم قال ليس لك عندي فوق حقك- الذي فرضه الله لك إلا ما ترى- فانصرف إلى أهلك- . فجعل معاوية يتعجب- و يقول هيهات هيهات عقمت النساء أن يلدن مثله

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

 

خطبه 218 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(تلاوت)

218 و من كلام له ع قاله عند تلاوته

يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ- أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَ أَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً- لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ- يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ- وَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَ مَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ- أَ مَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقَظَةٌ- أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ- فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ- أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ- فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَ جَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ- وَ عَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ- وَ هِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ- وَ كَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ- وَ قَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ- فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ- وَ مِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ- وَ كُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَ بِذِكْرِهِ آنِساً- وَ تَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ- إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ- وَ يَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَ أَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ-فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ- وَ تَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ- وَ أَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ- وَ فِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ- فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَ لَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ- بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ- فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ- أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ- مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ- لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ- وَ مَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ- وَ حَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَ لَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ- وَ لَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وَ آذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ- وَ لَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ- وَ النَّقْضِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَ أَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ- وَ لَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ- وَ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ- وَ لَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ- لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ- وَ بَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ- بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَ الشَّحِيحِ بِكَ- وَ لَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً- وَ مَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلًّا- وَ إِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ- إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ وَ حَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِيَامَةُ- وَ لَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَ بِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ- وَ بِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ- فَلَمْ يَجْرِ فِي عَدْلِهِ وَ قِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ- وَ لَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ- فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ- وَ عَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ- فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِكَ مَا يَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ وَ تَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ- وَ خُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لَا تَبْقَى لَهُ- وَ تَيَسَّرْ لِسَفَرِكَ وَ شِمْ بَرْقَ النَّجَاةِ وَ ارْحَلْ مَطَايَا التَّشْمِيرِ

لقائل أن يقول- لو قال ما غرك بربك العزيز أو المنتقم أو نحو ذلك- لكان أولى لأن للإنسان المعاتب أن يقول- غرني كرمك الذي وصفت به نفسك- . و جواب هذا أن يقال- إن مجموع الصفات صار كشي‏ء واحد- و هو الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك- في أي صوره ما شاء ركبك- و المعنى ما غرك برب هذه صفته- و هذا شأنه و هو قادر على أن يجعلك في أي صوره شاء- فما الذي يؤمنك من أن يمسخك- في صورة القردة و الخنازير- و نحوها من الحيوانات العجم- و معنى الكريم هاهنا الفياض على المواد بالصور- و من هذه صفته ينبغي أن يخاف منه تبديل الصورة- .

قال ع أدحض مسئول حجة- المبتدأ محذوف و الحجة الداحضة الباطلة- . و المعذرة بكسر الذال العذر- . و يقال لقد أبرح فلان جهالة- و أبرح لؤما و أبرح شجاعة- و أتى بالبرح من ذلك أي بالشديد العظيم- و يقال هذا الأمر أبرح من هذا أي أشد- و قتلوه أبرح قتل و جهالة منصوب على التمييز- . و قال القطب الراوندي مفعول به- قال معناه جلب جهالة إلى نفسه و ليس بصحيح- و أبرح لا يتعدى هاهنا و إنما يتعدى أبرح في موضعين- أحدهما أبرحه الأمر أي أعجبه- و الآخر أبرح زيد عمرا أي أكرمه و عظمه- . قوله ما جرأك بالهمزة- و فلان جري‏ء القوم أي مقدمهم- .

و ما أنسك بالتشديد و روي ما آنسك بالمد- و كلاهما من أصل واحد- و تأنست‏بفلان و استأنست بمعنى- و فلان أنيسي و مؤانسي و قد أنسني كله بمعنى- أي كيف لم تستوحش من الأمور التي تؤدي إلى هلكة نفسك- . و البلول مصدر بل الرجل من مرضه إذا برئ- و يجوز أبل- قال الشاعر-

إذا بل من داء به ظن أنه نجا
و به الداء الذي هو قاتله‏

و الضاحي لحر الشمس البارز- و هذا داء ممض أي مؤلم أمضني الجرح إمضاضا- و يجوز مضني- . و روي و جلدك على مصائبك بصيغة الجمع- . و بيات نقمة بفتح الباء طروقها ليلا- و هي من ألفاظ القرآن العزيز- . و تورط وقع في الورطة بتسكين الراء و هي الهلاك- و أصل الورطة أرض مطمئنة لا طريق فيها- و قد أورطه و ورطه توريطا أي أوقعه فيها- . و المدارج الطرق و المسالك- و يجوز انتصاب مدارج هاهنا- لأنها مفعول به صريح- و يجوز أن ينتصب على تقدير حرف الخفض و حذفه- أي في مدارج سطواته- . قوله و تمثل أي و تصور- . و يتغمدك بفضله أي يسترك بعفوه- و سمى العفو و الصفح فضلا تسمية للنوع بالجنس- .

قوله مطرف عين بفتح الراء- أي زمان طرف العين- و طرفها إطباق أحدجفنيها على الآخر- و انتصاب مطرف هاهنا على الظرفية- كقولك وردت مقدم الحاج أي وقت قدومهم- . قوله متوازيين في القدرة أي متساويين- و روي متوازنين بالنون- . و العظات جمع عظة- و هو منصوب على نزع الخافض- أي كاشفتك بالعظات- و روي العظات بالرفع على أنه فاعل- و روي كاشفتك الغطاء- . و آذنتك أي أعلمتك- . و على سواء أي على عدل و إنصاف- و هذا من الألفاظ القرآنية- . و الراجفة الصيحة الأولى- و حقت بجلائلها القيامة أي بأمورها العظام- و المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك- و هي ذبائح القربان و يجوز فتح السين- و قد قرئ بهما في قوله تعالى- لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً- . فإن قلت إذا كان يلحق بكل معبود عبدته- فالنصارى إذن تلحق بعيسى- و الغلاة من المسلمين بعلي- و كذلك الملائكة فما القول في ذلك- .

قلت لا ضرر في التحاق هؤلاء بمعبوديهم- و معنى الالتحاق أن يؤمر الأتباع في الموقف- بالتحيز إلى الجهة التي فيها الرؤساء- ثم يقال للرؤساء أ هؤلاء أتباعكم و عبدتكم- فحينئذ يتبرءون منهم- فينجو الرؤساء و تهلك الأتباع- كما قال سبحانه أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ- قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ- بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ- أي إنما كانوا يطيعون الشياطين المضلة لهم- فعبادتهم في‏الحقيقة للشياطين لا لنا- و إنهم ما أطاعونا و لو أطاعونا لكانوا مهتدين- و إنما أطاعوا شياطينهم- . و لا حاجة في هذا الجواب إلى أن يقال ما قيل في قوله تعالى- إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- من تخصيص العموم بالآية الأخرى- و هي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏- أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ- .

فإن قلت فما قولك في اعتراض ابن الزبعري على الآية- هل هو وارد- . قلت لا لأنه قال تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ- و ما لما لا يعقل- فلا يرد عليه الاعتراض بالمسيح و الملائكة- و الذي قاله المفسرون من تخصيص العموم بالآية الثانية- تكلف غير محتاج إليه- . فإن قلت فما الفائدة في أن قرن القوم بأصنامهم في النار- و أي معنى لذلك في زيادة التعذيب و السخط- . قلت لأن النظر إلى وجه العدو باب من أبواب العذاب- و إنما أصاب هؤلاء ما أصابهم- بسبب الأصنام التي ضلوا بها- فكلما رأوها معهم زاد غمهم و حسرتهم- .

و أيضا فإنهم قدروا أن يستشفعوا بها في الآخرة- فإذا صادفوا الأمر على عكس ذلك- لم يكن شي‏ء أبغض إليهم منها- . قوله فلم يجر قد اختلف الرواة في هذه اللفظة- فرواها قوم فلم يجر و هو مضارع جرى يجري- تقول ما الذي جرى للقوم- فيقول من سألته قدم الأمير من السفر- فيكون المعنى على هذا- فلم يكن و لم يتجدد في ديوان حسابه ذلك اليوم- صغير و لا حقير إلا بالحق و الإنصاف- و هذا مثل قوله تعالى- لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ‏الْحِسابِ- و رواها قوم فلم يجز مضارع جاز يجوز- أي لم يسغ و لم يرخص ذلك اليوم لأحد من المكلفين- في حركة من الحركات المحقرات المستصغرات- إلا إذا كانت قد فعلها بحق- و على هذا يجوز فعل مثلها- و رواها قوم فلم يجر من جار أي عدل عن الطريق- أي لم يذهب عنه سبحانه- و لم يضل و لم يشذ عن حسابه شي‏ء- من أمر محقرات الأمور إلا بحقه- أي إلا ما لا فائدة في إثباته و المحاسبة عليه- نحو الحركات المباحة و العبثية- التي لا تدخل تحت التكليف- .

و قال الراوندي خرق بصر مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله- و لا أعرف لهذا الكلام معنى- . و الهمس الصوت الخفي- . قوله فتحر من أمرك- تحريت كذا أي توخيته و قصدته و اعتمدته- . قوله و تيسر لسفرك أي هيئ أسباب السفر- و لا تترك لذاك عائقا- . و الشيم النظر إلى البرق- . و رحلت مطيتي إذا شددت على ظهرها الرحل- قال الأعشى-
رحلت سمية غدوة أجمالها غضبى عليك فما تقول بدا لها- . و التشمير الجد و الانكماش في الأمر- . و معاني الفصل ظاهرة- و ألفاظه الفصيحة تعطيها و تدل عليها- بما لو أراد المفسر أن يعبر عنه بعبارة غير عبارته ع- لكان لفظه ع أولى أن يكون تفسيرا لكلام ذلك المفسر

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

 

خطبه217 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(تلاوت)

217 و من كلام له ع قاله عند تلاوته

يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ- لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ- إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جَلاءً لِلْقُلُوبِ- تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ- وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ- وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ- وَ فِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ- وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ- فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَسْمَاعِ وَ الْأَبْصَارِ وَ الْأَفْئِدَةِ- يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ- بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ- مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ- وَ مَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ- وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ- وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ- وَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ- وَ إِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا- فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْهُ- يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ- وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ- وَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأْتَمِرُونَ بِهِ- وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ- فَكَأَنَّهُمْ قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الآْخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا- فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ- فَكَأَنَّمَااطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ- وَ حَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا- فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا- حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَ يَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ- وَ مَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ- وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ اعْمَالِهِمْ- وَ فَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَ كَبِيرَةٍ- أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا- وَ حَمَّلُوا ثقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ- فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا- فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِيباً- يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَ اعْتِرَافٍ- لَرَأَيْتَ أَعْلَامَ هُدًى وَ مَصَابِيحَ دُجًى- قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ- وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ- وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ- فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ- يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ- رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَ أُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ- جَرَحَ طُولُ الْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَ طُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ- لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ- يَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ- وَ لَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ- فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ من قرأ يسبح له فيها بفتح الباء- ارتفع رجال عنده بوجهين-

أحدهما أن يضمر له فعل يكون هو فاعله- تقديره يسبحه رجال- و دل على يسبحه يسبح- كما قال الشاعر-
ليبك يزيد ضارع لخصومة و مختبط مما تطيح الطوائح‏أي يبكيه ضارع و دل على يبكيه ليبك- . و الثاني أن يكون خبر مبتدإ محذوف- تقديره المسبحون رجال- و من قرأ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بكسر الباء فرجال فاعل- و أوقع لفظ التجارة في مقابلة لفظ البيع- إما لأنه أراد بالتجارة هاهنا الشراء خاصة- أو لأنه عمم بالتجارة المشتملة على البيع و الشراء- ثم خص البيع لأنه أدخل في باب الإلهاء- لأن البيع يحصل ربحه بيقين- و ليس كذلك الشراء- و الذكر يكون تارة باللسان و تارة بالقلب- فالذي باللسان نحو التسبيح و التكبير- و التهليل و التحميد و الدعاء- و الذي بالقلب فهو التعظيم و التبجيل و الاعتراف و الطاعة- .

و جلوت السيف و القلب جلاء بالكسر- و جلوت اليهود عن المدينة جلاء بالفتح- . و الوقرة الثقل في الأذن- و العشوة بالفتح فعله من العشا في العين- و آلاؤه نعمه- . فإن قلت أي معنى تحت قوله عزت آلاؤه- و عزت بمعنى قلت- و هل يجوز مثل ذلك في تعظيم الله- . قلت عزت هاهنا ليس بمعنى قلت- و لكن بمعنى كرمت و عظمت- تقول منه عززت على فلان بالفتح- أي كرمت عليه و عظمت عنده- و فلان عزيز علينا أي كريم معظم- .

و البرهة من الدهر المدة الطويلة و يجوز فتح الباء- . و أزمان الفترات ما يكون منها بين النوبتين- . و ناجاهم في فكرهم ألهمهم- بخلاف مناجاة الرسل ببعث الملائكة إليهم- و كذلك و كلمهم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة- صار ذلك النور مصباحا لهم يستضيئون به- .

قوله من أخذ القصد حمدوا إليهم طريقه- إلى هاهنا هي التي في قولهم أحمد الله إليك- أي منهيا ذلك إليك أو مفضيا به إليك و نحو ذلك- و طريقة العرب في الحذف في مثل هذا معلومة- قال سبحانه وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً- أي لجعلنا بدلا منكم ملائكة- و قال الشاعر-

فليس لنا من ماء زمزم
شربة مبردة بانت على طهيان‏

أي عوضا من ماء زمزم- . قوله و من أخذ يمينا و شمالا أي ضل عن الجادة- . و إلى في قوله ذموا إليه الطريق مثل إلى الأولى- . و يهتفون بالزواجر يصوتون بها- هتفت الحمامة تهتف هتفا و هتف زيد بالغنم هتافا بالكسر- و قوس هتافة و هتفى أي ذات صوت- . و القسط العدل و يأتمرون به يمتثلون الأمر- . و قوله فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة- إلى قوله و يسمعون ما لا يسمعون- هو شرحقوله عن نفسه ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا- . و الأوزار الذنوب و النشيج صوت البكاء- و المقعد موضع القعود- .

و يد قارعة تطرق باب الرحمة و هذا الكلام مجاز- . و المنادح المواضع الواسعة- . و على في قوله و لا يخيب عليه الراغبون- متعلقة بمحذوف مثل إلى المتقدم ذكرها- و التقدير نادمين عليه- . و الحسيب المحاسب- . و اعلم أن هذا الكلام في الظاهر- صفة حال القصاص و المتصدين لإنكار المنكرات- أ لا تراه يقول يذكرون بأيام الله- أي بالأيام التي كانت فيها النقمة بالعصاة- و يخوفون مقامه من قوله تعالى- وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ- ثم قال فمن سلك القصد حمدوه- و من عدل عن الطريق ذموا طريقه و خوفوه الهلاك- ثم قال يهتفون بالزواجر عن المحارم في أسماع الغافلين- و يأمرون بالقسط و ينهون عن المنكر- .

و هذا كله إيضاح لما قلناه أولا- إن ظاهر الكلام شرح حال القصاص- و أرباب المواعظ في المجامع و الطرقات- و المتصدين لإنكار القبائح- و باطن الكلام شرح حال العارفين- الذين هم صفوة الله تعالى من خلقه- و هو ع دائما يكني عنهم و يرمز إليهم- على أنه في هذا الموضع قد صرح بهم في قوله- حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس- و يسمعون ما لا يسمعون- . و قد ذكر من مقامات العارفين في هذا الفصل الذكر- و محاسبة النفس و البكاء و النحيب- و الندم و التوبة و الدعاء و الفاقة و الذلة- و الحزن و هو الأسى الذي ذكر أنه جرح قلوبهم بطوله‏

بيان أحوال العارفين

و قد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين فيما تقدم- و هذا موضعه فنقول- إن أول مقام من مقامات العارفين- و أول منزل من منازل السالكين التوبة- قال الله تعالى وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقال النبي ص التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقال علي ع ما من شي‏ء أحب إلى الله من شاب تائب- .

و التوبة في عرف أرباب هذه الطريقة- الندم على ما عمل من المخالفة- و ترك الزلة في الحال- و العزم على ألا يعود إلى ارتكاب معصية- و ليس الندم وحده عند هؤلاء توبة- و إن جاءفي الخبر الندم توبة- لأنه على وزان قوله ع الحج عرفة- ليس على معنى أن غيرها ليس من الأركان- بل المراد أنه أكبر الأركان و أهمها- و منهم من قال يكفي الندم وحده- لأنه يستتبع الركنين الآخرين- لاستحالة كونه نادما على ما هو مصر على مثله- أو ما هو عازم على الإتيان بمثله- .

قالوا و للتوبة شروط و ترتيبات- فأول ذلك انتباه القلب من رقد الغفلة- و رؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة- و إنما يصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء- إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه يسمع قلبه- فإنفي الخبر النبوي عنه ص واعظ كل حال الله في قلب كل امرئ مسلموفي الخبر أن في بدن المرء لمضغة- إذا صلحت صلح جميع البدن ألا و هي القلب- و إذا فسدت فسد جميع البدن ألا و هي القلب- .و إذا فكر العبد بقلبه في سوء صنيعه- و أبصر ما هو عليه من ذميم الأفعال- سنحت في قلبه إرادة التوبة و الإقلاع عن قبيح المعاملة- فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة- و الأخذ في طرق الرجوع و التأهب لأسباب التوبة- .

و أول ذلك هجران إخوان السوء- فإنهم الذين يحملونه على رد هذا القصد- و عكس هذا العزم- و يشوشون عليه صحة هذه الإرادة- و لا يتم ذلك له إلا بالمواظبة على المشاهد- و المجالس التي تزيده رغبة في التوبة- و توفر دواعيه إلى إتمام ما عزم عليه- مما يقوي خوفه و رجاءه- فعند ذلك تنحل عن قلبه عقدة الإصرار- على ما هو عليه من قبيح الفعال- فيقف عن تعاطي المحظورات- و يكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات- فيفارق الزلة في الحال- و يلزم العزيمة على ألا يعود إلى مثلها في الاستقبال- فإن مضى على موجب قصده و نفذ على مقتضى عزمه- فهو الموفق حقا- و إن نقض التوبة مرة أو مرات-

ثم حملته إرادته على تجديدها- فقد يكون مثل هذا كثيرا- فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء- فإن لكل أجل كتابا- و قد حكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال- اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي- فلما قمت لم يبق في قلبي شي‏ء- فعدت ثانيا فسمعت كلامه- فبقي من كلامه في قلبي أثر في الطريق ثم زال- ثم عدت ثالثا فوقر كلامه في قلبي- و ثبت حتى رجعت إلى منزلي- و كسرت آلات المخالفة و لزمت الطريق- . و حكيت هذه الحكاية ليحيي بن معاذ- فقال عصفور اصطاد كركيا- يعني بالعصفور القاص و بالكركي أبا سليمان- .

و يحكي أن أبا حفص الحداد ذكر بدايته- فقال تركت ذلك العمل يعني المعصية- كذا و كذا مرة ثم عدت إليها- ثم تركني العمل فلم أعد إليه- .و قيل إن بعض المريدين تاب- ثم وقعت له فترة و كان يفكر و يقول- أ ترى لو عدت إلى التوبة كيف كان يكون حكمي- فهتف به هاتف يا فلان أطعتنا فشكرناك- ثم تركتنا فأمهلناك- و إن عدت إلينا قبلناك فعاد الفتى إلى الإرادة- . و قال أبو علي الدقاق التوبة على ثلاثة أقسام- فأولها التوبة و أوسطها الإنابة و آخرها الأوبة- فجعل التوبة بداية و الأوبة نهاية و الإنابة واسطة بينهما- و المعنى أن من تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبة- و من تاب طمعا في الثواب فهو صاحب الإنابة- و من تاب مراعاة للأمر فقط فهو صاحب الأوبة- .

و قال بو علي أيضا التوبة صفة المؤمنين- قال سبحانه وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- و الإنابة صفة الأولياء- قال سبحانه وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ- و الأوبة صفة الأنبياء- قال سبحانه نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ- . و قال الجنيد دخلت على السري يوما فوجدته متغيرا- فسألته فقال دخل علي شاب فسألني عن التوبة- فقلت ألا تنسى ذنبك- فقال بل التوبة ألا تذكر ذنبك- قال الجنيد فقلت له إن الأمر عندي ما قاله الشاب- قال كيف قلت لأني إذا كنت في حال الجفاء- فنقلني إلى حال الصفاء- فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء- فسكت السري- . و قال ذو النون المصري- الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين- . و سئل البوشنجي عن التوبة- فقال إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره- فذاك حقيقة التوبة- .

و قال ذو النون- حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت- حتى لا يكون لك قرار ثم تضيق عليك نفسك- كما أخبر الله تعالى في كتابه- بقوله حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ- وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ- وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ- . و قيل لأبي حفص الحداد لم تبغض الدنيا- فقال لأني باشرت فيها الذنوب- قيل فهلا أحببتها لأنك وفقت فيها للتوبة- فقال أنا من الذنب على يقين- و من هذه التوبة على ظن- . و قال رجل لرابعة العدوية- إني قد أكثرت من الذنوب و المعاصي- فهل يتوب علي أن تبت- قالت لا بل لو تاب عليك لتبت- .

قالوا و لما كان الله تعالى يقول في كتابه العزيز- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ- دلنا ذلك على محبته لمن صحت له حقيقة التوبة- و لا شبهة أن من قارف الزلة فهو من خطئه على يقين- فإذا تاب فإنه من القبول على شك- لا سيما إذا كان من شرط القبول محبة الحق سبحانه له- و إلى أن يبلغ العاصي محلا- يجد في أوصافه أمارة محبة الله تعالى إياه مسافة بعيدة- فالواجب إذا على العبد- إذا علم أنه ارتكب ما يجب عنه التوبة دوام الانكسار- و ملازمة التنصل و الاستغفار- كما قيل استشعار الوجل إلى الأجل- .

و كان من سنته ع دوام الاستغفار- و قال إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة- .و قال يحيى بن معاذ- زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها- . و يحكي أن علي بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم- فجعل الغرباء يقولون من هذا من هذا- فقالت امرأة قائمة على السطح- إلى متى تقولون من هذا من هذا- هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه بما ترون- فسمع علي بن عيسى كلامها فرجع إلى منزله- و لم يزل يتوصل في الاستعفاء من الوزارة حتى أعفي- و ذهب إلى مكة فجاور بها- .

و منها المجاهد و قد قلنا فيها ما يكفي فيما تقدم- . و منها العزلة و الخلوة- و قد ذكرنا في جزء قبل هذا الجزء- مما جاء في ذلك طرفا صالحا و منها التقوى و هي الخوف من معصية الله- و من مظالم العباد- قال سبحانه إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وقيل إن رجلا جاء إلى رسول الله ص- فقال يا رسول الله أوصني- فقال عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير- و عليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلم- و عليك بذكر الله فإنه نور لك- . و قيل في تفسير قوله تعالى اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ- أن يطاع فلا يعصى- و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر- .

و قال النصرآباذي- من لزم التقوى بادر إلى مفارقة الدنيا- لأن الله تعالى يقول وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا- . و قيل يستدل على تقوى الرجل بثلاث- التوكل فيما لم ينل و الرضا بما قد نال- و حسن الصبر على ما فات- . و كان يقال- من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه- .

و قد حكوا من حكايات المتقين شيئا كثيرا- مثل ما يحكى عن ابن سيرين- أنه اشترى أربعين حبا سمنا- فأخرج غلامه فأرة من حب- فسأله من أي حب أخرجها- قال لا أدري فصبها كلها- . و حكي أن أبا يزيد البسطامي غسل ثوبه في الصحراء- و معه مصاحب له- فقال صاحبه نضرب هذا الوتد في جدار هذا البستان- و نبسط الثوب عليه- فقال لا يجوز ضرب الوتد في جدار الناس- قال فنعلقه على شجرة حتى يجف قال يكسر الأغصان- فقال نبسطه على الإذخر- قال إنه علف الدواب لا يجوز أن نستره منها- فولى ظهره قبل الشمس- و جعل القميص على ظهره حتى جف أحد جانبيه- ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر- . و منها الورع و هو اجتناب الشبهات- وقال ص لأبي هريرة كن ورعا تكن أعبد الناسو قال بو بكر كنا ندع سبعين بابا من الحلال- مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام- .

و كان يقال- الورع في المنطق أشد منه في الذهب و الفضة- و الزهد في الرئاسة أشد منه في الذهب و الفضة- لأنك تبذلهما في طلب الرئاسة- . و قال أبو عبد الله الجلاء- أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة- لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته و رشائه- . و قال بشر بن الحارث أشد الأعمال ثلاثة- الجود في القلة و الورع في الخلوة- و كلمة الحق عند من يخاف و يرجى- .

و يقال إن أخت بشر بن الحارث- جاءت إلى أحمد بن حنبل- فقالت إنا نغزل على سطوحنا- فتمر بنا مشاعل الطاهرية فيقع شعاعها علينا- أ فيجوز لنا الغزل في ضوئها- فقال أحمد من أنت يا أمة الله- قالت أخت بشر الحافي فبكى أحمد- و قال من بيتكم خرج الورع- لا تغزلي في ضوء مشاعلهم- . و حكى بعضهم- قال مررت بالبصرة في بعض الشوارع- فإذا بمشايخ قعود و صبيان يلعبون- فقلت أ ما تستحيون من هؤلاء المشايخ- فقال غلام من بينهم هؤلاء المشايخ قل ورعهم- فقلت هيبتهم- . و يقال إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة- ما صح له أن يأكل من تمر البصرة و لا من رطبها- حتى مات و لم يذقه- و كان إذا انقضى أوان الرطب- يقول يا أهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شي‏ء- سواء علي أكلت من رطبكم أو لم آكل- .

و قال الحسن مثقال ذرة من الورع- خير من ألف مثقال من الصوم و الصلاة- . و دخل الحسن مكة- فرأى غلاما من ولد علي بن أبي طالب- قد أسند ظهره إلى‏الكعبة و هو يعظ الناس- فقال له الحسن ما ملاك الدين قال الورع- قال فما آفته قال الطمع- فجعل الحسن يتعجب منه- . و قال سهل بن عبد الله- من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل و لم يشبع- . و حمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم- فقبض على مشمه و قال إنما ينتفع من هذا بريحه- و أنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين- .

و سئل أبو عثمان الحريري عن الورع- فقال كان أبو صالح بن حمدون عند صديق له و هو في النزع- فمات الرجل فنفث أبو صالح في السراج فأطفأه- فقيل له في ذلك- فقال إلى الآن كان الدهن الذي في المسرجة له- فلما مات صار إلى الورثة- . و منها الزهد و قد تكلموا في حقيقته- فقال سفيان الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل- . و قال الخواص الزهد أن تترك الدنيا فلا تبالي من أخذها- .

و قال أبو سليمان الداراني- الزهد ترك كل ما يشغل عن الله- . و قيل الزهد تحت كلمتين من القرآن العزيز- لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ- . و كان يقال من صدق في زهده أتته الدنيا و هي راغمة- و لهذا قيل لو سقطت قلنسوة من السماء- لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها- . و قال يحيى بن معاذ الزهد يسعطك الخل و الخردل- و العرفان يشمك المسك و العنبر- .

و قيل لبعضهم ما الزهد في الدنيا- قال ترك ما فيها على من فيها- . و قال رجل لذي النون المصري- متى تراني أزهد في الدنيا- قال إذا زهدت في نفسك- . و قال رجل ليحيي بن معاذ- متى تراني أدخل حانوت التوكل- و ألبس رداء الزهد و أقعد بين الزاهدين- فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد- لو قطع الله عنك القوت ثلاثة أيام- لم تضعف في نفسك و لا في يقينك- فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة- فقعودك على بساط الزاهدين جهل- ثم لا آمن أن تفتضح- . و قال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثة أوجه- ترك الحرام و هو زهد العوام- و ترك الفضول من الحلال و هو زهد الخواص- و ترك كل ما يشغلك عن الله و هو زهد العارفين- .

و قال يحيى بن معاذ الدنيا كالعروس- فطالبها كماشطتها تحسن وجهها و تعطر ثوبها- و الزاهد فيها كضرتها تسخم وجهها- و تنتف شعرها و تحرق ثوبها- و العارف مشتغل بالله لا يلتفت إليها و لا يشعر بها- . و كان النصرآباذي يقول في مناجاته- يا من حقن دماء الزاهدين- و سفك دماء العارفين- . و كان يقال إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت- و جعل مفتاحه الزهد- و جعل الشر كله في بيت و جعل مفتاحه حب الدنيا- . و منها الصمت- و قدمنا فيما سبق من الأجزاء نكتا نافعة في هذا المعنى- و نذكر الآن شيئا آخر-قال رسول الله ص من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذين جاره- و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه- و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو فليصمت- .

و قال أصحاب هذا العلم الصمت من آداب الحضرة- قال الله تعالى- وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا- . و قال مخبرا عن الجن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا- . و قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة- وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً- . و قالوا كم بين عبد سكت تصونا عن الكذب و الغيبة- و عبد سكت لاستيلاء سلطان الهيبة- . و أنشدوا-أرتب ما أقول إذا افترقنا و أحكم دائما حجج المقال‏فأنساها إذا نحن التقيناو أنطق حين أنطق بالمحال‏- . و أنشدوا-

فيا ليل كم من حاجة لي مهمة
إذا جئتكم لم أدر بالليل ماهيا

قالوا و ربما كان سبب الصمت و السكوت حيرة البديهة- فإنه إذا ورد كشف بغتة- خرست العبارات عند ذلك فلا بيان و لا نطق- و طمست الشواهد فلا علم و لا حس- قال الله تعالى- يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ- قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ- فأما إيثار أرباب المجاهدة الصمت- فلما علموا في الكلام من الآفات- ثم ما فيه من حط النفس و إظهار صفات المدح- و الميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق- و غير ذلك من ضروب آفات الكلام- و هذا نعت أرباب‏الرياضة- و هو أحد أركانهم في حكم مجاهدة النفس- و منازلتها و تهذيب الأخلاق- .

و يقال إن داود الطائي لما أراد أن يقعد في بيته- اعتقد أن يحضر مجلس أبي حنيفة- لأنه كان تلميذا له و يقعد بين أضرابه من العلماء- و لا يتكلم في مسألة على سبيل رياضته نفسه- فلما قويت نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة- قعد في بيته عند ذلك و آثر العزلة- .

و يقال إن عمر بن عبد العزيز- كان إذا كتب كتابا فاستحسن لفظه- مزق الكتاب و غيره- . و قال بشر بن الحارث- إذا أعجبك الكلام فاصمت فإذا أعجبك الصمت فتكلم- و قال سهل بن عبد الله- لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة- و لا يصح لأحد التوبة حتى يلزم نفسه الصمت- . و منها الخوف- قال الله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً- . و قال تعالى وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ- .

و قال يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ- . أبو علي الدقاق- الخوف على مراتب خوف و خشية و هيبة- . فالخوف من شروط الإيمان و قضاياه- قال الله تعالى فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- .و الخشية من شروط العلم- قال الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ- .و الهيبة من شروط المعرفة- قال سبحانه وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ- .

و قال أبو عمر الدمشقي- الخائف من يخاف من نفسه- أكثر مما يخاف من الشيطان- . و قال بعضهم من خاف من شي‏ء هرب منه- و من خاف الله هرب إليه- . و قال أبو سليمان الداراني- ما فارق الخوف قلبا إلا خرب و منها الرجاء- و قد قدمنا فيما قبل من ذكر الخوف و الرجاء طرفا صالحا- قال سبحانه مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ- . و الفرق بين الرجاء و التمني- و كون أحدهما محمودا و الآخر مذموما- أن التمني ألا يسلك طريق الاجتهاد و الجد- و الرجاء بخلاف ذلك- فلهذا كان التمني يورث صاحبه الكسل- .

و قال أبو علي الروذباري- الرجاء و الخوف كجناحي الطائر- إذا استويا استوى الطائر و تم طيرانه- و إذا نقص أحدهما وقع فيه النقص- و إذا ذهبا صار الطائر في حد الموت- . و قال أبو عثمان المغربي من حمل نفسه على الرجاء تعطل- و من حمل نفسه على الخوف قنط- و لكن من هذا مرة و من هذا مرة- . ومن كلام يحيى بن معاذ و يروى عن علي بن الحسين ع يكاد رجائي لك مع الذنوب- يغلب رجائي لك مع الأعمال- لأني أجدني أعتمد في الأعمال على‏ الإخلاص- و كيف أحرزها و أنا بالآفة معروف- و أجدني في الذنوب أعتمد على عفوك- و كيف لا تغفرها و أنت بالجود موصوف- . و منها الحزن و هو من أوصاف أهل السلوك- .

و قال أبو علي الدقاق- صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر- ما لا يقطعه من فقد الحزن في سنتين- .في الخبر النبوي ص إن الله يحب كل قلب حزين- . و في بعض كتب النبوات القديمة- إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة- و إذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا- .

و روي أن رسول الله ص كان متواصل الأحزان- دائم الفكر- . و قيل إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب- كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت- . و سمعت رابعة رجلا يقول وا حزناه- فقالت قل وا قلة حزناه- لو كنت محزونا ما تهيأ لك أن تتنفس- . و قال سفيان بن عيينة لو أن محزونا بكى في أمة- لرحم الله تلك الأمة ببكائه- . و كان بعض هؤلاء القوم- إذا سافر واحد من أصحابه يقول- إذا رأيت محزونا فأقرئه عني السلام- . و كان الحسن البصري لا يراه أحد- إلا ظن أنه حديث عهد بمصيبة- . و قال وكيع يوم مات الفضيل ذهب الحزن اليوم من الأرض- . و قال بعض السلف- أكثر ما يجده المؤمن- في صحيفته من الحسنات الحزن و الهم- .

و قال الفضيل- أدركت السلف يقولون- إن لله في كل شي‏ء زكاة- و زكاة العقل طول الحزن- . و منها الجوع و ترك الشهوات و قد تقدم ذكر ذلك- . و منها الخشوع و التواضع قال سبحانه- الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ و
في الخبر النبوي عنه ص لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر- و لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان- فقال رجل يا رسول الله- إن المرء ليحب أن يكون ثوبه حسنا- فقال إن الله جميل يحب الجمال- إنما المتكبر من بطر الحق و غمص الناس وروى أنس بن مالك أن رسول الله ص- كان يعود المريض و يشيع الجنائز- و يركب الحمار و يجيب دعوة العبد- . و كان يوم قريظة و النضير على حمار- مخطوم بحبل من ليف- عليه إكاف من ليف- .

و دخل مكة يوم فتحها راكب بعير برحل خلق- و إن ذقنه لتمس وسط الرحل خضوعا لله تعالى و خشوعا- و جيشه يومئذ عشرة آلاف- . قالوا في حد الخشوع هو الانقياد للحق- و في التواضع هو الاستسلام و ترك الاعتراض على الحكم- . و قال بعضهم- الخشوع قيام القلب بين يدي الحق بهم مجموع- . و قال حذيفة بن اليمان- أول ما تفقدون من دينكم الخشوع- .

و كان يقال من علامات الخشوع- أن العبد إذا أغضب أو خولف أو رد عليه- استقبل ذلك بالقبول- . و قال محمد بن علي الترمذي- الخاشع من خمدت نيران شهوته- و سكن دخان صدره- و أشرق نور التعظيم في قلبه- فماتت حواسه و حيي قلبه- و تطامنت جوارحه- . و قال الحسن- الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب- . و قال الجنيد- الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب- قال الله تعالى- وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً- أي خاشعون متواضعون- . و رأي بعضهم رجلا منقبض الظاهر- منكسر الشاهد- قد زوي منكبيه- فقال يا فلان الخشوع هاهنا- و أشار إلى صدره لا هاهنا- و أشار إلى منكبيه- .

وروي أن رسول الله ص رأى رجلا- يعبث بلحيته في صلاته- فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه- . و قيل شرط الخشوع في الصلاة- ألا يعرف من على يمينه و لا من على شماله- . و قال بعض الصوفية- الخشوع قشعريرة ترد على القلب بغتة- عند مفاجأة كشف الحقيقة- . و كان يقال- من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره- . و قيل إن عمر بن عبد العزيز لم يكن يسجد إلا على التراب- .

و كان عمر بن الخطاب يسرع في المشي- و يقول هو أنجح للحاجة و أبعد من الزهو- . كان رجاء بن حيوة ليلة- عند عمر بن عبد العزيز و هو خليفة- فصعف المصباح فقام رجل ليصلحه- فقال اجلس- فليس من الكرم أن يستخدم المرء ضيفه- فقال‏أنبه الغلام- قال إنها أول نومه نامها- ثم قام بنفسه فأصلح السراج- فقال رجاء أ تقوم إلى السراج و أنت أمير المؤمنين- قال قمت و أنا عمر بن عبد العزيز- و رجعت و أنا عمر بن عبد العزيز- .

وفي حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص كان يعلف البعير و يقم البيت- و يخصف النعل و يرقع الثوب- و يحلب الشاة و يأكل مع الخادم- و يطحن معها إذا أعيت- و كان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته- من السوق إلى منزل أهله- و كان يصافح الغني و الفقير و يسلم مبتدئا- و لا يحقر ما دعي إليه و لو إلى حشف التمر- و كان هين المئونة لين الخلق- كريم السجية جميل المعاشرة- طلق الوجه بساما من غير ضحك- محزونا من غير عبوس- متواضعا من غير ذلة- جوادا من غير سرف- رقيق القلب رحيما لكل مسلم- ما تجشأ قط من شبع- و لا مد يده إلى طبع- .

و قال الفضيل- أوحى الله إلى الجبال- أني مكلم على واحد منكم نبيا- فتطاولت الجبال و تواضع طور سيناء- فكلم الله عليه موسى لتواضعه- . سئل الجنيد عن التواضع- فقال خفض الجناح و لين الجانب- . ابن المبارك- التكبر على الأغنياء- و التواضع للفقراء من التواضع- . و قيل لأبي يزيد متى يكون الرجل متواضعا- قال إذا لم ير لنفسه مقاما و لا حالا- و لا يرى أن في الخلق من هو شر منه- . و كان يقال التواضع نعمة لا يحسد عليها- و التكبر محنة لا يرحم منها- و العز في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده- . و كان يقال الشرف في التواضع- و العز في التقوى و الحرية في القناعة- . يحيى بن معاذ التواضع حسن في كل أحد- لكنه في الأغنياء أحسن- و التكبر سمج في كل أحد- و لكنه في الفقراء أسمج- .

و ركب زيد بن ثابت- فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه- فقال مه يا ابن عم رسول الله- فقال إنا كذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا- فقال زيد أرني يدك فأخرجها فقبلها- فقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا- . و قال عروة بن الزبير- رأيت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى- و على عاتقه قربة ماء- فقلت يا أمير المؤمنين- إنه لا ينبغي لمثلك هذا- فقال إنه لما أتتني الوفود سامعة مهادنة- دخلت نفسي نخوة- فأحببت أن أكسرها- و مضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار- فأفرغها في إنائها- . أبو سليمان الداراني- من رأى لنفسه قيمة- لم يذق حلاوة الخدمة- .

يحيى بن معاذ التكبر على من تكبر عليك تواضع- . بشر الحافي- سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم بلغ عمر بن عبد العزيز- أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم- فكتب إليه- بلغني أنك اشتريت خاتما و فصه بألف درهم- فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم- و أشبع به ألف بطن- و اتخذ خاتما من درهمين- و اجعل فصه حديدا صينيا- و اكتب عليه رحم الله امرأ عرف قدره- . قومت ثياب عمر بن عبد العزيز- و هو يخطب أيام خلافته باثني عشر درهما- و هي قباء و عمامة و قميص و سراويل- و رداء و خفان و قلنسوة- .

و قال إبراهيم بن أدهم- ما سررت قط سروري في أيام ثلاثة- كنت في سفينة و فيها رجل مضحك- كان يلعب لأهل السفينة- فيقول كنا نأخذ العلج من بلاد الترك هكذا- و يأخذ بشعر رأسي فيهزني فسرني ذلك- لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر مني في عينه- و كنت عليلا في مسجد- فدخل المؤذن و قال اخرج فلم أطق- فأخذ برجلي و جرني إلى خارج المسجد- و كنت بالشام و علي فرو- فنظرت إليه فلم أميز بين الشعر- و بين القمل لكثرته- . عرض على بعض الأمراء مملوك بألوف من الدراهم- فاستكثر الثمن- فقال العبد اشترني يا مولاي- ففي خصلة تساوي أكثر من هذا الثمن- قال ما هي- قال لو قدمتني على جميع مماليك- و خولتني بكل مالك- لم أغلظ في نفسي- بل أعلم أني عبدك فاشتراه- .

تشاجر أبو ذر و بلال- فعير أبو ذر بلالا بالسواد- فشكاه إلى رسول الله ص- فقال يا أبا ذر- ما علمت أنه قد بقي في قلبك شي‏ء- من كبر الجاهلية- فألقى أبو ذر نفسه- و حلف ألا يحمل رأسه- حتى يطأ بلال خده بقدمه- فما رفع رأسه حتى فعل بلال ذلكمر الحسن بن علي ع بصبيان يلعبون- و بين أيديهم كسر خبز يأكلونها- فدعوه فنزل و أكل معهم- ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم و كساهم- و قال الفضل لهم- لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني- و نحن نجد أكثر مما أطعمناهم- .

و منها مخالفة النفس- و ذكر عيوبها و قد تقدم ذكر ذلك- . و منها القناعة قال الله تعالى- مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏- وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً- قال كثير من المفسرين هي القناعة- . وفي الحديث النبوي و يقال إنه من كلام أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفدوفي الحديث النبوي أيضا كن ورعا تكن أعبد الناس- و كن قنوعا تكن أشكر الناس- و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا- و أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما- و أقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب- . و كان يقال الفقراء أموات- إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة- .

و قال أبو سليمان الداراني- القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد- هذا أول الرضا و هذا أول الزهد- . و قيل القناعة سكون النفس- و عدم انزعاجها عند عدم المألوفات- . و قيل في تفسير قوله تعالى- لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أنه القناعة- . و قال أبو بكر المراغي- العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة و التسويف- و أنكر أبو عبد الله بن خفيف- فقال القناعة ترك التسويف بالمفقود- و الاستغناء بالموجود- . و كان يقال خرج العز و الغنى يجولان- فلقيا القناعة فاستقرا- . و كان يقال- من كانت قناعته سمينة طابت له كل مرقة- . مر أبو حازم الأعرج بقصاب- فقال له خذ يا أبا حازم- فقال ليس معي درهم قال أنا أنظرك- قال نفسي أحسن نظرة لي منك- .

و قيل وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع- العز في الطاعة و الذل في المعصية- و الهيبة في قيام الليل- و الحكمة في البطن الخالي- و الغنى في القناعة- . و كان يقال انتقم من فلان بالقناعة- كما تنتقم من قاتلك بالقصاص- . ذو النون المصري- من قنع استراح من أهل زمانه- و استطال على أقرانه- . و أنشدوا-

و أحسن بالفتى من يوم عار
ينال به الغنى كرم و جوع‏

و رأى رجل حكيما يأكل- ما تساقط من البقل على رأس الماء- فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا- فقال و أنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان- . و قيل العقاب عزيز في مطاره- لا تسمو إليه مطامع الصيادين- فإذا طمع في جيفة علقت على حباله- نزل من مطاره فنشب في الأحبولة- . و قيل لما نطق موسى بذكر الطمع- فقال لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً- قال له الخضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ- و فسر بعضهم قوله هَبْ لِي مُلْكاً- لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي- فقال مقاما في القناعة لا يبلغه أحد- .

و منها التوكل- قال الله تعالى وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ- و قال سهل بن عبد الله- أول مقام في التوكل- أن يكون العبد بين يدي الله تعالى- كالميت بين يدي الغاسل- يقلبه كيف يشاء- لا يكون له حركة و لا تدبير- . و قال رجل لحاتم الأصم من أين تأكل- فقال وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ- . و قال أصحاب هذا الشأن التوكل بالقلب- و ليس ينافيه الحركة بالجسد- بعد أن يتحقق العبد أن التقدير من الله- فإن تعسر شي‏ء فبتقديره- و أن تسهل فبتيسيره- .

وفي الخبر النبوي أنه ع قال للأعرابي- الذي ترك ناقته مهملة فندت- فلما قيل له قال توكلت فتركتها- فقال ع اعقل و توكل- . و قال ذو النون التوكل الانخلاع من الحول و القوة- و ترك تدبير الأسباب- و قال بعضهم- التوكل رد العيش إلى يوم واحد بإسقاط هم غد- .

و قال أبو علي الدقاق- التوكل ثلاث درجات- التوكل و هو أدناها- ثم التسليم ثم التفويض- فالأولى للعوام و الثانية للخواص- و الثالثة لخواص الخواص- . جاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال- فقال ارجع إلى بيتك- فمن وجدت منهم ليس رزقه على الله- فأخرجه من البيت- . و قال سهل بن عبد الله- من طعن في التوكل فقط طعن في الإيمان- و من طعن في الحركة فقد طعن في السنة- . و كان يقال المتوكل كالطفل- لا يعرف شيئا يأوي إليه إلا ثدي أمه- كذلك المتوكل لا يهتدي إلا إلى ربه- .

و رأى أبو سليمان الداراني رجلا بمكة- لا يتناول شيئا إلا شربة من ماء زمزم- فمضت عليه أيام فقال له يوما- أ رأيت لو غارت أي زمزم- أي شي‏ء كنت تشرب- فقام و قبل رأسه- و قال جزاك الله خيرا حيث أرشدتني- فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام ثم تركه و مضى- . و قيل التوكل نفي الشكوك- و التفويض إلى مالك الملوك- . و دخل جماعة على الجنيد- فقالوا نطلب الرزق- قال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه- قالوا فنسأل الله ذلك- قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه- قالوا لندخل البيت فنتوكل- قال التجربة شك- قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة- .

و قيل التوكل الثقة بالله- و اليأس عما في أيدي الناس- . و منها الشكر- و قد تقدم منا ذكر كثير مما قيل فيه- . و منها اليقين و هو مقام جليل- قال الله تعالى وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وقال علي بن أبي طالب ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا- . و قال سهل بن عبد الله- حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين- و فيه شكوى إلى غير الله- . وذكر للنبي ص ما يقال- عن عيسى ابن مريم ع- أنه مشى على الماء- فقال لو ازداد يقينا لمشى على الهواءوفي الخبر المرفوع عنه ص أنه قال لعبد الله بن مسعود- لا ترضين أحدا بسخط الله- و لا تحمدن أحدا على فضل الله- و لا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله- و اعلم أن الرزق لا يسوقه حرص حريص- و لا يرده كراهة كاره- و أن الله جعل الروح و الفرج في الرضا و اليقين- و جعل الهم و الحزن في الشك و السخط- .

و منها الصبر- قال الله تعالى وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وقال علي ع الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد
– . و سئل الفضيل عن الصبر- قال تجرع المرارة من غير تعبيس- . و قال رويم الصبر ترك الشكوى- .وقال علي ع الصبر مطية لا تكبو- . وقف رجل على الشبلي- فقال أي صبر أشد على الصابرين- قال الشبلي الصبر في الله تعالى فقال لا- قال فالصبر لله- فقال لا- قال فالصبر مع الله تعالى فقال لا- قال فأي شي‏ء قال الصبر عن الله- فصرخ الشبلي صرخة عظيمة و وقع- .

و يقال إن الشبلي حبس في المارستان- فدخل عليه قوم- فقال من أنتم- قالوا محبوك جئناك زائرين- فرماهم بالحجارة فهربوا- فقال لو كنتم أحباي لصبرتم على بلائي وجاء في بعض الأخبار عن الله تعالى بعيني ما يتحمل المتحملون من أجليوقال عمر بن الخطاب لو كان الصبر و الشكر بعيرين- لم أبال أيهما ركبتوفي الحديث المرفوع الإيمان الصبر و السخاءوفي الخبر العلم خليل المؤمن- و الحلم وزيره و العقل دليله- و العمل قائده و الرفق والده- و البر أخوه و الصبر أمير جنوده- قالوا فناهيك بشرف خصلة- تتأمر على هذه الخصال- و المعنى أن الثبات على هذه الخصال- و استدامة التخلق بها إنما يكون بالصبر- فلذلك كان أمير الجنود- .

و منها المراقبة-جاء في الخبر عن النبي ص أن سائلا سأله عن الإحسان- فقال أن تعبد الله كأنك تراه- فإن لم تكن تراه فإنه يراك- . و هذه إشارة إلى حال المراقبة- لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه- فاستدامة العبد لهذا العلم مراقبة للحق- و هو أصل كل خير- و لا يكاد يصل إلى هذه الرتبة- إلا بعد فراغه عن المحاسبة- فإذا حاسب نفسه على ما سلف- و أصلح حاله في الوقت-و لازم طريق الحق- و أحسن بينه و بين الله تعالى بمراعاة القلب- و حفظ مع الله سبحانه الأنفاس- راقبه تعالى في عموم أحواله- فيعلم أنه تعالى رقيب عليه- يعلم أحواله و يرى أفعاله و يسمع أقواله- و من تغافل عن هذه الجملة- فهو بمعزل عن بداية الوصلة- فكيف عن حقائق القربة- .

