نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 159 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 160 صبحی صالح

160- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  )

عظمة اللّه‏

أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَ حِكْمَةٌ

وَ رِضَاهُ أَمَانٌ وَ رَحْمَةُ

يَقْضِي بِعِلْمٍ

وَ يَعْفُو بِحِلْمٍ

حمد اللّه‏

اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا تَأْخُذُ وَ تُعْطِي

وَ عَلَى مَا تُعَافِي وَ تَبْتَلِي

حَمْداًيَكُونُ أَرْضَى الْحَمْدِ لَكَ

وَ أَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَيْكَ

وَ أَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَكَ

حَمْداً يَمْلَأُ مَا خَلَقْتَ

وَ يَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ

حَمْداً لَا يُحْجَبُ عَنْكَ وَ لَا يُقْصَرُ دُونَكَ

حَمْداً لَا يَنْقَطِعُ عَدَدُهُ وَ لَا يَفْنَى مَدَدُهُ

فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهَ عَظَمَتِكَ

إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ حَيٌّ قَيُّومُ لَا تَأْخُذُكَ سِنَةٌ وَ لَا نَوْمٌ

لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ

وَ لَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ

أَدْرَكْتَ الْأَبْصَارَ وَ أَحْصَيْتَ الْأَعْمَالَ

وَ أَخَذْتَ بِالنَّوَاصِي وَ الْأَقْدَامِ‏

وَ مَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ وَ نَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ

وَ نَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ

وَ مَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ وَ قَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ

وَ انْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ

وَ حَالَتْ سُتُورُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ أَعْظَمُ

فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ وَ أَعْمَلَ فِكْرَهُ لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ

وَ كَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ

وَ كَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سَمَاوَاتِكَ

وَ كَيْفَ مَدَدْتَ عَلَى مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَكَ

رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِيراً

وَ عَقْلُهُ مَبْهُوراً

وَ سَمْعُهُ وَالِهاً

وَ فِكْرُهُ حَائِراً

كيف يكون الرجاء

منهايَدَّعِي بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَرْجُو اللَّهَ كَذَبَ وَ الْعَظِيمِ

مَا بَالُهُ لَا يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ

فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ

وَ كُلُ‏ رَجَاءٍ إِلَّا رَجَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ

وَ كُلُّ خَوْفٍ مُحَقَّقٌ إِلَّا خَوْفَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ

يَرْجُو اللَّهَ فِي الْكَبِيرِ وَ يَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغِيرِ

فَيُعْطِي الْعَبْدَ مَا لَا يُعْطِي الرَّبَّ

فَمَا بَالُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِهِ لِعِبَادِهِ

أَ تَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً

أَوْ تَكُونَ لَا تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً

وَ كَذَلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لَا يُعْطِي رَبَّهُ

فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً

وَ خَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِمَاراً وَ وَعْداً

وَ كَذَلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ

وَ كَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ

آثَرَهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى

فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا وَ صَارَ عَبْداً لَهَا

رسول اللّه‏

وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ( صلى‏ الله ‏عليه ‏وآله  )كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ

وَ دَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَ عَيْبِهَا

وَ كَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَ مَسَاوِيهَا

إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا

وَ وُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا

وَ فُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا

وَ زُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا

موسى‏

وَ إِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وسلم  )

حَيْثُ يَقُولُ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ

وَ اللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ

لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ

وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ

الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ

لِهُزَالِهِ وَ تَشَذُّبِ لَحْمِهِ

داود

وَ إِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وسلم  )صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ وَ قَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ

فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ

وَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا وَ يَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا

عيسى‏

وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ( عليه ‏السلام  )

فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ

وَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ وَ يَأْكُلُ الْجَشِبَ

وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ

وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ

وَ ظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا

وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ

وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَ لَا مَالٌ يَلْفِتُهُ

وَ لَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ

دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ

الرسول الأعظم

فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله  )

فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى

وَ عَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى

وَ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَأَسِّي‏

بِنَبِيِّهِ وَ الْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ

قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً

وَ لَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً

أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً

وَ أَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً

عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا

فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ وَ حَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَ صَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ

وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ تَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ

لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلَّهِ وَ مُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللَّهِ

وَ لَقَدْ كَانَ ( صلى‏ الله‏ عليه‏ وآله‏ وسلم  )يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ

وَ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ

وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ

وَ يَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ

وَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ

وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ

وَ يَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ يَا فُلَانَةُ لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ غَيِّبِيهِ عَنِّي فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَ زَخَارِفَهَا

فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ

وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ

وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ

لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً وَ لَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً

وَ لَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً

فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ وَ أَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ وَ غَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ

وَ كَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ

وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ( صلى‏ الله ‏عليه‏ وآله  )مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وَ عُيُوبِهَا

إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ وَ زُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ

فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ أَكْرَمَ‏

اللَّهُ مُحَمَّداً بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ

فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ فَقَدْ كَذَبَ

وَ اللَّهِ الْعَظِيمِ بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ

وَ إِنْ قَالَ أَكْرَمَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ وَ زَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ

فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ

وَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَ وَلَجَ مَوْلِجَهُ

وَ إِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ

فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )عَلَماً لِلسَّاعَةِ

وَ مُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ وَ مُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ

خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً وَ وَرَدَ الْآخِرَةَ سَلِيماً

لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ

وَ أَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ

فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وَ قَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ

وَ اللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا

وَ لَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَ لَا تَنْبِذُهَا عَنْكَ

فَقُلْتُ اغْرُبْ عَنِّي

فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام

و هى المأة و التاسعة و الخمسون من المختار فى باب الخطب و شرحها في فصلين:

الفصل الاول

أمره قضاء و حكمة، و رضاه أمان و رحمة، يقضي بعلم، و يعفو بحلم، الّلهُمّ لك الحمد على ما تأخذ و تعطي، و على ما تعافي و تبتلي، حمدا يكون أرضى الحمد لك، و أحبّ الحمد إليك، و أفضل الحمد عندك، حمدا يملاء ما خلقت، و يبلغ ما أردت، حمدا لا يحجب عنك، و لا يقصر دونك، حمدا لا ينقطع عدده، و لا يفنى مدده، فلسنا نعلم كنه عظمتك إلّا أنّا نعلم أنّك حىّ قيّوم، لا تأخذك سنة و لا نوم، لم ينته إليك نظر، و لم يدركك بصر، أدركت الأبصار، و أحصيت الأعمال، و أخذت بالنّواصي و الأقدام، و ما الّذي نري‏من خلقك، و نعجب له من قدرتك، و نصفه من عظيم سلطانك، و ما تغيّب عنّا منه، و قصرت أبصارنا عنه، و انتهت عقولنا دونه، و حالت سواتر الغيوب بيننا و بينه أعظم، فمن فرغ قلبه، و أعمل فكره، ليعلم كيف أقمت عرشك، و كيف ذرأت خلقك، و كيف علّقت في الهواء سمواتك، و كيف مددت على مور الماء أرضك رجع طرفه حسيرا، و عقله مبهورا، و سمعه والها، و فكره حائرا.

اللغة

قال الفيومى (عافاه) اللّه محى عنه الأسقام و العافية اسم منه و هى مصدر جاءت على فاعلة، و مثله ناشئة اللّيل بمعنى نشوء اللّيل و الخاتمة بمعنى الختم، و العاقبة بمعنى العقب، و ليس لوقعتها كاذبة و (حسر) البصر حسورا من باب قعد كلّ لطول مدى و نحوه فهو حسير و (بهره) بهرا من باب نفع غلبه و منه قيل للقمر الباهر لظهوره على ساير الكواكب و (اله) تحيّر.

الاعراب

جملة لا تأخذه في محلّ النّصب على الحال، و ما في قوله عليه السّلام: و ما الّذي نرى للاستفهام على وجه الاستحقار، و الواو في قوله عليه السّلام: و ما تغيّب، حاليّة و ما موصول اسمىّ بمعنى الّذي مرفوع المحلّ على الابتداء و خبره أعظم.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة متضمّن لتعظيم اللّه سبحانه و تبجيله بجملةمن نعوت كماله و أوصاف جماله قال عليه السّلام (أمره قضاء و حكمة) يجوز أن يراد بأمره الأمر التّكويني أعني الاختراع و الاحداث، فيكون القضاء بمعنى الانفاذ و الامضاء، و حمله عليه حينئذ من باب المبالغة أو المصدر بمعنى الفاعل أو المفعول، يعني أنّ أمره سبحانه نافذ و ممضى لا رادّ له و لا دافع كما قال عزّ من قائل إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
اى إذ أراد أن يكوّنه فيكون.

قال الزّمخشري: فان قلت: ما حقيقة قوله: أن يقول له كن فيكون قلت: هو مجاز من الكلام و تمثيل لأنّه لا يمتنع عليه شي‏ء من المكوّنات و أنّه بمنزلة من المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع، و المراد بالحكمة حينئذ العدل و النّظام الأكمل، فمحصّل المعنى أنّ أمره تعالى نافذ في جميع الموجودات و المكوّنات، متضمّن للعدل، و مشتمل على النظام الأكمل.

و يجوز أن يراد به الأمر التّكليفي فيكون القضاء بمعنى الحتم و الالزام يعنى أنّ أمره سبحانه حتم و إلزام مشتمل على الحكمة و المصلحة في المأمور به كما هو مذهب العدليّة من كون الأوامر و النّواهي تابعة للمصالح و المفاسد الكامنة الواقعيّة، و قد تكون المصلحة في نفس الأمر دون المأمور به كما في الأوامر الابتلائيّة.
و يجوز أن يكون المراد به الشّأن فيكون القضاء بمعنى الحكم، يعني أنّ شأنه تعالى حكم و حكمة لأنّه القادر القاهر العالم العادل، فبمقتضى قدرته و سلطانه حاكم، و بمقتضى علمه و عدله حكيم.

و كون الأمر بمعنى الشّأن قد صرّح به غير واحد منهم الزّمخشري في تفسير الآية السّابقة قال: إنّما أمره إنّما شأنه إذا أراد شيئا إذا دعاه داعى حكمة إلى تكوينه و لا صارف أن يقول له كن أن يكوّنه من غير توقّف، فيكون فيحدث أى فهو كائن موجود لا محالة.

(و رضاه أمان و رحمة) أى أمان من النّار و رحمة للأبرار إذ رضوانه سبحانه مبدء كلّ منحة و نعمة، و منشاء كلّ لذّة و بهجة كما قال تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ.
(يقضى بعلم) أى يحكم بما يحكم به لعلمه بحسن ذلك القضاء و اقتضاء الحكمة و العدل له و هو كالتفسير لقوله: أمره قضاء و حكمة، كما أنّ قوله (و يعفو بحلم) بمنزلة التّفسير لقوله: و رضاه أمان و رحمة، لأنّ العفو يعود إلى الرّضا بالطّاعة بعد تقدّم الذّنب، و إنّما يتحقّق العفو مع القدرة على العقاب إذ العجز عن الانتقام لا يسمّى عفوا فلذلك قال: يعفو بحلم، يعني أنّ عفوه لكونه حليما لا يستنفره الغضب.

ثمّ أثنى عليه تعالى بالاعتراف بنعمه فقال (اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ و تعطى و على ما تعافي و تبتلى) أى على السّرّاء و الضّرّاء و الشّدة و الرّخاء، و قد تقدّم تحقيق معنى الأخذ و الاعطاء، و وجه استحقاق اللّه سبحانه للحمد بهذين الوصفين في شرح الخطبة المأة و الثّانية و الثّلاثين، و وجه استحقاقه للحمد على البلاء و الابتلاء هناك أيضا مضافا إلى شرح الخطبة المأة و الثّالثة عشر.

و أقول هنا زيادة على ما تقدّم: إنّه قد ثبت في علم الأصول أنّ اللّه عزّ و علا الغنيّ المطلق عمّا سواه و المتعالى عن الحاجة إلى ما عداه، بل غني كلّ مخلوق بجوده، و قوام كلّ موجود بوجوده، فاذا جميع ما يصدر عنه سبحانه في حقّ العباد من الأخذ و الاعطاء و المعافاة و الابتلاء و الافتقار و الاغناء ليس الغرض منها جلب منفعة لذاته أو دفع مضرّة عن نفسه، بل الغرض منها كلّها مصالح كامنة للمكلّفين و منافع عائدة إليهم يعلمها سبحانه و لا نعلمها إلّا بعضا منها ممّا علّمنا اللّه سبحانه بالقوّة العاقلة أو بتعليم حججه، فكم من فقير لا يصلحه إلّا الفقر و لو استغنى لطغى، و كم من غنيّ لا يصلحه إلّا الغنى و لو افتقر لكفر، و ربّ مريض لو كان معتدل المزاج لا نهمك في الشّهوات و اقتحم في الهلكات، و كأيّن من صحيح البنية لو مرض‏لم يصبر عليه و أحبّ المنيّة، و هكذا جميع ما يفعله سبحانه في حقّ المكلّفين فهو في الحقيقة نعمة منه تعالى عليهم ظاهرة أو باطنة كما قال عزّ من قائل وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً فاذا ثبت أنّ هذه كلّها إنعام منه سبحانه عليهم، و إحسان اليهم ظهر وجه استحقاقه للحمد و الثّناء عليها كلّها إذ الشّكر على النّعم فرض عقلا و نقلا هذا.

و يدلّ على ما ذكرنا من كون الابتلاء منه تعالى في الحقيقة نعمة منه على العباد ما رواه في الكافي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّه ليكون للعبد منزلة عند اللّه فما ينالها إلّا باحدى خصلتين: إمّا بذهاب في ماله أو ببليّة في جسده.
و فيه عن يونس بن رباط قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ أهل الحقّ لم يزالوا منذ كانوا في شدّة اما إنّ ذلك إلى مدّة قليلة و عافية طويلة.

و فيه عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول إنّ المؤمن من اللّه عزّ و جلّ لبأفضل مكان ثلاثا إنّه ليبتليه بالبلاء ثمّ ينزع نفسه عضوا عضوا و هو يحمد اللّه على ذلك.
ثمّ أخذ في تفخيم شأن حمده عليه و تعظيمه باعتبار كيفيّته فقال (حمدا يكون أرضي الحمد لك) أى أكمل رضاء منك به من غيره (و أحبّ الحمد إليك و أفضل الحمد عندك) أى أشدّ محبّة منك إليه و أرفع منزلة عندك من ساير المحامد لاتّصافه بالفضل و الكمال و رجحانه على ما سواه.
ثمّ اتبعه بتفخيمه باعتبار كميّته فقال (حمدا يملاء ما خلقت) من السّماء و العرش و الأرض (و يبلغ ما أردت) من حيث الكثرة و الزّيادة.

ثمّ بتفخيمه باعتبار الخلوص فقال (حمدا لا يحجب عنك و لا يقصر) أى لا يحبس (دونك) لخلوصه من شوب العجب و الرّيا و ساير ما يمنعه عن الوصول إلى درجة القبول و الرّضا ثمّ باعتبار مادّته فقال (حمدا لا ينقطع عدده و لا يفنى مدده) هذا و تكرارلفظ الحمد إمّا لقصد التّعظيم كما في قوله: وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ و في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ.

أو للتّلذّذ بذكر المكرّر كما في قول الشّاعر:

سقى اللّه نجدا و السّلام على نجد
و يا حبّذا نجد على الناى و البعد

نظرت إلى نجد و بغداد دونه‏
لعلّى أرى نجدا و هيهات من نجد

و في قوله:

تاللّه يا ظبيات القاع قلن لنا
ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر

أو للاهتمام بشأنه، ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا بالغ في حمده سبحانه و الثّناء عليه من حيث الكيف و الكمّ و الخلوص و العدد و المدد، و كان الحمد عبارة عن الوصف بالجميل على وجه التّعظيم و التّبجيل، و كان ذلك موهما لمعرفة عظمة المحمود له حقّ معرفتها، عقّب ذلك بالاعتراف بالعجز عن عرفان كنه عظمته، تنبيها على عدم إمكان القيام بوظايف الثّناء عليه و إن بولغ فيه منتهى المبالغة، تأسيّا بما صدر عن صدر النّبوّة من الاعتراف بالعجز حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، و لهذا أتى بالفاء المفيدة للتّعقيب و الاتّصال فقال (فلسنا نعلم كنه عظمتك) لقصور المشاعر الظّاهرة و الباطنة من المتفكّرة و المتخيّلة و غيرهما و القوّة العقلانية و إن كانت على غاية الكمال و بلغت إلى منتهى معارجها عن إدراك ذاته و اكتناه عظمته (إلّا أنّا نعلم) أى لكن نعرفك بصفات جمالك و جلالك فنعلم (أنّك حيّ قيّوم).

قال في الكشّاف: الحىّ الباقي الّذي لا سبيل عليه للفناء و على اصطلاح المتكلّمين الّذي يصحّ أن يعلم و يقدر، و القيّوم الدّائم القيام بتدبير الخلق و حفظه (لا تأخذك سنة) هى ما يتقدّم النّوم من الفتور يسمّى النّعاس (و لا نوم) بالطّريق الأولى و هو تأكيد للنّوم المنفي ضمنا.

قال الزّمخشري: و هو تأكيد للقيّوم لأنّ من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيّوما، و منه حديث موسى عليه السّلام أنه سأل الملائكة و كان ذلك«» من قومه كطلب الرؤية: أ ينام ربّنا فأوجى اللّه إليهم أن يوقظوه ثلاثا و لا يتركوه ينام، ثمّ قال: خذ بيدك قارورتين مملوّتين فأخذهما و ألقى اللّه عليه النعاس فضرب إحداهما على الاخرى فانكسرتا، ثمّ أوحى إليه قل لهؤلاء إنّى امسك السماوات و الأرض بقدرتي فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا.
و كيف كان فالمقصود بقوله: لا تأخذك سنة و لا نوم تنزيهه تعالى عن صفات البشر و تقديسه عن لوازم المزاج الحيواني.

فان قلت: مقتضى المقام أن ينفى النوم أوّلا و السنة ثانيا إذ مقام التقديس يناسبه نفى الأقوى ثمّ الأضعف كما تقول: زيد لا يقدّم على الحرام بل لا يأتي بالمكروه، و فلان لا يفوت عنه الفرائض و لا النوافل، كما أنّ التمجيد بالاثبات على عكس ذلك، فيقدّم فيه غير الأبلغ على الأبلغ تقول: فلان عالم تحرير و جواد فياض.
قلت: سلّمنا و لكنه قدّم سلب السنة تبعا لكلام اللّه سبحانه و ملاحظة للترتيب الطبيعي، فانّ السنة لما كانت عبارة عن الفتور المتقدّم عن النوم فساق الكلام على طبق ما في نفس الأمر.

(لم ينته إليك نظر) عقليّ أو بصري (و لم يدركك بصر) قد تقدّم تحقيق عدم امكان إدراكه تعالى بالنظر و البصر أي بالمشاعر الباطنة و الظاهرة في شرح الفصل الثاني من الخطبة الاولى و شرح الخطبة التاسعة و الأربعين و الخطبة الرّابعة و السّتين و الفصل الثّاني من الخطبة التّسعين مستوفي و أقول هنا مضافا إلى ما سبق: إنّ قوله عليه السّلام: لم يدركك بصر، إبطال لزعم المجوّزين للرّؤية، فانّ الامة قد اختلفوا في رؤية اللّه تعالى على أقوال، فذهب الاماميّة و المعتزلة إلى امتناعها مطلقا، و ذهبت المشبّهة و الكراميّة إلى جوازهامنزّها عن المقابلة و الجهة و المكان.

قال الاعرابي في كتاب إكمال الاكمال ناقلا عن بعض علمائهم إنّ رؤيته تعالى جايزة في الدّنيا عقلا، و اختلف في وقوعها و في أنّه هل رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الاسرى أم لا، فأنكرته عايشة و جماعة من الصّحابة و التّابعين و المتكلّمين، و أثبت ذلك ابن عباس، و قال: إنّ اللّه اختصّه بالرّؤية و موسى بالكلام و إبراهيم بالخلّة، و أخذ به جماعة من السّلف، و الأشعريّ، و جماعة من أصحابه و ابن حنبل و كان الحسن يقسم لقد رآه، و قد توقّف فيه جماعة، هذا حال رؤيته في الدّنيا.

و أمّا رؤيته في الآخرة فجايزة عقلا، و أجمع على وقوعها أهل السّنة و أحالها المعتزلة و المرجئة و الخوارج، و الفرق بين الدّنيا و الآخرة أنّ القوى و الادراكات ضعيفة في الدّنيا حتّى إذا كانوا في الآخرة و خلقهم للبقاء قوى إدراكهم فأطاقوا رؤيته، انتهى كلامه على ما حكى عنه.

و قد عرفت فيما تقدّم أنّ استحالة ذلك مطلقا هو المعلوم من مذهب أهل البيت عليهم السّلام، و عليه إجماع الشّيعة باتّفاق المخالف و المؤالف، و قد دلّت عليه الأدلّة العقليّة و النقليّة من الآيات و الأخبار المستفيضة، و من جملة تلك الآيات قوله سبحانه: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.

استدلّ بها النّافون للرّؤية و قرّروها بوجهين: أحدهما أنّ إدراك البصر عبارة شايعة عن الادراك بالبصر إسناد للفعل إلى الآلة، و الادراك بالبصر هو الرّؤية بمعنى اتّحاد المفهومين أو تلازمهما، و الجمع المعرّف باللّام عند عدم قرينة العهديّة و البعضيّة تفيد العموم و الاستغراق باجماع أهل العربيّة و الاصول و أئمّة التّفسير، و بشهادة استعمال الفصحاء، و صحّة الاستثناء فاللّه سبحانه قد أخبر بأنه لا يراه أحد في المستقبل، فلو رآه المؤمنون في الجنّة لزم كذبه.

و اعترض عليه بأنّ اللّام في الجمع لو كان للعموم و الاستغراق كان قوله: تدركه الابصار موجبة كلية، و قد دخل عليها النفى فرفعها هو رفع الايجاب الكلّي و رفع الايجاب الكلّى سلب جزئيّ، و لو لم يكن للعموم كان قوله: لا تدركه الأبصار سالبة مهملة في قوّة الجزئية فكان المعنى لا تدركه بعض الأبصار، و نحن نقول بموجبه حيث لا يراه الكافرون، و لو سلّم فلا نسلّم عمومه في الأحوال و الأوقات، فيحمل على نفى الرّؤية في الدّنيا جمعا بين الأدلّة.

و الجواب أنه قد تقرّر في موضعه أنّ الجمع المحلّى باللّام عام نفيا و اثباتا في المنفيّ و المثبت كقوله تعالى: وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ.
حتّى أنه لم يرد في سياق النفى في شي‏ء من الكتاب الكريم إلّا بمعنى عموم النفى و لم يرد لنفى العموم أصلا، نعم قد اختلف في النفى الدّاخل على لفظة كلّ لكنّه في القرآن المجيد أيضا بالمعنى الذي ذكرنا كقوله تعالى: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ.
إلى غير ذلك، و قد اعترف بما ذكرنا في شرح المقاصد و بالغ فيه.
و أمّا منع عموم الأحوال و الأوقات فلا يخفى فساده، فانّ النفى المطلق غير المقيّد لا وجه لتخصيصه ببعض الأوقات إذ لا ترجيح لبعضها على بعض، و هو من الأدلّة على العموم عند علماء الاصول.

و أيضا صحّة الاستثناء دليل عليه و هل يمنع أحد صحّة قولنا: ما كلّمت زيدا إلّا يوم الجمعة، و لا اكلّمه إلّا يوم العيد و قال تعالى وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ، إلى قوله إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ و قال لا تُخْرِجُوهُنَّ إلى قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ و أيضا كلّ نفى ورد في القرآن بالنسبة إلى ذاته تعالى فهو للتأبيد و عموم الأوقات لا سيّما ما قبل هذه الآية.

و أيضا عدم إدراك الأبصار جميعا لا يختصّ بشي‏ء من الموجودات خصوصا مع اعتبار شمول الأحوال و الأوقات، فلا يختصّ به تعالى فتعيّن أن يكون التمدّح بمعنى عدم إدراك شي‏ء من الأبصار له في شي‏ء من الأوقات.
و ثانيهما أنّه تعالى تمدّح بكونه لا يرى به فانّه ذكره في أثناء المدايح و ما كان من الصّفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا، فيجب تنزيه اللّه تعالى بنفيه مطلقا.

ثمّ لمّا نفى عنه درك الأبصار له أثبت له دركه للأبصار فقال عليه السّلام (أدركت الأبصار و أحصيت الأعمال) كما نطق به الكتاب العزيز قال عزّ من قائل: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ و قال أيضا يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ.

أى أحاط به عددا لم يغب عنه شي‏ء و نسوه لكثرته أو تهاونهم به، و اللّه على كلّ شي‏ء شهيد أى يعلم الأشياء كلّها من جميع وجوهها لا يخفى عليه شي‏ء منها، و قال أيضا تلو هذه الآية: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى‏ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ.

ثمّ وصفه سبحانه بكمال الاقتدار فقال (و أخذت بالنّواصي و الأقدام) أى أحاطت قدرتك بنواصى العباد و أقدامهم، و أخذت بها على وجه القهر و الاذلال، و يجوز أن يكون المراد به خصوص أخذ المجرمين بنواصيهم و أقدامهم يوم القيامة كما قال تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ.

و نسبته عليه السّلام الأخذ إلى اللّه سبحانه مع كونه فعل الملائكة من باب الاسناد إلى السبب الآمر كما أسند اللّه التوفى الى نفسه في قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها مع كونه فعل ملك الموت بدليل قوله سبحانه في سورة السجدة: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ.
قال الفخر الرّازي في تفسير الآية الاولى: و في كيفيّة الأخذ ظهور نكالهم لأنّ في نفس الأخذ بالنّاصية إذلالا و إهانة، و كذلك الأخذ بالقدم.

و في الأخذ بها و جهان بل قولان لأهل التّفسير.
أحدهما أن يجمع بين ناصيتهم و قدمهم من جانب ظهورهم فيربط بنواصيهم أقدامهم أو من جانب وجوههم فتكون رؤوسهم على ركبهم و نواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة.

و الثاني أنّهم يسحبون سحبا، فبعضهم يؤخذ بناصيته، و بعضهم يجرّ برجله ثمّ استفهم على سبيل الاستحقار لما استفهم عنه فقال (و ما الّذي نرى من خلقك) أى من مخلوقاتك على كثرتها و اختلاف أجناسها و أنواعها و هيئاتها و مقاديرها و خواصّها و أشكالها و ألوانها إلى غير هذه من أوصافها و حالاتها الّتي لا يضبطها عدّ و لا يحيط بها حدّ (و نعجب له من قدرتك) أى من مقدوراتك الغير المتناهية عددا و مددا و كيفا و كمّا (و نصفه من عظيم سلطانك) النّافذ في الأنفس و الآفاق، و الماضي في أطباق الأرض و أقطار السّماء (و) الحال أنّ (ما تغيّب عنّامنه) أى من مخلوقك و مقدورك و ملكك (و قصرت أبصارنا عنه) من محسوسات الموجودات (و انتهت عقولنا دونه) من معقولات المخلوقات (و حالت سواتر الغيوب بيننا و بينه) أى كانت سرادقات العزّة و أستار القدرة عائلة بيننا و بينه، و حاجبة لنا من الوصول إليه من غيابات الغيوب و الغيب المحجوب.

(أعظم) و أفخم يعني أنّه لو قيس كلّ ما شاهدناه بأبصارنا و أدركناه بعقولنا و وصفناه بألسنتنا ممّا ذرأه اللّه سبحانه في عالم الامكان إلى ما غاب عنّا من أسرار القدرة و الجلال، و شئونات الكبرياء و الجمال لم يكن إلّا أقلّ قليل كنسبة الجدول إلى النّهر، بل القطرة إلى البحر (فمن فرغ قلبه) للنّظر في عجائب الملك و الملكوت (و أعمل فكره ليعلم) مشاهد العزّ و السّلطان و القدرة و الجبروت و أنّه (كيف أقمت عرشك) في الجوّ على عظمه (و كيف ذرأت) أى خلقت (خلقك) على كثرته (و كيف علقت في الهواء سماواتك) بغير عمد (و كيف مددت على مور الماء) أى موجه و اضطرابه (أرضك) على ثقلها مع عدم رسوبها فيه (رجع طرفه حسيرا) كليلا (و عقله مبهورا) مغلوبا (و سمعه والها) متحيّرا (و فكره حائرا) قاصرا عن الاهتداء إليه و عن الوصول إلى معرفته.

و محصّله أنّه لو بالغ أحد في إعمال فكره و بذل وسعه للوصول إلى معرفة بعض ما أبدعه اللّه سبحانه في عالم الغيب و الشّهادة من بدايع القدرة، و لطايف الحكمة، و عجايب الصّنعة لعجز و حار، و انقطع و استحار، فكيف لو رام معرفة كلّه و يشهد على ما ذكره عليه السّلام ما قدّمنا في شرح الخطبة الأولى و في شرح الخطبة التّسعين، فليراجع ثمّة.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن حضرتست كه فصل أوّل آن متضمّن أوصاف كمال حضرت ذوالجلالست مى‏ فرمايد كه: أمر خداى تعالى حكميست لازم و موافق است با حكمت و خوشنودى آن امانست‏ از عقوبت و سبب مغفرتست و رحمت حكم مى‏ فرمايد بعلم شامل خود، و عفو مى‏ فرمايد با حلم كامل، پروردگارا مر تو راست حمد بر آنچه مى‏ گيري و مى ‏دهى، و بر آنچه كه سلامت مى‏ دارى از بليّات و مبتلا مى ‏نمائى بآفات، حمد مى ‏كنم تو را حمد كردنى كه باشد خوشنودترين حمدها از براى تو، و دوست‏ترين حمدها بسوى تو و فاضل‏ترين حمدها نزد تو، چنان حمدى كه پر سازد آنچه را خلق كرده، و برسد بمقامى كه مراد تو است، حمدى كه محجوب نباشد از درگاه تو، و ممنوع و محبوس نباشد نزد بارگاه تو، حمدى كه منقطع نشود شماره و عدد آن، و فاني نشود مادّه و مدد آن پس نيستيم ما كه بدانيم نهايت بزرگى جلال تو را غير از اين كه مى ‏دانيم كه تو زنده قائم بامور مخلوقان، أخذ نمى ‏كند تو را مقدّمه خواب كه خواب خفيف است و نه خواب گران، منتهى نشد بسوى كمال تو نظر و فكرى، و درك ننمود جمال تو را هيچ بصرى، درك كردى تو بصرها را، و در شماره آوردى عملها را، و اخذ كردى به پيشانيها و قدمهاى مردمان.

و چه چيز است آنچه كه مى‏ بينيم از خلق تو و تعجّب مى ‏كنيم از براى او از قدرت تو، و وصف مى ‏كنيم آن را از بزرگى پادشاهى تو و حال آنكه آنچه كه غايب شده از ما از آن، و قاصر شده بصرهاى ما از درك آن و بنهايت رسيده عقلهاى ما نزد آن، و حايل شده پرده‏هاى غيبها ميان ما و ميان آن بزرگتر است.

پس هر كه فارغ نمايد قلب خودش را و إعمال كند فكر خود را تا بداند كه چگونه بر پا داشته عرش خود را، و چه سان آفريده مخلوقات خود را، و چه قرار در آويخته در هوا آسمانهاى خود را، و چه نوع گسترانيده بر موج آب زمين خود را بر مى‏گردد بينائي او در مانده و آواره، و عقل او مغلوب، و قوّه سامعه او حيران، و قوّه متفكّره او متحيّر و سرگردان.

الفصل الثاني (منها)

يدّعي بزعمه أنّه يرجو اللّه، كذب و العظيم ما باله لا يتبيّن رجاؤه في عمله، و كلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله إلّا رجاء اللّه فإنّه مدخول، و كلّ خوف محقّق إلّا خوف اللّه فإنّه معلول، يرجو اللّه في الكبير و يرجو العباد في الصّغير، فيعطى العبد ما لا يعطى الرّبّ، فما بال اللّه عزّ و جلّ يقصّر به عمّا يصنع به بعباده، أ تخاف أن تكون في رجاءك له كاذبا، أو تكون لا تراه للرّجاء موضعا، و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطى ربّه، فجعل خوفه من العباد نقدا، و خوفه من خالقه ضمارا و وعدا، و كذلك من عظمت الدّنيا في عينه، و كبر موقعها في قلبه، آثرها على اللّه فانقطع إليها، و صار عبدا لها. و لقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاف لك في الاسوة، و دليل لك على ذمّ الدّنيا و عيبها، و كثرة مخازيها و مساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، و وطّئت لغيره أكنافها، و فطم من رضاعها و زوى عن زخارفها. و إن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ يقول «ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير» و اللّه ما سئله إلّا خبزا يأكله، لأنّه كان‏ يأكل بقلة الأرض، و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله، و تشذّب لحمه. و إن شئت ثلّثت بداود صلّى اللّه عليه صاحب المزامير، و قاري أهل الجنّة فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، و يقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها، و يأكل قرص الشّعير من ثمنها.

و إن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السّلام قد كان يتوسّد الحجر، و يلبس الخشن، و كان إدامه الجوع، و سراجه باللّيل القمر، و ظلاله في الشّتآء مشارق الأرض و مغاربها، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، و لم تكن له زوجة تفتنه، و لا ولد يحزنه، و لا مال يلفته، و لا طمع يذّله، دابّته رجلاه، و خادمه يداه. فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى، و عزاء لمن تعزّى، و أحبّ العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه، و المقتصّ لأثره، قضم الدّنيا قضما، و لم يعرها طرفا، أهضم أهل الدّنيا كشحا، و أخمصهم من الدّنيا بطنا، عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها، و علم أن اللّه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، و حقّر شيئا فحقّره، و صغّر شيئا فصغّره، و لو لم يكن فينا إلّا حبّنا ما أبغض اللّه و رسوله، و تعظيمنا ماصغّر اللّه و رسوله، لكفى به شقاقا للّه، و محادّة عن أمر اللّه. و لقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأكل على الأرض، و يجلس جلسة العبد، و يخصف بيده نعله، و يرقع بيده ثوبه، و يركب الحمار العاري، و يردف خلفه، و يكون السّتر على باب بيته، فتكون فيه التّصاوير، فيقول: يا فلانة- لإحدى أزواجه- غيّبيه عنّي، فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا و زخارفها، فأعرض عن الدّنيا بقلبه، و أمات ذكرها عن نفسه، و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشا، و لا يعتقدها قرارا، و لا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النّفس، و أشخصها عن القلب، و غيّبها عن البصر، و كذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه، و أن يذكر عنده.

و لقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يدلّك على مساوى الدّنيا و عيوبها، إذ جاع فيها مع خاصّته، و زويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله، أكرم اللّه تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك أم أهانه فإن قال: أهانه، فقد كذب و العظيم، و إن قال: أكرمه، فليعلم أنّ اللّه أهان غيره حيث بسط الدّنيا و زويها عن أقرب النّاس منه، فتأسّى متأسّ بنبيّه، و اقتصّ أثره، و ولج مولجه، و إلّا فلا يأمن‏ الهلكة، فإنّ اللّه جعل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علما للسّاعة، و مبشّرا بالجنّة، و منذرا بالعقوبة، خرج من الدّنيا خميصا، و ورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر حتّى مضى لسبيله، و أجاب داعى ربّه، فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتّبعه، و قائدا نطا عقبه، و اللّه لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها، و لقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك، فقلت: اعزب عنّي، فعند الصّباح يحمد القوم السّرى.

اللغة

(الزّعم) مثلّثة الزاء قد يطلق على الظنّ و الاعتقاد الفاسد و منه قوله تعالى زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا.
و قد يطلق على القول الباطل و الكذب، و ربّما يطلق على القول الحقّ و المراد هنا الأوّل و (مدخول) مفعول من الدّخل بالتسكين و هو المكر و الخديعة و العيب و مثله الدّخل محرّكة قال تعالى: وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ.
أي مكرا و خديعة و (الضّمار) ما لا يرجى من الوعود هكذا قال الشّارح المعتزلي و قال الفيروزآبادي: الضّمار ككتاب من المال الّذي لا يرجى رجوعه، و من العذاب ما كان ذا تسويف و خلاف العيان، و من الدّين ما كان بلا أجل و (الاسوة) بالكسر و الضّم القدوه و (المخازي) جمع مخزاة و هى الأمر يستحى من ذكره لقبحه و (المساوى) العيوب و (الأكناف) الأطراف و (شفّ) الثّوب شفّا و شفيفا رقّ فحكى ما تحته.

و (الصّفاف) ككتاب الجلد الأسفل تحت الجلد الّذي عليه الشّعر و (الهزال) بضمّ الهاء نقيض السّمن و (المزامير) جمع المزمار و هي الآلة الّتي يزمر فيها من زمر يزمر و يزمر من باب نصر و ضرب زمرا و زميرا غنّى في القصب و نحوه و مزامير داود ما كان يتغنّي به من الزّبور و ضروب الدّعاء و (السّفايف) جمع السّفيفة و هي النّسيجة من سففت الخوص و أسففته نسجته، و في نسخة الشّارح المعتزلي بعد قوله: و يلبس الخشن: و يأكل الجشب، و هو كالجشيب الخشن الغليظ البشع من كلّ شي‏ء و السّيى‏ء الماكل أو بلا ادم.

(و لا ولد يحزنه) مضارع حزن كنصر قال تعالى «انّي ليحزنني أن تذهبوا به» و يقرأ يحزن مضارع أحزنه الشّي‏ء و (لفته) عن كذا يلفته صرفه و لواه و (القضم) الأكل بأدنى الفم أى بأطراف الأسنان و يروى قصم بالصّاد المهملة من القصم و هو القصر و (الهضم) محرّكة انضمام الجنبين و خمص البطن و (الكشح) الخاصرة (و حقر شيئا) يروى بالتّخفيف و التضعيف

الاعراب

الباء في قوله: بزعمه، للسببيّة إن كان الزّعم بمعنى الظنّ و الاعتقاد، و إلّا فهى صلة، و الواو في قوله: كذب و العظيم، للقسم و إنّما قال: و العظيم و لم يقل: و اللّه العظيم، تأكيدا لعظمة الباري سبحانه، لأنّ الموصوف إذا لغى و ترك و اعتمد على الصّفة حتّى صارت كالاسم كانت أدلّ على تحقّق مفهوم الصّفة كالحارث و العبّاس هكذا قال الشّارح المعتزلي.

و قال البحراني: و إنّما قال: و العظيم، دون اللّه لأنّ ذكر العظمة هنا أنسب للرّجاء، و الاضافة في قوله: من خوفه، من اضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول، و اللّام في قوله تعالى: لما أنزلت إلىّ من خير فقير، بمعنى إلى أو للتّعليل أو ضمن فقير معنى سائل فعدّى باللّام، و الواو في قوله: و لقد كانت، للقسم و المقسم به محذوف لمعلوميّته، و سلفا، و قائدا، منصوبان على الحال من ضمير به.

المعنى

اعلم أنّه عليه السّلام قد نبّه في هذا الفصل من كلامه عليه السّلام على بطلان دعوى من يدّعى رجاء ثواب اللّه سبحانه و خوف عقابه و يزعم اتّصافه بهذين الوصفين اللّذين هما من أوصاف السّالكين و حالات الطّالبين و مقامات العارفين الرّاغبين، و عقبّه بالتّزهيد عن الدّنيا بالأمر بالتّأسّي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جملة من السّلف الصّالحين من الأنبياء و المرسلين حيث زهدوا في الدّنيا، و آثروا الآخرة على الاولى لما رأوا من معايبها و مساويها، و قد تقدّم في التّنبيه الثّالث من تنبيهات الفصل السّادس من فصول الخطبة الثّانية و الثّمانين تحقيق معنى الرّجاء و تفصيل الكلام فيه و لا حاجة إلى الاعادة، و إنّما نشير هنا إلى محصّل ما أوردناه هناك تمهيدا و توضيحا للمتن.

فأقول: خلاصة ما قلناه فيما تقدّم: إنّ الرّجاء عبارة عن ارتياح النّفس لانتظار ما هو محبوب عندها، فهو حالة لها تصدر عن علم و تقتضى عملا، فمن كان يرجو لقاء ربه و يأمل ثوابه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا، كما نطق به الكتاب الكريم و القرآن الحكيم، فاللّازم على الرّاجي للثواب من الملك الوهّاب عزّ و علا أن يبذر المعارف الالهيّة في قلبه، و يدوم على سقيه بماء الطّاعات و يجتهد في تطهير نفسه عن شوك الأخلاق الرّدية المانعة من نماء العلم و زيادة الايمان، و ينتظر من فضل اللّه سبحانه أن يثبته على ذلك إلى زمان وصوله و حصاد عمله، فذلك الانتظار هو الرّجاء الحقيقي المحمود.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ من النّاس من يتّبع هواه و يفرّط في أمر مولاه و يغمر في المعاصى و يدوم على المناهي و مع ذلك كلّه (يدّعى بزعمه) الفاسد و نظره الكاسد (أنّه يرجو اللّه) و يأمل لقائه فقد (كذب) في دعواه و خاب فيما يتوقّعه و يتمنّاه (و) الرّبّ (العظيم) لما قد عرفت أنّ الرّجاء بدون إصلاح العمل حمق و جهالة، و من دون تزكية النّفس سفه و ضلالة (ما باله) استفهام على سبيل التّوبيخ و التّقريع أى ما بال هذا الدّاعي للرّجاء (لا يتبيّن رجاؤه في عمله) يعني انّه لو كان‏ رجاؤه صدقا لظهر رجاؤه في عمله، و ذلك لأنّا نرى أنّ كلّ من رجا شيئا من سلطان أو غيره فانّه يتابعه و يخدمه و يتقرّب إليه و يتحبّب إليه و يبالغ في طلب رضاه و يسارع إلى خدمته و يأتي بقدر طوعه كلّ ما هو مطلوب له و محبوب عنده ليظفر بمراده و ينال إلى ما يرجوه منه، و هذا المدّعي للرّجاء حيث لا يظهر رجاؤه في عمله يتبيّن أنّه كاذب في دعواه، غير خالص في رجاه.

و هذا معنى قوله (و كلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله إلّا رجاء) من يرجو (اللّه فانّه مدخول) أى معيب (و كلّ خوف محقّق) أى كلّ خائف فخوفه محقّق ثابت له أصل و حقيقة يظهر آثاره على الخائف (إلّا خوف اللّه) تعالى (فانّه معلول) أى مشتمل على المرض و العلّة حيث لا يظهر آثاره و علاماته على من يخافه سبحانه كما ستعرفه تفصيلا.
هذا على تقدير عود الضّمير في قوله: فانّه، إلى خوف اللّه، و يجوز عوده إلى كلّ خوف بأن يجعل محقّق صفة لخوف و إلّا بمعنى غير و هذه الجملة أعني جملة فانّه معلول خبرا لكلّ خوف، فيكون محصّل المعنى أنّ كلّ خوف ثابت غير خوف اللّه سبحانه فانّ هذا الخوف معلول، بخلاف خوفه سبحانه فانّه الخوف الصّريح الحقيقي، و ذلك لأنّ ما يخاف به من غيره تعالى فهو أمر دنيويّ سريع الزّوال و الانقضاء، مع أنّ ذلك الغير لا يقدر على ايقاع مكروه على الخائف إلّا بمشيّة اللّه سبحانه و إقدار منه له عليه، بخلاف الخوف منه تعالى فانّه خوف من القادر القاهر لارادّ لقضائه و لا دافع لحكمه، و عذابه أليم لا يفنى، و سخطه عظيم لا ينقطع و لا يتناهى و يؤيّد هذا الاحتمال الثّاني في هذه الفقرة ما في بعض النّسخ بدل قوله: و كلّ من رجا آه و كلّ رجاء إلّا رجاء اللّه فانه مدخول، وجه التّأييد أنّ الضّمير حينئذ يعود إلى كلّ رجاء فيكون سوق كلتا الفقرتين على مساق واحد، و يتطابق الكلّيتان كما هو غير خفيّ على البصير، هذا.
و أكّد كون رجائه للّه سبحانه معلولا بقوله (يرجو اللّه في الكبير) أى يرجو رحمته و مغفرته و نعمته و منّته و جنّته الّتي عرضها السّماء و الأرض (و يرجو العبادفي الصّغير) أى في امور دنيويّه زهيدة المنفعة قليلة الجدوى سريعة الزّوال و الانقضاء و مع ذلك (فيعطى العبد ما لا يعطى الرّب) الاتيان بلفظ الاعطاء في يعطى الرّب للمشاكلة، و المراد أنّه يكثر عمله لمن يرجوه من العباد و يتقرّب إليه بكلّ وسيلة ليفوز بما يتوقّعه منه، و يتهاون في طاعة ربّه و يتكاسل في عبادته و يقصّر فيما يقربه إليه مع أنّ اللّازم عليه أن يكون عمله بعكس ذلك، فيكون قيامه بوظايف التّقرّب إلى اللّه سبحانه أكثر و آكد من القيام بوظايف التّقرّب إلى غيره، حيث إنّ المرجوّ الكبير يستدعى ما يناسبه ممّا هو وسيلة إليه كميّة و كيفيّة.

و حيث إنّه عكس في القيام بوظايف رجاه و لم يعط ربه ما أعطاه سواه فحقيق بالتّوبيخ و الملام و التّقريع و التّبكيت، و لذلك قال ذمّا و تشنيعا (فما بال اللّه عزّ و جلّ يقصر به عمّا يصنع به بعباده) أى عمّا يعمل به، و يصانع لهم من المصانعة الّتي هى أن تصنع شيئا لغيرك لتصنع لك مثله.

و أكد التّوبيخ و التشنيع بقوله (أ تخاف أن تكون في رجاءك له كاذبا أو تكون لا تراه للرّجاء موضعا) يعني أنّ قصورك في القيام بوظايف الرّجا كاشف من خوفك من أحد أمرين كلاهما باطل: أحدهما أن تكون كاذبا في رجاءك له سبحانه لزعمك أنّك لا تستعدّ مع العمل بلوازم رجائه تعالى لافاضة الجود منه عليك و لا تنال إلى مرجوّك، و هو خطاء عظيم ناش عن ضعف الاعتقاد بالوعود الّتي وعدها اللّه سبحانه على ألسنة رسله و أنبيائه لمن عمل صالحا و يرجو رحمة ربّه.

و ثانيهما أن تكون لا تراه للرّجاء موضعا، و هو كفر صريح ناش من توهّم عجزه أو بخله، هذا.
و لما نبّه على بطلان دعوى المدّعين للرّجاء و شنّعهم على تلك الدّعوى، عقّبه بالتّشنيع على الخائفين بسبب قصورهم في لوازم الخوف، و توضيح قصورهم فيها محتاج إلى تحقيق معنى الخوف و بيان حقيقته‏

فأقول: إنّ الخوف كما في إحياء العلوم عبارة عن تألّم القلب و احتراقه بسبب توقّع مكروه في الاستقبال، و قد ظهر هذا في بيان حقيقة الرّجاء و هو صفة تقتضى علما و عملا.

اما العلم فهو العلم بالسّبب المفضى إلى المكروه، و ذلك كمن جنى على ملك ثمّ وقع في يده فيخاف القتل مثلا و يجوز العفو و الافلات، و لكن يكون تألّم قلبه بالخوف بحسب قوّة علمه بالأسباب المفضية إلى قتله، و هو تفاحش جنايته و كون الملك حقودا غضوبا منتقما، و كونه محفوفا بمن يحثّه على الانتقام، خاليا عمّن يتشفّع إليه في حقّه، و كان هذا الخائف عاطلا عن كلّ وسيلة و حسنة تمحو أثر جنايته عند الملك، فالعلم بتظاهر هذه الأسباب سبب لقوّة الخوف و شدّة تألّم القلب، و بحسب ضعف هذه الأسباب يضعف الخوف.

و قد يكون الخوف لا عن سبب جناية قارفها الخائف، بل عن صفة المخوف منه كالّذى وقع في مخالب سبع، فانّه يخاف السّبع لصفة ذات السّبع و هى سطوته و حرصه على الافتراس غالبا و إن كان افتراسه بالاختيار.
و قد يكون من صفة جبليّة للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل أو جوار حريق من الغرق و الاحتراق، لأنّ طبع الماء مجبول على السّيلان و الاغراق، و كذا النّار على الاحراق، فالعلم بأسباب المكروه هو السّبب الباعث المثير لاحراق القلب و تألّمه، و ذلك الاحراق هو الخوف.

فكذلك الخوف من اللّه تارة يكون لمعرفة اللّه و معرفة صفاته و أنّه لو أهلك العالمين لم يبال و لم يمنعه مانع، و تارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي، و تارة يكون بهما جميعا، و يحسب معرفته بعيوب نفسه و معرفته بجلال اللّه تعالى و استغنائه و أنّه لا يسئل عمّا يفعل و هم يسئلون تكون قوّة خوفه فأخوف النّاس لربّه أعرفهم بنفسه و بربّه و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا أخوفكم للّه، و كذلك قال اللّه: إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء.

و أما العمل فهو أنّه إذا حصل له الخوف أوجب ذلك الكفّ و التّوقّى عن‏كلّ ما يؤدّى إلى المكروه المتوقّع الّذي يخاف منه.
و خوف اللّه سبحانه إذا ثبت في القلب و اشتدّ يظهر أثره على البدن و على الجوارح و الصّفات.
اما البدن فبالنّحول و الصّفار و الغشية و الزّعقة و البكاء، و قد ننشقّ به المرارة فيفضى إلى الموت، أو يصعد إلى الدّماغ فيفسد العقل، أو يقوى فيورث القنوط و اليأس.
و اما الجوارح فبكفّها عن المعاصي و تقييدها بالطّاعات تلافيا لما فرّط و استعدادا للمستقبل.
و اما الصفات فبأن يقمع الشّهوات و يكدّر اللّذات فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة كما يصير العسل مكروها عند من يشتهيه إذا عرف أنّ فيه سمّا فتحرق الشّهوات بالخوف و تتأدّب الجوارح و يحصل في القلب الذّبول و الخشوع و الاستكانة و يفارقه الكبر و الحقد و الحسد بل يصير مستوعب الهمّ بخوفه و النّظر في خطر عاقبته، فلا يتفرّغ لغيره و لا يكون له شغل إلّا المراقبة و المحاسبة و المجاهدة و الضنّة بالأنفاس و اللّحظات، و مؤاخذة النّفس بالخطرات و الخطوات و الكلمات و يكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدرى أنّه يغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلك فيكون ظاهره و باطنه مشغولا بما هو خائف منه لا متّسع فيه لغيره هذا حال من غلبه الخوف و استولى عليه.

و قوّة المراقبة و المحاسبة و المجاهدة بحسب قوّة الخوف الّذي هو تألّم القلب و احتراقه و قوّة الخوف بحسب قوّة المعرفة بجلال اللّه تعالى و صفاته و أفعاله و بعيوب النّفس و ما بين يديها من الأخطار و الأهوال.
و أقلّ درجات الخوف ممّا يظهر أثره في الأعمال أن يمنع عن المحظورات و يسمّى الكفّ الحاصل عن المحظورات ورعا، فان زادت قوّته كفّ عمّا يتطرق إليه امكان التّحريم فيكفّ أيضا عن المشتبهات و يسمّى ذلك التّقوى، إذ التّقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، و قد يحمله على ترك ما لا بأس به مخافة ما به‏ بأس، و هو الصّدق في التّقوى، فاذا انضمّ إليه التّجرّد للخدمة فصار لا يبنى ما لا يسكنه، و لا يجمع مالا يأكله، و لا يلتفت إلى دنيا يعلم أنّها تفارقه، و لا يصرف إلى غير اللّه تعالى نفسا من أنفاسه، فهو الصّدق و صاحبه جدير بأن يسمّى صديقا.

و يدخل في الصّدق التّقوى، و يدخل في التّقوى الورع، و يدخل في الورع العفة فانّها عبارة عن الامتناع عن مقتضى الشّهوات خاصّة فاذا الخوف يؤثّر في الجوارح بالكفّ و الاقدام، و يتجدّد له بسبب الكفّ اسم العفّة، و هو كفّ عن مقتضى الشّهوة و أعلى منه الورع، فانّه أعمّ لأنّه كفّ عن كلّ محظور و أعلى منه التّقوى، فانّه اسم للكفّ عن المحظور و الشّبهة جميعا و ورائه اسم الصّديق و المقرّب.

إذا عرفت ذلك ظهر لك معنى قوله (و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده) سبحانه (أعطاه من خوفه) الضمير راجع إلى الخائف أو العبد أى أعطاه من أجل خوفه إيّاه (ما لا يعطى ربّه) يعنى أنّه يقوم بمقتضيات خوفه إن خاف غير اللّه تعالى فيفعل ما يأمر و يترك ما ينهى و يأتي بما يريد بخلاف خوفه منه سبحانه فيدّعى الخوف و لا يظهر أثره عليه (فجعل خوفه من العباد نقدا) أي كالنقد المعجّل لوجود آثاره فيه بالفعل (و خوفه من خالقه ضمارا و وعدا) ذا تسويف غير موجود آثاره فيه بعد هذا.

و لمّا نبّه على بطلان دعوى المدّعين للخوف و الرّجاء و كذّبهم في تلك الدّعوى معلّلا بكون رجاهم لغير اللّه تعالى أكثر و آكد، و خوفهم من غيره سبحانه أقوى و أشدّ، و فهم من ذلك ضمنا بدلالة الالتزام أنّ توجّههم و مراقبتهم إلى غيره عزّ و علا أكثر من مراقبتهم و توجّههم إليه، حيث إنّهم يؤثرون غيره عليه إذا رجوا، و يقدمون خوف الغير على خوفه إذا خافوا أردف ذلك بالتّنبيه على أنّ حال أبناء الدّنيا كذلك، لايثارهم الدّنيا عليه تعالى و انقطاعهم إليها و افتتانهم بها و رغبتهم إليها دونه.

و بهذا ظهر لك حسن الارتباط و المناسبة بين ما مرّ و بين قوله (و كذلك من‏عظمت الدّنيا في عينه) و راقه زبرجها (و كبر موقعها من قلبه) و عظم محلّها عنده للذّاتها العاجلة و شهواتها الموجودة الحاضرة (آثرها على اللّه) و اختارها على ما لديه ممّا لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر لكونه آجلا غايبا (فانقطع إليها و صار عبدا لها) و لمن في يديه شي‏ء منها حيثما زالت زال إليها و حيثما أقبلت أقبل عليها، غافلا عن أنّه ظلّ زائل، و ضوء آفل، و سناد مائل، و غرور حائل.

و لمّا وصف حال أبناء الدّنيا المفتونين بها عقّبه بأمرهم بالتّأسّي برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المعرض عنها لما رأى من فنائها و زوالها و مخازيها و معايبها تزهيدا لهم عنها، و تنبيها على خطائهم في الافتتان بها فقال (و لقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاف لك في الاسوة) أى في القدوة و الاتّباع (و دليل لك على ذمّ الدّنيا و كثرة مخازيها) أى مهالكها و مقابحها و فضايحها (و مساويها) أى معايبها.

و أشار إلى دليل الذّم بقوله (إذ قبضت عنه أطرافها و وطئت) أى هيّأت (لغيره أكنافها) و جوانبها و (فطم من رضاعها) و التقم غيره ضرعها (و زوى) أي نحىّ (عن زخارفها) و قرّب إلى غيره زبرجها.
و دلالة هذه الجملة على ذمّها و عيبها أنّه لو كان لها وقع عنده سبحانه و لها كرامة لديه لم يضن بها على أحبّ خلقه إليه و أشرفهم و أكرمهم عنده، فحيث زويها عنه و بسطها لغيره دلّ ذلك على خسّتها و حقارتها و هوانها و إلى ذلك يشير ما في الحديث: ما زوى اللّه عن المؤمن في هذه الدّنيا خير ممّا عجّل له فيها.