و يحكى أن ملكا كان يتحظى جارية له- و كان لوزيره ميل باطن إليها- فكان يسعى في مصالحها- و يرجح جانبها على جانب غيرها- من حظايا الملك و نسائه- فاتفق أن عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الأحمر- أحدهما أنفس من الآخر بمحضر من وزيره- فتحيرت أيهما تأخذ- فأومأ الوزير بعينه إلى الحجر الأنفس- و حانت من الملك التفاته- فشاهد عين الوزير و هي مائلة إلى ذلك الجانب- فبقي الوزير بعدها أربعين سنة- لا يراه الملك قط إلا كاسرا عينه- نحو الجانب الذي كان طرفه مائلا إليه ذلك اليوم- أي كأن ذلك خلقة- و هذا عزم قوي في المراقبة- و مثله فليكن حال من يريد الوصول- .

و يحكى أيضا أن أميرا كان له غلام- يقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من مماليكه- و لم يكن أكثرهم قيمة- و لا أحسنهم صورة فقيل له في ذلك- فأحب أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره- فكان يوما راكبا و معه حشمه- و بالبعد منهم جبل عليه ثلج- فنظر الأمير إلى الثلج و أطرق- فركض الغلام فرسه- و لم يعلم الغلمان لما ذا ركض- فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء و معه شي‏ء من الثلج- فقال الأمير ما أدراك أني أردت الثلج- فقال إنك نظرت إليه- و نظر السلطان إلى شي‏ء لا يكون إلا عن قصد- فقال الأمير لغلمانه إنما أختصه بإكرامي و إقبالي- لأن لكل واحد منكم شغلا- و شغله مراعاة لحظاتي و مراقبة أحوالي- .

و قال بعضهم من راقب الله في خواطره- عصمه الله في جوارحه- . و منها الرضا- و هو أن يرضى العبد بالشدائد و المصائب- التي يقضيها الله تعالى عليه- و ليس المراد بالرضا رضا العبد- بالمعاصي و الفواحش- أو نسبتها إلى الرب تعالى عنها- فإنه سبحانه لا يرضاها- كما قال جل جلاله وَ لا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ- . و قال كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً- . قال رويم- الرضا أن لو أدخلك جهنم لما سخطت عليه- . و قيل لبعضهم متى يكون العبد راضيا- قال إذا سرته المصيبة- كما سرته النعمة- .

قال الشبلي مرة و الجنيد حاضر- لا حول و لا قوة إلا بالله- فقال الجنيد أرى أن قولك هذا ضيق صدر- و ضيق الصدر يجي‏ء من ترك الرضا بالقضاء- . و قال أبو سليمان الدارني- الرضا ألا تسأل الله الجنة- و لا تستعيذ به من النار- . و قال تعالى فيمن سخط قسمته- وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ- فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا- وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ- .

ثم نبه على ما حرموه من فضيلة الرضا- فقال وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ- وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ- سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ- إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ- و جواب لو هاهنا محذوف لفهم المخاطب و علمه به- .و في حذفه فائدة لطيفة- و هو أن تقديره لرضي الله عنهم- و لما كان رضاه عن عباده مقاما جليلا جدا حذف ذكره- لان الذكر له لا ينبئ عن كنهه و حقيقة فضله- فكان الإضراب عن ذكره أبلغ في تعظيم مقامه- . ومن الأخبار المرفوعة أنه ص قال اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء- قالوا إنما قال بعد القضاء- لأن الرضا قبل القضاء لا يتصور- و إنما يتصور توطين النفس عليه- و إنما يتحقق الرضا بالشي‏ء بعد وقوع ذلك الشي‏ء- .

وفي الحديث أنه قال لابن عباس يوصيه اعمل لله باليقين و الرضا- فإن لم يكن فاصبر- فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيراوفي الحديث أنه ص رأى رجلا من أصحابه- و قد أجهده المرض و الحاجة- فقال ما الذي بلغ بك ما أرى- قال المرض و الحاجة- قال أ و لا أعلمك كلاما- إن أنت قلته أذهب الله عنك ما بك- قال و الذي نفسي بيده ما يسرني بحظي منهما- أن شهدت معك بدرا و الحديبية- فقال ص- و هل لأهل بدر و الحديبية ما للراضي و القانع- .

و قال أبو الدرداء- ذروة الإيمان الصبر و الرضا- . قدم سعد بن أبي وقاص مكة بعد ما كف بصره- فانثال الناس عليه يسألونه الدعاء لهم- فقال له عبد الله بن السائب- يا عم إنك تدعو للناس فيستجاب لك- هلا دعوت أن يرد عليك بصرك- فقال يا ابن أخي- قضاء الله تعالى أحب إلي من بصري- . عمر بن عبد العزيز- أصبحت و ما لي سرور إلا في مواقع القدر- . و كان يقال- الرضا إطراح الاقتراح على العالم بالصلاح- و كان يقال إذا كان القدر حقا كان سخطه حمقا- .

و كان يقال من رضي حظي- و من اطرح الاقتراح أفلح و استراح- . و كان يقال كن بالرضا عاملا- قبل أن تكون له معمولا- و سر إليه عادلا و إلا سرت نحوه معدولا- . و قيل للحسن من أين أتى الخلق- قال من قلة الرضا عن الله- فقيل و من أين دخلت عليهم قلة الرضا عن الله- قال من قلة المعرفة بالله- . و قال صاحب سلوان المطاع في الرضا-

يا مفزعي فيما يجي‏ء
و راحمي فيما مضى‏

عندي لما تقضيه ما
يرضيك من حسن الرضا

و من القطيعة أستعيذ مصرحا و معرضا- و قال أيضا-

كن من مدبرك الحكيم
علا و جل على وجل‏

و ارض القضاء فإنه‏
حتم أجل و له أجل‏

 و قال أيضا-

يا من يرى حالي و أن ليس
لي في غير قربي منه أوطار

و ليس لي ملتحد دونه‏
و لا عليه لي أنصار

حاشا لذاك العز و الفضل
أن يهلك من أنت له جار

و إن تشأ هلكي فهب لي رضا
بكل ما تقضي و تختار

عندي لأحكامك يا مالكي
قلب كما أنعمت صبار

كل عذاب منك مستعذب‏
ما لم يكن سخطك و النار

و منها العبودية- و هي أمر وراء العبادة- معناها التعبد و التذلل- قالوا العبادة للعوام من المؤمنين- و العبودية للخواص من السالكين- . و قال أبو علي الدقاق- العبادة لمن له علم اليقين- و العبودية لمن له عين اليقين- . و سئل محمد بن خفيف متى تصح العبودية- فقال إذا طرح كله على مولاه- و صبر معه على بلواه- .

و قال بعضهم العبودية معانقة ما أمرت به- و مفارقة ما زجرت عنه- . و قيل العبودية أن تسلم إليه كلك- و تحمل عليه كلك- . وفي الحديث المرفوع تعس عبد الدينار و تعس عبد الخبيصة- . رأى أبو يزيد البسطامي رجلا- فقال له ما حرفتك قال خربنده- قال أمات الله حمارك- لتكون عبدا لله لا عبدا للحمار- .

و كان ببغداد في رباط شيخ الشيوخ- صوفي كبير اللحية جدا- و كان مغرى و معنى بها أكثر زمانه- يدهنها و يسرحها- و يجعلها ليلا عند نومه في كيس- فقام بعض المريدين إليه في الليل و هو نائم- فقصها من الإذن إلى الإذن- فأصبحت كالصريم- و أصبح الصوفي شاكيا إلى شيخ الرباط- فجمع الصوفية و سألهم- فقال المريد أنا قصصتها- قال و كيف فعلت ويلك ذلك- قال أيها الشيخ- إنها كانت صنمه و كان يعبدها من دون الله- فأنكرت ذلك بقلبي- و أردت أن أجعله عبدا لله لا عبدا للحية- .

قالوا و ليس شي‏ء أشرف من العبودية- و لا اسم أتم للمؤمن من اسمه بالعبودية- و لذلك قال سبحانه في ذكر النبي ص ليلة المعراج- و كان ذلك الوقت أشرف أوقاته في الدنيا- سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا- و قال تعالى- فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ ما أَوْحى‏- فلو كان اسم أجل من العبودية لسماه به- . و أنشدوا-

لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي‏

و منها الإرادة قال تعالى- وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ- بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ- . قالوا الإرادة هي بدء طريق السالكين- و هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله- و إنما سميت هذه الصفة إرادة- لأن الإرادة مقدمة كل أمر- فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله- فلما كان هذا الشأن أول الأمر- لمن يسلك طريق الله سمي إرادة- تشبيها له بالقصد إلى الأمور التي هو مقدمتها- . قالوا و المريد على موجب الاشتقاق من له إرادة- و لكن المريد في هذا الاصطلاح من لا إرادة له- فما لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا- كما أن من لا إرادة له على موجب الاشتقاق لا يكون مريدا- . و قد اختلفوا في العبارات الدالة- على ماهية الإرادة في اصطلاحهم- فقال بعضهم الإرادة ترك ما عليه العادة- و عادة الناس في الغالب التعريج على أوطان الغفلة-و الركون إلى اتباع الشهوة- و الإخلاد إلى ما دعت إليه المنية- و المريد هو المنسلخ عن هذه الجملة- . و قال بعضهم الإرادة نهوض القلب في طلب الرب- و لهذا قيل إنها لوعة تهون كل روعة- .

و قال أبو علي الدقاق الإرادة لوعة في الفؤاد- و لذعة في القلب و غرام في الضمير- و انزعاج في الباطن و نيران تأجج في القلوب- . و قال ممشاذ الدينوري- مذ علمت أن أحوال الفقراء جد كلها- لم أمازح فقيرا- و ذلك أن فقيرا قدم علي- فقال أيها الشيخ أريد أن تتخذ لي عصيدة- فجرى على لساني إرادة و عصيدة فتأخر الفقير و لم أشعر- فأمرت باتخاذ عصيدة و طلبته فلم أجده- فتعرفت خبره- فقيل إنه انصرف من فوره- و هو يقول إرادة و عصيدة إرادة و عصيدة- و هام على وجهه حتى خرج إلى البادية- و هو يكرر هذه الكلمة- فما زال يقول و يرددها حتى مات- .

و حكى بعضهم- قال كنت بالبادية وحدي فضاق صدري- فصحت يا أنس كلموني يا جن كلموني- فهتف هاتف أي شي‏ء ناديت- فقلت الله فقال الهاتف كذبت- لو أردته لما ناديت الإنس و لا الجن- . فالمريد هو الذي لا يشغله عن الله شي‏ء- و لا يفتر آناء الليل و أطراف النهار- فهو في الظاهر بنعت المجاهدات- و في الباطن بوصف المكابدات- فارق الفراش و لازم الانكماش- و تحمل المصاعب و ركب المتاعب- و عالج الأخلاق و مارس المشاق- و عانق الأهوال و فارق الأشكال فهو كما قيل-

ثم قطعت الليل في مهمه
لا أسدا أخشى و لا ذيبا

يغلبني شوقي فأطوى السرى
و لم يزل ذو الشوق مغلوبا

و قيل من صفات المريدين التحبب إليه بالتوكل- و الإخلاص في نصيحة الأمة- و الأنس بالخلوة- و الصبر على مقاساة الأحكام- و الإيثار لأمره و الحياء من نظره- و بذل المجهود في محبته- و التعرض لكل سبب يوصل إليه- و القناعة بالخمول- و عدم الفرار من القلب- إلى أن يصل إلى الرب- .

و قال بعضهم- آفة المريد ثلاثة أشياء التزويج- و كتبه الحديث و الأسفار- . و قيل- من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء- نومه غلبة و أكله فاقة و كلامه ضرورة- . و قال بعضهم نهاية الإرادة أن يشير إلى الله- فيجده مع الإشارة- فقيل له و أي شي‏ء يستوعب الإرادة- فقال أن يجد الله بلا إشارة- . و سئل الجنيد- ما للمريدين و سماع القصص و الحكايات- فقال الحكايات جند من جند الله تعالى- يقوي بها قلوب المريدين- فقيل له هل في ذلك شاهد- فتلا قوله تعالى وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ- ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ- .

و قال أصحاب الطريقة بين المريد و المراد فرق- فالمريد من سلك الرياضة طلبا للوصول- و المراد من فاضت عليه العناية الإلهية ابتداء- فكان مخطوبا لا خاطبا- و بين الخاطب و المخطوب فرق عظيم- . قالوا كان موسى ع مريدا- قال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي- و كان محمد ص مرادا- قال له أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ- و سئل الجنيد عن‏المريد و المراد- فقال المريد سائر و المراد طائر- و متى يلحق السائر الطائر- .

أرسل ذو النون المصري رجلا إلى أبي يزيد- و قال له إلى متى النوم و الراحة- قد سارت القافلة- فقال له أبو يزيد قل لأخي- الرجل من ينام الليل كله- ثم يصبح في المنزل قبل القافلة- فقال ذو النون هنيئا له- هذا الكلام لا تبلغه أحوالنا- . و قد تكلم الحكماء في هذا المقام- فقال أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات- أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة- و هو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني- أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني- من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى- فيتحرك سره إلى القدس- لينال من روح الاتصال- فما دامت درجته هذه فهو مريد- .

ثم إنه ليحتاج إلى الرياضة- و الرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض- الأول تنحيه ما دون الحق عن سنن الإيثار- . و الثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة- لتنجذب قوى التخيل و الوهم- إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي- منصرفة من التوهمات المناسبة للأمر السفلي- . و الثالث تلطيف السر لنفسه- .

فالأول يعين عليه الزهد الحقيقي- و الثاني يعين عليه عدة أشياء- العبادة المشفوعة بالفكرة- ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة- لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام- ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكي- بعبارة بليغة و نغمة رخيمة و سمت رشيد- و الثالث يعين عليه الفكر اللطيف- و العشق العفيف الذي تتأمر فيه شمائل المعشوق- دون سلطان الشهوة- .

و منها الاستقامة- و حقيقتها الدوام و الاستمرار على الحال- قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا- . و سئل بعضهم عن تارك الاستقامة- فقال قد ذكر الله ذلك في كتابه- فقال وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها- مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً وفي الحديث المرفوع شيبتني هود فقيل له في ذلك فقال قوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ‏- .

و قال تعالى وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ- لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً- فلم يقل سقيناهم بل أسقيناهم- أي جعلنا لهم سقيا دائمة- و ذلك لأن من دام على الخدمة دامت عليه النعمة- . و منها الإخلاص- و هو إفراد الحق خاصة في الطاعة- بالقصد و التقرب إليه بذلك خاصة- من غير رياء و من غير أن يمازحه شي‏ء آخر من تصنع لمخلوق- أو اكتساب محمدة بين الناس أو محبة مدح- أو معنى من المعاني- و لذلك قال أرباب هذا الفن- الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين- . و قال الخواص من هؤلاء القوم- نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه- فإذا أراد الله أن يخلص إخلاص عبد- أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه- فيكون مخلصا لا مخلصا- . وجاء في الأثر عن مكحول ما أخلص عبد لله أربعين صباحا- إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه- .

و منها الصدق و يطلق على معنيين- تجنب الكذب و تجنب الرياء- و قد تقدم القول فيهما- . و منها الحياء- و
في الحديث الصحيح إذا لم تستحي فاصنع ما شئتوفي الحديث أيضا الحياء من الإيمان- و قال تعالى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى‏- قالوا معناه أ لم يستحي- . وفي الحديث أنه قال لأصحابه استحيوا من الله حق الحياء- قالوا إنا لنستحيي و نحمد الله- قال ليس كذلك- من استحيا من الله حق الحياء- فليحفظ الرأس و ما وعى و البطن و ما حوى- و ليذكر الموت و طول البلى- و ليترك زينة الحياة الدنيا- فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء- .

و قال ابن عطاء- العلم الأكبر الهيبة و الحياء- فإذا ذهبا لم يبق خير- . و قال ذو النون- الحب ينطق و الحياء يسكت و الخوف يقلق- . و قال السري الحياء و الأنس يطرقان القلب- فإن وجدا فيه الزهد و الورع حطا و إلا رحلا- . و كان يقال تعامل القرن الأول من الناس- فيما بينهم بالدين حتى رق الدين- ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء- ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى فنيت المروءة- ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى قل الحياء- ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة و الرهبة

و قال الفضيل خمس من علامات الشقاء- القسوة في القلب و جمود العين- و قلة الحياء و الرغبة في الدنيا و طول الأمل- . و فسر بعضهم قوله تعالى وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها- لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ- أنها كان لها صنم في زاوية البيت- فمضت فألقت على وجهه ثوبا- فقال يوسف ما هذا قالت أستحيي منه- قال فأنا أولى أن أستحيي من الله- .

وفي بعض الكتب القديمة ما أنصفني عبدي يدعوني فأستحيي أن أرده- و يعصيني و أنا أراه فلا يستحيي مني
و منها الحرية- و هو ألا يكون الإنسان بقلبه رق شي‏ء من المخلوقات- لا من أغراض الدنيا و لا من أغراض الآخرة- فيكون فردا لفرد لا يسترقه عاجل دنيا- و لا آجل منى و لا حاصل هوى- و لا سؤال و لا قصد و لا أرب- .

قال له ص بعض أصحاب الصفة- قد عزفت نفسي يا رسول الله عن الدنيا- فاستوى عندي ذهبها و حجرها قال صرت حرا- . و كان بعضهم يقول- لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت-أ تمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر- و سئل الجنيد عمن لم يبق له من الدنيا- إلا مقدار مص نواه- فقال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم- . و منها الذكر- قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراًوروى أبو الدرداء أن رسول الله ص قال أ لا أنبئكم بخير أعمالكم- و أزكاها عند خالقكم- و أرفعها في درجاتكم- و خير من إعطائكم الذهب و الفضة في سبيل الله- و من أن تلقوا عدوكم- فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم- قالوا ما ذلك يا رسول الله قال ذكر اللهوفي الحديث المرفوع لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله- .

و قال أبو علي الدقاق- الذكر منشور الولاية- فمن وفق للذكر فقد أعطي المنشور- و من سلب الذكر فقد عزل- . و قيل ذكر الله تعالى بالقلب سيف المريدين- به يقاتلون أعداءهم و به يدفعون الآفات التي تقصدهم- و أن البلاء إذا أظل العبد- ففزع بقلبه إلى الله حاد عنه كل ما يكرهه- . وفي الخبر المرفوع إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها- قيل و ما رياض الجنة قال مجالس الذكروفي الخبر المرفوع أنا جليس من ذكرني- . و سمع الشبلي و هو ينشد-

ذكرتك لا أني نسيتك لمحة
و أيسر ما في الذكر ذكر لساني‏

فكدت بلا وجد أموت من الهوى‏
و هام على القلب بالخفقان‏

فلما أراني الوجد أنك حاضري
شهدتك موجودا بكل مكان‏

فخاطبت موجودا بغير تكلم‏
و لاحظت معلوما بغير عيان‏

و منها الفتوة- قال سبحانه مخبرا عن أصحاب الأصنام- قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ- . و قال تعالى في أصحاب الكهف- إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً- . و قد اختلفوا في التعبير عن الفتوة ما هي- فقال بعضهم الفتوة ألا ترى لنفسك فضلا على غيرك- . و قال بعضهم الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان- .

و قالوا إنما هتف الملك يوم أحد بقوله-لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي‏- . لأنه كسر الأصنام- فسمي بما سمي به أبوه إبراهيم الخليل- حين كسرها و جعلها جذاذا- . قالوا و صنم كل إنسان نفسه- فمن خالف هواه فقد كسر صنمه- فاستحق أن يطلق عليها لفظ الفتوة- . و قال الحارث المحاسبي الفتوة أن تنصف و لا تنتصف- . و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سئل أبي عن الفتوة- فقال ترك ما تهوى لما تخشى- . و قيل الفتوة ألا تدخر و لا تعتذر- .

سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد الصادق ع عن الفتوة- فقال ما تقول أنت- قال إن أعطينا شكرنا و إن منعنا صبرنا- قال إن الكلاب عندنا بالمدينة هذا شأنها- و لكن قل إن أعطينا آثرنا و إن منعنا شكرنا- .

و منها الفراسة- قيل في تفسير قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ- أي للمتفرسين- وقال النبي ص اتقوا فراسة المؤمن فإنها لا تخطئقيل الفراسة سواطع أنوار لمعت في القلوب- حتى شهدت الأشياء من حيث أشهدها الحق إياها- و كل من كان أقوى إيمانا كان أشد فراسة- . و كان يقال- إذا صحت الفراسة ارتقى منها صاحبها إلى المشاهدة- .

و منها حسن الخلق و هو من صفات العارفين- فقد أثنى الله تعالى به على نبيه- فقال وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ وقيل له ص- أي المؤمنين أفضل إيمانا- فقال أحسنهم خلقا و بالخلق تظهر جواهر الرجال- و الإنسان مستور بخلقه مشهور بخلقه- .

و قال بعضهم- حسن الخلق استصغار ما منك و استعظام ما إليك- . وقال النبي ص إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم- فسعوهم بأخلاقكم- . قيل لذي النون- من أكبر الناس هما قال أسوؤهم خلقا- . و كان يقال- ما تخلق أحد أربعين صباحا بخلق إلا صار ذلك طبيعة فيه- . قال الحسن في قوله تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ- أي و خلقك فحسن- . شتم رجل الأحنف بن قيس و جعل يتبعه و يشتمه- فلما قرب الحي وقف- و قال يا فتى إن كان قد بقي في قلبك شي‏ء فقله- كيلا يسمعك سفهاء الحي فيجيبوك- .

و يقال إن معروفا الكرخي نزل دجلة ليسبح- و وضع ثيابه و مصحفه- فجاءت امرأة فاحتملتهما فتبعها- و قال أنا معروف الكرخي فلا بأس عليك- أ لك ابن يقرأ قالت لا- قال أ فلك بعل قالت لا- قال فهاتي المصحف و خذي الثياب- . قيل لبعضهم ما أدب الخلق- قال ما أدب الله به نبيه- في قوله خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ يقال إن في بعض كتب النبوات القديمة يا عبدي اذكرني حين تغضب- أذكرك حين أغضب- .

قالت امرأة لمالك بن دينار يا مرائي- فقال لقد وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة- . قال بعضهم و قد سئل عن غلام سوء له لم يمسكه- قال أ تعلم عليه الحلم- . و كان يقال ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة- الحليم عند الغضب و الشجاع عند الحرب- و الصديق عند الحاجة إليه- . و قيل في تفسير قوله تعالى- وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً- الظاهرة تسوية الخلق و الباطنة تصفية الخلق- . الفضيل لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي- من أن يصحبني عابد سيئ الخلق- . خرج إبراهيم بن أدهم إلى بعض البراري- فاستقبله جندي فسأله أين العمران- فأشار إلى المقبرة فضرب رأسه فشجه و أدماه- فلما جاوزه قيل له- إن ذلك إبراهيم بن أدهم‏زاهد خراسان- فرد إليه يعتذر- فقال إبراهيم- إنك لما ضربتني سألت الله لك الجنة- .

قال لم سألت ذلك- قال علمت أني أوجر على ضربك لي- فلم أرد أن يكون نصيبي منك الخير و نصيبك مني الشر- . و قال بعض أصحاب الجنيد- قدمت من مكة- فبدأت بالشيخ كي لا يتعنى إلي فسلمت عليه- ثم مضيت إلى منزلي- فلما صليت الصبح في المسجد- إذا أنا به خلفي في الصف- فقلت إنما جئتك أمس لئلا تتعنى- فقال ذلك فضلك و هذا حقك- .

كان أبو ذر على حوض يسقي إبله- فزاحمه إنسان فكسر الحوض- فجلس أبو ذر ثم اضطجع فقيل له في ذلك- فقال أمرنا رسول الله ص- إذا غضب الرجل و هو قائم فليجلس فإن ذهب عنه- و إلا فليضطجع- . دعا إنسان بعض مشاهير الصوفية إلى ضيافة- فلما حضر باب داره رده و اعتذر إليه- ثم فعل به مثل ذلك و ثانية و ثالثة- و الصوفي لا يغضب و لا يضجر- فمدحه ذلك الإنسان و أثنى عليه بحسن الخلق- فقال إنما تمدحني على خلق تجد مثله في الكلب- إن دعوته حضر و إن زجرته انزجر- .

مر بعضهم وقت الهاجرة بسكة- فألقى عليه من سطح طست رماد- فغضب من كان في صحبته فقال لا تغضبوا- من استحق أن يصب عليه النار فصولح على الرماد- لم تجز له أن يغضب- . كان لبغض الخياطين جار يدفع إليه ثيابا فيخيطها- و يدفع إليه أجرتها دراهم زيوفا- فيأخذها فقام يوما من حانوته و استخلف ولده- فجاء الجار بالدراهم الزائفة- فدفعها إلى الولد فلم يقبلها فأبدلها بدراهم جيدة- فلما جاء أبوه دفع إليه الدراهم- فقال ويحك هل جرى بينك و بينه أمر قال نعم- إنه أحضر الدراهم زيوفا فرددتها فأحضر هذه-فقال بئس ما صنعت- إنه منذ كذا و كذا سنة يعاملني بالزائف و أصبر عليه- و ألقيها في بئر كي لا يغر غيري بها و قيل الخلق السيئ هو أن يضيق قلب الإنسان- عن أن يتسع لغير ما تحبه النفس و تؤثره- كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه- . و كان يقال- من سوء الخلق أن تقف على سوء خلق غيرك و تعيبه به- .

قيل لرسول الله ادع الله على المشركين- فقال إنما بعثت رحمة و لم أبعث عذابادعا علي ع غلاما له مرارا و هو لا يجيبه- فقام إليه فقال أ لا تسمع يا غلام قال بلى- قال فما حملك على ترك الجواب- قال أمني لعقوبتك قال اذهب فأنت حر- .

و منها الكتمان-قال رسول الله ص استعينوا على أموركم بالكتمان- . و قال السري علامة الحب الصبر و الكتمان- و من باح بسرنا فليس منا- . و قال الشاعر-

كتمت حبك حتى منك تكرمة
ثم استوى فيك إسراري و إعلاني‏

كأنه غاض حتى فاض عن جسدي‏
فصار سقمي به في جسم كتماني‏

و هذا ضد ما يذهب إليه القوم من الكتمان- و هو عذر لأصحاب السر و الإعلان- و كان يقال المحبة فاضحة و الدمع نمام- . و قال الشاعر-

لا جزى الله دمع عيني خيرا
و جزى الله كل خير لساني‏

فاض دمعي فليس يكتم شيئا
و وجدت اللسان ذا كتمان‏

يقال إن بعض العارفين- أوصى تلميذه بكتمان ما يطلع عليه من الحال- فلما شاهد الأمر غلب- فكان يطلع في بئر في موضع خال فيحدثها بما يشاهد- فنبتت في تلك البئر شجرة- سمع منها صوت يحكي كلام ذلك التلميذ- كما يحكي الصدا كلام المتكلم- فأسقط بذلك من ديوان الأولياء- . و أنشدوا-

أبدا تحن إليكم الأرواح
و وصالكم ريحانها و الراح‏

و قلوب أهل ودادكم تشتاقكم‏
و إلى لقاء جمالكم ترتاح‏

وا رحمة للعاشقين تحملوا
ثقل المحبة و الهوى فضاح‏

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم‏
و كذا دماء البائحين تباح‏

 و قال الحسين بن منصور الحلاج

إني لأكتم من علمي جواهره
كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتننا

و قد تقدمني فيه أبو حسن‏
إلى الحسين و أوصى قبله الحسنا

يا رب مكنون علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

و لاستحل رجال صالحون دمي‏
يرون أقبح ما يأتونه حسنا

و منها الجود و السخاء و الإيثار- قال الله تعالى وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وقال النبي ص السخي قريب من الله قريب من الناس-و البخيل بعيد من الله بعيد من الناس- و أن الجاهل السخي أحب إلى الله من العابد البخيل- .

قالوا لا فرق بين الجود و السخاء في اصطلاح أهل العربية- إلا أن الباري سبحانه لا يوصف بالسخاء- لأنه يشعر بسماح النفس عقيب التردد في ذلك- و أما في اصطلاح أرباب هذه الطريقة- فالسخاء هو الرتبة الأولى و الجود بعده ثم الإيثار- فمن أعطى البعض و أبقى البعض فهو صاحب السخاء- و من أعطى الأكثر و أبقى لنفسه شيئا فهو صاحب الجود- و الذي قاسى الضراء و آثر غيره بالبلغة فهو صاحب الإيثار- .

قال أسماء بن خارجة الفزاري- ما أحب أن أرد أحدا عن حاجة طلبها- إن كان كريما صنت عرضه عن الناس- و إن كان لئيما صنت عنه عرضي- . كان مؤرق العجلي يتلطف في بر إخوانه- يضع عندهم ألف درهم و يقول أمسكوها حتى أعود إليكم- ثم يرسل إليهم أنتم منها في حل- . و كان يقال الجود إجابة الخاطر الأول- . و كان أبو الحسن البوشنجي في الخلاء فدعا تلميذا له- فقال انزع عني هذا القميص و ادفعه إلى فلان- فقيل له هلا صبرت فقال لم آمن على نفسي- أن تغير علي ما وقع لي من التخلق معه بالقميص- .

رئي علي ع يوما باكيا فقيل له لم تبكي- فقال لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام- أخاف أن يكون الله قد أهانني- . أضاف عبد الله بن عامر رجلا فأحسن قراه- فلما أراد أن يرتحل لم يعنه غلمانه فسئل عن ذلك- فقال إنهم إنما يعينون من نزل علينا- لا من ارتحل عنا- . و منها الغيرة-قال رسول الله ص لا أحد أغير من الله- إنما حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن لغيرتهوفي حديث أبي هريرة أن الله ليغار و أن المؤمن ليغارقال و الغيرة هي كراهية المشاركة فيما هو حقك- . و قيل الغيرة الأنفة و الحمية- .

و حكي عن السري أنه قرئ بين يديه- وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ- جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً- فقال لأصحابه أ تدرون ما هذا الحجاب- هذا حجاب الغيرة و لا أحد أغير من الله- . قالوا و معنى حجاب الغيرة- أنه لما أصر الكافرون على الجحود- عاقبهم بأن لم يجعلهم أهلا لمعرفة أسرار القرآن- . و قال أبو علي الدقاق- إن أصحاب الكسل عن عبادته- هم الذين ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخذلان- فاختار لهم البعد و أخرهم عن محل القرب- و لذلك تأخروا- . و في معناه أنشدوا فقالوا-

أنا صب بمن هويت و لكن
ما احتيالي في سوء رأي الموالي‏

 و في معناه قالوا سقيم لا يعاد و مريد لا يراد- . و كان أبو علي الدقاق- إذا وقع شي‏ء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين- يقول هذا من غيرة الحق- يريد به ألا يتم ما أملناه من صفاء هذا الوقت- . و أنشدوا في معناه-
همت بإتياننا حتى إذا نظرت إلى المرأة نهانا وجهها الحسن‏- . و قيل لبعضهم أ تريد أن تراه قال لا- قيل لم قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي- و في معناه أنشدوا-

إني لأحسد ناظري عليك
حتى أغض إذا نظرت إليك‏

و أراك تخطر في شمائلك
التي هي فتنتي فأغار منك عليكا

و سئل الشبلي متى تستريح- قال إذا لم أر له ذاكرا- . و قال أبو علي الدقاق فيقول النبي ص عند مبايعته فرسا من أعرابي- و أنه استقاله فأقاله- فقال الأعرابي عمرك الله فمن أنت- قال ص أنا امرؤ من قريش- فقال بعض الصحابة من الحاضرين للأعرابي- كفاك جفاء ألا تعرف نبيك- فكان أبو علي يقول إنما قال امرؤ من قريش- غيرة و نوعا من الأنفة- و إلا فقد كان الواجب عليه- أن يتعرف لكل أحد أنه من هو- لكن الله سبحانه أجرى على لسان ذلك الصحابي- التعريف للأعرابي بقوله كفاك جفاء ألا تعرف نبيك- .

و قال أصحاب الطريقة- مساكنة أحد من الخلق للحق في قلبك- توجب الغيرة منه تعالى- . أذن الشبلي مرة فلما انتهى إلى الشهادتين- قال و حقك لو لا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك- . و سمع رجل رجلا يقول جل الله- فقال أحب أن تجله عن هذا- . و كان بعض العارفين يقول- لا إله إلا الله من داخل القلب- محمد رسول الله من قرط الأذن- . و قيل لأبي الفتوح السهروردي- و قد أخذ بحلب ليصلب على خشبة- ما الذي أباحهم هذا منك- قال إن هؤلاء دعوني- إلى أن أجعل محمدا شريكا لله في الربوبية- فلم أفعل فقتلوني- .

و منها التفويض– قال الله تعالى وَ عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ- وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ- وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ- فاستوقف من عقل أمره عن الاقتراح عليه- و أفهمه ما يرضاه به من التفويض إليه- فالعاقل تارك للاقتراح على العالم بالصلاح- .

و قال تعالى فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً- وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً- فبعث على تأكيد الرجاء بقوله خَيْراً كَثِيراً- . و لما فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا- وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ- كما ورد في الكتاب العزيز- . و حقيقة التفويض هي التسليم لأحكام الحق سبحانه- و إلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى- قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا- هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ- فأس التفويض و الباعث عليه- هو اعتقاد العجز عن مغالبة القدر- و أنه لا يكون في الخير و الشر- أعني الرخص و الصحة و سعة الرزق و البلايا- و الأمراض و العلل و ضيق الرزق- إلا ما أراد الله تعالى كونه- و لا يصح التفويض ممن لم يعتقد ذلك و لم يعلمه علم اليقين- .

و قد بالغ النبي ص في التصريح به- و النص عليهبقوله لعبد الله بن مسعود ليقل همك ما قدر أتاك و ما لم يقدر لم يأتك- و لو جهد الخلق أن ينفعوك بشي‏ء- لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه- و لو جهدوا أن يضروك بشي‏ء- لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلكوفي صحيح مسلم بن الحجاج أنه قال لأبي هريرة في كلام له فإن أصابك شي‏ء فلا تقل- لو فعلت كذا لكان كذا- فإن لو تفتح عمل الشيطان- و لكن قل ما قدر الله و ما شاء فعلوفي صحيح مسلم أيضا عن البراء بن عازب إذا أخذت مضجعك فقل كذا- إلى أن قال- وجهت وجهي إليك و ألجأت ظهري إليك- رغبة و رهبة إليك لا منجى و لا ملجأ منك إلا إليك- .

و كان يقال معارضة المريض طبيبه توجب تعذيبه- و كان يقال إنما الكيس الماهر من أمسى في قبضة القاهر- . و كان يقال إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة- فما من أعوان تقوده إلى الحيلة- . و كان يقال إذا التبست المصادر ففوض إلى القادر- . و كان يقال- من الدلالة على أن الإنسان مصرف مغلوب- و مدبر مربوب- أن يتبلد رأيه في بعض الخطوب- و يعمى عليه الصواب المطلوب- . و إذا كان كذلك- فربما كان تدميره في تدبيره و اغتياله من احتياله- و هلكته من حركته- . و في ذلك أنشدوا-

أيا من يعول في المشكلات
على ما رآه و ما دبره‏

إذا أعضل الأمر فافزع به‏
إلى من يرى منه ما لم تره‏

تكن بين عطف يقيل الخطوب
و لطف يهون ما قدره‏

إذا كنت تجهل عقبى الأمور
و ما لك حول و لا مقدره‏

فلم ذا العنا و علام الأسى
و مم الحذار و فيم الشره‏

و أنشدوا في هذا المعنى-

يا رب مغتبط و مغبوط
بأمر فيه هلكه‏

و منافس في ملك ما
يشقيه في الدارين ملكه‏

علم العواقب دونه
ستر و ليس يرام هتكه‏

و معارض الأقدار بالآراء
سيئ الحال ضنكه‏

فكن امرأ محض اليقين
و زيف الشبهات سبكه‏

تفويضه توحيده‏
و عناده المقدار شركه‏

و منها الولاية و المعرفة و قد تقدم القول فيهما- .

و منها الدعاء و المناجاة– قال الله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وفي الحديث المرفوع الدعاء مخ العبادة- . و قد اختلف أرباب هذا الشأن في الدعاء- فقال قوم الدعاء مفتاح الحاجة- و مستروح أصحاب الفاقات- و ملجأ المضطرين و متنفس ذوي المآرب- . و قد ذم الله تعالى قوما فقال وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ- فسروه و قالوا لا يمدونها إليه في السؤال- .

و قال سهل بن عبد الله التستري- خلق الله الخلق و قال تاجروا في- فإن لم تفعلوا فاسمعوا مني- فإن لم تفعلوا فكونوا ببابي- فإن لم تفعلوا فأنزلوا حاجاتكم بي- . قالوا و قد أثنى الله على نفسه- فقال أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ- قالوا الدعاء إظهار فاقة العبودية- .

و قال أبو حاتم الأعرج- لأن أحرم الدعاء أشد علي من أن أحرم الإجابة- . و قال قوم- بل السكوت و الخمود تحت جريان الحكم- و الرضا بما سبق من اختيار الحكيم- العالم بالمصالح أولى- و لهذا قال الواسطي اختيار ما جرى لك في الأزل- خير لك من معارضة الوقت- . وقال النبي ص إخبارا عن الله تعالى من شغله ذكري عن مسألتي- أعطيته أفضل ما أعطي السائلين- .

و قال قوم يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه- و صاحب رضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعا- . و قال قوم إن الأوقات تختلف- ففي بعض الأحوال يكون الدعاء أفضل من السكوت- و في بعض الأحوال يكون بالعكس- و إنما يعرف هذا في الوقت- لأن علم الوقت يحصل في الوقت- فإذا وجد في قلبه الإشارة إلى الدعاء فالدعاء أولى- و إن وجد بقلبه الإشارة إلى السكوت- فالسكوت له أتم و أولى- .

وجاء في الخبر أن الله يبغض العبد فيسرع إجابته بغضا لسماع صوته- و أنه يحب العبد فيؤخر إجابته حبا لسماع صوته- . و من أدب الدعاء حضور القلب-فقد روي عنه ص أن الله لا يستجيب دعاء قلب لاه- . و من شروط الإجابة طيب الطعمة و حل المكسب-قال ص لسعد بن أبي وقاص أطب كسبك تستجب دعوتك- .

و ينبغي أن يكون الدعاء بعد المعرفة-قيل لجعفر بن محمد الصادق ع- ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا- قال لأنكم تدعون من لا تعرفونه- . كان صالح المري يقول كثيرا- ادعوا فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له- فقالت له رابعة العدوية ما ذا تقول- أغلق هذا الباب حتى يستفتح- فقال صالح شيخ جهل و امرأة علمت- . و قيل فائدة الدعاء إظهار الفاقة من الخلق- و إلا فالرب يفعل ما يشاء- .

و قيل دعاء العامة بالأقوال و دعاء العابد بالأفعال- و دعاء العارف بالأحوال- . و قيل خير الدعاء ما هيجه الأحزان و الوجد- . و قيل أقرب الدعاء إلى الإجابة دعاء الاضطرار- لقوله تعالى أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ- . قال أصحاب هذه الطريقة- ألسنة المبتدءين أرباب الإرادة منطلقة بالدعاء- و ألسنة المحققين الواصلين قد خرست عن ذلك- . و كان عبد الله بن المبارك يقول- ما دعوته منذ خمسين سنة- و لا أريد أن يدعو لي أحد- .

و قيل الدعاء سلم المذنبين- . و قال من قال بنقيض هذا الدعاء مراسلة- و ما دامت المراسلة باقية فالأمر جميل بعد- . و قالوا ألسنة المذنبين دموعهم- . و كان أبو علي الدقاق يقول- إذا بكى المذنب فقد راسل الله- . و في معناه أنشدوا
دموع الفتى عما يجن تترجم و أنفاسه تبدين ما القلب يكتم‏- .

و قال بعضهم لبعض العارفين ادع لي- فقال كفاك من الإجابة ألا تجعل بينك و بينه واسطة- . و منها التأسي- قال سبحانه لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ- أي في مصابه و ما نيل منه في نفسه و في أهله يوم أحد- فلا تجزعوا أن أصيب بعضكم- . وجاء في الحديث المرفوع لا تنظروا إلى من فوقكم- و انظروا إلى من دونكم- فإنه أجدر ألا تزدروا نعم الله عليكم- . و قالت الخنساء ترثى أخاها-

و لو لا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي‏

و ما يبكون مثل أخي و لكن‏
أعزي النفس عنه بالتأسي‏

 و حقيقة التأسي- تهوين المصائب و النوائب على النفس- بالنظر إلى ما أصاب أمثالك- و من هو أرفع محلا منك- . و قد فسر العلماء قوله تعالى- وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ- أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ- قال إنه لا يهون على أحد من أهل النار عذابه- و إن تأسى بغيره من المعذبين- لأن الله تعالى جعل لهم التأسي نافعا في الدنيا- و لم يجعله نافعا لأهل النار مبالغة في تعذيبهم- و نفيا لراحة تصل إليهم- .

و منها الفقر و هو شعار الصالحين-قال رسول الله ص اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا- و احشرني مع المساكين
– . قال لعلي ع- إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بأحسن منها- وهب لك حب المساكين- فجعلك ترضى بهم أتباعا و يرضون بك إماما- .

وجاء في الخبر المرفوع الفقراء الصبر جلساء الله يوم القيامة- . و سئل يحيى بن معاذ عن الفقر- فقال ألا تستغني إلا بالله- . وقال أبو الدرداء لأن أقع من فوق قصر فأتحطم- أحب إلي من مجالسة الغني- لأني سمعت رسول الله ص يقول- إياكم و مجالسة الموتى- فقيل له و ما الموتى قال الأغنياء- . قيل للربيع بن خثيم قد غلا السعر- قال نحن أهون على الله من أن يجيعنا- إنما يجيع أولياءه- .

و قيل ليحيى بن معاذ ما الفقر قال خوف الفقر- . و قال الشبلي أدنى علامات الفقير- أن لو كانت الدنيا بأسرها لواحد فأنفقها في يوم واحد- ثم خطر بباله لو أمسكت منها قوت يوم آخر- لم يصدق في فقره- . سئل ابن الجلاء عن الفقر فسكت ثم ذهب قليلا- و عاد فقال كانت عندي أربعة دوانيق فضة- فاستحييت من الله أن أتكلم في الفقر و هي عندي- فذهبت فأخرجتها ثم قعد فتكلم في الفقر- . و قال أبو علي الدقاق في تفسيرقوله ص من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه- إن المرء بقلبه و لسانه و جوارحه- فمن تواضع لغني بلسانه و جوارحه ذهب ثلثا دينه- فإن تواضع له مع ذلك بقلبه ذهب دينه كله- .

و منها الأدب– قالوا في تفسير قوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى‏- حفظ أدب الحضرة- . قيل إنه ع لم يمد نظره فوق المقام- الذي أوصل إليه ليلة شاهد السدرة- و هي أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه البشريون- . وفي الحديث المرفوع أدبني ربي فأحسن تأديبيو قيل إن الجنيد لم يمد رجله في الخلوة عشرين سنة- و كان يقول الأدب مع الله أولى من الأدب مع الخلق- .

و قال أبو علي الدقاق- من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل- . ومن كلامه ع ترك الأدب يوجب الطرد- فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب- و من أساء الأدب على الباب رد إلى ساحة الدواب- . و قال عبد الله بن المبارك- قد أكثر الناس في الأدب- و عندي أن الأدب معرفة الإنسان بنفسه- . و قال الثوري من لم يتأدب للوقت فوقته مقت- .

و قال أبو علي الدقاق في قوله تعالى حكاية عن أيوب- إِذْ نادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ- قال لم يقل فارحمني لأنه حفظ آداب الخطاب- و كذلك قال في قول عيسى- إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ- قال لم يقل لم أقل رعاية لأدب الحضرة- .

و منها المحبة و هي مقام جليل- قالوا المحبة أن تهب كلك لمن أحببت- فلا يبقى لك منك شي‏ء- . قيل لبعض العرب ما وجدت من حب فلانة- قال أرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس- . و قال أبو عبد الرحمن السلمي- المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك- . و قال النصرآباذي المحبة نوعان- نوع يوجب حقن الدماء و نوع يوجب سفك الدماء- . و قال يحيى بن معاذ- المحبة الخالصة ألا تنقص بالجفاء و لا تزيد بالبر- . و قيل للنصرآباذي كيف حالك في المحبة- قال عدمت وصال المحبين- و رزقت حسراتهم فهو ذا أنا أحترق فيها- ثم قال المحبة مجانبة السلو على كل حال- . و أنشدوا-

و من كان في طول الهوى ذاق
سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق‏

و أكثر شي‏ء نلته من وصالها
أماني لم تصدق كلمحة بارق‏

وجاء في الحديث المرفوع المرء مع من أحب- و لما سمع سمنون هذا الخبر- قال فاز المحبون بشرف الدنيا و الآخرة- لأنهم مع الله تعالى- . وفي الحديث المرفوع لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله- و يحبه الله و رسوله
و هذا يتجاوز حد الجلالة و الشرف- . و كان يقال الحب أوله ختل و آخره قتل- . قيل كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد- سكرت من كثرة ما شربت من محبته- فكتب إليه أبو زيد- غيرك شرب بحور السموات و الأرض- و ما روي بعد و لسانه خارج و هو يقول هل من مزيد- .و أنشد-

عجبت لمن يقول ذكرت حبي
و هل أنسى فأذكر ما نسيت‏

شربت الحب كأسا بعد كأس‏
فما نفد الشراب و لا رويت‏

و قيل المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه- ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف- . و أنشدوا-

فأسكر القوم دور كأس
و كان سكري من المدير

 و منها الشوق-جاء في الخبر المرفوع أن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة- علي و سلمان و عمار- . الشوق مرتبة من مراتب القوم- و مقام من مقاماتهم- سئل ابن عطاء الشوق أعلى أم المحبة- فقال المحبة لأن الشوق منها يتولد- . ومن الأدعية النبوية المأثورة- الدعاء الذي كان يدعو به عمار بن ياسر رضي الله عنه اللهم بعلمك بالغيب و قدرتك على الخلق- أحيني ما علمت الحياة خيرا لي- و توفني ما كانت الوفاة خيرا لي- اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة- و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب- و أسألك القصد في الغنى و الفقر- و أسألك نعيما لا يبيد و قرة عين لا تنقطع- و أسألك الرضا بعد القضاء و برد العيش بعد الموت- و أسألك النظر إلى وجهك- و الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة- اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين- . قالوا الشوق احتياج القلب إلى لقاء المحبوب- و على قدر المحبة يكون الشوق- و علامة الشوق حب الموت- .

و هذا هو السر في قوله تعالى- فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- أي أن من كان صاحب محبة يتمنى لقاء محبوبه- فمن لا يتمنى ذلك لا يكون صادق المحبة- . قيل لبعض الصوفية هل تشتاق إليه- فقال إنما الشوق إلى غائب و هو حاضر لا يغيب- . و قالوا في قوله تعالى- مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ- إنه تطيب لقلوب المشتاقين- .

و
يقال إنه مكتوب في بعض كتب النبوات القديمة شوقناكم فلم تشتاقوا- و زمرنا لكم فلم ترقصوا- و خوفناكم فلم ترهبوا و نحنا لكم فلم تحزنواوقيل إن شعيبا بكى حتى عمي فرد الله إليه بصره- ثم بكى حتى عمي فرد عليه بصره ثم كذلك ثلاثا- فقال الله تعالى- إن كان هذا البكاء شوقا إلى الجنة فقد أبحتها لك- و إن كان خوفا من النار فقد أجرتك منها- فقال و حقك لا هذا و لا هذا و لكن شوقا إليك- فقال له لأجل ذلك أخدمتك نبيي و كليمي عشر سنين
– .

و منها الزهد و رفض الدنيا– قال سبحانه- وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ- زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا و
جاء في الخبر أن يوسف ع كان يجوع في سني الجدب- فقيل له أ تجوع و أنت على خزائن مصر- فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياعو كذلك قال علي ع و قد قيل له أ هذا لباسك- و هذا مأكولك و أنت أميرالمؤمنين- فقال نعم إن الله فرض على أئمة العدل- أن يقدروا لأنفسهم كضعفة الناس- كيلا يتبيغ بالفقير فقره- . و منع عمر بن الخطاب نفسه عام الرمادة الدسم- و قال لا آكله حتى يصيبه المسلمون جميعا- . و كان عمر بن عبد العزيز من أكثر الناس تنعما- قبل أن يلي الخلافة- قومت ثيابه حينئذ بألف دينار- و قومت و هو يخطب الناس أيام خلافته بثلاثة دراهم- .

و اعلم أن بعض هذه المراتب و المقامات- التي ذكرناها للقوم قد يكون متداخلا في الظاهر- و له في الباطن عندهم فرق يعرفه من يأنس بكتبهم- و قد أتينا في تقسيم مراتبهم- و تفصيل مقاماتهم في هذا الفصل بما فيه كفاية

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 216 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

216 و من كلام له ع قاله بعد تلاوته

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ- يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَ زَوْراً مَا أَغْفَلَهُ- وَ خَطَراً مَا أَفْظَعَهُ- لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وَ تَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ- أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ- أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ قد اختلف المفسرون في تأويل هاتين الآيتين- فقال قوم المعنى أنكم قطعتم أيام عمركم- في التكاثر بالأموال و الأولاد حتى أتاكم الموت- فكني عن حلول الموت بهم بزيارة المقابر- . و قال قوم بل كانوا يتفاخرون بأنفسهم- و تعدى ذلك إلى أن تفاخروا بأسلافهم الأموات- فقالوا منا فلان و فلان لقوم كانوا و انقرضوا- . و هذا هو التفسير الذي يدل عليه كلام أمير المؤمنين ع- قال يا له مراما منصوب على التمييز- . ما أبعده أي لا فخر في ذلك- و طلب الفخر من هذا الباب بعيد- و إنما الفخر بتقوى الله و طاعته- .

و زورا ما أغفله إشارة إلى القوم الذين افتخروا- جعلهم بتذكر الأموات السالفين كالزائرين لقبورهم- و الزور اسم للواحد و الجمع كالخصم و الضيف- قال ما أغفلهم عما يراد منهم- لأنهم تركوا العبادة و الطاعة- و صرموا الأوقات بالمفاخرة بالموتى- . ثم قال و خطرا ما أفظعه- إشارة إلى الموت أي ما أشده- فظع الشي‏ء بالضم فهو فظيع- أي شديد شنيع مجاوز للمقدار- .

قوله لقد استخلوا منهم أي مدكر- قال الراوندي- أي وجدوا موضع التذكر خاليا من الفائدة- و هذا غير صحيح- و كيف يقول ذلك و قد قال و خطرا ما أفظعه- و هل يكون أمر أعظم تذكيرا من الاعتبار بالموتى- و الصحيح أنه أراد باستخلوا- ذكر من خلا من آبائهم أي من مضى- يقال هذا الأمر من الأمور الخالية- و هذا القرن من القرون الخالية أي الماضية- . و استخلى فلان في حديثه أي حدث عن أمور خالية- و المعنى أنه استعظم ما يوجبه حديثهم- عما خلا و عمن خلا من أسلافهم- و آثار أسلافهم من التذكير- فقال أي مدكر و واعظ في ذلك-

و روي أي مذكر بمعنى المصدر- كالمعتقد بمعنى الاعتقاد و المعتبر بمعنى الاعتبار- . و تناوشوهم من مكان بعيد أي تناولوهم- و المراد ذكروهم و تحدثوا عنهم- فكأنهم تناولوهم- و هذه اللفظة من ألفاظ القرآن العزيز- وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ- و أنى لهم تناول الإيمان حينئذ بعد فوات الأمر:

يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَ حَرَكَاتٍ سَكَنَتْ- وَ لَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً- وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ- أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ- لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ- وَ ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ- وَ لَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ- وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَقَالَتْ- ذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ ضُلَّالًا وَ ذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالًا- تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وَ تَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ- وَ تَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وَ تَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا- وَ إِنَّمَا الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَ نَوَائِحُ عَلَيْكُمْ- أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ- الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ- وَ حَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوكاً وَ سُوَقاً يرتجعون منهم أجسادا أي يذكرون آباءهم- فكأنهم ردوهم إلى الدنيا و ارتجعوهم من القبور- و خوت خلت- . قال و هؤلاء الموتى أحق بأن يكونوا عبرة و عظة- من أن يكونوا فخرا و شرفا- و المفتخرون بهم أولى بالهبوط- إلى جانب الذلة منهم بالقيام مقام العز- . و تقول هذا أحجى من فلان- أي أولى و أجدر و الجناب الفناء- .

ثم قال لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة- أي لم ينظروا النظر المفضي إلى الرؤية- لأن أبصارهم ذات عشوة- و هو مرض في العين ينقص به الأبصار- و في عين فلان عشاء و عشوة بمعنى- و منه قيل لكل أمر ملتبس- يركبه الراكب على غير بيان أمر عشوة- و منه أوطأتني عشوة و يجوز بالضم و الفتح- .

قال و ضربوا بهم في غمرة جهالة- أي و ضربوا من ذكر هؤلاء الموتى في بحر جهل- و الضرب ها هنا استعارة- أو يكون من الضرب بمعنى السير- كقوله تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ- أي خاضوا و سبحوا من ذكرهم في غمرة جهالة- و كل هذا يرجع إلى معنى واحد- و هو تسفيه رأي المفتخرين بالموتى- و القاطعين الوقت بالتكاثر بهم- إعراضا عما يجب إنفاقه من العمر في الطاعة و العبادة- . ثم قال لو سألوا عنهم ديارهم التي خلت منهم- و يمكن أن يريد بالديار و الربوع القبور- لقالت ذهبوا في الأرض ضلالا أي هالكين- و منه قوله تعالى- وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ- . و ذهبتم في أعقابهم أي بعدهم جهالا لغفلتكم و غروركم- . قوله ع تطئون في هامهم- أخذ هذا المعنى أبو العلاء المعري فقال-

خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد

رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد

و دفين على بقايا دفين
من عهود الآباء و الأجداد

صاح هذي قبورنا تملأ الأرض‏
فأين القبور من عهد عاد

سر إن اسطعت في الهواء ر
ويدا لا اختيالا على رفات العباد

قوله و تستنبتون في أجسادهم- أي تزرعون النبات في أجسادهم- و ذلك لأن أديم الأرض الظاهر- إذا كان من أبدان الموتى- فالزرع لا محالة يكون نابتا في الأجزاء الترابية- التي هي أبدان الحيوانات- و روي و تستثبتون بالثاء- أي و تنصبون الأشياء الثابتة كالعمد و الأساطين- للأوطان في أجساد الموتى- .

ثم قال و ترتعون فيما لفظوا- لفظت الشي‏ء بالفتح رميته من فمي ألفظه بالكسر- و يجوز أن يريد بذلك أنكم تأكلون ما خلفوه و تركوه- و يجوز أن يريد أنكم تأكلون الفواكه- التي تنبت في أجزاء ترابية- خالطها الصديد الجاري من أفواههم ثم قال و تسكنون فيما خربوا- أي تسكنون في المساكن التي لم يعمروها- بالذكر و العبادة- فكأنهم أخربوها في المعنى- ثم سكنتم أنتم فيها بعدهم- و يجوز أن يريد أن كل دار عامرة- قد كانت من قبل خربة- و إنما أخربها قوم بادوا و ماتوا- فإذن لا ساكن منا في عمارة- إلا و يصدق عليه أنه ساكن فيما قد كان خرابا من قبل- و الذين أخربوه الآن موتى- و يجوز أن يريد بقوله و تسكنون فيما خربوا- و تسكنون في دور فارقوها و أخلوها- فأطلق على الخلو و الفراغ لفظ الخراب مجازا- . قوله و إنما الأيام بينكم و بينهم- بواك و نوائح عليكم- يريد أن الأيام و الليالي تشيع رائحا إلى المقابر و تبكي- و تنوح على الباقين الذين سيلتحقون به عن قريب- .

قوله أولئكم سلف غايتكم- السلف المتقدمون و الغاية الحد الذي ينتهي إليه- إما حسيا أو معنويا و المراد هاهنا الموت- . و الفرط القوم يسبقون الحي إلى المنهل- . و مقاوم العز دعائمه جمع مقوم- و أصلها الخشبة التي يمسكها الحراث- و حلبات الفخر جمع حلبة و هي الخيل تجمع للسباق- . و السوق بفتح الواو جمع سوقة و هو من دون الملك: سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ- فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ- وَ ضِمَاراً لَا يُوجَدُونَ- لَا يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ- وَ لَا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الْأَحْوَالِ- وَ لَا يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَ لَا يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ- غُيَّباً لَا يُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لَا يَحْضُرُونَ- وَ إِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا وَ أُلَّافاً فَافْتَرَقُوا- وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ- عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِيَارُهُمْ- وَ لَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً- وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً- فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ- جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ- بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ-

وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ- فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَ هُمْ جَمِيعٌ- وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ- لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَ لَا لِنَهَارٍ مَسَاءً- أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَعَلَيْهِمْ سَرْمَداً- شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا- وَ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا- فَكِلَا الْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ- إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَ الرَّجَاءِ- فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا- لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَايَنُوا- وَ لَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ- لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ- وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ- وَ تَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ- فَقَالُوا كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ وَ خَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ- وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى وَ تَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ- وَ تَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ وَ تَهَدَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ- فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا- وَ طَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا- وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً وَ لَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ- أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ- وَ قَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ- وَ اكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ- وَ تَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا-

وَ هَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا- وَ عَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا- وَ سَهَّلَ طُرُقَ الآْفَةِ إِلَيْهَا- مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ وَ لَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ- لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَ أَقْذَاءَ عُيُونٍ- لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ- وَ غَمْرَةٌ لَا تَنْجَلِي- فَكَمْ أَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ وَ أَنِيقِ لَوْنٍ- كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ وَ رَبِيبَ شَرَفٍ- يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ- وَ يَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ- ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ وَ شَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَ لَعِبِهِ فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ- فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ- وَ نَقَضَتِ الْأَيَّامُ قُوَاهُ- وَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ- فَخَالَطَهُ بَثٌّ لَا يَعْرِفُهُ وَ نَجِيُّ هَمٍ‏مَا كَانَ يَجِدُهُ- وَ تَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ- فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الْأَطِبَّاءُ- مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وَ تَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ- فَلَمْ يُطْفِئُ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً- وَ لَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً- وَ لَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ- إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ- حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ- وَ تَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ- وَ خَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلينَ عَنْهُ- وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ- فَقَائِلٌ هُوَ لِمَا بِهِ وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ- وَ مُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ- يُذَكِّرُهُمْ أَسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ- فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا- وَ تَرْكِ الْأَحِبَّةِ- إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ- فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَ يَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ- فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ- وَ دُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ- مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ- وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ- أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا هذا موضع المثل ملعا يا ظليم و إلا فالتخوية- من أراد أن يعظ و يخوف و يقرع صفاة القلب- و يعرف الناس قدر الدنيا و تصرفها بأهلها- فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح- و إلا فليمسك فإن السكوت أستر و العي خير من منطق يفضح صاحبه- و من تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه- و الله ما سن‏الفصاحة لقريش غيره- و ينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس- و تلى عليهم أن يسجدوا له- كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع-قلم أصاب من الدواة مدادها- . فلما قيل لهم في ذلك- قالوا إنا نعرف مواضع السجود في الشعر- كما تعرفون مواضع السجود في القرآن- .

و إني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام- يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود- و النمور و أمثالهما من السباع الضارية- ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة- بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان- لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحما و لم يريقوا دما- فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني- و عتيبة بن الحارث اليربوعي- و عامر بن الطفيل العامري- و تارة يكون في صورة سقراط الحبر اليوناني- و يوحنا المعمدان الإسرائيلي- و المسيح ابن مريم الإلهي- .

و أقسم بمن تقسم الأمم كلها به- لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة و إلى الآن- أكثر من ألف مرة- ما قرأتها قط إلا و أحدثت عندي روعة و خوفا و عظة- و أثرت في قلبي وجيبا و في أعضائي رعدة- و لا تأملتها إلا و ذكرت الموتى من أهلي و أقاربي- و أرباب ودي- و خيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف ع حاله- و كم قد قال الواعظون و الخطباء و الفصحاء في هذا المعنى- و كم وقفت على ما قالوه و تكرر وقوفي عليه- فلم أجد لشي‏ء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي- فإما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله- أو كانت نية القائل صالحة و يقينه كان ثابتا- و إخلاصه كان محضاخالصا- فكان تأثير قوله في النفوس أعظم- و سريان موعظته في القلوب أبلغ ثم نعود إلى تفسير الفصل- فالبرزخ الحاجز بين الشيئين- و البرزخ ما بين الدنيا و الآخرة من وقت الموت إلى البعث- فيجوز أن يكون البرزخ في هذا الموضع القبر- لأنه حاجز بين الميت و بين أهل الدنيا- كالحائط المبني بين اثنين فإنه برزخ بينهما- و يجوز أن يريد به- الوقت الذي بين حال الموت إلى حال النشور- و الأول أقرب إلى مراده ع- لأنه قال في بطون البرزخ- و لفظة البطون تدل على التفسير الأول- و لفظتا أكلت الأرض من لحومهم- و شربت من دمائهم مستعارتان- .
و الفجوات جمع فجوة و هي الفرجة المتسعة بين الشيئين- قال سبحانه وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ- و قد تفاجى الشي‏ء إذا صارت له فجوة- .

و جمادا لا ينمون- أي خرجوا عن صورة الحيوانية إلى صورة الجماد- الذي لا ينمي و لا يزيد- و يروى لا ينمون بتشديد الميم- من النميمة و هي الهمس و الحركة- و منه قولهم أسكت الله نامته- في قول من شدد و لم يهمز- . و ضمارا يقال لكل ما لا يرجى من الدين و الوعد- و كل ما لا تكون منه على ثقة ضمار- . ثم ذكر أن الأهوال الحادثة في الدنيا لا تفزعهم- و أن تنكر الأحوال بهم و بأهل الدنيا لا يحزنهم- و يروى تحزنهم على أن الماضي رباعي- . و مثله قوله لا يحفلون بالرواجف- أي لا يكترثون بالزلازل- .

قوله و لا يأذنون للقواصف- أي لا يسمعون الأصوات الشديدة أذنت لكذا أي سمعته- . و جمع الغائب غيب و غيب و كلاهما مروي هاهنا- و أراد أنهم شهود في الصورة و غير حاضرين في المعنى- . و ألاف على فعال جمع آلف كالطراق جمع طارق- و السمار جمع سامر و الكفار جمع كافر- . ثم ذكر أنه لم تعم أخبارهم- أي لم تستبهم أخبارهم و تنقطع عن بعد عهد بهم- و لا عن بعد منزل لهم- و إنما سقوا كأس المنون التي أخرستهم بعد النطق- و أصمتهم بعد السمع و أسكنتهم بعد الحركة- .

و قوله و بالسمع صمما أي لم يسمعوا فيها نداء المنادي- و لا نوح النائح أو لم يسمع في قبورهم صوت منهم- . قوله فكأنهم في ارتجال الصفة- أي إذا وصفهم الواصف مرتجلا غير مترو في الصفة- و لا متهيئ للقول- . قال كأنهم صرعى سبات و هو نوم- لأنه لا فرق في الصورة بين الميت حال موته و النائم المسبوت- . ثم وصفهم بأنهم جيران- إلا أنهم لا مؤانسة بينهم كجيران الدنيا- و أنهم أحباء إلا أنهم لا يتزاورون كالأحباب من أهل الدنيا- . و قوله أحباء جمع حبيب- كخليل و أخلاء و صديق و أصدقاء- . ثم ذكر أن عرا التعارف قد بليت منهم- و انقطعت بينهم أسباب الإخاء- و هذه كلها استعارات لطيفة مستحسنة- .

ثم وصفهم بصفة أخرى- فقال كل واحد منهم موصوف بالوحدة- و هم مع ذلك مجتمعون- بخلاف الأحياء الذين إذا انضم بعضهم إلى بعض- انتفى عنه وصف الوحدة- . ثم قال و بجانب الهجر و هم أخلاء- أي و كل منهم في جانب الهجر- و هم مع ذلك أهل خلة و مودة أي كانوا كذلك- و هذا كله من باب الصناعة المعنوية و المجاز الرشيق- . ثم قال إنهم لا يعرفون للنهار ليلا و لا لليل نهارا- و ذلك لأن الواحد من البشر- إذا مات نهارا لم يعرف لذلك النهار ليلا أبدا- و إن مات ليلا لم يعرف لذلك الليل صباحا أبدا- و قال الشاعر-

لا بد من يوم بلا ليلة
أو ليلة تأتي بلا يوم‏

 و ليس المراد بقوله- أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا- أنهم و هم موتى يشعرون بالوقت الذي ماتوا فيه- و لا يشعرون بما يتعقبه من الأوقات- بل المراد أن صورة ذلك الوقت لو بقيت عندهم لبقيت أبدا- من غير أن يزيلها وقت آخر يطرأ عليها- و يجوز أن يفسر على مذهب من قال ببقاء الأنفس- فيقال إن النفس التي تفارق ليلا- تبقى الصورة الليلية و الظلمة حاصلة عندها أبدا- لا تزول بطرآن نهار عليها لأنها قد فارقت الحواس- فلا سبيل لها- إلى أن يرتسم فيها شي‏ء من المحسوسات بعد المفارقة- و إنما حصل ما حصل من غير زيادة عليه- و كذلك الأنفس التي تفارق نهارا
بعض الأشعار و الحكايات في وصف القبور و الموتىو اعلم أن الناس قد قالوا في حال الموتى فأكثروا- فمن ذلك قول الرضي أبي الحسن رحمه الله تعالى-

أعزز علي بأن نزلت بمنزل
متشابه الأمجاد بالأوغاد

في عصبة جنبوا إلى آجالهم‏
و الدهر يعجلهم عن الإرواد

ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم
من غير أطناب و لا أعماد

ركب أناخوا لا يرجى منهم‏
قصد لإتهام و لا إنجاد

كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة
للدهر باركة بكل مفاد

فتهافتوا عن رحل كل مذلل‏
و تطاوحوا عن سرج كل جواد

بادون في صور الجميع
و إنهم متفردون تفرد الآحاد

 قوله بادون في صور الجميع- مأخوذ من قول أمير المؤمنين ع- فكلهم وحيد و هم جميع- . و قال أيضا-

و لقد حفظت له فأين حفاظه
و لقد وفيت له فأين وفاؤه‏

أوعى الدعاء فلم يجبه قطيعة
أم ضل عنه من البعاد دعاؤه‏

هيهات أصبح سمعه و عيانه
في الترب قد حجبتها أقذاؤه‏

يمسي و لين مهاده حصباؤه‏
فيه و مؤنس ليله ظلماؤه‏

قد قلبت أعيانه و تنكرت
أعلامه و تكسفت أضواؤه‏

مغف و ليس للذة إغفاؤه
مغض و ليس لفكرة إغضاؤه‏

وجه كلمع البرق غاض و ميضه‏
قلب كصدر العضب فل مضاؤه‏

حكم البلى فيه فلو تلقى
به أعداءه لرتى له أعداؤه‏

 و قال أبو العلاء-

أستغفر الله ما عندي لكم
خبر و ما خطابي إلا معشرا قبروا

أصبحتم في البلى غبرا ملابسكم‏
من الهباء فأين البرد و القطر

كنتم على كل خطب فادح صبرا
فهل شعرتم و قد جادتكم الصبر

و ما درى يوم أحد بالذين ثووا
فيه و لا يوم بدر أنهم نصروا

 و قال أبو عارم الكلابي-

أ جازعة ردينة أن أتاها
نعيي أم يكون لها اصطبار

إذا ما أهل قبري و دعوني‏
و راحوا و الأكف بها غبار

و غودر أعظمي في لحد
قبر تراوحه الجنائب و القطار

تهب الريح فوق محط قبري‏
و يرعى حوله اللهق النوار

مقيم لا يكلمه صديق
بقبر لا أزور و لا أزار

فذاك النأي لا الهجران حولا
و حولا ثم تجتمع الديار

 مر الإسكندر بمدينة- قد ملكها سبعة أملاك من بيت واحد و بادوا- فسأل هل بقي من نسلهم أحد- قالوا بقي واحد و هو يلزم المقابر- فدعا به فسأله لم تلزم المقابر- قال أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم- فوجدتها سواء- قال هل لك أن تلزمني حتى أنيلك بغيتك- قال لو علمت أنك تقدر على ذلك للزمتك- قال و ما بغيتك‏قال حياة لا موت معها- قال لن أقدر على ذلك- قال فدعني أطلبه ممن يقدر عليه- .قال النبي ص ما رأيت منظرا إلا و القبر أفظع منه
وقال ص القبر أول منزل من منازل الآخرة- فمن نجا منه فما بعده أيسر و من لم ينج فما بعده شر له- .

مر عبد الله بن عمر رضي الله عنه بمقبرة فصلى فيها ركعتين- و قال ذكرت أهل القبور و أنه حيل بينهم و بين هذا- فأحببت أن أتقرب بهما إلى اللهفإن قلت ما معنى قوله ع و بجانب الهجر- و أي فائدة في لفظة جانب في هذا الموضع- . قلت لأنهم يقولون فلان في جانب الهجر و في جانب القطيعة- و لا يقولون في جانب الوصل و في جانب المصافاة- و ذلك أن لفظة جنب في الأصل موضوعة للمباعدة- و منه قولهم الجار الجنب و هو جارك من قوم غرباء- يقال جنبت الرجل و أجنبته و تجنبته و تجانبته- كله بمعنى- و رجل أجنبي و أجنب و جنب و جانب كله بمعنى- .

قوله ع شاهدوا من أخطار دارهم- المعنى أنه شاهد المتقون من آثار الرحمة و أماراتها- و شاهد المجرمون من آثار النقمة و أماراتها عند الموت- و الحصول في القبر أعظم مما كانوا يسمعون و يظنون- أيام كونهم في الدنيا- . ثم قال فكلا الغايتين مدت لهم- المعنى مدت الغايتان غاية الشقي منهم و غاية السعيد- .إلى مباءة أي إلى منزل يعظم حاله عن أن يبلغه خوف خائف- أو رجاء راج- و تلك المباءة هي النار أو الجنة- و تقول قد استباء الرجل أي اتخذ مباءة- و أبأت الإبل رددتها إلى مباءتها و هي معاطنها- . ثم قال فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بتشديد الياء- قال الشاعر-

عيوا بأمرهم كما عيت
ببيضتها الحمامة

جعلت لها عودين من‏
نشم و آخر من ثمامة

و روي لعيوا بالتخفيف كما تقول حيوا- قالوا ذهبت الياء الثانية لالتقاء الساكنين- لأن الواو ساكنة و ضمت الياء الأولى لأجل الواو- قال الشاعر-

و كنا حسبناهم فوارس كهمس
حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا

 قوله لقد رجعت فيهم يقال رجع البصر نفسه- و رجع زيد بصره يتعدى و لا يتعدى- يقول تكلموا معنى لا صورة- فأدركت حالهم بالأبصار و الأسماع العقلية لا الحسية- و كلحت الوجوه كلوحا و كلاحا- و هو تكشر في عبوس- . و النواضر النواعم و النضرة الحسن و الرونق- . و خوت الأجساد النواعم- خلت من دمها و رطوبتها و حشوتها- و يجوز أن يكون خوت أي سقطت- قال تعالى فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها- و الأهدام جمع هدم و هو الثوب البالي- قال أوس-
و ذات هدم عار نواشرها تصمت بالماء تولبا جذعا- .

و تكاءدنا شق علينا و منه عقبة كئود- و يجوز تكأدنا- جاءت هذه الكلمة في أخوات لها تفعل و تفاعل بمعنى- و مثله تعهد الضيعة و تعاهدها- . و يقال قوله و توارثنا الوحشة- كأنه لما مات الأب فاستوحش أهله منه- ثم مات الابن فاستوحش منه أهله أيضا- صار كان الابن ورث تلك الوحشة من أبيه كما تورث الأموال- و هذا من باب الاستعارة- . قوله و تهدمت علينا الربوع- يقال تهدم فلان على فلان غضبا إذا اشتد غضبه- و يجوز أن يكون تهدمت أي تساقطت-

و روي و تهكمت بالكاف- و هو كقولك تهدمت بالتفسيرين جميعا- و يعني بالربوع الصموت القبور- و جعلها صموتا لأنه لا نطق فيها- كما تقول ليل قائم و نهار صائم أي يقام و يصام فيهما- و هذا كله على طريق الهز و التحريك- و إخراج الكلام في معرض غير المعرض المعهود- جعلهم لو كانوا ناطقين مخبرين عن أنفسهم- لأتوا بما وصفه من أحوالهم- و ورد في الحديث أن عمر حضر جنازة رجل- فلما دفن قال لأصحابه قفوا- ثم ضرب فأمعن في القبور- و استبطأه الناس جدا- ثم رجع و قد احمرت عيناه و انتفخت أوداجه- فقيل أبطأت يا أمير المؤمنين فما الذي حبسك-

قال أتيت قبور الأحبة فسلمت فلم يردوا علي السلام- فلما ذهبت أقفي ناداني التراب- فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت باليدين- قلت ما فعلت بهما- قال قطعت الكفين من الرسغين- و قطعت الرسغين من الذراعين- و قطعت الذراعين من المرفقين- و قطعت المرفقين من العضدين- و قطعت العضدين من المنكبين- و قطعت المنكبين من الكتفين- فلما ذهبت أقفي ناداني التراب- فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت بالأبدان و الرجلين- قلت ما فعلت قال قطعت الكتفين من الجنبين- و قطعت الجنبين من الصلب- و قطعت الصلب من الوركين- و قطعت الوركين من الفخذين- و قطعت الفخذين من الركبتين-و قطعت الركبتين من الساقين- و قطعت الساقين من القدمين- فلما ذهبت أقفي ناداني التراب- فقال يا عمر عليك بأكفان لا تبلى- فقلت و ما أكفان لا تبلى-

قال تقوى الله و العمل بطاعته- و هذا من الباب الذي نحن بصدده- نسب الأقوال المذكورة إلى التراب و هو جماد- و لم يكن ذلك- و لكنه اعتبر فانقدحت في نفسه هذه المواعظ الحكمية- فأفرغها في قالب الحكاية- و رتبها على قانون المسألة و الإجابة- و أضافها إلى جماد موات- لأنه أهز لسامعها إلى تدبرها- و لو قال نظرت فاعتبرت في حال الموتى- فوجدت التراب قد قطع كذا من كذا- لم تبلغ عظته المبلغ الذي بلغته- حيث أودعها في الصورة التي اخترعها- . قوله ع- فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك- إلى آخر جواب لو- هذا الكلام أخذه ابن نباته بعينه- فقال فلو كشفتم عنهم أغطية الأجداث- بعد ليلتين أو ثلاث- لوجدتم الأحداق على الخدود سائلة- و الألوان من ضيق اللحود حائلة- و هوام الأرض في نواعم الأبدان جائلة- و الرءوس الموسدة على الأيمان زائلة- ينكرها من كان لها عارفا- و يفر عنها من لم يزل لها آنفا- .

قوله ع ارتسخت أسماعهم- ليس معناه ثبتت كما زعمه الراوندي- لأنها لم تثبت و إنما ثبتت الهوام فيها- بل الصحيح أنه من رسخ الغدير إذا نش ماؤه و نضب- و يقال قد ارتسخت الأرض بالمطر- إذا ابتلعته حتى يلتقي الثريان- . و استكت أي ضاقت و انسدت- قال النابغة-و نبئت خير الناس أنك لمتني و تلك التي تستك منها المسامع‏- .

قوله و اكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت- أي غارت و ذهبت في الرأس- و أخذ المتنبي قوله و اكتحلت أبصارهم بالتراب فقال-

يدفن بعضنا بعضا و يمشي
أواخرنا على هام الأوالي‏

و كم عين مقبلة النواحي‏
كحيل بالجنادل و الرمال‏

و مغض كان لا يغضي لخطب
و بال كان يفكر في الهزال‏

و ذلاقة الألسن حدتها- ذلق اللسان و السنان يذلق ذلقا- أي ذرب فهو ذلق و أذلق- . و همدت بالفتح سكنت و خمدت و عاث أفسد- و قوله جديد بلى من فن البديع- لأن الجدة ضد البلى- و قد أخذ الشاعر هذه اللفظة فقال-يا دار غادرني جديد بلاك رث الجديد فهل رثيث لذاك‏ و سمجها قبح صورتها- و قد سمج الشي‏ء بالضم فهو سمج بالسكون- ثم ضخم فهو ضخم- و يجوز فهو سمج بالكسر مثل خشن فهو خشن- .

قوله و سهل طرق الآفة إليها- و ذلك أنه إذا استولى العنصر الترابي على الأعضاء- قوي استعدادها للاستحالة من صورتها الأولى إلى غيرها- . و مستسلمات أي منقادة طائعة غير عاصية- فليس لها أيد تدفع عنها- و لا لها قلوب تجزع و تحزن لما نزل بها- . و الأشجان جمع شجن و هو الحزن- . و الأقذاء جمع قذى و هو ما يسقط في العين فيؤذيها- .

قوله صفة حال لا تنتقل- أي لا تنتقل إلى حسن و صلاح- و ليس يريد لا تنتقل مطلقا- لأنها تنتقل إلى فساد و اضمحلال- . و رجل عزيز أي حدث- و عزيز الجسد أي طري- و أنيق اللون معجب اللون- و غذي ترف قذ غذي بالترف و هو التنعم المطغي- . و ربيب شرف أي قد ربي في الشرف و العز- و يقال رب فلان ولده يربه ربا- و رباه يربيه تربية- . و يتعلل بالسرور يتلهى به عن غيره- و يفزع إلى السلوة يلتجئ إليها- و ضنا أي بخلا و غضارة العيش نعيمه و لينه- . و شحاحة أي بخلا شححت بالكسر أشح- و شححت أيضا بالفتح- أشح و أشح بالضم و الكسر شحا و شحاحة- و رجل شحيح و شحاح بالفتح- و قوم شحاح و أشحة- .

و يضحك إلى الدنيا و تضحك إليه- كناية عن الفرح بالعمر و العيشة- و كذا كل واحد منهما يضحك إلى صاحبه لشدة الصفاء- كأن الدنيا تحبه و هو يحبها- . و عيش غفول قد غفل عن صاحبه- فهو مستغرق في العيش لم ينتبه له الدهر- فيكدر عليه وقته- قال الشاعر-

و كان المرء في غفلات عيش
كأن الدهر عنها في وثاق‏

و قال الآخر-

ألا إن أحلى العيش ما سمحت
به صروف الليالي و الحوادث نوم‏

 قوله إذ وطئ الدهر به حسكة- أي إذ أوطأه الدهر حسكة- و الهاء في حسكة ترجع إلى الدهر- عدي الفعل بحرف الجر- كما تقول قام زيد بعمرو أي أقامه- .و قواه جمع قوة و هي المرة من مرائر الحبل- و هذا الكلام استعارة- . و من كثب من قرب و البث الحزن- و البث أيضا الأمر الباطن الدخيل- . و نجي الهم ما يناجيك و يسارك- و الفترات أوائل المرض- .

و آنس ما كان بصحته منصوب على الحال- و قال الراوندي في الشرح- هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما- ثم ذكر أن العامل في الحال فترات- قال تقديره فترات آنس ما كان- و ما ذكره الراوندي فاسد- فإنه ليس هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما- لأن ذلك حال سد مسد خبر المبتدإ- و ليس هاهنا مبتدأ- و أيضا فليس العامل في الحال فترات و لا فتر- بل العامل تولدت- و القار البارد- .

فإن قلت لم قال تسكين الحار بالقار- و تحريك البارد بالحار- و لأي معنى جعل الأول التسكين و الثاني التحريك- قلت لأن من شأن الحرارة التهييج و التثوير- فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة التسكين- و من شأن البرودة التخدير و التجميد- فاستعمل في قهرها بالحار لفظة التحريك- . قوله و لا اعتدل بممازج لتلك الطبائع- إلا أمد منها كل ذات داء- أي و لا استعمل دواء مفردا معتدل المزاج- أو مركبا كذلك- إلا و أمد كل طبيعة منها ذات مرض بمرض زائد على الأول- . و ينبغي أن يكون قوله و لا اعتدل بممازج- أي و لا رام الاعتدال لممتزج- لأنه لو حصل له الاعتدال لكان قد برئ من مرضه- فسمي محاولة الاعتدال اعتدالا- لأنه بالاستدلال المعتدلات قد تهيأ للاعتدال- فكان قد اعتدل بالقوة- . و ينبغي أيضا أن يكون قد حذف مفعول أمد- و تقديره بمرض كما قدرناه نحن- و حذف المفعولات كثير واسع- .

قوله حتى فتر معلله- لأن معللي المرض في أوائل المرض يكون عندهم نشاط- لأنهم يرجون البرء- فإذا رأوا أمارات الهلاك فترت همتهم- . قوله و ذهل ممرضه ذهل بالفتح و هذا كالأول- لأن الممرض إذا أعيا عليه المرض- و انسدت عليه أبواب التدبير يذهل- . قوله و تعايا أهله بصفة دائه- أي تعاطوا العي و تساكتوا إذا سئلوا عنه- و هذه عادة أهل المريض المثقل يجمجمون إذا سئلوا عن حاله- .

قوله و تنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه- أي تخاصموا في خبر ذي شجى- أي خبر ذي غصة يتنازعونه و هم حول المريض سترا دونه- و هو لا يعلم بنجواهم و بما يفيضون فيه من أمره- . فقائل منهم هو لمآبه أي قد أشفى على الموت- و آخر يمنيهم إياب عافيته أي عودها- آب فلان إلى أهله أي عاد- . و آخر يقول قد رأينا مثل هذا- و من بلغ إلى أعظم من هذا ثم عوفي- فيمني أهله عود عافيته- . و آخر يصبر أهله على فقده- و يذكر فضيلة الصبر و ينهاهم عن الجزع- و يروي لهم أخبار الماضين- . و أسى أهليهم و الأسى جمع أسوة- و هو ما يتأسى به الإنسان- قالت الخنساء-
و ما يبكون مثل أخي و لكن أسلي النفس عنه بالتأسي‏- . قوله على جناح من فراق الدنيا أي سرعان ما يفارقها- لأن من كان على جناح طائر فأوشك به أن يسقط- .

قوله إذ عرض له عارض يعني الموت- و من غصصه جمع غصة- و هو ما يعترض مجرى الأنفاس- و يقال إن كل ميت من الحيوان لا يموت إلا خنقا- و ذلك لأنه من النفس يدخل- فلا يخرج عوضه أو يخرج فلا يدخل عوضه- و يلزم من ذلك الاختناق- لأن الرئة لا تبقى حينئذ مروحة للقلب- و إذا لم تروحه اختنق- . قوله فتحيرت نوافذ فطنته- أي تلك الفطنة النافذة الثاقبة تحيرت عند الموت و تبلدت- .

قوله و يبست رطوبة لسانه- لأن الرطوبة اللعابية التي بها يكون الذوق تنشف حينئذ- و يبطل الإحساس باللسان تبعا لسقوط القوة- . قوله فكم من مهم من جوابه عرفه فعي عن رده- نحو أن يكون له مال مدفون- يسأل عنه حال ما يكون محتضرا- فيحاول أن يعرف أهله به فلا يستطيع- و يعجز عن رد جوابهم- و قد رأينا من عجز عن الكلام فأشار إشارة فهموا معناها- و هي الدواة و الكاغذ- فلما حضر ذلك أخذ القلم و كتب في الكاغذ ما لم يفهم- و يده ترعد ثم مات قوله و دعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه- أظهر الصمم لأنه لا حيلة له- . ثم وصف ذلك الدعاء فقال من كبير كان يعظمه- نحو صراخ الوالد على الولد- و الولد يسمع و لا يستطيع الكلام- و صغير كان يرحمه نحو صراخ الولد على الوالد- و هو يسمع و لا قدرة له على جوابه- .

ثم ذكر غمرات الدنيا فقال- إنها أفظع من أن تحيط الصفات بها و تستغرقها- أي تأتي على كنهها و تعبر عن حقائقها- . قوله أو تعتدل على عقول أهل الدنيا- هذا كلام لطيف فصيح غامض- و معناه‏أن غمرات الموت و أهواله عظيمة جدا- لا تستقيم على العقول و لا تقبلها- إذا شرحت لها و وصفت كما هي على الحقيقة- بل تنبو عنها و لا نصدق بما يقال فيها- فعبر عن عدم استقامتها على العقول بقوله أو يعتدل- كأنه جعلها كالشي‏ء المعوج عند العقل- فهو غير مصدق به
إيراد أشعار و حكايات في وصف الموت و أحوال الموتى و مما يناسب ما ذكر من حال الإنسان قول الشاعر-

بينا الفتى مرح الخطا فرحا
بما يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى‏

إذ قيل بات بليلة ما نامها
إذ قيل أصبح مثقلا ما يرتجى‏

إذ قيل أمسى شاخصا و موجها
إذ قيل فارقهم و حل به الردى‏

 و قال أبو النجم العجلي-

و المرء كالحالم في المنام
يقول إني مدرك أمامي‏

في قابل ما فاتني في العام‏
و المرء يدنيه إلى الحمام‏

مر الليالي السود و الأيام
إن الفتى يصبح للأسقام‏

كالغرض المنصوب للسهام‏
أخطأ رام و أصاب رام‏

 و قال عمران بن حطان-

أ في كل عام مرضة ثم نقهة
و ينعى و لا ينعى متى ذا إلى متى‏

و لا بد من يوم يجي‏ء و ليلة
يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا

 وجاء في الحديث أن رسول الله ص مر بمقبرة فنادى- يا أهل القبور الموحشة و الربوع المعطلة- أ لا أخبركم بما حدث بعدكم- تزوج نساؤكم و تبوئت مساكنكم- و قسمت أموالكم- هل أنتم مخبرون بما عاينتم- ثم قال ألا إنهم لو أذن لهم في الجواب- لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى- . و نظر الحسن إلى رجل يجود بنفسه- فقال إن أمرا هذا آخره- لجدير أن يزهد في أوله- و إن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف آخره- . و قال عبده بن الطبيب- و يعجبني قوله على الحال التي كان عليها- فإنه كان أسود لصا من لصوص بني سعد بن زيد مناه بن تميم- .

و لقد علمت بأن قصري حفرة
غبراء يحملني إليها شرجع‏

فبكى بناتي شجوهن و زوجتي‏
و الأقربون إلي ثم تصدعوا

و تركت في غبراء يكره وردها
تسفي على الريح ثم أودع‏

أن الحوادث يخترمن و إنما
عمر الفتى في أهله مستودع‏

 و نظير هذه الأبيات في رويها و عروضها- قول متمم بن نويرة اليربوعي-

و لقد علمت و لا محالة أنني
للحادثات فهل تريني أجزع‏

أهلكن عادا ثم آل محرق‏
فتركنهم بلدا و ما قد جمعوا

و لهن كان الحارثان كلاهما
و لهن كان أخو المصانع تبع‏

فعددت آبائي إلى عرق الثرى‏
فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا

ذهبوا فلم أدركهم ودعتهم
غول أتوها و الطريق المهيع‏

لا بد من تلف مصيب فانتظر
أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع‏

و ليأتين عليك يوم مرة يبكى
عليك مقنعا لا تسمع‏

 لما فتح خالد بن الوليد عين التمر- سال عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر- فدل عليها فأتاها و كانت عمياء- فسألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس- ما شي‏ء يدب تحت الخورنق إلا تحت أيدينا- ثم غربت و قد رحمنا كل من يدور به- و ما بيت دخلته حبرة إلا دخلته عبرة- ثم قالت-

و بينا نسوس الناس و الأمر
أمرنا إذا نحن فيه سوقة نتنصف‏

فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا و تصرف‏

فقال قائل ممن كان حول خالد- قاتل الله عدي بن زيد لكأنه ينظر إليها حين يقول-

إن للدهر صرعة فاحذرنها
لا تبيتن قد أمنت الدهورا

قد يبيت الفتى معافى فيردى‏
و لقد كان آمنا مسرورا

دخل عبد الله بن العباس على عبد الملك بن مروان يوم قر- و هو على فرش‏يكاد يغيب فيها- فقال يا ابن عباس إني لأحسب اليوم باردا قال أجل- و إن ابن هند عاش في مثل ما ترى عشرين أميرا- و عشرين خليفة- ثم هو ذاك على قبره ثمامة تهتز- . فيقال إن عبد الملك أرسل إلى قبر معاوية- فوجد عليه ثمامة نابتة- . كان محمد بن عبد الله بن طاهر في قصره ببغداد على دجلة- فإذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة على رأسها رقعة- فأمر بها فوجد هذا-

تاه الأعيرج و استولى به البطر
فقل له خير ما استعملته الحذر

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت‏
و لم تخف سوء ما يأتي به القدر

و سالمتك الليالي فاغتررت
بها و عند صفو الليالي يحدث الكدر

فلم ينتفع بنفسه أياما- . عدي بن زيد-

أيها الشامت المعير
بالدهر أ أنت المبرأ الموفور

أم لديك العهد الوثيق من الأيام‏
بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون خلدن أم
من ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كسرى الملوك أنو شروان‏
أم أين قبله سابور

و بنو الأصفر الكرام ملوك الروم
و لم يبق منهم مذكور

و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجلة
تجبى إليه و الخابور

لم يهبه ريب المنون فباد
الملك عنه فبابه مهجور

شاده مرمرا و جلله كلسا
فللطير في ذراه وكور

و تبين رب الخورنق إذ أشرف‏
يوما و للهدى تفكير

سره حاله و كثرة ما يملك
و البحر معرضا و السدير

فارعوى قلبه و قال فما غبطة
حي إلى الممات يصير

ثم بعد الفلاح و الملك
و الأمة وارتهم هناك القبور

ثم أضحوا كأنهم ورق جف‏
فألوت به الصبا و الدبور

قد اتفق الناس على أن هذه الأبيات- أحسن ما قيل من القريض في هذا المعنى- و أن الشعراء كلهم أخذوا منها- و احتذوا في هذا المعنى حذوها- . و قال الرضي أبو الحسن رضي الله عنه-

انظر إلى هذا الأنام بعبرة
لا يعجنك خلقه و رواؤه‏

فتراه كالورق النضير تقصفت‏
أغصانه و تسلبت شجراؤه‏

أني تحاماه المنون و
إنما خلقت مراعي للردى خضراؤه‏

أم كيف تأمل فلتة أجساده‏
من ذا الزمان و حشوها أدواؤه‏

لا تعجبن فما العجيب فناؤه
بيد المنون بل العجيب بقاؤه‏

إنا لنعجب كيف حم حمامه‏
عن صحة و يغيب عنا داؤه‏

من طاح في سبل الردى آباؤه
فليسلكن طريقهم أبناؤه‏

و مؤمر نزلوا به في سوقة
لا شكله فيهم و لا نظراؤه‏

قد كان يفرق ظله أقرانه
و يغض دون جلاله أكفاؤه‏

و محجب ضربت عليه مهابة
يعشي العيون بهاؤه و ضياؤه‏

نادته من خلف الحجاب منية
أمم فكان جوابها حوباؤه‏

شقت إليه سيوفه و رماحه‏
و أميط عنه عبيده و إماؤه‏

لم يغنه من كان ود لو أنه
قبل المنون من المنون فداؤه‏

حرم عليه الذل إلا أنه‏
أبدا ليشهد بالجلال بناؤه‏

متخشع بعد الأنيس جنابه
متضائل بعد القطين فناؤه‏

عريان تطرد كل ريح تربه‏
و يطيع أول أمرها حصباؤه‏

و لقد مررت ببرزخ فسألته
أين الألى ضمتهم أرجاؤه‏

مثل المطي بواركا أجداثه‏
تسفي على جنباتها بوغاؤه‏

ناديته فخفى علي جوابه
بالقول إلا ما زقت أصداؤه‏

من ناظر مطروفه ألحاظه
أو خاطر مظلولة سوداؤه‏

أو واجد مكظومة زفراته‏
أو حاقد منسية شحناؤه‏

و مسندين على الجنوب
كأنهم شرب تخاذل بالطلا أعضاؤه‏

تحت الصعيد لغير إشفاق إلى‏
يوم المعاد يضمهم أحشاؤه‏

أكلتهم الأرض التي ولدتهم
أكل الضروس حلت له أكلاؤه‏

و قال أيضا-

و تفرق البعداء بعد تجمع
صعب فكيف تفرق القرباء

و خلائق الدنيا خلائق مومس‏
للمنع آونة و للإعطاء

طورا تبادلك الصفاء و تارة
تلقاك تنكرها من البغضاء

و تداول الأيام يبلينا كما
يبلي الرشاء تطاوح الأرجاء

و كان طول العمر روحة راكب
قضى اللغوب و جد في الإسراء

لهفي على القوم الأولى غادرتهم‏
و عليهم طبق من البيداء

متوسدين على الخدود كأنما
كرعوا على ظمإ من الصهباء

صور ضننت على العيون بلحظها
أمسيت أوقرها من البوغاء

و نواظر كحل التراب جفونها
قد كنت أحرسها من الأقذاء

قربت ضرائحهم على زوارها
و نأوا عن الطلاب أي تناء

و لبئس ما يلقى بعقر ديارهم
أذن المصيخ بها و عين الرائي‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 215 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(جهاد)

215 و من كلام له ع يحث فيه أصحابه على الجهاد

وَ اللَّهُ مُسْتَأْدِيكُمْ شُكْرَهُ وَ مُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ- وَ مُمْهِلُكُمْ فِي مِضْمَارٍ مَمْدُودٍ لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ- فَشُدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ وَ اطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ- لَا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَ وَلِيمَةٌ- مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ- وَ أَمْحَى الظُّلَمَ لِتَذَاكِيرِ الْهِمَمِ مستأديكم شكره- أي طالب منكم أداء ذلك و القيام به- استأديت ديني عند فلان أي طلبته- .

و قوله و مورثكم أمره- أي سيرجع أمر الدولة إليكم و يزول أمر بني أمية- . ثم شبه الآجال التي ضربت للمكلفين- ليقوموا فيها بالواجبات و يتسابقوا فيها إلى الخيرات- بالمضمار الممدود لخيل تتنازع فيه السبق- . ثم قال فشدوا عقد المآزر- أي شمروا عن ساق الاجتهاد- و يقال لمن يوصى بالجد و التشمير اشدد عقدة إزارك- لأنه إذا شدها كان أبعد عن العثار و أسرع للمشي- . قوله و اطووا فضول الخواصر نهى عن كثرة الأكل- لأن الكثير الأكل لا يطوي فضول خواصره لامتلائها- و القليل الأكل يأكل في بعضها و يطوي بعضها- قال الشاعر-

كلوا في بعض بطنكم و عفوا
فإن زمانكم زمن خميص‏

و قال أعشى باهلة-

طاوي المصير على العزاء منصلت
بالقوم ليلة لا ماء و لا شجر

و قال الشنفري-

و أطوي على الخمص الحوايا كما
انطوت خيوطة ماري تغار و تفتل‏

ثم أتى ع بثلاثة أمثال مخترعة له لم يسبق بها- و إن كان قد سبق بمعناها- و هي قوله لا تجتمع عزيمة و وليمة- و قوله ما أنقض النوم لعزائم اليوم- و قوله و أمحى الظلم لتذاكير الهمم- . فمما جاء للمحدثين من ذلك- ما كتبه بعض الكتاب إلى ولده-

خدمة السلطان والكا
سات في أيدي الملاح‏

ليس يلتامان فاطلب‏
رفعة أو شرب راح‏

و مثله قول آخر لولده-

ما للمطيع هواه
من الملام ملاذ

فاختر لنفسك هذا
مجد و هذا التذاذ

و قال آخر-

و ليس فتى الفتيان من راح و اغتدى
لشرب صبوح أو لشرب غبوق‏

و لكن فتى الفتيان من راح
و اغتدى‏لضر عدو أو لنفع صديق‏

و هذا كثير جدا يناسب قوله لا تجتمع عزيمة و وليمة- و مثل قوله ما أنقض النوم لعزائم اليوم- قول الشاعر-

فتى لا ينام على عزمه
و من صمم العزم لم يرقد

و قوله و أمحى الظلم لتذاكير الهمم- أي الظلم التي ينام فيها لا كل الظلم- أ لا ترى أنه إذا لم ينم في الظلمة- بل كان عنده من شدة العزم- و قوة التصميم ما لا ينام معه- فإن الظلمة لا تمحو تذاكير هممه- و التذاكير جمع تذكار- . و المثلان الأولان أحسن من الثالث- و كان الثالث من تتمة الثاني- و قد قالت العرب في الجاهلية هذا المعنى- و جاء في القرآن العزيز- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ- وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ- مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا- حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ- مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ- . و هذا مثل قوله لا تجتمع عزيمة و وليمة- أي لا يجتمع لكم دخول الجنة و الدعة- و القعود عن مشقة الحرب

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 214 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

214 و من كلام له ع

قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَ أَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ- وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ- فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَ سَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ- وَ تَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلَامَةِ وَ دَارِ الْإِقَامَةِ- وَ ثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَ الرَّاحَةِ- بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَ أَرْضَى رَبَّهُ يصف العارف- يقول قد أحيا قلبه بمعرفة الحق سبحانه- و أمات نفسه بالمجاهدة و رياضة القوة البدنية بالجوع و العطش- و السهر و الصبر على مشاق السفر و السياحة- . حتى دق جليله أي حتى نحل بدنه الكثيف- . و لطف غليظه تلطفت أخلاقه و صفت نفسه- فإن كدر النفس في الأكثر إنما يكون من كدر الجسد- و البطنة كما قيل تذهب الفطنة

فصل في مجاهدة النفوس و ما ورد في ذلك من الآثار

و تقول أرباب هذه الطريقة- من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة- لم يجد من هذه الطريقة شمة- .و قال عثمان المغربي الصوفي- من ظن أنه يفتح عليه شي‏ء من هذه الطريقة- أو يكشف له عن سر من أسرارها من غير لزوم المجاهدة- فهو غالط- . و قال أبو علي الدقاق- من لم يكن في بدايته قومة لم يكن في نهايته جلسة- . و من كلامهم الحركة بركة- حركات الظواهر توجب بركات السرائر- . و من كلامهم- من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة- . و قال الحسن الفرازيني هذا الأمر على ثلاثة أشياء- ألا تأكل إلا عند الفاقة- و لا تنام إلا عند الغلبة و لا تتكلم إلا عند الضرورة- .