قال بعض شرّاح الحديث: أى ما نحّى من الخير و الفضل، و تصديق ذلك انّ الرّجل منهم يوم القيامة يقول: يا ربّ إنّ أهل الدّنيا تنافسوا في دنياهم فنكحوا النّساء و لبسوا الثّياب اللّينة و أكلوا الطّعام و سكنوا الدّور و ركبوا المشهور من الدّواب فأعطني مثل ما أعطيتهم، فيقول اللّه تبارك و تعالى: و لكلّ عبد منكم ما أعطيت أهل الدّنيا منذ كانت الدّنيا إلى أن انقضت سبعون ضعفا.

(و إن شئت ثنّيت) إعراض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الدّنيا (ب) اعراض (موسى كليم اللّه) عنها أو إن شئت ثنّيت الاسوة بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالاسوة بالكليم (إذ يقول) ما حكى اللّه سبحانه عنه في سورة القصص بقوله (فَسَقى‏ لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ) أى إنّي محتاج«» إلى ما أنزلت إليّ أو سائل طالب لما أنزلته، أو إنّي فقير من الدّنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدّين و هو النّجاة من الظّالمين أى صرت فقيرا لأجل ذلك لأنّه كان عند فرعون في ثروة و سعة و ملك، و قال عليه السّلام ذلك رضا بالبدل النبي و فرحا به و شكرا له، و على ذلك فالمراد بما في قوله لما أنزلت، هو خير الدّين و النّجاة من الظّالمين و قال في الكشاف إنّى لأيّ شي‏ء أنزلت إلىّ قليل أو كثير غثّ أو سمين لفقير.

و حمله الأكثرون على الطعام، و يؤيّده ما في الصّافي عن الكافي و العياشي عن الصّادق عليه السّلام سأل الطعام، قال: و في الاكمال روى أنّه قال ذلك و هو محتاج إلى شقّ تمرة.
و في مجمع البيان عن ابن عبّاس قال: سأل نبيّ اللّه فلق خبز يقيم به صلبه و يؤيّده أيضا كما يؤيّد تضمين فقير معنى سائل و كون اللّام للصّلة قول أمير المؤمنين عليه السّلام (و اللّه ما سأله إلا خبزا يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض) إذ خرج من مدينة فرعون خائفا يترقّب بغير ظهر و لا دابّة و لا خادم و لا زاد تخفضه الأرض مرّة و ترفعه اخرى حتّى انتهى إلى أرض مدين، و كان بينه و بين مدين مسيرة ثلاثة أيّام، و قيل: ثمانية، فخرج منها حافيا و لم يصل إلى مدين حتّى وقع خفّ قدميه، و كان لا يأكل في مدّة مسيرها إلّا حشيش الصّحراء و بقل الأرض.

(و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه) يعني أنّ جلد بطنه‏بسبب رقّته لم يكن حاجبا عن إدراك البصر لما ورائه و ذلك (لهزاله و تشذّب لحمه) أى تفرّقه قال في عدّة الدّاعي: و يروى أنّه أى موسى عليه السّلام قال يوما يا ربّ إنّي جائع فقال اللّه أنا أعلم بجوعك، قال: يا ربّ أطمعني قال: إلي أن اريد.

و فيما أوحى إليه عليه السّلام يا موسى الفقير من ليس له مثلي كفيل، و المريض من ليس له مثلي طبيب، و الغريب من ليس له مثلي مونس قال: و يروى حبيب، يا موسى ارض بكسرة من شعير تسدّ بها جوعتك، و بخرقة توارى بها عورتك، و اصبر على المصائب، و إذا رأيت الدّنيا مقبلة عليك فقل: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عقوبة قد عجلت في الدّنيا، و إذا رأيت الدّنيا مدبرة عنك فقل: مرحبا بشعار الصّالحين، يا موسى لا تعجبنّ بما اوتى فرعون و ما تمتّع به فانّما هي زهرة الحياة الدّنيا.

(و إن شئت ثلّثت بداود) بن أيش من أولاد يهودا سمّى به لأنّه داوي جرحه بودّ و قد قيل: داوى ودّه بالطّاعة حتّى قيل عبد، رواه في البحار من معانى الأخبار و غيره (صاحب المزامير) قال الفيروزآبادي: مزاميره ما كان يتغنّى به من الزّبور و قال الشّارح المعتزلي: يقال: إنّ داود اعطى من طيب النّغم و لذّة ترجيع القراءة ما كان الطّيور لأجله تقع عليه و هو في محرابه، و الوحش تسمعه فيدخل بين النّاس و لا تنفر منهم لما قد استغرقها من طيب صوته.

و في البحار من الامالي عن هشام بن سالم عن الصّادق عليه السّلام في الحديث الآتي و كان إذا قرء الزّبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر و لا سبع إلّا جاذبه (و) لعلّه لطيب صوته كان (قاري أهل الجنّة فلقد كان يعمل سفائف الخوص) أي نسايج ورق النّخل (بيده و يقول لجلسائه أيّكم يكفيني بيعها و يأكل قرص الشّعير من ثمنها) قال في البحار: لعلّ هذا كان قبل أن ألان اللّه له الحديد.

و روي فيه من تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله تعالى «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ» أى سبّحى للّه «وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» قال: كان داود إذا مرّ في البرارى يقرأ الزّبور يسبّح الجبال و الطّير معه و الوحوش و ألان اللّه‏ له الحديد مثل الشّمع حتّى كان يتّخذ منه ما أحبّ.

و فيه من الفقيه بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أوحى اللّه إلى داود نعم العبد لو لا أنّك تأكل من بيت المال و لا تأكل بيدك شيئا قال: فبكى داود عليه السّلام فأوحى اللّه تعالى إلى الحديد أن لن لعبدى داود فألان اللّه له الحديد، فكان يعمل كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمأة و ستّين درعا فباعها بثلاثمأة و ستّين ألفا، و استغنى عن بيت المال.
و عن صاحب الكامل كان داود بن ايشاح (ايش خ ل) من أولاد يهود او كان قصيرا أزرق قليل الشّعر، فلمّا قتل طالوت أتى بنو إسرائيل داود و أعطوه خزاين طالوت و ملكوه عليهم.

و قيل إنّ داود ملك قبل أن يقتل جالوت، فلمّا ملك جعله اللّه نبيّا ملكا و أنزل عليه الزّبور و علّمه صنعة الدّرع و ألان له الحديد و أمر الجبال و الطّير أن يسبّحن معه إذا سبّح، و لم يعط اللّه أحدا مثل صوته كان إذا قرء الزّبور تدنو الوحش حتّى يؤخذ بأعناقها، و كان شديد الاجتهاد، كثير العبادة و البكاء، و كان يقوم اللّيل و يصوم نصف الدّهر، و كان يحرسه كلّ يوم و ليلة أربعة آلاف، و كان يأكل من كسب يده أربعة آلاف، و كانت مدّة ملكه أربعين و تمام عمره مأئة، هذا.

و قد اتّضح بذلك أنّه عليه السّلام مع ما آتاه اللّه من الملك و النّبوة و البسطة زهد في الدّنيا و رغب عنها و جعل رزقه في كدّ يمينه، و العجب أنّه مع زهده ذلك عيّره حزقيل النّبيّ و يعجبني أن أذكر قصّته معه لمناسبتها بالمقام، و دلالتها على ذمّ الدّنيا المسوق له هذا الفصل من كلام الامام عليه السّلام فأقول: روى في البحار من أمالي الصّدوق عن أبيه عن عليّ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: إنّ داود خرج ذات يوم يقرأ الزّبور و كان إذا قرء الزّبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر و لا سبع إلّا جاذبه، فما زال يمرّ حتّى انتهى إلى جبل فاذا على ذلك الجبل نبيّ عابد يقال له حزقيل، فلمّا سمع دويّ الجبال و أصوات السّباع و الطّير علم أنّه داود، فقال‏داود: يا حزقيل أ تأذن لي فأصعد إليك قال: لا، فبكى داود عليه السّلام فأوحى اللّه جلّ جلاله إليه يا حزقيل لا تعيّر داود و سلنى العافية، فقام حزقيل فأخذ بيد داود عليه السّلام فرفعه إليه فقال: داود عليه السّلام يا حزقيل هل هممت بخطيئة قطّ قال: لا، قال: فهل دخلك العجب ممّا أنت فيه من عبادة اللّه تعالى قال: لا، قال: فهل ركنت إلى الدّنيا فأحببت أن تأخذ من شهوتها و لذّتها قال: بلى ربّما عرض بقلبي، قال: فما ذا تصنع إذا كان ذلك قال: أدخل هذا الشّعب فأعتبر بما فيه.

قال: فدخل داود النّبيّ الشعب فاذا سرير من حديد عليه جمجمة بالية و عظام فانية، و إذا لوح حديد فيه كتابة، فقرأها داود فاذا هي: أنا أردى شلم ملكت ألف سنة و بنيت ألف مدينة و افتضضت ألف بكر فكان آخر أمري أن صار التّراب فراشى، و الحجارة و سادتى، و الدّيوان و الحيّات جيراني، فمن رآني فلا يغترّ بالدّنيا و في البحار أيضا دخل داود غارا من غيران بيت المقدّس، فوجد حزقيل يعبد ربّه و قد يبس جلده على عظمه فسلّم عليه، فقال: أسمع صوت شبعان ناعم فمن أنت قال: أنا قال: الّذي له كذا و كذا امة قال: نعم و أنت في هذه الشّدة قال: ما أنا في شدّة و لا أنت في نعمة حتّى تدخل الجنّة.

(و ان شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السّلام) أى ان شئت أن تذكر حال المسيح فاذكر انّه ل (قد كان يتوسّد الحجر) أى يأخذه و سادة له (و يلبس) اللّباس (الخشن و كان إدامه الجوع) قال العلّامة المجلسيّ: لعلّ المعنى أنّ الانسان إنّما يحتاج إلى الادام لأنّه يعسر على النّفس أكل الخبز يابسا، فأمّا مع الجوع الشّديد فيلتذّ بالخبز و لا يطلب غيره فهو بمنزلة الادام، أو أنّه كان يأكل الخبز دون الشّبع فكان الجوع مخلوطا به كالادام.

أقول: و يحتمل أن يكون المراد أنّه كان يلتذّ بالجوع كما يلتذّ بالادام و الطّعام، أو أنّ الجوع كان بدلا عن إدامه فاستعير لفظ الجوع له من باب استعارة اسم الضدّ للضّد مثل قوله في الخطبة الثّانية: نومهم سهود و كحلهم دموع.
(و سراجه باللّيل القمر) يستضي‏ء به كما يستضاء بالسراج (و ظلاله في‏ الشّتاء) أى مكمنه من البرد (مشارق الأرض) في الضّحى (و مغاربها) في المساء (و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم) و استعارة الفاكهة و الرّيحان لما تنبت باعتبار التذاذ ذوقه و شمّه به كالتذاذ غيره بالفواكه و الرّياحين (و لم تكن له زوجة تفتنه و لا ولد يحزنه و لا مال يلفته) أى يلويه و يصرفه عن ذكر اللّه (و لا طمع يذلّه) أى يوقعه في الذّلّة و الهوان (دابّته رجلاه و خادمه يداه) أى انتفاعه بهما كما ينتفع غيره بالدّابة و الخادم.

و اعلم أنّ ما وصف عليه السّلام به عيسى فقد روى عنه عليه السّلام نحوه في عدّة الدّاعي قال: و أمّا عيسى روح اللّه و كلمته فانّه كان يقول: خادمى يداي و دابّتي رجلاى و فراشي الأرض و وسادي الحجر و دفئي في الشّتاء مشارق الأرض و سراجي باللّيل القمر و ادامي الجوع و شعارى الخوف و لباسي الصّوف و فاكهتي و ريحاني ما أنبتت الأرض للوحوش و الأنعام، أبيت و ليس لي شي‏ء، و أصبح و ليس لي شي‏ء، و ليس على وجه الأرض أحد أغنى منّي و رواه مثله في البحار من ارشاد القلوب إلّا أنّ فيه بدل مشارق الأرض مشارق الشّمس، و بدل ريحاني ريحانتي.
و في عدّة الدّاعي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: في الانجيل إنّ عيسى قال: اللّهمّ ارزقني غدوة رغيفا من شعير رعشيّة رغيفا من شعير و لا ترزقني فوق ذلك فاطغى.

أقول: و ان شئت فاتّبع ذكر حال هؤلاء الأنبياء الأكرمين بذكر حال غيرهم من الأنبياء و المرسلين.
و اذكر نوحا نجيّ اللّه فانّه مع كونه شيخ المرسلين و قد روي أنّه عاش ألفى عام و خمسمائة عام، و عمّر في الدّنيا مديدا، مضى منها و لم يبن فيها بيتا، و كان إذا أصبح يقول لا امسى و إذا أمسى يقول لا أصبح.
و انظر إلى أبي الأنبياء إبراهيم خليل الرّحمن فقد كان لباسه الصّوف و طعامه الشّعير.
ثمّ انظر إلى يحيى بن زكريا كان لباسه اللّيف و أكله ورق الشّجر.

ثمّ إلى سليمان بن داود فقد كان مع ما هو فيه من الملك العظيم يلبس الشّعر و إذا جنّه اللّيل شدّ يديه إلى عنقه فلا يزال قائما باكيا حتّى يصبح، و كان قوته من سفائف الخوص يعملها بيده، و هكذا كان حال ساير الأنبياء في إعراضهم عن الدّنيا.

و أمّا سيّد البشر فوصف حاله إجمالا قد مرّ و قد تقدّم أنّ فيه كافيا لك في الاتباع به و الاهتداء بهداه، و لذلك عقّبه بالأمر بالتّأسّي به و أردفه بوصف حاله تفصيلا فقال (فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و اتّبع له (فانّ فيه اسوة لمن تأسّى و عزاء لمن تعزّى) أى نسبة لمن انتسب (و أحبّ العباد إلى اللّه المتأسّى بنبيّه و المقتصّ) المتتبّع (لاثره) و إنّما كان أحبّ العباد إليه سبحانه لقوله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ قال الفخر الرّازي: قال المتكلّمون محبّة اللّه للعبد عبارة عن إرادته تعالى ايصال الخيرات و المنافع في الدّين و الدّنيا إليه، و قال بعض المحقّقين: و من المتكلّمين من أنكر محبّة اللّه لعباده كالزمخشري و أترابه، زعما منهم أنّ ذلك يوجب نقصا في ذاته و لم يعلموا أنّ محبّة اللّه تعالى لخلقه راجعة إلى محبّة ذاته، هذا.

و قوله (قضم الدّنيا قضما) استيناف بيانيّ، فانّه لمّا ذكر أنّ أحبّ العباد إلى اللّه من اقتصّ أثر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان ذلك مظنّة لأن يسأل عن الأثر الذي يقتصّ أردف بهذا الكلام و ما يتلوه جوابا لهذا السّؤال المتوهّم، و تفصيلا لما فيه الاسوة، و به يكون الاقتصاص، و أراد بقضمه اقتصاره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الدّنيا على قدر الضّرورة إذا لقضم يقابل الخضم و الأوّل أكل الشي‏ء اليابس بأطراف الأسنان، و الثاني الأكل بالفم كلّه للأشياء الرّطبة كما قال عليه السّلام في وصف حال بني اميّة في الخطبة الشقشقيّة: يخضمون مال اللّه خضم الابل نبتة الرّبيع، و في حديث أبي ذر «رض» يخضمون و نقضم و الموعد للّه (و لم يعرها طرفا) أى لم يعطها نظرة على وجه العارية فكيف بأن يجعلها مطمح نظره، و هو كناية عن عدم التفاته إليها (أهضم أهل الدّنيا كشحا و أخمصهم‏ بطنا) أى أخمصهم خاصرة و بطنا، و هو كناية عن كونه أشدّهم جوعا و أقلّهم شبعا كما روى أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا اشتدّ جوعه كان يربط على بطنه حجرا و يسميّه المشبع مع كونه مالكا لقطعة واسعة من الدّنيا.

قال الغزالي في احياء العلوم: و في الخبر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يجوع من غير غور أى مختارا لذلك.
قال: و كانت عايشة تقول إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يمتل قطّ شبعا و ربّما بكيت رحمة له مما أرى به من الجوع فأمسح بطنه بيدى و أقول نفسى لك الفداء لو تبلّغت من الدّنيا بقدر ما يقويك و يمنعك من الجوع، فيقول: يا عايشة اخواني من اولى العزم من الرّسل قد صبروا على ما هو أشدّ من هذا، فمضوا على حالهم فقدموا على ربّهم فأكرم مآبهم و أجزل ثوابهم، فأجدني أستحي إن ترفّهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم، فالصّبر أيّاما يسيرة أحبّ إلىّ من أن ينقص حظّى غدا في الآخرة، و ما من شي‏ء أحبّ إلىّ من اللّحوق بأصحابي و إخواني، قالت عايشة: فو اللّه ما استكمل بعد ذلك جمعة حتّى قبضه اللّه إليه.

و عن أنس قال: جاءت فاطمة صلوات اللّه و سلامه عليها بكسرة خبز إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ما هذه الكسرة قالت: قرص خبزته و لم تطب نفسى حتى أتيتك منه بهذه الكسرة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما أنّه أوّل طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام، هذا، و سنورد فصلا مشبعا في فضيلة الجوع و فوايده بعد الفراغ من شرح الخطبة إنشاء اللّه.
(عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها) إشارة إلى ما ورد في غير واحد من الأحاديث العاميّة و الخاصيّة من أنّه صلّى اللّه عليه و آله عرض عليه مفاتيح كنوز الأرض فامتنع من قبولها.

منها ما في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن القاسم بن يحيى عن جدّة الحسن بن راشد عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: خرج النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو محزون، فأتاه ملك و معه مفاتيح خزائن الأرض فقال: يا محمّد هذه مفاتيح خزائن الدّنيا يقول لك ربّك: افتح و خذ منها ما شئت من غير أن تنقص شيئا عندى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الدّنيا دار من لا دار له و لها يجمع من لا عقل له، فقال له الملك: و الّذي بعثك بالحقّ لقد سمعت هذا الكلام من ملك يقوله في السّماء الرّابعة حين اعطيت المفاتيح.

و منها ما في الوسائل عن الكلينيّ عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل و فيه: ثمّ قال عليه السّلام: يا محمّد لعلّك ترى أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شبع من خبز البرّ ثلاثة أيّام منذ بعثه اللّه إلى أن قبض، ثمّ ردّ على نفسه ثمّ قال: لا و اللّه ما شبع من خبز البرّ ثلاثة أيّام متوالية منذ بعثه اللّه إلى أن قبضه، أما أنّي لا أقول إنّه كان لا يجد، لقد كان يجير الرجل الواحد بالمأة من الابل فلو أراد أن يأكل لأكل، و قد أتاه جبرئيل بمفاتيح خزائن الأرض ثلاث مرّات يخيّره من غير أن ينقص ممّا أعدّ اللّه له يوم القيامة شيئا، فيختار التّواضع للّه، الحديث.
و قد مرّ في شرح الكلام التّاسع و السّتين في التّذنيب الأوّل من شرحه المسوق لكيفيّة شهادة أمير المؤمنين عند اقتصاص حاله في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان حديث عرض المفاتيح برواية لوط بن يحيى بنحو آخر فتذكّر (و علم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئا) و لم يرده لأولياءه (فأبغضه) النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لنفسه لأنّه لا يشاء إلّا أن يشاء اللّه روى في إحياء العلوم عن موسى بن يسار قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يخلق خلقا أبغض إليه من الدّنيا و أنّه منذ خلقها لم ينظر إليها.

و فيه أيضا قال رسول اللّه: الدّنيا موقوفة بين السّماء و الأرض منذ خلقها اللّه لم ينظر إليها و تقول يوم القيامة: يا ربّ اجعلني لأدنى أوليائك اليوم نصيبا، فيقول اسكتي يا لا شي‏ء إنّي لم أرضك لهم في الدّنيا ارضاك لهم اليوم (و حقّر شيئا فحقّره) أى حقره النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لحقارته عند اللّه سبحانه كما روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجدى اسك ملقى على مزبلة ميّتا فقال‏ لأصحابه كم يساوى هذا فقالوا: لعلّه لو كان حيّا لم يساو درهما، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الّذي نفسي بيده الدّنيا أهون عند اللّه من هذا الجدي على أهله.

(و صغّر شيئا) أراد تصغيره بالنّسبة إلى ما أعدّه لأوليائه في الآخرة (فصغّره) قال في إحياء العلوم قال داود بن هلال: مكتوب في صحف إبراهيم عليه السّلام: يا دنيا ما هونك على الابرار الّذين تمنّعت و تزيّنت لهم إنّي قذفت في قلوبهم بغضك و الصّدود عنك، و ما خلقت خلقا أهون علىّ منك كلّ شأنك صغير، و إلى الفناء تصير قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومى لأحد، و لا يدوم لك أحد و إن بخل به صاحبك و شحّ عليك، طوبى للأبرار الّذين اطلعوني من قلوبهم على الرضا، و من ضميرهم على الصّدق و الاستقامة، طوبى لهم مالهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلىّ من قبورهم إلّا النّور يسعى أمامهم، و الملائكة حافّون بهم حتّى ابلغهم ما يرجون من رحمتى، هذا و لمّا ذكر أنّ الدّنيا مبغوضة للّه، حقيرة عنده و كذلك عند النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تبعا لرضائه تعالى، عقّب ذلك بالتنبيه على أنّ اللّازم على المتأسّي له صلّى اللّه عليه و آله و المقتصّ لأثره أن يبغض ما أبغضه اللّه و رسوله و يحقّر ما حقّراه و إلّا لكان موادّا لما حادّ اللّه و رسوله فقال (و لو لم يكن فينا إلّا خبّنا ما أبغض اللّه و رسوله و تعظيمنا ما صغّر اللّه و رسوله لكفى به شقاقا للّه) و مخالفة له (و محادّة عن أمر اللّه) أى معاداة و مجانبة عنه.

و إلى ذلك ينظر ما روى أنّ سلمان رضى اللّه عنه كان متحسّرا عند موته، فقيل له: يا أبا عبد اللّه على ما تأسّفك قال: ليس تأسّفي علي الدّنيا، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عهد إلينا و قال: لتكن بلغة أحدكم كزاد الراكب، و أخاف أن يكون قد جاوزنا أمره و حولى هذه الأساور، و أشار إلى ما في بيته و إذا هو دست و سيف و جفنة.

ثمّ أشار إلى تواضعه و تذلّله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مأكله و مجلسه و مركبه و غيرها فقال (و لقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأكل على الأرض و يجلس جلسة العبد) و قد ورد التصريح بذلك‏ في روايات كثيرة مرويّة في الوسائل في كتاب الأطعمة.

ففيه عن محمّد بن يعقوب الكلينيّ باسناده عن هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأكل أكل العبد، و يجلس جلسة العبد و يعلم أنّه عبد.
و عن الكليني عن الحسن الصّيقل قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول مرّت امرأة بذيّة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يأكل و هو جالس على الحضيض«» فقالت: يا محمّد إنّك تأكل أكل العبد و تجلس جلوسه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و أىّ عبد أعبد منّى.

و فيه عن البرقي عن عمرو بن جميع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأكل بالأرض، هذا.
و ظهور التّواضع في الأكل على الأرض واضح.
و المراد بأكله أكل العبد إمّا ذلك أعنى الأكل على الأرض، أو الأكل بثلاثة أصابع لا بالإصبعين كما يشعر به ما في الوسائل عن البرقي عن أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه كان يجلس جلسة العبد و يضع يده على الأرض و يأكل بثلاثة أصابع، و قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأكل هكذا ليس كما يفعله الجبّارون يأكل أحدهم بإصبعيه، أو الأكل من غير اتّكاء و يدلّ عليه ما في الوسائل عن الكلينيّ عن معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما أكل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متّكئا منذ بعثه اللّه إلى أن قبضه تواضعا للّه عزّ و جلّ.
و عن زيد الشّحام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما أكل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متّكئا منذ بعثه اللّه حتّى قبض كان يأكل أكلة العبد، و يجلس جلسة العبد، قلت: و لم ذلك قال: تواضعا للّه عزّ و جلّ.

و أما المراد من كون جلوسه جلسة العبد إمّا جلوسه على الأرض، و يدلّ عليه ما مر أو الجلوس من غير تربّع كما هو جلوس الملوك، و يدلّ عليه ما في الوسائل‏ عن الكلينيّ عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قال أمير المؤمنين عليه السّلام إذا جلس أحدكم على الطّعام فليجلس جلسة العبد و لا يضعنّ احدى رجليه على الأخرى و يتربّع، فانّها جلسة يبغضها اللّه و يمقتها.

أو الجلوس دون شرفه، و يفيده ما في الوسايل أيضا عن الكلينيّ مرسلا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل.
(و يخصف بيده نعله) و تضمّن لبس النّعل المخصوفة للتّواضع ظاهر لا سيّما إذا كان لابسها هو الخاصف، و قد تأسّي به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا الوصف مضافا إلى ساير الصّفات كما يفصح عنه ما مرّ في عنوان الخطبة الثّالثة و الثلاثين عن ابن عبّاس أنّه قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام بذى قار و هو يخصف نعله، فقال لي ما قيمة هذه النّعل فقلت: لا قيمة لها، فقال عليه السّلام: و اللّه لهى أحبّ إليّ من امرتكم إلّا أن اقيم حقّا أو أدفع باطلا.

(و يرقع بيده ثوبه و يركب الحمار العارى و يردف خلفه) و معلوم أنّ ركوب الحمار العاري آية التواضع و هضم النفس، و إرداف غيره خلفه آكد في الدّلالة عليه.
روى في الوسائل من العيون عن الرّضا عليه السّلام عن آبائه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال خمس لا أدعهنّ حتى الممات: الأكل على الحضيض مع العبد، و ركوبى الحمار موكفا«» و حلب العنز بيدي، و لبس الصوف، و التسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي.
و كذلك لبس الثوب المرقع لا سيما إذا كان اللّابس هو الراقع.
ثمّ أشار إلى مبغوضيّة الدّنيا و قيناتها عنده بقوله (و يكون الستر على باب بيته و يكون فيه التصاوير) الظاهر أنّ المراد به تصاوير الشجر و النبات و نحوها لا تصاوير الحيوان و غيره من ذوى الأرواح، إذ بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مهبط الوحى‏ و مختلف الملائكة و لا يدخل الملك بيتا فيه صورة مجسّمة كما ورد به الأخبار.

(فيقول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا فلانة لإحدى أزواجه غيّبي عنّي) الظّاهر أنه أراد بها عايشة كما يؤمى إليه في باب الزّهد من احياء العلوم قال: و رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على باب عايشة سترا فهتكه و قال: كلّما رأيته ذكرت الدّنيا أرسلى به إلى آل فلان.
قال الشارح البحراني: أمره بتغييب التصاوير محافظة من حركة الوسواس الخناس، و كما أنّ الأنبياء عليهم السّلام كانوا كاسرين للنفس الأمّارة بالسوء، و قاهرين لشياطينهم كانوا أيضا محتاجين إلى مراعاتهم و مراقبتهم و تفقّد أحوال نفوسهم في كلّ لحظة و طرفة، فانها كاللّصوص المخادعين للنفوس المطمئنّة مهما تركت و غفل عن قهرها و التحفّظ منها عادت إلى طباغها.

أقول: لا يخفى ما في هذا التعليل بعد الغضّ عن كونه خلاف ما يستفاد من كلامه عليه السّلام من الركاكة و السخافة و السماجة و إسائة الأدب بالنسبة إلى خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل و ساير أولياء الدّين و كيف يتصوّر في حقّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حركة الوسواس الخناس مع وجود ملكة العصمة و لو لم يغب عنه عليه السّلام التصاوير، بل الظاهر أنّ أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتغييبها إنما هو لأجل أنّ الدّنيا و زخارفها كانت مبغوضة عنده بالذات و مكروهة لديه بالطبع، فأمر بتغييبها لكونها موجبة لذكر ما يبغضه و يتنفّر عنه و يعاديه.

كما يومى إليه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (فانّى إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا و زخارفها) و يدلّ عليه صريحا قوله عليه السّلام الآتي و كذلك من أبغض شيئا آه (فأعرض صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الدنيا بقلبه و أمات ذكرها عن نفسه) و هو الزهد الحقيقي (و أحب أن تغيب زينتها عن عينه لكيلا يتّخذ منها رياشا) أى لباسا فاخرا، و ذلك لما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه يحب المبتذل الذي لا يبالي ما لبس قال في إحياء العلوم: قال أبو بردة: اخرجت لنا عايشة كساء ملبدا و إزارا غليظا فقالت: قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في هذين.

قال: و اشترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثوبا بأربعة دراهم و كانت قيمة ثوبيه عشرة و كان إزاره أربعة أذرع و نصفا و اشترى سراويل بثلاثة دراهم و كان يلبس شملتين بيضاوين و كانت تسمى حلّة لأنّهما ثوبان من جنس واحد، و ربّما كان يلبس بردين يمانين أو سحوليين من هذه الغلاظ، و كان شراك نعله قد اخلق فابدل بسير جديد فصلّى فيه فلما سلّم: قال اعيدوا الشراك الخلق و انزعوا هذا الجديد فانى نظرت إليه في الصلاة، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد احتذى مرّة نعلين جديدين فأعجبه حسنهما فخرّ ساجدا و قال: أعجبني حسنهما فتواضعت لربّي خشية أن يمقتني فدفعهما إلى أوّل مسكين رآه.

(و لا يعتقدها قرارا و لا يرجو فيها مقاما) لأنها دار مجاز لا دار قرار
أحلام نوم أو كظلّ زائل إنّ اللّبيب بمثلها لا يخدع‏

و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الدّنيا دار من لا دار له، و لها يجمع من لا عقل له، و عليها يعادي من لا علم له، و عليها يحسد من لا فقه له، و لها يسعى من لا يقين له و لنعم ما قيل:

أرى طالب الدّنيا و إن طال عمره
و نال من الدّنيا سرورا و أنعما

كبان بنى بنيانه فأقامه‏
فلمّا استوى ما قد بناه تهدّما

(فأخرج) محبّت (ها من النّفس و أشخص) رغبت (ها عن القلب و غيّب) زينت (ها عن البصر) و ذلك لفرط بغضه لها و نفرته عنها و كراهته إيّاها (و كذلك) حال (من أبغض شيئا) فانه إذا أبغضه (أبغض أن ينظر إليه و أن يذكر عنده) ثمّ أكّد ما قدّم و قال: (و لقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يدلّك على مساوى الدّنيا و عيوبها إذ جاع فيها مع خاصّته).

أمّا جوعه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد عرفته فيما تقدّم، و أقول هنا مضافا إلى ما سبق: روى أحمد بن فهد في عدّة الداعي أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصابه يوما الجوع فوضع صخرة على بطنه ثمّ قال: ألا ربّ مكرم لنفسه و هولها مهين، ألا ربّ مهين لنفسه و هو لها مكرم ألا ربّ نفس جايعة عارية في الدّنيا طاعمة في الآخرة ناعمة يوم القيامة، ألا ربّ نفس كاسية ناعمة في الدّنيا جايعة عارية يوم القيامة، ألا ربّ نفس متخوّض متنعّم فيما أفاء اللّه على رسوله ما له في الآخرة من خلاق، ألا إنّ عمل أهل الجنّة حزنة بربوة ألا إنّ عمل أهل النّار سهلة لشهوة، ألا ربّ شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا يوم القيامة.
و أما جوع خاصته فقد ورد في روايات مستفيضة.
منها ما في إحياء العلوم قال أبو هريرة: ما أشبع النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهله أعني أهل بيته و أزواجه و أهل بطانته من أصحابه ثلاثة أيّام تباعا من خبز الحنطة حتّى فارق الدّنيا، و قال إنّ أهل الجوع في الدّنياهم أهل الشّبع في الآخرة.

و فيه قال الفضيل ما شبع رسول اللّه منذ قدم المدينة ثلاثة أيّام من خبز البرّ قالت عايشة: كانت تأتي علينا أربعون ليلة و ما يوقد في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مصباح و لا نار، قيل لها: فيم كنتم تعيشون قال: بالأسودين: التّمر و الماء.

و أما جوع أخصّ خاصّته أعني أهل بيت العصمة و الطّهارة فهو غنيّ عن البيان، و كتب الخاصّة بل العامّة قد تضمّنت أخبارا كثيرا في ذلك المعنى، و لنقتصر على ثلاثة أحاديث.
أحدها ما رواه المحدّث الجزايري في الأنوار النّعمانيّة عن الصدوق طاب ثراه باسناده إلى خالد بن ربعى قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام دخل مكّة في بعض حوائجه فوجد اعرابيا متعلّقا بأستار الكعبة و هو يقول: يا صاحب البيت البيت بيتك و الضيف ضيفك و لكلّ ضيف من مضيفه قرى فاجعل قراى منك اللّيلة المغفرة فقال أمير المؤمنين عليه السّلام لأصحابه: أما تسمعون كلام الأعرابي قالوا: نعم قال عليه السّلام: اللّه اكرم من أن يردّ ضيفه.
قال: فلمّا كان من اللّيلة الثانية وجده متعلّقا بذلك الركن و هو يقول: يا عزيزا في عزّك فلا أعزّ منك في عزّك أعزّني بعزّ عزّك في عزّ لا يعلم أحد كيف هو أتوجّه إليك و أتوسّل إليك بحقّ محمّد و آل محمّد عليك اعطنى ما لا يعطيني أحد غيرك، و اصرف عني ما لا يصرفه أحد غيرك.

قال فقال أمير المؤمنين عليه السّلام لأصحابه: هذا و اللّه الاسم الأكبر بالسريانية أخبرني به حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سأله الجنّة فأعطاه و سأله صرف النار فصرفها عنه.

قال: فلما كان اللّيلة الثالثة وجده و هو متعلّق بذلك الركن و هو يقول: يا من لا يحويه مكان و لا يخلو منه مكان بلا كيفية كان ارزق الأعرابي أربعة آلاف درهم.
قال: فتقدّم إليه أمير المؤمنين عليه السّلام و قال يا اعرابي سألت ربّك فأقراك، و سألت الجنّة فأعطاك، و سألته أن يصرف عنك النار فصرفها عنك و في هذه اللّيلة تسأله أربعة آلاف درهم قال الاعرابي: من أنت قال عليه السّلام أنا علىّ بن أبي طالب قال الاعرابي: أنت و اللّه بغيتي و بك أنزلت حاجتي، قال عليه السّلام: سل يا اعرابي، قال: اريد ألف درهم للصداق، و ألف درهم اقضى بها (به خ) ديني، و ألف درهم اشترى بها دارا، و ألف درهم أتعيّش بها، قال أنصفت يا اعرابي فاذا خرجت من مكّة فسل عن دارى بمدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فأقام الاعرابي بمكّة اسبوعا فخرج في طلب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى المدينة و نادى من يدلّني على دار أمير المؤمنين عليه السّلام فقال الحسين بن عليّ من بين الصبيان أنا أدلّك على دار أمير المؤمنين و أنا ابنه الحسين بن عليّ، فقال الاعرابى: من أبوك قال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قال: من امّك قال: فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، قال: من جدّك قال: محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، قال من جدّتك قال خديجة بنت خويلد، قال: من أخوك قال أبو محمّد الحسن بن عليّ عليه السّلام، قال: قد أخذت الدّنيا بطرفيها امش إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و قل له إنّ الاعرابي صاحب الضمان بمكّة على الباب.

قال: فدخل الحسين بن عليّ عليهما السّلام فقال يا أبه اعرابيّ بالباب و يزعم أنه صاحب الضمان بمكّة، قال: فقال: يا فاطمة عندك شي‏ء يأكله الاعرابي قالت: اللّهم لا، فتلبّس أمير المؤمنين عليه السّلام و خرج و قال: ادعو الي أبا عبد اللّه سلمان الفارسي قال. فدخل سلمان الفارسي (رض) فقال عليه السّلام: يا أبا عبد اللّه اعرض الحديقة التي غرسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على التجار.

قال: فدخل سلمان إلى السوق و عرض الحديقة فباعها باثنى عشر ألف درهم‏و أحضر المال و أحضروا الاعرابي فأعطاه أربعة آلاف درهم و أربعين درهما نفقة، و وقع الخبر إلى سؤّال المدينة فاجتمعوا، و مضى رجل إلى فاطمة فأخبرها بذلك فقالت: آجرك اللّه في ممشاك، فجلس عليّ عليه السّلام و الدّراهم مصبوبة بين يديه حتّى اجتمع عليه أصحابه فقبض قبضة قبضة و جعل يعطى رجلا رجلا حتى لم يبق معه درهم واحد فلما أتى المنزل قالت له فاطمة عليه السّلام: يا ابن عم بعت الحائط الذى غرسه لك والدى، قال: نعم بخير منه عاجلا و آجلا، قالت: فأين الثمن قال دفعته إلى أعين استحييت أن أذلّها بذلّ المسألة اعطيتها قبل أن تسألنى، قالت فاطمة: أنا جايعة و أولادي جايعان و لا شكّ إلّا و أنّك مثلنا في الجوع لم يكن لنا منه درهم و أخذت بطرف ثوب عليّ، فقال عليّ: خلّيني، فقالت عليها السّلام: لا و اللّه أو يحكم بيني و بينك أبي.

فهبط جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا محمّد ربك يقرءك السّلام و يقول اقرء عليّا منّي السّلام و قل لفاطمة: ليس لك أن تضربي على يديه و لا تلزمى بثوبه فلمّا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزل عليّ عليه السّلام وجد فاطمة ملازمة لعليّ عليه السّلام، فقال لها با بنيّة ما لك ملازمة لعليّ قالت: يا أبت باع الحائط الّذي غرسته له باثنى عشر ألف درهم لم يحبس لنا منه درهما واحدا نشترى به طعاما، فقال: يا بنيّة إنّ جبرئيل يقرئني من ربّي السّلام و يقول: اقرء عليّا منّي السّلام و أمرني أن أقول لك ليس لك أن تضربي على يديه و لا تلزمي بثوبه، قالت فاطمة: أستغفر اللّه و لا أعود أبدا.

قالت فاطمة عليها السّلام: فخرج أبي في ناحية و زوجي في ناحية فما لبث أن أتى أبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه سبعة دراهم سود هجرية، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا فاطمة أين ابن عمّي فقلت له: خرج، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هاك هذه الدّراهم فاذا جاء ابن عمّي فقولي له يبتاع لكم بها طعاما، فما لبث إلّا يسيرا حتّى جاء عليّ عليه السّلام فقال: رجع ابن عمّي فانّي أجد رايحة طيّبة، قالت: نعم و قد دفع إلىّ شيئا تبتاع به طعاما قال: فقال عليّ عليه السّلام: هاتيه، فدفعت إليه سبعة دراهم سود هجريّة فقال: بسم اللّه‏و الحمد للّه كثيرا طيبا و هذا من رزق اللّه تعالى، ثمّ قال عليه السّلام: يا حسن قم معى فأتيا السّوق فاذا هما برجل واقف و هو يقول: من يقرض الملى الوفي قال: يا بنيّ نعطيه قال: اى و اللّه يا أبه، فأعطاه علىّ الدّراهم كلّها، فقال: يا أبتاه أعطيته الدّراهم كلّها قال: نعم يا بنيّ إنّ الّذي يعطى القليل قادر على أن يعطى الكثير.

قال: فمضى عليّ عليه السّلام إلى باب رجل يستقرض منه شيئا، فلقيه اعرابيّ و معه ناقة، فقال: يا عليّ اشتر منّي هذه النّاقة قال: ليس معى ثمنها قال: فاني انظرك به إلى القبض، قال: بكم يا اعرابي قال: بمأة درهم، فقال عليّ عليه السّلام: خذها يا حسن فأخذها.

فمضى عليّ عليه السّلام فلقيه اعرابي آخر المثال واحد و الثياب مختلفة فقال: يا علي تبيع النّاقة، قال عليّ عليه السّلام: و ما تصنع بها قال: أغزو بها أوّل غزوة يغزوها ابن عمّك قال عليه السّلام: إن قبلتها فهى لك بلا ثمن، قال: معى ثمنها و بالثّمن أشتريها، قال: فبكم اشتريتها قال عليه السّلام: بمأة درهم، قال الاعرابي: فلك سبعون و مأئة درهم، قال عليّ عليه السّلام للحسن عليه السّلام: خذ السّبعين و المأة و سلّم المأة للأعرابي الّذي باعنا الناقة و السبعين لنا نبتاع بها شيئا، فأخذ الحسن عليه السّلام الدّراهم و سلّم الناقة قال عليّ عليه السّلام: فمضيت أطلب الاعرابي الذي ابتعت منه الناقة لأعطيه ثمنه فرأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالسا لم أر فيه جالسا قبل ذلك اليوم و لا بعده على قارعة الطريق، فلما نظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليّ تبسّم ضاحكا حتّى بدت نواجذه، قال عليّ عليه السّلام أضحك اللّه سنّك و بشرك بيومك، فقال يا أبا الحسن إنك تطلب الاعرابي الذي باعك الناقة لتوفيه الثمن فقلت: إى و اللّه فداك أبي و امّي، فقال: يا أبا الحسن الّذي باعك النّاقة جبرائيل و الّذي اشتريها منك ميكائيل و الناقة من نوق الجنة و الدّراهم من عند ربّ العالمين فأنفقها في خير و لا تخف إقتارا.
الثاني ما روته العامة و الخاصة بروايات كثيرة تنيف على عشرين في سبب نزول سورة هل أتى، فلنقتصر على رواية واحدة.

و هي ما في غاية المرام عن الصّدوق بسندين مذكوريين فيه أحدهما عن ابن عبّاس، و ثانيهما عن الصّادق جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» قال عليه السّلام: مرض الحسن و الحسين و هما صبيّان صغيران فعادهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه رجلان«» فقال أحدهما لو نذرت في ابنيك نذرا إن عافاهما اللّه قال عليه السّلام أصوم ثلاثة أيّام للّه شكرا للّه عزّ و جلّ، و كذلك قالت فاطمة، و قال الصّبيان و نحن أيضا نصوم ثلاثة أيّام، و كذلك قالت جاريتهم فضّة فألبسهما اللّه العافية فأصبحوا صائمين، و ليس عندهم طعام.
فانطلق عليّ عليه السّلام إلى جار له من اليهود يقال له: شمعون يعالج الصّوف، فقال له: هل لك أن تعطيني جزّه من صوف تغزلها ابنة محمّد بثلاثة أصوع من شعير قال: نعم، فأعطاه، فجاء بالصّوف و الشّعير و أخبر فاطمة فقبلت و أطاعت، ثمّ عمدت فغزلت ثلث الصّوف ثمّ أخذت صاعا من الشّعير فطحنته و عجنته و خبزت منه خمسة أقراص لكلّ واحد منهم قرص، و صلّى عليّ عليه السّلام مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المغرب ثمّ أتى منزله فوضع الخوان و جلسوا خمستهم.

فأوّل لقمة كسرها عليّ عليه السّلام إذا مسكين واقف، فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني ممّا تأكلون أطعمكم اللّه من موائد الجنّة، فوضع اللّقمة من يده ثمّ قال عليه السّلام:

فاطم ذات المجد و اليقين
يا بنت خير النّاس أجمعين‏

أما ترين البائس المسكين‏
جاء إلى الباب له حنين‏

يشكو إلى اللّه و يستكين
يشكو إلينا جائع حزين‏

كلّ امرء بكسبه رهين‏
من يفعل الخير يكن حسين‏

موعده في جنّة و مين
حرّمها اللّه على الضّنين‏

و صاحب البخل يقف حزين‏
تهوى به النّار إلى سجّين‏
شرابه الحميم و الغسلين‏

فأقبلت فاطمة عليها السّلام تقول.

أمرك سمع يا ابن عم و طاعة
ما بى من لؤم و لا ضراعة

غذيت باللّب و بالبراعة
أرجو إذا أشبعت في مجاعة

أن الحق الخيار و الجماعة
و أدخل الجنّة في شفاعة

و عمدت إلى ما كان من الخوان فدفعته إلى المسكين و باتوا جياعا و أصبحوا صياما لم يذوقوا إلّا الماء القراح.
ثمّ عمدت إلى الثلث الثّاني من الصّوف فغزلته ثمّ أخذت صاعا من الشّعير فطحنته و عجنته و خبزت منه خمسة أقراص لكلّ واحد قرص، و صلّى عليّ عليه السّلام المغرب مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ أتا إلى منزله فلمّا وضع الخوان بين يديه و جلسوا خمستهم.

فأوّل لقمة كسرها عليّ عليه السّلام إذا يتيم من يتامى المسلمين قد وقف فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنا يتيم المسلمين أطعموني ممّا تأكلون أطعمكم اللّه على موائد الجنّة، فوضع عليّ عليه السّلام اللّقمة من يده ثمّ قال عليه السّلام:

فاطم بنت السّيد الكريم
بنت نبيّ ليس بالزّنيم‏

قد جاءنا اللّه بذا اليتيم‏
من يرحم اليوم فهو رحيم‏

موعده في جنّة النّعيم
حرّمها اللّه على اللّئيم‏

و صاحب البخل يقف ذميم‏
تهوى به النّار إلى الجحيم‏
شرابه الصّديد و الحميم‏

فأقبلت فاطمة عليها السلام تقول:

فسوف أعطيه و لا ابالي
و اوثر اللّه على عيالي‏

أمسوا جياعا و هم أشبالي‏
أصغرهما يقتل في القتال‏

في كربلا يقتل باغتيال
لقاتليه الويل و الوبال‏

تهوى به النّار إلى سفال‏
كبوله زادت على الأكبال‏

ثمّ عمدت فأعطته جميع ما على الخوان، و باتوا جياعا لم يذوقوا إلّا الماء القراح‏ فأصبحوا صياما.
و عمدت فاطمة عليها السّلام فعزلت الثّلث الباقي من الصّوف و طحنت الثّلث الباقي و عجنته و خبزت منه خمسة أقراص لكلّ واحد منهم قرص و صلّى عليّ عليه السّلام مع النّبيّ ثمّ أتى منزله فقرب إليه الخوان فجلسوا خمستهم.
فأوّل لقمة كسرها عليّ عليه السّلام إذا أسير من أسير المشركين قد وقف بالباب فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تأسرونا و تشدّونا و لا تطعمونا، فوضع عليّ عليه السّلام اللّقمة من يده ثمّ قال:

فاطم يا بنت النّبي أحمد
بنت نبيّ سيّد مسدّد

قد جاءك الأسير ليس يهتدى‏
ما يزرع الزارع سوف يحصد
فأعطيه و لا تخطيه بنكد

فأقبلت فاطمة عليها السّلام و هى تقول:

لم يبق ممّا كان غير صاع
قد دبرت كفّي مع الذّراع‏

شبلاى و اللّه هما جياع‏
يا ربّ لا تتركهما ضياع‏

أبوهما للخير ذو اصطناع
عبل الذّراعين طويل الباع‏

و ما على رأسي من قناع‏
إلّا عباء نسجها بصاع‏

و عمدوا إلى ما كان على الخوان فأعطوه و باتوا جياعا و أصبحوا مفطرين ليس عندهم شي‏ء.
قال شعيب في حديثه: و أقبل عليّ عليه السّلام بالحسن و الحسين عليهما السّلام نحو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هما يرتعشان كالفراخ من شدّة الجوع، فلمّا بصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: يا أبا الحسن أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم انطلق إلى بنتي فاطمة عليها السّلام فانطلقوا و هى في محرابها قد لصق بطنها بظهرها من شدّة الجوع و غارت عيناها،فلمّا رآها رسول اللّه ضمّها إليه، و قال: وا غوثاه أنتم منذ ثلاث فيما أرى فهبط جبرائيل فقال: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خذ ما هنالك في أهل بيتك، قال: و ما آخذ يا جبرئيل قال: « هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ» حتّى بلغ «إنّ هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا» و قال الحسن بن مهران في حديثه: فوثب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى دخل منزل فاطمة فرأى ما بهم فجمعهم ثمّ انكبّ عليهم يبكى، و قال: أنتم منذ ثلاث فيما أرى و أنا غافل عنكم، فهبط جبرائيل بهذه الآيات إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً قال: هى عين في دار النّبيّ يتفجّر إلى دور الأنبياء و المؤمنين يُوفُونَ بِالنَّذْرِ يعني عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين و جاريتهما فضّة وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً يقول عابسا كلوحا وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ يقول على حبّ شهوتهم الطّعام و ايثارهم له مِسْكِيناً من مساكين المسلمين وَ يَتِيماً من يتامى المسلمين وَ أَسِيراً من اسارى المشركين، و يقولون إذا أطعموهم إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً قال: و اللّه ما قالوا هذا و لكنّهم أضمروا في أنفسهم فأخبر اللّه باضمارهم يقول: لا نريد منكم جزاء تكافوننا به، و لا شكورا تثنون علينا به، و لكنّا إنّما نطعمكم لوجه اللّه و طلب ثوابه قال اللّه تعالى ذكره فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً نضرة في الوجوه و سرورا في القلب وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً جنّة يسكنونها و حريرا يفرشونه و يلبسونه مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ و الأرائك السّرير عليه الحجلّة لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً قال ابن عبّاس: فبينا أنّ أهل الجنّة في الجنّة إذا رأوا مثل الشّمس اشرقت له الجنان فيقول أهل الجنّة: يا ربّ إنّك قلت في كتابك لا يرون فيها شمسا، فيرسل اللّه جلّ اسمه إليهم جبرئيل فيقول: ليس هذه بشمس لكن عليّا و فاطمة ضحكا فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، و نزلت هل أتى فيهم إلى قوله: و كان سعيكم مشكورا.

أقول: و قد أثبتّ الرّواية برمّتها و إن كان خاتمتها خارجة من الغرض الذي‏نحن فيه شعفا منّي بذكر مآثر أمير المؤمنين و زوجته و الطّيّبين من أولادهما سلام اللّه عليهم، و فيما رويناه من الفضل الّذي تخصّصوا به ما لم يشركهم فيه أحد و لا ساواهم في نظير له مساو.

الثالث ما في الصافي من الأمالي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنه جاء إليه رجل فشكى إليه الجوع، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى بيوت أزواجه فقال: ما عندنا إلّا ماء، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لهذا الرّجل اللّيلة فقال عليّ بن أبي طالب: أنا له يا رسول اللّه و أتا فاطمة عليها السلام فقال لها: ما عندك يا ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: ما عندنا إلّا قوت العشيّة لكنا نؤثر ضيفنا، فقال: يا ابنة محمّد صلّى اللّه عليه و آله نومى الصبيّة و أطفى المصباح، فلما أصبح عليّ عليه السّلام غدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره الخبر، فلم يبرح حتى أنزل اللّه عزّ و جلّ «وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» هذا.

و قد ظهر لك ممّا تضمنّته هذه الرّوايات الثلاث الذي هو أنموذج ممّا تضمّنته ساير الرّوايات كيفيّة عيش رسول اللّه مع خواصّه في دار الدّنيا و زهدهم فيها و ايثارهم الآخرة على الاولى و أنّها قبضت عنه و عن أهل بيته (و زويت) أى صرفت و نحيت (عنه زخارفها) و زينتها (مع عظيم) تقرّبه و (زلفته فلينظر ناظر بعقله) أنه لو يكون في الدّنيا و الاكثار منها خير لم يفت هؤلاء الأكياس الذين هم أقرب الخلق إلى اللّه و خاصّته و حججه على ساير الناس، بل تقرّبوا إليه سبحانه بالبعد عنها، و تحبّبوا إليه تعالى بالبغض لها.
و ليتفكّر بفكرة سليمة أنه (أكرم اللّه تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله) و ساير أنبيائه و أوليائه (بذلك) الضيق في الدّنيا و الاعسار فيها (أم أهانه) و أهانهم.

(فان قال أهانه) و إيّاهم (فقد كذب و العظيم) ضرورة أنّ أحقر ملك من ملوك الدّنيا لا يقصد بأحد من خاصّته إذا كان مطيعا له منقادا لأمره مخلصا في طاعته الاهانة فكيف يصدر ذلك عن ملك السلوك و سلطان السلاطين حكيم الحكماء و رحيم الرحماء في حقّ أخصّ خواصّه و أقربهم إليه و أشدّهم زلفة عنده و اكثرهم‏ طاعة له.

(و إن قال أكرمه) و أكرمهم كما هو الحقّ و الصدق (فليعلم أنّ اللّه) قد (أهان غيره) و غيرهم إذ الشي‏ء إن كان عدمه إكراما و كمالا كان وجوده نقصا و إهانة ف (حيث بسط الدّنيا) له أى لذلك الغير (و زويها عن أقرب الناس منه) كان في بسطها له إهانة لا محالة.

(فتأسّي متأسّ بنبيّه و اقتصّ أثره و ولح مولجه) الفاء فصيحة و الجملات الثلاث إخبار في معنى الانشاء أى إذا عرف زهد النّبيّ في الدّنيا و علم أنّها دار هوان فليتأسّ المتأسّي به صلّى اللّه عليه و آله، و ليتبّع أثره و ليدخل مدخله و يحذو حذوه و ليرغب عنها.

(و إلّا فلا يأمن الهلكة) لأنّ حبّ الدّنيا و التّنافس فيها رأس كلّ خطيئة جاذبة من درجات النّعيم إلى دركات الجحيم.
و أوضح هذه العلّة بقوله (فانّ اللّه سبحانه جعل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله علما للسّاعة و مبشّرا بالجنّة و منذرا بالعقوبة) أى مطلعا بأحوال الآخرة جميعها، فحيث آثر الآخرة على الاولى و ترك الرّكون إليها مع اطلاعه عليهما علم أن ليس ذلك إلّا لكون الدّنيا مظنّة الهلاك، و العقبى محلّة النّجاة و الحياة، فالرّاكن إليها متعرّض للهلاك الدائم و الخزي الأبد لا محالة.

و يظهر لك عدم ركونه صلّى اللّه عليه و آله إليها بأنّه (خرج من الدّنيا خميصا) أى جائعا إمّا حقيقة أو كناية عن عدم الاستمتاع بها (و ورد الآخرة سليما) من التبعات و المكاره (لم يضع حجرا على حجر) كناية عن عدم بنائه فيها (حتّى مضى لسبيله و أجاب داعى ربّه).
قال الحسن: مات رسول اللّه و لم يضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة، رواه في إحياء العلوم.
و فيه أيضا قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا أراد اللّه بعبد شرّا أهلك ماله في الماء و الطّين.

و قال عبد اللّه بن عمر: مرّ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نحن نعالج خصّا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما هذا قلنا: خصّ لنا قد وهى، فقال: أرى الأمر أعجل من ذلك.
و قال الغزالي: و قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من بنى فوق ما يكفيه كلّف أن يحمله يوم القيامة، هذا.
و لمّا فرغ من التزهيد في الدّنيا و التّرغيب في الآخرة بالتّنبيه على هوانها و حقارتها بما لا مزيد عليه، و بشرح حال أولياء الدّين من خاتم النّبيّين و ساير الأنبياء و المرسلين سلام اللّه عليهم أجمعين في رفضهم لها و تركهم ايّاها، أردف ذلك بالاشارة إلى زهده و إظهار غاية الامتنان من اللّه سبحانه في إنعامه عزّ و جلّ عليه عليه السّلام بالتّأسّي بنبيّه فقال: (فما أعظم نعمة اللّه عندنا حين أنعم علينا به) أى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (سلفا نتّبعه و قائدا نطا عقبه) و نقفو أثره و نسلك سبيله في زهده.

و أوضح اتّباعه و تأسّيه به صلّى اللّه عليه و آله بالاشارة إلى بعض مراتب زهده فانّه أنموذج من ساير المراتب، و فيه عبرة لمن اعتبر، و كفاية لمن تذكّر، فقال: (و اللّه لقد رقعت مدرعتى هذه) و هو ثوب من صوف يتدرّع به (حتّى استحييت من راقعها) لكثرة رقاعها (و لقد قال لي قائل) لمّا رأى أنّها خلق و سمل (ألا تنبذها) و تطرحها (عنك فقلت) له (اعزب) أى غب و تباعد (عنّي فعند الصّباح يحمد القوم السّرى) و هو مثل يضرب لمن احتمل المشقّة عاجلا لينال الرّاحة آجلا.

و أصله أنّ المسافر إذا احتمل المشقّة و حرّم على نفسه لذة الرّقاد و بادر إلى السّرى من أوّل اللّيل و جدّ في سيره فانّه يبلغ عند الصّباح منزله و يصل إليه سالما غانما و ينزل أحسن المنازل و أشرفها مقدّما على غيره، و يستريح من تعب اللّيل و يكون محمودا، بخلاف من أخذه نوم الغفلة و آثر اللّذة العاجلة على الآجلة، فانّه إذا سرى في آخر اللّيل و في اخريات النّاس فانّه ربما يغيله اللّصوص فلا يسلم أو يضلّ عن الطّريق فيعطب، و مع سلامته يكون مسيره في حرّ النّهار على و صب و تعب، فيصل إلى المنزل بعد ما سبق غيره إلى أحسنه و أشرفه، فلا يجد له منزلا و مقيلا إلّا أردء المنازل و أدونها، فعند ذلك يلوم نفسه بتفريطه، و يذمّه غيره و يندم‏على ما فرّط و لا ينفعه النّدم.

و بهذا التّقرير انقدح لك وجه المطابقة بين المثال و الممثّل.
بيانه أنّ ذلك النشأة المشوبة بالكدورات و العلايق الظّلمانية البدنيّة بمنزلة اللّيل، و النّشأة الاخرويّة المطابقة لتلك النشأة الّتي هى دار التجرّد الصّافية عن الكدورات و العلاقات بمنزلة الصّباح الواقع عقيب اللّيل، و الوطن الأصلي للانسان هى الدّار الآخرة، و هو في الدّنيا بمنزلة المسافر، فمن ترك الدّنيا وجدّ في السّير إلى الآخرة بالمواظبة على الطّاعات و الرّياضات الشّاقّة الموصلة له إليها وصل إلى مقصده، و نزل في غرفات الجنان، و فيهنّ خيرات حسان فعند ذلك يكون محمودا مسرورا عند نفسه و عند الخالق و الخلايق لما صبر على مشاقّ الدّنيا و مقاساة الشّدائد.
و من أخذه نوم الغفلة فيها و اغترّ باللّذات الحاضرة و الشهوات العاجلة، و رد الآخرة و ليس له مقام إلّا سجّين، و لا شراب و طعام إلّا من حميم و غسلين، فعند ذلك يلومه نفسه و غيره و يندم على تقصيره، و يقعد ملوما محسورا و يدعو ثبورا

تذييلان الاول

قد مضى في مقدّمات شرح الخطبة الشقشقيّة و في غيرها بعض الكلام في زهد أمير المؤمنين عليه السّلام، و أقول هنا مضافا إلى ما سبق: روى في عدّة الدّاعي عن خبير بن حبيب قال: نزل بعمر بن خطّاب نازلة قام لها و قعد، و تربخ لها و تقطر«» ثمّ قال: يا معشر المهاجرين ما عندكم فيها قالوا: يا أمير المؤمنين أنت المفزع و المنزل، فغضب و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً، أما و اللّه إنّا و إيّاكم لنعرف ابن بجدتها«» و الخبيربها، قالوا: كأنّك أردت ابن أبي طالب قال: و أنّي يعدل بي عنه و هل طفحت جرّة بمثله قالوا: فلو بعثت إليه، قال: هيهات هيهات هناك شمخ من هاشم و لحمة من الرّسول و اثرة من علم يؤتى لها و لا يأتي، امضوا إليه فاقصفوا«» نحوه و أفضوا إليه، و هو في حايط له عليه تبّان يتركّل على مسحاته«» و هو يقول: «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى» و دموعه تهمى على خدّيه، فأجهش«» القوم لبكائه ثمّ سكن و سكنوا، و سأله عمر عن مسألة فأصدر إليه جوابها فلوى عمر يديه ثمّ قال: أما و اللّه لقد أرادك الحقّ و لكن أبى قومك، فقال عليه السّلام: يا أبا حفص خفّض عليك من هناك و من هنا إنّ يوم الفصل كان ميقاتا، فانصرف و قد أظلم وجهه و كأنّما ينظر إليه من ليل.

و فى شرح المعتزلي عن أحمد بن حنبل قال: لمّا ارسل عثمان إلى عليّ عليه السّلام وجدوه مؤتزرا بعباة محتجزا بعقال«» و هو يهنأ«» بعيرا له.
و في كشف الغمة من مناقب الخوارزمي عن عبد اللّه بن أبي الهذيل قال: رأيت على عليّ عليه السّلام قميصا زريّا إذا مدّه بلغ الظفر، و إذا أرسله كان مع نصف الذراع، و منه عن عديّ بن ثابت قال: اتي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بفالوذج فأبى أن يأكل منه، و قال: شي‏ء لم يأكل منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا أحبّ أن آكل منه.
و منه عن أبي مسطر قال: خرجت من المسجد فاذا رجل ينادي من خلفي: ارفع إزارك فانّه أتقى لثوبك و أبقى لك و خذ من رأسك إن كنت مسلما، فمشيت خلفه و هو مؤتزر بازار و مرتد برداء و معه الدّرة كأنّه أعرابيّ بدويّ، فقلت من هذافقال لي رجل أراك غريبا بهذا البلد، قلت: أجل رجل من أهل البصرة، قال: هذا عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام حتّى انتهى الى دار بني أبي معيط و هو سوق الابل فقال: بيعوا و لا تحلفوا فانّ اليمين تنفق السّلعة و تمحق البركة.

ثمّ أتى أصحاب التمر فاذا خادمة تبكى فقال: ما يبكيك قالت: باعنى هذا الرّجل تمرا بدرهم فردّوه موالىّ فأبى أن يقبله، فقال: خذ تمرك و أعطها درهمها فانّها خادم ليس لها أمر، فدفعه، فقلت أ تدرى من هذا قال: لا قلت: عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السّلام فصبّ تمره و أعطاها درهمها و قال: احبّ أن ترضى عنّى، فقال: ما أرضاني عنك إذا وفيتهم حقوقهم.

ثمّ مرّ مجتازا بأصحاب التّمر فقال: يا أصحاب التمر أطعموا المساكين يربو كسبكم.
ثمّ مرّ مجتازا و معه المسلمون حتّى أتى أصحاب السّمك فقال: لا يباع فى سوقنا طاف.
ثمّ أتى دار فرات و هو سوق الكرابيس فقال: يا شيخ أحسن بيعي في قميصي بثلاثة دراهم، فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئا، فأتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم و لبسه ما بين الرّسغين إلى الكعبين، و قال حين لبسه: الحمد للّه الّذي رزقني من الرّياش ما أتجمّل به في النّاس و اوارى به عورتي.

فقيل له: يا أمير المؤمنين هذا شي‏ء ترويه عن نفسك أو شي‏ء سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: بل شي‏ء سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقوله عند الكسوة: فجاء أبو الغلام صاحب الثّوب فقيل يا فلان قد باع ابنك اليوم من أمير المؤمنين عليه السّلام قميصا بثلاثة دراهم قال: أفلا أخذت منه درهمين.

فأخذ أبوه درهما و جاء به إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو جالس على باب الرّحبة و معه المسلمون، فقال: امسك هذا الدّرهم يا أمير المؤمنين، قال عليه السّلام: ما شأن هذا الدّرهم قال: كان ثمن قميصك درهمين، فقال: باعني رضاى و أخذ رضاه.
و منه قال ابن الأعرابي: إنّ عليّا عليه السّلام دخل السّوق و هو أمير المؤمنين فاشترى قميصا بثلاثة دراهم و نصف فلبسه في السّوق فطال أصابعه، فقال عليه السّلام‏

للخيّاط: قصّه، قال: فقصّه و قال الخيّاط: أحوصه«» يا أمير المؤمنين قال: لا و مشى و الدّرة على كتفه و هو عليه السّلام يقول: شرعك ما بلغك المحلّ شرعك«» ما بلغك المحل.
و في كشف الغمة أيضا قال هارون بن عنترة: قال حدّثني أبي قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بالخورنق و هو يرعد تحت سمل«» قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين إنّ اللّه تعالى قد جعل لك و لأهل بيتك في هذا المال ما يعمّ و أنت تصنع بنفسك ما تصنع فقال: و اللّه ما أرزاكم من أموالكم شيئا و انّ هذه لقطيفتي الّتي خرجت بها من منزلي من المدينة ما عندي غيرها.

و فيه و خرج عليه السّلام يوما و عليه ازار مرقوع فعوتب عليه فقال: يخشع القلب بلبسه و يقتدى بي المؤمنين إذا رآه عليّ.
و اشترى عليه السّلام يوما ثوبين غليظين فخيّر قنبرا فيهما، فأخذ واحدا و لبس هو الآخر، و رأى في كمّه طولا عن أصابعه فقطعه.

و كان عليه السّلام قد وليّ على عكبرا رجلا من ثقيف قال: قال لي عليّ عليه السّلام إذا صلّيت الظّهر غدا فعد إليّ، فعدت إليه في الوقت المعيّن فلم أجد عنده حاجبا يحبسني دونه فوجدته جالسا و عنده قدح و كوز ماء، فدعا بوعاء مشدود مختوم، فقلت: قد أمننى حتّى يخرج إلىّ جوهرا، فكسر الختم فاذا فيه سويق فأخرج منه فصبّه في القدح و صبّ عليه ماء فشرب و سقاني فلم أصبر فقلت له: يا أمير المؤمنين أتصنع هذا في العراق و طعامه كما ترى في كثرته فقال عليه السّلام: أما و اللّه ما أختم عليه بخلا به و لكنّى أبتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن ينقص فيوضع فيه من غيره و أنا أكره أن أدخل بطني إلّا طيّبا، فلذلك أحترز عليه كما ترى، فايّاك و تناول ما لا تعلم حلّه.

قال كاشف الغمّة بعد روايته لهذه الأخبار و غيرها ممّا تركنا روايتها خوف الاطالة: و كم له صلّى اللّه عليه من الآثار و الأخبار و المناقب الّتي لا تستر أو يستروجه النّهار، و السّيرة الّتي هى عنوان السّير، و المفاخر الّتي يتعلّم منها من فخر، و المآثر الّتي تعجز من بقى كما أعجزت من غبر، فأعجب بهذه المكارم و الأفعال الّتي هي غرر في جهات الأيّام، و الزّهادة الّتي فاق بها جميع الأنام، و الورع الّذي حمله على ترك الحلال فضلا عن الحرام، و العبادة الّتي أوصلته إلى مقام وقف دونه كلّ الأقوام.

و لمّا ألزم نفسه الشّريف تحمّل هذه المتاعب، و قادها إلى اتّباعه فانقادت انقياد الجنائب، و ملكها حتّى صاحب منها أكرم عشير و خير مصاحب، و استشارها ليختبرها فلم تنه إلّا عن منكر و لا أمرت إلّا بواجب صار له ذلك طبعا و سجيّة، و انضمّ عليه ظاهرا و نية، و اعمل فيه عزيمة بهمّة قويّة، و استوى في السّعى لبلوغ غاياته علانية و طويّة، فما تحرّك حركة إلّا بفكر و في تحصيل أجر، و في تخليد ذكر لا لطلب فخر و إعلاء قدر، بل لامتثال أمر و طاعة في سرّ و جهر، فلذلك شكر اللّه سعيه حين سعى، و عمّه بألطافه العميمة و رعى، و أجاب دعائه لما دعى، و جعل اذنه السّميعة الواعية فسمع و وعى، فاسأل اللّه بكرمه أن يحشرني و محبّيه و إيّاه معا.
قال كاشف الغمّة: أنشدني بعض الأصحاب لبعض العلويّين.

عتبت على الدّنيا و قلت إلى متى
أكابد عسرا ضرّه ليس ينجلي‏

أكلّ شريف من على جدوده‏
حرام عليه الرّزق غير محلّل‏

فقالت نعم يا ابن الحسين رميتكم
بسهمى عنادا حين طلّقني على

التذييل الثاني

لمّا كان هذا الفصل من خطبته عليه السّلام متضمّنا للتحريض على الجوع و الترغيب فيه تأسّيا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ساير السّلف الصّالحين أحببت أن أعرّفك فوايد الجوع‏و آفات الشّبع على ما يستفاد من الأخبار و يدلّ عليه الوجدان و التجربة فأقول: قال الغزالي في إحياء العلوم ما ملخّصه ببعض تصرّف و تغيير منّا: إنّ في الجوع عشر فوايد.

الفائدة الاولى صفاء القلب و إيقاد القريحة و إنفاذ البصيرة، فانّ الشّبع يورث البلادة و يعمى القلب و يكثر البخار في الدّماغ شبه السّكر حتّى يحتوي على معادن الفكر، فيثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار و عن سرعة الادراك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أحيوا قلوبكم بقلّة الضّحك و قلّة الشّبع، و طهّروها بالجوع تصفو و ترق.
و قال لقمان لابنه: يا بنىّ إذا امتلائت المعدة نامت الفكرة و خرست الحكمة و قعدت الأعضاء عن العبادة.
الثانية رقّة القلب و صفائه الّذي به يتهيّأ لادراك لذّة المناجاة و التّأثر بالذّكر، فكم من ذكر يجرى على اللّسان و لكنّ القلب لا يلتذّ به و لا يتأثّر حتّى كأنّ بينه و بينه حجابا من قسوة القلب، و إنّما يحصل التّلذّذ و التّأثّر بخلوّ المعدة كما هو معلوم بالتّجربة.

الثالثة الانكسار و الذّل و زوال البطر و الأشر و الفرح الّذي هو مبدء الطغيان و الغفلة عن اللّه كما قال تعالى «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏» فلا تنكسر النّفس و لا تذلّ بشي‏ء كما تذلّ بالجوع، فعنده تسكن لربّها و تخشع و تذعن بعجزها و ذلّها لما ذاقت حيلتها بلقمة طعام و أظلمت الدّنيا عليها بشربة ماء، و ما لم يشاهد الانسان ذلّ نفسه و عجزه لا يرى عزّة مولاه و لا قهره.

و لذلك إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا جاءه جبرئيل و عرض عليه خزائن الدّنيا و أبي من قبولها قال لجبرئيل: دعنى أجوع يوما و أشبع يوما، فاليوم الّذي أجوع فيه أتضرّع إلى ربّي و أسأله، و اليوم الّذي أشبع فيه أشكر ربّي و أحمده، فقال له جبرئيل: وفّقت لكلّ خير.

الرابعة التّذكّر بجوعه جوع الفقراء و المساكين و المحتاجين، لأنّ الانسان إنّما يقيس غيره على نفسه فيلاحظ حال الغير بملاحظة حاله، فاذا شاهد في نفسه ألم الجوع يعرف بذلك ما في المحتاجين من الألم، فيوجب ذلك مواساتهم، و يدعو إلى الاطعام و الشّفقة و الرّحمة على خلق اللّه، و الشّبعان بمعزل عن ذلك و غفلة منه.و لذلك قيل ليوسف عليه السّلام: لم تجوع و في يديك خزائن الأرض فقال: أخاف أن اشبع فانسى الجايع.

الخامسة التّذكّر به جوع يوم القيامة و عطشه، فانّ العبد لا ينبغي أن يغفل أهوال يوم القيامة و آلامها.
قال في عدّة الدّاعي: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أكثر النّاس شبعا أكثرهم جوعا يوم القيامة، لأنّ تذكّرها يهيج الخوف و الخشية من اللّه و هو زمام النّفس الأمّارة العاطف لها عن الفحشاء و المنكر.

السادسة و هي أعظم الفوايد كسرة شهوات المعاصي كلّها و الاستيلاء على النّفس فانّ منشأ المعاصى الشّهوات و القوى، و مادّة القوى و الشّهوات هى الأطعمة البتّة، فتقليلها يضعف كلّ شهوة و قوّة، و إنّما السّعادة كلّها في أن يملك الرّجل نفسه و لا يملكه نفسه و كما أنّك لا تملك الدّابة الجموح إلّا بضعف الجوع و الهزال فاذا شبعت قويت و شردت و جمحت، فكذلك النّفس.
و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشّيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدّم في العروق، فضيّقوا مجاريه بالجوع.

السابعة دفع النوم و دوام السّهر، فانّ من شبع شرب كثيرا، و من كثر شربه كثر نومه، و في كثرة النّوم ضياع العمر و فوات التهجّد و العمر أنفس الجواهر و هو رأس مال الانسان به يتّجر و يتزوّد لآخرته، و فضيلة التّهجّد غير خفيّة.

الثامنة تيسير المواظبة على العبادات، فانّ كثرة الأكل مانعة منها، لأنّها محتاجة إلى زمان يشتغل فيه بالأكل و مضغ الطّعام و ازدراده في الفم، و ربّما يحتاج إلى شراء الطّعام و طبخه و غسل اليد و نحوها، و في ذلك تفويت العمر و تضييع الوقت‏ فلو صرف زمانه المصروف إلى ذلك في الطّاعات و المناجاة لعظم أجره و كثر ربحه

التاسعة صحّة البدن و السّلامة من الأمراض، فانّ سببها كثرة الأكل و حصول فضلة الأخلاط في المعدة و العروق.
روى إنّ سقراط الحكيم كان قليل الأكل فقيل له في ذلك: فأجاب إنّ الأكل للحياة و ليس الحياة للأكل.

قال المحدّث الجزائري في زهر الرّبيع: ورد في الحديث أنّ حكيما نصرانيّا دخل على الصّادق عليه السّلام فقال: أفي كتاب ربّكم أم في سنّة نبيّكم شي‏ء من الطّب فقال: أمّا في كتاب ربّنا فقوله تعالى «كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا» و أمّا في سنّة نبيّنا: الاسراف في الأكل رأس كلّ داء و الحمية منه رأس كلّ دواء، فقام النّصراني و قال: و اللّه ما ترك كتاب ربّكم و لا سنّة نبيّكم شيئا من الطبّ لجالينوس قال: روي عنه عليه السّلام أنه لو سئل أهل القبور عن السّبب و العلّة في موتهم لقال أكثرهم التّخمة، فعلم من ذلك أنّ عمدة السبب للمرض هو كثرة الأكل و ممانعة المرض من العبادات و تشويشه للقلب و منعه من الذّكر و الفكر و تنغيصه للعيش معلوم.

العاشرة خفّة المؤنة، فانّ من اعتاد قلّة الأكل كفاه القليل من الطعام و اليسير من المال، بخلاف من تعوّد البطنة، فانّ بطنه صار غريما له آخذا بخناقه في كلّ يوم و ليلة، فيلجاه إلى أن يمدّ عين الطمع إلى الناس، و يدخل المداخل فيكتسب إما من الحرام فيعصى، أو من الحلال فيحاسب.

هذا كله مضافا إلى ما في قلّة الأكل من التمكّن من الايثار و التصدّق بفاضل قوته على الفقراء و المساكين، فيكون يوم القيامة في ظلّ صدقته، و قد تقدّم في شرح الخطبة المأة و التاسعة في فضايل الصوم و الصدقة ما يوجب زيادة البصيرة في هذا المقام فليتذكّر.

ثم انه بقى الكلام في مقدار قلّة الأكل، و قد عيّنه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيما رواه عنه في عدّة الدّاعي قال: و يروى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: حسب ابن آدم لقيمات يقمن‏ به صلبه، فان كان و لا بدّ فليكن الثّلث للطعام و الثّلث للشراب و الثّلث للنّفس.
قال القرطبي لو سمع بقراط بهذه القسمة لتعجّب في هذه الحكمة.
قيل: لا شكّ إنّ أثر الحكمة في هذا الحديث واضح و إنّما خصّ الثلاثة«» بالذّكر، لأنّها أسباب حياة الحيوان، لأنّه لا يدخل البطن سواها.

و مراتب الأكل على ما قاله بعضهم سبع: الاولى ما به تقوم الحياة الثانية أن يزيد حتّى أن يصوم و يصلّى عن قيام، و هذان واجبان الثالثة أن يزيد حتّى يقوى على أداء النوافل الرابعة أن يزيد حتّى يقدر على التكسّب للتّوسعة، و هذان مستحبّان الخامسة أن يملاء الثّلث و هذا جايز السادسة أن يزيد على ذلك فيثقل البدن و يكثر النوم، و هذا مكروه السابعة أن يزيد حتّى يتضرّر و هى البطنة المنهىّ عنها و هذا حرام، و يمكن إدخال الأولى إلى الثّانية و الثالثة إلى الرّابعة.

الترجمة

فصل دويم از اين خطبه متضمّن است ابطال دعوى بعض أهل زمان رجا بثواب خداوند را و خوف از عقاب آن مى‏فرمايد: ادّعا مى‏كند بزعم فاسد خود كه اميدوار است بخداى تعالى دروغ مى ‏گويد بحقّ خداى بزرگ، چيست حال او كه ظاهر نمى‏ شود رجا و اميدوارى در عمل او و هر كه اميد داشته باشد شناخته مى‏ شود اميدواري در عمل و كردار او مگر اميد بخداوند متعال كه بدرستي آن مغشوش است و معيوب، و هر ترس محقّق است مگر ترس از حق تعالى پس بدرستى كه آن معلولست و مريض، اميد مى‏دارد آن شخص بخدا در چيز بزرگ و اميد مى‏دارد به بندگان در چيز حقير پس مى‏دهد به بنده چيزى را كه نمى‏دهد بپروردگار، پس چيست شأن خداى عزّ و جل كه تقصير كرده مى‏شود بأو از آن چيزى كه رفتار مى‏شود با آن بر بندگان او، آيا مى‏ترسى كه‏ باشى در اميدوارى تو بأو دروغ گوى، يا باشى كه نه بينى او را از براى اميدوارى محل قابل.

و همچنين است اگر او بترسد از بنده از بندگان خدا عطا مى‏كند بأو از جهة خوف خود چيزى را كه عطا نمى‏كند بپروردگار خود، پس مى‏گرداند ترس خود را از بندگان نقد و ترس خود را از خالق خود وعده غير اميدوار، و همين قرار است كسى كه عظم و شأن داشته باشد دنيا در چشم او، و بزرگ باشد وقع دنيا از قلب او ترجيح مى‏دهد آن دنيا را بر خدا پس بالكلّيه رجوع نمايد بآن دنيا و برگردد بنده از براى آن.

و بتحقيق كه هست در رفتار و كردار حضرت رسالتمآب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كفايت كننده مر تو را در تأسّى و پيروى نمودن بآن بزرگوار و راه نماينده از براى تو بر مذمت دنياى فانى و كثرت مهالك و معايب آن، از جهة اين كه بسته شد از او اطراف آن، و مهيا شد از براى غير او جوانب او، و باز گرفته شد از شيرخوارى دنيا، و دور كرده شد از زينتهاى آن.
و اگر بخواهى دو تا گردانى اعراض حضرت رسالتمآب را از دنيا با اعراض و زهد حضرت موسى كليم اللّه وقتى كه گفت بخداوند تعالى: بار پروردگارا بدرستى من محتاجم به آن چه كه فرو مى‏فرستى بمن از طعام، قسم بخدا كه سؤال نمى‏كرد از خداوند مگر نانى كه بخورد آنرا، بجهة اين كه بود آن حضرت مى‏خورد سبزي زمين را، و بتحقيق كه بود سبزى تره ديده مى‏شد از پوست درون شكم او بجهة لاغري او و كمى گوشت او.

و اگر مى‏خواهى سه تا گردانى آنرا با زهد حضرت داود عليه السّلام صاحب مزمارهاى زبور و قرائت كننده أهل بهشت، پس بتحقيق كه بود عمل مى‏كرد ببافته‏شده‏هاى برگ درخت خرما يعنى زنبيل مى‏بافت بدست خود مى‏گفت بهمنشينان خود كدام يك از شما كفايت مى‏كند مرا بفروختن اين، و مى‏خورد نان جوى از قيمت آن.

و اگر بخواهى بگوئى در عيسى بن مريم عليه السّلام پس بتحقيق كه بود بالش اخذ مى‏نمود سنگ را، و مى‏پوشيد جامه درشت را، و بود نان خورش او گرسنگى و چراغ او در شب روشنائى ماه، و سايه بانهاى او در فصل زمستان مشرقهاى آفتاب و مغربهاى آن، و ميوه او و ريحان او آنچه كه مى‏رويانيد آن را زمين از براى حيوانات و نبود او را زنى كه مفتون نمايد او را، و نه فرزندى كه محزون كند او را، و نه مالى كه برگرداند او را از حق، و نه طمعى كه ذليل بگرداند او را، مركب او پايهاى او بود، و خدمتكار او دستهايش بود.

پس تأسّى كن به پيغمبر پاك پاكيزه خودت صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، پس بتحقيق كه در اوست قابليّت متبوعيّت از براى كسى كه اقتدا و تبعيّت نمايد، و لياقت انتساب از براى كسى كه نسبت خود را باو بدهد، و دوسترين بندگان بسوى خدا كسى است كه تأسّى نمايد به پيغمبر خود و متابعت كند أثر او را، خورد دنيا را خوردنى اندك بأطراف دندان و پر نكرد از آن دهان خود را، و نظر التفات بسوى او نگماشت، لاغرترين أهل دنيا بود از حيثيّت تهى‏گاه، و گرسنه‏ترين ايشان بوده از حيثيّت شكم، عرض كرده شد بر او خزاين دنيا پس امتناع فرمود از قبول آن و دانست كه خداى تعالى دشمن داشته چيزى را پس دشمن گرفت آن حضرت نيز آنرا، و حقير گرفته چيزى را پس حقير گرفت آن حضرت نيز آن را، و كوچك و بى‏مقدار شمرده چيزى را پس كوچك شمرد آن هم او را.

و اگر نشود در ما هيچ چيز مگر محبّت ما بچيزى كه دشمن داشته خدا و رسول او، و تعظيم ما چيزى را كه خوار و خرد شمرده خدا و رسول او هر آينه كفايت مى‏كند آن از حيثيّت مخالفت مر خدا را، و از حيثيّت معاداة و مجانبت از فرمان آن.

و بتحقيق كه بود حضرت رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مى‏خورد طعام را بر روى زمين، و مى‏نشست مانند نشستن غلام، و مى‏ دوخت با دست خود كفش خودش را، و پينه مى‏زد با دست خود رخت خود را، و سوار مى‏شد بر دراز گوش برهنه و رديف ميكرد در پس خود ديگرى را، و مى‏بود پرده بر در خانه آن حضرت پس مى‏شد در آن پرده نقش نگارها، پس مى‏ فرمود بر يكى از زوجات خود: أى فلانه پنهان كن اين را از نظر من، پس بدرستى كه من زمانى كه نظر مى‏كنم بسوى آن ياد مى‏كنم دنيا و زينتهاى آنرا.

پس اعراض فرمود از دنيا بقلب مبارك خود، و معدوم ساخت ذكر دنيا را از نفس نفيس خود، و دوست گرفت كه غايب شود زينت آن از چشم جهان بين خود تا اين كه اخذ ننمايد از دنيا لباس فاخرى، و اعتقاد نكند آنرا آرامگاهى، و اميد نگيرد در آن اقامت را، پس بيرون نمود دنيا را از نفس نفيس، و كوچانيد حبّ دنيا را از خواطر أنور، و غايب گردانيد آن را از نظر آفتاب منظر، و همچنين است هر كس كه دشمن مى‏گيرد چيزى را دشمن مى‏گيرد آنكه نگاه كند بسوى آن و آنكه ذكر بشود نام و نشان آن در نزد او.

و بتحقيق كه هست در رسول خدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم چيزى كه دلالت كند ترا بر بديهاى دنيا و عيبهاى آن از جهت اين كه گرسنه ماند در دنيا با خواصّ خودش، و دور كرده شد از او زينتهاى آن با وجود بزرگى قرب و منزلت او.
پس بايد كه نظر كند نظر كننده بعقل خود كه آيا گرامى داشته خداى تعالى محمّد مصطفى صلّى اللّه عليه و آله را به سبب اين، يا خوار نموده آن را پس اگر گويد خوار فرموده او را پس بتحقيق كه دروغ گفته قسم بخداى بزرگوار، و اگر گويد گرامى داشته او را پس بايد كه بداند آنكه خداى متعال بتحقيق كه خوار كرده غير او را از جهة اين كه بسط فرموده دنيا را از براى آن غير، و صرف نموده دنيا را از أقرب خلق بسوى او.
پس بايد كه تأسّى نمايد تأسّى كننده به پيغمبر برگزيده خود، و پيروى نمايد أثر او را، و داخل شود بمحلّ دخول آن، و إلّا پس أيمن نشود از هلاكت.

پس بدرستى كه خداى تعالى گردانيد محمّد مصطفى صلّى اللّه عليه و آله را نشانه از براى قيامت، و بشارت دهنده به بهشت، و ترساننده با عقوبت، بيرون رفت آن حضرت از دنيا در حالتى كه شكم تهى بود، و وارد شد بآخرت در حالتى كه سالم بود از مكاره‏ و معايب، ننهاد سنگ بالاى سنگى تا اين كه در گذشت براه خود و اجابت فرمود دعوت كننده پروردگار خود را.

پس چه قدر بزرگست منّت و نعمت خدا در نزد ما وقتى كه انعام فرمود با آن حضرت بر ما پيش روى كه متابعت كنيم او را، و پيشوائى كه كام مى‏نهيم در پى او، قسم بخدا بتحقيق كه پينه دوزاندم اين درّاعه خود را تا بمرتبه كه خجالت كشيدم از پينه دوزنده آن، و بتحقيق كه گفت مرا گوينده: آيا نمى‏اندازى آن را از خودت پس گفتم كه دور شو از من كه در نزد صبح ستايش كرده مى ‏شوند مردمان شب رونده.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 158 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 159 صبحی صالح

159- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  ) يبين فيها حسن معاملته لرعيته‏

وَ لَقَدْ أَحْسَنْتُ جِوَارَكُمْ

وَ أَحَطْتُ بِجُهْدِي مِنْ وَرَائِكُمْ

وَ أَعْتَقْتُكُمْ مِنْ رِبَقِ الذُّلِّ وَ حَلَقِ الضَّيْمِ

شُكْراً مِنِّي لِلْبِرِّ الْقَلِيلِ

وَ إِطْرَاقاً عَمَّا أَدْرَكَهُ الْبَصَرُ

وَ شَهِدَهُ الْبَدَنُ مِنَ الْمُنْكَرِ الْكَثِيرِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و الثامنة و الخمسون من المختار فى باب الخطب

و لقد أحسنت جواركم، و أحطت بجهدي من ورائكم، و أعتقتكم من ربق الذّلّ، و حلق الضّيم، شكرا منّي للبرّ القليل، و إطراقا عمّا أدركه البصر، و شهده البدن من المنكر الكثير.

اللغة

(الجوار) بالضمّ و قد يكسر المجاورة و (الرّبق) بالكسر وزان حمل حبل فيه عدّة عرى يشدّ به البهم و كلّ عروة ربقة بالكسر و الفتح و يجمع على ربق كعنب و أرباق كأصحاب و رباق كجبال و (الحلق) بالتحريك جمع الحلقة بسكون اللّام علي غير القياس و ربّما يجمع على حلق بالسّكون كبدرة و بدر و على حلّق كقصعة و قصع، و حكى يونس عن أبي عمرو بن العلا أنّ الحلقة بالفتح، و على هذا فالجمع بحذف الهاء قياس كقصبة و قصب، قاله الفيومى في مصباح اللّغة.

الاعراب

الواو في قوله: و لقد، للقسم و المقسم به محذوف لكونه معلوما، و شكرا مفعول له للأفعال المتقدّمة على سبيل التنازع، و من في قوله: من المنكر، بيان لما أدركه.

المعنى

الظّاهر أنّه خاطب به أهل الكوفة، و الغرض منه المنّ على المخاطبين‏و التّنبيه على حسن مداراته عليه السّلام معهم و صفحه عنهم و الغض عن خطيئاتهم على كثرتها كما قال (و لقد أحسنت جواركم) أي مجاورتكم أى كنت لكم جار حسن و قد وقع نظير التعبير بهذه اللّفظة في كلامه عليه السّلام المأة و التّاسع و العشرين حيث قال هناك: و إنّما كنت جارا جاوركم بدنى أيّاما، و أراد بمجاورته لهم مطلق المصاحبة و المعاشرة على سبيل الكناية.
و يجوز أن يراد به معناه الحقيقى، لأنّه عليه السّلام ارتحل من المدينة إلى البصرة لجهاد النّاكثين، و احتاج إلى الاستنصار بأهل الكوفة إذ لم يكن جيش الحجاز وافيا بمقابلتهم، ثمّ اتّصلت تلك الفتنة بفتنة أهل الشّام فاضطرّ إلى المقام بينهم و صار جارا لهم كما تقدّم الاشارة إلى ذلك في الكلام السّبعين و شرحه.
(و أحطت بجهدى من ورائكم) قيل: أراد بالاحاطة من الوراء دفع من يريدهم بشرّ لأنّ العدوّ غالبا يكون من وراء الهارب.

أقول: بل الظّاهر أنّه أراد أنّه كان به عليه السّلام قوّة ظهرهم و شدّ ازرهم (و أعتقتكم من ربق الذّل و حلق الضّيم) و الظلم أراد به أنّه دفع عنهم ذلّ الاسر و ظلم الأعداء، و المقصود حمايته عليه السّلام لهم و اعتزازهم به (شكرا منّي للبرّ القليل) أى ثناء منّى و محمدة لأفعالكم الحسنة على قلّتها (و إطراقا) أى سكوتا و غضّا (عمّا أدركه البصر و شهده البدن من المنكر الكثير) و إطراقه عنهم مع مشاهدتهم على المنكرات على كثرتها إمّا لعدم تمكّنه من الانكار و الرّدع بالعنف و القهر، أولا نجراره إلى ما هو أعظم فسادا و مفسدة ممّاهم عليه.
قال الشّارح البحراني: و ظاهر أنّهم كانوا غير معصومين، و محال أن يستقيم دولة أو يتمّ ملك بدون الاحسان إلى المحسنين من الرّعيّة و التّجاوز عن بعض المسيئين.

الترجمة

از جمله خطب فصاحت نظام و بلاغت فرجام آن امام أنام است در اظهار حسن رفتار و كردار خود نسبت بأصحاب و أتباع مى ‏فرمايد:قسم بخدا هر آينه بتحقيق نيكو كردم همسايگى شما را و حقّ جوار را خوب بجا آوردم، و احاطه نمودم بقدر طاقت خود از پس شما، و آزاد كردم شما را از ريسمانهاى ذلّت و از حلقه‏ هاى ظلم و ستم بجهت تشكّر از من مر نيكوئى اندك شما را كه آن طاعت قليل شما است نسبت بمن، و بجهة سكوت و چشم در پيش افكندن از آنچه كه درك نمود آن را چشم من و مشاهده كرد آن را بدن من از منكرات و أعمال قبيحه كثيره، بجهت اين كه دفع آن مؤدّى بر فساد عظيم مى‏ شد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 157 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 158 صبحی صالح

158- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  ) ينبه فيها على فضل الرسول الأعظم، و فضل القرآن، ثم حال دولة بني أمية

النبي و القرآن‏

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ

وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ

وَ انْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ

فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ

وَ النُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ

ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَ لَنْ يَنْطِقَ

وَ لَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ

أَلَا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي

وَ الْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي وَ دَوَاءَ دَائِكُمْ

وَ نَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ

دولة بني أمية

و منهافَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ إِلَّا وَ أَدْخَلَهُ الظَّلَمَةُ تَرْحَةً

وَ أَوْلَجُوا فِيهِ نِقْمَةً

فَيَوْمَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ فِي السَّمَاءِ عَاذِرٌ

وَ لَا فِي الْأَرْضِ نَاصِرٌ

أَصْفَيْتُمْ بِالْأَمْرِ غَيْرَ أَهْلِهِ

وَ أَوْرَدْتُمُوهُ غَيْرَ مَوْرِدِهِ

وَ سَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِمَّنْ ظَلَمَ

مَأْكَلًا بِمَأْكَلٍ وَ مَشْرَباً بِمَشْرَبٍ

مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ

وَ مَشَارِبِ الصَّبِرِ وَ الْمَقِرِ

وَ لِبَاسِ شِعَارِ الْخَوْفِ وَ دِثَارِ السَّيْفِ

وَ إِنَّمَا هُمْ مَطَايَا الْخَطِيئَاتِ وَ زَوَامِلُ الْآثَامِ

فَأُقْسِمُ ثُمَّ أُقْسِمُ لَتَنْخَمَنَّهَا أُمَيَّةُ مِنْ بَعْدِي كَمَا تُلْفَظُ النُّخَامَةُ

ثُمَّ لَا تَذُوقُهَا وَ لَا تَطْعَمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و السابعة و الخمسون من المختار فى باب الخطب

و الظاهر أنّها مع الخطبة الثّامنة و الثّمانين متّحدتان ملتقطتان من خطبة طويلة قدّمنا روايتها من الكافي في شرح الخطبة التي أشرنا اليها أرسله على حين فترة من الرّسل، و طول هجعة من الامم، و انتقاض من المبرم، فجاءهم بتصديق الّذي بين يديه، و النّور المقتدى به، ذلك القرآن فاستنطقوه و لن ينطق، و لكن أخبركم عنه، ألا إنّ فيه علم ما يأتي و الحديث عن الماضي، و دواء دائكم، و نظم ما بينكم. منها- فعند ذلك لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلّا و أدخله الظّلمة ترحة، و أولجوا فيه نقمة، فيومئذ لا يبقى لهم في السّماء عاذر، و لا في الأرض ناصر، أصفيتم بالأمر غير أهله، و أوردتموه غير ورده، و سينتقم اللّه ممّن ظلم مأكلا بمأكل، و مشربا بمشرب، من مطاعم العلقم، و مشارب الصّبر و المقر، و لباس شعار الخوف، و دثار السّيف، و إنّما هم مطايا الخطيئات، و زوامل الآثام، فاقسم ثمّ أقسم لتنخمنّها أميّة من بعدي كما تلفظ النّخامة، ثمّ لا تذوقها و لا تتطعّم بطعمها أبدا ما كرّ الجديدان.

اللغة

(الفترة) بين الرّسل انقطاع الوحى و الرّسالة و (الهجعة) النّومة من اللّيل أو من أوّله و (أبرم) الحبل جعله طاقين ثمّ فتله و أبرم الأمر أحكمه و (الترحة) المرّة من التّرح بالتحريك الهمّ و الحزن و (أصفيت) فلانا بكذا خصّصته به و (المأكل) و (المشرب) مصدران بمعنى الأكل و الشّرب و يجوز هنا أن يجعلا بمعنى المفعول و (المقر) ككتف الصّبر أو شبيه به أو السمّ كالمقروزان‏ فلس و (الشعار) ما يلي الجسد من الثّياب و (الدّثار) ما فوقه و (المطايا) جمع مطيّة و هى الدّابة تمطو أى تجدّ في سيرها و (الزّوامل) جمع الزّاملة و هي الّتي يحمل عليها من الابل و غيرها و (تنخم) دفع بشي‏ء من أنفه أو صدره و (النّخامة) بالضمّ النّخاعة.

الاعراب

على في قوله عليه السّلام: على فترة بمعنى في كما في قوله تعالى: عَلى‏ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها عَلى‏ مُلْكِ سُلَيْمانَ.
و من في قوله: من الرّسل نشوية و كذا في قوله: من الامم و من المبرم، و الباء في قوله فجاءهم بتصديق آه يحتمل المصاحبة و التّعدية.

قال الشّارح المعتزلي: مأكلا منصوب بفعل مقدّر أى يأكلون مأكلا، و الباء هنا للمجازاة الدّالّة على الصّلة كقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ و قال سبحانه قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ و قال البحراني: و مأكلا و مشربا منصوبان بفعل مضمر و التّقدير و يبدلهم مأكلا بمأكل.

أقول: الظّاهر أنّ الباء على ما قرّره الشّارح المعتزلي من الفعل سببيّة لا للمجازاة، و إن كان مراده بالمجازاة هى السّببيّة فلا مشاحة، و على تقرير البحراني فهى للمقابلة، و على قول الأوّل فمن في قوله: من مطاعم العلقم و مشارب الصبر، بيان لمأكلا و مشربا، و على قول الثّاني فهى بيان لقوله: بمأكل و مشرب فافهم جيّدا.
و الانصاف أنّه لا حاجة إلى تقدير الفعل، بل يجعل مأكلا و مشربا مفعولين لظلم بواسطة الحرف المقدّر، و يجعل قوله: بمأكل متعلّقا بينتقم، و على ذلك‏ فيكون من مطاعم بيانا لقوله: لمأكل كما قدّمناه في قول البحراني، و تقدير الكلام و سينتقم اللّه ممن ظلم أحدا في أكل أو شرب بأكل من مطاعم العلقم و بشرب من مشارب الصّبر، و على ذلك فيستقيم الكلام على أحسن نظام كما هو غير خفيّ على اولى الأفهام.

المعنى

اعلم أنّ مدار هذه الخطبة على فصلين:

الفصل الاول

في الاشارة إلى بعثة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فضيلته عليه السّلام و فضيلة ما جاء به من كتاب اللّه سبحانه و هو قوله (أرسله على حين فترة من الرّسل و طول هجعة من الامم) قد تقدّم شرح هاتين القرينتين في شرح الخطبة الثّامنة و الثّمانين، فليراجع ثمّة (و انتقاض من المبرم) أى انتقاض ما أبرمه الأنبياء و الرّسل من أحكام الدّين و أحكموه من قوانين الشرع المبين (فجاءهم بتصديق الّذي بين يديه) أى جاءهم الرّسول مصاحبا بالتّصديق أى مصدّقا لما قبله فيكون التّصديق وصفا لنفس الرسول كما قال تعالى: وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ.

و على كون الباء للتّعدية فالمعنى أنّه أتاهم بكتاب فيه تصديق الّذي بين يديه، فيكون المصدّق هو الكتاب كما قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ.
قال في مجمع البيان: أى لما قبله من كتاب و رسول عن مجاهد و قتادة و الرّبيع و جميع المفسّرين و إنّما قيل لما بين يديه لما قبله لأنّه ظاهر له كظهور الّذي بين يديه.

و قال الفخر الرّازي في تفسير هذه الآية: الوصف الثّاني لهذا الكتاب قوله: مصدّقا لما بين يديه، و المعنى أنّه مصدّق لكتب الأنبياء عليهم السّلام و لما أخبروا به عن اللّه عزّ و جلّ.
ثمّ في الآية وجهان: الأوّل أنّه تعالى دلّ بذلك على صحّة القرآن لأنّه لو كان من عند غير اللّه لم يكن موافقا لساير الكتب، لأنّه كان امّيا لم يختلط بأحد من العلما و لا تلمّذ لأحد و لا قرء على أحد شيئا، و المفترى إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب و التّحريف، فلمّا لم يكن كذلك ثبت أنّه عرف هذه القصص بوحى اللّه الثّاني قال أبو مسلم: المراد منه أنّه تعالى لم يبعث نبيّا قطّ إلّا بالدّعاء إلى توحيده و الايمان به و تنزيهه عمّا لا يليق به، و الأمر بالعدل و الاحسان و الشّرايع الّتي هي صلاح كلّ زمان، فالقرآن مصدّق لتلك الكتب في كلّ ذلك بقي في الآية سؤالان: الأوّل كيف سمّى ما مضى بأنّه بين يديه و الجواب أنّ تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم.

الثاني كيف يكون مصدّقا لما تقدّمه من الكتب مع أنّ القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام و الجواب إذا كانت الكتب مبشّرة بالقرآن و بالرّسول و دالّة على أنّ أحكامها تثبت إلى حين بعثته و أنّها تصير منسوخة عند نزول القرآن كانت موافقة للقرآن، فكان القرآن مصدّقا لها، و أمّا فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أنّ القرآن مصدّق لها، لأنّ دلائل المباحث الالهيّة لا تختلف في ذلك، فهو مصدّق لها في الأخبار الواردة في التوراة و الانجيل، هذا.

و الأظهر كون التّصديق في قوله عليه السّلام: وصفا للقرآن و الباء فيه للتّعدية بقرينة قوله (و النّور المقتدى به) فانّه وصف له أيضا و كونه نورا يهتدى به في ظلمات الجهل، و يقتدى بأحكامه ظاهر، قال سبحانه:قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ.

(ذلك) الموصوف بما تقدّم هو (القرآن) المنزل من عند اللّه إعجازا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (فاستنطقوه) يحتمل أن يكون المراد به الأمر باستفهام مضامينه و تفهم ما تضمّته من الحقائق و الدقايق و الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام.

و لمّا كان التّفهّم عنه بنفسه غير ممكن لاشتماله على المحكم و المتشابه و النّاسخ و المنسوخ و الظّاهر و الباطن و التنزيل و التأويل و غيرها عقّبه بقوله (و لن ينطق) أى لا يمكن تفهيمه بنفسه أبدا بل لا بدّ له من مترجم فأردفه بقوله (و لكن أخبركم عنه) تنبيها على أنّه عليه السّلام مترجمه و قيّمة و مفهم معانيه و ظواهره و بواطنه.

و يجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل فيكون المراد باستنطاقهم له إنطاقهم إياه و لمّا كان ذلك موهما لكونه ذا نطق بنفسه أتى بقوله: و لن ينطق، من باب الاحتراس الّذي عرفت في ديباجة الشّرح من المحسنات البديعية ثمّ عقّبه بقوله: و لكن اخبركم عنه تنبيها على أنّه خطّ مسطور بين الدّفتين ليس له لسان بل لا بدّ له من ترجمان و هو عليه السّلام لسانه و ترجمانه و إلى ذلك يشير عليه السّلام في الخطبة المأة و الثانية و الثّمانين بقوله: فالقرآن آمر زاجر و صامت ناطق، أى صامت بنفسه و ناطق بترجمانه، و لعلّنا نذكر لهذا الكلام معنى آخر في مقامه إنشاء اللّه حيثما بلغ الشّرح إليه هذا.

و قد تقدّم في التّذييل الثّالث من تذييلات الفصل السّابع عشر من الخطبة الاولى الأدلّة العقليّة و النقليّة على أنّ دليل القرآن و قيّمه و ترجمانه و العالم بمعانيه و مبانيه و بأسراره و بواطنه و ظواهره هو أمير المؤمنين عليه السّلام و الطيّبون من أولاده سلام اللّه عليهم جميعا.

و قد علمت هناك أيضا أنّ القرآن مشتمل على علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن و إليه أشار هنا بقوله (ألا إنّ فيه علم ما يأتي) أى أخبار اللّاحقين كليّاتها و جزئياتها و أحوال الموت و البرزخ و البعث و النّشور و القيامة و الجنّة و النّار و درجات الجنان و دركات الجحيم و أحوال السّابقون إلى الاولى و السّائرون إلى الأخرى، و تفاوت مراتب المثابين و المعاقبين في الثواب و العقاب شدّة و ضعفا و قلّة و كثرة و غير ذلك ممّا يحدث في المستقبل.

(و الحديث عن الماضي) أى أخبار السّابقين و كيفيّة بدء الخلق من السّماء و الأرض و الشّجر و الحجر و النّبات و الانسان و الحيوان و قصص الأنبياء السّلف و اممهم و معاصريهم من ملوك الأرض و السّلاطين و غير ذلك ممّا مضى.
(و دواء دائكم) لاشتماله على الفضايل العلميّة و العمليّة بها يحصل اصلاح النّفوس و الشّفاء من الأمراض النّفسانيّة و البرء من داء الغفلة و الجهالة (و نظم ما بينكم) لتضمّنه القوانين الشّرعية و الحكمة السّياسيّة الّتي بها نظام العالم و استقامة الأمور.

الفصل الثاني (منها)

في وصف حال بني اميّة و الاخبار عن ملكهم و ظلمهم و زوال دولتهم بعد فسادهم في الأرض و هو قوله (فعند ذلك لا يبقى بيت مدر و لا وبر) أى أهل الحضر و البدو (إلّا و أدخله الظلمة) من بني أميّة و من أعوانهم (ترحة) أى همّا و حزنا (و اولجوا) أى ادخلوا (فيه نقمة) و عقوبة (فيومئذ) يحيق بهم العذاب و (لا يبقى لهم في السّماء عاذر) أى ناصر (و لا في الأرض ناصر) فيزول دولتهم و يكسر صولتهم.

و أردف ذلك بتوبيخ المخاطبين الرّاضين بفعل الظّلمة و المتقاعدين عن ردعهم عن ظلمهم فقال (أصفيتم بالأمر) أى آثرتم بأمر الخلافة (غير أهله) الّذي هو حقّ له (و أوردتموه غير ورده) أى أنزلتموه عند من لا يستحقّه من الأوّل و الثاني و الثّالث و من يحذ و حذوهم من معاوية و ساير بني اميّة، إذ الخطاب في أصفيتم‏  إن كان متوجّها إلى المخاطبين الحاضرين إلّا أنّ المراد به العموم كساير الخطابات الشّفاهيّة.

(و سينتقم اللّه ممّن ظلم مأكلا بمأكل و مشربا بمشرب من مطاعم العلقم و مشارب الصّبر و المقر) أى يبدل نعمتهم بالنّقمة و مطاعمهم اللّذيذة الشّهية بالمريرة.
قال الشّارح البحراني: و استعار لفظ العلقم و الصّبر و المقر لما يتجرّعونه من شدايد القتل و أحوال العدوّ و مرارات زوال الدّولة (و) ينتقم أيضا ب (لباس شعار الخوف و دثار السّيف) أى بالخوف اللّازم لهم لزوم الشّعار و بالسّيف اللّازم عليهم لزوم الدّثار، و تخصيص الشّعار بالخوف و الدّثار بالسيف لأنّ الخوف باطن في القلوب و السّيف ظاهر في البدن كما أنّ الشّعار ما كان يلي الجسد من الثّياب و الدّثار ما فوقه فناسب الأوّل بالأوّل و الثّاني بالثّاني (و انّما هم مطايا الخطيئات و زوامل الآثام) يعنى أنّهم حمّال المعاصي و السّيئات لكون حركاتهم و سكناتهم كلّها على خلاف القانون الشّرعي.

ثمّ أخبر عن زوال ملكهم و أتى بالقسم البارّ المؤكّد تنبيها على أنّ المخبر به واقع لا محالة فقال (فاقسم) باللّه العليم (ثمّ اقسم) به و إنّه لقسم لو تعلمون عظيم (لتنخمنّها اميّة) أى لتلفظنّ الخلافة بنو أميّة (من بعدى كما تلفظ النخامة) أى تدفع من الصدر و الأنف (ثمّ لا تذوق) لذّت (ها و لا تتطعم بطعمها أبدا ما كرّ الجديدان) أى اللّيل و النهار يعني أنّهم لا يجدون حلاوتها و لا يستلذّون بها و لا ينالون إليها أبدا الدّهر، لأنه تعالى قد أخبر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ مدّة ملكهم ألف شهر بقوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.

و أخبره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السّلام و أولاده الطاهرين.
روى في الصافي عن عليّ بن إبراهيم القمّي (ره) قال: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قرودا تصعد منبره فغمّه ذلك، فأنزل اللّه سورة القدر:إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
تملك بنو أميّة ليس فيها ليلة القدر.

و فيه عن الكافي عن الصادق عليه السّلام أري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في منامه أنّ بني أميّة يصعدون على منبره من بعده و يضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيبا حزينا قال عليه السّلام: فهبط عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا رسول اللّه مالى أراك كئيبا حزينا قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلّون النّاس عن الصراط القهقرى، فقال: و الذي بعثك بالحقّ نبيا إنّي ما اطّلعت عليه، فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآى من القرآن يونسه بها قال: أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ و أنزل عليه إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.

جعل اللّه ليلة القدر لنبيّه خيرا من ألف شهر ملك بني أميّة، و في معناه اخبار أخر هذا و قد تقدّم تفصيل زوال الدّولة الأمويّة و انقراضهم بيد السّفاح في شرح الخطبة المأة و الرّابعة، فليراجع هناك.

الترجمة

از جمله خطب آن بزرگوار و وليّ پروردگار است در بعثت پيغمبر آخر الزمان و فضيلت قرآن و وصف حال بني اميّة و ظلم ايشان و زوال دولت آنها بعد از فساد و طغيان مى‏ فرمايد: فرستاد خداى تبارك و تعالى پيغمبر مختار را در زمان منقطع شدن وحى و خالى ‏بودن آن از پيغمبران، و بر درازى خواب غفلت از أمّتان، و هنگام شكسته شدن ريسمان پرتاب شريعت پيشينان، پس آورد بايشان تصديق آن چيزى را كه پيش از او بود از توراة و انجيل و زبور، و آورد نورى را كه اقتدا و تبعيّت مى‏ شود بآن، آن نور عبارتست از قرآن پس طلب كنيد نطق و گفتار او را و حال آنكه أبدا گويا نخواهد شد، و لكن من خبر دهم شما را به مضمون آن از جهة اين كه منم ترجمان قرآن آگاه باشيد بدرستى در قرآن است علم آنچه كه خواهد آمد و خبر از گذشته يعنى متضمّن علم أوّلين و آخرين است، و در اوست دواء درد شما و نظام ما بين شما.