و قال إبراهيم بن أدهم- لن ينال الرجل درجة الصالحين- حتى يغلق عن نفسه باب النعمة- و يفتح عليها باب الشدة- . و من كلامهم من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه- . و قال أبو علي الروذباري- إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع- فألزموه السوق و مروه بالكسب- . و قال حبيب بن أوس أبو تمام و هو يقصد غير ما نحن فيه- و لكنه يصلح أن يستعمل فيما نحن فيه-

خذي عبرات عينك عن زماعي
و صوني ما أزلت من القناع‏

أقلي قد أضاق بكاك ذرعي‏
و ما ضاقت بنازله ذراعي‏

أ آلفة النحيب كم افتراق
أظل فكان داعية اجتماع‏

فليست فرحة الأوبات
إلا لموقوف على ترح الوداع‏

تعجب أن رأت جسمي نحيلا
كان المجد يدرك بالصراع‏

أخو النكبات من يأوي
إذا ما أطفن به إلى خلق وساع‏

يثير عجاجة في كل فج‏
يهيم به عدي بن الرقاع‏

أبن مع السباع الماء
حتى لخالته السباع من السباع‏

و قال أيضا-

فاطلب هدوءا بالتقلقل و استثر
بالعيس من تحت السهاد هجودا

ما أن ترى الأحساب بيضا وضحا
إلا بحيث ترى المنايا سودا

وجاء في الحديث أن فاطمة جاءت إلى رسول الله ص بكسرة خبز- فقال ما هذه قالت قرص خبزته- فلم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة- فأكلها- و قال أما إنها لأول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث- . و كان يقال ينابيع الحكمة من الجوع- و كسر عادية النفس بالمجاهدة- .

و قال يحيى بن معاذ- لو أن الجوع يباع في السوق- لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره- . و قال سهل بن عبد الله- لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية و الجهل- و جعل في الجوع الطاعة و الحكمة- . و قال يحيى بن معاذ- الجوع للمريدين رياضة و للتائبين تجربة- و للزهاد سياسة و للعارفين تكرمة- . و قال أبو سلمان الداراني- مفتاح الدنيا الشبع و مفتاح الآخرة الجوع- . و قال بعضهم- أدب الجوع ألا ينقص من عادتك إلا مثل أذن السنور- هكذا على التدريج حتى تصل إلى ما تريد- .

و يقال إن أبا تراب النخشبي خرج من البصرة إلى مكة- فوصل إليها على أكلتين أكلة بالنباج و أكلة بذات عرق- . قالوا و كان سهل بن عبد الله التستري إذا جاع قوي- و إذا أكل ضعف- . و كان منهم من يأكل كل أربعين يوما أكلة واحدة- و منهم من يأكل كل ثمانين يوما أكلة واحدة- . قالوا و اشتهى أبو الخير العسقلاني السمك سنين كثيرة- ثم تهيأ له أكله من وجه حلال- فلما مد يده ليأكل- أصابت إصبعه شوكة من شوك السمك- فقام و ترك الأكل- و قال يا رب هذا لمن مد يده بشهوة إلى الحلال- فكيف بمن مد يده بشهوة إلى الحرام- . و في الكتاب العزيز- وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏- فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏- فالجملة الأولى هي التقوى و الثانية هي المجاهدة- .

وقال النبي ص أخوف ما أخاف على أمتي اتباع الهوى و طول الأمل- أما اتباع الهوى فيصد عن الحق- و أما طول الأمل فينسي الآخرة
– . و سئل بعض الصوفية عن المجاهدة- فقال ذبح النفس بسيوف المخالفة- . و قال من نجمت طوارق نفسه أفلت شوارق أنسه- . و قال إبراهيم بن شيبان- ما بت تحت سقف و لا في موضع عليه غلق أربعين سنة- و كنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس فلم يتفق- ثم جملت إلي و أنا بالشام غضارة فيها عدسية- فتناولت منها و خرجت- فرأيت قوارير معلقة فيها شبه أنموذجات فظننتها خلا- فقال بعض الناس- أ تنظر إلى هذه و تظنها خلا و إنما هي خمر- و هي أنموذجات هذه الدنان لدنان هناك- فقلت قد لزمني فرض الإنكار- فدخلت حانوت ذلك الخمار لأكسر الدنان و الجرار- فحملت إلى ابن طولون فأمر بضربي مائتي خشبة- و طرحي في السجن فبقيت مدة- حتى دخل أبو عبد الله الوباني المغربي أستاذ ذلك البلد- فعلم أني محبوس فشفع في فأخرجت إليه- فلما وقع بصره علي قال أي شي‏ء فعلت- فقلت شبعة عدس و مائتي خشبة- فقال لقد نجوت مجانا- .

و قال إبراهيم الخواص- كنت في جبل فرأيت رمانا فاشتهيته- فدنوت فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة- فمضيت و تركت الرمان- فرأيت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير- فسلمت عليه فرد علي باسمي- فقلت كيف عرفتني قال من عرف الله لم يخف عليه شي‏ء- فقلت له أرى لك حالا مع الله- فلو سألته أن يحميك و يقيك من أذى هذه الزنابير- فقال و أرى لك حالا مع الله- فلو سألته أن يقيك من شهوة الرمان- فإن لذع الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة- و لذع الزنابيريجد الإنسان ألمه في الدنيا- فتركته و مضيت على وجهي- .

و قال يوسف بن أسباط- لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج- أو شوق مقلق- . و قال الخواص- من ترك شهوة فلم يجد عوضها في قلبه فهو كاذب في تركها- . و قال أبو علي الرباطي صحت عبد الله المروزي- و كان يدخل البادية قبل أن أصحبه بلا زاد- فلما صحبته قال لي أيما أحب إليك- تكون أنت الأمير أم أنا قلت بل أنت- فقال و عليك الطاعة قلت نعم- فأخذ مخلاة و وضع فيها زادا و حملها على ظهره- فكنت إذا قلت له أعطني حتى أحملها- قال الأمير أنا و عليك الطاعة- قال فأخذنا المطر ليلة- فوقف إلى الصباح على رأسي و عليه كساء يمنع عني المطر- فكنت أقول في نفسي يا ليتني مت و لم أقل له أنت الأمير- ثم قال لي إذا صحبت إنسانا فاصحبه كما رأيتني صحبتك- . أبو الطيب المتنبي-

ذريني أنل ما لا ينال من العلا فصعب
العلا في الصعب و السهل في السهل‏

تريدين إدراك المعالي رخيصة
و لا بد دون الشهد من إبر النحل‏

 و له أيضا-

و إذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام‏

و من أمثال العامة- من لم يغل دماغه في الصيف لم تغل قدره في الشتاء- . من لم يركب الأخطار لم ينل الأوطار- .إدراك السول و بلوغ المأمول بالصبر على الجوع- و فقد الهجوع و سيلان الدموع و اعلم أن تقليل المأكول لا ريب في أنه نافع- للنفس و الأخلاق- و التجربة قد دلت عليه- لأنا نرى المكثر من الأكل- يغلبه النوم و الكسل و بلادة الحواس- و تتبخر المأكولات الكثيرة أبخرة كثيرة- فتتصاعد إلى الدماغ فتفسد القوى النفسانية- و أيضا فإن كثرة المأكل تزيل الرقة- و تورث القساوة و السبعية و القياس أيضا يقتضي ذلك- و لأن كثرة المزاولات سبب لحصول الملكات- فالنفس إذا توفرت على تدبير الغذاء و تصريفه- كان ذلك شغلا شاغلا لها- و عائقا عظيما عن انصبابها إلى الجهة الروحانية العالية- و لكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد- يوجب جوعا قليلا- فإن الجوع المفرط- يورث ضعف الأعضاء الرئيسة و اضطرابها- و اختلال قواها- و ذلك يقتضي تشويش النفس و اضطراب الفكر- و اختلال العقل- و لذلك تعرض الأخلاط السوداوية- لمن أفرط عليه الجوع- فإذن لا بد من إصلاح أمر الغذاء- بأن يكون قليل الكمية كثير الكيفية- فتؤثر قلة كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم- عن التوجه إلى الجهة العالية الروحانية- و تؤثر كثرة كيفيته- في تدارك الخلل الحاصل له من قلة الكمية- و يجب أن يكون الغذاء شديد الإمداد للأعضاء الرئيسة- لأنها هي المهمة من أعضاء البدن- و ما دامت باقية على كمال حالها- لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء

فصل في الرياضة النفسية و أقسامها

و اعلم أن الرياضة و الجوع هي أمر يحتاج إليه المريد- الذي هو بعد في طريق السلوك إلى الله- . و ينقسم طالبوا هذا الأمر الجليل الشاق إلى أقسام أربعة-

أحدها الذين مارسوا العلوم الإلهية- و أجهدوا أنفسهم في طلبها و الوصول إلى كنهها- بالنظر الدقيق في الزمان الطويل- فهو لا يحصل لهم شوق شديد- و ميل عظيم إلى الجهة العالية الشريفة- فيحملهم حب الكمال على الرياضة- .

و ثانيها الأنفس التي هي بأصل الفطرة و الجوهر- مائلة إلى الروحانية من غير ممارسة علم- و لا دربة بنظر و بحث- و قد رأينا مثلهم كثيرا- و شاهدنا قوما من العامة متى سنح لهم سانح مشوق- مثل صوت مطرب أو إنشاد بيت يقع في النفس- أو سماع كلمة توافق أمرا في بواطنهم- فإنه يستولي عليهم الوجد و يشتد الحنين- و تغشاهم غواش لطيفة روحانية- يغيبون بها عن المحسوسات و الجسمانيات- .

و ثالثها نفوس حصل لها الأمران معا- الاستعداد الأصلي و الاشتغال بالعلوم النظرية الإلهية- .

و رابعها النفوس التي لا استعداد لها في الأصل- و لا ارتاضت بالعلوم الإلهية- و لكنهم قوم سمعوا كمال هذه الطريقة- و أن السعادة الإنسانية  ليست إلا بالوصول إليها- فمالت نحوها و حصل لها اعتقاد فيها- . فهذه أقسام المريدين- و الرياضة التي تليق بكل واحد من هذه الأقسام- غير الرياضة اللائقة بالقسم الآخر- .

و نحتاج قبل الخوض في ذلك إلى تقديم أمرين- أحدهما أن النفحات الإلهية دائمة مستمرة- و أنه كل من توصل إليها وصل- قال سبحانه و تعالى- وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقال النبي ص إن لربكم في أيام عصركم نفحات- ألا فتعرضوا لنفحاته- . و ثانيهما أن النفوس البشرية في الأكثر مختلفة بالنوع- فقد تكون بعض النفوس مستعدة- غاية الاستعداد لهذا المطلب- و ربما لم تكن البتة مستعدة له- و بين هذين الطرفين أوساط مختلفة بالضعف و القوة- . و إذا تقرر ذلك فاعلم أن القسمين الأولين- لما اختلفا فيما ذكرناه لا جرم- اختلفا في الكسب و المكتسب- .

أما الكسب فإن صاحب العلم الأولى به في الأكثر- العزلة و الانقطاع عن الخلق- لأنه قد حصلت له الهداية و الرشاد- فلا حاجة له إلى مخالطة أحد- يستعين به على حصول ما هو حاصل- و أما صاحب الفطرة الأصلية من غير علم- فإنه لا يليق به العزلة لأنه يحتاج إلى المعلم و المرشد- فإنه ليس يكفي الفطرة الأصلية- في الوصول إلى المعالم الإلهية و الحقائق الربانية- و لا بد من موقف و مرشد في مبدإ الحال- هذا هو القول في الكسب بالنظر إليها- .

و أما المكتسب فإن صاحب العلم إذا اشتغل بالرياضة- كانت مشاهداته و مكاشفاته أكثر كمية- و أقل كيفية مما لصاحب الفطرة المجردة- أما كثرة الكمية فلأن قوته النظرية تعينه على ذلك- و أما قلة الكيفية- فلأن القوة النفسانية تتوزع على تلك الكثرة- و كلما كانت الكثرة أكثر- كان توزع القوة إلى أقسام أكثر- و كان كل واحد منهاأضعف مما لو كانت الأقسام أقل عددا- و إذا عرفت ذلك- عرفت أن الأمر في جانب صاحب الفطرة الأصلية- بالعكس من ذلك- و هو أن مشاهداته و مكاشفاته- تكون أقل كمية و أكثر كيفية- .

و أما الاستعداد الثالث- و هو النفس التي قد جمعت الفطرة الأصلية- و العلوم الإلهية النظرية بالنظر- فهي النفس الشريفة الجليلة الكاملة- . و هذه الأقسام الثلاثة مشتركة- في أن رياضتها القلبية يجب أن تكون زائدة- في الكم و الكيف على رياضتها البدنية- لأن الغرض الأصلي هو رياضة القلب و طهارة النفس- و إنما شرعت الرياضات البدنية و العبادات الجسمانية- لتكون طريقا إلى تلك الرياضة الباطنة- فإذا حصلت كان الاشتغال بالرياضة البدنية عبثا- لأن الوسيلة بعد حصول المتوسل إليه فضلة- مستغنى عنها- بل ربما كانت عائقة عن المقصود- نعم لا بد من المحافظة على الفرائض خاصة- لئلا تعتاد النفس الكسل- و ربما أفضى ذلك إلى خلل في الرياضة النفسانية- و لهذا حكي عن كثير من كبراء القوم- قلة الاشتغال بنوافل العبادات- .

و أما القسم الرابع- و هو النفس التي خلت عن الوصفين معا- فهذه النفس يجب ألا تكون رياضتها في مبدإ الحال- إلا بتهذيب الأخلاق بما هو مذكور في كتب الحكمة الخلقية- فإذا لانت و مرنت و استعدت للنفحات الإلهية- حصل لها ذوق ما- فأوجب ذلك الذوق شوقا فأقبلت بكليتها على مطلوبها

فصل في أن الجوع يؤثر في صفاء النفس

و اعلم أن السبب الطبيعي- في كون الجوع مؤثرا في صفاء النفس- أن البلغم الغالب على مزاج البدن- يوجب بطبعه البلادة- و إبطاء الفهم لكثرة الأرضية فيه- و ثقل جوهرة- و كثرة ما يتولد عنه من البخارات التي تسد المجاري- و تمنع نفوذ الأرواح- و لا ريب أن الجوع يقتضي تقليل البلغم- لأن القوة الهاضمة إذا لم تجد غذاء تهضمه- عملت في الرطوبة الغريبة الكائنة في الجسد- فكلما انقطع الغذاء- استمر عملها في البلغم الموجود في البدن- فلا تزال تعمل فيه و تذيبه الحرارة الكائنة في البدن- حتى يفنى كل ما في البدن من الرطوبات الغريبة- و لا يبقى إلا الرطوبات الأصلية- فإن استمر انقطاع الغذاء- أخذت الحرارة و القوة الهاضمة- في تنقيص الرطوبات الأصلية من جوهر البدن- فإن كان ذلك يسيرا و إلى حد ليس بمفرط- لم يضر ذلك بالبدن كل الإضرار- و كان ذلك هو غاية الرياضة- التي أشار أمير المؤمنين ع إليها- بقوله حتى دق جليله و لطف غليظه- و إن أفرط وقع الحيف و الإجحاف على الرطوبة الأصلية- و عطب البدن و وقع صاحبه في الدق و الذبول- و ذلك منهي عنه لأنه قتل للنفس- فهو كمن يقتل نفسه بالسيف أو بالسكين

كلام للفلاسفة و الحكماء في المكاشفات الناشئة عن الرياضة

و اعلم أن قوله ع و برق له لامع كثير البرق- هو حقيقة مذهب الحكماء- و حقيقة قول الصوفية أصحاب الطريقة و الحقيقة- و قد صرح به الرئيس أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات- فقال في ذكر السالك إلى مرتبة العرفان- ثم إنه‏إذا بلغت به الإرادة و الرياضة حدا ما- عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إليه- لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه- و هي التي تسمى عندهم أوقاتا- و كل وقت يكتنفه وجد إليه و وجد عليه- ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض- ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض- فكلما لمح شيئا عاج منه إلى جانب القدس- فتذكر من أمره أمرا فغشيه غاش- فيكاد يرى الحق في كل شي‏ء- و لعله إلى هذا الحد تستولي عليه غواشيه- و يزول هو عن سكينته- و يتنبه جليسه لاستنفاره عن قراره- فإذا طالت عليه الرياضة لم تستنفره غاشية- و هدي للتأنس بما هو فيه- ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغا- ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوب مألوفا- و الوميض شهابا بينا- و يحصل له معارف مستقرة كأنها صحبة مستمرة- و يستمتع فيها ببهجته فإذا انقلب عنها انقلب حيران آسفا- . فهذه ألفاظ الحكيم أبي علي بن سينا في الإشارات- و هي كما نراها مصرح فيها بذكر البروق اللامعة للعارف- .

و قال القشيري في الرسالة- لما ذكر الحال و الأمور الواردة على العارفين- قال هي بروق تلمع ثم تخمد- و أنوار تبدو ثم تخفى- ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها- ثم تمثل بقول البحتري-خطرت في النوم منها خطرة خطرة البرق بدا ثم اضمحل‏أي زور لك لو قصدا سرى‏و ملم بك لو حقا فعل‏- . فهو كما تراه- يذكر البروق اللامعة حسبما ذكره الحكيم- و كلاهما يتبع ألفاظ أمير المؤمنين ع لأنه حكيم الحكماء- و عارف العارفين و معلم الصوفية- و لو لا أخلاقه‏ و كلامه و تعليمه للناس هذا الفن- تارة بقوله و تارة بفعله- لما اهتدى أحد من هذه الطائفة- و لا علم كيف يورد و لا كيف يصدر- .

و قال القشيري أيضا في الرسالة- المحاضرة قبل المكاشفة- فإذا حصلت المكاشفة فبعدها المشاهدة- . و قال و هي أرفع الدرجات- قال فالمحاضرة حضور القلب- و قد تكون بتواتر البرهان- و الإنسان بعد وراء الستر- و إن كان حاضرا باستيلاء سلطان الذكر- . و أما المكاشفة فهي حضور البين- غير مفتقر إلى تأمل الدليل- و تطلب السبيل ثم المشاهدة و هي وجود الحق من غير بقاء تهمة- . و أحسن ما ذكر في المشاهد قول الجنيد- هي وجود الحق مع فقدانك- . و قال عمرو بن عثمان المكي- المشاهدة أن تتوالى أنوار التجلي على القلب- من غير أن يتخللها ستر و لا انقطاع- كما لو قدر اتصال البروق في الليلة المظلمة- فكما أنها تصير من ذلك بضوء النهار- فكذلك القلب إذا دام له التجلي مع النهار فلا ليل- . و أنشدوا شعرا-

ليلي بوجهك مشرق
و ظلامه في الناس سار

فالناس في سدف الظلام‏
و نحن في ضوء النهار

 و قال الثوري لا تصح للعبد المشاهدة و قد بقي له عرق قائم- . و قالوا إذا طلع الصباح استغني عن المصباح- . و أنشدوا أيضا-

فلما استنار الصبح طوح ضوءه
بأنواره أنوار ضوء الكواكب‏

فجرعهم كأسا لو ابتليت لظى
بتجريعه طارت كأسرع ذاهب‏

كأس و أي كأس تصطلمهم عنهم- و تفنيهم و تخطفهم منهم و لا تبقيهم- كأس لا تبقى و لا تذر تمحو بالكلية- و لا تبقى شظية من آثار البشرية- كما قال قائلهم-ساروا فلم يبق لا عين و لا أثر- . و قال القشيري أيضا هي ثلاث مراتب- اللوائح ثم اللوامع ثم الطوالع فاللوائح كالبروق- ما ظهرت حتى استترت كما قال القائل-فافترقنا حولا فلما التقينا كان تسليمه علي وداعا- . و أنشدوا-

يا ذا الذي زار و ما زارا
كأنه مقتبس نارا

مر بباب الدار مستعجلا
ما ضره لو دخل الدارا

ثم اللوامع و هي أظهر من اللوائح- و ليس زوالها بتلك السرعة- فقد تبقى وقتين و ثلاثة- و لكن كما قيل-

العين باكية لم تشبع النظرا

أو كما قالوا-

و بلائي من مشهد و مغيب
و حبيب مني بعيد قريب‏

لم ترد ماء وجهه العين حتى‏
شرقت قبل ريها برقيب‏

فأصحاب هذا المقام بين روح و فوح- لأنهم بين كشف و ستر يلمع ثم يقطع- لا يستقر لهم نور النهار حتى تكر عليه عساكر الليل- فهم كما قيل-و الليل يشملنا بفاضل برده و الصبح يلحفنا رداء مذهبا- . ثم الطوالع و هي أبقى وقتا و أقوى سلطانا- و أدوم مكثا و أذهب للظلمة و أنفي للمهمة- .أ فلا ترى كلام القوم كله مشحون بالبروق و اللمعان- . و كان مما نقم حامد بن العباس وزير المقتدر- و علي بن عيسى الجراح وزيره أيضا على الحلاج- أنهما وجدا في كتبه لفظ النور الشعشعاني- و ذلك لجهالتهما مراد القوم و اصطلاحهم و من جهل أمرا عاداه- .

ثم قال ع- و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة و دار الإقامة- أي لم يزل ينتقل من مقام من مقامات القوم- إلى مقام فوقه حتى وصل- و تلك المقامات معروفة عند أهلها- و من له أنس بها و سنذكرها فيما بعد- . ثم قال و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه- في قرار الأمن و الراحة بما استعمل قلبه و أرضى ربه- أي كانت الراحة الكلية و السعادة الأبدية- مستثمره من ذلك التعب الذي تحمله لما استعمل قلبه- و راض جوارحه و نفسه حتى وصل- كما قيل-عند الصباح يحمد القوم السرى و تنجلي عنا غيابات الكرى‏

و قال الشاعر-

تقول سليمى لو أقمت بأرضنا
و لم تدر أني للمقام أطوف‏

 و قال آخر-

ما ابيض وجه المرء في طلب
العلا حتى يسود وجهه في البيد

و قال-

فاطلب هدوءا بالتقلقل و استثر
بالعيس من تحت السهاد هجودا

ما إن ترى الأحساب بيضا وضحا
إلا بحيث ترى المنايا سودا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 213 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

213 و من كلام له ع- لما مر بطلحة بن عبيد الله و عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد- و هما قتيلان يوم الجمل

لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْمَكَانِ غَرِيباً- أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ قَتْلَى- تَحْتَ بُطُونِ الْكَوَاكِبِ- أَدْرَكْتُ وَتْرِي مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ- وَ أَفْلَتَنِي أَعْيَارُ بَنِي جُمَحٍ- لَقَدْ أَتْلَعُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَى أَمْرٍ- لَمْ يَكُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا دُونَهُ

عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد

– هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد- بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ليس بصحابي و لكنه من التابعين- و أبوه عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس- من مسلمة الفتح- و لما خرج رسول الله ص من مكة إلى حنين- استعمله عليها- فلم يزل أميرها حتى قبض رسول الله ص- و بقي على حاله خلافة أبي بكر الصديق- و مات هو و أبو بكر في يوم واحد- لم يعلم أحدهما بموت الآخر- و عبد الرحمن هذا هو الذي قال أمير المؤمنين فيه- و قد مر به قتيلا يوم الجمل لهفي عليك يعسوب قريش- هذا فتى الفتيان هذا اللباب المحض من بني عبد مناف- شفيت نفسي و قتلت معشري- إلى الله أشكو عجري و بجري- فقال له قائل- لشد ما أطريت‏ الفتى يا أمير المؤمنين منذ اليوم- قال إنه قام عني و عنه نسوة لم يقمن عنك- و عبد الرحمن هذا هو الذي احتملت العقاب كفه يوم الجمل- و فيها خاتمه فألقتها باليمامة فعرفت بخاتمه- و علم أهل اليمامة بالوقعة- .

و رأيت في شرح نهج البلاغة للقطب الراوندي- في هذا الفصل عجائب و طرائف- فأحببت أن أوردها هاهنا- منها أنه قال في تفسير قوله ع- أدركت و ترى من بني عبد مناف- قال يعني طلحة و الزبير كانا من بني عبد مناف- و هذا غلط قبيح- لأن طلحة من تيم بن مرة- و الزبير من أسد بن عبد العزى بن قصي- و ليس أحد منهما من بني عبد مناف- و ولد عبد مناف أربعة- هاشم و عبد شمس و نوفل و عبد المطلب- فكل من لم يكن من ولد هؤلاء الأربعة- فليس من ولد عبد مناف- .

و منها أنه قال إن مروان بن الحكم من بني جمح- و لقد كان هذا الفقيه رحمه الله بعيدا عن معرفة الأنساب- مروان من بني أمية بن عبد شمس- و بنو جمح من بني هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب- و اسم جمح تيم بن عمرو بن هصيص- و أخوه سهم بن عمرو بن هصيص- رهط عمرو بن العاص- فأين هؤلاء و أين مروان بن الحكم- . و منها أنه قال- و أفلتتني أغيار بني جمح بالغين المعجمة- قال هو جمع غير الذي بمعنى سوى- و هذا لم يرو و لا مثله مما يتكلم به أمير المؤمنين- لركته و بعده عن طريقته- فإنه يكون قد عدل عن أن يقول- و لم يفلتني إلا بنو جمح إلى مثل هذه العبارة الركيكة المتعسفة بنو جمح

و اعلم أنه ع أخرج هذا الكلام- مخرج الذم لمن حضر الجمل مع عائشة زوجة النبي ص- من بني جمح- فقال و أفلتتني أعيار بني جمح- جمع عير و هو الحمار- و قد كان معها منهم يوم الجمل جماعة هربوا- و لم يقتل منهم إلا اثنان فممن هرب و نجا بنفسه- عبد الله الطويل بن صفوان بن أمية- بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح- و كان شريفا و ابن شريف- و عاش حتى قتل مع ابن الزبير بمكة- . و منهم يحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية بن خلف- عاش حتى استعمله عمرو بن سعيد الأشدق على مكة- لما جمع له بين مكة و المدينة- فأقام عمرو بالمدينة و يحيى بمكة- .

و منهم عامر بن مسعود بن أمية بن خلف- كان يسمى دحروجة الجعل لقصره و سواده- و عاش حتى ولاه زياد صدقات بكر بن وائل- و ولاه عبد الله بن الزبير بن العوام الكوفة- . و منهم أيوب بن حبيب بن علقمة- بن ربيعة بن الأعور بن أهيب بن حذافة بن جمح- عاش حتى قتل بقديد قتلته الخوارج- . فهؤلاء الذين أعرف حضورهم الجمل مع عائشة من بني جمح- و قتل من بني جمح مع عائشة عبد الرحمن بن وهب بن أسيد- بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح- و عبد الله بن ربيعة بن دراج العنبس- بن وهبان بن وهب بن حذافة بن جمح- لا أعرف أنه قتل من بني جمح ذلك اليوم غيرهما- فإن صحت الرواية و أفلتني أعيان بني جمح بالنون- فالمراد رؤساؤهم و ساداتهم- .

و أتلعوا أعناقهم رفعوها- و رجل أتلع بين التلع أي طويل العنق- و جيد تليع أي طويل- قال الأعشى-يوم تبدي لنا قتيله عن جيد تليع تزينه الأطواق‏و وقص الرجل إذا اندقت عنقه فهو موقوص- و وقصت عنق الرجل أقصها وقصا أي كسرتها- و لا يجوز وقصت العنق نفسها- . و الضمير في قوله ع لقد أتلعوا- يرجع إلى قريش أي راموا الخلافة فقتلوا دونها- .

فإن قلت- أ تقول إن طلحة و الزبير لم يكونا من أهل الخلافة- إن قلت ذلك تركت مذهب أصحابك- و إن لم تقله خالفت قول أمير المؤمنين لم يكونوا أهله- . قلت هما أهل للخلافة ما لم يطلبها أمير المؤمنين- فإذا طلبها لم يكونا أهلا لها لا هما و لا غيرهما- و لو لا طاعته لمن تقدم- و ما ظهر من رضاه به لم نحكم بصحة خلافته

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 212 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

212 و من كلام له ع- في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه ع

فَقَدِمُوا عَلَى عُمَّالِي وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي فِي يَدَيَّ- وَ عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ كُلُّهُمْ فِي طَاعَتِي وَ عَلَى بَيْعَتِي- فَشَتَّتُوا كَلِمَتَهُمْ وَ أَفْسَدُوا عَلَيَّ جَمَاعَتَهُمْ- وَ وَثَبُوا عَلَى شِيعَتِي فَقَتَلُوا طَاِئفَةً منْهُمْ غَدْراً- وَ طَاِئفَةً عَضُّوا عَلَى أَسْيَافِهِمْ- فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا اللَّهَ صَادِقِينَ عضوا على أسيافهم- كناية عن الصبر في الحرب و ترك الاستسلام- و هي كناية فصيحة- شبه قبضهم على السيوف بالعض- و قد قدمنا ذكر ما جرى- و أن عسكر الجمل قتلوا طائفة من شيعة أمير المؤمنين ع بالبصرة- بعد أن أمنوهم غدرا- و أن بعض الشيعة صبر في الحرب و لم يستسلم- و قاتل حتى قتل مثل حكيم بن جبلة العبدي و غيره-

و روي و طائفة عضوا على أسيافهم بالرفع- تقديره و منهم طائفة- . قرأت في كتاب غريب الحديث- لأبي محمد عبد الله بن قتيبة- في حديث حذيفة بن اليمان أنه ذكر خروج عائشة- فقال تقاتل معها مضر مضرها الله في النار-و أزد عمان سلت الله أقدامها- و أن قيسا لن تنفك تبغي دين الله شرا- حتى يركبها الله بالملائكة- فلا يمنعوا ذنب تلعة- .

قلت هذا الحديث من أعلام نبوة سيدنا محمد ص- لأنه إخبار عن غيب- تلقاه حذيفة عن النبي ص- و حذيفة أجمع أهل السيرة على أنه مات- في الأيام التي قتل عثمان فيها- أتاه نعيه و هو مريض- فمات و علي ع لم يتكامل بيعة الناس- و لم يدرك الجمل- . و هذا الحديث يؤكد مذهب أصحابنا- في فسق أصحاب الجمل- إلا من ثبتت توبته منهم و هم الثلاثة

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 211 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

211 و من كلام له ع

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ- فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ أَكْفَئُوا إِنَائِي- وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي- وَ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ- وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تَمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً- فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَ لَا ذَابٌّ وَ لَا مُسَاعِدٌ- إِلَّا أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ- فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وَ جَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا- وَ صَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ- وَ آلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ قال الرضي رحمه الله- و قد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة- إلا أني ذكرته هاهنا لاختلاف الروايتين العدوى طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك- أي ينتقم لك منه- يقال استعديت الأمير على فلان فأعداني- أي استعنت به عليه فأعانني- .

و قطعوا رحمي و قطعوا قرابتي- أي أجروني مجرى الأجانب- و يجوز أن يريد أنهم عدوني- كالأجنبي من رسول الله ص- و يجوز أن يريد أنهم جعلوني كالأجنبي‏منهم- لا ينصرونه و لا يقومون بأمره- . و أكفئوا إنائي قلبوه و كبوه- و حذف الهمزة من أول الكلمة أفصح و أكثر- و قد روي كذلك- و يقال لمن قد أضيعت حقوقه- قد أكفأ إناءه تشبيها بإضاعة اللبن من الإناء- .

و قد اختلفت الرواية في قوله- إلا أن في الحق أن تأخذه- فرواها قوم بالنون و قوم بالتاء- و قال الراوندي إنها في خط الرضي بالتاء- و معنى ذلك أنك إن وليت أنت- كانت ولايتك حقا- و إن ولي غيرك كانت ولايته حقا- على مذهب أهل الاجتهاد- و من رواها بالنون فالمعنى ظاهر- . و الرافد المعين و الذاب الناصر- .

و ضننت بهم بخلت بهم- و أغضيت على كذا صبرت- . و جرعت بالكسر و الشجا ما يعترض في الحلق- . و الوخز الطعن الخفيف- و روي من خز الشفار و الخز القطع- و الشفار جمع شفرة و هي حد السيف و السكين و اعلم أن هذا الكلام- قد نقل عن أمير المؤمنين ع ما يناسبه و يجري مجراه- و لم يؤرخ الوقت الذي قاله فيه- و لا الحال التي عناها به- و أصحابنا يحملون ذلك على أنه ع- قاله عقيب الشورى و بيعة عثمان- فإنه ليس يرتاب أحد من أصحابنا على أنه تظلم و تألم حينئذ- .

و يكره أكثر أصحابنا- حمل أمثال هذا الكلام على التألم من يوم السقيفة- . و لقائل أن يقول لهم- أ تقولون إن بيعة عثمان لم تكن صحيحة- فيقولون لا فيقال‏لهم فعلى ما ذا تحملون كلامه ع- مع تعظيمكم له و تصديقكم لأقواله- فيقولون نحمل ذلك على تألمه و تظلمه منهم- إذا تركوا الأولى و الأفضل- فيقال لهم فلا تكرهوا قول من يقول من الشيعة و غيرهم- إن هذا الكلام و أمثاله صدر عنه عقيب السقيفة- و حملوه على أنه تألم و تظلم- من كونهم تركوا الأولى و الأفضل- فإنكم لستم تنكرون أنه كان الأفضل و الأحق بالأمر- بل تعترفون بذلك و تقولون ساغت إمامة غيره- و صحت لمانع كان فيه ع- و هو ما غلب على ظنون العاقدين للأمر- من أن العرب لا تطيعه- فإنه يخاف من فتنة عظيمة تحدث- إن ولي الخلافة لأسباب يذكرونها و يعدونها- و قد روى كثير من المحدثين- أنه عقيب يوم السقيفة تألم و تظلم- و استنجد و استصرخ- حيث ساموه الحضور و البيعة- و أنه قال و هو يشير إلى القبر- يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي- و أنه قال وا جعفراه و لا جعفر لي اليوم- وا حمزتاه و لا حمزة لي اليوم- .

و قد ذكرنا من هذا المعنى جملة صالحة فيما تقدم- و كل ذلك محمول عندنا- على أنه طلب الأمر من جهة الفضل و القرابة- و ليس بدال عندنا على وجود النص- لأنه لو كان هناك نص- لكان أقل كلفة و أسهل طريقا- و أيسر لما يريد تناولا أن يقول- يا هؤلاء إن العهد لم يطل- و إن رسول الله ص أمركم بطاعتي- و استخلفني عليكم بعده- و لم يقع منه ع بعد ما علمتموه و نص ينسخ ذلك- و لا يرفعه فما الموجب لتركي و العدول عني- .

فإن قالت الإمامية- كان يخاف القتل لو ذكر ذلك- فقيل لهم فهلا يخاف القتل- و هو يعتل و يدفع ليبايع- و هو يمتنع و يستصرخ تارة بقبر رسول الله ص-و تارة بعمه حمزة و أخيه جعفر و هما ميتان- و تارة بالأنصار و تارة ببني عبد مناف- و يجمع الجموع في داره- و يبث الرسل و الدعاة ليلا و نهارا إلى الناس- يذكرهم فضله و قرابته- و يقول للمهاجرين- خصمتم الأنصار بكونكم أقرب إلى رسول الله ص- و أنا أخصمكم بما خصمتم به الأنصار- لأن القرابة إن كانت هي المعتبرة- فأنا أقرب منكم- .

و هلا خاف من هذا الامتناع- و من هذا الاحتجاج و من الخلوة في داره بأصحابه- و من تنفير الناس عن البيعة- التي عقدت حينئذ لمن عقدت له- . و كل هذا إذا تأمله المنصف- علم أن الشيعة أصابت في أمر و أخطأت في أمر- أما الأمر الذي أصابت فيه فقولها- إنه امتنع و تلكأ و أراد الأمر لنفسه- و أما الأمر الذي أخطأت فيه- فقولها إنه كان منصوصا عليه نصا جليا بالخلافة- تعلمه الصحابة كلها أو أكثرها- و أن ذلك النص خولف طلبا للرئاسة الدنيوية- و إيثارا للعاجلة- و أن حال المخالفين للنص لا تعدو أحد أمرين- إما الكفر أو الفسق- فإن قرائن الأحوال و أماراتها لا تدل على ذلك- و إنما تدل و تشهد بخلافه- و هذا يقتضي أن أمير المؤمنين ع- كان في مبدإ الأمر يظن أن العقد لغيره- كان عن غير نظر في المصلحة- و أنه لم يقصد به إلا صرف الأمر عنه- و الاستئثار عليه- فظهر منه ما ظهر من الامتناع و العقود في بيته- إلى أن صح عنده و ثبت في نفسه- أنهم أصابوا فيما فعلوه و أنهم لم يميلوا إلى هوى- و لا أرادوا الدنيا و إنما فعلوا الأصلح في ظنونهم- لأنه رأى من بغض الناس له و انحرافهم عنه- و ميلهم عليه و ثوران الأحقاد التي كانت في أنفسهم- و احتدام النيران التي كانت في قلوبهم- و تذكروا التراث التي وتراهم فيما قبل بها- و الدماء التي سفكها منهم و أراقها- .

و تعلل طائفة أخرى منهم للعدول عنه بصغر سنه- و استهجانهم تقديم الشباب على الكهول و الشيوخ- . و تعلل طائفة أخرى منهم- بكراهية الجمع بين النبوة و الخلافة في بيت واحد- فيجفخون على الناس كما قاله من قاله- و استصعاب قوم منهم شكيمته و خوفهم تعديه و شدته- و علمهم بأنه لا يداجي و لا يحابي- و لا يراقب و لا يجامل في الدين- و أن الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه- و يعمل بموجب استصلاحه- و انحراف قوم آخرين عنه- للحسد الذي كان عندهم له في حياة رسول الله ص- لشدة اختصاصه له و تعظيمه إياه- و ما قال فيه فأكثر من النصوص الدالة على رفعة شأنه- و علو مكانه و ما اختص به من مصاهرته و أخوته- و نحو ذلك من أحواله معه- و تنكر قوم آخرين له- لنسبتهم إليه العجب و التيه كما زعموا- و احتقاره العرب و استصغاره الناس كما عددوه عليه- و إن كانوا عندنا كاذبين- و لكنه قول قيل و أمر ذكر و حال نسبت إليه- و أعانهم عليها ما كان يصدر عنه من أقوال توهم مثل هذا- نحو قوله فإنا صنائع ربنا و الناس بعد صنائع لنا- و ما صح به عنده- أن الأمر لم يكن ليستقيم له يوما واحدا- و لا ينتظم و لا يستمر- و أنه لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقا- يكون فيه استئصال شأفة الإسلام و هدم أركانه- فأذعن بالبيعة- و جنح إلى الطاعة و أمسك عن طلب الإمرة- و إن كان على مضض و رمض- . و قد روي عنه ع- أن فاطمة ع حرضته يوما على النهوض و الوثوب- فسمع صوت المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله- فقال لها أ يسرك زوال هذا النداء من الأرض- قالت لا قال فإنه ما أقول لك- .

و هذا المذهب هو أقصد المذاهب و أصحها- و إليه يذهب أصحابنا المتأخرون من البغداديين و به يقول- . و اعلم أن حال علي ع في هذا المعنى- أشهر من أن يحتاج في الدلالة عليها- إلى الإسهاب و الإطناب- فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها- حين بويع بالخلافة بعد وفاة رسول الله ص- بخمس و عشرين سنة- و في دون هذه المدة تنسى الأحقاد- و تموت التراث و تبرد الأكباد الحامية- و تسلو القلوب الواجدة- و يعدم قرن من الناس و يوجد قرن- و لا يبقى من أرباب تلك الشحناء و البغضاء إلا الأقل- فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش- كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه ص- من إظهار ما في النفوس و هيجان ما في القلوب- حتى أن الأخلاف من قريش- و الأحداث و الفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه- و فتكاته في أسلافهم و آبائهم- فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله- و تقاعست عن بلوغ شأوه- فكيف كانت تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة- و سيفه بعد يقطر دما من مهج العرب- لا سيما قريش الذين بهم كان ينبغي لو دهمه خطب أن يعتضد- و عليهم كان يجب أن يعتمد- إذن كانت تدرس أعلام الملة و تنعفي رسوم الشريعة- و تعود الجاهلية الجهلاء على حالها- و يفسد ما أصلحه رسول الله ص- في ثلاث و عشرين سنة في شهر واحد- فكان من عناية الله تعالى بهذا الدين- أن ألهم الصحابة ما فعلوه- و الله متم نوره و لو كره المشركون‏

فصل في أن جعفرا و حمزة لو كان حيين لبايعا عليا

و سألت النقيب أبا جعفر- يحيى بن محمد بن أبي يزيد رحمه الله- قلت له أ تقول إن حمزة و جعفرا لو كانا حيين- يوم مات رسول الله ص أ كانا يبايعانه بالخلافة- فقال نعم- كانا أسرع إلى بيعة من النار في يبس العرفج- فقلت له أظن أن جعفرا كان يبايعه و يتابعه- و ما أظن حمزة كذلك- و أراه جبارا قوي النفس شديد الشكيمة- ذاهبا بنفسه شجاعا بهمه- و هو العم و الأعلى سنا و آثاره في الجهاد معروفة- و أظنه كان يطلب الخلافة لنفسه- . فقال الأمر في أخلاقه و سجاياه كما ذكرت- و لكنه كان صاحب دين متين- و تصديق خالص لرسول الله ص- و لو عاش لرأى من أحوال علي ع- مع رسول الله ص ما يوجب أن يكسر له نخوته- و أن يقيم له صعره و أن يقدمه على نفسه- و أن يتوخى رضا الله و رضا رسوله فيه- و إن كان بخلاف إيثاره- .

ثم قال أين خلق حمزة السبعي- من خلق علي الروحاني اللطيف- الذي جمع بينه و بين خلق حمزة- فاتصفت بهما نفس واحدة- و أين هيولانية نفس حمزة- و خلوها من العلوم من نفس علي القدسية- التي أدركت بالفطرة لا بالقوة التعليمية- ما لم تدركه نفوس مدققي الفلاسفة الإلهيين- لو أن حمزة حيي حتى رأى من علي ما رآه غيره- لكان أتبع له من ظله- و أطوع له من أبي ذر و المقداد أما قولك هو و العم و الأعلى سنا- فقد كان العباس العم و الأعلى سنا- و قد عرفت ما بذله له و ندبه إليه- و كان أبو سفيان كالعم و كان أعلى سنا- و قد عرفت ما عرضه عليه- ثم قال ما زالت الأعمام تخدم أبناء الإخوة- و تكون أتباعا لهم- أ لست ترى داود بن‏علي و عبد الله بن علي- و صالح بن علي و سليمان بن علي- و عيسى بن علي و إسماعيل ابن علي- و عبد الصمد بن علي خدموا ابن أخيهم- و هو عبد الله السفاح بن محمد بن علي- و بايعوه و تابعوه- و كانوا أمراء جيوشه و أنصاره و أعوانه- أ لست ترى حمزة و العباس اتبعا ابن أخيهما صلوات الله عليه- و أطاعاه و رضيا برياسته و صدقا دعوته- أ لست تعلم أن أبا طالب- كان رئيس بني هاشم و شيخهم و المطاع فيهم- و كان محمد رسول الله ص يتيمه و مكفوله- و جاريا مجرى أحد أولاده عنده- ثم خضع له و اعترف بصدقه و دان لأمره- حتى مدحه بالشعر كما يمدح الأدنى الأعلى فقال فيه-

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل‏

يطيف به الهلاك من آل هاشم‏
فهم عنده في نعمة و فواضل‏

و إن سرا اختص به محمد ص- حتى أقام أبا طالب و حاله معه حاله مقام المادح له- لسر عظيم و خاصية شريفة- و إن في هذا لمعتبر عبرة- أن يكون هذا الإنسان الفقير- الذي لا أنصار له و لا أعوان معه- و لا يستطيع الدفاع عن نفسه- فضلا عن أن يقهر غيره- تعمل دعوته و أقواله في الأنفس- ما تعمله الخمر في الأبدان المعتدلة المزاج- حتى تطيعه أعمامه و يعظمه مربيه و كافله- و من هو إلى آخر عمره القيم بنفقته- و غذاء بدنه و كسوة جسده- حتى يمدحه بالشعر كما يمدح الشعراء الملوك و الرؤساء- و هذا في باب المعجزات عند المنصف- أعظم من انشقاق القمر و انقلاب العصا- و من أبناء القوم بما يأكلون و ما يدخرون في بيوتهم- .

ثم قال رحمه الله- كيف قلت أظن أن جعفرا كان يبايعه و يتابعه- و لا أظن في حمزة ذلك- إن كنت قلت ذلك لأنه أخوه- فإنه أعلى منه سنا هو أكبر من علي بعشرسنين- و قد كانت له خصائص و مناقب كثيرة- و قال فيه النبي ص قولا شريفا- اتفق عليه المحدثون- قال له لما افتخر هو و علي و زيد بن حارثة- و تحاكموا إلى رسول الله ص أشبهت خلقي و خلقي- فخجل فرحا ثم قال لزيد- أنت مولانا و صاحبنا فخجل أيضا- ثم قال لعلي أنت أخي و خالصتي- قالوا فلم يخجل- قالوا كان ترادف التعظيم له و تكرره عليه- لم يجعل عنده للقول ذلك الموضع- و كان غيره إذا عظم عظم نادرا- فيحسن موقعه عنده- و اختلف الناس في أي المدحتين أعظم- .

فقلت له- قد وقفت لأبي حيان التوحيدي في كتاب البصائر- على فصل عجيب يمازج ما نحن فيه- قال في الجزء الخامس من هذا الكتاب- سمعت قاضي القضاة أبا سعد بشر بن الحسين- و ما رأيت رجلا أقوى منه في الجدل- في مناظرة جرت بينه و بين أبي عبد الله الطبري- و قد جرى حديث جعفر بن أبي طالب و حديث إسلامه- و التفاضل بينه و بين أخيه علي- فقال القاضي أبو سعد- إذا أنعم النظر علم أن إسلام جعفر كان بعد بلوغ- و إسلام البالغ لا يكون إلا بعد استبصار و تبين- و معرفة بقبح ما يخرج منه و حسن ما يدخل فيه- و أن إسلام علي مختلف في حاله- و ذلك أنه قد ظن أنه كان عن تلقين- لا تبيين إلى حين بلوغه و أوان تعقبه و نظره- و قد علم أيضا أنهما قتلا- و أن قتلة جعفر شهادة بالإجمال- و قتلة علي فيها أشد الاختلاف- ثم خص الله جعفرا- بأن قبضه إلى الجنة قبل ظهور التباين- و اضطراب الحبل و كثرة الهرج- و على أنه لو انعقد الإجماع- و تظاهر جميع الناس على أن القتلتين شهادة- لكانت الحال في الذي رفع إليها جعفر أغلظ و أعظم- و ذلك أنه قتل مقبلا غير مدبر- و أما علي فإنه اغتيل اغتيالا و قصد من حيث لا يعلم- و شتان ما بين من فوجئ بالموت و بين من عاين مخايل الموت-و تلقاه بالنحر و الصدر- و عجل إلى الله بالإيمان و الصدق- أ لا تعلم أن جعفرا قطعت يمناه فأمسك اللواء بيسراه- و قطعت يسراه فضم اللواء إلى حشاه- ثم قاتله ظاهر الشرك بالله و قاتل علي ممن صلى إلى القبلة- و شهد الشهادة و أقدم عليه بتأويل- و قاتل جعفر كافر بالنص الذي لا خلاف فيه- أ ما تعلم أن جعفرا ذو الجناحين- و ذو الهجرتين إلى الحبشة و المدينة- .

قال النقيب رحمه الله اعلم فداك شيخك- أن أبا حيان رجل ملحد زنديق- يحب التلاعب بالدين- و يخرج ما في نفسه فيعزوه إلى قوم لم يقولوه- و أقسم بالله إن القاضي أبا سعد- لم يقل من هذا الكلام لفظة واحدة- و لكنها من موضوعات أبي حيان و أكاذيبه و ترهاته- كما يسند إلى القاضي أبي حامد المروروذي كل منكر- و يروى عنه كل فاقرة- .

ثم قال يا أبا حيان مقصودك أن تجعلها مسألة خلاف- تثير بها فتنة بين الطالبيين- لتجعل بأسهم بينهم- و كيف تقلبت الأحوال فالفخر لهم لم يخرج عنهم- . ثم ضحك رحمه الله حتى استلقى و مد رجليه- و قال هذا كلام يستغنى عن الإطالة في إبطاله بإجماع المسلمين- فإنه لا خلاف بين المسلمين في أن عليا أفضل من جعفر- و إنما سرق أبو حيان هذا المعنى الذي أشار إليه- من رسالة المنصور أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله النفس الزكية- قال له و كانت بنو أمية يلعنون أباك في أدبار الصلوات المكتوبات- كما تلعن الكفرة فعنفناهم و كفرناهم- و بينا فضله و أشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة- و ظننت أنه لما ذكرناه من فضله- أنا قدمناه على حمزة و العباس و جعفر- أولئك مضوا سالمين مسلمين منهم و ابتلي أبوك بالدماء- .