از جمله آن خطبه است مى‏ فرمايد: پس نزد دولت بنى أميّه باقى نمى‏ماند هيچ خانه كه ساخته شده باشد از گل و خشت و نه خانه كه بنا شده باشد از پشم يعنى نمى‏ماند عمارتى در شهر و نه خرگاهى در بيابان مگر اين كه داخل مى‏كنند ظلام در آن خانه همّ و حزن را، و در آورند در آن عقوبت و نقمت را، پس در آن روز باقى نماند از براى ظلام در آسمان عذر آورنده، و نه در زمين يارى كننده، اختيار كرديد شما بأمر خلافت غير أهل آن را، و وارد كرديد أمر خلافت را در غير محلّ او، و زود باشد كه انتقام بكشد خداوند قهّار از كسى كه ظلم كرده باشد كسى را در مأكول و مشروبى با مأكول و مشروبى كه از مأكولات تلخ است و از مشروبات تلخ و بد مزه، و با لباس باطني خوف و ترس و با لباس ظاهرى شمشير، و بدرستى كه ايشان شتران بار كش گناهانند و شتران توشه معاصى، پس قسم مى‏خورم بخدا باز قسم مى‏خورم البته مى‏اندازد خلافت را بنى اميه بعد از من چنانچه انداخته شود آب دهن از دهن پس از آن نچشند هرگز چاشنى خلافت را، و نمى‏خورند طعام آن را هيچ مادامى كه باز گردد شب و روز.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 156 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 157 صبحی صالح

157- و من خطبة له ( عليه‏ السلام ) يحث الناس على التقوى‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ
وَ سَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ
وَ دَلِيلًا عَلَى آلَائِهِ وَ عَظَمَتِهِ
عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ
لَا يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ
وَ لَا يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ
آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ
مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ
مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلَامُهُ
فَكَأَنَّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ
فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ
وَ ارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ
وَ مَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ
وَ زَيَّنَتْ لَهُ سَيِّئَ أَعْمَالِهِ
فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ
وَ النَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ
اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ
وَ الْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ
لَا يَمْنَعُ أَهْلَهُ
وَ لَا يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ
أَلَا وَ بِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا
وَ بِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى
عِبَادَ اللَّهِ اللَّهَ اللَّهَ فِي أَعَزِّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ
وَ أَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَ أَنَارَ طُرُقَهُ
فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ
فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ
قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ
وَ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ
وَ حُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ
فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ‏وُقُوفٍ
لَا يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّيْرِ
أَلَا فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ
وَ مَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ
وَ تَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وَ حِسَابُهُ
عِبَادَ اللَّهِ
إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ
وَ لَا فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ
عِبَادَ اللَّهِ احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الْأَعْمَالُ
وَ يَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ
وَ تَشِيبُ فِيهِ الْأَطْفَالُ
اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ
وَ عُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ
وَ حُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ
وَ عَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ
لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ
وَ لَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ
وَ إِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ
يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ
وَ يَجِي‏ءُ الْغَدُ لَاحِقاً بِهِ
فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ
وَ مَخَطَّ حُفْرَتِهِ
فَيَا لَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ
وَ مَنْزِلِ وَحْشَةٍ وَ مُفْرَدِ غُرْبَةٍ
وَ كَأَنَّ الصَّيْحَةَ قَدْ أَتَتْكُمْ
وَ السَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ
وَ بَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ
قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ الْأَبَاطِيلُ
وَ اضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ
وَ اسْتَحَقَّتْ‏بِكُمُ الْحَقَائِقُ
وَ صَدَرَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ مَصَادِرَهَا
فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ وَ اعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ
وَ انْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و السادسة و الخمسون من المختار في باب الخطب

الحمد للّه الّذي جعل الحمد مفتاحا لذكره، و سببا للمزيد من فضله، و دليلا على آلاءه و عظمته، عباد اللّه إنّ الدّهر يجري بالباقين كجريه بالماضين، لا يعود ما قد ولّى منه، و لا يبقى سرمدا ما فيه، آخر فعاله كأوّله، متشابهه أموره، متظاهرة أعلامه، فكأنّكم‏بالسّاعة تحدوكم حدو الزّاجر بشوله، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظّلمات، و ارتبك في الهلكات، و مدّت به شياطينه في طغيانه، و زيّنت له سىّ‏ء أعماله، فالجنّة غاية السّابقين، و النّار غاية المفرطين، اعلموا عباد اللّه أنّ التّقوى دار حصن عزيز، و الفجور دار حصن ذليل، لا يمنع أهله، و لا يحرز من لجأ إليه، ألا و بالتّقوى تقطع حمة الخطايا، و باليقين تدرك الغاية القصوى، عباد اللّه اللّه اللّه في أعزّ الأنفس عليكم، و أحبّها إليكم، فإنّ اللّه قد أوضح لكم سبيل الحقّ، و أنار طرقه، فشقوة لازمة، أو سعادة دائمة، فتزوّدوا في أيّام الفناء لأيّام البقاء، قد دللتم على الزّاد، و أمرتم بالظّعن، و حثثتم على المسير، فإنّما أنتم كركب وقوف لا تدرون متى تؤمرون بالسّير، ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة، و ما يصنع بالمال من عمّا قليل يسلبه، و يبقى عليه تبعته و حسابه، عباد اللّه إنّه ليس لما وعد اللّه من الخير مترك و لا فيما نهى عنه من الشّرّ مرغب، عباد اللّه احذروا يوما تفحص فيه الأعمال، و يكثر فيه الزّلزال، و تشيب فيه الأطفال، اعلموا عباد اللّه أنّ عليكم رصدا من أنفسكم، و عيونا من جوارحكم، و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم، و عدد أنفاسكم، لاتستركم منهم ظلمة ليل داج، و لا يكنّكم منهم باب ذور تاج، و إنّ غدا من اليوم قريب، يذهب اليوم بما فيه، و يجي‏ء الغد لاحقا به، فكأنّ كلّ امرء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، و مخطّ حفرته، فيا له من بيت وحدة، و منزل وحشة، و مفرد غربة، و كأنّ الصّيحة قد أتتكم، و السّاعة قد غشيتكم، و برزتم لفصل القضاء، قد زاحت عنكم الأباطيل، و اضمحلّت عنكم العلل، و استحقّت بكم الحقائق، و صدرت بكم الامور مصادرها، فاتّعظوا بالعبر، و اعتبروا بالغير، و انتفعوا بالنّذر.

اللغة

(زجر) البعير من باب نصر ساقه و (شول) جمع شائلة على غير قياس و هى من الابل ما أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجفّ لبنها و جمع الجمع أشوال، و أمّا الشّائل بغير هاء فهى النّاقة تشول و ترفع ذنبها للقاح و الجمع شوّل مثل راكع و ركّع و (الحمة) بضمّ الحاء و فتح الميم ابرة العقرب و هى محلّ سمّها، و ربّما يطلق على نفس السمّ، و يروى حمّة بالتّشديد من حمة الحرّ و هو معظمة و (رتج) الباب أغلقه كارتجه و (مخطّ حفرته) في بعض النّسخ بالخاء المعجمة لأنّ القبر يخطّ أوّلا ثمّ يحفر، و في بعضها بالحاء المهملة من حطّ القوم إذا نزلوا.

الاعراب

قوله: اللّه اللّه في أعزّ الأنفس، منصوبان على التّحذير، و حذف العامل وجوبا اي احذروا اللّه أو اتّقوا اللّه قال نجم الأئمة: و حكمة اختصاص وجوب الحذف‏بالمحذر منه المكرّر كون تكريره دالّا على مقارنة المحذر منه للمحذر بحيث يضيق الوقت إلّا عن ذكر المحذر منه على أبلغ ما يمكن، و ذلك بتكريره و لا يتّسع لذكر العامل مع هذا المكرّر، و إذا لم يكرّر الاسم جاز إظهار العامل اتّفاقا و قوله: فشقوة لازمة أو سعادة دائمة، مرفوعان على الخبريّة أى فعاقبتكم شقوة أو سعادة، أو مبتدءان محذوفا الخبر، و لا يضرّ نكارتهما لكونهما نكرة موصوفة و التّقدير فشقوة لازمة لمن نكب عنها أو سعادة دائمة لمن سلكها، أى سلك هذه الطرق، و يجوز أن يكونا فاعلين لفعل محذوف.

و قوله: فما يصنع، استفهام انكارى على سبيل التّقريع و التّوبيخ، و عن في قوله. عمّا قليل، بمعنى بعد، و الضّمير في قوله: انّه ليس آه للشّأن، و إضافة المخطّ إلى حفرته من باب الاضافة في سعيد كرز إذ المراد بهما القبر، و قوله: فيا له من بيت وحدة، النّداء للتّفخيم و التّهويل، و اللّام للاستغاثة، و الضّمير في له، راجع إلى مخطّ حفرته، و من بيت وحدة تميز.

قال الرّضيّ: و قد يكون الاسم في نفسه تامّا لا لشي‏ء آخر أعنى لا يجوز اضافته فينصب عنه التميز و ذلك في شيئين: أحدهما الضّمير و هو الأكثر و ذلك فيما فيه معنى المبالغة و التّفخيم كمواضع التّعجب نحويا له رجلا و يا لها قصّة و يا لك ليلا و يا لها خطّة «إلى أن قال» فان كان الضّمير فيها«» لا يعرف المقصود منه فالتّميز عن المفرد كقول امرء القيس:

فيا لك من ليل كأنّ نجومه
بكلّ مغار القتل شدّت بيذبل‏

و إن عرف المقصود من الضّمير برجوعه إلى سابق معيّن كقولك: جائني زيد فيا له رجلا و ويله فارسا و يا ويحه رجلا و لقيت زيدا فللّه درّه رجلا، أو بالخطاب لشخص معيّن نحو قلت لزيد يا لك من شجاع و للّه درّك من رجل و نحو ذلك، فليس التميز عن المفرد، لأنّه لا إبهام إذا في الضّمير بل عن النّسبة الحاصلة بالاضافة، كما يكون كذلك إذا كان المضاف إليه فيها ظاهرا، نحو يا لزيد رجلاو للّه درّ زيد رجلا إلى آخر ما ذكره.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشّريفة قد خطب بها للنّصح و الموعظة و تنبيه المخاطبين من نوم الغفلة و الجهالة، و افتتحها بما هو حقيق أن يفتتح به كلّ كلام ذى بال أعني حمد اللّه سبحانه و الثناء عليه تعالى بجملة من نعوت كماله فقال (الحمد للّه الّذي جعل الحمد مفتاحا لذكره) قال الشّارح المعتزلي: لأنّ أوّل الكتاب العزيز الحمد للّه ربّ العالمين، و القرآن هو الذكر قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.

أقول: هذا إنّما يتمّ لو كان سورة الفاتحة أوّل ما نزل من القرآن أو يكون هذا الجمع و الترتيب و وقوع الفاتحة في البداء بجعل من اللّه سبحانه.
أمّا الثّاني فباطل قطعا إذ نظم السّور و تأليفها و ترتيبها على ما هى عليه الآن إنّما كان في زمن عثمان و من فعله حسبما عرفته في تذييلات شرح الفصل السّابع عشر من الخطبة الاولى.

و أمّا الأوّل فهو أيضا غير معلوم بعد، بل المشهور بين المفسّرين أنّ أوّل سورة نزلت بمكّة هو سورة اقرء باسم ربك، و قد رواه في مجمع البيان في تفسير سورة هل أتى عن ابن عباس و غيره، نعم قد روى هناك عن سعيد بن المسيّب عن عليّ عليه السّلام أنّ اوّل ما نزل بمكّة فاتحة الكتاب، ثمّ اقرء باسم ربّك.

فالأولى أن يقال إنّ المراد أنه سبحانه جعل الحمد مفتاحا لذكره في عدّة سور، و اطلاق الذكر على السورة لا غبار عليه كما أنّ القرآن يطلق على المجموع و على البعض من سورة و آية و نحوها (و سببا للمزيد من فضله) بمقتضى وعده الصادق في كتابه العزيز أعني قوله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.(و دليلا على آلائه و عظمته) أمّا كونه دليلا على آلائه فيحتمل معنيين.

أحدهما أنه دليل للحامد على آلائه سبحانه أى على الفوز بها إذ الحمد و الشّكر سببان للوصول إلى النّعم موجبان لزيادتها حسبما عرفت آنفا، و أنّها منه دون غيره، فمن حمد له تعالى فقد اهتدى بحمده إلى نيل نعمه.
و ثانيهما أنّ الحمد للّه تعالى دليل على أنّه صاحب الآلاء و النّعم إذ الحمد لا يليق إلّا بوليّ النّعمة، و لعلّ الثاني أظهر.
و أمّا كونه دليلا على عظمته فلدلالته على عدم تناهي قدرته و عدم نفاد ملكه و خزائنه إذ كلّما ازداد الحمد ازدادت النّعمة لا يزيده كثرة العطاء إلّا كرما وجودا فسبحان من لا تفنى خزائنه المسائل، و لا تبدل حكمته الوسائل.
و لمّا فرغ من حمد اللّه سبحانه شرع في التّذكير و الموعظة فقال (عباد اللّه إنّ الدّهر يجري بالباقين كجريه بالماضين) يعني أنّ جريانه بالأخلاف كجريانه بالأسلاف قال الشّاعر:

فما الدّهر إلّا كالزمان الّذي مضى
و لا نحن إلّا كالقرون الأوائل‏‏

و هو من تشبيه المعقول بالمعقول، إذ الجرى أمر عقلاني غير مدرك باحدى الحواس الخمس، و من باب التّشبيه المفصل للتّصريح بوجه الشّبه و كونه مذكورا في الكلام و هو قوله (لا يعود ما قد ولّي منه و لا يبقى سرمدا ما فيه) يعني أنّ ما ولّي منه و أدبر فقد فات و مضى لا عود له أبدا، و ما هو موجود فيه فهو في معرض الزّوال و الفناء ليس له ثبات و لا بقاء، إذ وجود الزّماني إنّما هو بوجود زمانه، فيكون منقضيا بانقضائه، و في هذا المعنى

قال الشّاعر:

ما أحسن الأيّام إلّا أنّها
يا صاحبيّ إذا مضت لم ترجع‏

(آخر فعاله كأوّله) و عن بعض النّسخ كأوّلها فالضّمير راجع إلى فعاله، و على ما في المتن فالضّمير راجع إلى الدّهر فيحتاج إلى تقدير مضاف كأوّل فعاله، و المراد واحد و انّ هو أجزاء الزّمان أوّلا و آخرا سابقا و لا حقا على وتيرة واحدة و نسق واحد أي (متشابهة اموره) فانّه كما كان أوّلا يعدّ قوما للفقر و آخرين للغنى و طائفة للصحّة و اخرى للمرض، و فرقة للضّعة و اخرى للرّفعة، و جمعا للوجود

و آخر للعدم، و هكذا كذلك هو آخرا، و بالجملة فانّ حديثه يخبر عن قديمه، و جديده ينبى‏ء عن عتيقه قال الشّارح المعتزلي: و روى متسابقة اموره، أى شي‏ء منها قبل كلّ شي‏ء كأنّها خيل تتسابق في مضمار (متظاهرة أعلامه) أى دلالاته على سجيّته و شيمته و أفعاله الّتي يعامل بها النّاس قديما و حديثا تظاهر بعضها بعضا و تعاضده هذا.
و نسبة هذه الأمور إلى الدّهر و إن كان الفاعل في الحقيقة هو الرّب تعالى باعتبار كونه من الأسباب المعدّة لحصول ما يحصل في عالم الكون و الفساد من الخير و الشّر و السّعة و الضّيق حسبما عرفت في شرح الخطبة الثّانية و الثلاثين.

و قوله (فكأنّكم بالساعة تحدوكم حد و الزّاجر بشوله) قد مرّ تحقيق الكلام في شرح نظير هذا الكلام له عليه السّلام في شرح الخطبة الحادية و العشرين و استظهرنا هناك أنّ المراد بالسّاعة ساعات اللّيل و النّهار، لأنّها تسوق النّار إلى الدّار الآخرة و يسعى النّاس بها إليها، و يجوز أن يراد بها هنا القيامة و إن لم نجوّزه فيما تقدّم لاباء لفظة ورائكم هناك عنه، و لعلّ إرادة هذه هنا أظهر بملاحظة لفظة فكأنّكم فتأمّل.

و تسميتها بالسّاعة باعتبار أنّ النّاس يسعى إليها، فيكون المقصود به الاشارة إلى قرب القيامة و كونها حادية للمخاطبين باعتبار أنّها لا بدّ للنّاس من الحشر اليها و الاجتماع فيها للسّؤال و الجواب و الحساب و الكتاب و الثواب و العقاب لا مناص لهم عن وقوفها فكأنّها تسوقهم إليها ليجتمعوا فيها و ينظر إلى أعمالهم و إنّما شبّه حدوهم بحدو الزّاجر بشوله لأنّ سائق الشّول إنّما يسوقها بعنف و سرعة لخلوّها من الضّرع و اللّبن بخلاف سائق العشار فانّه يرفق بها و لا يزجرها كما هو ظاهر.

و لمّا نبّه على قرب السّاعة و أنّها تحدو المخاطبين أردفه بالتّنبيه على وجوب الاشتغال بالنّفس أى بصرف الهمّة إلى محاسبتها و إصلاحها و تزكيتها و ترغيبها إلى ما اريد منها (ف) انّ (من شغل نفسه بغير نفسه) لا يتحصّل له نور يهتدي به في ظلمات طريق الآخرة بل إنّما يحصل على أغطية من الهيئات البدنيّة و أغشية متحصّلة من الاشتغال بزخارف الدّنيا حاجبة له عن نور البصيرة فلأجل ذلك يكون قد (تحيّر في الظّلمات) و تاه فيها (و ارتبك) أى اختلط (في الهلكات) لا يكاد يتخلّص منها (و مدّت به شياطينه في طغيانه و زينت له سىّ‏ء أعماله) كما قال عزّ من قائل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ.

يعني أنّ الّذين اتّقوا اللّه باجتناب معاصيه إذا طاف عليهم الشّيطان بوساوسه تذكّروا ما عليهم من العقاب بذلك فيجتنبوه و يتركونه فاذاهم مبصرون للرّشد، و إخوان المشركين من شياطين الجنّ و الانس يمدّونهم في الضّلال و المعاصى و يزيدونهم فيه و يزينون ما هم فيه ثمّ لا يقصرون لا يكفّون الشّياطين عن استغوائهم و لا يرحمونهم و قيل: معناه و إخوان الشّياطين من الكفّار يمدّهم الشّياطين في الغىّ ثمّ لا يقصرون هؤلاء مع ذلك كما يقصر الّذين اتّقوا، هكذا في مجمع البيان.

ثمّ ذكر غاية وجود الانسان و قال: (فالجنّة غاية السّابقين و النّار غاية المفرطين) و كفى بالجنّة نعمة لمن طلب، و كفى بالنّار نقمة لمن هرب، و تخصيص الجنّة بالسّابقين و النّار بالمفرطين تنبيها على فضيلة السّبق و رذيلة التّفريط بتقوى الباعث على طلب أشرف الغايتين و الهرب من أخسّهما.

و لمّا كان السّبق إلى الجنّة و النّجاة من النّار لا يحصل إلّا بالتّقوى و بالكفّ عن الفجور أردفه بذكر ثمرات هذين الوصفين و شرح ما يترتّب عليهما من الفضايل و الرّذائل فقال: (اعلموا عباد اللّه أنّ التّقوى دار حصن عزيز و الفجور دار حصن ذليل) قال الشّارح المعتزلي: أى دار حصانة، فأقيم الاسم مقام المصدر هذا و نسبة العزّة و الذّلّة إلى الدّار من التّوسّع باعتبار عزّة من تحصّن بالأوّل و ذلّة من تحصّن بالآخر

أمّا الأوّل فلأنّ التقوى تحرز من اتّقى في الدّنيا من الرّذايل المنقصة و القبايح الموقعة له في الهلكات و المخازى، و في الآخرة من النار و غضب الجبّار كالحصن الحصين الذي يحرز متحصّنه من المضارّ و المكاره.
و أما الثاني فلأنّ الفجور يوقع الفاجر في الدّنيا في المعاطب و المهالك و لا ينجيه في الآخرة من العذاب الأليم و السخط العظيم، فهو بمنزلة دار غير وثيق البنيان منهدم الحيطان و الجدران (لا يمنع أهله و لا يحرز من لجأ إليه) و من تحصّن بدار كذلك ليكوننّ ذليلا مهانا لا محالة.

(ألا و بالتّقوى تقطع حمة الخطايا) التشبيه المضمر في النفس للخطايا بالعقارب أو بذوات السموم من الحيوان استعارة بالكناية و ذكر الحمة تخييل و القطع ترشيح و المراد أنّ بالتقوى يتدارك و ينجبر سريان سمّ الخطايا و الآثام في النفوس الموجب لهلاكها الأبد كما يقطع سريان سموم العقارب و الأفاعي في الأبدان بالباد زهر و الترياق و يمنع من نفوذها في أعماق البدن بقطع العضو الملدوغ من موضع اللّدغ، و على رواية حمة بالتشديد فالمقصود أنّ بها تدفع شدّتها و ترفع.

و لمّا نبّه على كون التقوى حاسمة لمادّة الخطايا، و كان بذلك إصلاح القوّة العمليّة نبّه على ما به يحصل إصلاح القوّة النّظرية أعني اليقين فقال: (و باليقين تدرك الغاية القصوى) و إدراكها به لأنّ الانسان إذا كملت قوّته النّظريّة باليقين و قوّته العمليّة بالتّقوى، بلغ الغاية القصوى من الكمال الانساني البتّة.

ثمّ عاد عليه السّلام إلى تحذير العباد تأكيدا للمراد فقال: (عباد اللّه اللّه اللّه) أى راقبوه سبحانه و اتّقوه تعالى (في أعزّ الأنفس عليكم و أحبّها إليكم) الظّاهر أنّ المراد بأعزّ الأنفس عليهم نفسهم، إذ كلّ أحد يحبّ نفسه بالذّات و لغيره بالعرض و التّبع، و لذلك قال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ‏وَ الْحِجارَةُ قدّم الأمر بوقاية النّفس على الأهل لكونها أولى بها من الغير هذا.

و قال الشّارح البحراني: و في الكلام إشارة إلى أنّ للانسان نفوسا متعدّدة و هى باعتبار مطمئنة و أمّارة بالسّوء و لوّامة و باعتبار عاقلة و شهويّة و غضبيّة، و الاشارة إلى الثّلاث الأخيرة و أعزّها النّفس العاقلة إذ هى الباقية بعد الموت و عليها العقاب و فيها العصبيّة.

أقول: كون كلامه عليه السّلام إشارة إلى ما ذكره بعيد غايته (فانّ اللّه قد أوضح لكم سبيل الحقّ و أنار طرقه) و يروى فأبان طرقه، فالعطف للتّفسير يعني أنّه سبحانه أتمّ الحجّة عليكم، و أزال العذر عنه بما بعثه من الأنبياء و الرّسل و أنزله من الزّبر و الكتب، و أبلج لكم نهج الحقّ على لسانهم (ف) لم يبق بعد ذلك إلّا (شقوة لازمة) لمن نكب عنه (أو سعادة دائمة) لمن سلكه كما قال عزّ من قائل إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً.
ثمّ عاد على الحثّ على أخذ الزّاد ليوم المعاد و قال: (فتزوّدوا في أيّام الفناء لأيّام البقاء قد دللتم على الزّاد) أى دلّكم اللّه سبحانه عليه بقوله: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏.

(و أمرتم بالظعنّ) و الرحيل (و حثثتم على المسير) يحتمل أن يكون الظّعن و المسير كنايتين عن ترك الدّنيا و الرّغبة في الآخرة و السّير إليها بالقلوب و النّفوس، فيكون المراد بالأمر و الحثّ ما ورد في الكتاب و السّنة من الآيات و الأخبار المنفّرة من الاولى و المرغبة في الاخرى، و يجوز أن يراد بهما معناهما الحقيقي أعني السّير و الرّحلة إلى الآخرة بالأبدان فيكون الأمر و الحثّ كناية عمّا أو جد اللّه من الأسباب المعدّة لفساد المزاج المقربة إلى الموت، و عن اللّيل و النّهار الحاديين‏ للانسان بتعاقبها إلى وطنه الأصلي على ما مرّ تحقيقا و تفصيلا في شرح الخطبة الثّالثة و السّتين.

(فانّما أنتم كركب وقوف لا تدرون متى تؤمرون بالسّير) لمّا أمرهم بالتّزوّد في الدّنيا علّله بذلك تنبيها على وجوب المبادرة إلى أخذ الزّاد لأنّ المسافر إذا كان زمام أمره بيد غيره و لا يعلم متى يسار به لزم عليه أن يبادر إلى زاده كيلا يفجاه السّفر و يسير بغير زاد فيعطب.

قال الشّارح البحراني: قوله: فانّما أنتم كركب إلى آخره فوجه التّشبيه ظاهر، فالانسان هو النّفس، و المطايا هى الأبدان و القوى النّفسانيّة و الطريق هى العالم الحسيّ و العقلي، و السّير الّذي ذكر ما قبل الموت هو تصرّف النّفس في العالمين لتحصيل الكمالات المعدّة و هى الزّاد لغاية السّعادة الباقية، و أمّا السّير الثّاني الّذي هم وقوف ينتظرون و لا يدرون متى يؤمرون به فهو الرّحيل إلى الآخرة من دار الدّنيا و طرح البدن و قطع عقبات الموت و القبر إذ الانسان لا يعرف وقت ذلك.

(ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة) الاستفهام في معرض التّنفير عن الدّنيا و التّوبيخ لطالبيها إذ الانسان لمّا كان مخلوقا للآخرة فمقتضى العقل أن يصرف همّته إليها لا إلى الدّنيا الزّائلة عنه عن قليل (و ما يصنع بالمال عمّا قليل يسلبه) و هو في معرض التّنفير عن المال بالتّنبيه على أنّه مسلوب عنه بعد زمان قليل فيزول سريعا لذّته (و يبقى عليه تبعته) أى اثمه (و حسابه) و ما كان هذا وصفه فحرىّ بأن يرفض و يترك لا أن يقتنى و يجمع.
ثمّ رغّب في الخير بقوله (عباد اللّه أنّه ليس لما وعد اللّه من الخير مترك) أى ليس للخيرات و المثوبات الّتي وعدها اللّه سبحانه في كتابه و على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم محلّ لأن تترك رغبة عنها إلى غيرها إذ كلّ خير دونها زهيد، و كلّ نفع عندها قليل كما قال عزّ من قائل:

الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا و في سورة آل عمران: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. هذا و مقصوده عليه السّلام بذلك الكلام التّرغيب في الطّاعات المحصّلة للخيرات الاخرويّة و التّحضيض عليها و على القيام بوظائفها.

ثمّ نفرّ عن الشّر بقوله (و لا فيما نهى عنه من الشّر مرغب) أى ليس في المحرّمات و المعاصى التّي نهى اللّه سبحانه عنها محلّ لأن يرغب فيها مع وجود نهيه و كونها مبغوضة عنده محصّلة للآثام و العقوبات الدّائمة (عباد اللّه احذروا يوما تفحص فيه الأعمال) أى تكشف و تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تودّلو أنّ بينها و بينه أمدا بعيدا (و يكثر فيه الزّلزال) و نظير التّحذير عنه بكثرة الزّلزال التّحذير في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى‏ وَ ما هُمْ بِسُكارى‏ وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.

قال في مجمع البيان معناه يا أيّها العقلاء المكلّفون اتّقوا عذاب ربّكم و اخشوا معصية ربّكم إنّ زلزلة الأرض يوم القيامة أمر عظيم هايل لا يطاق، يوم ترون الزّلزلة أو السّاعة تشغل كلّ مرضعة عن ولدها و تنساه، و تضع الحبالي ما في بطونها و هو تهويل لأمر القيامة و تعظيم لما يكون فيه من الشّدايد أى لو كان ثمّ مرضعة لذهلت أو حامل لوضعت و إن لم يكن هناك حامل و لا مرضعة، و ترى النّاس سكارى من شدّة الخوف و الفزع، و ما هم بسكارى من الشّراب و قيل: معناه كأنّهم سكارى من ذهول عقولهم لشدّة ما يمرّ بهم لأنّهم يضطربون اضطراب السّكران هذا (و) لشدّة ذلك اليوم أيضا (يشيب فيه الأطفال) كما قال تعالى: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً.
قال الطّبرسيّ: و هذا وصف لذلك اليوم و شدّته كما يقال هذا أمر يشيب منه الوليد و تشيب منه النّواصي إذا كان عظيما شديدا.

و قال الشّارح المعتزلي: قوله عليه السّلام و يشيب فيه الأطفال كلام جار مجرى المثل و ليس ذلك على حقيقته لأنّ الامّة مجتمعة على أنّ الأطفال لا يتغيّر حالهم في الآخرة إلى الشّيب، و الأصل في هذا أنّ الهموم و الأحزان إذا توالت على الانسان شاب سريعا قال أبو الطّبيب:

و الهمّ يخترم الجسيم مخافة
و يشيب ناصية الصّبيّ و يهرم‏

ثمّ عقّب بالتّحذير من المعاصي بقوله (اعلموا عباد اللّه أنّ عليكم رصدا من أنفسكم) أى حرسا و حفظة ملازمين لكم غير منفكّين عنكم، و أراد به الجوارح و الأعضاء، و لذا فسّره بقوله (و عيونا من جوارحكم) مراقبين لكم شهداء عليكم يوم القيامة كما قال تعالى في سورة السّجدة: وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا ما جاؤُهاشَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

روى في الصّافي عن القمّي نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها فيقولون ما عملنا شيئا منها، فيشهد عليهم الملائكة الّذين كتبوا عليهم أعمالهم قال الصّادق عليه السّلام فيقولون للّه: يا ربّ هولاء ملائكتك يشهدون لك، ثمّ يحلفون باللّه ما فعلوا من ذلك شيئا و هو قول اللّه عزّ و جلّ «يوم يبعثهم اللّه جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم» و هم الّذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السّلام فعند ذلك يختم اللّه عزّ و جلّ على ألسنتهم و ينطق جوارحهم فيشهد السّمع بما سمع ممّا حرّم اللّه، و يشهد البصر بما نظر به إلى ما حرّم اللّه عزّ و جلّ، و يشهد اليدان بما أخذتا، و تشهد الرّجلان بما سعتا فيما حرّم اللّه، و يشهد الفرج بما ارتكب ممّا حرّم اللّه، ثمّ أنطق اللّه عزّ و جلّ ألسنتهم، فيقولون هم لجلودهم: لم شهدتم علينا الآية قال: و الجلود الفروج.

و في الصّافي عن القمّي أيضا في تفسير قوله تعالى في سورة يس: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
قال: إذا جمع اللّه عزّ و جلّ الخلق يوم القيامة دفع إلى كلّ إنسان كتابه فينظرون فيه فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئا، فتشهد عليهم الملائكة، فيقولون، يا ربّ ملائكتك يشهدون لك، ثمّ يحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئا و هو قول اللّه عزّ و جلّ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ فاذا فعلوا ذلك ختم اللّه على ألسنتهم و تنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون، هذاو بما ذكرنا ظهر لك ضعف ما ذكره الشّارح البحراني بل فساده من أنّ شهادة الجلود و غيرها بلسان الحال و النّطق به، فانّ كلّ عضو لما كان مباشرا لفعل من الأفعال كان حضور ذلك العضو و ما صدر عنه في علم اللّه تعالى بمنزلة الشّهادة القوليّة بين يديه، فانّ ذلك مخالف لظاهر الآية و نصّ الرّواية لدلالتهما على كون الشّهادة بلسان القال لا بلسان الحال كما زعمه الشّارح و توهّم.

و قوله (و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم و عدد أنفاسكم) أراد بهم الكرام الكاتبين قال تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
قال في مجمع البيان: ذكر سبحانه أنّه مع علمه به وكّل به ملكين يحفظان عليه عمله الزاما للحجّة، فقال: إذ يتلقّى المتلقّيان، و هما الملكان يأخذان منه عمله فيكتبانه كما يكتب المملى عليه، عن اليمين و عن الشّمال قعيد، المراد بالقعيد هو الملازم الّذي لا يبرح لا القاعد الّذي هو ضدّ القائم، و قيل: عن اليمين كاتب الحسنات و عن الشّمال كاتب السّيئات عن الحسن و مجاهد، و قيل: الحفظة أربعة: ملكان باللّيل، و ملكان بالنّهار عن الحسن، ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد أى ما يتكلّم بكلام فيلفظه أى يرميه من فيه إلّا لديه حافظ حاضر معه يعني الملك الموكّل به إمّا صاحب اليمين و إمّا صاحب الشّمال، يحفظ عمله لا يغيب عنه، و عن أبي أمامة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ صاحب الشّمال ليرفع القلم ستّ ساعات عن العبد المسلم المخطى أو المسى‏ء، فان ندم و استغفر اللّه منها ألقاها و إلّا كتب واحدة، و في رواية اخرى قال: صاحب اليمين أمير على صاحب الشّمال، فاذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها و إذا عمل سيئة فأراد صاحب الشّمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين: امسك، فيمسك عنه سبع ساعات، فان استغفر اللّه منها لم يكتب عليه شي‏ء، و إن لم يستغفر اللّه كتب له سيّئة واحدة، هذاو قد علم بذلك أنّه سبحانه مع علمه بحال العبد و كونه أقرب إليه من حبل الوريد وكّل عليه لحكمة اقتضته من تشديد في تثبط العبد من المعصية و تأكيد في اعتبار الأعمال و ضبطها للجزاء و إلزام الحجّة يوم يقوم الأشهاد حفظة صدق يحفظون عمله و يضبطونه و هم ملازمون له غير غائبين عنه أبدا.

كما أشار إليه بقوله (لا تستركم منهم ظلمة ليل داج) أى شديدة الظلمة (و لا يكنّكم) أى لا يستركم (منهم باب ذور تاج) أى باب عظيم مغلق.
ثمّ حذّر بقرب الموت فقال: (و انّ غدا من اليوم قريب) كنّى بالغد عن وقت الموت (يذهب اليوم بما فيه) من الخير و الشّر و الطّاعة و المعصية (و يجي‏ء الغد لاحقا به) ثمّ حذّر ببلوغ القبر و كنّى عنه بقوله (فكان كلّ امرء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته و مخطّ حفرته) و أشار إلى هول ذلك المنزل و وصفه بالأوصاف الموحشة المنفّرة فقال (فيا له من بيت وحدة و منزل وحشة و مفرد غربة) ثمّ حذّر بالصّيحة و نفخ الصّور و قيام السّاعة فقال: (و كان الصّيحة قد أتتكم و السّاعة قد غشيتكم) و الظّاهر أنّ المراد بالصّيحة الصّيحة و النّفخة الثانية و قد اشير اليهما أعنى الصّيحتين في سورة يس قال تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى‏ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى‏ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ.

قال في مجمع البيان: أى ما ينتظرون إلّا صيحة واحدة يريد النّفخة الاولى عن ابن عبّاس، يعني أنّ القيامة تأتيهم بغتة تأخذهم الصّيحة وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ أى‏يختصمون في امورهم و يتبايعون في الأسواق، ثمّ أخبر عن النفخة الثّانية و ما يلقونه فيها إذا بعثوا بعد الموت فقال: و نفخ في الصّور فاذاهم من الأجداث، و هى القبور، إلى ربّهم أى إلى الموضع الّذي يحكم اللّه فيه لا حكم لغيره هناك، ينسلون، أى يخرجون سراعا ثمّ أخبر عن سرعة بعثهم فقال: إن كانت إلّا صيحة واحدة، أى لم تكن المدّة إلّا مدّة صيحة واحدة، فاذا هم جميع لدينا محضرون، أي فاذا الأوّلون و الآخرون مجموعون في عرصات القيامة محضرون في موقف الحساب و في سورة الزّمر: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ.

قال في مجمع البيان: فصعق من في السّموات آه أى يموت من شدّة تلك الصّيحة الّتي تخرج من الصّور جميع من في السّماوات و الأرض، و قوله: ثمّ نفخ فيه أخرى، يعني نفخة البعث و هي النّفخة الثّانية.
(و برزتم لفصل القضاء) أى لحكم العدل الفاصل بين الحقّ و الباطل ليتميّز المصيب من المخطى، و المسلم من الكافر، و المؤمن من المنافق ليجزى كلّ ما عمل كما قال عزّ من قائل: وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.

(قد زاحت عنكم الأباطيل) أى بعدت و تنحت عنكم الهيآت الباطلة الممكنة الزّوال (و اضمحلّت عنكم العلل) أى ذهبت و انحلّت عنكم العلل و الأمراض النّفسانيّة (و استحقّت بكم الحقائق) قال الشّارح المعتزلي: أى حقّت و وقعت‏ فاستفعل بمعنى فعل (و صدرت بكم الأمور مصادرها) أراد به رجوع كلّ امرء إلى ثمرة ما قدّم، قاله البحراني (فاتّعظوا بالعبر) أى بكلّ ما يفيد اعتبارا و تنبّها على أحوال الآخرة و بما فيه تذكرة للموت و ما بعده من الشّدايد و الأهوال، ألا ترى إلى الآباء و الاخوان و الأبناء و الولدان و الأقرباء و الجيران كيف طحنتهم المنون، و توالت عليهم السّنون، و فقدتهم العيون، اندرست عن وجه الأرض آثارهم و انقطعت عن الأفواه أخبارهم.

إذا كان هذا حال من كان قبلنا
فانّا على آثارهم نتلاحق‏

(و اعتبروا بالغير) أى بتغيّرات الدّهر و انقلاباته على أهله، لا يدوم سروره، و لا تتمّ اموره، لا يقيم على حال، و لا يمتنع بوصال، و عوده كاذبة. و آماله خائبة.

تحدّثك الأطماع أنّك للبقاء
خلقت و أنّ الدّهر خلّ موافق‏

كأنّك لم تبصر اناسا ترادفت‏
عليهم بأسباب المنون اللّواحق‏

(و انتفعوا بالنّذر) أى بكلّ ما أفاد تخويفا بالآخرة و ما فيها من المفزعات و الدّواهى فيا من عدم رشده، و ضلّ قصده إنّ أوقاتك محدودة، و أنفاسك معدودة، و أفعالك مشهورة، و أنت مقيم على الاصرار، غافل عن يوم تشخص فيه الأبصار.

إذا نصب الميزان للفصل و القضا
و ابلس محجاج و اخرس ناطق‏

و اجّجت النّيران و اشتدّ غيظها
إذا فتحت أبوابها و المغالق‏

فانّك مأخوذ بما قد جنيته
و إنّك مطلوب بما أنت سارق‏

فقارب و سدّد و اتّق اللّه وحده‏
و لا تستقلّ الزّاد فالموت طارق‏

الترجمة

از جمله خطب بليغه آن امام مبين و وليّ ربّ العالمين است در نصيحت و موعظه و تنفير از دنيا و ترغيب بعقبى مى‏ فرمايد: حمد و ثنا مر خداى راست كه گردانيد حمد را كليد از براى ذكر خود، و سبب زيادتى فضل و انعام خود، و دليل بر نعمتهاى خود و عظمت بى نهايت خود،اى بندگان خدا بدرستى روزگار جارى مى‏ شود بباقي ماندگان مثل جارى شدن او بر گذشتگان در حالتى كه باز نمى‏ گردد آنچه كه پشت گردانيده از آن، و باقى نمى ‏ماند هميشه آنچه كه در او است، آخر كارهاى او مثل أوّل كارهاى اوست شبيه است بهم ديگر كارهاى او، هم پشت يكديگرند علامتهاى او، پس گويا كه شما مى‏ بينيد قيامت را مي راند شما را بسوى خود مثل راندن كسى كه بعنف و زجر شتر ماده بي شير و بچه خود را براند، پس كسى كه مشغول نمايد نفس خود را بغير اصلاح نفس خود متحيّر مى ‏ماند در ظلمتهاى جهالت، و آميخته شود در تباهي هلاكات، و بكشند او را شيطانها در طغيان او، و زينت مى‏دهند از براى او عملهاى بد او را پس بهشت پايان كار سبقت كنندگانست، و جهنم نهايت كار تفريط نمايندگان بدانيد اى بندگان خدا كه تقوى حصن حصينى است با عزّت، و فسق و فجور خانه حصنى است با ذلّت كه منع نمى ‏كند أهل خود را از بلا و مكاره، و حفظ نمى‏ كند كسى را كه پناه برد بسوى او، آگاه باشيد كه با تقوى بريده مى‏شود نيش پر زهر گناها، و با يقين درك مى‏ شود غاية قصوى.

اى بندگان بپرهيزيد از خدا در عزيزترين نفسها بر شما و دوست ‏ترين آنها بسوى شما، پس بدرستى كه حق تعالى واضح گردانيده از براى شما راه حق را، و ظاهر نموده راههاى آن را، پس نهايت كار يا شقاوتيست لازم، يا سعادتيست دائم پس توشه برداريد در روزهاى فنا از براى روزهاى بقا، پس بتحقيق كه راه نموده شديد بر توشه آخرت و مامور شديد برحلت و حثّ و ترغيب شديد بسير كردن بسوى وطن اصلى، پس بدرستى كه شما مانند سوارانيد منتظر ايستاده كه نمى‏ دانيد چه وقت مأمور خواهيد شد بحركت.

آگاه باشيد چه مى‏ كند دنيا را كسى كه خلق شده است از براى آخرت، و چه كار دارد با مال كسى كه بعد از زمان قليل سلب مى‏ شود از آن و باقى مى ‏ماند بر او و بال و حساب آن، اى بندگان خدا بدرستى كه نيست مر چيزى را كه وعده فرموده است خدا از نيكوئى جاى تركى، و نيست در آنچه نهى فرموده از آن ازبدى جاى رغبتى، اى بندگان خدا حذر نمائيد از روزى كه جستجو مى‏ شود در آن عملها، و بسيار مى ‏شود در آن زلزله، و پير مى‏شوند در آن بچه‏گان.

بدانيد اى بندگان خدا كه بر شما است نگهبانان از نفسهاى خودتان، و جاسوسان از أعضاء و جوارح شما، و نگهدارندگان راست و درست يعنى كرام الكاتبين كه نگه مى ‏دارند عملهاى شما را و شماره نفسهاى شما را در حالتى كه نمى ‏پوشاند شما را از ايشان تاريكى شب تار، و پنهان نمى ‏سازد شما را از آنها در محكم بسته شده، و بدرستى كه فردا نزديكست از امروز مى‏ رود امروز با آنچه كه در اوست از خير و شر، و مى ‏آيد فردا در حالتى كه لاحق است بآن.

پس گويا هر مردى از شما بتحقيق رسيده است از زمين بمنزل تنهائى خود، و بمحلّ خطّ گودال خود كه عبارتست از قبر او، پس أى بسا تعجّب أ يقوم مرا بمنزل و مكان از خانه تنهائى و منزل بيمناك و محلّ تفرّد غريبى، و گويا صداى نفخه صور اسرافيل آمده است بشما، و قيامت احاطه نموده بر شما، و بيرون آمده ‏ايد از قبر بجهة حكم عدل پروردگار كه تميز دهنده است ميان حق و باطل در حالتى كه بعيد شده است از شما باطلها، و زايل شده از شما علّتها، و مستحق شده است بشما حقيقتها و بازگشته بشما امورات بمواضع بازگشتن خودشان.
پس پند گيريد با عبرتها، و عبرت نمائيد با تغيّرات روزگار، و منتفع باشيد با چيزهائى كه مى‏ترساند شما را از عذاب نار، و از سخط خداوند قهار.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 155 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 156 صبحی صالح

156- و من كلام له ( عليه ‏السلام )

خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم‏

فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَلْيَفْعَلْ
فَإِنْ أَطَعْتُمُونِي فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ
وَ إِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ مَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ
وَ أَمَّا فُلَانَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ النِّسَاءِ
وَ ضِغْنٌ غَلَا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ
وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ
وَ لَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الْأُولَى
وَ الْحِسَابُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى

وصف الإيمان‏

منه‏سَبِيلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ أَنْوَرُ السِّرَاجِ
فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ
وَ بِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ
وَ بِالْإِيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ
وَ بِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ
وَ بِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا
وَ بِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الْآخِرَةُ
وَ بِالْقِيَامَةِ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ
وَ تُبَرَّزُ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ
وَ إِنَّ الْخَلْقَ لَا مَقْصَرَ لَهُمْ عَنِ الْقِيَامَةِ
مُرْقِلِينَ فِي مِضْمَارِهَا إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى
حال أهل القبور في القيامة
منه‏قَدْ شَخَصُوا مِنْ مُسْتَقَرِّ الْأَجْدَاثِ
وَ صَارُوا إِلَى مَصَايِرِ الْغَايَاتِ
لِكُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا لَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَ لَا يُنْقَلُونَ عَنْهَا
وَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَ إِنَّهُمَا لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ
وَ لَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ
وَ عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ
فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ وَ النُّورُ الْمُبِينُ
وَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ
وَ الرِّيُّ النَّاقِعُ
وَ الْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ
وَ النَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ
لَا يَعْوَجُّ فَيُقَامَ
وَ لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ
وَ لَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ
وَ وُلُوجُ السَّمْعِ
مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَ مَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ

و قام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الفتنة،

و هل سألت رسول اللّه ( صلى‏ الله‏ عليه ‏وآله ) عنها فقال ( عليه ‏السلام ):
إِنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ‏
عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنْزِلُ بِنَا وَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )بَيْنَ أَظْهُرِنَا
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا
فَقَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي
فَقُلْتُ يَا رَسُولُ اللَّهِ أَ وَ لَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَ حِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ
فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ فَقُلْتَ لِي أَبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ
فَقَالَ لِي إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ
وَ لَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى وَ الشُّكْرِ
وَ قَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ
وَ يَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ
وَ يَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ
وَ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ
وَ يَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ وَ الْأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ
فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ
وَ السُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ
وَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ
أَ بِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ
فَقَالَ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من كلام له عليه السّلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم
و هو المأة و الخامس و الخمسون من المختار فى باب الخطب و شرحها في فصلين:

الفصل الأول منه

فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على اللَّه فليفعل، فإن أطعتموني فإنّي حاملكم إنشاء اللَّه على سبيل الجنّة و إن كان ذا مشقّة شديدة، و مذاقة مريرة، و أمّا فلانة فأدركها رأى النّساء و ضغن غلا في صدرها كمرجل القين، و لو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل و لها بعد حرمتها الاولى و الحساب على اللَّه.

اللغة

(المرجل) وزان منبر القدر و (القين) الحدّاد.

الاعراب

على في قوله: على اللَّه، في الموضعين للاستعلاء المجازي و جملة لم تفعل جواب لو، و الباقي واضح.

المعنى

قال الشّارح البحراني «قدّه» إنّ قوله عليه السّلام (فمن استطاع عند ذلك) يقتضى أنّه سبق منه عليه السّلام قبل هذا الفصل ذكر فتن و حروب يقع بين المسلمين وجب على من أدركها (أن يعتقل نفسه على اللَّه) أى يحبسها على طاعته من دون أن يخالطها و يدخل فيها (فليفعل) لوجوب طاعته سبحانه عقلا و نقلا (فان أطعتموني فانّي حاملكم انشاء اللَّه على سبيل الجنّة) و سبيلها هو الدّين القويم و الصراط المستقيم و إنّما شرط عليه السّلام حملهم عليها باطاعته إذ لا رأى لمن لا يطاع (و إن كان) هذه السّبيل و سلوكها (ذا مشقّة شديدة و مذاقة مريرة) لظهور أنّ النّفوس مايلة إلى اللّهو و الباطل، و المواظبة على الطّاعات و الوقوف عند المحرّمات أمر شاقّ شديد المشقّة مرّ المذاق بعيد عن المساغ البتّة.

(و أمّا فلانة) كنّى بها عن عايشة و لعلّه من السيّد «ره» تقيّة كما كنّى في الخطبة الشّقشقيّة عن أبي بكر بفلان (فأدركها رأى النّساء) أى ضعف الرّأى فانّ رأيهنّ إلى الأفن و عزمهنّ إلى الوهن، و قد تقدّم ما ما يدلّ على نقصان حظوظهنّ و عقولهنّ و ميراثهنّ و ساير خصالهنّ المذمومة في الكلام التّاسع و السّبعين و شرحه (و ضغن) أى حقد (غلافي صدرها كمرجل القين) أى كغليان قدر الحدّاد، و هو من تشبيه المعقول بالمحسوس، و وجه الشّبه الشّدة و الدّوام و أسباب ضغنها كثيرة ستطّلع عليها بعيد ذلك.

(و لو دعيت لتنال غيري ما أتت إلىّ لم تفعل) قال الشّارح المعتزليّ: يقول لو أنّ عمر وليّ الخلافة بعد قتل عثمان على الوجه الّذي قتل عليه و الوجه الّذي أنا ولّيت الخلافة عليه و نسب عمر إلى أنّه كان يؤثر قتله أو يحرض عليه، و دعيت إلى أن تخرج عليه في عصابة من المسلمين إلى بعض بلاد الاسلام تثير فتنة و تنقض البيعة لم تفعل، و هذا حقّ لأنّها لم تكن تجد على عمر ما تجده على عليّ عليه السّلام و لا الحال الحال، انتهى.

و محصّله أنّه عليه السّلام أراد بقوله من غيري عمر قال العلّامة المجلسيّ:و الأظهر الأعمّ، أى لو كان عمر أو أحد من أضرابه وليّ الخلافة بعد قتل عثمان و دعيت إلى أن تخرج إليه لم تفعل (و لها بعد حرمتها الأولى) أى كونها من امّهات المؤمنين (و الحساب على اللَّه) هذا من باب الاحتراس الّذي تقدّم في ديباجة الشّرح أنّه من جملة المحسّنات البديعيّة، فانّه عليه السّلام لما أثبت لها حرمتها الاولى عقّبه بذلك لئلا يتوهّم منه أنّها محترمة في الدّنيا و العقبى، و نبّه به على أنّ حرمتها ملحوظة في الدّنيا فقط لرعاية احترام الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أمّا في الأخرى فجزاء ضغنها و خروجها عن طاعة الامام المفترض الطّاعة و إثارتها الفتنة المؤدّية إلى إراقة دماء المسلمين على اللَّه سبحانه إذ من يعمل مثقال ذرّة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرّة شرا يره و قد قال تعالى: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً»

تذييل في ذكر عايشه و ذكر أسباب ضغنها

أورد الشّارح المعتزلي في شرح هذا الكلام له عليه السّلام فصلا طويلا كم فيه من التّصريح و التعريض و التلويح إلى مثالب عايشة و مطاعنها و إن لم يرفع الشّارح يده مع ذلك كلّه عن ذيل الاعتساف و التّعصّب أحببت ايراد ذلك الكلام على طوله لأنّه من لسان أبنائها أحلى و نعقّبه إنشاء اللَّه بما عندنا من القول الفصل الّذي ليس هو بالهزل، و من الحقّ الذي هو أحقّ أن يتّبع، فأقول: قال الشارح: كانت عايشة فقيهة راوية للشّعر ذات حظّ من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و كانت لها عليه جرأة و إدلال لم يزل ينمى و يستسرى حتّى كان منها في أمره في قصّة مارية ما كانت من الحديث الذّي أسرّه إلى الزّوجة الأخرى و أدّى إلى تظاهرهما عليه و أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب يتضمّن وعيدا غليظا عقيب تصريح بوقوع الذّنب و صغو القلب و أعقبتها تلك الجرأة و ذلك الانبساط أن حدث منها في أيّام الخلافة العلويّة ما حدث، و لقد عفى اللَّه تعالى عنها و هى من أهل الجنّة عندنا بسابق الوعد و ما صحّ من أمر التّوبة إلى أن قال:

فأمّا قوله عليه السّلام: أدركها رأى النّساء، أى ضعف آرائهنّ و قد جاء في الخبر لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، و جاء أنّهنّ قليلات عقل و دين، أو قال ضعيفات و لذلك جعل شهادة المرأتين بشهادة الرّجل الواحد، و المرأة في أصل الخلقة سريعة الانخداع سريعة الغضب سيّئة الظنّ فاسدة التّدبير، و الشجاعة فيهنّ مفقودة أو قليلة و كذلك السّخاء.

قال الشّارح: و أمّا الضغن فاعلم أنّ هذا الكلام يحتاج إلى شرح، و قد كنت قرأته على الشّيخ أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللّمعاني (ره) أيّام اشتغالى عليه بعلم الكلام، و سألته عمّا عنده فأجابني بجواب طويل أنا أذكر محصوله بعضه بلفظه و بعضه بلفظي فقد شذّ عنّي الآن لفظه كلّه بعينه قال: أوّل بداء الضغن كان بينها و بين فاطمة عليها السلام، و ذلك لأنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله تزوّجها عقيب موت خديجة فأقامها مقامها، و فاطمة عليها السّلام هى ابنة خديجة، و من المعلوم أنّ ابنة الرّجل إذا ماتت أمّها و تزوّج أبوها أخرى كان بين الابنة و بين المرأة كدروشنان، و هذا لا بدّ منه لأنّ الزّوجة تنفس عليها ميل الأب، و البنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غريبة كالضّرة لامّها، بل هى ضرّة على الحقيقة و إن كانت الامّ ميتة و لأنا لو قدّرنا الامّ حيّة لكانت العداوة مضطرمة متسعّرة فاذا كانت قد ماتت ورثتها بنتها تلك العداوة.

ثمّ اتّفق أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم مال إليها و أحبّها فازداد ما عند فاطمة بحسب زيادة ميله، و أكرم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فاطمة إكراما عظيما أكثر ممّا كان النّاس يظنّونه و أكثر من إكرام الرّجال لبناتهم حتّى خرج بها عن حدّ حبّ الآباء للأولاد فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بمحضر الخاصّ و العامّ مرارا لا مرّة واحدة، و في مقامات مختلفة لا في مقام واحد: إنّها سيّدة نساء العالمين، و إنّها عديلة مريم بنت عمران، و إنّها إذا مرّت في الموقف نادى مناد من جهة العرش يا أهل الموقف غضّوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمّد صلّى اللَّه عليه و آله، و هذا من الأحاديث الصحيحة و ليس من الأخبار المستضعفة و أنّ انكاحه عليا إيّاها ما كان إلّا بعد أن أنكحه اللَّه إيّاها في السّماء بشهادة الملائكةو كم قال لا مرّة: يؤذيني ما يؤذيها و يغضبني ما يغضبها، و إنها بضعة يريبني ما رابها.

فكان هذا و أمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزّوجة حسب زيادة هذا التعظيم و التبجيل، و النفوس البشريّة تغيظ على ما هو دون هذا فكيف هذا ثمّ حصل عند بعلها عليهما السّلام ما هو حاصل عندها أعني عليّا عليه السّلام، فانّ النساء كثيرا ما يحصلن الأحقاد في قلوب الرّجال لا سيّما و هنّ محدّثات اللّيل كما قيل في المثل، و كانت تكثر الشكوى من عايشة و يغشيها نساء المدينة و جيران بيتها فينقلن إليها كلمات عن عايشة ثمّ يذهبن إلى بيت عايشة فينقلن إليها كلمات عن فاطمة، و كما كانت فاطمة تشكو إلى بعلها كانت عايشة تشكو إلي أبيها لعلمها أنّ بعلها لا يشكيها على ابنته فحصل في نفس أبي بكر من ذلك أثر ما.

ثمّ تزايد تقريظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ و تقريبه و اختصاصه، فأحدث ذلك حسدا له و غيظة في نفس أبي بكر عنه و هو أبوها و في نفس طلحة و هو ابن عمّها و هي تجلس إليهما و تسمع كلامهما و هما يجلسان إليها و يحادثانها فأعدى إليها منهما كما أعدى إليهما منها.

قال: و لست ابرّى‏ء عليّا من مثل ذلك، فانه كان ينفس على أبي بكر سكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليه و ثنائه عليه، و يحبّ أن ينفرد هو بهذه المزايا و الخصائص دونه و دون الناس أجمعين، و من انحرف عن إنسان انحرف عن أهله و أولاده فتأكّدت البغضة بين هذين الفريقين.

ثمّ كان من أمر القذف ما كان و لم يكن عليّ عليه السّلام من القاذفين و لكنه كان من المشيرين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بطلاقها تنزيّها لعرضه عن أقوال الشناة و المنافقين قال له لما استشاره: إن هى إلّا شسع نعلك و قال له: سل الخادم و خوّفها و إن أقامت على الجحود فاضربها و بلغ عايشة هذا الكلام كلّه و سمعت أضعافه ممّا جرت عادة الناس أن يتداولوه في مثل هذه الواقعة، و نقل النساء إليها كلاما كثيرا عن عليّ و فاطمة فاشتدّت‏و غلظت و طوى كلّ من الفريقين قلبه على الشنآن لصاحبه ثمّ كان بينها و بين عليّ عليه السّلام في حياة رسول اللَّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحوال و أقوال كلّها تقتضى تهيّج ما في النفوس، نحو قولها له و قد استدناه رسول اللّه فجاء حتّى قعد بينه و بينها و هما متلاصقان: أما وجدت مقعدا لكذا- لا تكنى عنه- إلّا فخذى، و نحو ما روي أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سايره يوما و أطال مناجاته فجاءت و هى سايرة خلفهما حتّى دخلت بينهما و قالت: فيم أنتما فقد أطلتما، فيقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غضب ذلك اليوم و ما روى في حديث الجفنة من الثريد التي أمرت الخادم فوقفت لها فاكفأتها و نحوها ممّا يكون بين الأهل و بين المرأة و أحماتها.

ثمّ اتّفق أنّ فاطمة ولدت أولادا كثيرا بنين و بنات و لم تلد هى ولدا، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقيم بني فاطمة مقام بنيه و يسمّى الواحد منهما و يقول: دعوا لى ابني، و لا تزرموا على ابني، و ما فعل ابني، فما ظنّك بالزّوجة إذا حرمت الولد من البعل ثمّ رأت البعل يتبنّى بني ابنته من غيرها و يحنو عليهم حنو الولد المشفق هل تكون محبّة لأولئك البنين و لامّهم و لأبيهم أم مبغضة و هل تودّ دوام ذلك و استمراره أم زواله و انقضائه ثمّ اتّفق أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سدّ باب أبيها إلى المسجد و فتح باب صهره ثمّ بعث أباها ببراءة إلى مكّة ثمّ عزله عنها بصهره، فقدح ذلك أيضا في نفسها.

و ولد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إبراهيم من مارية فأظهر عليّ عليه السّلام بذلك سرورا كثيرا و كان يتعصّب لمارية و يقوم بأمرها عند رسول اللّه ميلا على غيرها، و جرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عايشة فبرّها عليّ عليه السّلام منه و كشف بطلانها و كشفه اللّه تعالى على يده و كان ذلك كشفا محسّا بالبصر لا يتهيّأ للمنافقين أن يقولوا فيه ما قالوا في القرآن المنزل ببراءة عايشة، و كلّ ذلك مما كان يوعر صدر عايشة عليه و يؤكّد ما في نفسها منه.

ثمّ مات إبراهيم فأبطنت شماتة و إن أظهرت كأبة، و وجم عليّ عليه السّلام من ذلك و كذلك فاطمة و كانا يؤثران و يريدان أن تتميّز مارية عليها بالولد فلم يقدّر لهما و لا لمارية ذلك.
و بقيت الأمور على ما هى عليه و في النّفوس ما فيها، حتّى مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المرض الّذي توفّى فيه، فكانت فاطمة و عليّ يريدان أن يمرّضاه في بيتهما و كذلك كانت أزواجه فمال إلى بيت عايشة بمقتضى المحبّة القلبيّة الّتي كانت لها دون نسائه، و كره أن يزاحم فاطمة و بعلها في بيتهما فلا يكون عنده من الانبساط بوجودهما ما يكون إذا خلا بنفسه في بيت من يميل إليه بطبعه و علم أنّ المريض يحتاج إلى فضل مداراة و نوم و يقظة و انكشاف و خروج حدث فكانت نفسه إلى بيته أسكن منها إلى بيت صهره و بنته فانّه إذا تصوّر حيائهما منه استحيى هو أيضا منهما و كلّ أحد يحبّ أن يخلو بنفسه و يحتشم الصّهر و البنت و لم يكن له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى غيرها من الزّوجات مثل ذلك الميل اليها فتمرّض في بيتها فغبطت على ذلك، و لم يمرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منذ قدم المدينة مثل ذلك المرض و إنّما كان مرضه الشقيقة يوما أو بعض يوم ثمّ تبرء فتطاول هذا المرض.

و كان عليّ عليه السّلام لا يشكّ أنّ الأمر له و أنّه لا ينازعه فيه أحد من النّاس و لهذا قال له عمّه و قد مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: امدد يدك أبايعك، فيقول النّاس عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بايع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا يختلف عليك اثنان، قال: يا عمّ و هل يطمع فيها طامع غيري قال: ستعلم، قال: فانّى لا أحبّ هذا الأمر من وراء رتاج و أحبّ أن اصهر «اصحر» به فسكت عنه.

فلما ثقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مرضه أنفذ جيش اسامة و جعل فيه أبا بكر و غيره من أعلام المهاجرين و الأنصار، فكان عليّ عليه السّلام حينئذ بوصوله إلى الأمر إن حدث برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوثق، و تغلب على ظنّه أنّ المدينة لو مات صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكليّة، فيأخذه صفوا عفوا، و يتمّ له البيعة فلا يتهيّأ فسخها لو رام ضدّ منازعة عليها.

فكان من عود أبي بكر من جيش اسامة بارسالها إليه و إعلامه بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يموت ما كان، و من حديث الصّلاة ما عرفت، فنسب عليّ عليه السّلام عايشة إلى أنّها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصلّ بالنّاس، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما روى قال: ليصلّ بهم أحدهم و لم يعيّن و كانت صلاة الصّبح.
فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو في آخر رمق يتهادى بين عليّ عليه السّلام و الفضل ابن العبّاس حتّى قام في المحراب كما ورد في الخبر، ثمّ دخل فمات ارتفاع الضّحى فجعل يوم صلاته حجّة في صرف الأمر إليه، و قال: أيّكم أطيب نفسا أن يتقدّم قدمين قدّمهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الصّلاة و لم يحملوا خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الصلاة لصرفه عنها بل لمحافظته على الصّلاة مهما أمكن.

فبويع على هذه النّكتة الّتي اتّهمها عليّ عليه السّلام أنّها ابتدأت منها و كان عليّ عليه السّلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا و يقول: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقل إنّكنّ لصويحبات يوسف إلّا إنكارا لهذه الحال و غضبا منها لأنّها و حفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما و أنّه استدركها بخروجه و صرفه عن المحراب فلم يجد ذلك و لا أثر مع قوّة الدّاعي الّذي يدعو الى أبي بكر و يمهد له قاعدة الأمر و تقرّر حاله في نفوس النّاس و من اتّبعه على ذلك من أعيان المهاجرين و الأنصار و لما ساعد على ذلك من الحظ الفلكى الأمر السّمائي الّذي جمع عليه القلوب و الأهواء فكانت هذه الحال عند عليّ عليه السّلام أعظم من كلّ عظيم و هى الطّامة الكبرى و المصيبة العظمى و لم ينسبها إلّا إلى عايشة وحدها، و لا علّق الأمر الواقع إلّا بها، فدعا عليها في خلواته و بين خواصّه و تظلّم إلى اللّه منها، و جرى له في تخلّفه عن البيعة ما هو مشهور حتّى بايع.

و كان تبلغه و فاطمة عنها كلّ ما يكرهانه منذ مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أن توفّيت فاطمة عليها السلام و هما صابران على مضض و رمض، و استظهرت بولاية أبيها و استطالت و عظم شأنها و انخذل عليّ عليه السّلام و فاطمة و قهرا، و أخذت فدك و خرجت فاطمة تجادل في ذلك مرارا فلم تظفر بشي‏ء.

و في كلّ ذلك تبلّغها النّساء الداخلات و الخارجات عن عايشة كلّ كلام يسوؤها و يبلغن عايشة عنها و عن بعلها مثل ذلك، إلّا أنّه شتّان ما بين الحالين و بعد ما بين الفريقين، هذه غالبة و هذه مغلوبة، هذه آمرة و هذه مأمورة و ظهر التّشفى و الشّماتة و لا شي‏ء أعظم مرارة و مشقّة من شماتة العدوّ.

قال الشارح: فقلت له: أ فتقول أنت إنّ عايشة عيّنت أباها للصّلاة و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يعيّنه فقال: أما أنا فلا أقول ذلك، و لكن عليّا عليه السّلام كان يقوله، و تكليفي غير تكليفه كان حاضرا و لم أكن حاضرا، فأنا محجوج بالأخبار الّتي اتّصلت بي و هى تتضمّن تعيين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأبي بكر في الصلاة و هو محجوج بما كان قد علمه أو يغلب على ظنّه من الحال الّتي كان حضرها.

قال: ثمّ ماتت فاطمة عليها السلام فجاء نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّهنّ إلى بني هاشم في العزاء إلّا عايشة، فانها لم تأت أظهرت مرضا، و نقل إلى عليّ عليه السّلام عنها كلام يدلّ على السرور.
ثمّ بايع عليّ عليه السّلام أباها فسّرت بذلك و أظهرت من الاستبشار بتمام البيعة و استقرار الخلافة و بطلان منازعة الخصم ما قد نقله الناقلون فأكثروا.

و استمرّت الامور على هذه مدّة خلافة أبيها و خلافة عمر و عثمان، و القلوب تغلى و الأحقاد تذيب الحجارة، و كلّما طال الزّمان على عليّ عليه السّلام تضاعفت همومه و غمومه، و باح بما في نفسه إلى أن قتل عثمان و قد كانت عايشة أشدّ الناس عليه تأليبا و تحريضا، فقالت: أبعده اللّه لما سمعت قتله و أمّلت أن يكون الخلافة في طلحة فيعود الأمر تيميّة كما كانت أوّلا، فعدل الناس عنه إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فلما سمعت ذلك صرخت وا عثماناه قتل عثمان مظلوما و ثارما في الأنفس حتى تولد من ذلك يوم الجمل و ما بعده.
قال الشّارح: هذه خلاصة كلام الشيخ أبي يعقوب و لم يكن يتشيّع، و كان شديدا في الاعتزال إلّا أنّه كان في التفضيل بغداديّا.

ثم قال الشارح في شرح قوله عليه السّلام و الحساب على اللّه:فان قلت: هذا الكلام يدلّ على توقّفه في أمرها و أنتم تقولون إنّها من أهل الجنّة فكيف تجمعون بين مذاهبكم و هذا الكلام قلت: يجوز أن يكون عليه السّلام قال هذا الكلام قبل أن يتواتر الخبر عنده بتوبتها فانّ أصحابنا يقولون: إنّها تابت بعد قتل أمير المؤمنين عليه السّلام و ندمت و قالت: لوددت أنّ لي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة بنين كلّهم ماتوا و لم يكن يوم الجمل، و أنّها كانت بعد قتله تثنى عليه و تنشر مناقبه.

مع أنّهم رووا أيضا أنّها عقيب الجمل كانت تبكى حتّى تبلّ خمارها، و أنّها استغفرت اللّه و ندمت و لكن لم تبلغ أمير المؤمنين عليه السّلام حديث توبتها عقيب الجمل بلاغا يقطع العذر و يثبت الحجّة و الّذي شاع عنها من أمر النّدم و التّوبة شياعا مستفيضا إنّما كان بعد قتله عليه السّلام إلى أن ماتت و هى على ذلك، و التّائب مغفور له و يجب قبول التوبة عندنا في العدل و قد أكّد وقوع التّوبة منها ما روى في الأخبار المشهورة أنّها زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الآخرة كما كانت زوجته في الدّنيا، و مثل هذا الخبر إذا شاع أوجب علينا أن نتكلّف إثبات توبتها لو لم ينقل فكيف و النّقل لها يكاد أن يبلغ حدّ التّواتر، انتهى كلام الشّارح المعتزلي.

و ينبغي لنا أن نعقبه بما عندنا في هذا المقام فأقول و باللّه التكلان: اماما اشار اليه الشّارح من أنّه كان من عايشة في أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قصّة مارية ما كان من الحديث الّذي أسرّه إلى الزوجة الاخرى و أدّى إلى تظاهرهما عليه و أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب آه فشرحه ما ذكره المفسّرون من العامّة و الخاصّة في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» قال في الكشّاف: روى أنّه عليه الصّلاة و السّلام خلا بمارية في يوم عايشة و علمت بذلك حفصة فقال لها: اكتمى عليّ و قد حرمت مارية على نفسى و ابشرك أنّ أبا بكر و عمر يملكان بعدى أمر امّتي فأخبرت به و كانتا متصادقتين، و في التّفسير الكبير في تفسير قوله تعالى: وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ‏ وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ» قال الفخر الرّازي يعني ما أسرّ إلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه و استكتمها ذلك، و قيل: لمّا رأى النّبي الغيرة في وجه حفصة أراد أن يرضاها فأسرّ إليها بشيئين: تحريم الأمة على نفسه، و البشارة بأنّ الخلافة بعده في أبي بكر و أبيها عمر، قاله ابن عباس و قوله: فلمّا نبأت به أى أخبرت به عايشة و أظهره اللّه عليه اطلع نبيّه على قول حفصة لعايشة فأخبر النّبيّ حفصة عند ذلك ببعض ما قالت و هو قوله تعالى: عرّف بعضه حفصة و أعرض عن بعض لم يخبرها انّك أخبرت عايشة على وجه التّكريم و الإغضاء، و الذي أعرض عنه ذكر خلافة أبي بكر و عمر و قال القمّي: سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في بعض بيوت نسائه، و كانت مارية القبطيّة تكون معه تخدمه، و كان ذات يوم في بيت حفصة، فذهبت حفصة في حاجة لها فتناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مارية فعلمت حفصة بذلك فغضبت و أقبلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه في يومي و في دارى و على فراشي، فاستحى رسول اللّه منها فقال: كفى فقد حرّمت مارية على نفسي و لا أطاها بعد هذا أبدا، و أنا أقضى اليك سرّا إن أنت أخبرت به فعليك لعنة اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين فقالت: نعم ما هو فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ أبا بكر يلي الخلافة بعدي، ثمّ بعده أبوك فقالت من أنباك فقال نبّأني العليم الخبير، فأخبرت حفصة به عايشة من يومها ذلك و أخبرت عايشة أبا بكر فجاء أبو بكر إلى عمر فقال له: إنّ عايشة أخبرتني عن حفصة بشي‏ء و لا أثق بقولها، فاسأل أنت حفصة، فجاء عمر إلى حفصة فقال لها: ما هذا الّذي أخبرت عنك عايشة فأنكرت ذلك و قالت: ما قلت لها من ذلك شيئا، فقال عمر: إنّ هذا حقّ فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه، فقالت: نعم قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاجتمعوا أربعة على أن يسمّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذه السّورة قال: و أظهره اللّه عليه يعني و أظهره اللّه على ما أخبرت به و ما همّوا به من قتله عرف بعضه أى خبرها و قال: لم أخبرت بما خبرتك به و أعرض عن بعض قال: لم يخبرهم بما يعلم بما همّوا به من قتله، و قال تعالى في هذه السّورة:

«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» قال في تفسير الصّافي: مثل اللّه حال الكفّار و المنافقين في أنّهم يعاقبون بكفرهم و نفاقهم و لا يحابون بما بينهم و بين النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين من النّسبة و الوصلة بحال امرأة نوح و امرأة لوط، و فيه تعريض بعايشة و حفصة في خيانتهما رسول اللّه بافشاء سرّه و نفاقهما إيّاه و تظاهرهما عليه كما فعلت امرئتا الرّسولين فلم يغن الرّسولان عنهما بحقّ الزّواج إغناء ما و قيل لهما بعد موتهما أو يوم القيامة: ادخلا النّار مع الدّاخلين الّذين لا وصلة بينهم و بين الأنبياء.

و اما اسباب الضّغن التي بين عايشة و فاطمة عليها السّلام على ما فصّلها و حكاها عن الشّيخ أبى يعقوب اللّمعاني فهى كما ذكره إلّا أنّ اللّائمة فيها كلّها راجعة إلى عايشة و أبيها، و تشريكه بينهما و بين فاطمة و بعلها سلام اللّه عليهما في ذلك أى في الاتّصاف بالضغن و الحقد و الحسد غلط فاحش بعد شهادة آية التطهير و غيرها بعصمتهما و برائة ساحتهما عن دنس المعاصي و الذّنوب و طهارة ذيلهما عن وسخ الآثام و العيوب.

و من ذلك يعلم ما في قوله: و لست أبرّء عليّا من مثل ذلك فانّه كان ينفس على أبي بكر سكون النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليه و ثنائه عليه و يحبّ أن ينفرد هو بهذه المزايا و الخصائص دونه و دون النّاس أجمعين مضافا إلى ما فيه من أنّا لم نسمع إلى الآن لأبى بكر مزيّة و خاصّة و مكرمة اختصّ بها، و لم نظفر بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما أثنا عليه و سكن اليه، و الأخبار المفصحة عن شقاقه و نفاقه و إزراء الرّسول عليه في غير موطن فوق حدّ الاحصاء، و لو لم يكن شاهد على عدم سكونه إليه غير بعثه بسورة برائة إلى مكّة ثمّ عزله عنها لكفى.

و أمّا الحديث الذي رواه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعني قوله: و كم قال لا مرّة يؤذيني ما يؤذيها و يغضبني ما يغضبها، فهو حديث صحيح رواه العامّة و الخاصّة، و ما أدرى ما يجيب متعصّبى أبي بكر و عمر عن ذلك، فانّ غصبهما فدك منها و أمرهماباحراق باب بيتها و إخراج بعلها ملبّبا إلى المسجد للبيعة كان بالضّرورة موجبا لغضبها و اذيها، فاذا انضمّ إلى ذلك الحديث الّذي رووه و أضيف إليهما قوله سبحانه وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ينتج أنّهما في العذاب الأليم و السّخط العظيم كما مرّ تفصيله في التّنبيه الثّاني في شرح الكلام السّادس و السّتين، و قد تقدّم هناك قول الشّارح أنّ الصحيح عندى أنها ماتت و هي واجدة على أبي بكر و عمر، و أنها أوصت أن لا يصلّيا عليها، فانظر ما ذا ترى.

و أما ما تكلّفه الشارح في آخر كلامه في اثبات توبة الخاطئة فدعوى لا تفى باثباتها بيّنة و هو يريد اصلاح أمرها- و لن يصلح العطّار ما أفسد الدّهر- و كيف تتوب عن خطائها و تندم على تفريطها بعد رسوخ الضغن في هذه السنين المتطاولة في قلبها و تزايد أسباب الحقد و الحسد و تراكمها يوما فيوما على ما فصّلها الشارح عن اللّمعاني، و قد تقدّم ما يرشدك إلى بطلان هذه الدعوى في شرح الكلام التاسع و السبعين و اورد هنا مضافا إلى ما سبق ما حققه شيخ الطايفة قدّس اللّه روحه في تلخيص الشافي في إبطال تلك الدّعوى.

قال في محكىّ كلامه في البحار: و أمّا الكلام في توبة عايشة فما بيناه من الطرق الثلاث في توبة طلحة و الزّبير هى معتمدة فيما يدّعونه من توبة عايشة.
أوّلها أنّ جميع ما يروونه من الأخبار لا يمكن ادّعاء العلم فيها و لا القطع على صحّتها، و أحسن الأحوال فيها أن يوجب الظنّ و قد بيّنا أنّ المعلوم لا يرجع عنه بالمظنون.

و الثاني أنها معارضة بأخبار تزيد ما رووه في القوّة أو تساويه، فمن ذلك ما رواه الواقدى باسناده عن مسعبة عن ابن عباس قال: أرسلنى علىّ إلى عايشة بعد الهزيمة و هى فى دار الخزاعييّن يأمرها أن ترجع إلى بلادها و ساق الحديث إلى قوله فبكت مرّة أخرى أشدّ من بكائها الأوّل ثمّ قالت: و اللّه لئن لم يغفر اللّه لنا لنهلكنّ ثمّ ساق الحديث إلى آخره ثمّ قال: فان قيل: ففى هذا الخبر دليل على التوبة و هى قولها عقيب بكائها لئن لم يغفراللّه لنا لنهلكنّ.

قلنا: قد كشف الأمر ما عقبت هذا الكلام به من اعترافها ببغض أمير المؤمنين و بغض أصحابه المؤمنين، و قد أوجب اللّه عليها محبّتهم و تعظيمهم، و هذا دليل على الاصرار و أنّ بكائها إنّما كان للخيبة لا للتّوبة، و ما كان في قولها لئن لم يغفر اللّه لنا لنهلكنّ من دليل على التّوبة و قد يقول المصرّ مثل ذلك إذا كان عارفا بخطائه فيما ارتكبه، و ليس كلّ من ارتكب ذنبا يعتقد أنّه حسن حتّى لا يكون خائفا من العقاب عليه، و أكثر مرتكبى الذّنوب يخافون العقاب مع الاصرار، و يظهر منهم مثل ما حكى من عايشة و لا يكون توبة و روى الواقدي باسناده أنّ عمّارا رحمة اللّه عليه استأذن على عايشة بالبصرة بعد الفتح فأذنت له فدخل فقال: يا امه كيف رأيت اللّه صنع حين جمع بين الحقّ و الباطل ألم يظهر اللّه الحقّ على الباطل و يزهق الباطل فقالت: إنّ الحرب دول و سجال و قد اديل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لكن انظر يا عمّار كيف تكون في عاقبة أمرك.
و روى الطبرىّ في تاريخه أنّه لمّا انتهى إلى عايشة قتل أمير المؤمنين قالت:

فألقت عصاها و استقرّ بها النّوى
كما قرّ عينا بالأياب المسافر

من قتله فقيل: رجل من مراد، فقالت:

فان يك تائبا فلقد نعاه
بنعى ليس في فيه التراب‏

فقالت زينب بنت سلمة بن أبي سلمة: أ لعلىّ تقولين هذا فقالت: إنّى أنسى فاذا نسيت فذكّروني، و هذه سخريّة منها بزينب و تمويه خوفا من شناعتها، و معلوم أنّ النّاسي و السّاهى لا يتمثّل بالشّعر في الأغراض المطابقة، و لم يكن ذلك منها إلّا عن قصد و معرفة.

و روى عن ابن عبّاس أنّه قال لأمير المؤمنين لمّا أبت عايشة الرّجوع إلى المدينة: أرى أن تدعها يا أمير المؤمنين بالبصرة و لا ترحلها، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّها لا تالو شرّا و لكنّي أردّها إلى بيتها الّذي تركها فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏فانّ اللّه بالغ أمره.

و روى محمّد بن إسحاق عن جنادة أنّ عايشة لمّا وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة لم تزل تحرّض النّاس على أمير المؤمنين، و كتبت إلى معاوية و إلى أهل الشّام مع الأسود بن أبي البختري تحرّضهم عليه صلوات اللّه عليه.
و روى عن مسروق أنّه قال: دخلت على عايشة فجلست إليها فحدّثتني و استدعت غلاما أسود يقال له: عبد الرّحمن، فجاء حتّى وقف فقالت: يا مسروق أ تدرى لم سمّيته عبد الرّحمن فقلت: لا، فقالت: حبّا منّى لعبد الرّحمن بن ملجم فأمّا قصّتها في دفن الحسن فمشهورة حتّى قال لها عبد اللّه بن عباس: يوما على بغل و يوما على جمل، فقالت: أو ما نسيتم يوم الجمل يا ابن عبّاس إنّكم لذوو أحقاد.

و لو ذهبنا إلى تقصّى ما روى عنها من الكلام الغليظ الشّديد الدّالّ على بقاء العداوة و استمرار الحقد و الضغينة لأطلنا و أكثرنا، و ما روى عنها من التّلهف و التّحسّر على ما صدر عنها فلا يدلّ على التّوبة إذ يجوز أن يكون ذلك من حيث خابت عن طلبتها و لم تظفر ببغيتها مع الذّلّ الّذي لحقها و ألحقها العار في الدّنيا و الاثم في الآخرة، انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: و يدلّ على استمرار حقدها و بقاء عداوتها أيضا ما في الارشاد للمفيد (ره) قال: روى عكرمة عن عايشة في حديثها له بمرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وفاته فقالت في جملة ذلك: فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متوكّئا على رجلين أحدهما الفضل بن العبّاس، فلما حكى عنها ذلك لعبد اللّه بن العبّاس قال له: أ تعرف الرّجل الآخر قال: لا لم تسمّه لي، قال: ذاك عليّ بن أبي طالب و ما كانت امّنا تذكره بخير و هى تستطيع.

الترجمة

از جمله كلام آن بزرگوار است كه خطاب فرمود با آن اهل بصره را بر سبيل قصّه گوئى از واقعهاى عظيمه مى ‏فرمايد:

پس كسى كه استطاعت داشته باشد نزد آن حادثها اين كه حبس نمايد نفس خود را بر طاعت خدا پس بايد كه بكند آنرا پس اگر اطاعت نمائيد مرا پس بدرستى كه من حمل كننده شما هستم إنشاء اللّه بر راه بهشت و اگر چه مى‏باشد آن راه صاحب مشقّت سخت و چشيدني تلخ، و أمّا فلانة يعنى عايشه خاطئه پس دريافت او را رأى سست زنان و كينه ديرينه كه جوش زد در سينه او مثل ديك جوشنده آهنگران، و اگر خوانده شدى كه فرا گيرد از غير من آنچه كه آورد بسوى من نمى‏كرد، يعني اگر دعوت مى‏نمودند او را كه اقدام نمايد در حق غير من بمثل آنچه اقدام كرد در حقّ من از مخالفت و عداوت و خصومت البته اقدام نمى‏نمود، و با همه اين مر او راست بعد از اين همه قبايح كه از او صادر شد حرمت قديمه او كه در زمان حضرت رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم داشت و حساب بر پروردگار است.
ما كارهاى او بخداوند كار ساز بگذاشتيم تا غضب او چه مى‏ كند

الفصل الثاني منه

– سبيل أبلج المنهاج، أنور السّراج، فبالإيمان يستدلّ على الصّالحات، و بالصّالحات يستدلّ على الإيمان، و بالإيمان يعمر العلم، و بالعلم يرهب الموت، و بالموت تختم الدّنيا، و بالدّنيا تحرز الآخرة، و بالقيامة تزلف الجنّة للمتّقين، و تبرز الجحيم للغاوين، و إنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة، مرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى. منه- قد شخصوا من مستقرّ الأجداث، و صاروا إلى مصائر الغايات، لكلّ دار أهلها، لا يستبدلون بها، و لا ينقلون عنها، و إنّ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر لخلقان من خلق اللّه سبحانه، و إنّهما لا يقرّبان من أجل، و لا ينقصان من رزق، و عليكم بكتاب اللّه فإنّه الحبل المتين، و النّور المبين، و الشّفآء النّافع، و الرّيّ النّاقع، و العصمة للمتمسّك، و النّجاة للمتعلّق، لا يعوج فيقام، و لا يزيغ فيستعتب، و لا تخلقه كثرة الرّدّ، و ولوج السّمع، من قال به صدق، و من عمل به سبق. و قام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة و هل سألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عليه السّلام: لمّا أنزل اللّه سبحانه قوله:- الم أ حسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا و هم لا يفتنون- علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين أظهرنا، فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الفتنة الّتي أخبرك اللّه بها فقال: يا عليّ إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي، فقلت: يا رسول اللّه أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين و حيزت عنّي الشّهادة فشقّ ذلك عليّ فقلت لي: أبشر فإنّ الشّهادة من ورائك، فقال لي: إنّ ذلك لكذلك فكيف صبرك إذا فقلت:

يا رسول اللّه ليس هذا من مواطن الصّبر و لكن من مواطن البشرى و الشكر، و قال يا عليّ: إنّ الأمّة سيفتنون بعدي بأموالهم، و يمنّون بدينهم على ربّهم، و يتمنّون رحمته، و يأمنون سطوته، و يستحلوّن حرامه بالشّبهات الكاذبة، و الأهواء السّاهية، فيستحلوّن الخمر بالنّبيذ، و السّحت بالهديّة، و الرّبا بالبيع، فقلت: يا رسول اللّه فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك أ بمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة فقال: بمنزلة فتنة.

اللغة

(بلج) الصّبح بلوجا من باب قعد أسفر و أنار و (أرقل) أسرع و (شخص) من بلد كذا رحل و خرج منه و (الأجداث) القبور جمع جدث بالتّحريك كأسباب و سبب و (الشّفاء النّافع) بالفاء و (الرّى النّاقع) بالقاف يقال: ماء ناقع أى ينقع الغلة أى يقطعها و يروى منها.

الاعراب

قال في الكشّاف: الحسبان لا يصحّ تعلّقه بمعانى المفرد و لكن بمضامين الجمل، ألا ترى أنّك لو قلت حسبت زيدا و ظننت الفرس لم يكن شيئا حتّى تقول حسبت زيدا عالما و ظننت الفرس جوادا، لأنّ قولك زيد عالم أو الفرس جواد كلام دالّ على مضمون فأردت الأخبار عن ذلك المضمون ثابتا عندك على وجه الظنّ لا اليقين، فلم تجد بدّا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه من ذكر شطرى الجملة مدخلا عليهما فعل الحسبان حتّى يتمّ لك غرضك.

فان قلت: فأين الكلام الدّالّ على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية قلت: هو قوله: أن يتركوا أن يقولوا آمنّا و هم لا يفتنون، و ذلك لأنّ تقديره أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنّا فالتّرك أوّل مفعولي حسب، و لقولهم آمنّا هو الخبر، و انا غير مفتونين فتتمّة التّرك لأنّه من التّرك الّذي هو بمعنى التّصيير كقوله: فتركته جزر السّباع ينشنه، ألا ترى أنّك قبل المجي‏ء بالحسبان تقدر أن تقول تركهم غير مفتونين لقولهم آمنّا على تقدير حاصل و مستقرّ قبل اللّام فان قلت: أن يقولوا هو علّة قولهم غير مفتونين فكيف يصحّ أن يكون خبر مبتدأ قلت كما تقول: خروجه لمخافة الشرّ و ضربه للتّأديب، و قد كان التأديب و المخافة في قولك خرجت مخافة الشّر و ضربته تأديبا تعليلين و تقول أيضا: حسبت خروجه لمخافة الشرّ و ظننت ضربه للتأديب، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ و خبرا.
و الهمزة في قوله عليه السّلام: أو ليس قد قلت، للاستفهام التّقريرى كما في قوله تعالى: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ و المقصود به حمل المخاطب على الاقرار بما دخله النّفى

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه مشتمل على فصلين:

الفصل الاول (منه)
في وصف الدّين و الايمان و هو قوله (سبيل أبلج المنهاج) استعارة مرشّحة فانّ الايمان لمّا كان موصلا لصاحبه الى الجنّة و إلى حظاير القدس صحّ استعارة لفظ السّبيل له كما صحّ التعبير عنه بلفظ الصراط بذلك الاعتبار أيضا في قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.

فهو طريق أوضح المسلك إلى الجنّة (و أنور السّراج) لا يضلّ سالكها البتّة لوضوحها و إضاءتها (فبالايمان يستدلّ على الصّالحات و بالصّالحات يستدلّ على الايمان) قال الشارح البحراني: و الصّالحات هى الأعمال الصّالحات من ساير العبادات و مكارم الأخلاق الّتي وردت بها الشريعة و ظاهر كونها معلولات للايمان و ثمرات له يستدلّ بوجوده في قلب العبد على ملازمته لها استدلالا بالعلّة على المعلول، و يستدلّ بصدورها من العبد على وجود الايمان في قلبه استدلالا بالمعلول على العلّة (و بالايمان يعمر العلم) إذ من المعلوم أنّ فضل العلم و كماله إنّما هو العمل بالأركان و العمل بالأركان إمّا شرط للايمان أو شطر منه حسبما عرفته في شرح الخطبة المأة و التاسعة فيكون فضله و كماله بالايمان، و هو معنى كونه معمورا به.

و يؤمى إليه قول الصّادق عليه السّلام: لا يقبل اللّه عملا إلّا بمعرفة و لا معرفة إلّا بعمل فمن عرف دلّته المعرفة على العمل و من لم يعمل فلا معرفة له الا أنّ الايمان بعضه من بعض.
و قال عليّ بن الحسين عليه السّلام: مكتوب في الانجيل: لا تطلبوا علم ما لا تعلمون و لمّا تعملوا بما علمتم، فانّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلّا كفرا و لم يزدد من اللّه إلّا بعدا.

(و بالعلم يرهب الموت) لأنّ العلم بالمبدإ و المعاد مستلزم لذكر الموت و التّوجه اليه و إلى ما يتلوه من الشدائد و الأهوال، و ذلك موجب للرّهبة منه لا محالة و أمّا الجاهل فهو غافل عن ذلك لكون همّته مقصورة على الدنيا مصروفة اليها (و بالموت تختم الدّنيا) و هو ظاهر إذ الموت آخر منازل الدّنيا كما هو أوّل منازل الآخرة (و بالدّنيا تحرز الآخرة) لأنّها دار التكليف و فيها يقام العبادات و يقتنى الحسنات فيفاز بالجنّات و ينال السّعادات فهى محلّ الاستعداد لتحصيل الزاد ليوم المعاد (و بالقيامة تزلف الجنّة للمتّقين و تبرز الجحيم للغاوين) اقتباس من الآية الشّريفة في سورة الشّعرا قال سبحانه: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَ أُزْلِفَتِ‏الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ.

أى قربت الجنّة و قدّمت للسّعداء بحيث يرونها من الموقف فيبجحون بأنّهم المحشورون إليها، و تظهر الجحيم للأشقياء فيرونها مكشوفة بارزة فيتحسّرون على أنهم المسوقون اليها (و أنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة) أى لا محبس و لا غاية لهم دونها و لا مانع من ورودهم عليها (مرقلين) أى مسرعين (في مضمارها) و هو مدّة الحياة الدّنيا (إلى الغاية القصوى) قال الشّارح البحراني قوله: و إنّ الخلق لا مقصر لهم الى آخره كلام في غاية الحسن مع غزارة الفايدة، و هو إشارة إلى أنّه لا بدّ لهم من ورود القيامة و مضمارها مدّة الحياة الدّنيا، و هو لفظ مستعار، و وجه المشابهة كون تلك المدّة محلّ استعداد النّفوس للسباق إلى حضرة اللّه كما أنّ المضمار محلّ استعداد الخيل للسباق، و ارقالهم كناية عن سيرهم المتوهّم في مدّة أعمارهم إلى الآخرة، و سرعة حثيث الزّمان بهم في اعداد أبدانهم للخراب و الغاية القصوى هى السّعادة و الشّقاوة الاخروية

الفصل الثاني (منه)

في وصف حال أهل القبور و الحثّ على الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر و على لزوم كتاب اللّه و بيان معنى الفتنة و هو قوله عليه السّلام (قد شخصوا من مستقرّ الأجداث) أى ارتحل الموتى من محلّ استقرارهم و هى القبور (و صاروا إلى مصائر الغايات) أى انتقلوا إلى محال هى غاية منازل السّالكين و منتهى سير السّائرين، يعني درجات و دركات الجحيم (و لكلّ دار) من هاتين الدّارين (أهل) من السّعداء و الأشقياء (لا يستبدلون بها) غيرها (و لا ينقلون عنها) إلى غيرها يعني أنّ أهل الجنّة لا يطلبون إبدالها لما هم عليه من عظيم النّعماء و ألذّ الآلاء، و أهل النّار لا ينقلون عنها و لو طلبوا النّقل و الأبدال لكونهم مخلّدين فيها، و هذه قرينة على أن يكون‏ مراده عليه السّلام بأهل النّار الكفار و المنافقين، إذ غيرهم من أصحاب الجرائر من المسلمين المذعنين بالولاية لا يخلّدون في النّار لو دخلوها، بل يخرجون بعد تمحيص الذّنوب إمّا بفضل من اللّه سبحانه، أو بشفاعة أولياء اللّه تعالى كما دلّت عليه الاصول المحكمة.

ثمّ حثّ على الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر بالتنبيه على فضلهما بقوله (و إنّ الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر لخلقان من خلق اللّه) قال الشّارح البحراني «ره» إطلاق لفظ الخلق على اللّه استعارة، لأنّ حقيقة الخلق ملكة نفسانية تصدر عن الانسان بها أفعال خيريّة أو شريّة، و إذ قد تنزّه قدسه تعالى عن الكيفيّات و الهيئات لم يصدق هذا اللّفظ عليه حقيقة، لكن لمّا كان الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر و الأفعال الخيريّة الّتي بها نظام العالم و بقاؤه كحكمته و قدرته وجوده و عنايته و عدم حاجته بما يتعارف من الأخلاق الفاضلة الّتي تصدر عنها الأفعال الخيريّة البشريّة، فاستعير بها لفظ الاخلاق و اطلق عليه، انتهى.

أقول: هذا كلّه مبنيّ على التجوّز في لفظ الخلق حسبما صرّح به، و يجوز ابقائه على حقيقته و البناء على التجوّز في الاضافة، يعني أنّهما خلقان نسبتهما إليه سبحانه باعتبار كونهما مرضيّين عند اللّه و محبوبين له تعالى، فصحّ بذلك الاعتبار كونهما من خلقه تعالى أى من خلق هو محبوبه و مطلوبه كما نقول: بيت اللّه تشريفا، و روح اللّه تعظيما و تكريما و نحو ذلك، هذا.

و لمّا كان أكثر النّاس يكفون عن الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر، و يمسكون عن ردع الظلمة بتوهّم أن يبطش به فيقتل أو يقطع رزقه و يحرم فأشار عليه السّلام إلى دفع هذا التّوهم بقوله (و انّهما لا يقربان من أجل و لا ينقصان من رزق) و قد روى هذا المعنى عنه عليه السّلام في حديث آخر.
و هو ما رواه في الوسايل من الكافي عن يحيى بن عقيل عن حسن عليه السّلام قال خطب أمير المؤمنين عليه السّلام فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد فانّه إنّما هلك من‏ كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي و لم ينههم الرّبانيون و الأحبار عن ذلك، و إنّهم لمّا تمادوا في المعاصي و لم ينههم الرّبانيّون و الأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر و اعلموا أنّ الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر لن يقربا أجلا و لن يقطعا رزقا.

و فيه عن الحسن بن عليّ بن شعبة في تحف العقول عن الحسين عليه السّلام قال: و يروى عن عليّ عليه السّلام اعتبروا أيها الناس بما وعظ اللّه به أوليائه من سوء ثنائه عن الأحبار إذ يقول: «لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ» و قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ و إنّما عاب اللّه ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة المنكر و الفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم و رهبة ممّا يحذرون و اللّه يقول: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ و قال الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» فبدء اللّه بالأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنّها إذا ادّيت و اقيمت استقامت الفرائض كلّها هيّنها و صعبها، و ذلك إنّ الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع ردّ المظالم و مخالفة الظّالم و قسمة الفى‏ء و الغنايم و أخذ الصدّقات من مواضعها و وضعها في حقّها، هذا و ينبغي القيام بوظايف الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر بالشروط المقرّرة في الكتب الفقهيّة، و من جملتها الأمن من الضّرر على المباشر أو على بعض المؤمنين نفسا أو مالا أو عرضا، فلو غلب على ظنّه أو قطع بأن يصيبه أو يصيبهم ضرر بهما سقط وجوبهما، بل يحرمان كما صرّح به علماؤنا الأخيار و دلّت عليه أخبار أئمّتنا الأطهار.

روى في الوسايل عن الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن يحيى الطّويل صاحب المقري قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّما يؤمر بالمعروف و ينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ أو جاهل فيتعلّم فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا.
و عنه عن أبيه عن ابن أبي عمير عن مفضّل بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال لي: يا مفضّل من تعرّض لسلطان جائر فأصابته بليّه لم يوجر عليها و لم يرزق الصّبر عليها.
فظهر لك بما ذكرنا أنّ قوله عليه السّلام في المتن: و إنّهما لا يقربان من أجل و لا ينقصان من رزق، لا بدّ أن يحمل على صورة عدم الظنّ بالضّرر فضلا عن القطع به ثمّ أمر بلزوم اتّباع الكتاب المجيد معلّلا وجوب متابعته بأوصاف كمال نبّه عليها فقال (و عليكم بكتاب اللّه فانّه الحبل المتين) استعارة لفظ الحبل له باعتبار حصول النّجاة للمتمسّك به كما يحمل النّجاة للمتمسّك بالحبل و ذكر المتانة ترشيح.

و قد وقع نظير تلك الاستعارة في النّبوي المعروف المروىّ بطرق عديدة منها ما رواه أبو سعيد الخدرى قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض.

(و النّور المبين) و هو أيضا استعارة لأنّه نور عقليّ ينكشف به أحوال المبدأ و المعاد و يهتدى به في ظلمات برّ الأجسام و بحر النّفوس كما يهتدى بالنّور المحسوس في الغياهب و الظّلمات و نظير هذه الاستعارة قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (و الشّفاء النّافع) إذ به يحصل البرء من الأسقام الباطنيّة و الأمراض النّفسانيّة كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ و قال في موضع آخر: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (و الرّى النّاقع) أى القاطع لغليل العطشان بماء الحياة الأبديّة أعني ما تضمّنه من المعارف الحقّة و العلوم الالهيّة (و عصمة للمتمسّك و نجاة للمتعلّق) يعني من تمسّك و تعلّق به و أخذ بأحكامه و عمل بها فهو يعصمه من غضب الجبّار و ينجيه من دخول النّار (لا يعوجّ فيقام) لأنه كلام الحقّ يصدّق بعضه بعضا «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» و احتاج إلى إصلاح اختلافه و إقامة اعوجاجه و خلله‏ (و لا يزيغ فيستعتب) أى لا يميل و لا يعدل عن الحقّ حتّى يطلب عتباه و رجوعه إليه (و لا يخلقه كثرة الرّد و ولوج السّمع) يعني أنّ كلّ كلام نثرا كان أو نظما لو تكرّر تردّده على الألسنة و ولوجه في الأسماع مجّه الأسماع و ملّ عنه الطّباع و اشمأزّ منه القلوب و يكون خلقا مبتذلا مرذولا، و أمّا القرآن الكريم فلا يزال غضّا طريّا يزداد على كثرة التّكرار و طول التّلاوة في كرور الأعصار و مرور الدّهور حسنا و بهاء و رونقا و ضياء هو المسك ما كرّرته يتضوّع و ذلك من جملة خصائصها الّتي امتاز بها عن كلام المخلوق.

(من قال به صدق) لأنّه كلام مطابق للواقع فالقول بما أفاده البتّة يكون صدقا و القائل به صادقا (و من عمل به سبق) إلى درجات الجنان و فاز أعظم الرّضوان قال السّيّد (ره) (و قام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة) الظّاهر أنّ الّلام فيها للعهد و تكون الاشارة بها إلى فتنة معهودة سبق ذكرها في كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في الكتاب العزيز في الآية الآتية وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» و غيرهما، و الفتنة تكون لمعان شتّى من الابتلاء و الامتحان و الاضلال و العذاب و الفضيحة و الكفر و الاثم و اختلاف النّاس في الآراء و نحوها.
و لمّا كان خطابه عليه السّلام بذلك الكلام لأهل البصرة حسبما نبّه السّيّد في عنوانه فبقرينة مساق الكلام يحتمل أن يكون استخبار السّائل عن موضوع الفتنة ليفهم أنّ فتنة أهل البصرة هل هى داخلة في الفتنة الّتي أخبر اللّه بها و رسوله، و أن يكون عن حكمها.

و يشعر بالأوّل جوابه للسّائل بما ينقله عن رسول اللّه من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ إنّ امّتي صيفتنون من بعدي، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا: يا عليّ إنّ القوم سيفتنون بعدي.
و يشعر بالثّاني آخر كلامه عليه السّلام أعني قوله: فقلت يا رسول اللّه فبأيّ المنازل انزلهم عند ذلك أ بمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة فقال: بمنزلة فتنة.
فعلى الاحتمال الأوّل يكون معنى قوله (و هل سألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)هل سألت عن معنيها ليتبيّن المراد بها.

و على الاحتمال الثّاني فالمعنى هل سألت عن حكمها عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليعلم أنّ المفتونين مرتدّون أم لا (فقال عليه السّلام) في جواب المستخبر.
(لمّا أنزل اللّه سبحانه قوله الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ قال في الكشّاف في تفسير الآية: الفتنة الامتحان بشدايد التّكاليف من مفارقة الأوطان و مجاهدة الأعداء و ساير الطّاعات الشّاقّة و هجر الشّهوات و الملاذّ، و بالفقر و القحط و أنواع المصائب في الأنفس و الأموال، و بمصابرة الكفار على اذاهم و كيدهم و ضرارهم، و المعنى أحسب الّذين أجروا كلمة الشّهادة على ألسنتهم و أظهروا القول بالايمان أنّهم يتركون لذلك غير ممتحنين، بل يمتحنهم اللّه بأنواع المحن و ضروب البلا حتّى يبلو صبرهم و ثبات أقدامهم و صحّة عقايدهم و خلوص نيّاتهم ليتميّز المخلص من غير المخلص و الرّاسخ في الدّين من المضطرب و المتمكّن من العابد على حرف، انتهى.

أقول: و بنحو ذلك فسّره غير واحد من علماء التّفسير، و محصّله أنّ المراد بالفتنة الامتحان و الابتلاء في النّفس و المال.
و رواه الطبرسي في مجمع البيان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم و أموالهم، و المستفاد من غير واحد من الأخبار الآتية أنّ المراد بها خصوص الامتحان بالولاية، و اليه يرجع ما أجاب به أمير المؤمنين عليه السّلام هنا للسائل المستخبر، و لا تنافي بين المعنيين إذ الأوّل تنزيله و الثاني تأويله و لا غبار عليه و إنّما الاشكال في قوله (علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين أظهرنا) لظهور أنّ الآية لا دلالة فيها على عدم نزول الفتنة بهم مع كون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بينهم فمن أين علم أمير المؤمنين عليه السّلام ذلك، و قد تنبّه لذلك الشّارح المعتزلي و أجاب عنه بما لا يعبأ به حيث قال: فان قلت: فلم قال عليه السّلام علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين أظهرنا.

قلت: لقوله تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ» آه و أنت خبير بما فيه.
أمّا أوّلا فلأنّ هذا الجواب كما ترى مبنيّ على جعل الفتنة في الآية بمعنى العذاب، و قد علمت أنّ كلام أمير المؤمنين في هذا المقام ناظر إلى كونها بمعنى الامتحان بالولاية و التنافي بين المعنيين ظاهر.
و أمّا ثانيا فلأنّا بعد الغضّ عمّا ذكرنا نقول إنّ قوله: علمت، جواب لما و هو يفيد أنّ منشأ علمه بعدم نزول الفتنة هو قوله: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ الآية، لا قوله: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ، و العلم بعدم نزول العذاب من الآية الثّانية لا يلازم حصول العلم من الآية الأولى على ما هو مقتضى ظاهر كلامه عليه السّلام.

و الّذي عندي في رفع ذلك الاشكال أنّه عليه السّلام علم ذلك حين نزول الآية باعلام النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقد روى في الصّافي عنه عليه السّلام أنّه لما نزلت هذه الآية قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا بدّ من فتنة تبتلى به الأمّة بعد نبيّها ليتعيّن الصّادق من الكاذب، لأنّ الوحى قد انقطع و بقى السّيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة.
فانّ هذه الرّواية ككثير من الرّوايات الآتية صريحة في أنّ نزول الفتنة إنّما يكون بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فحصل بذلك العلم له عليه السّلام بأنّها لا تنزل مع كونه بين أظهرهم.

و لمّا كان ذلك الاخبار من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين نزول الآية صحّ بذلك الاعتبار قوله عليه السّلام: لمّا أنزل اللّه قوله الم آه علمت إلى قوله (فقلت يا رسول اللّه ما هذه الفتنة التيّ أخبرك اللّه بها فقال يا عليّ انّ امّتى سيفتنون من بعدى) و هذا الجواب من النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له عليه السّلام و إن كان مجملا لم يصرّح فيه بانّ افتتان الامّة بعده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما ذا إلّا أنّه عليه السّلام قد فهم منه أنّ مراده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منه الافتتان به عليه السّلام و امتحانهم بولايته.
و فهمه عليه السّلام ذلك منه إمّا من باب سرّ الحبيب مع الحبيب أو بقرينة تصريحه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به في غيره، فقد روى في غاية المرام عن ابن شهر اشوب عن أبي طالب الهروي‏باسناده عن علقمة و أبي أيّوب أنّه لمّا نزل ألم أحسب النّاس الآيات، قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمّار: إنّه سيكون من بعدى هناة حتّى يختلف السّيف فيما بينهم و حتّى يقتل بعضهم بعضا و حتّى يتبرّء بعضهم من بعض، فاذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني عليّ بن أبي طالب، فان سلك النّاس كلّهم واديا فاسلك وادى علىّ و خلّ عن النّاس، يا عمّار إنّ عليّا لا يردّك عن هدى و لا يردّك إلى ردى، يا عمّار طاعة علىّ طاعتي و طاعتي طاعة اللّه.

و فيه عنه من طريق العامّة أيضا في قوله الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ قال عليّ عليه السّلام يا رسول اللّه ما هذه الفتنة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ بك و أنك المخاصم فأعدّ للخصومة.
و فيه عن محمّد بن العباس مسندا عن الحسين بن عليّ عن أبيه صلوات اللّه عليهم أجمعين قال: لما نزلت: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ الآية قال: قلت يا رسول اللّه ما هذه قال: يا على إنّك مبتلى بك و أنت مخاصم فأعدّ للخصومة.

و عن محمّد بن العباس قال: حدّثنا أحمد بن هودة عن إبراهيم بن إسحاق عن عبد اللّه بن حماد عن سماعة بن مهران قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات ليلة في المسجد، فلمّا كان قرب الصّبح دخل أمير المؤمنين عليه السّلام فناداه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا عليّ، فقال: لبيّك قال: هلمّ إليّ، فلمّا دنى منه قال: يا عليّ بت اللّيلة حيث تراني و قد سألت ربّي ألف حاجة فقضيها لي و سألت لك ربّي أن يجمع لك امّتى من بعدي فأبى عليّ ربّي فقال: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ. و هذه الرّوايات و ما بمعناها«» ممّا لم نوردها خوف الاطالة كما ترى‏ صريحة في الدلالة على أنّ الافتتان بعده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما هو بولاية أمير المؤمنين عليه السّلام فهى رافعة للاجمال في الجواب المرويّ في المتن مبنيّة لكون مراد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: إنّ امّتي سيفتنون من بعدي افتتانهم بها و امتحانهم به عليه السّلام.

و لمّا كان ذلك مبعدا لما كان ينتظره عليه السّلام و يرجوه من شهادته الّتي بشرّ بها النبيّ و موهما لعدم تنجّز ما بشّر به و مفيدا لعدم حصوله في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حال حياته و كان فيه خوف فوت المطلوب لا جرم أعاد عليه السّلام السّؤال تحصيلا لاطمينان القلب كما سأل إبراهيم ربّه بقوله: كيف تحيى الموتى فقال عليه السّلام (فقلت أ و ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين و حيزت) أى منعت (عنّي الشهادة فشقّ ذلك علىّ فقلت لي: ابشر فانّ الشّهادة من ورائك فقال لي: إنّ ذلك كذلك) يعني أنّ الشهادة واقعة لا محالة و إن لم تكن في زماني و في مجاهداتك الّتي بين يديّ، هذا.

و يجوز أن تكون الهمزة في قوله: أو ليس قد قلت، لم يرد بها الاستفهام و التقرير، بل المراد بها الاستبطاء نظير ما قاله علماء البيان في مثل: كم دعوتك من أنّ الغرض به ليس السؤال و الاستفهام، بل المراد الاستبطاء و هو الوصف بالبطوء أى عدّ المتكلم المخاطب بطيئا في اجابة الدّعوة، و الغرض من الكلام الشّكاية عن بطوء الاجابة و الحثّ عليها.

و معنى الاستبطاء فيما نحن فيه وصف ما قاله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما بشّر به من الشهادة بالبطوء و الشّكاية من تأخيره فانّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما أخبر بأنّ الامة سيفتنون بعده أحبّ عليه السّلام أن لا يبقى إلى زمان تلك الفتنة فقال ذلك الكلام استبطاء للشهادة فافهم جيدا.

ثمّ أراد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الابانة عن علوّ همّته عليه السّلام و الافصاح عن ثبات قدمه في جنب اللّه فقال (فكيف صبرك إذا) يعني إذا ظفرت بالشهادة (فقلت يا رسول اللّه ليس هذا من مواطن الصّبر و لكن من مواطن البشرى و الشّكر) يعني أنّ الصبر عبارة عن تحمل المشاقّ و المكروه و هو إنّما يتصوّر في حقّ المحجوبين عن اللّه المنهمكين في لذّات الدّنيا و الغافلين عن لذّات الآخرة، فانهم يكرهون الموت و يفرّون منه و يحذرون من الشّهادة، و أمّا أولياء الدّين و أهل الحقّ و اليقين فغاية غرضهم الخروج من هذه القرية الظّالم أهلها و الفوز بلقاء الحقّ و النّيل إلى رضوانه فالموت لمّا كان وسيلة للوصول إليه فهو أحبّ إليهم من كلّ شي‏ء، و لذلك كان عليه السّلام يقول غير مرّة: و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدى امّه، و لمّا كان حصول الموت بالقتل و الشّهادة من أعظم القربات و أفضل الطّاعات كانوا مستبشرين به و شاكرين على وصول تلك النعمة العظيمة، و إليه ينظر قوله عليه السّلام في الكلام المأة و الثّانية و العشرين، إنّ أكرم الموت القتل و الّذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسّيف أهون علىّ من ميتة على فراش.

ثمّ عاد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد الاشارة إجمالا إلى افتتان الامة من بعده إلى شرح حال المفتونين و بيان أوصافهم تفصيلا (و قال يا عليّ إنّ الامّة سيفتنون بعدي بأموالهم) أى بقلّتها و كثرتها و باكتسابها من حلال أو حرام و بصرفها في مصارف الخير أو الشّر و باخراج الحقوق الواجبة منها و البخل بها و غير ذلك من طرق الامتحان (و يمنّون بدينهم على ربهم) كما منّ من قبلهم بذلك على ما حكى اللّه عنهم بقوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ (و يتمنّون رحمته و يأمنون سطوته) الأمن من سخط اللّه سبحانه كالإياس من رحمته من الكباير الموبقة، و أمّا تمنّى الرّحمة مع عدم المبالاة في الدّين فهو من صفة الجاهلين و قد روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أحمق الحمقاء من اتبع نفسه هويها و تمنّي على اللّه.

(و يستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة و الأهواء السّاهية) أى الغافلة و وصف‏الأهواء بها للمبالغة كما في قولهم: شعر شاعر، فانّ اتّباع الهوى لما كان موجبا للغفلة عن الحقّ صحّ اتّصافه به، و المراد أنّ استحلالهم للحرام بسبب متابعتهم لهوى أنفسهم الصّاد لهم عن الحقّ و الشّاغل بهم إلى الدّنيا.

روى أبو حمزة عن أبي جعفر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقول اللّه عزّ و جلّ: و عزّتي و جلالي و كبريائي و نورى و علوّي و ارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواى إلّا شتّت عليه أمره و لبّست عليه دنياه و شغلت قلبه بها و لم اوته منها إلّا ما قدرت له و عزّتي و جلالي و عظمتي و نوري و علوّي و ارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواى على هواه إلّا استحفظته ملائكتى، و كفّلت السّماوات و الأرضين رزقه و كنت له من وراء تجارة كلّ تاجر، و أتته الدّنيا و هى راغمة.

و أشار إلى تفصيل ما يستحلّونه من المحرّمات بقوله (فيستحلّون الخمر بالنّبيذ) الغالب في الخمر إطلاقه على الشّراب المتّخذ من العنب، و في النّبيذ استعمله في الشّراب المتّخذ من التّمر، و من ذلك نشأت شبهتهم حيث زعموا أنّ النّبيذ ليس بخمر فحكموا بحلّيته أى حلّية النّبيذ بتوهّم اختصاص الحرمة بالخمر فأوجب ذلك استحلالهم للخمر من حيث لا يشعرون.

و قد ذمهم عليه السّلام على ذلك تنبيها على فساد ما زعموه و هو كذلك.«» أما اولا فلمنع خروج النّبيذ من موضع الخمر، لأنّ الخمر عبارة عن كلّ ما يخمر العقل أى يستره و يغطّيه، فيشمل النّبيذ و غيره و إن كان استعماله في العصير العنبى اكثر.

و يدلّ عليه ما رواه في الوسايل عن الكليني بسنده عن عبد الرّحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخمر من خمسة: العصير من الكرم و النّقيع من الزّبيب و البتع من العسل، و المرز من الشّعير، و النّبيذ من التّمر.