فقلت له رحمه الله و إذا لا إجماع في المسألة- لأن المنصور لم يقل بتفضيله عليهم-و أنت ادعيت الإجماع- فقال إن الإجماع قد سبق هذا القائل- و كل قول قد سبقه الإجماع لا يعتد به- . فلما خرجت من عند النقيب أبي جعفر- بحثت في ذلك اليوم في هذا الموضوع- مع أحمد بن جعفر الواسطي رحمه الله- و كان ذا فضل و عقل و كان إمامي المذهب- فقال لي صدق النقيب فيما قال- أ لست تعلم أن أصحابكم المعتزلة على قولين- أحدهما أن أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر- و الآخر أن أكثرهم ثوابا علي- و أصحابنا يقولون إن أكثر المسلمين ثوابا علي- و كذلك الزيدية- و أما الأشعرية و الكرامية و أهل الحديث- فيقولون أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر- فقد خلص من مجموع هذه الأقوال- أن ثواب حمزة و جعفر دون ثواب علي ع- أما على قول الإمامية و الزيدية و البغداديين كافة- و كثير من البصريين من المعتزلة فالأمر ظاهر- و أما الباقون فعندهم أن أكثر المسلمين ثوابا- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي- و لم يذهب ذاهب إلى أن ثواب حمزة و جعفر- أكثر من ثواب علي من جميع الفرق- فقد ثبت الإجماع الذي ذكره النقيب- إذا فسرنا الأفضلية بالأكثرية ثوابا- و هو التفسير الذي يقع الحجاج و الجدال- في إثباته لأحد الرجلين- و أما إذا فسرنا الأفضلية بزيادة المناقب و الخصائص- و كثرة النصوص الدالة على التعظيم- فمعلوم أن أحدا من الناس- لا يقارب عليا ع في ذلك- لا جعفر و لا حمزة و لا غيرهما- .

ثم وقع بيدي بعد ذلك كتاب- لشيخنا أبي جعفر الإسكافي- ذكر فيه أن مذهب بشر بن المعتمر و أبي موسى- و جعفر بن مبشر و سائر قدماء البغداديين- أن أفضل المسلمين علي بن أبي طالب- ثم ابنه الحسن ثم ابنه الحسين- ثم حمزة بن عبد المطلب ثم جعفر بن أبي طالب- ثم أبو بكر بن أبي قحافة ثم عمر بن الخطاب- ثم عثمان بن عفان-قال و المراد بالأفضل أكرمهم عند الله- أكثرهم ثوابا و أرفعهم في دار الجزاء منزلة- . ثم وقفت بعد ذلك على كتاب- لشيخنا أبي عبد الله البصري- يذكر فيه هذه المقالة- و ينسبها إلى البغداديين- و قال إن الشيخ أبا القاسم البلخي كان يقول بها- و قبله الشيخ أبو الحسين الخياط- و هو شيخ المتأخرين من البغداديين- قالوا كلهم بها فأجبني هذا المذهب- و سررت بأن ذهب الكثير من شيوخنا إليه- و نظمته في الأرجوزة- التي شرحت فيها عقيدة المعتزلة فقلت-

و خير خلق الله بعد المصطفى
أعظمهم يوم الفخار شرفا

السيد المعظم الوصي‏
بعل البتول المرتضى علي‏

و ابناه ثم حمزة و جعفر
ثم عتيق بعدهم لا ينكر

المخلص الصديق ثم عمر
فاروق دين الله ذاك القسور

و بعده عثمان ذو النورين
هذا هو الحق بغير مين‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 210 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

210: فَأَجَابَهُ ع رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يَكْثُرُ فِيهِ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ- وَ يَذْكُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ ع- إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ- وَ جَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ- أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ- وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَ لَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ- إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ عِظَماً- وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الْوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ- أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ- وَ يُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ- وَ قَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ- وَ اسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ- وَ لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ- لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَ الْكِبْرِيَاءِ- وَ رُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ- فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ- لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ الْبَقِيَّةِ- فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا- فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ- وَ لَا تَتَحَفَّظُوا بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ- وَ لَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي- وَ لَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي- فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ- أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ-فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ- فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ- وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي- إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي- فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ- يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا- وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ- فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى هذا الفصل و إن لم يكن فيه ألفاظ غريبة سبيلها أن تشرح- ففيه معان مختلفة سبيلها أن تذكر و توضح- و تذكر نظائرها و ما يناسبها- .

فمنها قوله ع- إن من حق من عظمت نعمة الله عليه- أن تعظم عليه حقوق الله تعالى- و أن يعظم جلال الله تعالى في نفسه- و من حق من كان كذلك أن يصغر عنده كل ما سوى الله- . و هذا مقام جليل من مقامات العارفين- و هو استحقار كل ما سوى الله تعالى- و ذلك أن من عرف الله تعالى- فقد عرف ما هو أعظم من كل عظيم- بل لا نسبة لشي‏ء من الأشياء أصلا إليه سبحانه- فلا يظهر عند العارف عظمة غيره البتة- كما أن من شاهد الشمس المنيرة يستحقر ضوء القمر- و السراج الموضوع في ضوء الشمس حال مشاهدته جرم الشمس- بل لا تظهر له في تلك الحال صنوبرة السراج- و لا تنطبع صورتها في بصره- . و منها قوله ع- من أسخف حالات الولاة أن يظن بهم حب الفخر- و يوضع‏ أمرهم على الكبر-قال النبي ص لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبروقال ص لو لا ثلاث مهلكات لصلح الناس- شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه- .

و كان يقال ليس لمعجب رأي و لا لمتكبر صديق- . و كان أبو مسلم صاحب الدولة يقول- ما تاه إلا وضيع و لا فاخر إلا لقيط- و لا تعصب إلا دخيل- . و قال عمر لبعض ولده التمس الرفعة بالتواضع- و الشرف بالدين و العفو من الله بالعفو عن الناس- و إياك و الخيلاء فتضع من نفسك- و لا تحقرن أحدا لأنك لا تدري- لعل من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك- . و منها قوله ع- قد كرهت أن تظنوا بي حب الإطراء و استماع الثناء- قدروي عن النبي ص أنه قال احثوا في وجوه المداحين التراب- و قال عمر المدح هو الذبح- . و كان يقال- إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك- فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك- .

و يقال إن في بعض الكتب المنزلة القديمة- عجبا لمن قيل فيه الخير و ليس فيه كيف يفرح- و لمن قيل فيه الشر و ليس فيه كيف يغضب- و أعجب من ذلك من أحب نفسه على اليقين- و أبغض الناس على الظن- . و كان يقال- لا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك- . و قال رجل لعبد الملك- إني أريد أن أسر إليك يا أمير المؤمنين شيئا- فقال لمن حوله‏إذا شئتم فانهضوا- فتقدم الرجل يريد الكلام- فقال له عبد الملك قف لا تمدحني- فإني أعلم بنفسي منك- و لا تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب- و لا تغتب عندي أحدا فإني أكره الغيبة- قال أ فيأذن أمير المؤمنين في الانصراف قال إذا شئت- .

و ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني- في مسألة كلامية- فجعل النوشجاني يخضع في الكلام و يستخذي له- فقال يا محمد أراك تنقاد إلى ما أقوله- قبل وجوب الحجة لي عليك- و قد ساءني منك ذلك- و لو شئت أن أفسر الأمور بعزة الخلافة و هيبة الرئاسة- لصدقت و إن كنت كاذبا و عدلت و إن كنت جائرا- و صوبت و إن كنت مخطئا- و لكني لا أقنع إلا بإقامة الحجة و إزالة الشبهة- و إن أنقص الملوك عقلا- و أسخفهم رأيا من رضي بقولهم صدق الأمير- .

و قال عبد الله بن المقفع في اليتيمة- إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح و التزكية- و أن يعرف الناس ذلك منك- فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها- و بابا يفتتحونك منه و غيبة يغتابونك بها- و يسخرون منك لها- و اعلم أن قابل المدح كمادح نفسه- و أن المرء جدير أن يكون حبه المدح- هو الذي يحمله على رده- فإن الراد له ممدوح و القابل له معيب- . و قال معاوية لرجل من سيد قومك- قال أنا قال لو كنت كذلك لم تقله- . و قال الحسن- ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر- . كان يقال من أظهر عيب نفسه فقد زكاها- . و منها قوله ع- لو كنت كذلك لتركته انحطاطا لله تعالى- عن تناول ما هو أحق به من الكبرياء-في الحديث المرفوع من تواضع لله رفعه الله- و من تكبر خفضه الله- .

و فيه أيضا العظمة إزاري- و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته- . و منها قوله ع- فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة- و لا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة- . أحسن ما سمعته في سلطان لا تخاف الرعية بادرته- و لا يتلجلج المتحاكمون عنده- مع سطوته و قوته لإيثاره العدل- قول أبي تمام في محمد بن عبد الملك-

وزير حق و والي شرطة و رحى
ديوان ملك و شيعي و محتسب‏

كالأرحبي المذكي سيره المرطى‏
و الوخد و الملع و التقريب و الخبب‏

عود تساجله أيامه فبها
من مسه و به من مسها جلب‏

ثبت الخطاب إذا اصطكت بمظلمة
في رحله ألسن الأقوام و الركب‏
لا المنطق اللغو يزكو في مقاومه
يوما و لا حجة الملهوف تستلب‏

كأنما هو في نادي قبيلته‏
لا القلب يهفو و لا الأحشاء تضطرب‏

و من هذا المعنى قول أبي الجهم العدوي في معاوية-

نقلبه لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرما و لينا

نميل على جوانبه كأنا
إذا ملنا نميل على أبينا

و منها قوله ع- لا تظنوا بي استثقال رفع الحق إلي- فإنه من استثقل الحق أن يقال له- كان العمل به عليه أثقل- . هذا معنى لطيف و لم أسمع منه شيئا منثورا و لا منظوما- . و منها قوله ع- و لا تكفوا عن قول بحق أو مشورة بعدل- . قد ورد في المشورة شي‏ء كثير- قال الله تعالى وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ- . و كان يقال إذا استشرت إنسانا صار عقله لك- .

و قال أعرابي ما غبنت قط حتى يغبن قومي- قيل و كيف ذاك قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم- . و كان يقال- من أعطي الاستشارة لم يمنع الصواب- و من أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة- و من أعطي التوبة لم يمنع القبول- و من أعطي الشكر لم يمنع المزيد- . و في آداب ابن المقفع لا يقذفن في روعك- أنك إذا استشرت الرجال ظهر منك للناس حاجتك- إلى رأي غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة- فإنك لا تريد الرأي للفخرو لكن للانتفاع به- و لو أنك أردته للذكر لكان أحسن الذكر عند العقلاء- أن يقال إنه لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي من إخوانه- .

و منها أن يقال ما معنى قوله ع- و ربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء- إلى قوله لا بد من إمضائها- فنقول إن معناه أن بعض من يكره الإطراء و الثناء- قد يحب ذلك بعد البلاء و الاختبار- كما قال مرداس بن أدية لزياد إنما الثناء بعد البلاء- و إنما نثني بعد أن نبتلي- فقال لو فرضنا أن ذلك سائغ و جائز و غير قبيح- لم يجز لكم أن تثنوا علي في وجهي- و لا جاز لي أن أسمعه منكم- لأنه قد بقيت علي بقية لم أفرغ من أدائها- و فرائض لم أمضها بعد و لا بد لي من إمضائها- و إذا لم يتم البلاء الذي قد فرضنا- أن الثناء يحسن بعده لم يحسن الثناء-.

و معنى قوله لإخراجي نفسي إلى الله و إليكم- أي لاعترافي بين يدي الله و بمحضر منكم- أن علي حقوقا في إيالتكم و رئاستي عليكم- لم أقم بها بعد و أرجو من الله القيام بها- . و منها أن يقال ما معنى قوله فلا تخالطوني بالمصانعة- فنقول إن معناه لا تصانعوني- بالمدح و الإطراء عن عمل الحق- كما يصانع به كثير من الولاة الذين يستفزهم المدح- و يستخفهم الإطراء و الثناء- فيغمضون عن اعتماد كثير من الحق- مكافأة لما صونعوا به من التقريظ و التزكية و النفاق- . و منها قوله ع فإني لست بفوق أن أخطئ- هذا اعتراف منه ع بعدم العصمة- فإما أن يكون الكلام على ظاهره- أو يكون قاله على سبيل هضم‏النفس-كما قال رسول الله ص و لا أنا إلا أن يتداركني الله برحمته- .

و منها قوله ع- أخرجنا مما كنا فيه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى- و أعطانا البصيرة بعد العمى- ليس هذا إشارة إلى خاص نفسه ع- لأنه لم يكن كافرا فأسلم- و لكنه كلام يقوله و يشير به إلى القوم- الذين يخاطبهم من أفناء الناس- فيأتي بصيغة الجمع الداخلة فيها نفسه توسعا- و يجوز أن يكون معناه- لو لا ألطاف الله تعالى ببعثة محمد ص- لكنت أنا و غيري على أصل مذهب الأسلاف من عبادة الأصنام- كما قال تعالى لنبيه وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى‏- ليس معناه أنه كان كافرا- بل معناه لو لا اصطفاه الله تعالى لك- لكنت كواحد من قومك- و معنى وَ وَجَدَكَ ضَالًّا- أي و وجدك بعرضة للضلال- فكأنه ضال بالقوة لا بالفعل

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 209 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

209 و من خطبة له ع خطبها بصفين

أَمَّا بَعْدُ- فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ- وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ- وَ الْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ- وَ أَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ- لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ- وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ- وَ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ- لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ- لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ- وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ- تَفَضُّلًا مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ الذي له عليهم من الحق هو وجوب طاعته- و الذي لهم عليه من الحق هو وجوب معدلته فيهم- و الحق أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف- معناه أن كل أحد يصف الحق و العدل- و يذكر حسنه و وجوبه- و يقول لو وليت لعدلت- فهو بالوصف باللسان وسيع و بالفعل ضيق- لأن ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه- و يعدون أن لو ولوا باعتماده و فعله- لا تجد في الألف منهم واحدا لو ولي لعدل- و لكنه قول بغير عمل- .

ثم عاد إلى تقرير الكلام الأول- و هو وجوب الحق له و عليه- فقال إنه لا يجري لأحد إلا و جرى عليه- و كذلك لا يجري عليه إلا و جرى له- أي ليس و لا واحد من الموجودين- بمرتفع عن أن يجري الحق عليه- و لو كان أحد من الموجودين كذلك- لكان أحقهم بذلك البارئ سبحانه- لأنه غاية الشرف- بل هو فوق الشرف و فوق الكمال و التمام- و هو مالك الكل و سيد الكل- فلو كان لجواز هذه القضية وجه- و لصحتها مساغ لكان البارئ تعالى أولى بها- و هي ألا يستحق عليه شي‏ء- و تقدير الكلام لكنه يستحق عليه أمور- فهو في هذا الباب كالواحد منا يستحق و يستحق عليه- و لكنه ع حذف هذا الكلام المقدر- أدبا و إجلالا لله تعالى أن يقول إنه يستحق عليه شي‏ء- .

فإن قلت فما بال المتكلمين لا يتأدبون بأدبه ع- و كيف يطلقون عليه تعالى الوجوب و الاستحقاق- . قلت ليست وظيفة المتكلمين- وظيفة أمير المؤمنين ع في عباراتهم- هؤلاء أرباب صناعة- و علم يحتاج إلى ألفاظ و اصطلاح لا بد لهم من استعماله- للإفهام و الجدل بينهم- و أمير المؤمنين إمام يخطب على منبره- يخاطب عربا و رعية ليسوا من أهل النظر- و لا مخاطبته لهم لتعليم هذا العلم- بل لاستنفارهم إلى حرب عدوه- فوجب عليه بمقتضى الأدب- أن يتوقى كل لفظة توهم ما يستهجنه السامع- في الأمور الإلهية و في غيرها- . فإن قلت فما هذه الأمور التي زعمت- أنها تستحق على البارئ سبحانه- و أن أمير المؤمنين ع حذفها من اللفظ و اللفظ يقتضيها- . قلت الثواب و العوض و قبول التوبة- و اللطف و الوفاء بالوعد و الوعيد- و غير ذلك مما يذكره أهل العدل- .

فإن قلت فما معنى قوله- لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه- لقدرته على عباده- و لعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه- و هب أن تعليل عدم استحقاق شي‏ء- على الله تعالى بقدرته على عباده صحيح- كيف يصح تعليل ذلك بعدله- في كل ما جرت عليه صروف قضائه- أ لا ترى أنه ليس بمستقيم- أن تقول لا يستحق على البارئ شي‏ء لأنه عادل- و إنما المستقيم أن تقول لا يستحق عليه شي‏ء لأنه مالك- و لذلك عللت الأشعرية هذا الحكم بأنه مالك الكل- و الاستحقاق إنما يكون على من دونه- .

قلت التعليل صحيح- و هو أيضا مما عللت به الأشعرية مذهبها- و ذلك لأنه إنما يتصور الاستحقاق على الفاعل المختار- إذا كان ممن يتوقع منه أو يصح منه أن يظلم- فيمكن حينئذ أن يقال قد وجب عليه كذا- و استحق عليه كذا- فأما من لا يمكن أن يظلم و لا يتصور وقوع الظلم منه- و لا الكذب و لا خلف الوعد و الوعيد- فلا معنى لإطلاق الوجوب و الاستحقاق عليه- كما لا يقال كذا الداعي الخالص- يستحق عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي- و يجب عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي- مثل الهارب من الأسد- و الشديد العطش إذا وجد الماء و نحو ذلك- .

فإن قلت أ ليس يشعر قوله ع- و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه- بمذهب البغداديين من أصحابكم- و هو قولهم إن الثواب تفضل من الله سبحانه- و ليس بواجب- . قلت لا و ذلك لأنه جعل المتفضل به- هو مضاعفة الثواب لا أصل الثواب- و ليس ذلك بمستنكر عندنا- . فإن قلت- أ يجوز عندكم أن يستحق المكلف عشرة أجزاء من الثواب- فيعطى عشرين جزءا منه- أ ليس من مذهبكم أن التعظيم و التبجيل- لا يجوز من البارئ سبحانه أن يفعلهمافي الجنة- إلا على قدر الاستحقاق- و الثواب عندكم هو النفع المقارن للتعظيم و التبجيل- فيكف قلت إن مضاعفة الثواب عندنا جائزة- .

قلت مراده ع بمضاعفة الثواب هنا- زيادة غير مستحقة من النعيم و اللذة الجسمانية- خاصة في الجنة- فسمى تلك اللذة الجسمانية ثوابا لأنها جزء من الثواب- فأما اللذة العقلية فلا يجوز مضاعفتها- . قوله ع بما هو من المزيد أهله- أي بما هو أهله من المزيد- فقدم الجار و المجرور و موضعه نصب على الحال- و فيه دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه- كما قال الشاعر-

لئن كان برد الماء حران صاديا
إلي حبيبا إنها لحبيب‏

ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً- افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ- فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا- وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً- وَ لَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ- . وَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ- حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَ حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي- فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ- فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ- فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ- وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ- فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ- وَ أَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا- عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ- وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ- فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ- وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ- .

وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا- أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ- اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ- وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ كَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ- وَ تَرَكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى- وَ عُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ- فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ- وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ- فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ- وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ- . فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ- فَلَيْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ- وَ طَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ- وَ لَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ- النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ- وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ- وَ لَيْسَ امْرُؤٌ وَ إِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ- وَ تَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ مِنْ حَقِّهِ- وَ لَا امْرُؤٌ وَ إِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ- وَ اقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ- بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ تتكافأ في وجوهها تتساوى- و هي حق الوالي على الرعية و حق الرعية على الوالي- . و فريضة قد روي بالنصب و بالرفع- فمن رفع فخبر مبتدإ محذوف- و من نصب فبإضمار فعل أو على الحال- . و جرت على أذلالها السنن- بفتح الهمزة أي على مجاريها و طرقها- . و أجحف الوالي برعيته ظلمهم- . و الإدغال في الدين الفساد- .

و محاج السنن جمع محجة و هي جادة الطريق- . قوله و كثرت علل النفوس أي تعللها بالباطل- و من كلام الحجاج إياكم و علل النفوس- فإنها أدوى لكم من علل الأجساد- . و اقتحمته العيون احتقرته و ازدرته- قال ابن دريد-و منه ما تقتحم العين فإن ذقت جناه ساغ عذبا في اللها- . و مثل قوله ع- و ليس امرؤ و إن عظمت في الحق منزلته- قول زيد بن علي ع لهشام بن عبد الملك- إنه ليس أحد و إن عظمت منزلته بفوق أن يذكر بالله- و يحذر من سطوته- و ليس أحد و إن صغر بدون أن يذكر بالله- و يخوف من نقمته- . و مثل قوله ع و إذا غلبت الرعية واليها- قول الحكماء إذا علا صوت بعض الرعية على الملك- فالملك مخلوع- فإن قال نعم فقال أحد من الرعية لا- فالملك مقتول

فصل فيما ورد من الآثار فيما يصلح الملك

و قد جاء في وجوب الطاعة لأولي الأمر الكثير الواسع- قال الله سبحانه- أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وروى عبد الله بن عمر عن رسول الله ص السمع و الطاعة على المرءالمسلم فيما أحب و كره- ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بها فلا سمع و لا طاعة
وعنه ص إن أمر عليكم عبد أسود مجدع فاسمعوا له و أطيعواومن كلام علي ع إن الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة
– .

بعث سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي- من العراق إلى عمر بن الخطاب بالمدينة- فقال له عمر كيف تركت الناس- قال تركتهم كقداح الجعبة منها الأعصل الطائش- و منها القائم الرائش قال فكيف سعد لهم- قال هو ثقافها الذي يقيم أودها و يغمز عصلها- قال فكيف طاعتهم قال يصلون الصلاة لأوقاتها- و يؤدون الطاعة إلى ولاتها- قال الله أكبر إذا أقيمت الصلاة أديت الزكاة- و إذا كانت الطاعة كانت الجماعة- . و من كلام أبرويز الملك- أطع من فوقك يطعك من دونك- .

و من كلام الحكماء قلوب الرعية خزائن واليها- فما أودعه فيها وجده- . و كان يقال صنفان متباغضان متنافيان- السلطان و الرعية و هما مع ذلك متلازمان- إن أصلح أحدهما صلح الآخر و إن فسد فسد الآخر- . و كان يقال- محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد- و محل الرعية منه محل الجسد من الروح- فالروح تألم بألم كل عضو من أعضاء البدن- و ليس كل واحد من الأعضاء يألم بألم غيره- و فساد الروح فساد جميع البدن- و قد يفسد بعض البدن و غيره من سائر البدن صحيح- .

و كان يقال ظلم الرعية استجلاب البلية- . و كان يقال العجب ممن استفسد رعيته- و هو يعلم أن عزه بطاعتهم- . و كان يقال موت الملك الجائر خصب شامل- . و كان يقال لا قحط أشد من جور السلطان- . و كان يقال قد تعامل الرعية المشمئزة بالرفق- فتزول أحقادها و يذل قيادها- و قد تعامل بالخرق فتكاشف بما غيبت- و تقدم على ما عيبت حتى يعود نفاقها شقاقا- و رذاذها سيلا بعاقا- ثم إن غلبت و قهرت فهو الدمار- و إن غلبت و قهرت لم يكن يغلبها افتخار- و لم يدرك بقهرها ثأر و كان يقال الرعية و إن كانت ثمارا مجتناه- و ذخائر مقتناه و سيوفا منتضاه- و أحراسا مرتضاه- فإن لها نفارا كنفار الوحوش- و طغيانا كطغيان السيول- و متى قدرت أن تقول قدرت على أن تصول- .

و كان يقال أيدي الرعية تبع ألسنتها- فلن يملك الملك ألسنتها حتى يملك جسومها- و لن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه- و لن تحبه حتى يعدل عليها في أحكامه عدلا- يتساوى فيه الخاصة و العامة- و حتى يخفف عنها المؤن و الكلف- و حتى يعفيها من رفع أوضاعها و أراذلها- عليها- و هذه الثالثة تحقد على الملك العلية من الرعية- و تطمع السفلة في الرتب السنية- .

و كان يقال الرعية ثلاثة أصناف- صنف فضلاء مرتاضون بحكم الرئاسة و السياسة- يعلمون فضيلة الملك و عظيم غنائه- و يرثون له من ثقل أعبائه- فهؤلاء يحصل الملك موداتهم بالبشر عند اللقاء- و يلقى أحاديثهم بحسن الإصغاء- و صنف فيهم خير و شر ظاهران- فصلاحهم يكتسب من معاملتهم بالترغيب و الترهيب- و صنف من السفلة الرعاع أتباع‏لكل داع- لا يمتحنون في أقوالهم و أعمالهم بنقد- و لا يرجعون في الموالاة إلى عقد- .

و كان يقال ترك المعاقبة للسفلة على صغار الجرائم- تدعوهم إلى ارتكاب الكبائر العظائم- أ لا ترى أول نشور المرأة كلمة سومحت بها- و أول حران الدابة حيدة سوعدت عليها- . و يقال إن عثمان قال يوما لجلسائه- و هو محصور في الفتنة- وددت أن رجلا صدوقا أخبرني عن نفسي و عن هؤلاء- فقام إليه فتى فقال إني أخبرك- تطأطأت لهم فركبوك- و ما جراهم على ظلمك إلا إفراط حلمك- قال صدقت فهل تعلم ما يشب نيران الفتن- قال نعم سألت عن ذلك شيخا من تنوخ كان باقعة- قد نقب في الأرض و علم علما جما- فقال الفتنة يثيرها أمران- أثرة تضغن على الملك الخاصة- و حلم يجزئ عليه العامة- قال فهل سألته عما يخمدها- قال نعم زعم أن الذي يخمدها في ابتدائها- استقالة العثرة و تعميم الخاصة بالأثرة- فإذا استحكمت الفتنة أخمدها الصبر- قال عثمان صدقت- و إني لصابر حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين- و يقال إن يزدجرد بن بهرام سأل حكيما- ما صلاح الملك قال الرفق بالرعية- و أخذ الحق منها بغير عنف- و التودد إليها بالعدل- و أمن السبل و إنصاف المظلوم- قال فما صلاح الملك قال وزراؤه إذا صلحوا صلح- قال فما الذي يثير الفتن قال ضغائن يظهرها جرأة عامه- و استخفاف خاصة و انبساط الألسن بضمائر القلوب- و إشفاق موسر و أمن معسر- و غفلة مرزوق و يقظة محروم- قال و ما يسكنها قال أخذ العدة لما يخاف- و إيثار الجد حين يلتذ الهزل- و العمل بالحزم و ادراع الصبر و الرضا بالقضاء- . و كان يقال خير الملوك من أشرب قلوب رعيته محبته- كما أشعرها هيبته- و لن ينال ذلك منها حتى تظفر منه بخمسه أشياء- إكرام شريفها و رحمة ضعيفها- و إغاثة لهيفهاو كف عدوان عدوها- و تأمين سبل رواحها و غدوها- فمتى أعدمها شيئا من ذلك- فقد أحقدها بقدر ما أفقدها- . و كان يقال الأسباب التي تجر الهلك إلى الملك ثلاثة- أحدها من جهة الملك- و هو أن تتأمر شهواته على عقله- فتستهويه نشوات الشهوات- فلا تسنح له لذة إلا اقتنصها- و لا راحة إلا افترصها- . و الثاني من جهة الوزراء- و هو تحاسدهم المقتضي تعارض الآراء- فلا يسبق أحدهم إلى حق- إلا كويد و عورض و عوند- . و الثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك و الدين- و توهين المعاندين و هو نكولهم عن الجلاد- و تضجيعهم في المناصحة و الجهاد- و هم صنفان صنف وسع الملك عليهم فأبطرهم الإتراف- و ضنوا بنفوسهم عن التعريض للإتلاف- و صنف قدر عليهم الأرزاق- فاضطغنوا الأحقاد و استشعروا النفاق

الآثار الواردة في العدل و الإنصاف

قوله ع أو أجحف الوالي برعيته- قد جاء من نظائره الكثير جدا- و قد ذكرنا فيما تقدم نكتا حسنة في مدح العدل و الإنصاف- و ذم الظلم و الإجحاف- وقال النبي ص زين الله السماء بثلاثة الشمس و القمر و الكواكب- و زين الأرض بثلاثة العلماء و المطر و السلطان العادل
– . و كان يقال إذا لم يعمر الملك ملكه بإنصاف الرعية- خرب ملكه بعصيان الرعية- . و قيل لأنوشروان أي الجنن أوقى- قال الدين قيل فأي العدد أقوى قال العدل- .

وقع جعفر بن يحيى إلى عامل من عماله- كثر شاكوك و قل حامدوك- فإما عدلت و إما اعتزلت- . وجد في خزانة بعض الأكاسرة سفط- ففتح فوجد فيه حب الرمان- كل حبة كالنواة الكبيرة من نوى المشمش- و في السفط رقعة فيها- هذا حب رمان عملنا في خراجه بالعدل- . جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلما- فقال يا أمير المؤمنين هذا مكان العائذ بك- قال له عذت بمعاذ ما شأنك- قال سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته- فجعل يعنفني بسوطه و يقول أنا ابن الأكرمين- و بلغ أباه ذلك فحبسني خشية أن أقدم عليك- فكتب إلى عمرو- إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت و ابنك- فلما قدم عمرو و ابنه دفع الدرة إلى المصري- و قال اضربه كما ضربك فجعل يضربه و عمر يقول- اضرب ابن الأمير اضرب ابن الأمير يرددها- حتى قال يا أمير المؤمنين قد استقدت منه- فقال و أشار إلى عمرو ضعها على صلعته- فقال المصري يا أمير المؤمنين إنما أضرب من ضربني- فقال إنما ضربك بقوة أبيه و سلطانه- فاضربه إن شئت فو الله لو فعلت لما منعك أحد منه- حتى تكون أنت الذي تتبرع بالكف عنه- ثم قال يا ابن العاص- متى تعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرار- .

خطب الإسكندر جنده- فقال لهم بالرومية كلاما تفسيره- يا عباد الله إنما إلهكم الله الذي في السماء- الذي نصرنا بعد حين- الذي يسقيكم الغيث عند الحاجة- و إليه مفزعكم عند الكرب- و الله لا يبلغني إن الله أحب شيئا إلا أحببته- و عملت به إلى يوم أجلي- و لا يبلغني أنه أبغض شيئا إلا أبغضته- و هجرته إلى يوم أجلي- و قد أنبئت أن الله يحب العدل في عباده- و يبغض الجور- فويل للظالم من سوطي و سيفي- و من ظهر منهالعدل من عمالي فليتكئ في مجلسي كيف شاء- و ليتمن على ما شاء- فلن تخطئه أمنيته و الله المجازي كلا بعمله- . قال رجل لسليمان بن عبد الملك و هو جالس للمظالم- يا أمير المؤمنين أ لم تسمع قول الله تعالى- فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ- قال ما خطبك قال وكيلك اغتصبني ضيعتي- و ضمها إلى ضيعتك الفلانية- قال فإن ضيعتي لك و ضيعتك مردودة إليك- ثم كتب إلى الوكيل بذلك و بصرفه عن عمله- .

و رقى إلى كسرى قباذ- أن في بطانة الملك قوما قد فسدت نياتهم- و خبثت ضمائرهم- لأن أحكام الملك جرت على بعضهم لبعضهم- فوقع في الجواب أنا أملك الأجساد لا النيات- و أحكم بالعدل لا بالهوى- و أفحص عن الأعمال لا عن السرائر- . و تظلم أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم- فقال ما علمت في عمالي أعدل و لا أقوم بأمر الرعية- و لا أعود بالرفق منه- فقال له منهم واحد- فلا أحد أولى منك يا أمير المؤمنين بالعدل و الإنصاف- و إذا كان بهذه الصفة- فمن عدل أمير المؤمنين أن يوليه بلدا بلدا- حتى يلحق أهل كل بلد من عدله- مثل ما لحقنا منه- و يأخذوا بقسطهم منه كما أخذ منه سواهم- و إذا فعل أمير المؤمنين ذلك- لم يصب الكوفة منه أكثر من ثلاث سنين- فضحك و عزله- . كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز- أما بعد فإن قبلنا قوما لا يؤدون الخراج- إلا أن يمسهم نصب من العذاب- فاكتب إلى أمير المؤمنين برأيك- فكتب أما بعد فالعجب لك كل العجب- تكتب إلي تستأذنني في عذاب البشر- كأن إذني لك جنة من عذاب الله- أو كان رضاي ينجيك من سخط الله- فمن أعطاك ما عليه عفوافخذ منه- و من أبى فاستحلفه و كله إلى الله- فلأن يلقوا الله بجرائمهم- أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم- .

فضيل بن عياض- ما ينبغي أن تتكلم بفيك كله- أ تدري من كان يتكلم بفيه كله- عمر بن الخطاب كان يعدل في رعيته و يجور على نفسه- و يطعمهم الطيب و يأكل الغليظ- و يكسوهم اللين و يلبس الخشن- و يعطيهم الحق و يزيدهم و يمنع ولده و أهله- أعطى رجلا عطاءه أربعة آلاف درهم ثم زاده ألفا- فقيل له أ لا تزيد ابنك عبد الله كما تزيد هذا- فقال إن هذا ثبت أبوه يوم أحد- و إن عبد الله فر أبوه و لم يثبت- . و كان يقال لا يكون العمران- إلا حيث يعدل السلطان- . و كان يقال العدل حصن وثيق في رأس نيق- لا يحطمه سيل و لا يهدمه منجنيق- . وقع المأمون إلى عامل كثر التظلم منه- أنصف من وليت أمرهم- و إلا أنصفهم منك من ولي أمرك- . بعض السلف العدل ميزان الله و الجور مكيال الشيطان

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 208 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

208 و من دعاء كان يدعو به ع كثيرا

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَ لَا سَقِيماً- وَ لَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ- وَ لَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِي وَ لَا مَقْطُوعاً دَابِرِي- وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي وَ لَا مُنْكِراً لِرَبِّي- وَ لَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَ لَا مُلْتَبِساً عَقْلِي- وَ لَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي- أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي- لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَ لَا حُجَّةَ لِي- وَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَيْتَنِي- وَ لَا أَتَّقِيَ إِلَّا مَا وَقَيْتَنِي- اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ- أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ- أَوْ أُضْطَهَدَ وَ الْأَمْرُ لَكَ- اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي- وَ أَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي- اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ- أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ- أَوْ تَتَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ‏

قوله كثيرا منصوب بأنه صفة مصدر محذوف- أي دعاء كثيرا- و ميتا منصوب على الحال- أي لم يفلق الصباح على ميتا- و لا يجوز أن تكون يصبح ناقصة- و يكون ميتا خبرها كما قال الراوندي- لأن خبر كان و أخواتها- يجب أن يكون هو الاسم- أ لا ترى أنهما مبتدأ و خبر في الأصل- و اسم يصبح ضمير الله تعالى- و ميتا ليس هو الله سبحانه- .

قوله و لا مضروبا على عروقي بسوء- أي و لا أبرص- و العرب تكني عن البرص بالسوء- و من أمثالهم ما أنكرك من سوء- أي ليس إنكاري لك عن برص- حدث بك فغير صورتك- . و أراد بعروقه أعضاءه- و يجوز أن يريد و لا مطعونا في نسبي- و التفسير الأول أظهر- . و لا مأخوذا بأسوإ عملي- أي و لا معاقبا بأفحش ذنوبي- . و لا مقطوعا دابري أي عقبي و نسلي- و الدابر في الأصل التابع لأنه يأتي دبرا- و يقال للهالك قد قطع الله دابره- كأنه يراد أنه عفا أثره و محا اسمه- قال سبحانه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ- . و لا مستوحشا أي و لا شاكا في الإيمان- لأن من شك في عقيدة استوحش منها- . و لا متلبسا عقلي أي و لا مختلطا عقلي- لبست عليهم الأمر بالفتح أي خلطته- و عذاب الأمم من قبل المسخ و الزلزلة و الظلمة و نحو ذلك- .

قوله لك الحجة علي و لا حجة لي- لأن الله سبحانه قد كلفه بعد تمكينه و إقداره- و إعلامه قبح القبيح و وجوب الواجب- و ترديد دواعيه إلى الفعل و تركه- و هذه حجة الله تعالى على عباده- و لا حجة للعباد عليه لأنه ما كلفهم إلا بما يطيقونه- و لا كان لهم لطف في أمر إلا و فعله- . قوله لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني- و لا أتقي إلا ما وقيتني- أي لا أستطيع أن أرزق نفسي أمرا- و لكنك الرزاق- و لا أدفع عن نفسي محذورا من المرض و الموت- إلا ما دفعته أنت عني- . و قال الشاعر-

لعمرك ما يدرى الفتى كيف
يتقي نوائب هذا الدهر أم كيف يحذر

يرى الشي‏ء مما يتقى فيخافه‏
و ما لا يرى مما يقي الله أكثر

و قال عبد الله بن سليمان بن وهب-

كفاية الله أجدى من توقينا
و عادة الله في الأعداء تكفينا

كاد الأعادي فما أبقوا و لا تركوا
عيبا و طعنا و تقبيحا و تهجينا

و لم نزد نحن في سر و
في علن على مقالتنا الله يكفينا

و كان ذاك و رد الله حاسدنا
بغيظه لم ينل مأموله فينا

قوله ع أن أفتقر في غناك- موضع الجار و المجرور نصب على الحال- و في متعلقة بمحذوف- و المعنى أن أفتقر و أنت الموصوف بالغنى- الفائض على الخلق- . و كذلك قوله أو أضل في هداك- معناه أو أضل و أنت ذو الهداية العامة للبشر كافة- و كذلك أو أضام في سلطانك- كما يقول المستغيث إلى السلطان كيف أظلم في عدلك- .

و كذلك قوله أو أضطهد و الأمر لك- أي و أنت الحاكم صاحب الأمر- و الطاء في أضطهد هي تاء الافتعال- و أصل الفعل ضهدت فلانا فهو مضهود أي قهرته- و فلان ضهده لكل أحد- أي كل من شاء أن يقهره فعل- . قوله اللهم اجعل نفسي- هذه الدعوة مثل دعوة رسول الله ص- و هيقوله اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا- و اجعله الوارث منا- أي لا تجعل موتنا متأخرا عن ذهاب حواسنا- وكان علي بن الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ علي سمعي و بصري إلى انتهاء أجلي- .

و فسروا قوله ع و اجعله الوارث منا- فقالوا الضمير في و اجعله يرجع إلى الإمتاع- . فإن قلت كيف يتقى الإمتاع بالسمع و البصر- بعد خروج الروح- . قلت هذا توسع في الكلام- و المراد لا تبلنا بالعمى و لا الصمم- فنكون أحياء في الصورة و لسنا بأحياء في المعنى- لأن من فقدهما لا خير له في الحياة- فحملته المبالغة على أن طلب بقاءهما بعد ذهاب النفس- إيذانا و إشعارا بحبه ألا يبلى بفقدهما- .

و نفتتن على ما لم يسم فاعله- نصاب بفتنة تضلنا عن الدين- و روي نفتتن بفتح حرف المضارعة على نفتعل- افتتن الرجل أي فتن- و لا يجوز أن يكون الافتتان متعديا كما ذكره الراوندي- و لكنه قرأ في الصحاح للجوهري- و الفتون الافتتان يتعدى و لا يتعدى- فظن أن ذلك للافتتان و ليس كما ظن- و إنما ذلك راجع إلى الفتون- . و التتابع التهافت في اللجاج و الشر- و لا يكون إلا في مثل ذلك- و روي أو تتابع بطرح إحدى التاءات

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 207 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

207 و من خطبة له ع

وَ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ وَ حَكَمٌ فَصَلَ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ سَيِّدُ عِبَادِهِ- كُلَّمَا نَسَخَ اللَّهُ الْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا- لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ وَ لَا ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ- أَلَا وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلًا- وَ لِلْحَقِّ دَعَائِمَ وَ لِلطَّاعَةِ- عِصَماً- وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَةٍ عَوْناً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- يَقُولُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَ يُثَبِّتُ بِهِ الْأَفْئِدَةَ- فِيهِ كِفَاءٌ لِمُكْتَفٍ وَ شِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ- يَصُونُونَ مَصُونَهُ وَ يُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ- يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلَايَةِ- وَ يَتَلَاقَوْنَ بِالْمَحَبَّةِ وَ يَتَسَاقَوْنَ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ- وَ يَصْدُرُونَ بِرِيَّةٍ لَا تَشُوبُهُمُ الرِّيبَةُ- وَ لَا تُسْرِعُ فِيهِمُ الْغِيبَةُ- عَلَى ذَلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَ أَخْلَاقَهُمْ- فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ وَ بِهِ يَتَوَاصَلُونَ- فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ يُنْتَقَى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَ يُلْقَى- قَدْ مَيَّزَهُ التَّخْلِيصُ وَ هَذَّبَهُ التَّمْحِيصُ- فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا- وَ لْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا- وَ لْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ وَ قَلِيلِ مُقَامِهِ فِي مَنْزِلٍ- حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلًا- فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ وَ مَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ- فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ- أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ وَ تَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ- وَ أَصَابَ سَبِيلَ السَّلَامَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ- وَ طَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ وَ بَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ-وَ تُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَ اسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ وَ أَمَاطَ الْحَوْبَةَ- فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ وَ هُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ الضمير في أنه يرجع إلى القضاء و القدر- المذكور في صدر هذه الخطبة- و لم يذكره الرضي رحمه الله- يقول أشهد أن قضاءه تعالى عدل عدل و حكم بالحق- فإنه حكم فصل بين العباد بالإنصاف- و نسب العدل و الفصل إلى القضاء على طريق المجاز- و هو بالحقيقة منسوب إلى ذي القضاء- و القاضي به هو الله تعالى- .

قوله و سيد عباده هذا كالمجمع عليه بين المسلمين- و إن كان قد خالف فيه شذوذ منهم- و احتج الجمهوربقوله أنا سيد ولد آدم و لا فخروبقوله ادعوا لي سيد العرب عليا- فقالت عائشة أ لست سيد العرب- فقال أنا سيد البشر و علي سيد العربوبقوله آدم و من دونه تحت لوائيو احتج المخالفبقوله ع لا تفضلوني على أخي يونس بن متى- .

و أجاب الأولون تارة بالطعن في إسناد الخبر- و تارة بأنه حكاية كلام حكاه ص- عن عيسى ابن مريم- و تارة بأن النهي إنما كان عن الغلو فيه- كما غلت الأمم في أنبيائها- فهو كما ينهى الطبيب المريض- فيقول لا تأكل من الخبز و لا درهما- و ليس مراده تحريم أكل الدرهم و الدرهمين- بل تحريم ما يستضر بأكله منه- . قوله ع- كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما- النسخ النقل و منه نسخ الكتاب- و منه نسخت الريح آثار القوم و نسخت الشمس الظل- يقول‏ كلما قسم الله تعالى الأب الواحد إلى ابنين- جعل خيرهما و أفضلهما لولادة محمد ع- و سمى ذلك نسخا لأن البطن الأول يزول- و يخلفه البطن الثاني- و منه مسائل المناسخات في الفرائض- .

و هذا المعنى قد ورد مرفوعا في عدة أحاديث نحوقوله ص ما افترقت فرقتان منذ نسل آدم ولده- إلا كنت في خيرهماو نحوقوله إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل- و اصطفى من ولد إسماعيل مضر- و اصطفى من مضر كنانة و اصطفى من كنانة قريشا- و اصطفى من قريش هاشما- و اصطفاني من بني هاشمقوله لم يسهم فيه عاهر و لا ضرب فيه فاجر- لم يسهم لم يضرب فيه عاهر بسهم أي بنصيب و جمعه سهمان- و العاهر ذو العهر بالتحريك و هو الفجور و الزناء- و يجوز تسكين الهاء مثل نهر و نهر- و هذا هو المصدر و الماضي عهر بالفتح- و الاسم العهر بكسر العين و سكون الهاء- و المرأة عاهرة و معاهرة و عيهرة- و تعيهر الرجل إذا زنى- و الفاجر كالعاهر هاهنا- و أصل الفجور الميل قال لبيد-فإن تتقدم تغش منها مقدما غليظا و إن أخرت فالكفل فاجريقول مقعد الرديف مائلذكر بعض المطاعن في النسب و كلام للجاحظ في ذلكو في الكلام رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن- كما يقال إن آل سعد بن أبي وقاص- ليسوا من بني زهرة بن كلاب- و إنهم من بني عذرة من قحطان-و كما قالوا إن آل الزبير بن العوام- من أرض مصر من القبط- و ليسوا من بني أسد بن عبد العزى- قال الهيثم بن عدي في كتاب مثالب العرب- إن خويلد بن أسد بن عبد العزى كان أتى مصر- ثم انصرف منها بالعوام فتبناه- فقال حسان بن ثابت يهجو آل العوام بن خويلد-

بني أسد ما بال آل خويلد
يحنون شوقا كل يوم إلى القبط

متى يذكروا قهقى يحنوا لذكرها
و للرمث المقرون و السمك الرقط

عيون كأمثال الزجاج وضيعة
تخالف كعبا في لحى كثة ثط

يرى ذاك في الشبان و الشيب منهم‏
مبينا و في الأطفال و الجلة الشمط

لعمر أبي العوام إن خويلدا
غداة تبناه ليوثق في الشرط

و كما يقال في قوم آخرين- نرفع هذا الكتاب عن ذكر ما يطعن به في أنسابهم- كي لا يظن بنا أنا نحب المقالة في الناس- . قال شيخنا أبو عثمان في كتاب مفاخرات قريش- لا خير في ذكر العيوب إلا من ضرورة- و لا نجد كتاب مثالب قط إلا لدعي أو شعوبي- و لست واجده لصحيح النسب و لا لقليل الحسد- و ربما كانت حكاية الفحش أفحش من الفحش- و نقل الكذب أقبح من الكذب- وقال النبي ص اعف عن ذي قبروقال لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات- و قيل في المثل يكفيك من شر سماعه- و قالوا أسمعك من أبلغك- و قالوا من طلب عيبا وجده- و قال النابغة-و لست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب‏- .

قال أبو عثمان- و بلغ عمر بن الخطاب أن أناسا من رواة الأشعار- و حملة الآثار يعيبون الناس- و يثلبونهم في أسلافهم- فقام على المنبر و قال إياكم و ذكر العيوب- و البحث عن الأصول- فلو قلت لا يخرج اليوم من هذا الأبواب- إلا من لا وصمة فيه- لم يخرج منكم أحد- فقام رجل من قريش نكره أن نذكره- فقال إذا كنت أنا و أنت يا أمير المؤمنين نخرج- فقال كذبت بل كان يقال لك يا قين بن قين اقعد- .

قلت الرجل الذي قام- هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي- كان عمر يبغضه لبغضه أباه خالدا- و لأن المهاجر كان علوي الرأي جدا- و كان أخوه عبد الرحمن بخلافه- شهد المهاجر صفين مع علي ع- و شهدها عبد الرحمن مع معاوية- و كان المهاجر مع علي ع في يوم الجمل- و فقئت ذلك اليوم عينه- و لأن الكلام الذي بلغ عمر بلغه عن المهاجر- و كان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش- و كونه يسمى ريحانة قريش و يسمى العدل- و يسمى الوحيد حداد يصنع الدروع و غيرها بيده- ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في كتاب المعارف- .

و روى أبو الحسن المدائني هذا الخبر- في كتاب أمهات الخلفاء- و قال إنه روى عند جعفر بن محمد ع بالمدينة- فقال لا تلمه يا ابن أخي- إنه أشفق أن يحدج بقضية نفيل بن عبد العزى و صهاك أمة الزبير بن عبد المطلب- ثم قال رحم الله عمر فإنه لم يعد السنة و تلا- إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا- لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- . أما قول ابن جرير الآملي الطبرستاني في كتاب المسترشد- إن عثمان والدأبي بكر الصديق- كان ناكحا أم الخير ابنة أخته فليس بصحيح- و لكنها ابنة عمه لأنها ابنة صخر بن عامر- و عثمان هو ابن عمرو بن عامر- و العجب لمن اتبعه من فضلاء الإمامية على هذه المقالة- من غير تحقيق لها من كتب الأنساب- و كيف تتصور هذه الواقعة في قريش- و لم يكن أحد منهم مجوسيا و لا يهوديا- و لا كان من مذهبهم حل نكاح بنات الأخ و لا بنات الأخت- .

ثم نعود لإتمام حكاية كلام شيخنا أبي عثمان- قال و متى يقدر الناس حفظك الله- على رجل مسلم من كل ابنة و مبرأ من كل آفة- في جميع آبائه و أمهاته و أسلافه و أصهاره- حتى تسلم له أخواله و أعمامه و خالاته و عماته- و أخواته و بناته و أمهات نسائه- و جميع من يناسبه من قبل جداته و أجداده- و أصهاره و أختانه- و لو كان ذلك موجودا- لما كان لنسب رسول الله ص فضيلة في النقاء و التهذيب- و في التصفية و التنقيح-قال رسول الله ص ما مسني عرق سفاح قط- و ما زلت أنقل من الأصلاب السليمة من الوصوم- و الأرحام البريئة من العيوبفلسنا نقضي لأحد بالنقاء من جميع الوجوه- إلا لنسب من صدقه القرآن و اختاره الله على جميع الأنام- و إلا فلا بد من شي‏ء يكون في نفس الرجل أو في طرفيه- أو في بعض أسلافه أو في بعض أصهاره- و لكنه يكون مغطى بالصلاح- و محجوبا بالفضائل و مغمورا بالمناقب- .

و لو تأملت أحوال الناس- لوجدت أكثرهم عيوبا أشدهم تعييبا- قال الزبرقان من بدر ما استب رجلان إلا غلب ألأمهما- و قال خصلتان كثيرتان في امرئ السوء-كثرة اللطام و شدة السباب- و لو كان ما يقوله أصحاب المثالب حقا- لما كان على ظهرها عربي- كما قال عبد الملك بن صالح الهاشمي- إن كان ما يقول بعض في بعض حقا فما فيهم صحيح- و إن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقا- فما فيهم مسلم- .

قوله ع ألا و إن الله قد جعل للخير أهلا- و للحق دعائم و للطاعة عصما- الدعائم ما يدعم بها البيت لئلا يسقط- و العصم جمع عصمة و هو ما يحفظ به الشي‏ء و يمنع- فأهل الخير هم المتقون- و دعائم الحق الأدلة الموصلة إليه المثبتة له في القلوب- و عصم الطاعة هي الإدمان على فعلها- و التمرن على الإتيان بها- لأن المرون على الفعل يكسب الفاعل ملكة- تقتضي سهولته عليه- و العون هاهنا هو اللطف المقرب من الطاعة- المبعد من القبيح- .

ثم قال ع- إنه يقول على الألسنة و يثبت الأفئدة- و هذا من باب التوسع و المجاز- لأنه لما كان مستهلا للقول- أطلق عليه إنه يقول على الألسنة- و لما كان الله تعالى هو الذي يثبت الأفئدة- كما قال يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ- نسب التثبيت إلى اللطف لأنه من فعل الله تعالى- كما ينسب الإنبات إلى المطر- و إنما المنبت للزرع هو الله تعالى و المطر فعله- . ثم قال ع فيه كفاء لمكتف و شفاء لمشتف- و الوجه فيه كفاية- فإن الهمز لا وجه له هاهنا لأنه من باب آخر- و لكنه أتى بالهمزة للازدواج بين كفاءو شفاء- كما قالوا الغدايا و العشايا- و كما قال ع مأزورات غير مأجورات- فأتى بالهمز و الوجه الواو للازدواج

ذكر بعض أحوال العارفين و الأولياء

ثم ذكر العارفين فقال- و اعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه- إلى قوله و هذبه التمحيص- . و اعلم أن الكلام في العرفان- لم يأخذه أهل الملة الإسلامية إلا عن هذا الرجل- و لعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات و أبعد النهايات- و العارفون هم القوم الذين اصطفاهم الله تعالى- و انتخبهم لنفسه و اختصهم بأنسه- أحبوه فأحبهم و قربوا منه فقرب منهم- قد تكلم أرباب هذا الشأن في المعرفة و العرفان- فكل نطق بما وقع له- و أشار إلى ما وجده في وقته- . و كان أبو علي الدقاق يقول- من أمارات المعرفة حصول الهيبة من الله- فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته- .

و كان يقول المعرفة توجب السكينة في القلب- كما أن العلم يوجب السكون- فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته- . و سئل الشبلي عن علامات العارف- فقال ليس لعارف علامة و لا لمحب سكون و لا لخائف قرار- . و سئل مرة أخرى عن المعرفة- فقال أولها الله و آخرها ما لا نهاية له- . و قال أبو حفص الحداد- منذ عرفت الله ما دخل قلبي حق و لا باطل- و قد أشكل هذا الكلام على أرباب هذا الشأن- و تأوله بعضهم فقال- عند القوم إن المعرفة توجب‏غيبة العبد عن نفسه- لاستيلاء ذكر الحق عليه- فلا يشهد غير الله و لا يرجع إلا إليه- و كما إن العاقل يرجع إلى قلبه- و تفكره و تذكره فيما يسنح له من أمر- أو يستقبله من حال- فالعارف رجوعه إلى ربه لا إلى قلبه- و كيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له- .

و سئل أبو يزيد البسطامي عن العرفان- فقال إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها- وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً- و هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص الحداد- . و قال أبو يزيد أيضا للخلق أحوال و لا حال للعارف- لأنه محيت رسومه و فنى هو- و صارت هويته هوية غيره- و غيبت آثاره في آثار غيره- . قلت و هذا هو القول بالاتحاد الذي يبحث فيه أهل النظر- . و قال الواسطي- لا تصح المعرفة و في العبد استغناء بالله- أو افتقار إليه- و فسر بعضهم هذا الكلام- فقال إن الافتقار و الاستغناء- من أمارات صحو العبد و بقاء رسومه- على ما كانت عليه- و العارف لا يصح ذلك عليه- لأنه لاستهلاكه في وجوده- أو لاستغراقه في شهوده- إن لم يبلغ درجة الاستهلاك في الوجود- مختطف عن إحساسه بالغنى و الفقر و غيرهما من الصفات- و لهذا قال الواسطي- من عرف الله انقطع و خرس و انقمع-قال ص لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك- .

و قال الحسين بن منصور الحلاج- علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا و الآخرة- . و قال سهل بن عبد الله التستري- غاية العرفان شيئان الدهش و الحيرة- . و قال ذو النون- أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه- . و قيل لأبي يزيد بما ذا وصلت إلى المعرفة- قال ببدن عار و بطن جائع- .

و قيل لأبي يعقوب السوسي- هل يتأسف العارف على شي‏ء غير الله- فقال و هل يرى شيئا غيره ليتأسف عليه- . و قال أبو يزيد العارف طيار و الزاهد سيار- . و قال الجنيد لا يكون العارف عارفا- حتى يكون كالأرض يطؤها البر و الفاجر- و كالسحاب يظل كل شي‏ء- و كالمطر يسقى ما ينبت و ما لا ينبت- . و قال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا- و لا يقضى وطره من شيئين- بكائه على نفسه و حبه لربه- . و كان ابن عطاء يقول- أركان المعرفة ثلاثة الهيبة و الحياء و الأنس و قال بعضهم العارف أنس بالله فأوحشه من خلقه- و افتقر إلى الله فأغناه عن خلقه- و ذل لله فأعزه في خلقه- . و قال بعضهم العارف فوق ما يقول- و العالم دون ما يقول- .

و قال أبو سليمان الداراني- إن الله يفتح للعارف على فراشه- ما لا يفتح للعابد و هو قائم يصلي- . و كان رويم يقول- رياء العارفين أفضل من إخلاص العابدين- . و سئل أبو تراب النخشبي عن العارف- فقال هو الذي لا يكدره شي‏ء- و يصفو به كل شي‏ء- . و قال بعضهم المعرفة أمواج ترفع و تحط- . و سئل يحيى بن معاذ عن العارف فقال الكائن البائن- . و قيل ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة- فكيف عند أبناء الدنيا- .

و قال محمد بن الفضل المعرفة حياة القلب مع الله- . و سئل أبو سعيد الخراز- هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء- قال‏نعم إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله- فإذا صاروا إلى حقائق القرب- و ذاقوا طعم الوصول زال عنهم ذلك- . و اعلم أن إطلاق أمير المؤمنين ع عليهم لفظة الولاية- في قوله يتواصلون بالولاية و يتلاقون بالمحبة- يستدعي الخوض في مقامين جليلين من مقامات العارفين- المقام الأول الولاية و هو مقام جليل- قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ- لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ- وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وجاء في الخبر الصحيح عن النبي ص يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد استحل محارمي- و ما تقرب إلي العبد بمثل أداء ما فرضت عليه- و لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه- و لا ترددت في شي‏ء أنا فاعله- كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن- يكره الموت و أكره مساءته و لا بد له منه- .

و اعلم أن الولي له معنيان- أحدهما فعيل بمعنى مفعول كقتيل و جريح- و هو من يتولى الله أمره كما قال الله تعالى- إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ- وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ- فلا يكله إلى نفسه لحظة عين بل يتولى رعايته- . و ثانيهما فعيل بمعنى فاعل كنذير و عليم- و هو الذي يتولى طاعة الله و عبادته فلا يعصيه- . و من شرط كون الولي وليا ألا يعصي مولاه و سيده- كما أن من شرط كون النبي‏نبيا العصمة- فمن ظن فيه أنه من الأولياء- و يصدر عنه ما للشرع فيه اعتراض- فليس بولي عند أصحاب هذا العلم بل هو مغرور مخادع- . و يقال إن أبا يزيد البسطامي قصد بعض من يوصف بالولاية- فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه- فخرج الرجل و تنخم في المسجد- فانصرف أبو يزيد و لم يسلم عليه- و قال هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة- كيف يكون أمينا على أسرار الحق- .

و قال إبراهيم بن أدهم لرجل- أ تحب أن تكون لله وليا قال نعم- قال لا ترغب في شي‏ء من الدنيا و لا من الآخرة- و فرغ نفسك لله- و أقبل بوجهك عليه ليقبل عليك و يواليك- . و قال يحيى بن معاذ في صفة الأولياء- هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة- و ادرعوا بالروح بعد المجاهدة- بوصولهم إلى مقام الولاية- . و كان أبو يزيد يقول أولياء الله عرائس الله- و لا يرى العرائس إلا المحارم- فهم مخدرون عنده في حجاب الأنس- لا يراهم أحد في الدنيا و لا في الآخرة- .

و قال أبو بكر الصيدلاني- كنت أصلح لقبر أبي بكر الطمستاني لوحا أنقر فيه اسمه- فيسرق ذلك اللوح- فأنقر له لوحا آخر و أنصبه على قبره فيسرق- و تكرر ذلك كثيرا دون غيره من ألواح القبور- فكنت أتعجب منه فسألت أبا علي الدقاق عن ذلك- فقال إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا- و أنت تريد أن تشهره باللوح الذي تنصبه على قبره- فالله سبحانه يأبى إلا إخفاء قبره كما هو ستر نفسه- . و قال بعضهم- إنما سمي الولي وليا لأنه توالت أفعاله على الموافقة- .

و قال يحيى بن معاذ الولي لا يرائي و لا ينافق- و ما أقل صديق من يكون هذا خلقه- . المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه- مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ- فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ- و المحبة عند أرباب هذا الشأن حالة شريفة- . قال أبو يزيد البسطامي- المحبة استقلال الكثير من نفسك- و استكثار القليل من حبيبك- . و قال أبو عبد الله القرشي- المحبة أن تهب كلك لمن أحببت- فلا يبقى لك منك شي‏ء- و أكثرهم على نفي صفة العشق- لأن العشق مجاوزة الحد في المحبة- و البارئ سبحانه أجل من أن يوصف- بأنه قد تجاوز أحد الحد في محبته- .

سئل الشبلي عن المحبة- فقال هي أن تغار على المحبوب- أن يحبه أحد غيرك- . و قال سمنون ذهب المحبون بشرف الدنيا و الآخرة-لأن النبي ص قال المرء مع من أحب- فهم مع الله تعالى- . و قال يحيى بن معاذ- حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء و لا يزيد بالبر- . و قال ليس بصادق من ادعى محبته و لم يحفظ حدوده- . و قال الجنيد إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب- . و أنشد في معناه-إذا صفت المودة بين قوم و دام ودادهم سمج الثناءو كان أبو علي الدقاق يقول- أ لست ترى الأب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب- و الناس يتكلفون في مخاطبته- و الأب يقول له يا فلان باسمه- .

و قال أبو يعقوب السوسي- حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله- و ينسى حوائجه إليه- . قيل للنصرآباذي يقولون إنه ليس لك من المحبة شي‏ء- قال صدقوا و لكن لي حسراتهم فهو ذو احتراق فيه- . و قال النصرآباذي أيضا- المحبة مجانبة السلو على كل حال ثم أنشد-

و من كان في طول الهوى ذاق
سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق‏

و أكثر شي‏ء نلته في وصالها
أماني لم تصدق كلمحة بارق‏

و كان يقال الحب أوله خبل و آخره قتل- . و قال أبو علي الدقاق في معنىقول النبي ص حبك الشي‏ء يعمي و يصم- قال يعمي و يصم عن الغير إعراضا- و عن المحبوب هيبة ثم أنشد-

إذا ما بدا لي تعاظمته
فأصدر في حال من لم يره‏

 و قال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول- المحبة إقبالك على المحبوب بكليتك- ثم إيثارك له على نفسك و مالك و ولدك- ثم موافقتك له في جميع الأمور سرا و جهرا- ثم اعتقادك بعد ذلك أنك مقصر في محبته- . و قال الجنيد سمعت السري يقول- لا تصلح المحبة بين اثنين- حتى يقول الواحد للآخر يا أنا- . و قال الشبلي المحب إذا سكت هلك- و العارف إذا لم يسكت هلك- . و قيل المحبة نار في القلب تحرق ما سوى ود المحبوب- . و قيل المحبة بذل الجهد و الحبيب يفعل ما يشاء- . و قال الثوري المحبة هتك الأستار و كشف الأسرار- .

حبس الشبلي في المارستان بين المجانين- فدخل عليه جماعة فقال من أنتم- قالوا محبوك أيها الشيخ- فأقبل يرميهم بالحجارة ففروا- فقال إذا ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي- . كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد البسطامي- قد سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته- فكتب إليه أبو يزيد- غيرك شرب بحور السموات و الأرض و ما روي بعد- و لسانه خارج و يقول هل من مزيد- . و من شعرهم في هذا المعنى-عجبت لمن يقول ذكرت ربي و هل أنسى فأذكر ما نسيت‏

شربت الحب كأسا بعد كأس‏
فما نفد الشراب و لا رويت‏

ويقال إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبياء- إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا و الآخرة- ملأته من حبيوقال أبو علي الدقاق إن في بعض الكتب المنزلة عبدي أنا و حقك لك محب- فبحقي عليك كن لي محبا- . و قال عبد الله بن المبارك- من أعطي قسطا من المحبة- و لم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع- . و قيل المحبة ما تمحو أثرك و تسلبك عن وجودك- . و قيل المحبة سكر لا يصحوا صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه- ثم إن السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف- و أنشد

فأكسر القوم دور كأس
و كان سكرى من المدير

و كان أبو علي الدقاق ينشد كثيرا-

لي سكرتان و للندمان واحدة شي‏ء
خصصت به من بينهم وحدي‏

و كان يحيى بن معاذ يقول- مثقال خردلة من الحب- أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب- . و قال بعضهم من أراد أن يكون محبا- فليكن كما حكي عن بعض الهند- أنه أحب جارية فرحلت عن ذلك البلد- فخرج الفتى في وداعها فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى- فغمض التي لم تدمع أربعا و ثمانين سنة و لم يفتحها- عقوبة لأنها لم تبك على فراق حبيبته- . و أنشدوا في هذا المعنى-

بكت عيني غداة البين دمعا
و أخرى بالبكاء بخلت علينا

فعاقبت التي بخلت علينا
بأن غمضتها يوم التقيا

وقيل إن الله تعالى أوحى إلى داود ع- إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي و حب غيري- . و قيل المحبة إيثار المحبوب على النفس- كامرأة العزيز لما أفرط بها الحب قالت- أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ- و في الابتداء قالت- ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ- فوركت الذنب في الابتداء عليه- و نادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة و قال أبو سعيد الخراز رأيت النبي ص في المنام- فقلت يا رسول الله اعذرني- فإن محبة الله شغلتني عن حبك- فقال يا مبارك من أحب الله فقد أحبني- .

ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل- قوله ع يصونون مصونه- أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه ما يجب أن يكتم- و يفجرون عيونه يظهرون منه ما ينبغي إظهاره- و ذلك أنه ليس ينبغي إظهار كل ما استودع- العارف من الأسرار- و أهل هذا الفن يزعمون- أن قوما منهم عجزوا عن أن يحملوا بما حملوه- فباحوا به فهلكوا منهم الحسين بن منصور الحلاج- و لأبي الفتوح الجارودي المتأخر- أتباع يعتقدون فيه مثل ذلك- .

و الولاية بفتح الواو المحبة و النصرة- و معنى يتواصلون بالولاية يتواصلون و هم أولياء- و مثله و يتلاقون بالمحبة- كما تقول خرجت بسلاحي أي خرجت و أنا متسلح- فيكون موضع الجار و المجرور نصبا بالحال- أو يكون المعنى أدق و ألطف من هذا- و هو أن يتواصلوا بالولاية أي بالقلوب لا بالأجسام- كما تقول أنا أراك بقلبي- و أزورك بخاطري و أواصلك بضميري- . قوله و يتساقون بكأس روية- أي بكأس المعرفة و الأنس بالله- يأخذ بعضهم عن بعض العلوم و الأسرار- فكأنهم شرب يتساقون بكأس من الخمر- .

قال و يصدرون برية- يقال من أين ريتكم مفتوحة الراء- أي من أين ترتوون الماء- . قال لا تشوبهم الريبة أي لا تخالطهم الظنة و التهمة- و لا تسرع فيهم الغيبة- لأن أسرارهم مشغولة بالحق عن الخلق- . قال على ذلك عقد خلقهم و أخلاقهم- الضمير في عقد يرجع إلى الله تعالى- أي على هذه الصفات و الطبائع عقد الخالق تعالى- خلقتهم و خلقهم أي هم متهيئون لما صاروا إليه-كما قال ع إذا أرادك لأمر هيأك لهو
قال ع كل ميسر لما خلق له- . قال فعليه يتحابون و به يتواصلون- أي ليس حبهم بعضهم بعضا إلا في الله- و ليست مواصلتهم بعضهم بعضا إلا لله- لا للهوى و لا لغرض من أغراض الدنيا- أنشد منشد عند عمر قول طرفة-

فلو لا ثلاث هن من عيشة الفتى
و جدك لم أحفل متى قام عودي‏

فمنهن سبقي العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد

و كري إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا نبهته المتورد

و تقصير يوم الدجن و الدجن معجب‏
ببهكنة تحت الطراف المعمد

فقال عمر و أنا لو لا ثلاث هن من عيشة الفتى- لم أحفل متى قام عودي- حبي في الله و بغضي في الله و جهادي في سبيل الله- . قوله ع فكانوا كتفاضل البذر- أي مثلهم مثل الحب الذي ينتفي للبذر- يستصلح بعضه و يسقط بعضه- . قد ميزه التخليص قد فرق الانتقاء بين جيدة و رديئة- و هذبه التمحيصقال النبي ص إن المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب- أي كما تخلص النار الذهب مما يشوبه- . ثم أمر ع المكلفين بقبول كرامة الله و نصحه- و وعظه و تذكيره و بالحذرمن نزول القارعة بهم- و هي هاهنا الموت- و سميت الداهية قارعة لأنها تقرع أي تصيب بشدة- .

قوله فليصنع لمتحوله- أي فليعد ما يجب إعداده للموضع الذي يتحول إليه- تقول اصنع لنفسك أي اعمل لها- . قوله و معارف منتقله- معارف الدار ما يعرفها المتوسم بها واحدها معرف- مثل معاهد الدار و معالم الدار- و منه معارف المرأة و هو ما يظهر منها كالوجه و اليدين- و المنتقل بالفتح موضع الانتقال- . قوله فطوبى هي فعلى من الطيب- قلبوا الياء واوا للضمة قبلها- و يقال طوبى لك و طوباك بالإضافة- . و قول العامة طوبيك بالياء غير جائز- . قوله لذي قلب سليم- هو من ألفاظ الكتاب العزيز- أي سليم من الغل و الشك- .

قوله أطاع من يهديه- أي قبل مشورة الناصح الآمر له بالمعروف- و الناهي له عن المنكر- . و تجنب من يرديه- أي يهلكه بإغوائه و تحسين القبيح له- . و الباء في قوله ببصر من بصره متعلقة بأصاب- . قوله قبل أن تغلق أبوابه- أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته- . و الحوبة الإثم و إماطته إزالته- و يجوز أمطت الأذى عنه- و مطت الأذى عنه أي نحيته- و منع الأصمعي منه إلا بالهمزة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 206 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

206 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ- الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ- الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرِينَ- وَ الْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ- الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ وَ لَا ازْدِيَادٍ- وَ لَا عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ- الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ وَ لَا ضَمِيرٍ- الَّذِي لَا تَغْشَاهُ الظُّلَمُ وَ لَا يَسْتَضِي‏ءُ بِالْأَنْوَارِ- وَ لَا يَرْهَقُهُ لَيْلٌ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ- لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالْإِبْصَارِ وَ لَا عِلْمُهُ بِالْإِخْبَارِ يجوز شبه و شبه و الرواية هاهنا بالفتح- و تعاليه سبحانه عن شبه المخلوقين- كونه قديما واجب الوجود- و كل مخلوق محدث ممكن الوجود- .

قوله الغالب لمقال الواصفين- أي إن كنه جلاله و عظمته لا يستطيع الواصفون وصفه- و إن أطنبوا و أسهبوا- فهو كالغالب لأقوالهم لعجزها عن إيضاحه و بلوغ منتهاه- و الظاهر بأفعاله و الباطن بذاته- لأنه إنما يعلم منه أفعاله و أما ذاته فغير معلومة- . ثم وصف علمه تعالى فقال- إنه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا علومه- بالاستدلال و النظر- و لا هو علم يزداد إلى علومه الأولى- كما تزيد علوم الواحد منا و معارفه- و تكثر لكثرة الطرق التي يتطرق بها إليها- .

ثم قال و لا علم مستفاد- أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث مجدد- كما يذهب إليه جهم و أتباعه- و هشام بن الحكم و من قال بقوله- . ثم ذكر أنه تعالى قدر الأمور كلها بغير روية- أي بغير فكر و لا ضمير- و هو ما يطويه الإنسان من الرأي و الاعتقاد- و العزم في قلبه- . ثم وصفه تعالى بأنه لا يغشاه ظلام- لأنه ليس بجسم و لا يستضي‏ء بالأنوار- كالأجسام ذوات البصر- و لا يرهقه ليل أي لا يغشاه- و لا يجري عليه نهار لأنه ليس بزماني- و لا قابل للحركة- ليس إدراكه بالأبصار لأن ذلك يستدعي المقابلة- و لا علمه بالإخبار مصدر أخبر أي ليس علمه مقصورا- على أن تخبره الملائكة بأحوال المكلفين- بل هو يعلم كل شي‏ء- لأن ذاته ذات واجب- لها أن تعلم كل شي‏ء لمجرد ذاتها المخصوصة- من غير زيادة أمر على ذاتها: مِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص- أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ وَ قَدَّمَهُ فِي الِاصْطِفَاءِ- فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ وَ سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ- وَ ذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ وَ سَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ- حَتَّى سَرَّحَ الضَّلَالَ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ أرسله بالضياء أي بالحق- و سمى الحق ضياء لأنه يهتدى به- أو أرسله بالضياء أي بالقرآن- .

و قدمه في الاصطفاء- أي قدمه في الاصطفاء على غيره من العرب و العجم- قالت قريش لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ- أي على رجل من رجلين من القريتين عَظِيمٌ- أي إما على الوليد بن المغيرة من مكة- أو على عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. ثم قال تعالى أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ- أي هو سبحانه العالم بالمصلحة في إرسال الرسل- و تقديم من يرى في الاصطفاء على غيره- . فرتق به المفاتق أي أصلح به المفاسد- و الرتق ضد الفتق- و المفاتق جمع مفتق و هو مصدر كالمضرب و المقتل- .

و ساور به المغالب ساورت زيدا أي واثبته- و رجل سوار أي وثاب و سورة الخمر وثوبها في الرأس- . و الحزونة ضد السهولة- و الحزن ما غلظ من الأرض- و السهل ما لان منها- و استعير لغير الأرض كالأخلاق و نحوها- . قوله حتى سرح الضلال- أي طرده و أسرع به ذهابا- . عن يمين و شمال- من قولهم ناقة سرح و منسرحة أي سريعة- و منه تسريح المرأة أي تطليقها

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

 

خطبه 205 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

205 و من خطبة له ع

اللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ- سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَيْرَ الْجَائِرَةِ- وَ الْمُصْلِحَةَ فِي الدِّينِ وَ الدُّنْيَا غَيْرَ الْمُفْسِدَةِ- فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ- وَ الْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ- فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً- وَ نَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَ سمَاوَاتِكَ- ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهُ الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ- وَ الآْخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ ما في أيما زائدة مؤكدة- و معنى الفصل وعيد من استنصره فقعد عن نصره- . و وصف المقالة بأنها عادلة إما تأكيد- كما قالوا شعر شاعر و إما ذات عدل- كما قالوا رجل تأمر و لابن أي ذو تمر و لبن- و يجوز أيضا أن يريد بالعادلة المستقيمة- التي ليست كاذبة و لا محرفة عن جهتها- و الجائرة نقيضها و هي المنحرفة- جار فلان عن الطريق أي انحرف و عدل- .

و النكوص التأخر- . قوله ع نستشهدك عليه أي نسألك أن تشهد عليه- و وصفه تعالى‏بأنه أكبر الشاهدين شهادة- لقوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ- يقول اللهم إنا نستشهدك على خذلان من استنصرناه- و استنفرناه إلى نصرتك- و الجهاد عن دينك فأبى النهوض- و نكث عن القيام بواجب الجهاد- و نستشهد عبادك من البشر في أرضك- و عبادك من الملائكة في سمواتك عليه أيضا- ثم أنت بعد ذلك المغني لنا عن نصرته و نهضته- بما تتيحه لنا من النصر- و تؤيدنا به من الإعزاز و القوة- و الأخذ له بذنبه في القعود و التخلف- . و هذا قريب من قوله تعالى- وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ- ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 204 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

204 و من خطبة له ع

وَ كَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ- وَ بَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ- أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ- الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً- ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً- فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ- وَ قَامَتْ عَلَى حَدِّهِ يَحْمِلُهَا الْأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ- وَ الْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ- قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ- وَ وَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ- وَ جَبَلَ جَلَامِيدَهَا وَ نُشُوزَ مُتُونِهَا وَ أَطْوَادَهَا- فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا- وَ أَلْزَمَهَا قَرَارَتَهَا- فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ- وَ رَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ- فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا- وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا- فَأَشْهَقَ قِلَالَهَا وَ أَطَالَ أَنْشَازَهَا- وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً وَ أَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً- فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا- فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا- وَ أَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا- فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً- وَ بَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً- فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لَا يَجْرِي وَ قَائِمٍ لَا يَسْرِي- تُكَرْكِرُهُ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ- وَ تَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ- إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى‏

أراد أن يقول و كان من اقتداره- فقال و كان من اقتدار جبروته تعظيما و تفخيما- كما يقال للملك أمرت الحضرة الشريفة بكذا- و البحر الزاخر الذي قد امتد جدا و ارتفع- و المتراكم المجتمع بعضه على بعض- و المتقاصف الشديد الصوت- قصف الرعد و غيره قصيفا- . و اليبس بالتحريك- المكان يكون رطبا ثم ييبس- و منه قوله تعالى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً- و اليبس بالسكون اليابس خلقة حطب يبس- هكذا يقوله أهل اللغة و فيه كلام- لأن الحطب ليس يابسا خلقة بل كان رطبا من قبل- فالأصوب أن يقال- لا تكون هذه اللفظة محركة إلا في المكان خاصة- و فطر خلق و المضارع يفطر بالضم فطرا- .

و الأطباق جمع طبق- و هو أجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس- أو غير ذلك من حيوان أو جماد- يقول خلق منه أجساما مجتمعة مرتتقة- ثم فتقها سبع سموات- و روي ثم فطر منه طباقا- أي أجساما منفصلة في الحقيقة- متصلة في الصورة بعضها فوق بعض- و هي من ألفاظ القرآن المجيد- و الضمير في منه يرجع إلى ماء البحر في أظهر النظر- و قد يمكن أن يرجع إلى اليبس- .

و اعلم أنه قد تكرر في كلام أمير المؤمنين- ما يماثل هذا القول و يناسبه- و هو مذهب‏كثير من الحكماء الذين قالوا بحدوث السماء- منهم ثاليس الملطي قالوا أصل الأجسام الماء- و خلقت الأرض من زبده و السماء من بخاره- و قد جاء القرآن العزيز بنحو هذا قال سبحانه- الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ- وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ- . قال شيخنا أبو علي و أبو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما- هذه الآية دالة على أن الماء و العرش- كانا قبل خلق السموات و الأرض- قالا و كان الماء على الهواء- قالا و هذا يدل أيضا علي أن الملائكة- كانوا موجودين قبل خلق السموات و الأرض- لأن الحكيم سبحانه لا يجوز أن يقدم خلق الجماد- على خلق المكلفين لأنه يكون عبثا- .

و قال علي بن عيسى الرماني من مشايخنا- أنه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل الحيوان- إذا علم أن في إخبار المكلفين بذلك لطفا لهم- و لا يصح أن يخبرهم إلا و هو صادق فيما أخبر به- و إنما يكون صادقا إذا كان المخبر خبره على ما أخبر عنه- و في ذلك حسن تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان- و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه كان يذهب- إلى أن الأرض موضوعة على ماء البحر- و أن البحر حامل لها بقدرة الله تعالى- و هو معنى قوله يحملها الأخضر المثعنجر و القمقام المسخر- و أن البحر الحامل لها قد كان جاريا فوقف تحتها- و أنه تعالى خلق الجبال في الأرض- فجعل أصولها راسخة في ماء البحر- الحامل للأرض و أعاليها شامخة في الهواء- و أنه سبحانه جعل هذه الجبال عمادا للأرض- و أوتادا تمنعها من الحركة و الاضطراب- و لولاها لماجت و اضطربت- و أن هذا البحر الحامل للأرض- تصعد فيه الرياح الشديدة فتحركه حركة عنيفة- و تموج السحب التي تغترف الماء منه لتمطر الأرض به- و هذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز- و السنة النبوية و النظر الحكمي- أ لا ترى إلى قوله تعالى- أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ-كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- و هذا هو صريح قوله ع- ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها- و إلى قوله تعالى- وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ- و إلى ما ورد في الخبر- من أن الأرض مدحوة على الماء- و أن الرياح تسوق السحب إلى الماء نازلة- ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها ثم تمطر- .

و أما النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل- و حمله على المحمل العقلي- و ذلك لأن الأرض هي آخر طبقات العناصر- و قبلها عنصر الماء و هو محيط بالأرض كلها- إلا ما برز منها و هو مقدار الربع من كرة الأرض- على ما ذكره علماء هذا الفن و برهنوا عليه- فهذا تفسير قوله ع يحملها الأخضر المثعنجر- .

و أما قوله و وقف الجاري منه لخشيته- فلا يدل دلالة قاطعة على أنه كان جاريا و وقف- و لكن ذلك كلام خرج مخرج التعظيم و التبجيل- و معناه أن الماء طبعه الجريان و السيلان- فهو جار بالقوة و إن لم يكن جاريا بالفعل- و إنما وقف و لم يجر بالفعل بقدرة الله تعالى- المانعة له من السيلان- و ليس قوله و رست أصولها في الماء- مما ينافي النظر العقلي- لأنه لم يقل و رست أصولها في ماء البحر- و لكنه قال في الماء- و لا شبهة في أن أصول الجبال راسية في الماء- المتخلخل بين أجزاء الأرض- فإن الأرض كلها يتخلخل الماء بين أجزائها- على طريق استحالة البخار من الصورة الهوائية- إلى الصورة المائية- .

و ليس ذكره للجبال- و كونها مانعة للأرض من الحركة- بمناف أيضا للنظر الحكمي- لأن الجبال في الحقيقة قد تمنع من الزلزلة- إذا وجدت أسبابها الفاعلة- فيكون ثقلها مانعا من الهدة و الرجفة- .

ليس قوله تكركره الرياح- منافيا للنظر الحكمي أيضا- لأن كرة الهواء محيطة بكرة- و قد تعصف الرياح في كرة الهواء- للأسباب المذكورة في موضعها من هذا العلم- فيتموج كثير من الكرة المائية لعصف الرياح- . و ليس قوله ع و تمخضه الغمام الذوارف- صريحا في أن السحب تنزل في البحر فتغترف منه- كما قد يعتقد في المشهور العامي نحو قول الشاعر-كالبحر تمطره السحاب و ما لها فضل عليه لأنها من مائه‏- .

بل يجوز أن تكون الغمام الذراف تمخضه- و تحركه بما ترسل عليه من الأمطار السائلة منها- فقد ثبت أن كلام أمير المؤمنين ع موجه- إن شئت فسرته بما يقوله أهل الظاهر- و إن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء- . فإن قلت فكيف قال الله تعالى- أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ- كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- و هل كان الذين كفروا راءين لذلك- حتى يقول لهم أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا- . قلت هذا في قوله- اعلموا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما- كما يقول الإنسان لصاحبه- أ لم تعلم أن الأمير صرف حاجبه الليلة عن بابه- أي اعلم ذلك إن كنت غير عالم- و الرؤية هنا بمعنى العلم- .

و اعلم أنه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء- و يقال أنه مذهب سقراط- إلى تفسير القيامة و جهنم- بما يبتني على وضع الأرض على الماء- فقالوا الأرض موضوعة على الماء- و الماء على الهواء و الهواء على النار- و النار في حشو الأفلاك- و لما كان العنصران الخفيفان و هما الهواء و النار- يقتضيان صعود ما يحيطان به- و العنصران الثقيلان اللذان في وسطهما و هماالماء و الأرض- يقتضيان النزول و الهبوط- وقعت الممانعة و المدافعة- فلزم من ذلك وقوف الماء و الأرض في الوسط- .

قالوا- ثم إن النار لا تزال يتزايد تأثيرها في إسخان الماء- و ينضاف إلى ذلك حر الشمس و الكواكب- إلى أن تبلغ البحار و العنصر المائي غايتهما- في الغليان و الفوران- فيتصاعد بخار عظيم إلى الأفلاك شديد السخونة- و ينضاف إلى ذلك حر فلك الأثير الملاصق للأفلاك- فتذوب الأفلاك كما يذوب الرصاص- و تتهافت و تتساقط و تصير كالمهل الشديد الحرارة- و نفوس البشر على قسمين- أحدهما ما تجوهر و صار مجردا بطريق العلوم و المعارف- و قطع العلائق الجسمانية حيث كان مدبرا للبدن- و الآخر ما بقي على جسمانيته- بطريق خلوه من العلوم و المعارف- و انغماسه في اللذات و الشهوات الجسمانية- فأما الأول فإنه يلتحق بالنفس الكلية المجردة- و يخلص من دائرة هذا العالم بالكلية- و أما الثاني فإنه تنصب عليه تلك الأجسام الفلكية الذائبة- فيحترق بالكلية و يتعذب و يلقي آلاما شديدة- .

قالوا هذا هو باطن ما وردت به الرواية- من العذاب عليها- و خراب العالم و الأفلاك و انهدامها- . ثم نعود إلى شرح الألفاظ- قوله ع فاستمسكت أي وقفت و ثبتت- . و الهاء في حده تعود إلى أمره- أي قامت على حد ما أمرت به- أي لم تتجاوزه و لا تعدته- . و الأخضر البحر- و يسمى أيضا خضارة معرفة غير مصروف- و العرب تسميه بذلك- إما لأنه يصف لون السماء فيرى أخضر- أو لأنه يرى أسود لصفائه فيطلقون عليه لفظالأخضر- كما سموا الأخضر أسود نحو قوله مُدْهامَّتانِ- و نحو تسميتهم قرى العراق سوادا- لخضرتها و كثرة شجرها- و نحو قولهم للديزج من الدواب أخضر- . المثعنجر السائل- ثعجرت الدم و غيره فاثعنجر أي صببته فانصب- و تصغير المثعنجر مثيعج و مثيعيج- . و القمقام بالفتح من أسماء البحر- و يقال لمن وقع في أمر عظيم- وقع في قمقام من الأمر تشبيها بالبحر- . قوله ع و جبل جلاميدها- أي و خلق صخورها جمع جلمود- .

و النشوز جمع نشز- و هو المرتفع من الأرض و يجوز فتح الشين- . و متونها جوانبها و أطوادها جبالها- و يروى و أطوادها بالجر عطفا على متونها- . فأرساها في مراسيها أثبتها في مواضعها- رسا الشي‏ء يرسو ثبت- و رست أقدامهم في الحرب ثبتت- و رست السفينة ترسو رسوا و رسوا- أي وقفت في البحر- و قوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها- بالضم من أجريت و أرسيت- و من قرأ بالفتح فهو من رست هي و جرت هي- . و ألزمها قرارتها أمسكها حيث استقرت- . قوله فأنهد جبالها أي أعلاها- نهد ثدي الجارية ينهد بالضم- إذا أشرف و كعب فهي ناهد و ناهدة- .

و سهولها ما تطامن منها عن الجبال- . و أساخ قواعدها- أي غيب قواعد الجبال في جوانب أقطار الأرض- ساخت قوائم‏الفرس في الأرض تسوخ و تسيخ- أي دخلت فيها و غابت مثل ثاخت- و أسختها أنا مثل أثختها و الأنصاب الأجسام المنصوبة- الواحد نصب بضم النون و الصاد- و منه سميت الأصنام نصبا في قوله تعالى- وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ- لأنها نصبت فعبدت من دون الله- قال الأعشى-و ذا المنصوب لا تنسكنه لعاقبة و الله ربك فاعبدا- .

أي و أساخ قواعد الجبال في متون أقطار الأرض- و في المواضع الصالحة لأن تكون فيها الأنصاب المماثلة- و هي الجبال أنفسها- – . قوله فأشهق قلالها- جمع قلة و هي ما علا من رأس الجبل- أشهقها جعلها شاهقة أي عالية- . و أرزها أثبتها فيها رزت الجرادة ترز رزا- و هو أن تدخل ذنبها في الأرض فتلقى بيضها- و أرزها الله أثبت ذلك منها في الأرض- و يجوز أرزت لازما غير متعد- مثل رزت و ارتز السهم في القرطاس ثبت فيه- و روي و آرزها بالمد من قولهم شجرة آرزة- أي ثابتة في الأرض- أرزت بالفتح تأرز بالكسر أي ثبتت- و آرزها بالمد غيرها أي أثبتها- . و تميد تتحرك و تسيخ تنزل و تهوي- .

فإن قلت ما الفرق بين الثلاثة تميد بأهلها- أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها- . قلت لأنها لو تحركت لكانت- إما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها-و الأول هو المراد بقوله تميد بأهلها- و الثاني تنقسم إلى أن تنزل إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت- فالنزول إلى تحت هو المراد بقوله أو تسيخ بحملها- و القسم الثاني هو المراد بقوله أو تزول عن مواضعها- . فإن قلت ما المراد ب على في قوله- فسكنت على حركتها- . قلت هي لهيئة الحال- كما تقول عفوت عنه على سوء أدبه- و دخلت إليه على شربه أي سكنت- على أن من شأنها الحركة لأنها محمولة على سائل متموج- . قوله موجان مياهها بناء فعلان- لما فيه اضطراب و حركة كالغليان و النزوان و الخفقان و نحو ذلك- . و أجمدها أي أجعلها جامدة- و أكنافها جوانبها و المهاد الفراش- .

فوق بحر لجي كثير الماء منسوب إلى اللجة- و هي معظم البحر- . قوله يكركره الرياح- الكركرة تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق- و أصله يكرر من التكرير فأعادوا الكاف- كركرت الفارس عني أي دفعته و رددته- . و الرياح العواصف الشديدة الهبوب- و تمخضه يجوز فتح الخاء و ضمها و كسرها- و الفتح أفصح لمكان حرف الحلق- من مخضت اللبن إذا حركته لتأخذ زبده- . و الغمام جمع و الواحدة غمامة- و لذلك قال الذوارف- لأن فواعل أكثر ما يكون لجمع المؤنث- ذرفت عينه أي دمعت أي السحب المواطر- و المضارع من ذرفت عينه تذرف بالكسر ذرفا و ذرفا- و المذارف المدامع

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج11

خطبه 203 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

203 و من كلام له ع- و قد سأله سائل عن أحاديث البدع- و عما في أيدي الناس من اختلاف الخبر

– فقال ع- : إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلًا- وَ صِدْقاً وَ كَذِباً وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً- وَ عَامّاً وَ خَاصّاً- وَ مُحْكَماً وَ مُتَشَابِهاً وَ حِفْظاً وَ وَهَماً- وَ قَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص عَلَى عَهْدِهِ- حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ- مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ- وَ إِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ- رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ- لَا يَتَأَثَّمُ وَ لَا يَتَحَرَّجُ- يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص مُتَعَمِّداً- فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ- وَ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ- وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ص- رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ- وَ قَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ- وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ- فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ- وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَ الْبُهْتَانِ- فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ- فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا وَ إِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَ الدُّنْيَا- إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ- وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ- فَوَهِمَ فِيهِ وَ لَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً فَهُوَ فِي يَدَيْهِ- وَ يَرْوِيهِ وَ يَعْمَلُ بِهِ-

وَ يَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ- وَ لَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ- وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص شَيْئاً- يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ- أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ- فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ وَ لَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ- فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ- وَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ- وَ آخَرُ رَابِعٌ- لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ- مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَ تَعْظِيماً لِرَسُولِ اللَّهِ ص- وَ لَمْ يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ- فَجَاءَ بِهِ عَلَى سَمْعِهِ- لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ- فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ- وَ حَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ- وَ عَرَفَ الْخَاصَّ وَ الْعَامَّ وَ الْمُحْكَمَ وَ الْمُتَشَابِهَ- فَوَضَعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ مَوْضِعَهُ- وَ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص الْكَلَامُ- لَهُ وَجْهَانِ فَكَلَامٌ خَاصٌّ وَ كَلَامٌ عَامٌّ- فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ- وَ لَا مَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ ص- فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ وَ يُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ- وَ مَا قَصَدَ بِهِ وَ مَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ- وَ لَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَ يَسْتَفْهِمُهُ- حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِي‏ءَ الْأَعْرَابِيُّ وَ الطَّارِئُ- فَيَسْأَلَهُ ع حَتَّى يَسْمَعُوا- وَ كَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْ‏ءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَ حَفِظْتُهُ- فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَ عِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ‏

الكلام في تفسير الألفاظ الأصولية- و هي العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ- و الصدق و الكذب و المحكم و المتشابه- موكول إلى فن أصول الفقه- و قد ذكرناه فيما أمليناه من الكتب الأصولية- و الإطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجنة- . قوله ع و حفظا و وهما الهاء مفتوحة- و هي مصدر وهمت بالكسر- أوهم أي غلطت و سهوت- و قد روي وهما بالتسكين و هو مصدر وهمت بالفتح- أوهم إذا ذهب وهمك إلى شي‏ء- و أنت تريد غيره و المعنى متقارب- .

وقول النبي ص فليتبوأ مقعده من النار- كلام صيغته الأمر و معناه الخبر- كقوله تعالى- قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا- و تبوأت المنزل نزلته و بوأته منزلا أنزلته فيه- . و التأثم الكف عن موجب الإثم- و التحرج مثله و أصله الضيق كأنه يضيق على نفسه- . و لقف عنه تناول عنه- . و جنب عنه أخذ عنه جانبا- . و إن في قوله حتى إن كانوا ليحبون- مخففة من الثقيلة و لذلك جاءت اللام في الخبر- . و الطارئ بالهمز الطالع عليهم طرأ أي طلع- و قد روي عللهم بالرفع عطفا على وجوه- و روي بالجر عطفا على اختلافهم‏

ذكر بعض أحوال المنافقين بعد وفاة محمد ع

و اعلم أن هذا التقسيم صحيح- و قد كان في أيام الرسول ص منافقون- و بقوا بعده- و ليس يمكن أن يقال إن النفاق مات بموته- و السبب في استتار حالهم بعده- أنه ص كان لا يزال بذكرهم بما ينزل عليه من القرآن- فإنه مشحون بذكرهم- أ لا ترى أن أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن- مملوء بذكر المنافقين- فكان السبب في انتشار ذكرهم- و أحوالهم و حركاتهم هو القرآن- فلما انقطع الوحي بموته ص- لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم و يوبخهم على أعمالهم- و يأمر بالحذر منهم و يجاهرهم تارة و يجاملهم تارة- و صار المتولي للأمر بعده- يحمل الناس كلهم على كاهل المجاملة- و يعاملهم بالظاهر- و هو الواجب في حكم الشرع و السياسة الدنيوية- بخلاف حال الرسول ص- فإنه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف- أ لا ترى أنه قيل له- وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً- فهذا يدل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم- و إلا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق- و الوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم- فليس مخاطبا بما خوطب به ص في أمرهم- و لسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم- فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه- و يعامل المسلمين بظاهره و يعاملونه بحسب ذلك- ثم فتحت عليهم البلاد و كثرت الغنائم- فاشتغلوا بها عن الحركات- التي كانوا يعتمدونها أيام رسول الله- و بعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس و الروم- فألهتهم الدنيا عن الأمور- التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله ص- و منهم من استقام اعتقاده و خلصت نيته- لما رأوا الفتوح و إلقاء الدنيا- أفلاذ كبدها من الأموال العظيمة- و الكنوز الجليلة إليهم- فقالوا لو لم يكن هذا الدين حقا- لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه- و بالجملة لما تركوا تركوا- و حيث سكت عنهم سكتوا عن الإسلام و أهله- إلا في دسيسة خفية يعملونها نحو الكذب- الذي أشار إليه أمير المؤمنين ع- فإنه خالط الحديث كذب كثير- صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة- قصدوا به الإضلال و تخبيط القلوب و العقائد- و قصد به بعضهم التنويه بذكر قوم- كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي- و قد قيل إنه افتعل في أيام معاوية خاصة- حديث كثير على هذا الوجه- و لم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا- بل ذكروا كثيرا من هذه الأحاديث الموضوعة- و بينوا وضعها و أن رواتها غير موثوق بهم- إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة- و لا يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة- لأن عليه لفظ الصحبة- على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة و غيره- .

فإن قلت من هم أئمة الضلالة- الذين يتقرب إليهم المنافقون- الذين رأوا رسول الله ص و صحبوه للزور و البهتان- و هل هذا إلا تصريح بما تذكره الإمامية و تعتقده- . قلت ليس الأمر كما ظننت و ظنوا- و إنما يعني معاوية و عمرو بن العاص- و من شايعهما على الضلال- كالخبر الذي رواه من في حق معاوية- اللهم قه العذاب و الحساب و علمه الكتاب- و كرواية عمرو بن العاص تقربا إلى قلب معاوية- إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء- إنما وليي الله و صالح المؤمنين- و كرواية قوم في أيام معاوية- أخبارا كثيرة من فضائل عثمان- تقربا إلى معاوية بها- و لسنا نجحد فضل عثمان و سابقته- و لكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع- كخبر عمرو بن مرة فيه و هو مشهور- و عمر بن مرة ممن له صحبة و هو شامي

ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى و الاضطهاد

و ليس يجب من قولنا- إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة- أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل- فإنا مع اعتقادنا أن عليا أفضل الناس- نعتقد أن بعض الأخبار الواردة في فضائله مفتعل و مختلق- . و قد رويأن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع قال لبعض أصحابه يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا و تظاهرهم علينا- و ما لقي شيعتنا و محبونا من الناس- إن رسول الله ص قبض- و قد أخبر أنا أولى الناس بالناس- فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه- و احتجت على الأنصار بحقنا و حجتنا- ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا- فنكثت بيعتنا و نصبت الحرب لنا- و لم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل- فبويع الحسن ابنه و عوهد ثم غدر به و أسلم- و وثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه- و نهبت عسكره و عولجت خلاليل أمهات أولاده- فوادع معاوية و حقن دمه و دماء أهل بيته- و هم قليل حق قليل-

ثم بايع الحسين ع من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به- و خرجوا عليه و بيعته في أعناقهم و قتلوه- ثم لم نزل أهل البيت نستذل و نستضام و نقصى و نمتهن- و نحرم و نقتل و نخاف- و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا- و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا- يتقربون به إلى أوليائهم- و قضاة السوء و عمال السوء في كل بلدة- فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة- و رووا عنا ما لم نقله و ما لم نفعله- ليبغضونا إلى الناس- و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن ع- فقتلت شيعتنا بكل بلدة- و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة- و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله- أو هدمت داره- ثم لم يزل البلاء يشتد و يزداد-إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ع- ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة- و أخذهم بكل ظنة و تهمة- حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر- أحب إليه من أن يقال شيعة علي- و حتى صار الرجل الذي يذكر بالخير- و لعله يكون ورعا صدوقا- يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة- من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة- و لم يخلق الله تعالى شيئا منها- و لا كانت و لا وقعت و هو يحسب أنها حق- لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب و لا بقلة ورع- .

و روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني- في كتاب الأحداث- قال كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة- أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب و أهل بيته- فقامت الخطباء في كل كورة و على كل منبر- يلعنون عليا و يبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته- و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة- لكثرة من بها من شيعة علي ع- فاستعمل عليهم زياد بن سمية و ضم إليه البصرة- فكان يتتبع الشيعة و هو بهم عارف- لأنه كان منهم أيام علي ع- فقتلهم تحت كل حجر و مدر و أخافهم- و قطع الأيدي و الأرجل و سمل العيون- و صلبهم على جذوع النخل- و طرفهم و شردهم عن العراق- فلم يبق بها معروف منهم- و كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق- ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة- و كتب إليهم- أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و أهل ولايته- و الذين يروون فضائله و مناقبه- فادنوا مجالسهم و قربوهم و أكرموهم- و اكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم- و اسمه و اسم أبيه و عشيرته- .