و عن الكليني عن عامر بن السمط عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: الخمر من خمسة أشياء: من التمر، و الزبيب، و الحنطة، و الشّعير، و العسل.

و فيه أيضا عن ابن الشّيخ في أماليه باسناده عن النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أيّها النّاس إنّ من العنب خمرا، و إنّ من الزبيب خمرا و إنّ من التّمر خمرا، و إنّ من الشّعير خمرا، ألا أيّها النّاس أنهاكم عن كلّ مسكر.

و أما ثانيا فلمنع اختصاص حكم الحرمة بخصوص الخمر بعد تسليم عدم شموله للنّبيذ حقيقة، و ذلك لتعلّق الحكم بكلّ مسكر كما مرّ في الرّواية آنفا.
و مثله ما رواه في الوسايل عن الكلينيّ عن عطاء بن يسار عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ مسكر حرام و كلّ مسكر خمر.

و فيه عن عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ الآية، أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشّراب إذا أخمر فهو خمر و ما أسكر كثيره فقليله حرام و ذلك إنّ أبا بكر شرب قبل أن يحرم الخمر فسكر إلى أن قال فأنزل اللّه تحريمها بعد ذلك و إنّما كانت الخمر يوم حرمت بالمدينة فضيخ البسر و التّمر، فلمّا نزل تحريمها خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقعد في المسجد ثمّ دعا بآنيتهم الّتى كانوا ينبذون فيها فأكفاها كلّها، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذه كلّها خمر حرّمها اللّه فكان أكثر شي‏ء أكفى في ذلك اليوم الفضيخ و لم أعلم اكفى يومئذ من خمر العنب شي‏ء إلّا إناء واحد كان فيه زبيب و تمر جميعا، فأمّا عصير العنب فلم يكن منه يومئذ بالمدينة شي‏ء، و حرّم اللّه الخمر قليلها و كثيرها و بيعها و شرائها و الانتفاع بها، هذا.
و يدلّ على حرمة النّبيذ بخصوصه ما رواه في الوسايل عن الكلينيّ باسناده عن خضر الصّيرفي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من شرب النّبيذ على أنّه حلال خلد في النّار، و من شربه على أنّه حرام عذّب في النّار.

و عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن الحسن بن عليّ عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام لو أنّ رجلا كحل عينيه بميل من نبيذ كان حقّا على اللّه عزّ و جلّ أن يكحله بميل من نار.

و فيه عن الشّيخ باسناده عن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يكون مسلما عارفا إلّا أنّه يشرب العسكر هذا النّبيذ، فقال لي: يا عمّار إن مات فلا تصلّ عليه.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و فيما أوردناها كفاية.

(و) يستحلّون (السّحت بالهدية) السّحت الحرام و كلّ ما لا يحلّ كسبه، و في مجمع البحرين عن عليّ عليه السّلام هو الرّشوة في الحكم و مهر البغى و كسب الحجام و عسب الفحل و ثمن الكلب و ثمن الخمر و ثمن الميتة.
و الظّاهر أنّ المراد به هنا خصوص الرّشوة كما فسّره بها الصّادق عليه السّلام فيما رواه في الوسايل عن الشّيخ باسناده عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن سنان عن ابن مسكان عن يزيد بن فرقد قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السّحت فقال: هو الرّشاء في الحكم.

و المقصود أنّهم يأخذون الرّشوة إذا اهديت إليهم و يستحلّونها بزعم أنّها هديّة قال الفاضل النّراقي: الفرق بين الرّشوة و الهديّة أنّ الأولى هى المال المبذول للقاضي للتوسّل به إلى الحكم ابتداء أو إرشادا، و الثّانية هى العطيّة المطلقة أو لغرض آخر نحو التّودّد و التّقرّب إليه أو إلى اللّه، و الحاصل أنّ كلّ مال مبذول للشّخص للتّوسّل به إلى فعل صادر منه و لو مجرّد الكفّ عن شرّه لسانا أو يدا أو نحوهما فهو الرّشوة، و لا فرق في الفعل الذي هو غاية البذل أن يكون فعلا حاضرا أو متوقّعا كان يبذل للقاضي لأجل أنّه لو حصل له خصم يحكم للباذل و ان لم يكن له بالفعل خصم حاضر و لا خصومة حاضرة، و كلّ مبذول لا لغرض يفعله المبذول له بل لمجرّد التقرّب أو التودّد إليه أو يصفة محمودة أو كمال فيه فهو هدية و إن كان الغرض من التودّد و التقرّب الاحتفاظ من شرّ شخص آخر أو التّوسل إلى فعل شخص آخر يوجبه التقرّب و التودّد إليه.

و قد يستعمل لفظ أحدهما في معنى الآخر تجوّزا فما كان من الأوّل فان كان الفعل المقصود الحكم فهو حرام مطلقا سواء كان الحكم لخصومة حاضرة أو فرضيّة، و لذا حكموا بحرمة الهديّة الغير المعهودة قبل القضاء، لأنه‏قرينة على أنّ المقصود منه الحكم و لو فرضا و هو كذلك لصدق اسم الرّشوة عرفا فيشمله إطلاقاتها و عليه يحمل إطلاق ما ورد من طريق العامّة و الخاصّة كما في أمالي الشيخ أنّ هدايا العمّال كما في بعضها أو هديّة الامراء كما في بعض آخر غلول أو سحت و يدلّ عليه أيضا رواية أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجلا يقال له اللّثة على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم و هذا اهدى لى، فقام النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول: هذا لكم و هذا اهدى لي فهلّا جلس في قعب بيته أو في بيت اللّه ينظر ليهدى أم لا، و الّذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلّا جاء يوم القيامة يحمل على رقبته، الحديث.

و إن كان غير الحكم فان كان أمرا محرّما فهو أيضا كرشوة الحكم محرّم لكونه إعانة على الاثم و اتّباعا للهوى، و ان لم يكن محرّما فلا يحرم للأصل و اختصاص الأخبار المتقدّمة برشوة الحكم، و ما كان من الثاني لا يحرم.

(و) يستحلّون (الرّبا بالبيع) الرّبا لغة هو الزّيادة و شرعا هو الزّيادة على رأس المال من أحد المتساويين جنسا ممّا يكال أو يوزن، و المراد أنهم يأخذون الزّيادة بواسطة البيع أى يجعلون المبايعة وسيلة إلى أخذ تلك الزيادة و يزعمون حليّتها لأجل أنّها معاملة بتراضى الطرفين أو أنهم يستحلّون الرّبا بقياسه على البيع كما كان عليه بناء أهل الجاهليّة على ما أخبر اللّه سبحانه عنهم بقوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا.

قال الشيخ الطبرسيّ أى ذلك العقاب لهم بسبب قولهم إنّما البيع الّذي لا ربا فيه مثل البيع الّذي فيه الرّبا.
قال ابن عباس: كان الرّجل منهم إذا حلّ دينه على غريمه فطالبه به قال المطلوب منه له: زدني في الأجل و أزيدك في المال، فيتراضيان عليه و يعملان به، فاذا قيل لهم هذا ربا قالوا: هما سواء، يعنون بذلك أنّ الزّيادة في الثمن حال البيع و الزّيادة فيه بسبب الأجل عند حلّ الدّين سواء، فذمّهم اللّه به و الحق الوعيد بهم و خطاهم في ذلك لقوله تعالى: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا

و قال الفخر الرازي: اعلم أنّ الرّبا قسمان: ربا النسيئة و ربا الفضل أمّا ربا النّسيئة فهو الأمر الّذي كان متعارفا مشهورا في الجاهليّة، و ذلك أنّهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلّ شهر قدرا معيّنا و يكون رأس المال باقيا، ثمّ إذا حلّ الدّين طالبوا المديون برأس المال، فاذا تعذر عليه الأداء زادوا في الحقّ و الأجل، فهذا هو الرّبا الّذي كانوا في الجاهليّة يتعاملون به، و أمّا ربا النّقد فهو أن يباع منّ من الحنطة بمنوين منها و ما أشبه ذلك.

أما قوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ففيه مسائل: المسألة الاولى القوم كانوا في تحليل الرّبا على هذه الشّبهة، و هى أنّ من اشترى ثوبا بعشرة ثمّ باعه بأحد عشر فهذا حلال فكذا إذا باع العشرة بأحد عشر يجب أن يكون حلالا، لأنّه لا فرق في العقل بين الأمرين فهذا في ربا النقد و أمّا في ربا النّسيئة فكذلك أيضا لأنّه لو باع الثوب الّذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر وجب أن يجوز، لأنّه لا فرق في العقل بين الصّورتين، و ذلك لأنّه إنّما جاز هنا لأنّه حصل التّراضى فيه من الجانبين فكذا ههنا لمّا حصل التّراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضا، فالبياعات إنّما شرعت لدفع الحاجات و لعلّ الانسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة و يكون له في المستقبل من الزّمان أموال كثيرة فاذا لم يجز الرّبا لم يعطه ربّ المال شيئا فيبقى الانسان في الشّدة و الحاجة أمّا بتقدير جواز الرّبا فيعطيه ربّ المال طمعا في الزّيادة و المديون يردّه عند وجدان المال مع الزّيادة و إعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال، فهذا يقتضى حلّ الرّبا كما حكمنا بحلّ ساير البياعات لأجل دفع الحاجة فهذا هو شبهة القوم و اللّه تعالى أجاب عنه بحرف واحد و هو قوله: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا.

و وجه الجواب أنّ ما ذكرتم معارضة للنّص بالقياس و هو من عمل إبليس فانّه تعالى لمّا أمره بالسّجود لآدم عليه السّلام عارض النّص بالقياس فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ‏خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، و ذكر الفرق بين البابين فقال: من باع ثوبا يساوى العشرة بالعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين، فلمّا حصل التّراضي على هذا التّقابل صار كلّ واحد منهما مقابلا للآخر في الماليّة عندهما فلم يكن أخذ من صاحبه شيئا بغير عوض، أمّا إذا باع العشرة بالعشرين فقد أخذ العشرة الزّايدة من غير عوض.

و لا يمكن أن يقال إنّ عوضه هو الامهال في المدّة، لأنّ الامهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتّى يجعله عوضا من العشرة الزّايدة، فظهر الفرق بين الصّورتين إلى أن قال: المسألة الثالثة في الآية سؤال، و هو أنّه لم لم يقل إنّما الرّبا مثل البيع و ذلك لأنّ حلّ البيع متّفق عليه فهم أرادوا أن يقيسوا عليه الرّبا، و من حقّ القياس أن يشبه محلّ الخلاف بمحلّ الوفاق، فكان نظم الآية أن يقال إنّما الرّبا مثل البيع في الحكمة في قلب هذه القضيّة فقال إنّما البيع مثل الرّبا و الجواب أنّه لم يكن مقصود القوم أن يتمسّكوا بنظم القياس، بل كان غرضهم أنّ الرّبا و البيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحلّ و الثّاني بالحرمة، و على هذا التّقدير فايّهما قدّم أو أخّر جاز، هذا.

و قال الرازى و ذكروا في سبب تحريم الرّبا وجوها: أحدها الرّبا يقتضى أخذ مال الانسان من غير عوض لأنّ من يبيع الدّرهم بالدّرهمين نقدا أو نسية فيحصل له زيادة درهم من غير عوض، و مال الانسان متعلّق حاجته و له حرمة عظيمة.

فان قيل: لم لا يجوز أن يكون إبقاء رأس المال في يده مدّة مديدة عوضا عن الدّرهم الزّايد، و ذلك لأنّ رأس المال لو بقى في يده هذه المدّة لكان يمكن المالك أن يتّجر فيه و يستفيد بسبب تلك التّجارة ربحا، فلمّا تركه في يد المديون و انتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى ربّ المال ذلك الدّرهم الزّايد عوضا عن انتفاعه بماله.

قلنا: إنّ هذا الانتفاع الّذي ذكرتم أمر موهوم لا ينفكّ عن نوع ضرر موهوم قد يحصل و قد لا يحصل، و اخذ الدراهم الزائدة أمر متيقّن فتفويت المتيقّن لأجل الأمر الموهوم لا ينفكّ عن نوع ضرر و ثانيها قال بعضهم: اللّه تعالى إنّما حرّم الرّبا من حيث إنّه يمنع النّاس عن الاشتغال بالمكاسب، و ذلك لأنّ صاحب الدّرهم إذا تمكّن بواسطة عقد الرّبا من تحصيل الدّرهم الزائد نقدا كان أو نسية خفّ عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمّل مشقّة الكسب و التّجارة و الصّناعات الشّاقة، و ذلك يفضى إلى انقطاع منافع الخلق و من المعلوم أنّ مصالح العالم لا تنتظم إلّا بالتجارات و الحرف و الصّناعات و العمارات و ثالثها قيل: السّبب في تحريم عقد الرّبا إنّه يفضى إلى انقطاع المعروف بين النّاس من القرض، لأنّ الرّبا إذا حرم طابت النّفوس بقرض الدّرهم و استرجاع مثله، و لو حلّ الرّبا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدّرهم بدرهمين، فيفضى ذلك إلى انقطاع المواساة و المعروف و الاحسان.

أقول: و هذا الوجه الأخير هو المروىّ عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّما شدّد اللّه في تحريم الرّبا لئلّا يمتنع النّاس من اصطناع المعروف قرضا و رفدا.
قال بعض العارفين: آكل الرّبا أسوء حالا من جميع مرتكبى الكبائر، فانّ كل مكتسب له توكّل ما في كسبه قليلا كان أو كثيرا كالتّاجر و الزارع و المحترف لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم و لم يتعيّن لهم قبل الاكتساب، فهم على غير معلوم في الحقيقة كما قال رسول اللّه: أبي اللّه أن يرزق المؤمن إلّا من حيث لا يعلم، و أمّا آكل الربا فقد عيّن مكسبه و رزقه و هو محجوب عن ربّه بنفسه و عن رزقه بتعيّنه لا توكل له أصلا، فوكّله اللّه إلى نفسه و عقله و أخرجه من حفظه و كلائته فاحتفظته الجنّ و خبلته فيقوم يوم القيامة و لا رابطة بينه و بين اللّه عزّ و جلّ كساير النّاس المرتبطين به بالتّوكل، فيكون كالمصروع الّذي مسّه الشّيطان فتخبّطه لا يهتدى إلى مقصد، هذا.

و الأخبار في عقاب الرّبا كثيرة جدّا منها ما في الصّافي عن الكافي عن الصّادق عليه السّلام درهم ربا أشدّ من سبعين‏ زنية كلّها بذات محرم، و زاد في الفقيه و التّهذيب مثل خالة و عمّة، و زاد القمّي في بيت اللّه الحرام، و قال: الرّبا سبعون جزء أيسره مثل أن ينكح الرّجل امّه في بيت اللّه الحرام.

و عن الفقيه و التهذيب عن أمير المؤمنين عليه السّلام لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الرّبا و آكله و بايعه و مشتريه و كاتبه و شاهديه.
ثمّ إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما بيّن لأمير المؤمنين عليه السّلام أوصاف المفتونين فأعاد عليه السّلام السؤال و قال (فقلت يا رسول اللّه فبأىّ المنازل أنزلهم عند ذلك أ بمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة فقال بمنزلة فتنة) و ذلك لبقائهم على الاقرار بالشهادتين و ان ارتكبوا من المحارم ما ارتكبوا لشبه غطت على أعين أبصارهم، فلا يجرى عليهم في الظاهر أحكام الكفر و إن كانوا باطنا من أخبث الكفار.

تنبيهات

– الاول

قال الشارحان المعتزلي و البحراني: إنّ هذا الخبر الذي رواه أمير المؤمنين عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد رواه كثير من المحدّثين عنه عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب علىّ جهاد المشركين قال عليه السّلام فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الفتنة التي كتب علىّ فيها الجهاد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلّا اللّه، و أنّي رسول اللّه و هم مخالفون للسنّة، فقلت: يا رسول اللّه فعلى م أقاتلهم و هم يشهدون كما أشهد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: على الاحداث في الدّين و مخالفة الأمر، فقلت: يا رسول اللّه إنّك كنت وعدتنى بالشهادة فاسأل اللّه أن يعجّلها لي بين يديك، قال: فمن يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين أما أنّى وعدتك بالشهادة و ستشهد تضرب على هذا فتخضب هذه فكيف صبرك إذا فقلت يا رسول اللّه ليس ذا بموطن صبر هذا موطن شكر، قال: أجل أصبت فأعدّ للخصومة فانك مخاصم، فقلت: يا رسول اللّه لو بيّنت لي قليلا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ امّتي ستفتن‏من بعدى فتتأوّل القرآن، و تعمل بالرّأى، و تستحلّ الخمر بالنبيذ، و السحت بالهديّة و الرّبا بالبيع، و تحرّف الكلم عن مواضعه، و تغلب كلمة الضّلال فكن جليس بيتك حتّى تقلّدها، فاذا قلّدتها، جاشت عليك الصّدور، و قلبت لك الامور، فقاتل حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فليست حالهم الثّانية دون حالهم الاولى، فقلت: يا رسول اللّه فبأىّ المنازل انزل هؤلاء المفتونين أ بمنزلة فتنة أم بمنزلة ردّة فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل، فقلت يا رسول اللّه أ يدركهم العدل منّا أم من غيرنا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بل منّا، بنا فتح اللّه و بنا يختم، و بنا ألّف اللّه بين القلوب بعد الشّرك، فقلت: الحمد للّه على ما وهب لنا من فضله.

بيان

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كن جليس بيتك هكذا في نسخة الشّارح المعتزلي فعيل بمعنى فاعل أى كن من يجالس بيتك، و في نسخة البحراني حلس بيتك بالحاء المهملة وزان حبر قال في مجمع البحرين: في الخبر كونوا أحلاس بيوتكم، الحلس بالكسر كساء يوضع على ظهر البعير تحت البرذعة، و هذا هو الأصل، و المعنى الزموا بيوتكم لزوم الاحلاس و لا تخرجوا منها فتقعوا في الفتنة، و الضّمير في تقلّدها و قلّدتها على البناء للمفعول فيهما راجع إلى الخلافة، و التّقليد مأخوذ من عقد القلادة على الاستعارة و تقليدهم اطاعتهم و ترك الفساد، و جاش القدر بالهمز و غيره غلا، و قلبت لك الامور أى دبّروا أنواع المكائد و الحيل.

الثاني

قال الشّارح المعتزلي: في قوله عليه السّلام: بل بمنزلة فتنة، تصديق لمذهبنا في أهل البغى و أنّهم لم يدخلوا في الكفر بالكلّية، بل هم فسّاق، و الفاسق عندنا في منزلة بين المنزلتين خرج من الايمان و لم يدخل في الكفر، انتهى.
اقول: قد علمت تحقيق الكلام في حكم البغاة و الخوارج في شرح الخطبة

الثّالثة و الثّلاثين و ظهر لك هناك أنّهم محكومون بكفرهم باطنا و إن يجرى عليهم في الظّاهر أحكام الاسلام، و لقد ظفرت حيثما بلغ بنا الشّرح إلى هذا المقام على تحقيق أنيق للعلّامة المجلسي قدّس سرّه العزيز في هذا المرام، فأحببت أن أورده هنا لكونه معاضدا لما قدّمنا، فأقول: قال قدّس اللّه روحه في المجلّد الثّامن من البحار في باب حكم من حارب أمير المؤمنين عليه الصّلاة و السّلام:
تذييل في أحكام البغاة

اعلم أنّه قد اختلف في أحكام البغاة في مقامين:
الاول في كفرهم

فذهب أصحابنا إلى كفرهم قال المحقّق الطّوسي رحمة اللّه عليه في التجريد: محاربوا عليّ عليه السّلام كفرة، و مخالفوه فسقة.
أقول: و لعلّ مراده إنّ مخالفيه في الحرب و الذين لم ينصروه فسقة كما يؤمى إليه بعض كلماته فيما بعد.
و ذهب الشّافعي إلى أنّ الباغي ليس باسم ذمّ، بل هو اسم من اجتهد فأخطأ بمنزلة من خالف الفقهاء في بعض المسائل.

و قال شارح المقاصد: و المخالفون لعليّ عليه السّلام بغاة، لخروجهم على امام الحقّ بشبهة من ترك القصاص من قتلة عثمان، و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمّار رضي اللّه عنه تقتلك الفئة الباغية، و قد قتل يوم صفّين على يد أهل الشّام، و لقول عليّ عليه الصّلاة و السّلام: إخواننا بغوا علينا و ليسوا كفّارا و لا فسقة و ظلمة، لمالهم من التأويل و إن كان باطلا، فغاية الأمر أنّهم أخطئوا في الاجتهاد، و ذلك لا يوجب التّفسيق فضلا عن التّكفير.
و ذهبت المعتزلة إلى أنّه اسم ذمّ و يسمّونهم فسّاقا.

و الدّلائل على ما ذهب إليه أصحابنا أكثر من أن تحصى، و قد مضت الأخبار الدّالة عليه و سيأتي في أبواب حبّ أمير المؤمنين و إمّام المتّقين عليّ بن أبي طالب‏ عليه صلوات اللّه الملك الغالب و بغضه عليه الصّلاة و السّلام و أبواب مناقبه و ايرادها هنا يوجب التّكرار، فبعضها صريح في كفر مبغض أهل بيت العصمة و الطّهارة عليهم الصّلاة و السّلام، و لا ريب في أنّ الباغي مبغض، و بعضها يدلّ على كفر من أنكر إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه الصّلاة و السّلام، و بعضها على أنّ الجاحد له من أهل النّار، و بعضها يدلّ على كفر من لم يعرف امام زمانه، و ذلك ممّا اتّفقت عليه كلمة الفريقين، و البغى لا يجامع في الغالب معرفة الامام، و لو فرض باغ على الامام لأمر دنيويّ من غير بغض و لا انكار لامامته فهو كافر أيضا، لعدم القائل بالفرق.

ثمّ إنّ الظّاهر«» أنّ قوله تعالى: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
لا يتعلّق بقتال البغاة بالمعنى المعروف، لما عرفت من كفرهم، و إطلاق المؤمن عليهم باعتبار ما كانوا عليه بعيد، و ظاهر الآية التّالية و هى قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
بقاء المذكورين في الآية السّابقة على الايمان، و لعلّه السّرّ في خلوّ أكثر الأخبار عن الاحتجاج بهذه الآية في هذا المقام، فتكون الآية مسوقة لبيان حكم طائفتين من المؤمنين تعدّت و بغت احداهما على الاخرى لأمر دنيويّ أو غيرها ممّا لايؤدّى إلى الكفر.

الثاني فيما اغتنمه المسلمون من أموال البغاة
فذهب بعض الأصحاب إلى أنّه لا يقسم أموالهم مطلقا، و ذهب بعضهم إلى قسمة ما حواه العسكر دون غيره من أموالهم و تمسّك الفريقان بسيرته عليه السّلام في أهل البصرة.
قال الأوّلون: لو جاز الاغتنام لم يردّ عليه السّلام عليهم أموالهم و قد روى أنّه عليه السّلام نادى من وجد ماله فله أخذه فكان الرّجل منهم يمرّ بمسلم يطبخ في قدر فيسأله أن يصبر حتّى ينضج فلا يصبر فيكفاها و يأخذها، و أنّه عليه السّلام كان يعطى من القوم من له بيّنه و من لم يكن له بيّنه فيحلفه و يعطيه.

و قال الآخرون لو لا جوازه لما قسم عليه السّلام أموالهم أوّلا بين المقاتلة و قد كان ردّها عليهم بعد ذلك على سبيل المنّ لا الاستحقاق كما منّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على كثير من المشركين، و قد رووا عنه عليه السّلام أنّه قال: مننت على أهل البصرة كما منّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أهل مكّة، و لذا ذهب بعض أصحابنا على جواز استرقاقهم كما جاز للرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أهل مكّة، و المشهور عدمه.

و الّذي نفهم من الأخبار أنّهم واقعا في حكم المشركين و غنايمهم و سبيهم في حكم غنايم المشركين و سبيهم، و القائم عليه السّلام يجرى عليهم تلك الأحكام، و لمّا علم أمير المؤمنين عليه السّلام استيلاء المخالفين على شيعته لم يجر هذه الأحكام عليهم لئلّا يجروها على شيعته، و كذا الحكم بطهارتهم و جواز مناكحتهم و حلّ ذبيحتهم لاضطرار معاشرة الشّيعة معهم في دولة المخالفين.

و يدلّ عليه ما رواه الكلينيّ باسناده عن أبي بكر الحضرمي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لسيرة علىّ يوم البصرة كانت خيرا للشّيعة ممّا طلعت عليه الشّمس لأنّه علم أنّ للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته، قلت فأخبرني عن القائم أ يسير بسيرته عليه السّلام قال: لا إنّ عليّا سار فيهم بالمنّ، للعلم من دولتهم، و إنّ القائم عليه السّلام يسير فيهم بخلاف تلك السّيرة، لأنّه لا دولة لهم.

و أمّا ما لم يحوها العسكر من أموالهم فنقلوا الاجماع على عدم جوازتملّكها، و كذلك ما حواه العسكر إذا رجعوا إلى طاعة الامام عليه السّلام و إنّما الخلاف فيما حواه العسكر مع إصرارهم، و أمّا مدبرهم و جريحهم و أسيرهم فذو الفئة منهم يتبع و يجهز عليه و يقتل، بخلاف غيره، و قد مضت الأخبار في ذلك و ستأتي في باب سيرته عليه السّلام في حروبه.

تكملة

قال الشّيخ قدّس اللّه روحه في تلخيص الشّافي عندنا أنّ من حارب أمير المؤمنين و ضرب وجهه و وجه أصحابه بالسّيف كافر، و الدّليل المعتمد في ذلك إجماع الفرقة المحقّة الاماميّة على ذلك، فانّهم لا يختلفون في هذه المسألة على حال من الأحوال و تدلّلنا على أنّ إجماعهم حجّة فيما تقدّم، و أيضا فنحن نعلم أنّ من حاربه عليه السّلام كان منكرا لامامته و دافعا لها، و دفع الامامة كفر كما أنّ دفع النّبوّة كفر، لأنّ الجهل بهما على حدّ واحد.
و قد روى عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: من مات و هو لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة، و ميتة الجاهليّة لا تكون إلّا على كفر.

و أيضا روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: حربك يا عليّ حربي و سلمك يا عليّ سلمي، و معلوم أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما أراد أحكام حربك تماثل أحكام حربي، و لم يرد أنّ إحدى الحربين هى الاخرى، لأنّ المعلوم ضرورة خلاف ذلك و ان كان حرب النّبي كفرا أوجب مثل ذلك في حرب أمير المؤمنين عليه السّلام لأنّه جعله مثل حربه.
و يدلّ على ذلك أيضا قوله صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و نحن نعلم أنّه لا يجب عداوة أحد بالاطلاق إلّا عداوة الكفّار.
و أيضا فنحن نعلم أنّ من كان يقاتله يستحلّ دمه و يتقرّب إلى اللّه بذلك، و استحلال دم مؤمن مسلم كفر بالاجماع، و هو أعظم من استحلال جرعة من الخمر الّذي هو كفر بالاتّفاق.

فان قيل: لو كانوا كفّارا لوجب أن يسير فيهم بسيرة الكفّار، فيتبع مولّيهم و يجهز على جريحهم، و يسبى ذراريهم، فلمّا لم يفعل ذلك دلّ على أنّهم لم‏يكونوا كفّارا.
قلنا: لا يجب بالتّساوي في الكفر التّساوى في جميع أحكامه، لأنّ أحكام الكفر مختلفة، فحكم الحربي خلاف حكم الذّمي، و حكم أهل الكتاب خلاف حكم من لا كتاب له من عباد الأصنام، فانّ أهل الكتاب يؤخذ منهم الجزية و يقرّون على أديانهم، و لا يفعل ذلك بعبّاد الأصنام، و عند من خالفنا من الفقهاء يجوز التّزوّج بأهل الذّمة و إن لم يجز ذلك في غيرهم، و حكم المرتدّ بخلاف حكم الجميع، و إذا كان أحكام الكفر مختلفة مع الاتّفاق في كونه كفرا لا يمتنع أن يكون من حاربه كافرا و إن سار فيهم بخلاف أحكام الكفّار.

و أمّا المعتزلة و كثير من المنصفين من غيرهم فيقولون بفسق من حاربه و نكث بيعته و مرق عن طاعته، و إنّما يدعون أنّهم تابوا بعد ذلك، و يرجعون في اثبات توبتهم إلى امور غير مقطوع بها و لا معلومة من أخبار الآحاد، و المعصية معلومة مقطوع عليها، و ليس يجوز الرّجوع عن المعلوم إلّا بمعلوم مثله.

الترجمة

فصل ثاني از كلام آن امام انام است مى ‏فرمايد: راه ايمان راهى است روشن‏تر از همه راهها، و نورانى‏ تر از جميع چراغها، پس با ايمان استدلال كرده مى‏ شود بأعمال صالحه، و با أعمال صالحه استدلال كرده مى‏ شود بايمان، و با ايمان آباد شده مى‏ شود علم، و با علم ترس حاصل مى ‏شود از مرگ و با مرگ ختم مى‏ شود دنيا، و با دنيا محكم مى‏ شود كار آخرت، و با قيامت نزديك شده مى‏ شود بهشت عنبر سرشت از براى متّقين، و اظهار مى ‏شود دوزخ از براى معصيتكاران و بدرستى كه مخلوقان هيچ مكان نگاهدارنده نيست ايشان را از ورود قيامت در حالتى كه سرعت كننده‏ اند در ميدان آن بسوى غايت نهايت كه عبارتست از سعادت و شقاوت.

بعض ديگر از اين كلام در بيان حال أهل قبور است مى‏ فرمايد:

بتحقيق كه كوچ كردند ايشان از قرارگاه قبرها، و منتقل شدند بمحل انتقال غايتها كه عبارتست از بهشت و جهنّم، و از براى هر خانه از اين دو خانه اهليست كه طلب نمى‏ كنند عوض نمودن آن را بخانه ديگر، و نقل كرده نمى‏ شوند از آن خانه بسوى غير آن، و بدرستى كه أمر بمعروف و نهى از منكر دو خلق پسنديده هستند از اخلاق خدا، و بدرستى كه اين دو خلق نزديك نمى‏گردانند از مرگ و كم نمى‏كنند از روزى، و لازم نمائيد بخودتان عمل كردن كتاب خدا را، پس بدرستى كه اوست ريسمان محكم، و نور آشكار و شفا دهنده با منفعت، و سيراب كننده كه رفع عطش مى‏نمايد، و نگاه دارنده از براى كسى كه تمسّك بآن نمايد، و نجاة دهنده مر كسى كه تعلّق بآن داشته باشد، كج نمى‏شود تا راست كرده شود، و عدول نمى‏كند از حق تا طلب كرده شود بازگشت آن بسوى حق، و كهنه نمى‏كند آن را كثرت ورد آن بزبانها و دخول آن بگوشها، هر كس قايل شد بآن كتاب صادق شد، و هر كس عمل نمود بآن سبقت كرد بدرجات جنان و روضه رضوان.

و بر خواست بسوى آن حضرت در أثناى اين كلام مردى، پس عرض نمود أى أمير مؤمنان خبر ده ما را از فتنه و بليّه و آيا پرسيدى آنرا از حضرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم پس فرمود: زمانى كه نازل نمود حق سبحانه و تعالى آيه الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ.

يعنى منم خداى لطيف مجيد آيا گمان كردند مردمان كه ايشان ترك كرده مي شوند بحال خودشان بمحض اين كه مى‏گويند ايمان آورديم ما و حال آنكه ايشان امتحان كرده نشوند، آن حضرت فرمود زمانى كه نازل شد اين آيه دانستم من كه فتنه نازل نمى‏ شود بما و حال آنكه حضرت رسالت مآب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم در ميان ما است، پس گفتم يا رسول اللّه چيست اين فتنه و امتحان كه خبر داده تو را خداوند متعال بآن پس فرمود آن حضرت كه: أى عليّ بدرستى كه امّت من زود باشد كه بفتنه افتند بعد از من‏پس گفتم أى رسول خدا آيا نبود كه گفتى مرا در روز جنگ احد هنگامى كه بدرجه شهادت رسيدند كسانى كه شهيد شدند از مسلمانان و منع شد از من شهادت پس دشوار آمد اين شهيد نشدن بمن، پس فرمودى تو بمن كه: شاد باش كه شهادت از پس تو است، پس فرمود حضرت رسول بمن كه: يا عليّ كار بهمين قرار است يعنى البتّه شهيد خواهى شد پس چگونه است صبر تو آن هنگام عرض كردم: يا رسول اللّه نيست اين مقام از مقامهاى صبر و شكيبائى و لكن از مواضع بشارت و شكر است، پس فرمود آن حضرت: أى عليّ بدرستى اين قوم زود باشد كه مفتون باشند بعد از من بمالهاى خودشان و منّت گذارى كنند بدين خود بپروردگار خودشان، و آرزو نمايند رحمت او را و ايمن شوند از سخط او، و حلال شمارند حرام او را با شبهه‏ هاى دروغ و با خواهشات غفلت كننده، پس حلال شمارند شراب را به نبيذ، و رشوت را باسم هديه، و ربا را بسبب مبايعه، پس گفتم: يا رسول اللّه بكدام منزلها نازل كنم ايشان را در آن حال آيا بمنزله فتنه يا بمنزله مرتد شدن پس فرمود كه بمنزله فتنه از جهت اين كه ظاهرا اقرار بشهادتين دارند اگر چه باطنا كافرند.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 154 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 155 صبحی صالح

155- و من خطبة له ( عليه ‏السلام ) يذكر فيها بديع خلقة الخفاش‏

حمد اللّه و تنزيهه‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ
وَ رَدَعَتْ‏عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ
فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ
هُوَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ‏أَحَقُّ وَ أَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ
لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً
وَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلًا
خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ
وَ لَا مَشُورَةِ مُشِيرٍ وَ لَا مَعُونَةِ مُعِينٍ
فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ
فَأَجَابَ وَ لَمْ يُدَافِعْ وَ انْقَادَ وَ لَمْ يُنَازِعْ

خلقة الخفاش‏

وَ مِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ وَ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ
مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ يَبْسُطُهَا الظَّلَامُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ
وَ كَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً
تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا وَ تَتَّصِلُ بِعَلَانِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا
وَ رَدَعَهَا بِتَلَأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا
وَ أَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلَاقِهَا
فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا
وَ جَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي الْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا
فَلَا يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ
وَ لَا تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ
فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا وَ بَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا
وَ دَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارِهَا
أَطْبَقَتِ الْأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا
وَ تَبَلَّغَتْ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا
فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَ مَعَاشاً
وَ النَّهَارَ سَكَناً وَ قَرَاراً
وَ جَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ
كَأَنَّهَا شَظَايَا الْآذَانِ
غَيْرَ ذَوَاتِ رِيشٍ وَ لَا قَصَبٍ
إِلَّا أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلَاماً
لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا وَ لَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلَا
تَطِيرُ وَ وَلَدُهَا لَاصِقٌ بِهَا لَاجِئٌ إِلَيْهَا
يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ وَ يَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ
لَا يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ
وَ يَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ
وَ يَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ وَ مَصَالِحَ نَفْسِهِ
فَسُبْحَانَ الْبَارِئِ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
و هى المأة و الرابع و الخمسون من المختار في باب الخطب

الحمد للَّه الّذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، و ردعت عظمته العقول فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته، و هو اللَّه الملك الحقّ المبين، و أحقّ و أبين ممّا ترى العيون، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّها، و لم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثّلا، خلق الخلق على غير تمثيل، و لا مشورة مشير، و لا معونة معين، فتمّ خلقه بأمره، و أذعن لطاعته، فأجاب و لم يدافع، و انقاد و لم ينازع. و من لطايف صنعته و عجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش الّتي يقبضها الضّيآء الباسط لكلّ شي‏ء، و يبسطها الظّلام القابض لكلّ حىّ، و كيف عشيت أعينها عن أن تستمدّ من الشّمس المضيئة نورا تهتدى به في مذاهبها، و تتّصل بعلانية برهان الشّمس إلى معارفها، و ردعها بتلالؤ ضيائها عن المضىّ في سبحات إشراقها، و أكنّها في مكامنها عن الذّهاب في بلج ايتلاقها، فهى مسدلة الجفون بالنّهار على حذاقها، و جاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به في التماس أرزاقها، فلا يردّ أبصارها إسداف ظلمته، و لا تمتنع من المضيّ فيه لغسق دجنّته، فإذا ألقت الشّمس قناعها، و بدت أوضاح نهارها، و دخل من إشراق نورها على الضّباب في و جارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، و تبلّغت بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها، فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا و معاشا، و النّهار سكنا و قرارا، و جعل لها أجنحة من لحمها تغرج بها عند الحاجة إلى الطّيران كأنّها شظايا الآذان، غير ذوات ريش و لا قصب إلّا أنّك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما، و لها جناحان لمّا يرّقا فينشقّا، و لم يغلظا فيثقلا، تطير و ولدها لاصق بها، لاجى‏ء إليها، يقع إذا وقعت، و يرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتّى تشتدّ أركانه، و تحمله للنّهوض جناحه، و يعرف مذاهب عيشه، و مصالح نفسه، فسبحان البارى لكلّ شي‏ء على غير مثال خلا من غيره.

اللغة

(الخفّاش) و زان رمّان طاير معروف جمعه خفافيش مأخوذ من الخفش و هو ضعف في البصر خلقة أو لعلّة، و الرّجل أخفش و هو الذي يبصر باللّيل لا بالنّهار أو في يوم غيم لا في يوم صحو و (حسر) حسورا من باب قعد كلّ لطول مدى و نحوه، و حسرته أنا يتعدّي و لا يتعدّي و (ساغ) الشّراب سوغا سهل مدخله و المساغ المسلك و (الحدّ) المنع و الحاجز بين الشّيئين و نهاية الشّي‏ء و طرفه، و في عرف المنطقيين التّعريف بالذّاتي.

و (المشورة) مفعلة من أشار إليه بكذا أى أمره به، و في بعض النسخ بضمّ الشّين بمعنى الشّورى و (المعونة) اسم من أعانه و عوّنه و (اللّطايف) جمع لطيفة و هى ما صغر و دقّ و (الغامض) خلاف الواضح و كلّ شي‏ء خفى مأخذه و (العشا) بالفتح و القصر سوء البصر بالنّهار أو باللّيل و النّهار أو العمى و (الاتّصال) إلى الشي‏ء الوصول إليه، و في بعض النّسخ متّصل بدل تتّصل و (السّبحات) بضمّتين جمع سبحة و هي النّور و قيل: سبحات الوجه محاسنه لأنّك إذا رأيت الوجه الحسن قلت: سبحان اللَّه.

و (البلج) مصدر بلج كتعب تعبا أى ظهر و وضح، و صبح أبلج بيّن البلج أى مشرق و مضي‏ء، و قيل: البلج جمع بلجة بالضمّ و هى أوّل ضوء الصّبح و (الايتلاق) اللّمعان يقال: ائتلق و تألّق إذا التمع و (سدل) الثّوب أسد له أرخاه و أرسله و (الجفن) بالفتح غطاء العين من أعلاها و أسفلها، و الجمع جفان و جفون و أجفن و (الحدقة) محرّكة سواد العين و يجمع على حداق كما في بعض النّسخ و على أحداق كما في البعض الآخر و (أسدف) اللّيل اسدافا أى أظلمت، و في بعض النسخ أسداف بفتح الهمزة جمع سدف كأسباب و سبب و هو الظّلمة و (الدّجنة) بضمّ الدّال و تشديد النّون و الدّجن و زان عتلّ الظّلمة و (الضّباب) بالكسر جمع الضبّ الدّابّة المعروفة و (و جارها) بالكسر جحرها الّذي تأوى إليه.

و (ماقيها) بفتح الميم و سكون الهمزة و كسر القاف و سكون الياء كما في أكثر النّسخ لغة في المؤق بضمّ الميم و سكون الهمزة أى طرف عينها ممّا يلي الأنف و هو مجرى الدّمع من العين و قيل: مؤخّرهما و عن الأزهرى أجمع أهل اللّغة على أنّ المؤق و الماق بالضمّ و الفتح طرف العين الّذي يلي الأنف، و أنّ الّذي يلي الصّدغ يقال له: اللّحاظ و الماقي لغة فيه، و قال ابن القطاع ما في العين فعلى و قد غلط فيه جماعة من العلماء فقالوا: هو مفعل و ليس كذلك بل الياء في آخره للالحاق، و قال الجوهرى و ليس هو مفعل لأنّ الميم أصليّة و إنّما زيدت في آخره الياء للالحاق و لمّا كان فعلى بكسر اللام نادرا لا أخت لها الحق بمفعل، و لهذا جمع على ماقى على التّوهّم و في بعض النّسخ ماقيها على صيغة الجمع.

و (المعاش) ما يعاش به و ما يعاش فيه و بمعنى العيش و هو الحياة، و في بعض النّسخ ليلها بدل لياليها و (الشّظايا) جمع الشّظية و هى القطعة من الشي‏ء و (الأعلام) جمع علم بالتحريك و هو طراز الثوب و رسم الشّي‏ء.

الاعراب

أحقّ و أبين بالرّفع بدلان من الحقّ المبين أو عطفا بيان، و على الأوّل ففائدتهما التّقرير، و على الثّاني فالايضاح و قوله: و من لطايف صنعته تقديمه على المسند إليه أعنى قوله: ما أرانا، للتّشويق إلى ذكر المسند إليه و هو من فنون البلاغة كما في قوله:
ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها شمس الضّحى و أبو إسحاق و القمر

و تتّصل في بعض النّسخ بالنصب عطفا على تستمدّ و في بعضها بالرّفع عطفا على تهتدى، و في بعضها و تصل بدله، و ردعها عطف على جملة أرانا، و من في قوله من اشراق نورها زايدة في الفاعل كما زيدت في المفعول في قوله: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» و قوله: غير ذوات ريش، بالنّصب صفة لأجنحة، و قوله: أعلاما بدل من بيّنة أو عطف بيان، و كلمة لها غير موجودة في بعض النّسخ فيكون ‏قوله: جناحان، خبر مبتدأ محذوف أى جناحاه جناحان، و لمّا في قوله: لمّا يرقا بمعنى لم الجازمة.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة يذكر فيها بديع خلقة الخفّاش، و الغرض منه التنبيه على عظمة قدرة خالقها، و على كمال صنعه سبحانه في إبداعها، و الدّلالة على عظيم برهانه في ملكه و ملكوته و لمّا كان الغرض ذلك افتتح عليه السّلام كلامه بالحمد و الثناء عليه تعالى بجملة من صفات الكمال و نعوت الجلال و الجمال بمقتضى براعة الاستهلال فقال: (الحمد للَّه الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته) أى عجز الواصفون عن صفته و أعيت الألسن عن وصفه بحقيقته، لأنّ ذاته سبحانه بريئة عن أنحاء التركيب، منزّهة عن الأجزاء و النّهايات، فلا حدّ له و لا صورة تساويه، فلا يمكن للعقول الوصول إلى حقيقة معرفته، و لا للألسن الحكاية و البيان عن هويّته، و قد مرّ تحقيق ذلك في شرح الفصل الثّاني من الخطبة الاولى و غيره أيضا غير مرّة (و ردعت) أى منعت (عظمته العقول فلم تجد مساغا) و مسلكا (إلى بلوغ غاية ملكوته) أى منتهى عزّه و سلطانه (هو اللَّه الملك الحقّ) الثّابت المتحقّق وجوده و إلهيّته أو الموجود حقيقة (المبين) أى الظّاهر البيّن وجوده بل هو أظهر وجودا من كلّ شي‏ء فان خفى مع ظهوره فلشدّة ظهوره، و ظهوره سبب بطونه و نوره هو حجاب نوره إذ كلّ ذرّة من ذرّات مبدعاته و مكوّناته فلها عدّة ألسنة تشهد بوجوده، و بالحاجة إلى تدبيره و قدرته كما مرّ تفصيلا و تحقيقا في شرح الخطبة التّاسعة و الأربعين.

(أحقّ و أبين) أى أثبت و أوضح (ممّا ترى العيون) لأنّ العلم بوجوده تعالى عقليّ يقينيّ لا يتطرّق إليه ما يتطرّق إلى المحسوسات من الغلط و الاشتباه ألا ترى أنّ العين قد يرى الصّغير كبيرا كالعنبة في الزّجاجة المملوّة ماء، و الكبير صغيرا كالبعيد، و السّاكن متحرّكا كحرف الشّط إذا رآه راكب السّفينة متصاعداو المتحرّك ساكنا كالظلّ بخلاف المعقولات الصّرفة.

(لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّها) المراد بالتّحديد إمّا إثبات الحدّ و النّهاية، أو التّعريف بالذّاتي كما هو عرف المنطقيّين، و ظاهر أنّ اللَّه سبحانه منزّه عن الحدود و النّهايات التّي هى من عوارض الأجسام و الجسمانيّات، مقدّس عن الأجزاء و التّركب مطلقا من الذّاتيات أو العرضيّات، فذاته سبحانه ليس له حدّ و تركيب حتّى يمكن للعقول البلوغ إليه بتحديد كما لساير الأجسام (و لم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثّلا) قال الشّارح البحراني: إذ الوهم لا يدرك إلّا المعاني الجزئيّة المتعلّقة بالمحسوسات. و لا بدّ له في إدراك ذلك المدرك من بعث المتخيّلة على تشبيهه بمثال من الصّور الجسمانيّة، فلو وقع عليه و هم لمثّله في صورة حسيّة حتّى أنّ الوهم إنّما يدرك نفسه في مثال من صورة و حجم و مقدر (خلق الخلق على غير تمثيل) الظّاهر أنّ المراد بالتمثيل ايجاد الخلق على حذوما خلقه غيره، و لمّا لم يكن الباري سبحانه مسبوقا بغيره فليس خلقه إلّا على وجه الابداع و الاختراع، أو أنّ المراد أنّه لم يجعل لخلقه مثالا قبل الايجاد كما يفعله البنّاء تصويرا لما يريد بنائه، و معلوم أنّ كيفيّة صنعه للعالم منزّهة عن هذا الوجه أيضا كما سبق في شرح الفصل السّابع من الخطبة الاولى (و لا مشورة مشير و لا معونة معين) لأنّ الحاجة إلى المشير و المعين من صفات النّاقص المحتاج و هو سبحانه الغنيّ المطلق في ذاته و أفعاله فلا يحتاج في إيجاده إلى مشاورة و لا إعانة (فتمّ خلقه) أى بلغ كلّ مخلوق إلى مرتبة كماله و تمامه الّذي أراده اللَّه سبحانه منه أو خرج جميع ما أراده من العدم إلى الوجود (بأمره) أى بمجرّد أمره التكويني و محض مشيّته التّامة النّافذة كما قال عزّ من قائل: «إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» (و أذعن) أي خضع و أقرّ و أسرع و انقاد كلّ (لطاعته فأجاب و لم يدافع، و انقاد و لم ينازع) و هاتان الجملتان مفسّرتان للاذعان، و المراد دخول الخلق تحت القدرة الالهيّة و عدم الاستطاعة للامتناع كما قال سبحانه «ثمّ استوى إلى السّماء و هى دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين» و لمّا فرغ من التّحميد و التّمجيد شرع في المقصود فقال عليه السّلام (و من لطايف صنعته و عجايب خلقته) أى من جملة صنايعه الّتي هى ألطف و أدقّ و أحقّ أن يتعجّب منها (ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش) حيث خالف بينها و بين جميع الحيوانات.

و أشار إلى جهة المخالفة بقوله (الّتي يقبضها الضّياء الباسط لكلّ شي‏ء، و يبسطها الظّلام القابض لكلّ حىّ) لا يخفى ما في هاتين القرينتين من بديع النظم و حسن التّطبيق، و التّقابل بين القبض و البسط في القرينة الاولى و البسط و القبض في الثانيّة ثمّ المقابلة بين مجموع القرينتين بالاعتبار الذي ذكرنا مضافا إلى تقابل الضياء للظّلام، ثمّ ردّ العجز إلى الصّدر، فقد تضمّن هذه الجملة على و جازتها وجوها من محاسن البديع مع عظم خطر معناها.

و الضمير في يقبضها و يبسطها إمّا عايد إلى الخفافيش بتقدير مضاف، أو على سبيل الاستخدام، و المراد انقباض أعينها في الضّوء، و ذلك لافراط التحلّل في الرّوح النّوري لحرّ النّهار، ثمّ يستدرك ذلك برد اللّيل فيعود الابصار، و قيل: الأظهر إنّه ليس لمجرّد الحرّ و إلّا لزم أن لا يعرضها الانقباض في الشّتاء إلّا إذا ظهرت الحرارة في الهواء، و في الصيّف أيضا في أوائل النّهار، بل ذلك لضعف في قوّتها الباصرة و نوع من التّضاد و التّنافر بينها و بين النّور كالعجز العارض لساير القوى المبصرة عن النظر إلى جرم الشّمس، و أمّا أنّ علة التنافر ما ذا ففيه خفاء و هو منشاء لتعجّب الّذي يشير إليه الكلام.

و إمّا عائد إليها نفسها فيكون المراد بانقباضها ما هو منشأ اختفائها نهارا و إن كان ذلك ناشيا من جهة الابصار.
(و كيف عشيت أعينها) أى عجزت و عميت (عن أن تستمدّ) و تستعين (من الشّمس المضيئة نورا تهتدى به في مذاهبها) أى طرق معاشها و مسالكها في سيرها و انتفاعها (و) عن أن (تتّصل بعلانية برهان الشّمس) أى دليلها الواضح‏ (إلى معارفها) يعني ما تعرفه من طرق انتفاعها و وجوه تصرّفاتها (و ردعها) أى ردّها و منعها (بتلاءلؤ ضيائها عن المضىّ في سبحات إشراقها) أى جلاله و بهائه (و أكنّها) أى سترها و أخفاها (في مكامنها) و محال خفائها عن الذّهاب (في بلج ائتلاقها) و وضوح لمعانها.

(فهى مسدلة الجفون بالنّهار على حداقتها) لانقباضها و تأثّر حاسّتها، و قال البحراني: لأنّ تحلّل الرّوح الحامل للقوّة الباصرة سبب للنّوم أيضا فيكون ذلك الاسدال ضربا من النّوم (و جاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به في التماس أرزاقها) أى في طلب الرّزق لها، و اسناد الجاعلة إليها من المجاز العقليّ (فلا يردّ ابصارها إسداف ظلمته) الاضافة للمبالغة و الضّمير عايد إلى اللّيل (و لا تمتنع من المضيّ) و الذّهاب (فيه لغسق دجنّته) الاضافة فيه أيضا للمبالغة (فاذا ألقت الشّمس قناعها) استعارة بالكناية تشبيها للشّمس بالمرأة ذات القناع، و اثبات القناع تخييل و ذكر الالقاء ترشيح، و المراد طلوع الشّمس و بروزها من حجاب الأرض و الآفاق (و بدت أوضاح نهارها) أى ظهر بياضه (و دخل من إشراق نورها على الضّباب في وجارها) و إنّما خصّها بالذّكر إذ من عادتها الخروج من و جارها عند طلوع الشّمس لمواجهة النّور على عكس الخفافيش (أطبقت الأجفان) جواب إذا (على مآقيها و تبلّغت) أى اكتفت و قنعت (بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها) فتعيش به و تقنع عليه (فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا و معاشا) تعيش فيها (و النّهار سكنا و قرارا) لتسكن و تقرّ فيه ثمّ أشار عليه السّلام إلى جهة ثانية لاختلافها لساير الحيوانات بقوله (و جعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنّها شظايا الآذان) لا يخفى ما في هذا التّشبيه من اللّطف و الغرابة (غير ذوات ريش و لا قصب) كما لأجنحة ساير الطيّور (إلّا أنّك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما) أى واضحة ظاهرة مثل طراز الثّوب (و لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا و لم يغلظا فيثقلا) يعني أنّ جناحيه لم يجعلا دقيقين بالغين في الرّقة و لا غليظين بالغين في الغلظ حذرا من الانشقاق‏و الثّقل المانع من الطيران.

ثمّ أشار عليه السّلام إلى جهة ثالثة للاختلاف بقوله: (تطير و ولدها لاصق بها لا جي‏ء إليها) أى لائذ و معتصم بها (يقع إذا وقعت و يرتفع إذا ارتفعت لا يفارقها) في حالتي الوقوع و الطيران (حتّى تشتدّ أركانه) و جوانبه الّتي يستند إليها و يقوم بها (و يحمله للنهوض جناحه) و يمكنه الطيران و التصرّف بنفسه (و يعرف مذاهب عيشه و مصالح نفسه) و لما افتتح كلامه بالتحميد ختمه بالتسبيح ليكمل حسن الافتتاح بحسن الاختتام و يتمّ براعة الفاتحة ببراعة الخاتمة فقال (فسبحان البارى‏ء) الخالق (لكلّ شي‏ء على غير مثال خلا) أى مضى و سبق (من غيره) يعني أنه لم يخلق الأشياء على حدّ و خالق سبقه بل ابتدعها على وفق الحكمة و مقتضى المصلحة

ظريفة في نوادر الخفاش

قال تعالى: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى‏ والِدَتِكَ» قال في التفسير: إنّه وضع من الطّين كهيئة الخفّاش و نفخ فيه فصار طائرا.
قال الشّارح في الأحاديث العاميّة قيل للخفّاش: لما ذا الاجناح لك قال: لأنّي تصوير مخلوق، قيل: فلما ذا لا تخرج نهارا قال: حياء من الطّيور، يعنون أنّ المسيح صوّره.

و في البحار في تفسير قوله: «وَ رَسُولًا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ» قال: المشهور بين الخاصّة و العامّة من المفسّرين أنّ الطّير كان هو الخفّاش قال أبو اللّيث في تفسيره: إنّ النّاس سألوا عيسى عليه السّلام على وجه التعنّت فقالوا له: اخلق لنا خفّاشا و اجعل فيه روحا إن كنت من الصادقين، فأخذ طينا و جعل خفاشا و نفخ فيه فاذا هو يطير بين السماء و الأرض، و كان تسوية الطين و النفخ من عيسى عليه السّلام، و الخلق من اللَّه تعالى و يقال: إنّما طلبوا منه خلق خفّاش لأنّه‏ أعجب من ساير الخلق، و من عجائبه أنه دم و لحم، يطير بغير ريش، و يلد كما يلد الحيوان و لا يبيض كما يبيض ساير الطيور، و يكون له الضرع و يخرج اللّبن، و لا يبصر في ضوء النهار و لا في ظلمة اللّيل، و انما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة و بعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدّا، و يضحك كما يضحك الانسان و تحيض كما تحيض المرأة، فلمّا رأوا ذلك منه ضحكوا و قالوا: هذا سحر مبين فذهبوا إلى جالينوس فأخبروه بذلك فقال: آمنوا به و قال الدّميرى في حيوة الحيوان: و الحقّ أنه صنفان و قال قوم: الخفّاش الصغير، و الوطواط الكبير، و هو لا يبصر في ضوء القمر و لا في ضوء النهار، و لما كان لا يبصر نهارا التمس الوقت الذي لا يكون فيه ظلمة و لا ضوء و هو قريب غروب الشمس لأنّه وقت هيجان البعوض، فانّ البعوض، يخرج ذلك الوقت يطلب قوته و هو دماء الحيوان و الخفاش يطلب الطعام فيقع طالب رزق على طالب رزق، و الخفّاش ليس هو من الطير في شي‏ء لأنّه ذو اذنين و أسنان و خصيتين، و يحيض، و يطهر، و يضحك كما يضحك الانسان، و يبول كما تبول ذوات الأربع، و يرضع ولده و لا ريش له.