ففعلوا ذلك- حتى أكثروا في فضائل عثمان و مناقبه- لما كان يبعثه إليهم معاوية- من الصلات و الكساء و الحباء و القطائع- و يفيضه في العرب منهم و الموالي- فكثر ذلك في كل مصر- و تنافسوا في المنازل و الدنيا- فليس يجي‏ء أحد مردود من الناس عاملا من‏عمال معاوية- فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة- إلا كتب اسمه و قربه و شفعه فلبثوا بذلك حينا- .

ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر- و فشا في كل مصر و في كل وجه و ناحية- فإذا جاءكم كتابي هذا- فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة- و الخلفاء الأولين- و لا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب- إلا و تأتوني بمناقض له في الصحابة- فإن هذا أحب إلى و أقر لعيني- و أدحض لحجة أبي تراب و شيعته- و أشد عليهم من مناقب عثمان و فضله- . فقرئت كتبه على الناس- فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة- لا حقيقة لها- وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى- حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر- و ألقي إلى معلمي الكتاتيب- فعلموا صبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع- حتى رووه و تعلموه كما يتعلمون القرآن- و حتى علموه بناتهم و نساءهم و خدمهم و حشمهم- فلبثوا بذلك ما شاء الله- .

ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان- انظروا من قامت عليه البينة- أنه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان- و أسقطوا عطاءه و رزقه- و شفع ذلك بنسخة أخرى- من اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم- فنكلوا به و أهدموا داره- فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق- و لا سيما بالكوفة- حتى أن الرجل من شيعة علي ع ليأتيه من يثق به- فيدخل بيته فيلقي إليه سره- و يخاف من خادمه و مملوكه- و لا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه- فظهر حديث كثير موضوع و بهتان منتشر- و مضى على ذلك الفقهاء و القضاة و الولاة- و كان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون- و المستضعفون الذين يظهرون الخشوع و النسك- فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم- و يقربوا مجالسهم- و يصيبوا به الأموال و الضياع‏و المنازل- حتى انتقلت تلك الأخبار و الأحاديث- إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب و البهتان- فقبلوها و رووها و هم يظنون أنها حق- و لو علموا أنها باطلة لما رووها و لا تدينوا بها- . فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ع- فازداد البلاء و الفتنة- فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا و هو خائف على دمه- أو طريد في الأرض- .

ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ع- و ولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة- و ولى عليهم الحجاج بن يوسف- فتقرب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين- ببغض علي و موالاة أعدائه- و موالاة من يدعي من الناس أنهم أيضا أعداؤه- فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم- و أكثروا من الغض من علي ع و عيبه- و الطعن فيه و الشنئان له- حتى أن إنسانا وقف للحجاج- و يقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب فصاح به- أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا و إني فقير بائس- و أنا إلى صلة الأمير محتاج- فتضاحك له الحجاج- و قال للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا- . و قد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه- و هو من أكابر المحدثين و أعلامهم في تاريخه- ما يناسب هذا الخبر- و قال إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة- افتعلت في أيام بني أمية- تقربا إليهم بما يظنون- أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم- .

قلت- و لا يلزم من هذا أن يكون علي ع يسوءه أن يذكر الصحابة- و المتقدمون عليه بالخير و الفضل- إلا أن معاوية و بني أمية- كانوا يبنون الأمر من هذا- على ما يظنونه في علي ع من أنه عدو من تقدم عليه- و لم يكن الأمر في الحقيقة كمايظنونه- و لكنه كان يرى أنه أفضل منهم- و أنهم استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم- و لا براءة منهم- .

فأما قوله ع و رجل سمع من رسول الله شيئا- و لم يحفظه على وجهه فوهم فيه فقد وقع ذلك- و قال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد الله بن عمر- أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه- إن ابن عباس لما روي له هذا الخبر- قال ذهل ابن عمر- إنما مر رسول الله ص على قبر يهودي- فقال إن أهله ليبكون عليه و إنه ليعذب- . و قالوا أيضا إن عائشة أنكرت ذلك- و قالت ذهل أبو عبد الرحمن كما ذهل في خبر قليب بدر-إنما قال ع إنهم ليبكون عليه- و إنه ليعذب بجرمه- .

قالوا و موضع غلطه في خبر القليب- أنهروى أن النبي ص وقف على قليب بدر- فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا- ثم قال إنهم يسمعون ما أقول لهم- فأنكرت عائشة ذلك- و قالت إنما-قال إنهم يعلمون أن الذي كنت أقوله لهم هو الحق- و استشهد بقوله تعالى- إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏- . فأما الرجل الثالث- و هو الذي يسمع المنسوخ و لم يسمع الناسخ فقد وقع كثيرا- و كتب الحديث و الفقه مشحونة بذلك- كالذين أباحوا لحوم الحمر الأهلية لخبر رووه في ذلك- و لم يرووا الخبر الناسخ- .

و أما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم- . و أما قوله ع- و قد كان يكون من رسول الله ص الكلام له‏ وجهان- فهذا داخل في القسم الثاني و غير خارج عنه- و لكنه كالنوع من الجنس- لأن الوهم و الغلط جنس تحته أنواع- . و اعلم- أن أمير المؤمنين ع كان مخصوصا من دون الصحابة- رضوان الله عليهم- بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله ص- لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما- و كان كثير السؤال للنبي ص عن معاني القرآن- و عن معاني كلامه ص- و إذا لم يسأل ابتدأه النبي ص بالتعليم و التثقيف- و لم يكن أحد من أصحاب النبي ص كذلك بل كانوا أقساما- فمنهم من يهابه أن يسأله- و هم الذين يحبون أن يجي‏ء الأعرابي أو الطارئ- فيسأله و هم يسمعون- و منهم من كان بليدا بعيد الفهم- قليل الهمة في النظر و البحث- و منهم من كان مشغولا عن طلب العلم و فهم المعاني- إما بعبادة أو دنيا- و منهم المقلد يرى أن فرضه السكوت و ترك السؤال- و منهم المبغض الشانئ- الذي ليس للدين عنده من الموقع- ما يضيع وقته و زمانه بالسؤال عن دقائقه و غوامضه- و انضاف إلى الأمر الخاص بعلي ع ذكاؤه و فطنته- و طهارة طينته و إشراق نفسه و ضوءها- و إذا كان المحل قابلا متهيئا- كان الفاعل المؤثر موجودا و الموانع مرتفعة- حصل الأثر على أتم ما يمكن- فلذلك كان علي ع- كما قال الحسن البصري رباني هذه الأمة و ذا فضلها- و لذا تسميه الفلاسفة إمام الأئمة و حكيم العرب

فصل فيما وضع الشيعة و البكرية من الأحاديث

و اعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل- كان من جهة الشيعة- فإنهم وضعوافي مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم- حملهم على وضعها عداوة خصومهم- نحو حديث السطل و حديث الرمانة- و حديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين- و تعرف كما زعموا بذات العلم- و حديث غسل سلمان الفارسي و طي الأرض- و حديث الجمجمة و نحو ذلك- فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة- وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث- نحو لو كنت متخذا خليلا- فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء و نحو سد الأبواب- فإنه كان لعلي ع فقلبته البكرية إلى أبي بكر- و نحو ايتوني بدواة و بياض- أكتب فيه لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان- ثم قال يأبى الله تعالى و المسلمون إلا أبا بكر- فإنهم وضعوه في مقابلةالحديث المروي عنه في مرضه ايتوني بدواة و بياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبدا- فاختلفوا عنده-

و قال قوم منهم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله- و نحو حديث أنا راض عنك فهل أنت عني راض و نحو ذلك- فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية- أوسعوا في وضع الأحاديث- فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا- أنه فتله في عنق خالد- و حديث اللوح الذي زعموا- أنه كان في غدائر الحنفية أم محمد- و حديث لا يفعلن خالد ما آمر به- و حديث الصحيفة التي علقت عام الفتح بالكعبة- و حديث الشيخ الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر- فسبق الناس إلى بيعته- و أحاديث مكذوبة كثيرة- تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة- و التابعين الأولين و كفرهم- و علي أدون الطبقات فيهم- فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي و في ولديه- و نسبوه تارة إلى ضعف العقل- و تارة إلى ضعف السياسة- و تارة إلى حب الدنيا و الحرص عليها- و لقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه و اجترحاه- و لقد كان في فضائل علي ع الثابتة الصحيحة- و فضائل أبي بكر المحققةالمعلومة- ما يغني عن تكلف العصبية لهما- فإن العصبية لهما- أخرجت الفريقين من ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل- و من تعديد المحاسن إلى تعديد المساوئ و المقابح- و نسأل الله تعالى- أن يعصمنا من الميل إلى الهوى و حب العصبية- و أن يجرينا على ما عودنا من حب الحق أين وجد و حيث كان- سخط ذلك من سخط و رضي به من رضي بمنه و لطفه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 202 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

202 و من كلام له ع بالبصرة- و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي

– و هو من أصحابه يعوده- فلما رأى سعة داره قال- : مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا- أَمَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآْخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ- وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَةَ- تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ- وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا- فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَةَ- فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ- يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ- قَالَ وَ مَا لَهُ- قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَ وَ تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا- قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ- يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ- أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ- أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا- أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ- قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ- قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ- أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ- كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ‏

كنت هاهنا زائدة مثل قوله تعالى- كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا- . و قوله و بلى إن شئت بلغت بها الآخرة لفظ فصيح- كأنه استدرك و قال- و بلى على أنك قد تحتاج إليها في الدنيا- لتجعلها وصلة إلى نبل الآخرة- بأن تقري فيها الضيف- و الضيف لفظ يقع على الواحد و الجمع- و قد يجمع فيقال ضيوف و أضياف- و الرحم القرابة- . و تطلع منها الحقوق مطالعها- توقعها في مظان استحقاقها- . و العباء جمع عباءة و هي الكساء و قد تلين- كما قالوا عظاءة و عظاية و صلاءة و صلاية- .

و تقول علي بفلان أي أحضره- و الأصل أعجل به علي- فحذف فعل الأمر و دل الباقي عليه- . و يا عدي نفسه تصغير عدو- و قد يمكن أن يراد به التحقير المحض هاهنا- . و يمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لها- و يمكن أن يخرج مخرج التحنن و الشفقة كقولك يا بني- . و استهام بك الخبيث يعني الشيطان- أي جعلك هائما ضالا و الباء زائدة- . فإن قيل ما معنى قوله ع- أنت أهون على الله من ذلك- . قلت لأن في المشاهد قد يحل الواحد منا- لصاحبه فعلا مخصوصا محاباة و مراقبة له-و هو يكره أن يفعله- و البشر أهون على الله تعالى من أن يحل لهم أمرا- مجاملة و استصلاحا للحال معهم- و هو يكره منهم فعله- . و قوله هذا أنت أي فما بالنا نراك خشن الملبس- و التقدير فها أنت تفعل كذا فكيف تنهى عنه- .

و طعام جشب أي غليظ و كذلك مجشوب- و قيل إنه الذي لا أدم معه- . قوله ع- أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس- أي يشبهوا و يمثلوا- . و تبيغ الدم بصاحبه و تبوغ به أي هاج به- وفي الحديث عليكم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله- و قيل أصل يتبيغ يتبغى فقلب جذب و جبذ- أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه- في لباسه و طعامه بضعفة الناس جمع ضعيف- لكيلا يهلك الفقراء من الناس- فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة و بذلك المطعم- كان أدعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا- و الصبر عن شهوات النفوس

ذكر بعض مقامات العارفين و الزهاد

و روي أن قوما من المتصوفة- دخلوا خراسان على علي بن موسى الرضا- فقالوا له إن أمير المؤمنين فكر فيما ولاه الله من الأمور- فرآكم أهل البيت أولى الناس أن تؤموا الناس- و نظر فيك من أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس- فرأى أن يرد هذا الأمر إليك- و الإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب- و يلبس الخشن و يركب الحمار و يعود المريض- فقال لهم إن يوسف كان نبيا- يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب- و يجلس على متكآت آل فرعون ويحكم- إنما يراد من الإمام قسطه و عدله- إذا قال صدق‏و إذا حكم عدل و إذا وعد أنجز- إن الله لم يحرم لبوسا و لا مطعما- ثم قرأ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ- الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ الآية- .

و هذا القول مخالف للقانون الذي أشار أمير المؤمنين إليه- و للفلاسفة في هذا الباب كلام لا بأس به- و قد أشار إليه أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات- و عليه يتخرج قولا أمير المؤمنين- و علي بن موسى الرضا ع- قال أبو علي في مقامات العارفين العارفون قد يختلفون في الهمم- بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر- على حسب ما يختلف عندهم من دواعي العبر- فربما استوى عند العارف القشف و الترف- بل ربما آثر القشف- و كذلك ربما سوى عنده التفل و العطر- بل ربما آثر التفل- و ذلك عند ما يكون الهاجس بباله- استحقار ما عدا الحق- و ربما صغا إلى الزينة و أحب من كل شي‏ء عقيلته- و كره الخداج و السقط- و ذلك عند ما يعتبر عادته من صحبته الأحوال الظاهرة- فهو يرتاد إليها في كل شي‏ء- لأنه مزية خطوة من العناية الأولى- و أقرب أن يكون من قبيل ما عكف عليه بهواه- و قد يختلف هذا في عارفين- و قد يختلف في عارف بحسب وقتين- .

و اعلم أن الذي رويته عن الشيوخ- و رأيته بخط عبد الله بن أحمد بن الخشاب- رحمه الله- أن الربيع بن زياد الحارثي- أصابته نشابة في جبينه- فكانت تنتقض عليه في كل عام- فأتاه علي ع عائدا- فقال كيف تجدك أبا عبد الرحمن- قال أجدني يا أمير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بي- إلا بذهاب بصري لتمنيت ذهابه- قال و ما قيمة بصرك عندك- قال لو كانت لي الدنيا لفديته بها- قال لا جرم ليعطينك الله على قدر ذلك- إن الله تعالى يعطي على قدر الألم و المصيبة- و عنده تضعيف كثير- قال الربيع‏يا أمير المؤمنين- أ لا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي- قال ما له قال لبس العباء و ترك الملاء- و غم أهله و حزن ولده فقال علي ادعوا لي عاصما- فلما أتاه عبس في وجهه-

و قال ويحك يا عاصم أ ترى الله أباح لك اللذات- و هو يكره ما أخذت منها- لأنت أهون على الله من ذلك- أ و ما سمعته يقول مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ- ثم يقول يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ- و قال وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا- وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها- أما و الله إن ابتذال نعم الله بالفعال- أحب إليه من ابتذالها بالمقال- و قد سمعتم الله يقول وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ- و قوله مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ- وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ- إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين- فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ- و قال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ- وَ اعْمَلُوا صالِحاً وقال رسول الله ص لبعض نسائه ما لي أراك شعثاء مرهاء سلتاء- .

قال عاصم فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن- و أكل الجشب- قال إن الله تعالى افترض على أئمة العدل- أن يقدروا لأنفسهم بالقوام- كيلا يتبيغ بالفقير فقره- فما قام علي ع حتى نزع عاصم العباء و لبس ملاءة- . و الربيع بن زياد هو الذي افتتح بعض خراسان- و فيه قال عمر دلوني على رجل- إذا كان‏ في القوم أميرا فكأنه ليس بأمير- و إذا كان في القوم ليس بأمير فكأنه الأمير بعينه- و كان خيرا متواضعا- و هو صاحب الوقعة مع عمر- لما أحضر العمال فتوحش له الربيع- و تقشف و أكل معه الجشب من الطعام- فأقره على عمله و صرف الباقين- و قد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم- .

و كتب زياد بن أبيه إلى الربيع بن زياد- و هو على قطعة من خراسان- أن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي- يأمرك أن تحرز الصفراء و البيضاء و تقسم الخرثي- و ما أشبهه على أهل الحرب- فقال له الربيع- إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين- ثم نادى في الناس أن اغدوا علي غنائمكم- فأخذ الخمس و قسم الباقي على المسلمين- ثم دعا الله أن يميته فما جمع حتى مات- . و هو الربيع بن زياد بن أنس بن ديان بن قطر بن زياد- بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن مالك- بن كعب بن الحارث بن عمرو بن وعلة- بن خالد بن مالك بن أدد- . و أما العلاء بن زياد الذي ذكره الرضي رحمه الله فلا أعرفه- لعل غيري يعرفه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 201 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

201 و من كلام له ع- قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْرِي مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ- حَتَّى نَهِكَتْكُمُ الْحَرْبُ- وَ قَدْ وَ اللَّهِ أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَ تَرَكَتْ- وَ هِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ- . لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً- وَ كُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً- وَ قَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ وَ لَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ نهكتكم بكسر الهاء أدنفتكم و أذابتكم- و يجوز فتح الهاء و قد نهك الرجل أي دنف و ضني فهو منهوك- و عليه نهكه المرض أي أثرة الحرب مؤنثة- . و قد أخذت منكم و تركت أي لم تستأصلكم- بل فيكم بعد بقية و هي لعدوكم أنهك- لأن القتل في أهل الشام كان أشد استحرارا- و الوهن فيهم أظهر- و لو لا فساد أهل العراق برفع المصاحف لاستؤصل الشام- و خلص الأشتر إلى معاوية فأخذه بعنقه- و لم يكن قد بقي من قوة الشام- إلا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يمينا و شمالا- و لكن الأمور السماوية لا تغالب- .

فأما قوله كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا- فقد قدمنا شرح حالهم من قبل- و أن أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص و من معه المصاحف- على وجه المكيدةحين أحس بالعطب- و علو كلمة أهل الحق- ألزموا أمير المؤمنين ع بوضع أوزار الحرب- و كف الأيدي عن القتال و كانوا في ذلك على أقسام- فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف- و غلب على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة و حيلة- بل حقا و دعاء إلى الدين و موجب الكتاب- فرأى أن الاستسلام للحجة أولى من الإصرار على الحرب- .

و منهم من كان قد مل الحرب و آثر السلم- فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلق بها- في رفض المحاربة و حب العافية أخلد إليهم- . و منهم من كان يبغض عليا ع بباطنه- و يطيعه بظاهره- كما يطيع كثير من الناس السلطان- في الظاهر و يبغضه بقلبه- فلما وجدوا طريقا إلى خذلانه و ترك نصرته- أسرعوا نحوها- فاجتمع جمهور عسكره عليه- و طالبوه بالكف و ترك القتال- فامتنع امتناع عالم بالمكيدة- و قال لهم إنها حيلة و خديعة- و إني أعرف بالقوم منكم- إنهم ليسوا بأصحاب قرآن و لا دين- قد صحبتهم و عرفتهم صغيرا و كبيرا- فعرفت منهم الإعراض عن الدين و الركون إلى الدنيا- فلا تراعوا برفع المصاحف و صمموا على الحرب- و قد ملكتموهم فلم يبق منهم إلا حشاشة ضعيفة- و ذماء قليل- فأبوا عليه و ألحوا و أصروا على القعود و الخذلان- و أمروه بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه- و عليهم الأشتر أن يأمرهم بالرجوع- و تهددوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية- فأرسل إلى الأشتر يأمره بالرجوع و ترك الحرب- فأبى عليه فقال كيف أرجع و قد لاحت أمارات الظفر- فقولوا له ليمهلني ساعة واحدة- و لم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت- فلما عاد إليه الرسول بذلك- غضبوا و نفروا و شغبوا- و قالوا أنفذت إلى الأشتر سرا و باطنا- تأمره بالتصميم و تنهاه عن الكف- و إن لم تعده الساعة و إلا قتلناك كما قتلنا عثمان- فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له- أ تحب أن تظفر بمكانك و أمير المؤمنين قد سل عليه‏خمسون ألف سيف- فقال ما الخبر قال إن الجيش بأسره قد أحدق به- و هو قاعد بينهم على الأرض- تحته نطع و هو مطرق و البارقة تلمع على رأسه- يقولون لئن لم تعد الأشتر قتلناك- قال ويحكم فما سبب ذلك قالوا رفع المصاحف- قال و الله لقد ظننت حين رأيتها رفعت- أنها ستوقع فرقة و فتنة- .

ثم كر راجعا على عقبيه- فوجد أمير المؤمنين ع تحت الخطر- قد ردده أصحابه بين أمرين- إما أن يسلموه إلى معاوية أو يقتلوه- و لا ناصر له منهم إلا ولداه و ابن عمه- و نفر قليل لا يبلغون عشرة- فلما رآهم الأشتر سبهم و شتمهم- و قال ويحكم أ بعد الظفر و النصر- صب عليكم الخذلان و الفرقة- يا ضعاف الأحلام يا أشباه النساء- يا سفهاء العقول فشتموه و سبوه و قهروه- و قالوا المصاحف المصاحف و الرجوع إليها- لا نرى غير ذلك- فأجاب أمير المؤمنين ع إلى التحكيم- دفعا للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور الأضعف- فلذلك قال كنت أميرا فأصبحت مأمورا- و كنت ناهيا فصرت منهيا- و قد سبق من شرح حال التحكيم- و ما جرى فيه ما يغني عن إعادته

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 199 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

199 و من كلام له ع- و قد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين

إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ- وَ لَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ ذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ- كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَ أَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ- وَ قُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ- اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَ دِمَاءَهُمْ- وَ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَ بَيْنِهِمْ وَ اهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ- حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ- وَ يَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَ الْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ السب الشتم سبه يسبه بالضم و التساب التشاتم- و رجل مسب بكسر الميم كثير السباب- و رجل سبه أي يسبه الناس- و رجل سببه أي يسب الناس- و رجل سب كثير السباب و سبك الذي يسابك قال-لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريم‏و الذي كرهه ع منهم أنهم كانوا يشتمون أهل الشام- و لم يكن يكره منهم لعنهم إياهم و البذاءة منهم- لا كما يتوهمه قوم من الحشوية- فيقولون لا يجوزلعن أحد ممن عليه اسم الإسلام- و ينكرون على من يلعن و منهم من يغالي في ذلك- فيقول لا ألعن الكافر و ألعن إبليس- و إن الله تعالى لا يقول لأحد يوم القيامة- لم لم تلعن و إنما يقول لم لعنت- .

و اعلم أن هذا خلاف نص الكتاب- لأنه تعالى قال- إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً- . و قال أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ- . و قال في إبليس وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ- . و قال مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا- . و في الكتاب العزيز من ذلك الكثير الواسع- . و كيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرؤ- ممن يجب التبرؤ منه- أ لم يسمع هؤلاء قول الله تعالى- قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ- إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ- وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً- و إنما يجب النظر فيمن قد اشتبهت حاله- فإن كان قد قارف كبيرة من الذنوب- يستحق بها اللعن و البراءة- فلا ضير على من يلعنه و يبرأ منه- و إن لم يكن قد قارف كبيرة لم يجز لعنه و لا البراءة منه- . و مما يدل على أن من عليه اسم الإسلام- إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه- بل يجب في وقت قول الله تعالى في قصة اللعان- فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ‏لَمِنَ الصَّادِقِينَ- وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ- .

و قال تعالى في القاذف- إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ- لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ- . فهاتان الآيتان في المكلفين من أهل القبلة- و الآيات قبلهما في الكافرين و المنافقين- و لهذا قنت أمير المؤمنين ع- على معاوية و جماعة من أصحابه- و لعنهم في أدبار الصلوات- .

فإن قلت- فما صوره السب الذي نهى أمير المؤمنين ع عنه- . قلت كانوا يشتمونهم بالآباء و الأمهات- و منهم من يطعن في نسب قوم منهم- و منهم من يذكرهم باللؤم- و منهم من يعيرهم بالجبن و البخل- و بأنواع الأهاجي التي يتهاجى بها الشعراء- و أساليبها معلومة- فنهاهم ع عن ذلك- و قال إني أكره لكن أن تكونوا سبابين- و لكن الأصوب أن تصفوا لهم أعمالهم و تذكروا حالهم- أي أن تقولوا إنهم فساق و إنهم أهل ضلال و باطل- .

ثم قال اجعلوا عوض سبهم أن تقولوا- اللهم احقن دماءنا و دماءهم- . حقنت الدم أحقنه بالضم منعت أن يسفك- أي ألهمهم الإنابة إلى الحق و العدول عن الباطل- فإن ذلك إذا تم حقنت دماء الفريقين- . فإن قلت كيف يجوز أن يدعو الله تعالى بما لا يفعله- أ ليس من أصولكم- أن الله تعالى لا يضطر المكلف إلى اعتقاد الحق- و إنما يكله إلى نظره- .

قلت الأمر و إن كان كذلك- إلا أن المكلفين قد تعبدوا بأن يدعوا الله تعالى‏بذلك- لأن في دعائهم إياه بذلك لطفا لهم و مصالح في أديانهم- كالدعاء بزيادة الرزق و تأخير الأجل- . قوله و أصلح ذات بيننا و بينهم- يعني أحوالنا و أحوالهم- و لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها ذات البين- كما أنه لما كانت الضمائر ملابسة للصدور- قيل ذات الصدور- و كذلك قولهم اسقني ذا إنائك- لما كان ما فيه من الشراب ملابسا له- و يقولون للمتبرز قد وضع ذا بطنه- و للحبلى تضع ألقت ذا بطنها- . و ارعوى عن الغي رجع و كف- . لهج به بالكسر يلهج أغرى به و ثابر عليه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 198 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(طلحة و الزبير)

198 و من كلام له ع كلم به طلحة و الزبير- بعد بيعته بالخلافة

و قد عتبا عليه- من ترك مشورتهما و الاستعانة في الأمور بهما: لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيراً وَ أَرْجَأْتُمَا كَثِيراً- أَ لَا تُخْبِرَانِي أَيُّ شَيْ‏ءٍ كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ- أَمْ أَيُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ- أَوْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ- ضَعُفْتُ عَنْهُ أَمْ جَهِلْتُهُ أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ- . وَ اللَّهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ- وَ لَا فِي الْوَلَايَةِ إِرْبَةٌ- وَ لَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا وَ حَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا- فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ مَا وَضَعَ لَنَا- وَ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ- وَ مَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ ص فَاقْتَدَيْتُهُ- فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَى رَأْيِكُمَا وَ لَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا- وَ لَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَ إِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ- وَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا وَ لَا عَنْ غَيْرِكُمَا- . وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الْأُسْوَةِ- فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي- وَ لَا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي- بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَ أَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ص قَدْ فُرِغَ مِنْهُ- فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ- وَ أَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ- فَلَيْسَ لَكُمَا وَ اللَّهِ عِنْدِي وَ لَا لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى- . أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ- وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ- .

ثُمَّ قَالَ ع- رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ- أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ- وَ كَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ نقمت عليه بالفتح أنقم هذه اللغة الفصيحة- و جاء نقمت بالكسر أنقم- . و أرجأتما أخرتما أي نقمتما من أحوالي اليسير- و تركتما الكثير الذي ليس لكما- و لا لغيركما فيه مطعن فلم تذكراه- فهلا اغتفرتما اليسير للكثير- . و ليس هذا اعترافا بأن ما نقماه موضع الطعن و العيب- و لكنه على جهة الجدل و الاحتجاج- كما تقول لمن يطعن في بيت من شعر شاعر مشهور- لقد ظلمته إذ تتعلق عليه بهذا البيت- و تنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره- . ثم ذكر وجوه العتاب و الاسترادة و هي أقسام- إما أن يكون لهما حق يدفعهما عنه- أو استأثر عليهما في قسم أو ضعف عن السياسة- أو جهل حكما من أحكام الشريعة أو أخطأ بابه- . فإن قلت أي فرق بين الأول و الثاني- قلت أما دفعهما عن حقهما فمنعهما عنه- سواء صار إليه ع أو إلى غيره- أو لم يصر إلى أحد بل بقي بحاله في بيت المال- .

و أما القسم الثاني فهو أن يأخذ حقهما لنفسه- و بين القسمين فرق ظاهر و الثاني أفحش من الأول- . فإن قلت فأي فرق بين قوله أم جهلته- أو أخطأت بابه- . قلت جهل الحكم أن يكون الله تعالى قد حكم بحرمة شي‏ء- فأحله الإمام أو المفتي- و كونه يخطئ بابه هو أن يصيب في الحكم- و يخطئ في الاستدلال عليه- .

ثم أقسم أنه لم يكن له في الخلافة رغبة و لا إربة- بكسر الهمزة و هي الحاجة- و صدق ع فهكذا نقل أصحاب التواريخ- و أرباب علم السير كلهم- وروى الطبري في التاريخ و رواه غيره أيضا إن الناس غشوه و تكاثروا عليه يطلبون مبايعته- و هو يأبى ذلك و يقول دعوني و التمسوا غيري- فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان- لا تثبت عليه العقول و لا تقوم له القلوب- قالوا ننشدك الله أ لا ترى الفتنة- أ لا ترى إلى ما حدث في الإسلام أ لا تخاف الله- فقال قد أجبتكم لما أرى منكم- و اعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم- و إن تركتموني فإنما أنا كأحدكم- بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم إليه- فقالوا ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك- قال إن كان لا بد من ذلك ففي المسجد- فإن بيعتي لا تكون خفيا و لا تكون إلا عن رضا المسلمين- و في ملإ و جماعة- فقام و الناس حوله فدخل المسجد- و انثال عليه المسلمون فبايعوه و فيهم طلحة و الزبير- . قلت قوله إن بيعتي لا تكون خفيا- و لا تكون إلا في المسجد بمحضر من جمهور الناس- يشابه قوله بعد وفاة رسول الله ص- للعباس لما سامه مد يده للبيعة- إني أحب أن أصحر بها- و أكره أن أبايع من وراء رتاج- .

ثم ذكر ع أنه لما بويع عمل بكتاب الله و سنة رسوله- و لم يحتج إلى رأيهما و لا رأي غيرهما- و لم يقع حكم يجهله فيستشيرهما- و لو وقع ذلك لاستشارهما و غيرهما و لم يأنف من ذلك- . ثم تكلم في معنى التنفيل في العطاء- فقال إني عملت بسنة رسول الله ص في ذلك- و صدق ع فإن رسول الله ص سوى في العطاء بين الناس- و هو مذهب أبي بكر- . و العتبى الرضا- أي لست أرضيكما- بارتكاب ما لا يحل لي في الشرع ارتكابه- و الضمير في صاحبه و هو الهاء المجرورة يرجع إلى الجور- أي و كان عونا بالعمل على صاحب الجور

من أخبار طلحة و الزبير

قد تقدم منا ذكر ما عتب به طلحة و الزبير- على أمير المؤمنين ع- و أنهما قالا ما نراه يستشيرنا في أمر- و لا يفاوضنا في رأي و يقطع الأمر دوننا- و يستبد بالحكم عنا و كانا يرجوان غير ذلك- و أراد طلحة أن يوليه البصرة- و أراد الزبير أن يوليه الكوفة- فلما شاهدا صلابته في الدين و قوته في العزم- و هجره الادهان و المراقبة و رفضه المدالسة و المواربة- و سلوكه في جميع مسالكه منهج الكتاب و السنة- و قد كانا يعلمان ذلك قديما من طبعه و سجيته- و كان عمر قال لهما و لغيرهما- إن الأجلح إن وليها- ليحملنكم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم- وكان رسول الله ص‏من قبل- قال و إن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا- إلا أنه ليس الخبر كالعيان- و لا القول كالفعل و لا الوعد كالإنجاز- و حالا عنه و تنكرا له و وقعا فيه و عاباه و غمصاه- و تطلبا له العلل و التأويلات- و تنقما عليه الاستبداد و ترك المشاورة- و انتقلا من ذلك إلى الوقيعة فيه- بمساواة الناس في قسمة المال- و أثنيا على عمر و حمدا سيرته و صوبا رأيه- و قالا إنه كان يفضل أهل السوابق- و ضللا عليا ع فيما رآه- و قالا إنه أخطأ و إنه خالف سيرة عمر- و هي السيرة المحمودة التي لم تفضحها النبوة- مع قرب عهدنا منها و اتصالها بها- و استنجدا عليه بالرؤساء من المسلمين- كان عمر يفضلهم و ينفلهم في القسم على غيرهم- و الناس أبناء الدنيا و يحبون المال حبا جما- فتنكرت على أمير المؤمنين ع بتنكرهما قلوب كثيرة- و نغلت عليه نيات كانت من قبل سليمة- و لقد كان عمر موفقا حيث منع قريشا و المهاجرين- و ذوي السوابق من الخروج من المدينة- و نهاهم عن مخالطة الناس و نهى الناس عن مخالطتهم- و رأى أن ذلك أس الفساد في الأرض- و أن الفتوح و الغنائم قد أبطرت المسلمين- و متى بعد الرءوس و الكبراء منهم عن دار الهجرة- و انفردوا بأنفسهم و خالطهم الناس في البلاد البعيدة- لم يأمن أن يحسنوا لهم الوثوب- و طلب الإمرة و مفارقة الجماعة و حل نظام الألفة- و لكنه رضي الله عنه نقض هذا الرأي السديد- بما فعله بعد طعن أبي لؤلؤة له من أمر الشورى- فإن ذلك كان سبب كل فتنة وقعت- و تقع إلى أن تنقضي الدنيا- و قد قدمنا ذكر ذلك- و شرحنا ما أدى إليه أمر الشورى من الفساد- بما حصل في نفس كل من الستة من ترشيحه للخلافة- .

و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه- قال كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين- الخروج في البلدان إلا بإذن و أجل فشكوه فبلغه- فقام فخطب فقال ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير- يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا- ثم يكون رباعيا ثم سديسا ثم بازلا- ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان- ألا و إن الإسلام قد صار بازلا- و إن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات- على ما في أنفسهم- ألا إن في قريش من يضمر الفرقة و يروم خلع الربقة- أما و ابن الخطاب حي فلا إني قائم دون شعب الحرة- آخذ بحلاقيم قريش و حجزها أن يتهافتوا في النار- . و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضا- فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر يأخذهم به- فخرجوا إلى البلاد فلما نزلوها و رأوا الدنيا- و رآهم الناس خمل من لم يكن له طول و لا قدم في الإسلام- و نبه أصحاب السوابق و الفضل فانقطع إليهم الناس- و صاروا أوزاعا معهم- و أملوهم و تقربوا إليهم- و قالوا يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة- فكان ذلك أول وهن على الإسلام- و أول فتنة كانت في العامة- .

و روى أبو جعفر الطبري عن الشعبي قال- لم يمت عمر حتى ملته قريش و قد كان حصرهم بالمدينة- و سألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى البلاد- فامتنع عليهم و قال- إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد- حتى أن الرجل كان يستأذنه في غزو الروم أو الفرس- و هو ممن حبسه بالمدينة من قريش- و لا سيما من المهاجرين فيقول له- إن لك في غزوك مع رسول الله ص ما يكفيك و يبلغك و يحسبك- و هو خير لك من الغزو اليوم- و إن خيرا لك ألا ترى الدنيا و لا تراك- .

فلما مات عمر و ولي عثمان خلى عنهم- فانتشروا في البلاد و اضطربوا- و انقطع إليهم الناس و خالطوهم- فلذلك كان عثمان أحب إلى قريش من عمر- . فقد بان لك حسن رأي عمر في منع المهاجرين- و أهل السابقة من قريش من مخالطة الناس- و الخروج من المدينة- و بان لك أن عثمان أرخى لهم في الطول فخالطهم الناس- و أفسدوهم و حببوا إليهم الملك و الإمرة و الرئاسة- لا سيما مع الثروة العظيمة التي حصلت لهم- و الثراء مفسدة و أي مفسدة- و حصل لطلحة و الزبير من ذلك ما لم يحصل لغيرهما- ثروة و يسارا و قدما في الإسلام- و صار لهما لفيف عظيم من المسلمين يمنونهما الخلافة- و يحسنون لهما طلب الإمرة- لا سيما و قد رشحهما عمر لها- و أقامهما مقام نفسه في تحملها- و أي امرئ منى بها قط نفسه ففارقها حتى يغيب في اللحد- و لا سيما طلحة قد كان يحدث بها نفسه و أبو بكر حي- و يروم أن يجعلها فيه بشبهة أنه ابن عمه- و سخط خلافة عمر و قال لأبي بكر- ما تقول لربك و قد وليت علينا فظا غليظا- و كان له في أيام عمر قوم يجلسون إليه- و يحادثونه سرا في معنى الخلافة و يقولون له- لو مات عمر لبايعناك بغتة جلب الدهر علينا ما جلب- و بلغ ذلك عمر فخطب الناس بالكلام المشهور- أن قوما يقولون إن بيعة أبي بكر كانت فلتة- و إنه لو مات عمر لفعلنا و فعلنا- أما إن بيعة أبي بكر كانت فلتة إلا أن الله وقى شرها- و ليس فيكم من تقطع إليه الرقاب كأبي بكر- فأي امرئ بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين- فإنهما بغرة أن يقتلا- فلما صارت إلى عثمان سخطها طلحة- بعد أن كان رضيها و أظهر ما في نفسه- و ألب عليه حتى قتل و لم يشك أن الأمر له- فلما صارت إلى علي ع حدث منه ما حدث- و آخر الدواء الكي- .و أما الزبير فلم يكن إلا علوي الرأي- شديد الولاء جاريا من الرجل مجرى نفسه- .

و يقال إنه ع لما استنجد بالمسلمين- عقيب يوم السقيفة و ما جرى فيه- و كان يحمل فاطمة ع ليلا على حمار- و ابناها بين يدي الحمار و هو ع يسوقه- فيطرق بيوت الأنصار و غيرهم- و يسألهم النصرة و المعونة أجابه أربعون رجلا- فبايعهم على الموت- و أمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رءوسهم و معهم سلاحهم- فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة- الزبير و المقداد و أبو ذر و سلمان- ثم أتاهم من الليل فناشدهم فقالوا نصبحك غدوة- فما جاءه منهم إلا أربعة و كذلك في الليلة الثالثة- و كان الزبير أشدهم له نصرة و أنفذهم في طاعته بصيرة- حلق رأسه و جاء مرارا و في عنقه سيفه و كذلك الثلاثة الباقون- إلا أن الزبير هو كان الرأس فيهم- و قد نقل الناس خبر الزبير لما هجم عليه ببيت فاطمة ع- و كسر سيفه في صخرة ضربت به- و نقلوا اختصاصه بعلي ع و خلواته به- و لم يزل مواليا له متمسكا بحبه و مودته- حتى نشأ ابنه عبد الله و شب- فنزع به عرق من الأم- و مال إلى تلك الجهة و انحرف عن هذه- و محبة الوالد للولد معروفة فانحرف الزبير لانحرافه- على أنه قد كانت جرت بين علي ع و الزبير هنات- في أيام عمر كدرت القلوب بعض التكدير- و كان سببها قصة موالي صفية- و منازعة علي للزبير في الميراث- فقضى عمر للزبير- فأذعن علي ع لقضائه بحكم سلطانه- لا رجوعا عما كان يذهب إليه- من حكم الشرع في هذه المسألة- و بقيت في نفس الزبير- على أن شيخنا أبا جعفر الإسكافي رحمه الله- ذكر في كتاب نقض العثمانية عن الزبير كلاما- إن صح فإنه يدل على انحراف شديد- و رجوع عن موالاة أمير المؤمنين ع- . قال تفاخر علي ع و الزبير- فقال الزبير أسلمت بالغا و أسلمت طفلا- و كنت أول من سل سيفا في سبيل الله بمكة- و أنت مستخف في الشعب يكفلك الرجال-و يمونك الأقارب من بني هاشم- و كنت فارسا و كنت راجلا- و في هيأتي نزلت الملائكة و أنا حواري رسول الله ص- .

قال شيخنا أبو جعفر و هذا الخبر مفتعل مكذوب- و لم يجر بين علي و الزبير شي‏ء من هذا الكلام- و لكنه من وضع العثمانية- و لم يسمع به في أحاديث الحشوية و لا في كتب أصحاب السيرة- . و لعلي ع أن يقول طفل مسلم خير من بالغ كافر- و أما سل السيف بمكة فلم يكن في موضعه- و في ذلك قال الله تعالى- أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الآية- و أنا على منهاج الرسول في الكف و الإقدام- و ليس كفالة الرجال و الأقارب بالشعب عارا علي- فقد كان رسول الله ص في الشعب يكفله الرجال و الأقارب- و أما حربك فارسا و حربي راجلا- فهلا أغنت فروسيتك يوم عمرو بن عبد ود في الخندق- و هلا أغنت فروسيتك يوم طلحة بن أبي طلحة في أحد- و هلا أغنت فروسيتك يوم مرحب بخيبر- ما كانت فرسك التي تحارب عليها في هذه الأيام- إلا أذل من العنز الجرباء- و من سلمت عليه الملائكة أفضل ممن نزلت في هيأته- و قد نزلت الملائكة في صورة دحية الكلبي- أ فيجب من ذلك أن يكون دحية أفضل مني- و أما كونك حواري رسول الله ص- فلو عددت خصائصي في مقابلة هذه اللفظة الواحدة لك- لاستغرقت الوقت و أفنيت الزمان- و رب صمت أبلغ من نطق- .

ثم نرجع إلى الحديث الأول- فتقول إن طلحة و الزبير لما أيسا من جهة علي ع-و من حصول الدنيا من قبله قلبا له ظهر المجن- فكاشفاه و عاتباه قبل المفارقة عتابا لاذعا- روى شيخنا أبو عثمان قال- أرسل طلحة و الزبير إلى علي ع- قبل خروجهما إلى مكة مع محمد بن طلحة- و قالا لا تقل له يا أمير المؤمنين- و لكن قل له يا أبا الحسن- لقد فال فيك رأينا و خاب ظننا- أصلحنا لك الأمر و وطدنا لك الإمرة- و أجلبنا على عثمان حتى قتل- فلما طلبك الناس لأمرهم- أسرعنا إليك و بايعناك- و قدنا إليك أعناق العرب- و وطئ المهاجرون و الأنصار أعقابنا في بيعتك- حتى إذا ملكت عنانك استبددت برأيك عنا- و رفضتنا رفض التريكة و أذلتنا إذالة الإماء- و ملكت أمرك الأشتر و حكيم بن جبلة و غيرهما- من الأعراب و نزاع الأمصار- فكنا فيما رجوناه منك- و أملناه من ناحيتك كما قال الأول-

فكنت كمهريق الذي في سقائه
لرقراق آل فوق رابية صلد

فلما جاء محمد بن طلحة أبلغه ذاك- فقال اذهب إليهما فقل لهما فما الذي يرضيكما- فذهب و جاءه فقال- إنهما يقولان ول أحدنا البصرة و الآخر الكوفة- فقال لاها الله إذن يحلم الأديم و يستشرى الفساد- و تنتقض على البلاد من أقطارها- و الله إني لا آمنهما و هما عندي بالمدينة- فكيف آمنهما و قد وليتهما العراقين- اذهب إليهما فقل أيها الشيخان- احذرا من سطوة الله و نقمته- و لا تبغيا للمسلمين غائلة و كيدا- و قد سمعتما قول الله تعالى- تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها- لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ- فقام محمد بن طلحة فأتاهما و لم يعد إليه و تأخرا عنه أياما- ثم جاءاه فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة- فأذن لهما بعد أن أحلفهماألا ينقضا بيعته- و لا يغدرا به و لا يشقا عصا المسلمين- و لا يوقعا الفرقة بينهم- و أن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة- فحلفا على ذلك كله ثم خرجا ففعلا ما فعلا- . و روى شيخنا أبو عثمان قال- لما خرج طلحة و الزبير إلى مكة- و أوهما الناس أنهما خرجا للعمرة- قال علي ع لأصحابه- و الله ما يريدان العمرة و إنما يريدان الغدرة- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ- وَ مَنْ أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً- . و روى الطبري في التاريخ قال- لما بايع طلحة و الزبير عليا ع- سألاه أن يؤمرهما على الكوفة و البصرة- فقال بل تكونان عندي أتجمل بكما- فإنني أستوحش لفراقكما- . قال الطبري و قد كان قال لهما قبل بيعتهما له- إن أحببتما أن تبايعاني و إن أحببتما بايعتكما- فقالا لا بل نبايعك ثم قالا بعد ذلك- إنما بايعناه خشية على أنفسنا- و قد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا- ثم ظهرا إلى مكة و ذلك بعد قتل عثمان بأربعة أشهر- .

و روى الطبري أيضا في التاريخ قال- لما بايع الناس عليا و تم له الأمر- قال طلحة للزبير- ما أرى أن لنا من هذا الأمر إلا كحسة أنف الكلب- . و روى الطبري أيضا في التاريخ قال- لما بايع الناس عليا ع بعد قتل عثمان- جاء علي إلى الزبير فاستأذن عليه- قال أبو حبيبه مولى الزبير- فأعلمته به فسل السيف و وضعه تحت فراشه- و قال ائذن له فأذنت له- فدخل فسلم على الزبير و هو واقف ثم خرج- فقال الزبير لقد دخل لأمر ما قضاه- قم مقامه و انظر هل ترى من‏السيف شيئا- فقمت في مقامه فرأيت ذباب السيف فأخبرته و قلت- إن ذباب السيف ليظهر لمن قام في هذا الموضع- فقال ذاك أعجل الرجل و روى شيخنا أبو عثمان قال- كتب مصعب بن الزبير إلى عبد الملك- من مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان- سلام عليك- فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد-

ستعلم يا فتى الزرقاء أني
سأهتك عن حلائلك الحجابا

و أترك بلدة أصبحت فيها
تهور من جوانبها خرابا

أما إن لله على الوفاء بذلك إلا أن تتراجع أو تتوب- و لعمري ما أنت كعبد الله بن الزبير و لا مروان كالزبير بن العوام- حواري رسول الله ص و ابن عمته- فسلم الأمر إلى أهله- فإن نجاتك بنفسك أعظم الغنيمتين و السلام- . فكتب إليه عبد الملك- من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين- إلى الذلول الذي أخطأ من سماه المصعب- سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد-

أ توعدني و لم أر مثل يومي
خشاش الطير يوعدن العقابا

متى تلق العقاب خشاش طير
يهتك عن مقاتلها الحجابا

أ توعد بالذئاب أسود غاب
و أسد الغاب تلتهم الذئابا

أما ما ذكرت من وفائك- فلعمري لقد وفى أبوك لتيم و عدي بعداء قريش و زعانفها- حتى إذا صارت الأمور إلى صاحبها عثمان- الشريف النسب الكريم الحسب بغاة الغوائل- و أعد له المخاتل حتى نال منه حاجته- ثم دعا الناس إلى علي و بايعه- فلمادانت له أمور الأمة و أجمعت له الكلمة- و أدركه الحسد القديم لبني عبد مناف- فنقض عهده و نكث بيعته بعد توكيدها- ف فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ- و تمزقت لحمه الضباع بوادي السباع- و لعمري إنك تعلم يا أخا بني عبد العزى بن قصي- أنا بنو عبد مناف لم نزل سادتكم- و قادتكم في الجاهلية و الإسلام- و لكن الحسد دعاك إلى ما ذكرت- و لم ترث ذلك عن كلالة بل عن أبيك- و لا أظن حسدك و حسد أخيك يئول بكما- إلا إلى ما آل إليه حسد أبيكما من قبل- وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ- .

و روى أبو عثمان أيضا قال- دخل الحسن بن علي ع على معاوية- و عنده عبد الله بن الزبير- و كان معاوية يحب أن يغري بين قريش- فقال يا أبا محمد أيهما كان أكبر سنا علي أم الزبير- فقال الحسن ما أقرب ما بينهما- و علي أسن من الزبير رحم الله عليا- فقال ابن الزبير رحم الله الزبير- و هناك أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب فقال- يا عبد الله و ما يهيجك من أن يترحم الرجل على أبيه- قال و أنا أيضا ترحمت على أبي- قال أ تظنه ندا له و كفؤا- قال و ما يعدل به عن ذلك كلاهما من قريش- و كلاهما دعا إلى نفسه و لم يتم له- قال دع ذاك عنك يا عبد الله- إن عليا من قريش و من الرسول ص حيث تعلم- و لما دعا إلى نفسه أتبع فيه و كان رأسا- و دعا الزبير إلى أمر و كان الرأس فيه امرأة- و لما تراءت الفئتان نكص على عقبيه- و ولى مدبرا قبل أن يظهر الحق فيأخذه- أو يدحض الباطل فيتركه- فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر- فضرب عنقه و أخذ سلبه و جاء برأسه- و مضى علي قدما كعادته مع ابن عمه رحم الله عليافقال ابن الزبير- أما لو أن غيرك تكلم بهذا يا أبا سعيد لعلم- فقال إن الذي تعرض به يرغب عنك- و كفه معاوية فسكتوا- . و أخبرت عائشة بمقالتهم و مر أبو سعيد بفنائها- فنادته يا أبا سعيد أنت القائل لابن أختي كذا- فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئا- فقال إن الشيطان يرانا و لا نراه- فضحكت عائشة و قالت لله أبوك ما أذلق لسانك

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 197 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

197 و من كلام له ع كان كثيرا ما ينادي به أصحابه

تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ- وَ أَقِلُّوا الْعَرْجَةَ عَلَى الدُّنْيَا- وَ انْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ- فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَئُوداً وَ مَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً- لَا بُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَيْهَا وَ الْوُقُوفِ عِنْدَهَا- . وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَلَاحِظَ الْمَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دَائِبَةٌ- وَ كَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَ قَدْ نَشِبَتْ فِيكُمْ- وَ قَدْ دَهَمَتْكُمْ مِنْهَا مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ وَ مُضْلِعَاتُ الْمَحْذُورِ- . فَقَطِّعُوا عَلَائِقَ الدُّنْيَا وَ اسْتَظْهِرُوا بِزَادِ التَّقْوَى- و قد مضى شي‏ء من هذا الكلام فيما تقدم- يخالف هذه الرواية تجهزوا لكذا أي تهيئوا له- . و العرجة التعريج و هو الإقامة- تقول ما لي على ربعك عرجة أي إقامة- و عرج فلان على المنزل إذا حبس عليه مطيته- .

و العقبة الكئود الشاقة المصعد و دائبة جادة- و المخلب للسبع بمنزلة الظفر للإنسان- . و أفظع الأمر فهو مفظع إذا جاوز المقدار شدة- . و مضلعات المحذور الخطوب التي تضلع- أي تجعل الإنسان ضليعا أي معوجا- و الماضي ضلع بالكسر يضلع ضلعا- . و من رواها بالظاء- أراد الخطوب التي تجعل الإنسان ظالعا- أي يغمز في مشيه لثقلها عليه- و الماضي ظلع بالفتح يظلع ظلعها فهو ظالع

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 196 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

الجزء الحادي عشر

تتمة باب الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل

196 و من كلام له ع

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَجَازٍ وَ الآْخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ- فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ- وَ لَا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ- وَ أَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ- مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ- فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ وَ لِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ- إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ مَا تَرَكَ- وَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَدَّمَ- لِلَّهِ آبَاؤُكُمْ فَقَدِّمُوا بَعْضاً يَكُنْ لَكُمْ- وَ لَا تُخْلِفُوا كُلًّا فَيَكُونَ فَرْضاً عَلَيْكُمْ ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل- عن الأصمعي قال- خطبنا أعرابي بالبادية فحمد الله و استغفره- و وحده و صلى على نبيه ص فأبلغ في إيجاز- ثم قال أيها الناس إن الدنيا دار بلاغ- و الآخرة دار قرار فخذوا لمقركم من ممركم- و لا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم- في الدنيا أنتم‏و لغيرها خلقتم- أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم- و المصلى عليه رسول الله و المدعو له الخليفة و الأمير جعفر بن سليمان- .

و ذكر غيره الزيادة التي في كلام أمير المؤمنين ع- و هي أن المرء إذا هلك إلى آخر الكلام- . و أكثر الناس على أن هذا الكلام لأمير المؤمنين ع- . و يجوز أن يكون الأعرابي حفظه- فأورده كما يورد الناس كلام غيرهم- . قوله ع دار مجاز- أي يجاز فيها إلى الآخرة- و منه سمي المجاز في الكلام مجازا- لأن المتكلم قد عبر الحقيقة إلى غيرها- كما يعبر الإنسان من موضع إلى موضع- . و دار القرار دار الاستقرار الذي لا آخر له- .

فخذوا من ممركم أي من الدنيا لمقركم و هو الآخرة- . قوله ع قال الناس ما ترك- يريد أن بني آدم مشغولون بالعاجلة- لا يفكرون في غيرها و لا يتساءلون إلا عنها- فإذا هلك أحدكم فإنما قولهم بعضهم لبعض- ما الذي ترك فلان من المال ما الذي خلف من الولد- و أما الملائكة فإنهم يعرفون الآخرة- و لا تستهويهم شهوات الدنيا- و إنما هم مشغولون بالذكر و التسبيح- فإذا هلك الإنسان قالوا ما قدم- أي أي شي‏ء قدم من الأعمال- . ثم أمرهم ع- بأن يقدموا من أموالهم بعضها صدقة فإنها تبقى لهم- و نهاهم أن يخلفوا أموالهم كلها بعد موتهم- فتكون وبالا عليهم في الآخرة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 195 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

195 و من كلام له ع

روي عنه: أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَ دَفْنِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ ع- كَالْمُنَاجِي بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ص عِنْدَ قَبْرِهِ- السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي- وَ عَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ- وَ السَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ- قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَ رَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي- إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ- وَ فَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ- فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ- وَ فَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَ صَدْرِي نَفْسُكَ- فَإِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ- فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وَ أُخِذَتِ الرَّهِينَةُ- أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ- إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ- وَ سَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا- فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَ اسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ- هَذَا وَ لَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ وَ لَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ- وَ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ وَ لَا سَئِمٍ- فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ- وَ إِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ أما قول الرضي رحمه الله عند دفن سيدة النساء- فلأنه قد تواتر الخبر عنه ص أنه قال فاطمة سيدة نساء العالمينإما هذا اللفظ بعينه أو لفظ يؤدي هذاالمعنى-روي أنه قال و قد رآها تبكي عند موته- أ لا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمةوروي أنه قال سادات نساء العالمين أربع- خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد- و آسية بنت مزاحم و مريم بنت عمران- .

قوله ع و سريعة اللحاق بك-جاء في الحديث أنه رآها تبكي عند موته فأسر إليها- أنت أسرع أهلي لحوقا بي فضحكت- . قوله عن صفيتك أجله ص عن أن يقول عن ابنتك- فقال صفيتك و هذا من لطيف عبارته و محاسن كنايته- يقول ع ضعف جلدي و صبري عن فراقها- لكني أتأسى بفراقي لك فأقول- كل عظيم بعد فراقك جلل- و كل خطب بعد موتك يسير- . ثم ذكر حاله معه وقت انتقاله ص إلى جوار ربه- فقال لقد وسدتك في ملحودة قبرك- أي في الجهة المشقوقة من قبرك- و اللحد الشق في جانب القبر- و جاء بضم اللام في لغة غير مشهورة- .

قال و فاضت بين نحري و صدري نفسك- يروى أنه ص قذف دما يسيرا وقت موته- و من قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب- و أن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع- انفجرت في تلك الحال- و كانت فيها نفسه ص- و ذهب قوم إلى أن مرضه إنما كان الحمى و السرسام الحار- و أن أهل داره ظنوا أن به ذات الجنب- فلدوه و هو مغمى عليه- و كانت العرب تداوي باللدود من به ذات الجنب- فلما أفاق علم أنهم قد لدوه فقال- لم يكن الله ليسلطها علي لدوا كل من في الدار- فجعل بعضهم يلد بعضا- .

و احتج الذاهبون إلى أن مرضه كان ذات الجنب- بما روي من انتصابه و تعذر الاضطجاع و النوم عليه-قال سلمان الفارسي دخلت عليه صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه- فقال لي يا سلمان- أ لا تسأل عما كابدته الليلة من الألم و السهر أنا و علي- فقلت يا رسول الله أ لا أسهر الليلة معك بدله- فقال لا هو أحق بذلك منك- . و زعم آخرون- أن مرضه كان أثرا لأكلة السم التي أكلها ع- و احتجوابقوله ص ما زالت أكلة خيبر تعاودني- فهذا أوان قطعت أبهري- . و من لم يذهب إلى ذات الجنب فأولوا قول علي ع- فاضت بين نحري و صدري نفسك- فقالوا أراد بذلك آخر الأنفاس التي يخرجها الميت- و لا يستطيع إدخال الهواء إلى الرئة عوضا عنها- و لا بد لكل ميت من نفخة تكون آخر حركاته- . و يقول قوم إنها الروح و عبر علي ع عنها بالنفس- لما كانت العرب لا ترى بين الروح و النفس فرقا- . و اعلم أن الأخبار مختلفة في هذا المعنى- فقدروى كثير من المحدثين عن عائشة أنها قالت توفي رسول الله ص بين سحري و نحري- .

و روى كثير منهم هذا اللفظ عن علي ع أنه قال عن نفسه- وقال في رواية أخرى ففاضت نفسه في يدي فأمررتها على وجهي- .و الله أعلم بحقيقة هذه الحال- و لا يبعد عندي أن يصدق الخبران معا- بأن يكون رسول الله ص وقت الوفاة- مستندا إلى علي و عائشة جميعا- فقد وقع الاتفاق على أنه مات و هو حاضر لموته- و هو الذي كان يقلبه بعد موته- و هو الذي كان يعلله ليالي مرضه- فيجوز أن يكون مستندا إلى زوجته و ابن عمه- و مثل هذا لا يبعد وقوعه في زماننا هذا- فكيف في ذلك الزمان- الذي كان النساء فيه و الرجال مختلطين- لا يستتر البعض عن البعض- . فإن قلت فكيف تعمل بآية الحجاب- و ما صح من استتار أزواج رسول الله ص عن الناس بعد نزولها- .

قلت قد وقع اتفاق المحدثين كلهم- على أن العباس كان ملازما للرسول ص- أيام مرضه في بيت عائشة و هذا لا ينكره أحد- فعلى القاعدة التي كان العباس ملازمه ص- كان علي ع ملازمه- و ذلك يكون بأحد الأمرين- إما بأن نساءه لا يستترن من العباس و علي- لكونهما أهل الرجل و جزءا منه- أو لعل النساء كن يختمرن بأخمرتهن- و يخالطن الرجال فلا يرون وجوههن- و ما كانت عائشة وحدها في البيت عند موته- بل كان نساؤه كلهن في البيت- و كانت ابنته فاطمة عند رأسه ص- .

فأما حديث مرضه ص و وفاته فقد ذكرناه فيما تقدم- . قوله إنا لله إلى آخره أي عبيده- كما تقول هذا الشي‏ء لزيد أي يملكه- . ثم عقب الاعتراف بالملكية بالإقرار بالرجعة و البعث- و هذه الكلمة تقال عند المصيبة- كما أدب الله تعالى خلقه و عباده- . و الوديعة و الرهينة عبارة عن فاطمة- و من هذا الموضع أخذ ابن ثوابة الكاتب قوله- عن قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون- لما حملت من مصر إلى المعتضد أحمد بن‏طلحة بن المتوكل- و قد وصلت الوديعة سالمة و الله المحمود- و كيف يوصي الناظر بنوره- أم كيف يحض القلب على حفظ سروره- . و أخذ الصابي هذه اللفظة أيضا- فكتب عن عز الدولة بختيار بن بويه- إلى عدة الدولة أبي تغلب بن حمدان- و قد نقل إليه ابنته قد وجهت الوديعة يا سيدي- و إنما تقلب من وطن إلى سكن و من مغرس إلى مغرس- و من مأوى بر و انعطاف إلى مثوى كرامة و ألطاف- .

فأما الرهينة فهي المرتهنة- يقال للمذكر هذا رهين عندي على كذا- و للأنثى هذه رهينة عندي على كذا- كأنها ع كانت عنده عوضا من رؤية رسول الله ص- كما تكون الرهينة عوضا عن الأمر الذي أخذت رهينة عليه- . ثم ذكر ع أن حزنه دائم- و أنه يسهر ليله و لا ينام إلى أن يلتحق برسول الله ص- و يجاوره في الدار الآخرة- و هذا من باب المبالغة- كما يبالغ الخطباء و الكتاب و الشعراء في المعاني- لأنه ع ما سهر منذ ماتت فاطمة- و دام سهره إلى أن قتل ع- و إنما سهر ليلة أو شهرا أو سنة- ثم استمر مريره و ارعوى رسنه- فأما الحزن فإنه لم يزل حزينا إذا ذكرت فاطمة- هكذا وردت الرواية عنه- . قوله ع و ستنبئك ابنتك أي ستعلمك- . فأحفها السؤال أي استقص في مسألتها- و استخبرها الحال أحفيت إحفاء في السؤال استقصيت- و كذلك في الحجاج و المنازعة قال الحارث بن حلزة-

إن إخواننا الأراقم يغلون
علينا في قيلهم إحفاء

و رجل حفي أي مستقص في السؤال- .و استخبرها الحال أي عن الحال فحذف الجار- كقولك اخترت الرجال زيدا أي من الرجال- أي سلها عما جرى بعدك من الاستبداد- بعقد الأمر دون مشاورتنا- و لا يدل هذا على وجود النص- لأنه يجوز أن تكون الشكوى و التألم من إطراح هم- و ترك إدخالهم في المشاورة- فإن ذلك مما تكرهه النفوس و تتألم منه- و هجا الشاعر قوما فقال-

و يقضى الأمر حين تغيب تيم
و لا يستأذنون و هم شهود

قوله هذا و لم يطل العهد و لم يخلق الذكر- أي لم ينس- . فإن قلت فما هذا الأمر الذي لم ينس و لم يخلق- إن لم يكن هناك نص- . قلت
قوله ص إني مخلف فيكم الثقلينوقوله اللهم أدر الحق معه حيث دار- و أمثال ذلك من النصوص الدالة- على تعظيمه و تبجيله و منزلته في الإسلام- فهو ع كان يريد أن يؤخر عقد البيعة- إلى أن يحضر و يستشار- و يقع الوفاق بينه و بينهم- على أن يكون العقد لواحد من المسلمين بموجبه- إما له أو لأبي بكر أو لغيرهما- و لم يكن ليليق أن يبرم الأمر و هو غير حاضر له- مع جلالته في الإسلام و عظيم أثره- و ما ورد في حقه من وجوب موالاته- و الرجوع إلى قوله و فعله- فهذا هو الذي كان ينقم ع- و منه كان يتألم و يطيل الشكوى و كان ذلك في موضعه- و ما أنكر إلا منكرا- فأما النص فإنه لم يذكره ع و لا احتج به- و لما طال الزمان صفح عن ذلك الاستبداد الذي وقع منهم- و حضر عندهم فبايعهم و زال ما كان في نفسه- .

فإن قلت فهل كان يسوغ لأبي بكر- و قد رأى وثوب الأنصار على الأمر- أن يؤخره إلى أن يخرج ع و يحضر المشورة- . قلت إنه لم يلم أبا بكر بعينه- و إنما تألم من استبداد الصحابة بالأمر- دون حضوره و مشاورته- و يجوز أن يكون أكثر تألمه و عتابه- مصروفا إلى الأنصار الذين فتحوا باب الاستبداد و التغلب

ما رواه أبو حيان في حديث السقيفة

و روى القاضي أبو حامد أحمد- بن بشير المروروذي العامري- فيما حكاه عنه أبو حيان التوحيدي- قال أبو حيان سمرنا عند القاضي أبي حامد ليلة ببغداد- بدار ابن جيشان في شارع الماذيان- فتصرف الحديث بنا كل متصرف- و كان و الله معنا مزيلا مخلطا عزيز الرواية- لطيف الدراية له في كل جو متنفس- و في كل نار مقتبس فجرى حديث السقيفة- و تنازع القوم الخلافة فركب كل منا فنا- و قال قولا و عرض بشي‏ء و نزع إلى مذهب- فقال أبو حامد هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر إلى علي- و جواب علي له و مبايعته إياه عقيب تلك الرسالة- فقالت الجماعة لا و الله- فقال هي و الله من درر الحقاق المصونة- و مخبئات الصناديق في الخزائن المحوطة- و منذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي في وزارته- فكتبها عني في خلوة بيده- و قال لا أعرف في الأرض رسالةأعقل منها و لا أبين- و إنها لتدل على علم و حكم و فصاحة و فقاهة- في دين و دهاء و بعد غور و شدة غوص- .

فقال له واحد من القوم أيها القاضي- فلو أتممت المنة علينا بروايتها سمعناها و رويناه عنك- فنحن أوعى لها من المهلبي و أوجب ذماما عليك- . فقال هذه الرسالة رواها عيسى بن دأب- عن صالح بن كيسان عن هشام بن عروة- عن أبيه عروة بن الزبير عن أبي عبيدة بن الجراح- . قال أبو عبيدة- لما استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين و الأنصار- و لحظ بعين الوقار و الهيبة بعد هنة- كاد الشيطان بها يسر فدفع الله شرها و أدحض عسرها- فركد كيدها و تيسر خيرها- و قصم ظهر النفاق و الفسق بين أهلها- بلغ أبا بكر عن علي ع تلكؤ و شماس و تهمهم و نفاس- فكره أن يتمادى الحال و تبدو له العورة- و تنفرج ذات البين- و يصير ذلك دريئة لجاهل مغرور أو عاقل ذي دهاء- أو صاحب سلامة ضعيف القلب خوار العنان- دعاني في خلوة فحضرته و عنده عمر وحده- و كان عمر قبسا له و ظهيرا معه- يستضي‏ء بناره و يستملي من لسانه- فقال لي يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك- و أبين الخير بين عارضيك- لقد كنت مع رسول الله ص بالمكان المحوط و المحل المغبوط- ولقد قال فيك في يوم مشهود أبو عبيدة أمين هذه الأمة- و طالما أعز الله الإسلام بك- و أصلح ثلمة على يديك- و لم تزل للدين ناصرا و للمؤمنين روحا و لأهلك ركنا- و لإخوانك مردا قد أردتك‏لأمر له ما بعده- خطره مخوف و صلاحه معروف- و لئن لم يندمل جرحه بمسبارك و رفقك- و لم تجب حيته برقيتك- لقد وقع اليأس و أعضل البأس- و احتيج بعدك إلى ما هو أمر من ذلك و أعلق- و أعسر منه و أغلق و الله أسأل تمامه بك- و نظامه على يدك فتأت له يا أبا عبيدة- و تلطف فيه و انصح لله و لرسوله- و لهذه العصابة غير آل جهدا و لا قال حمدا- و الله كالئك و ناصرك و هاديك و مبصرك- .

امض إلى علي و اخفض جناحك له- و اغضض من صوتك عنده- و اعلم أنه سلالة أبي طالب- و مكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه- و قل له البحر مغرقة و البر مفرقة- و الجو أكلف و الليل أغلف و السماء جلواء- و الأرض صلعاء و الصعود متعذر و الهبوط متعسر- و الحق عطوف رءوف و الباطل نسوف عصوف- و العجب مقدحة الشر و الضغن رائد البوار- و التعريض شجار الفتنة و القحة مفتاح العداوة- و الشيطان متكئ على شماله باسط ليمينه- نافج حضنيه لأهله ينتظر الشتات و الفرقة- و يدب بين الأمة بالشحناء و العداوة- عنادا لله و لرسوله و لدينه- يوسوس بالفجور و يدلي بالغرور- و يمني أهل الشرور و يوحي إلى أوليائه بالباطل- دأبا له منذ كان على عهد أبيناآدم- و عادة منه منذ أهانه الله في سالف الدهر- لا ينجى منه إلا بعض الناجذ على الحق- و غض الطرف عن الباطل- و وطء هامة عدو الله و الدين- بالأشد فالأشد و الأجد فالأجد- و إسلام النفس لله فيما حاز رضاه و جنب سخطه- .

و لا بد من قول ينفع- إذ قد أضر السكوت و خيف غبه- و لقد أرشدك من أفاء ضالتك- و صافاك من أحيا مودته لك بعتابك- و أراد الخير بك من آثر البقيا معك- . ما هذا الذي تسول لك نفسك و يدوى به قلبك- و يلتوي عليه رأيك و يتخاوص دونه طرفك- و يستشري به ضغنك و يتراد معه نفسك- و تكثر لأجله صعداؤك- و لا يفيض به لسانك أ عجمة بعد إفصاح- أ لبسا بعد إيضاح أ دينا غير دين الله- أ خلقا غير خلق القرآن أ هديا غير هدي محمد- أ مثلي يمشى له الضراء و يدب له الخمر- أم مثلك يغص عليه الفضاء و يكسف في عينه القمر-

ما هذه القعقعة بالشنان و الوعوعة باللسان- إنك لجد عارف باستجابتنا لله و لرسوله- و خروجنا من أوطاننا و أولادنا و أحبتنا- هجرة إلى الله و نصرة لدينه- في زمان أنت منه في كن الصبا و خدر الغرارة غافل- تشبب و تربب لا تعي ما يشاد و يراد- و لا تحصل ما يساق و يقاد- سوى ما أنت جار عليه من أخلاق الصبيان أمثالك- و سجايا الفتيان أشكالك- حتى بلغت إلى غايتك هذه التي إليها أجريت- و عندها حط رحلك غير مجهول القدرو لا مجحود الفضل-

و نحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي- و نقاسي أهوالا تشيب النواصي خائضين غمارها- راكبين تيارها نتجرع صلبها- و نشرج عيابها و نحكم آساسها و نبرم أمراسها- و العيون تحدج بالحسد و الأنوف تعطس بالكبر- و الصدور تستعر بالغيظ- و الأعناق تتطاول بالفخر و الأسنة تشحذ بالمكر- و الأرض تميد بالخوف- لا ننتظر عند المساء صباحا و لا عند الصباح مساء- و لا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه- و لا نبلغ إلى شي‏ء إلا بعد تجرع العذاب قبله- و لا نقوم منآدا إلا بعد اليأس من الحياة عنده- فأدين في كل ذلك رسول الله ص بالأب و الأم- و الخال و العم و المال و النشب و السبد و اللبد- و الهلة و البلة بطيب أنفس و قرة أعين- و رحب أعطان و ثبات عزائم و صحة عقول- و طلاقة أوجه و ذلاقة ألسن-

هذا إلى خبيئات أسرار و مكنونات أخبار- كنت عنها غافلا- و لو لا سنك لم تك عن شي‏ء منها ناكلا- كيف و فؤادك مشهوم- و عودك معجوم و غيبك مخبور- و الخير منك كثير فالآن قد بلغ الله بك- و أرهص الخير لك و جعل مرادك بين يديك- فاسمع ما أقول لك و اقبل ما يعود قبوله عليك- و دع التحبس و التعبسلمن لا يضلع لك إذا خطا- و لا يتزحزح عنك إذا عطا فالأمر غض و في النفوس مض- و أنت أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجا- و سيفها العضب فلا تنب اعوجاجا- و ماؤها العذب فلا تحل أجاجا- و الله لقد سألت رسول الله ص عن هذا لمن هو- فقال هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش عليه- و لمن يتضاءل له لا لمن يشمخ إليه- و هو لمن يقال له هو لك لا لمن يقول هو لي- .

و لقد شاورني رسول الله ص في الصهر- فذكر فتيانا من قريش- فقلت له أين أنت من علي فقال إني لأكره لفاطمة ميعة شبابه و حدة سنه- فقلت متى كنفته يدك و رعته عينك- حفت بهما البركة و أسبغت عليهما النعمة- مع كلام كثير خطبت به رغبته فيك- و ما كنت عرفت منك في ذلك حوجاء و لا لوجاء- و لكني قلت ما قلت و أنا أرى مكان غيرك- و أجد رائحة سواك و كنت لك إذ ذاك خيرا منك الآن لي- و لئن كان عرض بك رسول الله ص في هذا الأمر- فقد كنى عن غيرك و إن قال فيك- فما سكت عن سواك و إن اختلج في نفسك شي‏ء- فهلم فالحكم مرضي و الصواب مسموع و الحق مطاع- .

و لقد نقل رسول الله ص إلى ما عند الله- و هو عن هذه العصابة راض و عليها حدب يسره ما سرها- و يكيده ما كادها و يرضيه ما أرضاها- و يسخطه‏ما أسخطها- أ لم تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه و خلطائه- و أقاربه و سجرائه- إلا أبانه بفضيلة و خصه بمزية و أفرده بحالة- لو أصفقت الأمة عليه لأجلها- لكان عنده إيالتها و كفالتها- .

أ تظن أنه ع ترك الأمة سدى- بددا عدا مباهل عباهل طلاحى مفتونة بالباطل- ملوية عن الحق لا ذائد و لا رائد- و لا ضابط و لا خابط و لا رابط- و لا سافي و لا واقي و لا حادي و لا هادي- كلا و الله ما اشتاق إلى ربه- و لا سأله المصير إلى رضوانه إلا بعد أن أقام الصوى- و أوضح الهدى و أمن المهالك- و حمى المطارح و المبارك- و إلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله- و شرم وجه النفاق لوجه الله- و جدع أنف الفتنة في دين الله- و تفل في عين الشيطان بعون الله- و صدع بمل‏ء فيه و يده بأمر الله- .

و بعد فهؤلاء المهاجرون و الأنصار عندك- و معك في بقعة جامعة و دار واحدة- إن استقادوا لك و أشاروا بك- فأنا واضع يدي في يدك و صائر إلى رأيهم فيك- و إن تكن الأخرى فادخل في صالح ما دخل فيه المسلمون- و كن العون على مصالحهم و الفاتح لمغالقهم- و المرشد لضالهم و الرادع لغاويهم- فقد أمر الله بالتعاون على البر- و أهاب إلى التناصر على الحق- و دعنا نقض هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل- و نلقى الله بقلوب سليمة من الضغن- .

و إنما الناس ثمامة فارفق بهم- و احن عليهم و لن لهم- و لا تسول لك نفسك فرقتهم و اختلاف كلمتهم- و اترك ناجم الشر حصيدا و طائر الحقد واقعا- و باب الفتنة مغلقا لا قال و لا قيل- و لا لوم و لا تعنيف و لا عتاب و لا تثريب- و الله على ما أقول وكيل و بما نحن عليه بصير- . قال أبو عبيدة فلما تهيأت للنهوض- قال لي عمر كن على الباب هنيهة فلي معك ذرو من الكلام- فوقفت و ما أدري ما كان بعدي- إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا- و قال لي قل لعلي الرقاد محلمة- و اللجاج ملحمة و الهوى مقحمة- و ما منا أحد إلا له مقام معلوم- و حق مشاع أو مقسوم و بناء ظاهر أو مكتوم- و إن أكيس الكيسى من منح الشارد تألفا- و قارب البعيد تلطفا و وزن كل أمر بميزانه- و لم يجعل خبره كعيانه و لا قاس فتره بشبره- دينا كان أو دنيا و ضلالا كان أو هدى- و لا خير في علم معتمل في جهل- و لا في معرفة مشوبة بنكر-

و لسنا كجلدة رفغ البعير
بين العجان و بين الذنب‏

 و كل صال فبناره يصلى و كل سيل فإلى قراره يجرى- و ما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي و حصر- و لا كلامها اليوم لفرق أو حذر- فقد جدع الله بمحمد ع أنف كل متكبر- و قصم به ظهر كل جبار و سل لسان كل كذوب- فما ذا بعد الحق إلا الضلال- . ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك- و ما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك- و ما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك- و القذاة التي أعشت ناظرك- و ما هذا الدحس‏و الدس- اللذان يدلان على ضيق الباع و خور الطباع- و ما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر- و اشتملت عليه بالشحناء و النكر- لشد ما استسعيت لها و سريت سرى ابن أنقد إليها- إن العوان لا تعلم الخمرة- ما أحوج الفرعاء إلى فالية- و ما أفقر الصلعاء إلى حالية- و لقد قبض رسول الله ص و الأمر معبد مخيس- ليس لأحد فيه ملمس لم يسير فيك قولا- و لم يستنزل لك قرآنا و لم يجزم في شأنك حكما- لسنا في كسروية كسرى و لا قيصرية قيصر- تأمل إخوان فارس و أبناء الأصفر- قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا و دريئة لرماحنا- و مرمى لطعاننا بل نحن في نور نبوة- و ضياء رسالة و ثمرة حكمة و أثر رحمة- و عنوان نعمة و ظل عصمة- بين أمة مهدية بالحق و الصدق- مأمونة على الرتق و الفتق- لها من الله تعالى قلب أبي و ساعد قوي- و يد ناصرة و عين ناظرة- .

أ تظن ظنا أن أبا بكر وثب على هذا الأمر- مفتاتا على الأمة خادعا لها و متسلطا عليها- أ تراه امتلخ أحلامها و أزاغ أبصارها- و حل عقودها و أحال عقولها- و استل من صدورها حميتها و انتكث رشاءها- و انتضب ماءها و أضلها عن هداها و ساقها إلى رداها- و جعل نهارها ليلا و وزنها كيلا- و يقظتها رقادا و صلاحها فسادا- إن كان هكذا إن سحره لمبين و إن كيده لمتين- كلا و الله بأي خيل و رجل و بأي سنان و نصل- و بأي منة و قوة و بأي مال و عدة- و بأي أيد و شدة و بأي عشيرة و أسرة- و بأي قدرة و مكنة و بأي تدرع و بسطة- لقد أصبح بما وسمته منيع الرقبة رفيع العتبة- لا و الله لكن سلا عنها فولهت نحوه- و تطامن لها فالتفت به و مال عنها فمالت إليه- و اشمأز دونها فاشتملت عليه- حبوة حباه الله بها و غاية بلغه الله إليها- و نعمة سربله جمالها و يد لله أوجب عليه شكرها- و أمة نظر الله بهلها- و طالما حلقت فوقه في أيام النبي ص- و هو لا يلتفت لفتها و لا يرتصد وقتها-

و الله أعلم بخلقه و أرأف بعباده- يختار ما كان لهم الخيرة- و إنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة- و معدن الرسالة و كهف الحكمة- و لا يجحد حقك فيما آتاك ربك من العلم- و منحك من الفقه في الدين هذا إلى مزايا خصصت بها- و فضائل اشتملت عليها- و لكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك- و قربى أمس من قرباك و سن أعلى من سنك- و شيبة أروع من شيبتك- و سيادة معروفة في الإسلام و الجاهلية- و مواقف ليس لك فيها جمل و لا ناقة- و لا تذكر فيها في مقدمة و لا ساقة- و لا تضرب فيها بذراع و لا إصبع- و لا تعد منها ببازل و لا هبع- .

إن أبا بكر كان حبة قلب رسول الله ص و علاقة همه- و عيبة سره و مثوى حزنه و راحة باله و مرمق طرفه- شهرته مغنية عن الدلالة عليه- . و لعمري إنك لأقرب منه إلى رسول الله ص قرابة- و لكنه أقرب منك قربة و القرابة لحم و دم- و القربة روح و نفس و هذا فرق يعرفه المؤمنون- و لذلك صاروا إليه أجمعون- . و مهما شككت فلا تشك في أن يد الله مع الجماعة- و رضوانه لأهل الطاعة- فادخل فيما هو خير لك اليوم و أنفع غدا- و الفظ من فيك ما هو متعلق بلهاتك- و انفث‏سخيمة صدرك- فإن يكن في الأمد طول و في الأجل فسحة- فستأكله مريئا أو غير مري‏ء- و ستشربه هنيئا أو غير هني‏ء- حين لا راد لقولك إلا من كان آيسا منك- و لا تابع لك إلا من كان طامعا فيك- حين يمض إهابك و يفري أديمك و يزري على هديك- هناك تقرع السن من ندم- و تشرب الماء ممزوجا بدم- حين تأسى على ما مضى من عمرك- و انقضى و انقرض من دارج قومك- و تود أن لو سقيت بالكأس التي سقيتها غيرك- و رددت إلى الحال التي كنت تكرهها في أمسك- و لله فينا و فيك أمر هو بالغه- و عاقبة هو المرجو لسرائها و ضرائها- و هو الولي الحميد الغفور الودود- .

قال أبو عبيدة فمشيت إلى علي مثبطا متباطئا- كأنما أخطو على أم رأسي فرقا من الفتنة- و إشفاقا على الأمة و حذرا من الفرقة- حتى وصلت إليه في خلاء فأبثثته بثي كله- و برئت إليه منه و دفعته له فلما سمعها و وعاها- و سرت في أوصاله حمياها- قال حلت معلوطة و ولت مخروطة ثم قال- .

إحدى لياليك فهيسي هيسي
لا تنعمي الليلة بالتعريس‏

يا أبا عبيدة أ هذا كله في أنفس القوم يستنبطونه- و يضطغنون عليه- فقلت لا جواب عندي إنما جئتك قاضيا حق الدين- و راتقا فتق الإسلام و سادا ثلمة الأمة- يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي و قرارة نفسي- .

فقال ما كان قعودي في كسر هذا البيت قصدا لخلاف- و لا إنكارا لمعروف و لا زراية على مسلم- بل لما وقذني به رسول الله ص من فراقه- و أودعني من الحزن لفقده- فإني لم أشهد بعده مشهدا إلا جدد علي حزنا- و ذكرني شجنا- و إن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره- و قد عكفت على عهد الله أنظر فيه- و أجمع ما تفرق منه- رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله- و سلم لعلمه و مشيئته أمره- على أني أعلم أن التظاهر علي واقع- و لي عن الحق الذي سيق إلي دافع- و إذ قد أفعم الوادي لي و حشد النادي علي- فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين- و في النفس كلام لو لا سابق قول و سالف عهد- لشفيت غيظي بخنصري و بنصري- و خضت لجته بأخمصي و مفرقي- و لكني ملجم إلى أن ألقى الله تعالى- عنده أحتسب ما نزل بي و أنا غاد إن شاء الله إلى جماعتكم- و مبايع لصاحبكم و صابر على ما ساءني و سركم- ليقضي الله أمرا كان مفعولا- و كان الله على كل شي‏ء شهيدا- .

قال أبو عبيدة فعدت إلى أبي بكر و عمر- فقصصت القول على غره- و لم أترك شيئا من حلوه و مره- ذكرت غدوة إلى المسجد- فلما كان صباح يومئذ وافى علي- فخرق الجماعة إلى أبي بكر و بايعه- و قال خيرا و وصف جميلا و جلس زمينا- و استأذن للقيام و نهض فتبعه عمر إكراما له- و إجلالا لموضعه و استنباطا لما في نفسه- و قام أبو بكر إليه فأخذ بيده- و قال إن عصابة أنت منها يا أبا الحسن لمعصومة- و إن أمة أنت فيها لمرحومة- و لقد أصبحت عزيزا علينا كريما لدينا- نخاف الله إن سخطت و نرجوه إذا رضيت- و لو لا أني شدهت لما أجبت إلى ما دعيت إليه- و لكني خفت‏الفرقة و استئثار الأنصار بالأمر على قريش- و أعجلت عن حضورك و مشاورتك- و لو كنت حاضرا لبايعتك و لم أعدل بك- و لقد حط الله عن ظهرك ما أثقل كاهلي به- و ما أسعد من ينظر الله إليه بالكفاية- و إنا إليك لمحتاجون و بفضلك عالمون- و إلى رأيك و هديك في جميع الأحوال راغبون- و على حمايتك و حفيظتك معولون- ثم انصرف و تركه مع عمر- .

فالتفت علي إلى عمر فقال يا أبا حفص- و الله ما قعدت عن صاحبك جزعا على ما صار إليه- و لا أتيته خائفا منه و لا أقول ما أقول بعلة- و إني لأعرف مسمى طرفي و مخطي قدمي- و منزع قوسي و موقع سهمي- و لكني تخلفت إعذارا إلى الله- و إلى من يعلم الأمر الذي جعله لي رسول الله- و أتيت فبايعت حفظا للدين- و خوفا من انتشار أمر الله- .

فقال له عمر يا أبا الحسن كفكف من غربك- و نهنه من شرتك و دع العصا بلحائها و الدلو برشائها- فإنا من خلفها و ورائها إن قدحنا أورينا- و إن متحنا أروينا و إن قرحنا أدمينا- و قد سمعت أمثالك التي ألغزت بها صادرة عن صدر دو- و قلب جو- زعمت أنك قعدت في كسر بيتك- لما وقذك به فراق رسول الله- أ فراق رسول الله ص وقذك وحدك و لم يقذ سواك- إن مصابه لأعز و أعظم من ذاك- و إن من حق مصابه ألا تصدع شمل الجماعة- بكلمة لا عصام لها- فإنك لترى الأعراب حول المدينة- لو تداعت علينا في صبح يوم لم نلتق في ممساه- و زعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره- فمن الشوق إليه نصرة دينه- و موازرة المسلمين عليه و معاونتهم فيه- .

و زعمت أنك مكب على عهد الله تجمع ما تفرق منه- فمن العكوف على عهده النصيحة لعباده- و الرأفة على خلقه- و أن تبذل من نفسك ما يصلحون به و يجتمعون عليه- و زعمت أن التظاهر عليك واقع- أي تظاهر وقع عليك- و أي حق استؤثر به دونك- لقد علمت ما قالت الأنصار أمس سرا و جهرا- و ما تقلبت عليه ظهرا و بطنا فهل ذكرتك أو أشارت بك- أو طلبت رضاها من عندك و هؤلاء المهاجرون- من الذي قال منهم إنك صاحب هذا الأمر- أو أومأ إليك أو همهم بك في نفسه- أ تظن أن الناس ضنوا من أجلك- أو عادوا كفارا زهدا فيك- أو باعوا الله تعالى بهواهم بغضا لك- و لقد جاءني قوم من الأنصار- فقالوا إن عليا ينتظر الإمامة- و يزعم أنه أولى بها من أبي بكر- فأنكرت عليهم و رددت القول في نحورهم- حتى قالوا إنه ينتظر الوحي و يتوكف مناجاة الملك- فقلت ذاك أمر طواه الله بعد محمد ع- . و من أعجب شأنك قولك- لو لا سابق قول لشفيت غيظي بخنصري و بنصري- و هل ترك الدين لأحد أن يشفي غيظه بيده أو لسانه- تلك جاهلية استأصل الله شأفتها- و اقتلع جرثومتها و نور ليلها و غور سيلها- و أبدل منها الروح و الريحان و الهدى و البرهان- .

و زعمت أنك ملجم- فلعمري إن من اتقى الله و آثر رضاه و طلب ما عنده- أمسك لسانه و أطبق فاه و غلب عقله و دينه على هواه- . و أما قولك إني لأعرف منزع قوسي- فإذا عرفت منزع قوسك عرفك غيرك مضرب سيفه و مطعن رمحه- و أما ما تزعمه من الأمر الذي جعله رسول الله ص لك- فتخلفت إعذارا إلى الله و إلى العارفة به من المسلمين- فلو عرفه المسلمون‏لجنحوا إليه و أصفقوا عليه- و ما كان الله ليجمعهم على العمى- و لا ليضربهم بالصبا بعد الهدى- و لو كان لرسول الله ص فيك رأي و عليك عزم- ثم بعثه الله- فرأى اجتماع أمته على أبي بكر لما سفه آراءهم- و لا ضلل أحلامهم و لا آثرك عليهم- و لا أرضاك بسخطهم و لأمرك باتباعهم- و الدخول معهم فيما ارتضوه لدينهم- .

فقال علي مهلا أبا حفص أرشدك الله خفض عليك- ما بذلت ما بذلت و أنا أريد عنه حولا- و إن أخسر الناس صفقة عند الله من استبطن النفاق- و احتضن الشقاق و في الله خلف عن كل فائت- و عوض من كل ذاهب و سلوة عن كل حادث- و عليه التوكل في جميع الحوادث- ارجع أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب مبرود الغليل- فصيح اللسان رحب الصدر متهلل الوجه- فليس وراء ما سمعته مني إلا ما يشد الأزر- و يحبط الوزر و يضع الإصر و يجمع الألفة- و يرفع الكلفة إن شاء الله- فانصرف عمر إلى مجلسه- .

قال أبو عبيدة فلم أسمع و لم أر كلاما- و لا مجلسا كان أصعب من ذلك الكلام و المجلس- . قلت الذي يغلب على ظني- أن هذه المراسلات و المحاورات- و الكلام كله مصنوع موضوع- و أنه من كلام أبي حيان التوحيدي- لأنه بكلامه و مذهبه في الخطابة و البلاغة أشبه- و قد حفظنا كلام عمر و رسائله- و كلام أبي بكر و خطبه- فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب- و لا يسلكان هذا السبيل في كلامهما- و هذا كلام عليه أثر التوليد ليس يخفى- و أين أبو بكر و عمر من البديع و صناعة المحدثين- و من تأمل كلام أبي حيان- عرف أن‏هذا الكلام من ذلك المعدن خرج- و يدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروروذي- و هذه عادته في كتاب البصائر يسند إلى القاضي أبي حامد- كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه- إذا كان كارها لأن ينسب إليه- و إنما ذكرناه نحن في هذا الكتاب- لأنه و إن كان عندنا موضوعا منحولا- فإنه صورة ما جرت عليه حال القوم- فهم و إن لم ينطقوا به بلسان المقال- فقد نطقوا به بلسان الحال- .

و مما يوضح لك أنه مصنوع- أن المتكلمين على اختلاف مقالاتهم- من المعتزلة و الشيعة و الأشعرية و أصحاب الحديث- و كل من صنف في علم الكلام و الإمامة- لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية- و لقد كان المرتضى رحمه الله- يلتقط من كلام أمير المؤمنين ع اللفظة الشاذة- و الكلمة المفردة الصادرة عنه ع- في معرض التألم و التظلم- فيحتج بها و يعتمد عليها- نحوقوله ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله حتى يوم الناس هذا

وقوله لقد ظلمت عدد الحجر و المدر
وقوله إن لنا حقا إن نعطه نأخذه- و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى
وقوله فصبرت و في الحلق شجا و في العين قذى
وقوله اللهم إني أستعديك على قريش- فإنهم ظلموني حقي و غصبوني إرثي- .

و كان المرتضى إذا ظفر بكلمة من هذه- فكأنما ظفر بملك الدنيا و يودعها كتبه و تصانيفه- فأين كان المرتضى عن هذا الحديث- و هلا ذكر في كتاب الشافي في الإمامة-كلام أمير المؤمنين ع هذا- و كذلك من قبله من الإمامية كابن النعمان- و بني نوبخت و بني بابويه و غيرهم- و كذلك من جاء بعده من متأخري متكلمي الشيعة- و أصحاب الأخبار و الحديث منهم إلى وقتنا هذا- و أين كان أصحابنا عن كلام أبي بكر و عمر له ع- و هلا ذكره قاضي القضاة في المغني- مع احتوائه على كل ما جرى بينهم- حتى أنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير مفرد- في أخبار السقيفة- و هلا ذكره من كان قبل قاضي القضاة من مشايخنا و أصحابنا- و من جاء بعده من متكلمينا و رجالنا- و كذلك القول في متكلمي الأشعرية و أصحاب الحديث كابن الباقلاني و غيره- و كان ابن الباقلاني شديدا على الشيعة- عظيم العصبية على أمير المؤمنين ع- فلو ظفر بكلمة من كلام أبي بكر و عمر في هذا الحديث- لملأ الكتب و التصانيف بها و جعلها هجيراه و دأبه- . و الأمر فيما ذكرناه من وضع هذه القصة- ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان- و معرفة كلام الرجال- و لمن عنده أدنى معرفة بعلم السير و أقل أنس بالتواريخ- .

قوله ع مودع لا قال و لا مبغض و لا سئم- أي لا ملول سئمت من الشي‏ء أسأم سأما و سآما و سآمة- سئمته إذا مللته و رجل سئوم- . ثم أكد ع هذا المعنى فقال إن انصرفت فلا عن ملالة- و إن أقمت فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين- أي ليست إقامتي على قبرك و جزعي عليك- إنكارا مني لفضيلة الصبر- و التجلد و التعزي و التأسي- و ما وعد الله به الصابرين من الثواب- بل أنا عالم بذلك و لكن يغلبني بالطبع البشري- . و روي أن فاطمة بنت الحسين ع- ضربت فسطاطا على قبر بعلها الحسن‏ بن الحسن ع سنة- فلما انقضت السنة قوضت الفسطاط راجعة إلى بيتها- فسمعت هاتفا يقول هل بلغوا ما طلبوا- فأجابه هاتف آخر بل يئسوا فانصرفوا- . وذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه الكامل أنه ع تمثل عند قبر فاطمة-

ذكرت أبا أروى فبت كأنني
برد الهموم الماضيات وكيل‏

لكل اجتماع من خليلين فرقة
و كل الذي دون الفراق قليل‏

و إن افتقادي واحدا بعد واحد
دليل على ألا يدوم خليل‏

 و الناس يرونه-

و إن افتقادي فاطما بعد أحمد

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 10

خطبه 194 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

194 و من كلام له ع

أَيُّهَا النَّاسُ- لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ- فَإِنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ- وَ جُوعُهَا طَوِيلٌ- أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَ السُّخْطُ- وَ إِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ- فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا- فَقَالَ سُبْحَانَهُ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ- فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ خَارَتْ أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ- خُوَارَ السِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ فِي الْأَرْضِ الْخَوَّارَةِ- أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ- وَ مَنْ خَالَفَ وَقَعَ فِي التِّيهِ الاستيحاش ضد الاستئناس- و كثيرا ما يحدثه التوحد و عدم الرفيق- فنهى ع عن الاستيحاش في طريق الهدى- لأجل قلة أهله- فإن المهتدي ينبغي أن يأنس بالهداية- فلا وحشة مع الحق- . و عنى بالمائدة الدنيا لذتها قليلة و نغصتها كثيرة- و الوجود فيها زمان قصير جدا- و العدم عنها زمان طويل جدا- .

ثم قال ليست العقوبة لمن اجترم ذلك الجرم بعينه- بل لمن اجترمه و من رضي به و إن لم يباشره بنفسه- فإن عاقر ناقة صالح إنما كان إنسانا واحدا- فعم الله ثمود بالسخط-لما كانوا راضين بذلك الفعل كلهم- و اسم كان مضمر فيها- أي ما كان الانتقام منهم إلا كذا- . و خارت أرضهم بالخسفة صوتت كما يخور الثور- و شبه ع ذلك بصوت السكة المحماة في الأرض الخوارة- و هي اللينة- و إنما جعلها محماة لتكون أبلغ في ذهابها في الأرض- و من كلامه ع يوم خيبر يقوله لرسول الله ص- و قد بعثه بالراية أكون في أمرك كالسكة المحماة في الأرض- أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب- فقال له بل يرى الشاهد ما لا يرى الغائب – .

و قال له أيضا هذه اللفظة لما بعثه في شأن مارية القبطية- و ما كانت اتهمت به من أمر الأسود القبطي- و لهذا علة في العلم الطبيعي- و ذلك أن السكة المحماة تخرق الأرض بشيئين- أحدهما تحدد رأسها و الثاني حرارته- فإن الجسم المحدد الحار إذا اعتمد عليه في الأرض- اقتضت الحرارة- إعانة ذلك الطرف المحدد على النفوذ بتحليلها- ما تلاقي من صلابة الأرض- لأن شأن الحرارة التحليل- فيكون غوص ذلك الجسم المحدد في الأرض أوحى و أسهل- . و التيه المفازة يتحير سالكها

قصة صالح و ثمود

قال المفسرون- إن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادها- و خلفوهم في الأرض- و كثروا و عمروا أعمارا طوالا- حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته- فنحتوا البيوت في الجبال- و كانوا في سعة و رخاء من العيش فعتوا على الله- و أفسدوا في الأرض و عبدوا الأوثان- فبعث الله إليهم صالحا و كانوا قوما عربا- و صالح من أوسطهم‏نسبا- فما آمن به إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم و أنذرهم- فسألوه آية فقال أية آية تريدون- قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة- فتدعو إلهك و ندعو إلهنا- فإن استجيب لك اتبعناك- و إن استجيب لنا اتبعتنا- . قال نعم فخرج معهم و دعوا أوثانهم- و سألوها الاستجابة فلم تجب- فقال سيدهم جندع بن عمرو- و أشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يسمونها الكاثبة- أخرج لنا في هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء- و المخترجة التي شاكلت البخت- فإن فعلت صدقناك و أجبناك- .

فأخذ عليهم المواثيق- لئن فعلت ذلك لتؤمنن و لتصدقن قالوا نعم- فصلى و دعا ربه- فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها- فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا- لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله و عظماؤهم ينظرون- ثم نتجت ولدا مثلها في العظم- فآمن به جندع و رهط من قومه- و منع أعقابهم ناس من رءوسهم أن يؤمنوا- فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر و تشرب الماء- و كانت ترد غبا- فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر- فما ترفعه حتى تشرب كل ماء فيها ثم تتفجح- فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم- فيشربون و يدخرون- فإذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي- فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه- و إذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي- فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم- و زينت عقرها لهم امرأتان- عنيزة أم غنم و صدفة بنت المختار- لما أضرت به من مواشيهما- و كانتا كثيرتي المواشي فعقروها- عقرها قدار الأحمر و اقتسموا لحمها و طبخوه- .

فانطلق سقبها حتى رقي جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا- و كان صالح قال لهم- أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب- فلم يقدروا عليه و انفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها- فقال لهم صالح تصبحون غدا و وجوهكم مصفرة- و بعد غد وجوهكم محمرة- و اليوم الثالث وجوهكم مسودة ثم يغشاكم العذاب- . فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه- فأنجاه الله سبحانه إلى أرض فلسطين- فلما كان اليوم الرابع و ارتفعت الضحوة- تحنطوا بالصبر و تكفنوا بالأنطاع- فأتتهم صيحة من السماء و خسف شديد و زلزال- فتقطعت قلوبهم فهلكوا- .

و قد جاء في الحديث أن رسول الله ص مر بالحجر في غزوة تبوك- فقال لأصحابه لا يدخلن أحد منكم القرية- و لا تشربوا من مائها و لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين- إلا أن تمروا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم و روى المحدثون أن النبي ص قال لعلي ع- أ تدري من أشقى الأولين قال نعم عاقر ناقة صالح- قال أ فتدري من أشقى الآخرين قال الله و رسوله أعلم- قال من يضربك على هذه حتى تخضب هذه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 10