قال بعض المفسّرين: لمّا كان الخفّاش هو الذي خلقه عيسى بن مريم باذن اللَّه كان مباينا لصنعه اللَّه و لهذا جميع الطّير تقهره و تبغضه فما كان منها يأكل اللّحم أكله و ما لا ياكل اللّحم قتله، فلذلك لا يطير إلّا ليلا.
و قيل: لم يخلق عيسى غيره، لأنّه أكمل الطّير خلقا و هو أبلغ في القدرة، لأنّ له ثديا و أسنانا و اذنا و قيل: إنّما طلبوا الخفّاش لأنّه من أعجب الطير، إذ هو لحم و دم، يطير بغير ريش، و هو شديد الطيران، سريع التّقلّب، يقتات بالبعوض و الذّباب و بعض الفواكه، و هو مع ذلك موصوف بطول العمر فيقال: إنّه أطول عمرا من النّسر و من حمار الوحش، و تلد انثاه ما بين ثلاثة أفراخ و سبعة، و كثيرا ما يفسد و هو طاير في الهواء، و ليس في الحيوان ما يحمل ولده غيره و القرد و الانسان، و يحمله‏ تحت جناحه، و ربّما قبض عليه بفيه و هو من حنوه و اشفاقه عليه، و ربّما أرضعت الانثى ولدها و هى طائرة، و في طبعه أنّه متى أصابه ورق الدّلب حذر و لم يطر، و يوصف بالحمق، و من ذلك أنّه إذا قيل له: اطرق كرى، لصق بالأرض.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام مبين و وليّ مؤمنين است كه ذكر مى‏ فرمايد در آن عجيب خلقت شب‏پره را.
حمد و ستايش معبود بحقيّ را سزاست كه عجز بهم رساند و صفها از كنه معرفت او، و منع نمود عظمت او عقلها را، پس نيافتند گذرگاهي بسوى رسيدن بنهايت پادشاهي او، و اوست معبود بحق پادشاه مطلق كه محقّق است وجود او ظاهر است و آشكارا ثابت ‏تر و آشكارتر است از آنچه كه مى ‏بيند آن را چشمها نمى ‏رسد بكنه ذات او عقلها تا باشد تشبيه كرده شده بمخلوقى از مخلوقات، و واقع نمى‏ شود بر او وهمها باندازه و تقديرى تا باشد تمثيل كرده شده بغير خود، خلق فرمود مخلوقات را بدون اين كه مثال آنها را از ديگرى برداشته باشد و بدون مشورت مشير و بى يارى معين، پس تمام شد مخلوق او بمجرّد أمر و إراده او، و گردن نهادند بطاعت او پس اجابت كردند، و مدافعه ننمودند و انقياد كردند و منازعه ننمودند و از لطيفه‏ هاى صنعت او و عجيبه‏ هاى خلقت اوست آنچه نمود بما از پوشيدگى‏ هاى حكمت خود در اين شب پره‏ها كه قبض مي كند چشمهاى آنها را روشني كه گستراننده هر چيز است، و بسط مى‏ كند چشمان ايشان را تاريكى كه فراگيرنده هر زنده است، و چگونه ضعيف شد چشمهاى آنها از آنكه مدد خواهند از آفتاب روشن نورى را كه هدايت بيابد بسبب آن نور در مواضع رفتار خود، و برسد بواسطه دليل آشكار آفتاب بسوى راههاى معرفت خود، و منع فرمود حق سبحانه و تعالى آن خفّاشها را بسبب درخشيدن روشنائى خورشيد تابان از رفتن ايشان در رونق روشنى آن، و پنهان نمود آنها را در مكانهاى مخفى آنها از راه‏ رفتن در درخشيدن آشكار آفتاب.

پس آن شب پره‏ها فرو گذاشته شده پلكهاى چشمهاى ايشان در روز بر حدقهاى ايشان، و گرداننده‏اند شب را چراغ كه راه مى‏جويند بآن در طلب كردن روزيهاى خود، پس باز نمى‏ دارد ديدهاى ايشان را تاريكى ظلمت شب، و باز نمى‏ايستند از گذشتن در شب بجهة تاريكى ظلمت آن، پس زمانى كه انداخت آفتاب عالمتاب نقاب خود را، و ظاهر شد روشنائيهاى روز آن و داخل شد تافتن نور آن بر سوسمارها در خانهاى ايشان، برهم نهند خفّاشها پلكهاى چشم خود را بر گوشهاى چشم خود، و اكتفا مى‏ نمايند به آن چيزى كه كسب كرده ‏اند آن را از معاش در ظلمتهاى شبهاى خودشان.

پس پاكا پروردگارى كه گردانيده است شب را از براى ايشان روز و سبب معاش، و روز را بجهة ايشان هنگام آسايش و قرارگاه، و گردانيده است از براى ايشان بالها از گوشت آنها كه عروج مى‏ كنند بآن بالها در وقت حاجت بپريدن گويا كه آن بالها پارچه ‏هاى گوشهاى مردمانست، نه صاحب پرند و نه عروق ليكن تو مى‏ بينى جايهاى رگهاى ايشان را ظاهر و نمايان و خط خط، و مر ايشان راست دو بال كه آن قدر رقيق و لطيف نيستند تا شكافته شود، و آن قدر غليظ و كثيف نيستند تا سنگين باشد، طيران مى‏ كنند در حالتى كه بچه ايشان چسبنده است بايشان پناه آورنده است بسوى ايشان، مى‏ افتد آن وقتى كه مادرشان مى ‏افتد، و بلند مى ‏شود زمانى كه مادرشان بلند مي باشد، جدا نمى ‏شود بچه‏ ها از آنها تا آنكه اعضاى آنها محكم شود، و تا آنكه بردارد آنها را بجهت برخواستن بال آنها، و تا بشناسند راههاى معاش و زندگانى خود را.

پس منزّه است پروردگار آفريننده هر چيز بدون نمونه كه گذشته باشد صدور آن از غير او، از جهة اين كه اوست مخترع أشيا كه ايجاد آن بر سبيل ابداعست و اختراع.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 153 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)فضائل أهل البيت‏

خطبه 154 صبحی صالح

154- و من خطبة له ( عليه‏ السلام ) يذكر فيها فضائل أهل البيت‏

وَ نَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ بِهِ يُبْصِرُ أَمَدَهُ
وَ يَعْرِفُ غَوْرَهُ وَ نَجْدَهُ
دَاعٍ دَعَا وَ رَاعٍ رَعَى
فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي وَ اتَّبِعُوا الرَّاعِيَ
قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ
وَ أَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ
وَ أَرَزَ الْمُؤْمِنُونَ
وَ نَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ
نَحْنُ الشِّعَارُ وَ الْأَصْحَابُ وَ الْخَزَنَةُ وَ الْأَبْوَابُ
وَ لَا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً
منهافِيهِمْ كَرَائِمُ الْقُرْآنِ
وَ هُمْ كُنُوزُ الرَّحْمَنِ
إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا وَ إِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا
فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَ لْيُحْضِرْ عَقْلَهُ
وَ لْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ
فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ وَ إِلَيْهَا يَنْقَلِبُ
فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ
يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ أَ عَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ
فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ وَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ
فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ
فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ
وَ الْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ
فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أَ سَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ
وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ
فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ
وَ مَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ
وَ قَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ ( صلى ‏الله‏ عليه ‏و آله )إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ وَ يُبْغِضُ عَمَلَهُ وَ يُحِبُّ الْعَمَلَ وَ يُبْغِضُ بَدَنَهُ
وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً
وَ كُلُّ نَبَاتٍ لَا غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ
وَ الْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ طَابَ غَرْسُهُ وَ حَلَتْ ثَمَرَتُهُ وَ مَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وَ أَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و الثالث و الخمسون من المختار في باب الخطب و فيه فصلان

الفصل الاول

و ناظر قلب اللّبيب، به يبصر أمده، و يعرف غوره و نجده،داع دعا، و راع رعا، فاستجيبوا للدّاعي، و اتّبعوا الرّاعى، قد خاضوا بحار الفتن، و أخذوا بالبدع دون السّنن، و أرز المؤمنون، و نطق الضّالّون المكذّبون، نحن الشّعار و الأصحاب، و الخزنة و الأبواب، و لا تؤتى البيوت إلّا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقا.

الفصل الثاني (منها)

فيهم كرائم القرآن، و هم كنوز الرّحمن، إن نطقوا صدقوا، و إن صمتوا لم يسبقوا، فليصدق رائد أهله، و ليحضر عقله، و ليكن من أبناء الآخرة فانّه منها قدم، و إليها ينقلب، فالنّاظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له، فإن كان له مضى فيه، و إن كان عليه وقف عنه، فإنّ العامل بغير علم كالسّائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطّريق إلّا بعدا من حاجته، و العامل بالعلم كالسّائر على الطّريق الواضح، فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع، و اعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا علي مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، و ما خبث ظاهره خبث باطنه، و قد قال الرّسول الصّادق صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ وَ يُبْغِضُ عَمَلَهُ، وَ يُحِبُّ الْعَمَل وَ يُبْغِضُ بَدَنُهُ» و اعلم أنّ كلّ‏ عمل نبات، و كلّ نبات لا غنى به عن الماء، و المياه مختلفة، فما طاب سقيه طاب غرسه، و حلت ثمرته، و ما خبث سقيه خبث غرسه، و أمرّت ثمرته.

اللغة

(الناظر) من المقلّة السّواد الأصغر الذي فيه انسان العين و (الغور) بالفتح قعر كلّ شي‏ء و المنخفض من الأرض و (النّجد) المرتفع منها و الجمع نجود مثل فلس و فلوس و (رعت) الماشية رعيا إذا سرحت بنفسها و رعيتها و أرعاها يستعمل لازما و متعدّيا فانا راع، و في القاموس الرّاعى كلّ من ولى أمر قوم و الجمع رعاة و رعاء بالكسر و رعيان و القوم رعية و (ارز) من باب علم و ضرب انقبض و انجمع و (الشّعار) بالكسر ما ولى الجسد من الثياب و (الرّائد) المرسل في طلب الماء و الكلاء و (ليحضر عقله) مضارع حضر من باب نصر أو أحضر من باب الأفعال

الاعراب

داع مرفوع تقديرا خبر ناظر و قال الشّارح المعتزليّ: إنّه مبتداء محذوف الخبر تقديره في الوجود داع دعا، قوله: و اعلم أنّ كلّ عمل نبات هكذا في بعض النسخ فيكون كلّ اسم إنّ و نبات خبرها و في بعضها أنّ لكلّ عمل نباتا فيكون نباتا اسما لها

المعنى

اعلم أنّه لمّا كان من دأب الرّحمة الرحمانية أن يصدر عنه أقسام الموجودات على أكمل ما يتصوّر في حقّها، و أن يعطى لكلّ نوع بعد إعطاء الوجود ما يحفظ به كماله الأوّل و يستدعى كماله الثّاني كما قال تعالى «هو الّذى أعطى كلّ شي‏ء خلقه ثمّ هدى» أشار إلى أنّه أعطى أصل وجوده، ثمّ أفاد له ما يتهيّأ و يهتدى به إلى فضيلة زايدة من القوى و الآلات، لا جرم كان كلّ نوع من أنواع المكونات‏

اعطى له من خزائن رحمة اللَّه ما يستعدّ به للوصول إلى ما هو خير له و سعادة بالنسبة إليه و يحترز عمّا هو شرّ له و شقاوة، و لا شكّ أنّ الانسان أشرف هذه الأنواع فاعطاء ما يستطيع به لطلب ما هو الخير و السّعادة له أولى و أوجب، لكن لمّا كان كماله الخاصّ به أمرا متميّزا عن كمالات ساير الأنواع الحيوانيّة من جلب مأكول أو مشروب أو منكوح و نحوها من كمالات البهايم، فليس خيره و سعادته ممّا يوجد في هذا العالم، بل كماله و خيره في العلم و التّجرد عن الدّنيا و ما فيها و التّقرّب إليه تعالى و ملكوته الأعلى فيجب في العناية الرّبانيّة أن يعطيه ما يهتدى به إلى سبيل سعادته و طريق نجاته، و يتجنّب عن طريق شقاوته و شقائه بأن يعرف أوّلا و لو بوجه من الوجوه ما الاله و ما الملكوت و ما الآخرة و ما الاولى، و ما السعادة و الشقاء، ثمّ إن كان ممّن لا يهتدى إلى ذلك إلّا بواسطة معلّم من خارج من نبيّ أو امام أو كتاب وجب عليه تعالى أن يعرّفه ذلك و وجب عليه أن يتعلّم منه و يطيع له و يقبل منه روى يزيد بن معاوية عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: ليس للَّه على خلقه أن يعرفوا و للخلق على اللَّه أن يعرّفهم، و للَّه على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ الانسان قد أعطاه اللَّه سبحانه بمقتضا عنايته العقل يهتدى به إلى مصالحه و مفاسده، و جعل عقول بعض أفراد هذا النوع كاملة فاضلة غير محتاجة في كسب كمالاتها إلى الغير و هى عقول الأنبياء و الرّسل و الأئمّة عليهم السّلام، و جعل عقول غيرهم ناقصة، فهؤلاء لا يكمل معرفتهم إلّا بمعلّم خارجي، لعدم استقلال عقلهم بمعرفة كثير من المصالح و المفاسد و المنافع و المضارّ، و ذلك المعلّم هو النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و الامام.

و إلى هذا المعنى أشار أبو عبد اللَّه عليه السّلام في رواية الكافي حيث قال: أبي اللَّه أن يجرى الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكلّ شي‏ء سببا و لكلّ سبب شرحا، و جعل لكلّ شرح علما، و جعل لكلّ علم بابا ناطقا عرفه من عرفه و جهله من جهله ذاك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و نحن.

فظهر لك بتلك المقدّمة معنى قوله عليه السّلام (و ناظر قلب اللّبيب به يبصر أمده و يعرف غوره و نجده داع دعا و راع رعا) أى عين بصيرة العاقل التي بها يبصر غايته التي يتوجه إليها أى معاده و بها يعرف ما انخفض و انحطّ من حالاته الموجبة لشقاوته المتردّية له إلى دركات الجحيم، و ما ارتفع و استعلي من خصاله الموجبة لسعادته الموصلة له إلى نضرة النعيم هى أى هذه العين داع دعا و راع رعا، أراد بالدّاعي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لدعائه إلى طرف الحقّ قال اللَّه تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ».

و أراد بالرّاعى نفسه عليه السّلام لأنّه ولىّ الخلق و القائم بأمرهم كالرّاعي الذي يرعى غنمه و يحفظها و يربّيها، و قد مرّ تشبيه الامام بالرّاعي و الرعيّة بالغنم و تشبيه من لم يعرف امامه بغنم ضلّت عن راعيها في الحديث الّذي رويناه من الكافي في التّذنيب الثالث من تذنيبات شرح الفصل الرّابع من فصول الخطبة الأولى و ورد في وصف الأئمة عليهم السّلام في الزّيارة الجامعة: و استرعاكم أمر خلقه، قال شارح الزّيارة، يعنى به: أنّه تعالى استرعاهم أمر خلقه جعلهم قائمين برعاية الخلق فيما يتعلّق بأمر الوجود الكوني و شرعه، و فيما يتعلّق بأمر الكون الشّرعي و وجوده، و فيما يتعلّق بامر الغيب و الشّهادة، و فيما يتعلّق بأمر الدّنيا و الآخرة، و فيما يتعلّق بامر الجنّة و النّار، طلب تعالى منهم عليهم السّلام رعاية جميع خلقه في هذه الامور الخمسة فهم عليهم السّلام المربّون لرعيّتهم الرّاعون الّذين استرعاهم اللَّه أمر غنمه فان شاءوا فانّما شاء، هذا.

و انّما جعل الدّاعي و الرّاعى ناظر القلب اللّبيب لأنّ النّاظر من الانسان هو آلة الابصار، و بها يدرك الأشياء على ما هى عليها، و يفرّق بين الألوان و الأضواء و الأشكال و المقادير و نحوها، و بناظره القلبي أى عين بصيرته يفرّق بين الحقّ و الباطل، و الصّلاح و الفساد، فاستعار لفظه للرّسول و الامام عليهما السّلام إذ بهما يحصل له المعرفة بالمبدإ و المعاد، و بدلالتهما و إرشادهما يكمل له الحكمة النّظرية و العملية، فالنبيّ و الامام عقل من خارج كما أنّ العقل رسول من باطن و إليه يشير قول موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام بن الحكم في الحديث الطويل المروىّ في الكافي: يا هشام إنّ للَّه على النّاس حجّتين حجّة ظاهرة و حجّة باطنة فأمّا الظّاهرة فالرّسل و الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام، و أمّا الباطنة فالعقل إلى أن قال: يا هشام نصب الحقّ لطاعة اللَّه و لا نجاة إلّا بالطاعة، و الطاعة بالعلم، و العلم بالتّعلّم و التّعلّم بالعقل يعتقل و لا علم إلّا من عالم ربّاني و معرفة العلم بالعقل و انّما خصّ عليه السّلام ناظر قلب اللّبيب بالبيان لأنّ الجاهل بمعزل عن الالتفات غافل عمّا له و عليه كما قال عليه السّلام في رواية الكافي عن عليّ بن محمّد عن سهل بن زياد عن النوفليّ عن السّكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ قلوب الجهّال تستفزّها الأطماع و ترتهنها المنى، و تستعلقها الخدائع يعني يستخفّها الأطماع لأنّهم كثيرا ما ينزعجون من مكانهم بطمع فاسد لا أصل له و لا طائل تحته، و أنّها مقيّدة مرتهنة بالأماني و الآمال الكاذبة، و هم ينخدعون سريعا فيستسخر قلوبهم خدايع الخادعين، و يستعبدها مكر الماكرين، و لهذا يعدهم الشّيطان و يمنّيهم بالأماني الباطلة، و يغرّهم و يستفزّهم و يستعبدهم بالخدايع و ما يعدهم الشّيطان إلّا غرورا قال تعالى: «أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها».

قال أبو جعفر عليه السّلام في هذه الآية: ميّت لا يعرف شيئا و نورا يمشي به في النّاس اماما يأتمّ به كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، قال: الذي لا يعرف الامام، هذا و لمّا كان همّة العاقل مصروفة لتحصيل كمالاته و الترقى من حدّ النّقص و الوبال إلى ذروة الفضل و الكمال، و من هبوط الجهل و الدّنائة إلى شرف العزّ و السّعادة، و كان ذلك الاستكمال و التّرقّي موقوفا على طاعة الرّسول و الإمام عليهما السّلام‏ حسبما عرفت أمر بطاعتهما بقوله (فاستجيبوا للدّاعي و اتّبعوا الرّاعي) لأنّهما قوّاد النّاس و هداتهم إلى المحجّة البيضاء و الصّراط المستقيم، و بالاستجابة و المتابعة لهما ينال حسن العاقبة و سعادة الخاتمة، و لذلك قرن اللَّه طاعتهما بطاعته فقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ».

و قوله عليه السّلام (قد خاضوا بحار الفتن) قال الشارح البحراني: يحتمل أن يكون التفاتا إلى قوم معهودين للسّامعين كمعاوية و أصحاب الجمل و الخوارج، و يحتمل أن يكون منقطعا عمّا قبله متّصلا بكلام لم يحكه الرّضي (ره) و إليه ذهب الشّارح المعتزليّ، و قال: هذا كلام متّصل بكلام لم يحكه الرّضي، و هو ذكر قوم من أهل الضّلال قد كان أخذ في ذمّهم و نعا عليهم عيوبهم أقول: و الأظهر عندي أنّه متّصل بالكلام السّابق، و وجه نظمه أنّه لمّا أمر بوجوب متابعته و فرض طاعته و طاعة الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم التفت إلى حكاية حال المخالفين لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و المغيّرين لوصيّته، و الغاصبين لخلافته من الخلفاء الثلاث و متابعتهم، و كيف كان فتشبيه الفتن بالبحار لاهلاكها و استيصالها فمن دخل فيها يغرق كما يغرق البحر الخائض فيه، و ذكر الخوض ترشيح للتّشبيه.

(و أخذوا بالبدع دون السّنن) يعني أنّهم عدلوا عن سنّة سيّد المرسلين، و تركوا منهج الشّرع المبين، و أبدعوا في الدّين، و أخذوا بالرّأى و المقائيس عن هوى الأنفس، فلم يزالوا دهرهم في الالتباس و الارتماس في بحر الظلمات و الانغماس في مهوى الشّهوات، و ذلك كلّه لاعراضهم عن أئمّة الحقّ و أولياء الصّدق.

قال يونس بن عبد الرّحمن: قلت: لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام بما أوحّد اللَّه عزّ و جلّ قال: لا تكوننّ مبتدعا، من نظر برأيه هلك، و من ترك أهل بيت نبيّه ضلّ، و من ترك كتاب اللَّه و قول نبيّه كفر قال الشّارح البحراني: البدعة قد يراد بها ترك السنّة و قد يراد بها أمرآخر يفعل مع ترك السنّة و هو أظهر في العرف.

أقول: و البدعة ملازمة لترك السّنة كما يفصح عنه ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس عن حريز عن زرارة قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن الحلال و الحرام فقال: حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة و حرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجي‏ء غيره.
و قال عليه السّلام قال عليّ عليه السّلام: ما أحد ابتدع بدعة إلّا ترك بها سنّة.
وجه دلالته على الملازمة أنّ حلاله و حرامه إذا كانا مستمرّين إلى يوم القيامة فمن أتى بشي‏ء إمّا أن يكون حكمه ثابتا في الكتاب و السنّة فلا يكون بدعة، و إلّا ففيه تركهما، و بعبارة اخرى لو لم يكن مخالفا للسّنة لم يكن بدعة، و حيث كان مخالفا مناقضا لها يلزم من إتيانها ترك سنّة هي في مقابلها البتة، و هو معنى قول أمير المؤمنين عليه السّلام الذي استشهد به الامام عليه السّلام (و أرز المؤمنون) أى انقبضوا و سكتوا لشمول التّقية و غلبة الباطل (و نطق الضّالّون المكذّبون) لاختفاء الحقّ و استيلاء أهل الضّلال.

ثمّ عاد عليه السّلام إلي ذكر مناقبه و مفاخره المقتضية لوجوب طاعته حثّا للمخاطبين على الرّجوع إليه و تأكيدا للتّعريض و التقريع على المنحرفين العادلين عنه إلى غيره و الغاصبين لحقّه فقال (نحن) أراد به نفسه و الطّيبين من أولاده (الشّعار و الأصحاب) أى شعار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، و استعار لفظ الشّعار لهم باعتبار ملازمتهم له عليه السّلام و مزيد اختصاصهم به ملازمة الشّعار للجسد و اختصاصه به، و هم أيضا أدركوا صحبته بالايمان و صدقوه في جميع ما جاء به بالاذعان و الايقان، و عرف المسند بلام التّعريف للعهد قصدا للحصر، يعني أنّ الشّعار و الأصحاب المعهودين نحن لا غيرنا.

قال العلامة التفتازاني: إذا كان للشّي‏ء صفتان من صفات التعريف عرف السّامع اتّصافه باحداهما دون الأخرى حتّى يجوز أن تكونا وصفين لشيئين متعدّدين في الخارج فأيّهما كان بحيث يعرف السامع اتّصاف الذّات به و هو كالطالب بحسب زعمك أن‏يحكم عليه بالاخرى يجب أن تقدّم اللّفظ الدّالّ عليه و تجعله مبتداء، و أيّهما كان بحيث يجعل اتصاف الذّات به و هو كالطالب أن تحكم بثبوته للذات أو بنفيه عنها يجب أن تؤخّر اللّفظ الدّالّ عليه و تجعله خبرا، فاذا عرف السامع زيدا بعينه و اسمه و لا يعرف اتّصافه بأنه أخوه و أردت أن تعرفه ذلك قلت: زيد أخوك، و كذلك إذا عرف زيدا و علم أنّه كان من انسان انطلاق و لم يعرف اتّصاف زيد بأنه المنطلق المعهود و أردت أن تعرفه ذلك قلت: زيد المنطلق، و لا يصحّ المنطلق زيد، انتهى (و الخزنة و الأبواب) أى خزّان خزينة علم اللَّه و علم رسوله و إنّما استعار لهم ذلك اللّفظ لأنّ الخازن إنّما يتولّى ما في الخزانة و يحفظه و يتصرّف فيه و يصرفه في مصارفه و هم عليهم السّلام كذلك لأنّهم حفّاظ علم اللَّه تعالى، و المتصرّفين فيه و الباذلين له لمن يشاءون، و المانعين له عمّن يشاءون قال تعالى: «هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ».

فانّ ظاهرها في حقّ سليمان بن داود عليهما السّلام و باطنها في أهل البيت عليهم السّلام حسبما عرفته في شرح الكلام التّاسع و الخمسين.
و يدلّ على كونهم خزّان اللَّه تعالى ما في البحار من بصاير الدّرجات للصّفار بسنده عن سورة بن كليب قال: قال لي أبو جعفر عليه السّلام: و اللَّه إنّا لخزّان اللَّه في سمائه و أرضه لا على ذهب و لا على فضّة إلّا على علمه، قال العلّامة المجلسيّ ره أى خزّان علم السّماء و الأرض.
أقول: و الأولى جعل ضمير علمه راجعا إلى اللَّه كما يفصح عنه إضافة العلم إلى لفظ الجلالة في الأخبار الآتية و ستعرف تحقيق ذلك.

و فيه منه عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال سمعته يقول: و اللَّه إنّا لخزّان اللَّه في سمائه و خزّانه في أرضه، لسنا بخزّان على ذهب و لا على فضّة و إن منّا لحملة العرش إلى يوم القيامة.
و عن سدير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قلت له: جعلت فداك ما أنتم قال:
نحن خزّان اللَّه على علم اللَّه نحن تراجمة وحى اللَّه نحن الحجّة البالغة على ما دون السّماء و فوق الأرض.
و عن سدير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سمعته يقول: نحن خزّان اللَّه في الدّنيا و الآخرة و شيعتنا خزّاننا.
و عن عبد الرّحمن بن كثير قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: نحن ولاة أمر اللَّه و خزنة علم اللَّه و عيبة وحى اللَّه.
و عن حمران عن أبي جعفر عليه السّلام قال: انّ اللَّه تبارك و تعالى أخذ الميثاق على اولى العزم أنّي ربّكم و محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رسولي و عليّ أمير المؤمنين و أوصياؤه من بعده ولاة أمري و خزّان علمي، و أنّ المهديّ انتصر به اديني.
فظهر بهذه الرّوايات كونهم ولاة خزانة علمه تعالى، و يدلّ عليه أيضا ما عن احتجاج الطّبرسي عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام في حديث طويل و فيه: قال لصاحبكم أمير المؤمنين: «قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» و قال اللَّه عزّ و جلّ: «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
و علم هذا الكتاب عنده.
و بهذا المضمون أيضا أخبار اخر قدّمنا روايتها في التّذييل الثالث من شرح الفصل السّابع عشر من الخطبة الاولى فليتذكّر.
قال بعض الأفاضل: و العلم الذي هم خزائنه هو علم الموجودات بالمعني المتعارف و هو قوله تعالى: «وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ» يعني أنّ ما لم يشأ من علمه أن يعلموه لا يحيطون به، و ليس المرادبهذا العلم الذي لا يحيطون بشي‏ء هو القديم الذي هو الذات ليكون المعنى و لا يحيطون بشي‏ء من ذاته إلّا بما شاء أن يحيطوا به منها، و هذا معنى باطل، بل المراد به أنّ العلم الحادث الذي هو غير الذات منه ممكن مقدّر غير مكوّن، و منه تكوين و منه مكوّن، فالممكن المقدور غير المكوّن هو الممكنات قبل أن تكسى حلّة الوجود في جميع مراتب الوجود، فهذه لم تكن مشائة إلّا في أماكنها، فهذا لا يحيطون بشي‏ء منه إحاطة وجود، و يحيطون به إحاطة إمكان إذ ذاك مشائة مشية إمكان، و التكوين الممكن، و هذا يحيطون به لأنّه مشاء بنفسه و هم محالّ ذلك، و المكوّن قسمان مكوّن مشروط، و مكوّن منجّز، و المكوّن المشروط يحيطون به لأنّه مشاء و لا يحيطون بالشّرط إلّا بعد أن يكون مشاء، و المكوّن المنجّز يحيطون به، ثمّ ما كانوا يحيطون به قسمان: قسم كان و هم يحيطون به أنّه كان و لا يحيطون به انه مستمرّ أو منقطع إلّا إحاطة اخبار لا إحاطة عيان، و قسم لم يكن فهم يحيطون به إحاطة اخبار أيضا لا إحاطة عيان، فظهر لمن نظر و أبصر من هذا التّفصيل أنّهم عليهم السّلام لا يحيطون بشي‏ء من علمه الذي هو غير ذاته إلّا بما شاء أن يحيطوا به، و الّذي شاء أن يحيطوا به هو ما سمعته في هذا التفصيل، هذا تمام الكلام في كونهم عليهم السّلام خزّان اللَّه.

و أمّا كونهم الأبواب فالمراد به أنّهم عليهم السّلام أبواب الايمان و المعرفة باللَّه، و أبواب علم اللَّه و علم رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كما ورد في الأخبار المستفيضة العاميّة و الخاصيّة بل لا يبعد تواترها أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب و قال أيضا: أنا مدينة الحكمة و في بعضها: دار الحكمة و عليّ بابها فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها و إلى هذا أشار عليه السّلام بقوله: (و لا تؤتى البيوت إلّا من أبوابها فمن أتاها من غير بابها سمّى سارقا) و هو كناية عن أنّ من أخذ العلم من غير أهله و أراد المعرفة عن غير الجهة التي امر بالتوجّه إليها فهو منتحل له كالسّارق الذي يتسوّر البيوت من غير أبوابها و يأخذ ما فيها غصبا و عدوانا قال تعالى:«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها».

روى في البحار من الاحتجاج للطبرسي عن الأصبغ بن نباته قال: كنت جالسا عند أمير المؤمنين عليه السّلام فجائه ابن الكوا فقال: يا أمير المؤمنين قول اللَّه عزّ و جلّ «لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ» الآية فقال عليه السّلام: نحن البيوت الّتي أمر اللَّه أن يؤتى أبوابها، نحن باب اللَّه و بيوته التي يؤتي منها، فمن تابعنا و أقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، و من خالفنا و فضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها «إلى أن قال» إنّ اللَّه عزّ و جلّ لو شاء عرّف النّاس نفسه حتّى يعرفوه و يأتوه من بابه، و لكن جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و بابه الذي يؤتى منه، قال: فمن عدل عن ولايتنا و فضّل علينا غيرنا فانّهم عن الصّراط لناكبون، و قد تقدّمت هذه الرّواية في شرح الفصل الرّابع من الخطبة الاولى من الصّافي عن أمير المؤمنين عليه السّلام مثله.

(منها) ما هو أيضا في فضايل أهل البيت عليهم السّلام و هو قوله عليه السّلام (فيهم كرايم القرآن) يحتمل أن يكون المراد بالكرايم الآيات الكريمة قال: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ».
أى حسن مرضىّ في جنسه، و قيل: كثير النّفع لاشتماله على اصول العلوم المهمّة في المعاش و المعاد و الكريم صفة لكلّ ما يرضى و يحمد، و منه وجه كريم أى مرضيّ في حسنه و بهائه، و كتاب كريم مرضىّ في معانيه.

و أن يكون المراد بها الآيات الدّالة على كرامتهم أى على جمعهم لأنواع الشّرف و الفضايل، إذ الكريم هو الجامع لأنواع الخير و الشّرف، و قد مضى بعض تلك الآيات في شرح الفصل الثالث من الخطبة السّادسة و الثّمانين، و تقدّم كثير منها في تضاعيف الشّرح و تأتي أيضا انشاء اللَّه في مواضعها اللّايقة، و في بعض النّسخ: فيهم‏ كرايم الايمان، أي الخصال الكريمة الّتي هى من لوازم الايمان و خواصّه (و هم كنوز الرّحمن) لأنّ الكنز ما يدّخر فيه نفايس الأموال و هم عليهم السّلام قد أودع اللَّه فيهم نفايس جميع ما في الكون و خيار الفضايل و الفواضل من العلم و الحلم و السّخاء و الجود و الكرم و الخلافة و الولاية و الشّجاعة و الفصاحة و العصمة و القدس و الطهارة إلى غير تلك ممّا لا يضبطها عدّ و لا يحيط بها حدّ.

«وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
(إن نطقوا صدقوا) لأنّهم أزمّة الحقّ و ألسنة الصّدق المستجاب بهم دعوة إبراهيم عليه السّلام في قوله: «وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ».
و المفروض متابعتهم بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».
على ما قدّمنا في شرح الفصل الثالث من الخطبة السّادسة و الثّمانين.
(و إن سكتوا لم يسبقوا) لأنّ سكوتهم إنّما هو بمقتضى المصلحة و اقتضاء الحكمة لا عن عيّ و عجز حتّى يسبقهم الغير و يتكلّم و لا يتمكّنوا و يتمكّن بل يعلمون ما كان و ما هو كائن و يتكوّن و لذلك شاع المثل السائر: قضيّة و ليس لها أبو الحسن ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا نبّه على جملة من مناقبهم الباهرة و مفاخرهم الزاهرة عقّب ذلك بالمثل المشهور و فرّعه على ما سبق فقال (فليصدق رائد أهله) يعني أنّ المرسل من الحىّ لطلب الماء و الكلاير تادلهم المرعى ينبغي له أن يصدق أهله و لا يكذب لمن أرسله و يبشّر له بها، و أراد بذلك أنّ من يحضر الأئمة عليهم السّلام من النّاس طلبا لاخبارهم و اقتباس أنوارهم و أخذ معالم الدّين عنهم فليصدق من يكل‏ إليه أمره انّنا أهل الحقّ و ينابيع العلم و الحكمة و الأدلّاء (و ليحضر عقله) لاستماع كلامنا حتّى يعرف صحّة ما ادّعينا قال تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».

روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن قال: حدّثنا حماد عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن قول العامة أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: من مات و ليس له إمام مات ميتة جاهليّة، فقال عليه السّلام: الحق و اللَّه، قلت: فان إماما هلك و رجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك، قال عليه السّلام: لا يسعه انّ الامام إذا هلك وقعت حجّة وصيّة على من هو معه في البلد و حقّ النّفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم إنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» قلت: فنفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل فيعلم قال: إنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول: «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».

قلت: فبلغ البلد بعضهم فوجدك مغلقا عليك بابك و مرخى عليك سترك لا تدعوهم إلى نفسك و لا يكون من يدلّهم عليك فبما يعرفون ذلك قال: بكتاب اللَّه المنزل، قلت: فيقول اللَّه عزّ و جلّ كيف قال: أراك قد تكلّمت في هذا قبل اليوم، قلت: أجل، قال عليه السّلام: فذكّر ما أنزل اللَّه في عليّ عليه السّلام و ما قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في حسن و حسين عليهما السّلام و ما خصّ اللَّه به عليا عليه السّلام و ما قال فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من وصيّته إليه و نصبه إيّاه و ما يصيبهم و إقرار الحسن و الحسين بذلك و وصيّته إلى الحسن و تسليم الحسين له يقول اللَّه:«النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ».

قلت: فان النّاس تكلّموا في أبي جعفر عليه السّلام و يقولون كيف تخطّت من ولد أبيه من له مثل قرابته و من هو أسنّ منه و قصرت عمّن هو أصغر منه فقال عليه السّلام: يعرف صاحب هذا الأمر بثلاث خصال لا تكون في غيره: هو أولى النّاس بالذي قبله، و هو وصيّه، و عنده سلاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و وصيّته و ذلك عندى لا انازع فيه، قلت: إنّ ذلك مستور مخافة السّلطان قال: لا يكون في ستر إلّا و له حجّة ظاهرة إنّ أبي استودعني ما هناك فلما حضرته الوفاة قال: ادع لي شهودا فدعوت أربعة من قريش فيهم نافع مولى عبد اللَّه بن عمر قال: اكتب: هذا ما أوصى به يعقوب بنيه «وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ» و أوصى محمّد بن عليّ إلى جعفر بن محمّد و أمره أن يكفنّه في برده الّذى كان يصلّى فيه الجمع، و أن يعمّمه بعمامته، و أن يربع قبره و يرفعه أربع أصابع ثمّ يخلى عنه، فقال عليه السّلام اطووه ثمّ قال للشّهود: انصرفوا رحمكم اللَّه، فقلت بعد ما انصرفوا ما كان في هذا يا ابه أن تشهد عليه فقال عليه السّلام: إنّي كرهت أن تغلب و أن يقال إنّه لم يوص فأردت أن تكون لك حجّة فهو الذي إذا قدم الرّجل البلد قال إلى من وصىّ فلان، قيل: فلان، قلت: فان كان أشرك في الوصيّة قال: تسألونه فانّه سيبيّن لكم.

و قد رويت هذه الرّواية لاشتماله على فوايد عظيمة جمّة، و ايضاحه كيفية تكليف من ينفر لطلب الامام و وظيفة الامام و ما يعرف به المحقّ من المبطل، و أنّ اللّازم على النافرين إنذار قومهم بعد تفقّههم في الدّين و معرفتهم بالامام بالبيّنات التي هى من دلالات الامامة، فعلم بذلك أنّ النّافر لطلب الامام بمنزلة الرّائد السّابق ذكره في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام فافهم ذلك و تبصّرثمّ أمر عليه السّلام الرّائد أمر إرشاد فقال (و ليكن من أبناء الآخرة) و رغبته اليها (فانّه منها قدم و إليها ينقلب) لأنّ الانسان مبدؤه الحضرة الالهيّة و هو سبحانه المبدأ و إليه المنتهى و هو غاية مراد المريدين و منتهى سير السائرين.

ثمّ أشار عليه السّلام إلى فضيلة العلم فقال عليه السّلام (فالناظر بالقلب العامل بالبصر) أى ينبغي لصاحب العقل البصير في عمله أن (يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له) أى يعرف قبل أن يعمل أنّ عمله نافع له مقرّب إلى الحضرة الرّبوبية أم مضرّ مبعّد له (فان كان له مضى فيه) و أتى به (و إن كان عليه وقف عنه) و تركه و إنما كان اللّازم على العاقل تحصيل العلم قبل العمل (فانّ العامل بغير علم كالسائر على غير طريق فلا يزيده بعده عن الطريق إلّا بعدا من حاجته) إذ كان بعده عن مطلوبه بقدر بعده عن طريق ذلك المطلوب.

قال طلحة بن زيد: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلّا بعدا، رواه في الكافي.
و فيه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح.
(و) هذا بخلاف العامل العالم فانّ (العامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح) فلا يزيده سرعة سيره إلّا نجاحا بحاجته (فلينظر ناظر) أى النّاظر بالقلب المسبوق ذكره (أسائر هو أم راجع) أقول: و ما ذكرناه في شرح هذه الفقرات أعنى قوله: فالنّاظر بالقلب إلى قوله: أم راجع، إنّما هو مفاد ظاهر كلامه عليه السّلام، و الأشبه عندي أن تكون تلويحا و إشارة إلى وجوب اتباع الأئمّة و الايتمام بهم، فانّه لمّا ذكر أوصاف الأئمة و نعوتهم الكماليّة، عقّب ذلك بما يلزم على الرائد الطّالب للامام، ثمّ فرّع عليه قوله: فالنّاظر بالقلب آه يعنى أنّ صاحب العقل و البصيرة لا بدّ له قبل أن يشرع في عمل أن يعلم أنّ عمله له أم عليه، و العلم موقوف على التّعلّم من الامام العالم و الاقتباس من نوره و الاهتداء به، إذ المتلقّى من غيره:«كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً».

و يؤمى إلى ما ذكرناه تمثيل العامل العالم بالسّائر على الطريق و تمثيل الجاهل بالساير على غير طريق قال تعالى: «قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي».
قال زيد بن عليّ: قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في هذه الآية: أنا و من اتّبعني من أهل بيتي لا يزال الرّجل بعد الرجل يدعو إلى ما أدعوا اليه، و قال تعالى أيضا: «أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ أَهْدى‏ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».

قال البيضاوي و معنى مكبّا أنّه يعثر كلّ ساعة و يخرّ على وجهه لو عورة طريقه و اختلاف أجزائه، و لذلك قابله بقوله: أمّن يمشى سويّا قائما سالما من العثار، على صراط مستقيم مستوى الأجزاء و الجهة، و المراد تمثيل المشرك و الموحّد بالسالكين و الدئيين بالمسلكين، و قيل: المراد بالمكبّ الأعمى فانّه يعتسف فيكبّ و بالسوىّ البصير، انتهى و أما تأويله فالمراد بالمكبّ أعداء آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و بمن يمشى سويّا أولياؤهم عليهم السّلام كما ورد في تفسير أهل البيت ثمّ قال عليه السّلام (و اعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، و ما خبث ظاهره خبث باطنه) المراد بهما إمّا كلّ ما يصدق عليه أنّه ظاهر و باطن فيشمل الأفعال الظاهرة و الأقوال الصّادرة عن الانسان خيرا أو شرّا و الملكات و الأخلاق النّفسانيّة الباطنيّة له حسنة أو قبيحة فالجود و الكرم و الانعام و الاحسان و نحوها ممّا هو حسن ظاهرا كاشف عن حسن الباطن أعنى ملكة السّخاء و الجود، و القبض و الامساك و المنع و نحوها ممّا هو قبيح ظاهرا دالّ على قبح الباطن و خبثه أعنى ملكة البخل و هكذا، و كذلك في الأقوال ما هو الطيّب ظاهرا كاشف عن طيب الباطن و ما هو الخبيث كاشف عن خبث الباطن‏

قال عليه السّلام في الخطبة الشقشقيّة في وصف حال الثاني: فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها و يخشن مسّها، و قال تعالى: «مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ»… «وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» و يشمل أيضا لمثل حسن الصّورة الموافق لحسن الباطن أعني اعتدال المزاج، و قبحها الموافق لقبح الباطن أعني عدم اعتداله أو الأعمّ من الاعتدال و عدم الاعتدال.

و يشهد بذلك ما رواه في البحار من الأمالى عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: عليكم بالوجوه الملاح و الحدق السّود فانّ اللَّه يستحيى أن يعذّب الوجه المليح بالنّار و فيه من ثواب الأعمال عن موسى بن إبراهيم عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: سمعته يقول: ما حسّن اللَّه خلق عبد و لا خلقه إلّا استحيى أن يطعم لحمه يوم القيامة النّار و فيه من العيون عن الرّضا عن آبائه عليهم السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: لا تجد في أربعين أصلع رجل سوء و لا تجد في أربعين كوسجا رجلا صالحا و أصلع سوء أحبّ إليّ من كوسج صالح و من ذلك ما روى أنّ أبا محمّد الحسن بن عليّ عليهما السّلام دخل يوما على معاوية فسأله عليه السّلام تعنّتا و قال: قال اللَّه تعالى: «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
فأين ذكر لحيتك و لحيتي من الكتاب و كان أبو محمّد وفر المحاسن«» و معاوية بخلافه فقرأ عليه السّلام:«وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً».

و نحوه ما عن المناقب قال عمرو بن العاص للحسين عليه السّلام: ما بال لحاكم أوفر من لحانا فقرأ عليه السّلام هذه الآية و من هذا الباب كلّ ما في الكتاب العزيز من التّعبير عن الأئمة عليهم السّلام بأعزّ الأسماء و أحسن الأفعال و أفضل الخصال و التّعبير عن أعدائهم بأخبثها و أخسّها و أنزلها.

و يدلّ عليه ما في الصّافي من الكافي عن الصّادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ».
قال عليه السّلام: إنّ القرآن له ظهر و بطن فجميع ما حرّم اللَّه في القرآن هو الظاهر و الباطن من ذلك أئمّة الجور، و جميع ما أحلّ اللَّه في الكتاب هو الظاهر و الباطن من ذلك أئمة الحقّ.
و في البحار من البصاير بسنده عن الهيثم التميمي قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: يا هيثم إنّ قوما آمنوا بالظاهر و كفروا بالباطن فلم ينفعهم شي‏ء، و جاء قوم من بعدهم فآمنوا بالباطن و كفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئا، و لا ايمان بظاهر إلّا بباطن و لا بباطن إلّا بظاهر.

و من كنز جامع الفوايد قال: روى الشّيخ أبو جعفر الطوسي باسناده إلى الفضل ابن شاذان عن داود بن كثير قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام: أنتم الصّلاة في كتاب اللَّه عزّ و جلّ و أنتم الزّكاة و أنتم الحجّ، فقال: يا داود نحن الصّلاة في كتاب اللَّه عزّ و جلّ، و نحن الزّكاة، و نحن الصّيام، و نحن الحجّ، و نحن الشّهر الحرام، و نحن البلد الحرام، و نحن كعبة اللَّه، و نحن قبلة اللَّه، و نحن وجه اللَّه قال اللَّه تعالى: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا- وجوهكم- فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ».

و نحن الآيات و نحن البيّنات، و عدوّنا في كتاب اللَّه عزّ و جلّ الفحشاء و المنكر و البغى و الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام و الأصنام و الأوثان و الجبت و الطّاغوت و الميتة و الدّم و لحم الخنزير، يا داود إنّ اللَّه خلقنا فأكرم خلقنا، و فضّلنا و جعلنا امنائه و حفظته و خزّانه على ما في السّماوات و ما في الأرض، و جعل لنا أندادا أضدادا و أعداء فسمّانا في كتابه و كنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء و أحبّها إليه، و سمّى أضدادنا و أعدائنا في كتابه و كنّى عن أسمائهم، و ضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه و إلى عباده المتّقين هذا كلّه مبنيّ على أن يراد بالظّاهر و الباطن المعنى الأعمّ، و يجوز أن يراد بهما الخصوص أعنى العلم المأخوذ من معدنه، فيكون قوله، فما طاب ظاهره طاب باطنه إشارة إلى العلوم الحقّة المتلقّاة من الأئمة عليهم السّلام الخارجة من مهبط الوحى و معدن الرّسالة،

و قوله: و ما خبث ظاهره خبث باطنه، إشارة إلى العلوم الباطلة المأخوذة من أهل الضّلال عن طريق الرأي و القياس و الاستحسانات العقليّة الفاسدة، و الوجه الأوّل أعني إرادة العموم هو الأوفق بنفس الأمر، و الوجه الثّاني أنسب بالنّسبة إلى ما حقّقناه سابقا، فانّه عليه السّلام حسبما ذكرنا لمّا أشار إلى أنّ السّالك لا بدّ أن يكون سلوكه على علم و بصيرة حتّى لا يكون كالسّائر على غير الطّريق أردفه بهذه الجملة تنبيها على أنّ كلّ علم ليس ممّا ينتفع به في مقام السّلوك بل خصوص العلم الموصل إلى الحقّ المتلقّى من أهل الحقّ أعني أئمّة الدّين و هو الطيّب ظاهرا و باطنا، و امّا غيره أعني العلم المأخوذ من أهل الضّلال فهو جهل في صورة العلم لا يوجب إلّا بعدا من الحقّ خبيث ظاهره و باطنه و قد يفسّر به قوله تعالى: «وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ».
قال القمّي: إنّه مثل للأئمّة يخرج علمهم باذن ربّهم و لأعدائهم لا يخرج علمهم إلّا كدرا فاسدا.

(و قد قال الرّسول الصّادق صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إنّ اللَّه يحبّ العبد و يبغض عمله و يحبّ العمل و يبغض بدنه) يعني أنّ اللَّه يحبّ العبد المؤمن بما فيه من وصف الايمان لكنّه يبغض عمله لكونه سيّئة و حراما، و يبغض الكافر بما له من الكفر لكنّه يحبّ عمله لكونه حسنا و صالحا، و هذا لا غبار عليه و إنّما الاشكال في ارتباط هذا الكلام لسابقه و في استشهاد الامام عليه السّلام به مع أنّه لا مناسبة بينهما ظاهرا، و ليس للاستشهاد به وجه ظاهر، بل منافاته لما مرّ أظهر من المناسبة كما هو غير خفيّ إذ لازم محبّة اللَّه للعبد كون العبد طيّبا، و لازم بغضه لعمله كون العمل خبيثا فلم يكن الظّاهر موافقا للباطن، فينا في قوله عليه السّلام: فما خبث ظاهره خبث باطنه، و كذلك مقتضي بغض اللَّه سبحانه لبدن الكافر كونه خبيثا، و حبّه لعمله كون عمله طيّبا ففيه أيضا مخالفة الظّاهر للباطن، فينا في قوله: فما طاب ظاهره طاب باطنه و الذي سنح لي في وجه الارتباط و حلّ الاشكال بعد التّروى و صرف الهمّة إلى حلّه أيّاما و الاستمداد من جدّى أمير المؤمنين عليه و آله سلام اللَّه ربّ العالمين هو أنّه لمّا ذكر أنّ ما هو طيّب الظّاهر طيّب الباطن و ما هو خبيث الظّاهر خبيث الباطن، عقّبه بهذا الحديث النّبوي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم تنبيها و ايقاظا للسّامعين بأنّ العبد قد يكون نفسه محبوبا و عمله مبغوضا، و قد يكون بالعكس كما أفصح عنه الرّسول الصّادق المصدّق فاللّازم له إذا كان محبوب الذّات للَّه سبحانه و مبغوض العمل أن يجدّ في تحبيب عمله إليه تعالى حتّى يوافق نفسه عمله في المحبوبيّة، و إذا كان محبوب العمل و مبغوض البدن أى الذّات أن يجدّ في تحبيب ذاته إليه كى يوافق عمله نفسه و الغرض بذلك الحثّ على تطبيق الظّاهر للباطن في الأوّل و تطبيق الباطن للظّاهر في الثّاني في المحبوبيّة حتى يكونا طيّبين، و يفاز إلى النّعيم الدّائم و الفوز الأبد، و لا يعكس حتّى يكونا خبيثين مبغوضين له تعالى فيقع في العذاب الأليم و الخزى العظيم، و قد زلّت في هذا المقام أقدام الشّراح و المحشّين،و كلّت فيه أفهامهم طوينا عن ذكر كلامهم، من أراد الاطلاع فليراجع الشّروح، و اللَّه وليّ التّوفيق ثمّ حثّ على تزكية الأعمال و تصفيتها بمثل ضربه بقوله (و اعلم أنّ كلّ عمل نبات) و في بعض النّسخ أنّ لكلّ عمل نباتا، قال الشّارح البحراني: استعار لفظ النّبات لزيادة الأعمال و نموّها و رشّح الاستعارة بذكر الماء آه، و على ما روينا فهو من التّشبيه البليغ أعنى التّشبيه المحذوف الأداة أى كلّ عمل بمنزلة نبات، و وجه الشّبه أنّ النّباتات كما أنّها مختلفة من حيث طيبها و نضارتها و خضرتها و حسنها و ثبات أصلها في الأرض و رسوخ عروقها و ارتفاع فروعها و حلاوة ثمراتها و من حيث كونها على خلاف ذلك، فكذلك الأعمال و إلى ذلك أشار بقوله (و كلّ نبات لا غنى به عن الماء) و هو مادّة حياته كما قال سبحانه: «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ» و قال «وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً».

و كذلك كلّ عمل لا غنى به عن النيّة و عن توجّه القلب اليه و هو مادّة حصوله (و المياه مختلفة) هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح اجاج، و النيّات أيضا مختلفة بعضها صادرة عن وجه الخلوص و التقرّب إلى الحضرة الرّبوبيّة، و بعضها عن وجه الشّرك و الرّياء و السّمعة (فما طاب سقيه) أى نصيبه من الماء لكونه عذبا صافيا (طاب غرسه) و ثبت أصله و ارتفع فرعه و كان له خضرة و نضرة (و حلت ثمرته) و كذلك العمل الصّادر عن وجه الخلوص و التقرّب إلى الحقّ يعلو و يزكو و يثمر ثمرات طيبة و هى ثمرات الجنان اكلها دائم و ظلّها قال تعالى: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً».

(و ما خبث سقيه) لكون مائه ملحا اجاجا أو كدرا فاسدا (خبث غرسه) لا يكون له رونق و بهاء و لا لأصله ثبات و لفرعه ارتفاع (و أمرّت ثمرته) و هكذا العمل المشوب بالشّرك و الرّيا يثمر ثمرات خبيثة أعنى ثمرات الجحيم و هى الضّريع و الرّقوم قال تعالى: «طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ».

و أقول: قد وقع مثل هذا التّشبيه الواقع في كلام أمير المؤمنين أعني تشبيه العمل بالنّبات في كلام اللَّه ربّ العالمين قال سبحانه في سورة إبراهيم: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ».

قال في مجمع البيان «ألم تر» أى ألم تعلم يا محمّد «كيف ضرب اللَّه مثلا» أى بين اللَّه شبها ثمّ فسّر ذلك المثل فقال «كلمة طيّبة» و هى كلمة التّوحيد شهادة أن لا إله إلّا اللَّه عن ابن عباس، و قيل هى كلّ كلام أمر اللَّه به من الطاعات عن أبي علي قال: و إنّما سمّاها طيّبة لأنّها زاكية نامية لصاحبها بالخيرات و البركات «كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السّماء» أى شجرة زاكية نامية راسخة اصولها في الأرض عالية أغصانها و ثمارها في السّماء و أراد به المبالغة في الرّفعة و الأصل سافل و الفرع عال إلّا أنّه يتوصّل من الأصل إلى الفرع «تؤتى اكلها» أى تخرج هذه الشّجرة ما يؤكل منها «كلّ حين» أى كلّ غدوة و عشيّة «باذن ربّها» و قيل: إنّه سبحانه شبّه الايمان بالنّخلة لثبات الايمان في قلب المؤمن كثبات النخلةفي منبتها، و شبّه ارتفاع عمله إلى السّماء بارتفاع فروع النّخلة، و شبّه ما يكسبه المؤمن من بركة الايمان و ثوابه في كلّ وقت و حين بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السّنة كلها من الرّطب و التمر «و يضرب اللَّه الأمثال للنّاس لعلّهم يتذكّرون» أى لكى يتدبّروا فيعرفوا الغرض بالمثل «و مثل كلمة خبيثة» و هى كلمة الكفر و الشّرك، عن ابن عبّاس و غيره، و قيل: هو كلّ كلام في معصية اللَّه عن أبي عليّ «كشجرة خبيثة» غير زاكية و هى شجرة الحنظل عن ابن عبّاس و أنس و مجاهد «اجتثّت من فوق الأرض» أى اقتطعت و استوصلت و اقتلعت جثّته من الأرض «ما لها من قرار» أى ما لتلك الشّجرة من ثبات فانّ الرّيح تنسفها و تذهب بها، فكما أنّ هذه الشّجرة لا ثبات لها و لا بقاء و لا ينتفع بها أحد، فكذلك الكلمة الخبيثة لا ينتفع بها صاحبها و لا يثبت له منها نفع و لا ثواب.

تبصرة

قال الشّارح المعتزلي عند شرح قوله عليه السّلام من هذه الخطبة: نحن الشّعار و الأصحاب و الخزنة و الأبواب: و اعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لو فخر بنفسه و بالغ في تعديد مناقبه و فضايله بفصاحته التي أتاه اللَّه إيّاها و اختصّه بها و ساعده على ذلك فصحاء العرب كافّة لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الصّادق صلوات اللَّه عليه و آله في أمره، و لست أعني بذلك أخبار العامّة الشّايعة التّي يحتجّ بها الاماميّة على إمامته، كخبر الغدير، و المنزلة، و قصّة برائة، و خبر المناجاة، و قصّة خيبر، و خبر الدار بمكّة في ابتداء الدّعوة و نحو ذلك، بل الأخبار الخاصّة الّتي رواها فيه أئمّة الحديث الّتي لم يحصل أقلّ القليل منها لغيره، و أنا أذكر من ذلك شيئا يسيرا ممّا رواه علماء الحديث الذين لا يتّهمون فيه و جلّهم قائلون بتفضيل غيره عليه، فروايتهم فضائله توجب سكون النّفس ما لا يوجبه رواية غيرهم ثمّ أورد أربعة و عشرين حديثا نبويّا في فضائله، و الحديث الرّابع و العشرون‏

قوله: لمّا نزل إذا جاء نصر اللَّه و الفتح بعد انصرافه من غزاة حنين جعل يكثر سبحان اللَّه استغفر اللَّه ثمّ قال: يا عليّ إنّه قد جاء ما وعدت به جاء الفتح و دخل النّاس في دين اللَّه أفواجا و ليس أحد أحقّ منك بمقامي لقدمك في الاسلام و قربك منّي و صهرك و عندك سيدة نساء العالمين، و قبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب عندى حين نزل القرآن فأنا حريص أن اراعى ذلك لولده، رواه أبو إسحاق الثّعلبيّ في تفسير القرآن.

ثمّ قال الشّارح: و اعلم أنّا إنّما ذكرنا ههنا هذه الأخبار لأنّ كثيرا من المنحرفين عنه عليه السّلام إذا مرّوا على كلامه في نهج البلاغة و غيره المتضمّن للتّحدّث بنعمة اللَّه عليه من اختصاص الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و تميزه إيّاه عن غيره ينسبونه فيه إلى التّيه و الزّهو و الفخر، و لقد سبقهم بذلك قوم من الصّحابة قيل لعمر ولّ عليّا أمر الجيش و الحرب فقال: هو أتيه من ذلك، و قال زيد بن ثابت: ما رأينا أزهى من عليّ و اسامة فاردنا ايراد هذه الأخبار أن تنبّه على عظيم منزلته عليه السّلام عند الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و أنّ من قيل في حقّه ما قيل لو رقى إلى السّماء و عرج في الهواء و فخر على الملائكة و الأنبياء تعظما و تبجحا لم يكن ملوما بل كان بذلك جديرا فكيف و هو عليه السّلام لم يسلك قطّ مسلك التعظّم و التكبّر في شي‏ء من أقواله و لا من أفعاله، و كان ألطف البشر خلقا، و أكرمهم طبعا، و أشدّهم تواضعا، و أكثرهم احتمالا، و أحسنهم بشرا، و أطلقهم وجها حتّى نسبه من نسبه إلى الدّعابة و المزاح و هما خلقان يتنافيان التكبّر و الاستطالة،

و إنما كان يذكر احيانا ما يذكره نفثة مصدور و شكوى مكروب و تنفّس مهموم و لا يقصد به إذا ذكره إلّا شكر النعمة و تنبيه الغافل على ما خصّه اللَّه به من الفضيلة، فانّ ذلك من باب الأمر بالمعروف و الحضّ على اعتقاد الحقّ و الصواب في أمره و النهى عن المنكر الذي هو تقديم غيره عليه في الفضل، فقد نهى اللَّه سبحانه عن ذلك فقال: أ فمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدّى إلّا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون، انتهى أقول: و لقد أجاد الشارح فيما أفاد و لا يخفى ما في كلامه من وجوه التعريض‏إلى عمر من حيث نسبته أمير المؤمنين عليه السّلام تارة إلى التيه و التكبّر، و اخرى إلى المزاح و الدّعابة، و قد نبّه الشّارح على أنّ هذه النّسبة افتراء منه عليه عليه السّلام لأنّ التكبّر و الدّعابة على طرفى الافراط و التفريط و هما مع تضادّهما و عدم امكان اجتماعهما في محلّ واحد لا يجوز أن يوصف الامام عليه السّلام الّذي هو على حدّ الاعتدال في الأوصاف و الأخلاق بشي‏ء منهما فضلا عن كليهما، و قد مرّ فساد نسبة الدّعابة إليه في شرح الكلام الثالث و الثّمانين بما لا مزيد عليه.

ثمّ العجب من الشّارح أنّه مع نقله هذه الرّوايات كيف ضلّ عن الهدى و أعمى عن الحقّ و أنكر وجود النّص على خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام مع ظهور دلالتها على خلافته لو لم تكن نصا فيها لا سيّما الرّواية الأخيرة أعني الحديث الرّابع و العشرين.

و أعجب من ذلك أنّه قد صرّح هنا بأنّ تقديم غيره عليه عليه السّلام من المنكر، و أنّ غرض أمير المؤمنين عليه السّلام من تعديد مناقبه و فضايله كان النّهي عن ذلك المنكر و ردع النّاس عن الاعتقاد الباطل إلى الحقّ و الصّواب و هو مناف لمذهبه الّذي اختاره وفاقا لأصحابه المعتزلة من أنّ تقديم غيره عليه إنّما هو من فعل اللَّه سبحانه و تعالى عمّا يقول الجاهلون الضّالّون علوّا كبيرا كما هو صريح كلامه في خطبة الشّرح حيث قال هناك: و قدّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التّكليف، و إذا كان تقديم غيره عليه منكرا و قبيحا كيف نسبه إلى اللَّه تعالى هنالك، و قد أجرى اللَّه الحقّ على لسانه هنا حتّى صرّح بنفسه على فساد مذهبه، و اللَّه الهادى إلى سواء السّبيل

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن بزرگوار و وصىّ محمّد مختار است در موعظه و نصيحت و ذكر فضايل أهل بيت عصمت و طهارت مى ‏فرمايد: آلت نظر عاقل كه بوساطت آن مى‏ بيند غايت خود را و مى‏ شناسد پستى و بلندى خود را دعوت كننده ‏ايست كه دعوت نمود و رعايت كننده ايست كه رعايت فرمود،و مراد از دعوت كننده حضرت خاتم رسالت و از رعايت كننده جناب شاه ولايت عليهما السّلام است، پس استجابت نمائيد دعوت كننده را، و متابعت كنيد رعايت نماينده را، پس بتحقيق كه غوطه‏ ور شدند مخالفان آن داعى و راعى در درياى فتنها، و أخذ نمودند بدعتها نه سنّتها را، و منقبض شدند مؤمنان، و ناطق شدند گمراهان و تكذيب كنندگان.

ما أهل بيت لباس مخصوص پيغمبر خدائيم و أصحاب پسنديده حضرت مصطفى و خزينه داران علم ربّ العزّة و درهاى مدينه علم و حكمت، و داخل نمى‏ توان شد بخانها مگر از درهاى آنها، پس هر كه بيايد بخانها از غير درهاى آن ناميده شود دزد و سارق.

بعض ديگر از اين خطبه باز در فضايل آل رسول عليه و عليهم السّلام است مى‏ فرمايد در حق ايشانست آيات كريمه قرآن، و ايشانست خزينهاى رحمان، اگر گويا بشوند راست مى ‏گويند، و اگر ساكت شوند كسى نمى‏ تواند سبقت نمايد بر ايشان، پس بايد راست بگويد طالب آب و گياه بأهل خود، و بايد كه حاضر سازد عقل خود را، و بايد كه بشود از ابناى آخرت، پس بدرستى كه او از آخرت كه عالم لاهوتست آمده بسوى عالم ناسوت، و بسوى آخرت برگشت او خواهد شد.

پس كسى كه نظر كند بقلب خود و عمل كننده باشد به بصيرت خود مي باشد ابتداء عمل او اين كه بداند آيا عمل او ضرر دارد بر او يا منفعت دارد مر او را، پس اگر نافع باشد او را اقدام مى‏ كند در او، و اگر مضر باشد خوددارى مى‏ نمايد از او پس بدرستي كه عمل كننده بغير علم مثل سير كننده است بر غير راه راست پس زياده نمى ‏كند دورى او از راه مگر دورى از مقصود او را، و عمل كننده بعلم مثل سير كننده است بر راه روشن، پس بايد كه نظر كند نظر كننده آيا سير كننده است او يا رجوع نماينده است و بدانكه بدرستى هر ظاهري را باطنى است بر طبق او پس آنچه كه پاكيزه است ظاهر او پاكيزه است باطن او، و آنچه كه خبيث است ظاهر او خبيث‏ است باطن او، و بتحقيق كه فرموده است پيغمبر صادق القول صلّى اللَّه عليه و آله اين كه بدرستى خداى تعالى دوست مى ‏دارد بنده را و دشمن مى‏ دارد عمل او را، و دوست مى ‏دارد عمل خوب را و دشمن مى‏ دارد بدن او را، و بدانكه بدرستى كه هر عمل بمنزله گياهيست، و هر گياه استغنا نيست او را از آب، و آبها مختلفند پس آنچه كه پاكيزه باشد سيرابى او پاكيزه شود كاشتن او و شيرين شود ميوه او، و آنچه كه زشت باشد آب خوردن آن زشت باشد كاشتن آن و تلخ و بد مزه باشد ميوه آن.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 152 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 152 صبحی صالح

152- و من خطبة له ( عليه‏ السلام )

في صفات اللّه جل جلاله، و صفات أئمة الدين‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ
وَ بِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ
وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ
لَا تَسْتَلِمُهُ الْمَشَاعِرُ وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ
لِافْتِرَاقِ الصَّانِعِ وَ الْمَصْنُوعِ
وَ الْحَادِّ وَ الْمَحْدُودِ وَ الرَّبِّ وَ الْمَرْبُوبِ
الْأَحَدِ بِلَا تَأْوِيلِ عَدَدٍ
وَ الْخَالِقِ لَا بِمَعْنَى حَرَكَةٍ وَ نَصَبٍ
وَ السَّمِيعِ لَا بِأَدَاةٍ
وَ الْبَصِيرِ لَا بِتَفْرِيقِ آلَةٍ
وَ الشَّاهِدِ لَا بِمُمَاسَّةٍ
وَ الْبَائِنِ لَا بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ
وَ الظَّاهِرِ لَا بِرُؤْيَةٍ وَ الْبَاطِنِ لَا بِلَطَافَةٍ
بَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا وَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا
وَ بَانَتِ الْأَشْيَاءُ مِنْهُ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ
مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ
وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ
وَ مَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ
وَ مَنْ قَالَ كَيْفَ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ
وَ مَنْ قَالَ أَيْنَ فَقَدْ حَيَّزَهُ
عَالِمٌ إِذْ لَا مَعْلُومٌ
وَ رَبٌّ إِذْ لَا مَرْبُوبٌ
وَ قَادِرٌ إِذْ لَا مَقْدُورٌ

أئمة الدين‏

منهاقَدْ طَلَعَ طَالِعٌ
وَ لَمَعَ لَامِعٌ وَ لَاحَ لَائِحٌ وَ اعْتَدَلَ مَائِلٌ
وَ اسْتَبْدَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ قَوْماً
وَ بِيَوْمٍ يَوْماً
وَ انْتَظَرْنَا الْغِيَرَ انْتِظَارَ الْمُجْدِبِ الْمَطَرَ
وَ إِنَّمَا الْأَئِمَّةُ قُوَّامُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ
وَ عُرَفَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ
وَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ عَرَفَهُمْ وَ عَرَفُوهُ
وَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مَنْ أَنْكَرَهُمْ وَ أَنْكَرُوهُ
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّكُمْ بِالْإِسْلَامِ وَ اسْتَخْلَصَكُمْ لَهُ
وَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْمُ سَلَامَةٍ وَ جِمَاعُ كَرَامَةٍ
اصْطَفَى اللَّهُ تَعَالَى مَنْهَجَهُ وَ بَيَّنَ حُجَجَهُ
مِنْ ظَاهِرِ عِلْمٍ وَ بَاطِنِ حُكْمٍ
لَا تَفْنَى غَرَائِبُهُ
وَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ
فِيهِ مَرَابِيعُ النِّعَمِ
وَ مَصَابِيحُ الظُّلَمِ
لَا تُفْتَحُ الْخَيْرَاتُ إِلَّا بِمَفَاتِيحِهِ
وَ لَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِمَصَابِيحِهِ
قَدْ أَحْمَى حِمَاهُ وَ أَرْعَى مَرْعَاهُ
فِيهِ شِفَاءُ الْمُسْتَشْفِي
وَ كِفَايَةُ الْمُكْتَفِي

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و الثاني و الخمسون من المختار في باب الخطب و شرحها في فصول

الفصل الاول

الحمد للَّه الدّال على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليّته، و باشتباههم على أن لا شبه له، لا تستلمه المشاعر، و لا تحجبه المساتر، لافتراق الصّانع و المصنوع، و الحادّ و المحدود، و الرّبّ و المربوب، الأحد بلا تأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب، و السّميع لا بأداة، و البصير لا بتفريق آلة، و المشاهد لا بمماسّة، و البائن لا بتراخي مسافة، و الظّاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة، بان من الأشياء بالقهر لها، و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له، و الرّجوع أليه، من وصفه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد أبطل أزله، و من قال كيف‏فقد استوصفه، و من قال أين فقد حيّزه، عالم إذ لا معلوم، و ربّ إذ لا مربوب، و قادر إذ لا مقدور.

اللغة

قال الشّارح المعتزلي (الاستلام) في اللّغة لمس الحجر باليد و تقبيله و لا يهمر لأنّ أصله من السّلام و هى الحجارة كما يقال استنوق الجمل و بعضهم يهمزه انتهى، و قال الفيومى في المصباح: استلأمت الحجر قال ابن السّكيت: همزته العرب على غير قياس و الأصل استلمت لأنّه من السّلام و هى الحجارة، و قال ابن الاعرابي: الاستلام أصله مهموز من الملائمة و هى الاجتماع، و حكى الجوهرى القولين و مثله الفيروز آبادي، و في بعض النّسخ بدل لا تستلمه لا تلمسه و (النّصب) محرّكة التّعب.

الاعراب

جملة لا تستلمه المشاعر استيناف بيانيّ، و لفظ الأحد، و الخالق، و السّميع و البصير، و ما يتلوها من الصّفات يروى بالرّفع و الجرّ معا الأوّل على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، و الثّاني على أنّه صفة للَّه.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة متضمّن لمباحث شريفة إلهيّة، و معارف نفيسة ربّانية، و مسائل عويصة حكميّة، و مطالب عليّة عقليّة لم يوجد مثلها في زبر الأوّلين و الآخرين، و لم يسمح بنظيرها عقول الحكماء السّابقين و اللّاحقين و صدّره بتحميد اللَّه سبحانه و تمجيده فقال: (الحمد للَّه) و قد مضى شرح هذه الجملة و تحقيق معنى الحمد و بيان وجه اختصاصه باللَّه سبحانه في شرح الفصل الأوّل من الخطبة الأولي، و نقول هنا مضافاإلى ما سبق: إنّ الحمد سواء كان عبارة عن التعظيم و الثّناء المطلق، أو عن الشكر المستلزم لتقدّم النّعمة و الاعتراف بها، فالمستحقّ له في الحقيقة ليس إلّا اللَّه سبحانه، و لذا أتى بتعريف الجنس و لام الاختصاص الدّالين على أنّ طبيعة الحمد مختصّة به تعالى.

أمّا على أنّه عبارة عن مطلق الثّناء و التّعظيم فلظهور أنّ استحقا قيّتهما إنّما يتحقّق لأجل حصول كمال أو برائة نقص، و كلّ كمال و جمال يوجد في العالم فانما هو رشح و تبع لجماله و كماله، و أما البراءة عن النقائص و العيوب فممّا يختص به تعالى، لأنّه وجود محض لا يخالطه عدم و نور صرف لا يشوبه ظلمة.

و أما على أنه عبارة عن الشكر المسبوق بالنعمة فلأنّ كلّ منعم دونه فانما ينعم بشي‏ء ممّا أنعم اللَّه، و مع ذلك فانما ينعم لأجل غرض من جلب منفعة أو دفع مضرّة أو طلب محمّدة، فهذا الجود و الانعام في الحقيقة معاملة و تجارة و إن عدّ في العرف جودا و انعاما، و أما الحقّ تعالى فلما لم يكن إنعامه لغرض و لا جوده لعوض إذ ليس لفعله المطلق غاية إلّا ذاته كما مرّ تحقيقه في شرح الخطبة الخامسة و الستين، فلا يستحقّ لأقسام الحمد و الشكر بالحقيقة إلّا هو، هذا و أردف الحمد بجملة من أوصاف الكمال و نعوت العظمة و الجلال.

الاول أنه (الدّالّ على وجوده بخلقه) و قد مرّ كيفيّة هذه الدّلالة في شرح الخطبة الخمسين و بيّنا هناك أنّ الاستدلال بهذه الطريقة من باب الاستدلال بالفعل على الفاعل، و مرجعه الى البرهان اللمّى.

(و) الثاني أنه الدّال (بمحدث خلقه على أزليّته) لما قد مرّ ثمة أيضا من أنّ الأجسام كلّها حادثة لأنّها غير خالية عن الحركة و السّكون، و كلّ حادث مفتقر إلى محدّث فان كان ذلك المحدث محدثا عاد القول فيه كالأوّل و يلزم التّسلسل أو كونه محدثا لنفسه و كلاهما باطل، فلا بدّ من محدث قديم لا بداية لوجوده و هو اللَّه تعالى و سبحانه.

(و) الثالث أنّه الدّالّ (باشتباههم على أن لا شبه له) يعني أنّه سبحانه بابداء المشابهة بين المخلوقات دلّ على أنّه لا مثل و لا شبيه.

و جهة المشابهة بينها إمّا الافتقار إلى المؤثّر كما ذهب إليه الشّارح البحراني حيث قال: أراد اشتباههم في الحاجة إلى المؤثّر و المدّبر، و تقرير هذا الطّريق أن نقول: إن كان تعالى غنيّا عن المؤثّر فلا شبيه له في الحاجة إليه لكن المقدّم حقّ فالتّالي مثله.

و اعترض عليه بأنّ فيه قصورا من وجهين: أحدهما أنّ المطلوب في تنزيه الحقّ تعالى عن الشّبيه هو نفى الشّبه عنه على الاطلاق لا نفى وجه من وجوه الشبّه فقط كالحاجة.
و ثانيهما أنّ نفى الحاجة عنه تعالى ممّا لا يحتاج إلى إثباته له من جهة تشابه الخلق فيها، بل مجرّد كونه واجب الوجود يلزمه نفى الحاجة عنه إلى غيره لزوما بيّنا، فالاستدلال عليه لغو من الكلام مستدرك، هذا.

و قال بعضهم: المراد بمشابهتهم الاشتباه في الجسميّة و الجنس و النّوع و الأشكال و المقادير و الألوان و نحو ذلك، و إذ ليس داخلا تحت جنس لبرائته عن التّركيب المستلزم للامكان، و لا تحت النّوع لافتقاره في التّخصيص بالعوارض إلى غيره، و لا بذى مادّة لاستلزامه التّركيب أيضا، فليس بذي شبيه في الامور المذكورة و هو قريب ممّا قاله البحراني لكنّ الأوّل أعمّ في نفى الشّبيه، و الأحسن منها ما في الحديث الأوّل من باب جوامع التوحيد من الكافي عن أمير المؤمنين عليه السّلام عند استنهاضه النّاس لحرب معاوية في المرّة الثّانية و هو قوله عليه السّلام: و حدّ الأشياء كلّها عند خلقه إبانة لها من شبهه و إبانة له من شبهها.

قال العلامة المجلسي في شرحه: أى جعل للأشياء حدودا و نهايات، أو أجزاء و ذاتيّات ليعلم بها أنّها من صفات المخلوقين و الخالق منزّه عن صفاتهم، أو خلق الممكنات الّتي من شأنها المحدوديّة ليعلم بذلك أنّه ليس كذلك كما قال تعالى: فخلقت الخلق لاعرف، إذ خلقها محدودة لأنّها لم تكن تمكن أن تكون غيرمحدودة لامتناع مشابهة الممكن الواجب في تلك الصّفات الّتي هي من لوازم وجوب الوجود، و لعلّ الأوسط أظهر.

الرابع أنّه (لا تستلمه المشاعر) أى لا تلمسه لأنّ مدركات المشاعر مقصورة على الأجسام و الأعراض القائمة بها، و هو سبحانه ليس بجسم و لا جسمانيّ، فامتنع إدراك المشاعر و لمسها له، و يحتمل أن يزاد بالمشاعر المدارك مطلقا سواء كانت قوّة ماديّة مدركة للحسيّات و الوهميات أو قوّة عقليّة مدركة للعقليّات و الفكريات اذ ليس للمدارك مطلقا إلى معرفة كنه ذاته سبيل، و لا على الوصول الى حقيقه صفاته دليل، كما مرّ في شرح الفصل الثاني من الخطبة الاولى.

(و) الخامس (لا تحجبه المساتر) أى الحجابات الّتي يستر بها، و في أكثر النّسخ: السواتر بدلها و معناهما واحد، و المراد أنه لا يحجبه حجاب و لا يستتر بشي‏ء من السواتر لأنّ الستر و الحجاب من لوازم ذى الجهة و الجسمية، و هو تعالى منزّه عن ذلك.

فان قلت: قد ورد في الحديث إنّ اللَّه احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار و أنّ الملاء الأعلى يطلبونه كما أنتم تطلبونه، فكيف التوفيق بينه و بين قول الامام عليه السّلام قلت: ليس المراد من احتجابه عن العقول و الأبصار أن يكون بينه و بين خلقه حجاب جسمانيّ مانع عن إدراكه و الوصول اليه تعالى، بل المراد بذلك احتجابه عنهم لقصور ذواتهم و نقصان عقولهم و قواهم، و كمال ذاته و شدّة نوره و قوّة ظهوره، فغاية ظهوره أوجب بطونه، و شدّة نوره أوجب احتجابه كنور الشمس و بصر الخفاش، و قد حقّقنا ذلك بما لا مزيد عليه في شرح الخطبة الرّابعة و الستين و شرح الفصل الثاني من الخطبة التسعين، و بما ذكرنا أيضا ظهر فساد ما ربما يتوهّم من أنه إذا لم يكن محجوبا بالسواتر لا بدّ و أن يعرفه كلّ أحد و يراه، هذا.

و قوله (لافتراق الصانع و المصنوع و الحادّ و المحدود و الربّ و المربوب)التعليل راجع الى الجملات المتقدّمة بأسرها، و المقصود أنّ لكلّ من الصانع و المصنوع صفات تخصّه و تليق به و يمتاز بها و بها يفارق الآخر فالمخلوقية و الحدوث و الاشتباه و الملموسيّة و المحجوبيّة بالسواتر من لواحق المصنوعات و الممكنات و أوصافها اللّايقة لها، و الخالقيّة و الأزليّة و التنزّه عن المشابهة و عن استلام المشاعر و احتجاب السّواتر من صفات الصّانع الأوّل و ممّا ينبغي له و يليق به، و يضادّ ما سبق من أوصاف الممكنات، فلو جرى فيه صفات المصنوعات أو في المصنوعات صفاته لارتفع الافتراق و وقع المساواة و المشابهة بينه و بينها، فيكون مشاركا لها في الحدوث المستلزم للامكان المستلزم للحاجة إلى الصّانع، فلم يكن بينه و بينها فصل و لا له عليها فضل، و كلّ ذلك أعني المساوات و المشابهة و عدم الفصل و الفضل ظاهر البطلان، هذا و المراد بالحادّ خالق الحدود و النّهايات، و الصّانع و الربّ بينهما تغاير بحسب الاعتبار و هو دخول المالكيّة في مفهوم الرّبوبيّة دون الصّنع.

السادس (الأحد لا بتأويل عدد) يعني أنّه أحدىّ الذّات ليس كمثله شي‏ء و أحدىّ الوجود لا جزء له ذهنا و لا عقلا و لا خارجا، و ليست وحدانيّته وحدانيّة عدديّة بمعنى أن يكون مبدء لكثرة تعدّ به كما يقال في أوّل العدد واحد، و قد مرّ تحقيق ذلك في شرح الخطبة الرّابعة و السّتين.

(و) السابع (الخالق لا بمعنى حركة و نصب) يعني أنّه سبحانه موجد للأشياء بنفس قدرته التّامة الكاملة و خلقه الابداع و الافاضة من دون حاجة إلى حركة ذهنيّة أو بدنيّة كما لساير الصّانعين، لأنّ الحركة من عوارض الأجسام، و هو منزّه عن الجسميّة كما لا حاجة في ايجاده إلى المباشرة و التعمّل حتّى يلحقه نصب و تعب، و إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

(و) الثامن (السّميع لا بأداة) و هى الأذنان و الصّماخان و القوّة الكائنة تحتهما، لتعاليه عن الآلات الجسمانيّة، بل سمعه عبارة عن علمه بالمسموعات، فهو نوع مخصوص من العلم باعتبار تعلّقه بنوع من المعلوم، و قد تقدّم في شرح الفصل‏ السّادس من الخطبة الاولى أنّ السّمع و البصر من الصّفات الذّاتيّة له تعالى، و الاحتياج فيهما إلى الأداة و الآلة يوجب النّقص في الذّات و الاستكمال و الاستعانة بالآلات المنافي للوجوب الذّاتي.

(و) التاسع (البصير لا بتفريق آلة) أى بفتح العين أو بعث القوّة الباصرة و توزيعها على المبصرات قال الشّارح البحراني: و هذا المعنى على قول من جعل الابصار بآلة الشّعاع الخارج من العين المتّصل بسطح المرئي أظهر، فانّ توزيعه أظهر من توزيع الآلة على قول من يقول إنّ الادراك يحصل بانطباع صورة المرئي في العين، و معنى التّفريق على القول الثّاني هو تقليب الحدقة و توجيهها مرّة إلى هذا المبصر و مرّة إلى ذاك كما يقال فلان مفرّق الهمّة و الخاطر إذا وزّع فكره على حفظ أشياء متباينة و مراعاتها كالعلم و تحصيل المال و ظاهر تنزيهه تعالى عن الابصار بآلة الحسّ لكونها من توابع الجسميّة و لواحقها

(و) العاشر (المشاهد لا بمماسّة) و في بعض النّسخ الشّاهد بدل المشاهد، و المعنى واحد قال صدر المتألّهين في شرح الكافي في تحقيق ذلك: لأنّ التماس من خواصّ الأجسام، و المشاهدة بالمماسّة للمشهود نفسه كما في الذّائقة و اللّامسة، و للمتوسّط بين الشّاهد و المشهود كما في الشّامّة و السّامعة و الباصرة، و الحاصل أنّ إدراكات الحواسّ الظّاهرة الخمسة و مشاهداتها كلّها لا تتمّ إلّا بالمماسّة لجسم من الأجسام و إن كان المشهود له و الحاضر بالذّات عند النّفس شيئا آخر غير المموس بالذّات أو بالواسطة

(و) الحادى عشر (البائن لا بتراخى مسافة) يعني أنه مباين للأشياء و مغاير لها بنفس ذاته و صفاته، لأنّه في غاية التمام و الكمال، و ما سواه في نهاية الافتقار و النقصان، و ليس تباينه تباين أين و تباعد مكان بتراخى مسافة بينه و بين غيره، لأنّ ذلك من خواصّ الأينيّات، و هو الذى أيّن الأين بلا أين، و قد تقدّم نظير هذه الفقرة

في الفصل السادس من الخطبة الاولى، و شرحناه بما يوجب الانتفاع به في المقام فليراجع ثمة (و)

الثاني عشر (الظّاهر لا برؤية و)

الثالث عشر (الباطن لا بلطافة) يعني أنّ ظهوره سبحانه ليس كظهور ظاهر الأشياء بأن يكون مرئيا بحاسّة البصر، و لا بطونه كبطونها بأن يكون لطيفا لصغر حجمه أو لطافة قوامه كالهواء، بل نحو آخر من الظّهور و البطون على ما مرّ تحقيقه في شرح الخطبة التّاسعة و الأربعين و شرح الخطبة الرّابعة و السّتين فليتذكّر.

و الرابع عشر أنّه (بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرّجوع إليه) و هذه الفقرة في الحقيقة تفسير و توضيح للوصف الحادى عشر، فانّه عليه السّلام لمّا ذكر هناك أنّ بينونيّته ليست بتراخى مسافة أوضح هنا جهة البينونة بأنّه إنّما بان من الأشياء بغلبته و استيلائه عليها و قدرته على ايجادها و إعدامها كما هو اللّايق بشأن الواجب المتعال، و أنّ الأشياء إنّما بانت منه لخضوعها و ذلّها في قيد الامكان و رجوعها في وجودها و كمالاتها إلى وجوده كما هو مقتضى حال الممكن المفتقر.

الخامس عشر أنّه تعالى منزّه عن الصّفات الزّايدة على الذّات، و إليه أشار بقوله (من وصفه فقد حدّه و من حدّه فقد عدّه و من عدّه فقد أبطل أزله) قال العلامة المجلسي في مرآت العقول في شرح هذه الفقرة من حديث الكافي: إنّ من وصف اللَّه بالصّورة و الكيف فقد جعله جسما ذا حدود، و من جعله ذا حدود فقد جعله ذا أجزاء، و كلّ ذى أجزاء محتاج حادث، أو أنّ من وصف اللَّه و حاول تحديد كنهه فقد جعله ذا حد مركّب من جنس و فصل، فقد صار حقيقة مركّبة محتاجه إلى الأجزاء حادثة أو أنّ من وصف اللَّه بالصّفات الزّايدة فقد جعل ذاته محدودة بها، و من حدّه كذلك فقد جعله ذا عدد إذ اختلاف الصّفات إنّما يكون بتعدّد أجزاء الذّات أو قال بتعدّد الالهة إذ يكون كلّ صفة لقدمها إليها غير محتاج إلى علّة، و من كان مشاركا في الالهيّة لا يكون قديما فيحتاج إلى علّة، أو جعله‏مع صفاته ذا عدد و عروض الصّفات المغايرة الموجودة ينافي الأزليّة، لأنّ الاتّصاف نوع علاقة توجب احتياج كلّ منهما إلى الآخر، و هو ينافي وجوب الوجود و الأزليّة أو المعنى أنّه على تقدير زيادة الصّفات يلزم تركّب الصّانع إذ ظاهر أنّ الذّات بدون ملاحظة الصّفات ليست بصانع للعالم، فالصّانع المجموع فيلزم تركّبه المستلزم للحاجة و الامكان، و قيل: فقد عدّه من المخلوقين.

السادس عشر أنّه منزّه عن الكيف، و إليه أشار بقوله (و من قال كيف فقد استوصفه) أى طلب وصفه بصفات المحلوقين و جعل له وصفا زايدا على ذاته، و قد علمت أنّ ذلك ممتنع في حقّه إذ كلّ صفة وجوديّة زايدة على ذاته فهى من مقولة الكيف و من جنس الكيف النّفساني، فيلزم كون ذاته بذاته معرّاة عن صفة كماليّة، و يلزم له مخالطة الامكان و ينافي كونه واجب الوجود من جميع الجهات، و كلّ ذلك محال عليه تعالى هذا، و قد تقدّم في شرح الخطبة الرّابعة و الثّمانين تحقيق معنى الكيف و تفصيل تنزّهه تعالى عن الاتّصاف به.

السابع عشر أنّه سبحانه منزّه عن المكان، و إليه أشار بقوله (و من قال أين فقد حيّزه) لأنّ أين سؤال عن الحيّز و الجهة، فمن قال أين فقد جعله في حيّز مخصوص و هو محال في حقّ الواجب تعالى، لأنّه خالق الحيّز و المكان فيلزم افتقاره إلى ما هو مفتقر إليه، على أنّ كونه في حيّز معيّن يستلزم خلوّ ساير الأحياز و الأمكنة منه كما هو شأن الأجسام و الجسمانيّات، و هو باطل لأنّه في جميع الأحياز بالعلم و الاحاطة، و هو الذي في السّماء إله و في الأرض إله.
و اعلم أنّ هذه العبارة نظير قوله عليه السّلام في الفصل الخامس من الخطبة الأولى و من قال فيم فقد ضمنه، و قد ذكرنا في شرحه ما يوجب البصيرة في المقام.

الثامن عشر أنّه سبحانه (عالم إذ لا معلوم و ربّ إذ لا مربوب و قادر إذ لا مقدور) إذ ظرفيّة على توهم الزّمان أى كان موصوفا في الأزل بالعلم و الرّبوبيّة و القدرة، و لم يكن شي‏ء من المعلوم و المربوب و المقدور موجودا فيه.
أمّا أنّه كان عالما بالأشياء و لا معلوم فلأنّ علمه عين ذاته و تقدّم ذاته على‏معلوماته الحادثه ظاهر، و لا يتوقّف وجوده على وجود المعلوم كما مرّ تحقيقه في شرح الفصل السّابع من الخطبة الأولى عند تحقيق قوله: عالما بها قبل ابتدائها فليتذكّر.

و أمّا أنّه كان ربّا إذ لا مربوب لأنّ معنى الربّ هو المالك، و قد كان سبحانه مالكا لأزمّة الامكان و تصريفه من العدم إلى الوجود و من الوجود إلى العدم كيف شاء و متى أراد، و قيل: المراد إنّه كان قادرا على التربية إذ هو الكمال و فعليّتها منوطة على المصلحة.

و أمّا أنّه كان قادرا اذ لا مقدور فلأنّ القادر هو الذي إن شاء فعل و إن شاء ترك، و بعبارة اخرى هو الّذي يصحّ منه الفعل و الترك، و وجود هذا الوصف له لا يستلزم وجود المقدور و قال الصّدوق في التّوحيد: و القدرة مصدر قولك قدر قدرة أى ملك فهو قدير قادر مقتدر، و قدرته على ما لم يوجد و اقتداره على إيجاده هو قهره و ملكه له، و قد قال عزّ ذكره: «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» و يوم الدّين لم يوجد بعد.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن وليّ ربّ العالمين و وصيّ أمين خاتم النّبيّين است در تحميد و توحيد و تمجيد حضرت ذو الجلال و خداوند متعال مى‏ فرمايد: حمد و ثنا خداوندى را سزاست كه هدايت كننده است بوجود خود با ايجاد مخلوقات خود، و با حدوث مخلوقات خود بر أزليّت و سرمديّت خود، و با شبيه نمودن آن مخلوقات بيكديگر بر اين كه هيچ مثل و شبيه نيست مر او را، مسّ نمى‏ توانند بكنند او را حواسّ ظاهره و باطنه، و نمى‏ پوشاند او را پردها و حجابها بجهت ممتاز و مغاير بودن آفريننده و آفريده شده، و حد قرار دهنده و حد قرار داده شده، و تربيت كننده و تربيت داده شده، اين صفت دارد كه يكيست نه يكى كه از مقوله أعداد باشد، و خلق كننده است نه با حركت و مشقّت، و شنوا است نه با آلت گوش، و بينا است نه بابرگرداندن حدقه چشم، و حاضر است با أشيا نه با مجاورت و مماست، و جداست از آشيانه بدوري راه، و آشكار است نه بديدن چشمها، و پنهانست نه بسبب لطافت مقدار.
جدا شد ار أشيا با قهر و غلبه كردن بر آنها، و جدا شد أشيا از او بسبب خضوع و تواضع نمودن آنها بر او بسبب بازگشت آنها بسوى او، هر كس وصف كرد او را پس بتحقيق كه حد قرار داد او را، و هر كه حد قرار دهد بر او پس بتحقيق كه در شمار آورد او را، و كسى كه در شمار آورد او را پس بتحقيق كه باطل گردانيد أزليّت او را، و هر كس كه بگويد چگونه است او پس بتحقيق كه طلب وصف او نمود، و هر كه گفت او كجاست پس بتحقيق كه مكان قرار داد بأو، دانا بود در وقتى كه هيچ معلومى نبود، ربّ بود هنگامى كه هيچ مربوبى نبود، و صاحب قدرت بود زمانى كه هيچ مقدورى نبود

الفصل الثاني منها

قد طلع طالع، و لمع لامع، و لاح لائح، و اعتدل مائل، و استبدل اللَّه بقوم قوما، و بيوم يوما، و انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر، و إنّما الأئمة قوّام اللَّه على خلقه، و عرفائه على عباده، لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم و عرفوه، و لا يدخل النّار إلّا من أنكرهم و أنكروه، إنّ اللَّه تعالى قد خصّكم بالإسلام، و استخلصكم له، و ذلك لأنّه اسم سلامة و جماع كرامة، اصطفى اللَّه تعالى منهجه، و بيّن حججه من ظاهر علم، و باطن حكم، لا تفني غرائبه، و لاتنقضي عجائبه، فيه مرابيع النّعم، و مصابيح الظّلم، لا تفتح الخيرات إلّا بمفاتحه، و لا تكشف الظّلمات إلّا بمصابيحه، قد أحمى حماه، و أرعى مرعاه، فيه شفاء المشتفي، و كفاية المكتفي.

اللغة

(الجدب) هو المحل وزنا و معنا و هو انقطاع المطر و يبس الأرض و أجدب القوم اجدابا أصابهم الجدب و (عرفت) على القوم من باب قتل عرافة بالكسر فأنا عارف أى مدبّر أمرهم و قائم بسياستهم، و عرفت عليهم بالضمّ لغة فأنا عريف و الجمع عرفاء، و قيل: العريف هو القيّم بامور القبيلة و الجماعة يلي أمورهم و يتعرّف الأمير منه أحوالهم فعيل بمعنى فاعل و (جماع) الشي‏ء بالكسر و التّخفيف جمعه يقال الخمر جماع الاثم و (المرابيع) الأمطار التي تجى‏ء في أوّل الرّبيع و (حمى) المكان من النّاس حميا من باب رمى منعه عنهم، و الحماية اسم منه و أحميته بالألف جعلته حمى لا يقرب و لا يجترء عليه و كلاء حمى محمى قال الشاعر:

و نرعى حمى الأقوام غير محرّم
علينا و لا يرعى حمانا الذي نحمى‏

قال الشّارح المعتزلي: قد حمى حماه، أى عرضه لأن يحمى كما تقول: أقتلت الرّجل أى عرضته لأن يضرب.

الاعراب

جملة لا يدخل الجنة، بدل من الجملة السابقة عليها، و لشدّة الاتّصال بينهما ترك العاطف على حدّ قوله تعالى: أمدّكم بما تعلمون أمدّكم بأنعام و بنين، و إضافة المنهج إلى الضمير إما نظير الاضافة في سعيد كرز، أو بمعنى اللّام، و الاضافة في قوله: من ظاهر علم و باطن حكم، من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها،و من في من ظاهر للتبيين و التفسير كما تقول دفعت إليه سلاحا من سيف و رمح و سهم أو للتميز و التقسيم.

المعنى

اعلم أنّ الشارح المعتزلي ذكر في شرح هذا الفصل من كلامه عليه السّلام أنه خطب بذلك بعد قتل عثمان حين أفضت الخلافة إليه.

إذا عرفت ذلك فأقول قوله عليه السّلام (قد طلع طالع و لمع لا مع و لاح لائح) يحتمل أن يكون المراد بالجملات الثلاث واحدا، أى طلع شمس الخلافة من مطلعها و سطع أنوار الامامة من منارها، و ظهر كوكب الولاية من افقه، و أن يكون المراد بالاولى ظهور خلافته و أمارته، و بالثّانية ظهورها من حيث هي حقّ له عليه السّلام و سطوع أنوار العدل بصيرورتها إليه، و بالثّالثة ظهور الحروب و الفتن الواقعة بعد انتقال الأمر إليه عليه السّلام (و اعتدل مائل) أى استقام ما اعوج من أركان الدّين و قوائم الشّرع المبين (و استبدل اللَّه بقوم) من أهل الضّلال و الفساد و هم الخلفاء الثلاث و أتباعهم (قوما) من أهل الصّلاح و الرّشاد و هم أمير المؤمنين و تابعوه (و بيوم) انتشر فيه الجور و الاعتساف (يوما) ظهر فيه العدل و الانصاف (و انتظرنا الغير) أى تغيّرات الدّهر و تقلّبات الزّمان قال العلّامة المجلسيّ (قد): و لعلّ انتظارها كناية عن العلم بوقوعه، أو الرّضا بما قضى اللَّه من ذلك، و المراد بالغير ما جرى قبل ذلك من قتل عثمان و انتقال الأمر اليه أو ما سيأتي من الحروب و الوقايع، و الأوّل أنسب بالتشبيه ب (انتظار المجدب المطر) لدلالته على شدّة شوقه بالتّغيرات و فرط رغبته لانتقال الأمر اليه ليتمكّن من إعلاء كلمة الاسلام و ترويج شرع سيّد الأنام عليه و آله آلاف التّحية و السّلام كما أنّ للمجدب شدّة الاشتياق إلى الأمطار ثمّ أشار إلى أنّ القيام بامور الأمّة وظيفة الأئمة فقط، و أنّ موالاتهم و متابعتهم واجبة فقال (و إنّ الائمة) أراد به نفسه الشّريف و الطيّبين من أولاده (قوّام اللَّه على‏خلقه) أى يقومون بمصالحهم و يدبّرون امورهم، أو أنّهم القائمون بأمر اللَّه و نهيه و أحكامه على خلقه، لكونهم خلفائه في أرضه و حججه على بريّته، و كمال هذا القيام عند ظهور صاحب الأمر عليه السّلام فانّه الزّمان الّذي تجتمع فيه الخلايق على الايمان، و يرتفع الشّرك بالكلّيّة.

كما يدلّ عليه ما في الكافي عن أبي خديجة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّه سئل عن القائم، فقال: كلّنا قائم بأمر اللَّه واحدا بعد واحد حتّى يجي‏ء صاحب السّيف فاذا جاء صاحب السّيف جاء بأمر غير الّذي كان (و عرفائه على عباده) كمال قال تعالى «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ» روى في البحار من بصائر الدّرجات مسندا عن الهلقام عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله: و على الأعراف رجال، قال عليه السّلام: نحن أولئك الرّجال الأئمة منّا يعرفون من يدخل النّار و من يدخل الجنّة كما تعرفون في قبائلكم الرّجل منكم يعرف من فيها من صالح أو طالح.

و فيه عن الهلقام أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن قول اللَّه عزّ و جلّ «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ» ما يعني بقوله و على الأعراف رجال قال عليه السّلام: ألستم تعرفون عليكم عريفا على قبائلكم لتعرفوا من فيها من صالح أو طالح قلت: بلى، قال: فنحن أولئك الرّجال الّذين يعرفون كلّا بسيماهم.

و فيه من كتاب المقتضب لأحمد بن محمّد بن عياش بسنده عن أبان بن عمر ختن آل ميثم قال: كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السّلام فدخل عليه سفيان بن مصعب العبدى فقال: جعلنى اللَّه فداك ما تقول في قوله تعالى ذكره «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ» الآية قال: هم الأوصياء من آل محمّد الاثنا عشر لا يعرف اللَّه إلّا من عرفهم و عرفوه، قال فما الأعراف جعلت فداك قال: كتائب من مسك عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و الأوصياء يعرفون كلّا بسيماهم فقال سفيان: فلا أقول في ذلك شيئا فقال من قصيدة شعرا.

أيا ربعهم«» هل فيك لى اليوم مربع
و هل لليالى كنّ لى فيك مرجع‏

و فيها يقول:

و أنتم ولاة الحشر و النشر و الجزا
و أنتم ليوم المفزع الهول مفزع‏

و أنتم على الأعراف و هى كتائب‏
من المسك رياها بكم يتضوّع‏

ثمانية بالعرش اذ يحملونه
و من بعدهم هادون في الأرض أربع‏

(لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم و عرفوه و لا يدخل النّار إلّا من أنكرهم و أنكروه) هذه القضيّة قد نصّت عليها في الأخبار المعتبرة المتظافرة عن أهل بيت العصمة و الطّهارة، و ستطلع عليها و على تحقيق معناها في التّذييل الآتي.
ثمّ أشار إلى بغض ما منّ اللَّه تعالى به على المخاطبين، و هو أعظم نعمائه عليهم فقال (إنّ اللَّه قد خصّكم بالاسلام و استخلصكم له) أى استخصّكم له يعني أنّكم لكرامتكم عند اللَّه تعالى و علوّ منزلتكم خصّكم بهذه النّعمة العظمى و العطيّة الكبرى (و ذلك لأنّه اسم سلامة) قال الشّارح المعتزلي و البحراني: يعني أنّه مشتقّ من السّلامة، و تبعهما بعض الشّارحين فقال: ظاهر الكلام يعطى أنّ الاسلام من السّلامة مشتقّ فليس بمعنى الانقياد و الدّخول في السلم.

أقول: لا دلالة في كلامه عليه السّلام على اشتقاقه منه لو لم يكن دالّا على خلافه، بل الظّاهر أنّ معناه أنّ الاسلام اسم لمسمّى فيه سلامة من غضب الجبّار و من النّار، فانّ من فاز بالاسلام سلم من سخط اللَّه و عقوبته.
(و) هو أيضا (جماع كرامة) أى مجمعه إذ به يفاز الجنان، و يتحصل الرّضوان و النّعيم الأبد و اللّذة السّرمد (اصطفى اللَّه منهجه) أى اختار طريق الاسلام و ارتضاه من بين ساير الطرق و المناهج، و المراد بطريق الاسلام إما نفس الاسلام، و تسميته بالطريق باعتبار ايصاله إلى قرب الحقّ سبحانه و كونه محصّلا لرضاه تعالى، و قد عبّر عنه بالصّراط و هو الطّريق في قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».
على بعض تفاسيره، و يدلّ على اختيار اللَّه سبحانه و اصطفائه له قوله تعالى:«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ».

و أمّا الطريق المخصوص به أعنى الطّريق الّذي لا بدّ لمن تديّن بدين الاسلام أن يسلكه و هى طريق الشّريعة أعني الفروع العمليّة، و الدّليل على اصطفائه عزّ و جلّ لها جعلها ناسخة لسائر الشّرايع و إبقائها بقاء الدّهر، شرع محمّد صلّى اللَّه عليه و آله مستمرّ إلى يوم القيامة (و بيّن حججه) أى أوضح الأدلّة الدّالة على حقيّته (من ظاهر علم و باطن حكم) أى تلك الأدلّة على قسمين: أحدهما علم ظاهر و هى الأدلّة النّقلية من الكتاب و السنّة، و ثانيهما حكمة باطنة و هي الأدلّة العقليّة.

أمّا تفسير الحكم بالحكمة فقد دلّ عليه ما في الصافي عن الكافي عن الباقر عليه السّلام قال: مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب و الحكمة و هو صبىّ صغير، ثمّ تلا قوله تعالى «يا يَحْيى‏ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا».
و في مجمع البحرين في الحديث ادع اللَّه أن يملاء قلبي علما و حكما، أى حكمة.
و أمّا تفسير الحكمة بالعقل فقد نصّ عليه الكاظم عليه السّلام في رواية الصافي عن الكافي عنه عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: «وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ».

قال: الفهم و العقل، فقد ظهر و اتّضح مما ذكرنا أنّ المراد بالحكم الباطن هو دليل العقل (لا تفنى غرائبه و لا تنقضي عجائبه) يعني أنّ غرائب الاسلام و عجائبه دائمة تجدّد يوما فيوما، ألا ترى كيف أعزّه اللَّه و أهله في بدو الأمر و أذّل الكفر و أهله و نصر اللَّه المسلمين على الكافرين و أظهرهم عليهم على قلّة الأوّلين و كثرة الآخرين و أيّد الاسلام بالملائكة المسوّمين يوم بدر و حنين، و نكص الشيطان اللّعين على عقبيه لما تراءت الفئتان و قال إِنِّي أَرى‏ ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رب‏العالمين، مضافة إلى المعجزات و الكرامات الصادرة من قادة المسلمين و نوّابهم الصّالحين في كلّ عصر و زمان، و أعظم تلك العجائب و أكمل تلك الغرايب ما يظهر في آخر الزّمان عند ظهور الدّولة الحقّة القائميّة «عج» و هذه كلّها من عجائب نفس الاسلام و مضافة إليه كما هو غير خفيّ لاولى الأفهام.

(فيه مرابيع النّعم) استعار لفظ المرابيع للبركات و الخيرات التي يفوز بها المسلمون في الآخرة و الاولى ببركة أخذهم الاسلام دينا أمّا في الدّنيا فكحقن الدّماء و الظفر بالأعداء و غنيمة الأموال و رفاه الحال، و أمّا في العقبى فالنّجاة من النّار و الأمن من غضب الجبّار و الفوز بجنّات تجري من تحتها الأنهار، و برضوان من اللَّه أكبر و هو أعظم النّعماء و أشرف الآلاء.

(و مصابيح الظّلم) لفظ المصابيح أيضا استعارة للمعارف الحقّة و العقائد الالهيّة، إذ تصفية القلب بها يرتفع ظلمات الشّبهات و يندفع رين الشكوكات عنه في الدّنيا بخلاف الّذين كفروا فقد خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، و أمّا في الآخرة فبسبب تلك المعارف و بعض الأعمال الصّالحة الّتي هى من فروع الدّين و الاسلام يحصل نور للمؤمن في القبر و البرزخ و القيامة، هذا و يحتمل أن يكون لفظ المصابيح استعارة لأولياء الدّين و أئمّة اليقين قادة المسلمين إذ بهم يهتدي من ظلمات الجهل و الضّلال في الدّين و الدّنيا، و بأنوارهم يسلك سبيل الجنّة في الأخرى كما قال عزّ من قائل: «نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ».

و قد مرّ الكلام في هذا المعنى مشبعا في شرح الفصل الأوّل من الخطبة الرّابعة فليراجع ثمة.
(لا تفتح الخيرات إلّا بمفاتحه) أراد بالخيرات النّعم الأخرويّة و اللّذائذ الدّائمة الباقية و الدّرجات العالية، و مفاتح الاسلام الفاتحة لها عبارة عن فروعات‏الاسلام و الأعمال الحسنة و العبادات الّتي كلّ منها سبب لجزاء مخصوص و موصلة الى درجة مخصوصة من درجات الجنان و مفاتح لأبوابها.

كما ورد في بعض الأخبار: أنّ للجنّة ثمانية أبواب: الباب الأوّل اسمه التّوبة، الثّاني الزّكاة، الثّالث الصّلاة، الرّابع الأمر و النّهى، الخامس الحجّ السّادس الورع، السّابع الجهاد، الثّامن الصّبر، فانّ الظّاهر منه أنّ التّوبة مفتاح للباب الأوّل و الزّكاة للثاني و هكذا.

(و لا تكشف الظلمات إلّا بمصابيحه) قد طهر توضيحه ممّا قدّمناه آنفا في شرح قوله: فيه مصابيح الظلم (قد أحمى حماه) المراد بحمى الاسلام المحرّمات الشّرعيّة و قد أحماها اللَّه سبحانه أى جعلها عرضة لأن تحمى، أى منع و نهى عن الاقتحام فيها.

و يدلّ على ما ذكرناه ما في الوسائل عن الصّدوق قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام خطب النّاس فقال في كلام ذكره: حلال بيّن، و حرام بيّن، و شبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك، و المعاصى حمي اللَّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها و فيه عن الفضل بن الحسن الطبرسي في تفسيره الصّغير قال: في الحديث أنّ لكل ملك حمى و حمى اللَّه محارمه فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

و فيه عن الكراجكى في كتاب كنز الفوايد بسنده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال قال جدّي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: أيّها النّاس حلالي حلال إلى يوم القيامة، و حرامي حرام إلى يوم القيامة، ألا و قد بينهما اللَّه عزّ و جلّ في الكتاب و بيّنتهما لكم في سنّتي و سيرتي، و بينهما شبهات من الشّيطان و بدع بعدى من تركها صلح له أمر دينه و صلحت له مرّوته و عرضه، و من تلبّس بها وقع فيها و اتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى، و من رعى ما شئته قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى، ألا و إنّ لكلّ ملك حمى، ألا و إنّ حمى اللَّه عزّ و جلّ محارمه، فتوّقوا حمى اللَّه و محارمه.

(و أرعى مرعاه) المراد بمرعاه المباحات و المحلّلات الشّرعية، فانّ اللَّه سبحانه قد رخّص المكلّفين في الاقدام عليها و تناولها و التّمتع بها.
(فيه شفاء المشتفى و كفاية المكثفى) إذ به يحصل التّقرب الرّوحاني من الحقّ تعالى، و هو شفاء لكلّ داء و غنى لكلّ فقر، و إليه يؤمى ما في الحديث القدسي يابن آدم كلّكم ضالّ إلّا من هديته، و كلّكم مريض إلّا من شفيته، و كلّكم فقير إلّا من أغنيته

تنبيه

ما ذكرته في شرح هذه الفقرات الأخيرة أعني قوله: من ظاهر علم، إلى آخر الفصل هو الّذي ظهر لي في المقام و هو الأنسب بسياق الكلام.
و قال الشّارح المعتزلي و البحراني و تبعهما غيرهما: إنّ المراد بقوله: من ظاهر علم هو القرآن، و ما ذكره إلى آخر الفصل أوصاف له.

قال الشّارح المعتزلي و يعنى بظاهر علم و باطن حكم القرآن ألا تراه كيف أتى بعده بصفات و نعوت لا يكون إلّا للقرآن من قوله: لا تفنى غرايبه، أى آياته المحكمة و براهينه القاطعة، و لا تنقضى عجائبه، لأنّه مهما تأمّله الانسان استخرج منه بفكره غرايب و عجايب لم يكن عنده من قبل، فيه مرابيع النعم المرابيع سبب لظهور الكلاء، و كذلك تدبر القرآن سبب للنعم الدّينية و حصولها، قد أحمى حماه و أرعى مرعاه، أى عرض حمى القرآن و محارمه لأن يجتنب و عرض مرعاه لأن يرعى، أى يمكن من الانتفاع بما فيه من الزّواجر و المواعظ لأنه خاطبنا بلسان عربيّ مبين، و لم تقنع ببيان ما لا يعلم إلّا بالشرع حتى نبّه في أكثره على أدلّة العقل.

و قال الشارح البحراني: ثمّ أخذ عليه السّلام في إظهار منّة اللَّه عليهم بالقرآن الكريم و تخصيصهم به من بين ساير الكتب و اعدادهم لقبوله من ساير الامم.
ثمّ نبّه على بعض أسباب إكرامه تعالى لهم به أمّا من جهة اسمه فلأنّه مشتق من السّلامة بالدّخول في الطّاعة.

و أمّا من جهة معناه فمن وجوه: أحدها أنّه مجموع كرامة من اللَّه لخلقه لأنّ مدار جميع آياته على هداية الخلق إلى سبيل اللَّه القائدة إلى الجنّة الثّاني أنّ اللَّه اصطفى منهجه و هو طريقته الواضحة المؤدّية للسّالكين بالسير إلى رضوان اللَّه الثّالث أنّه بيّن حججه و هى الأدلّة و الأمارات و قسم الحجج إلى ظاهر علم و أشار به إلى ظواهر الشّريعة و أحكامها الفقهيّة و أدلّة تلك الأحكام، و باطن حكم و أشار به إلى ما يشتمل عليه الكتاب العزيز من الحكمة الالهية و أسرار التوحيد و علم الأخلاق و السياسات و غيرها الرابع أنّه لا تفنى عزائمه«» و أراد بالعزائم هنا الآيات المحكمة و براهينه العازمة أى القاطعة، و عدم فنائها إشارة إمّا إلى ثباتها و استقرارها على طول المدّة و تغير الأعصار، و إمّا إلى كثرتها عند البحث و التفتيش عنها الخامس و لا تنقضى عجايبه، لأنّه كلّما تأمله الانسان استخرج منه بفكره لطايف معجبة من أنواع العلوم لم يكن عنده من قبل.

السادس فيه مرابيع النعم، استعار لفظ المرابيع لما يحصل عليه الانسان من النعم ببركة القرآن و لزوم أوامره و نواهيه و حكمه و آدابه أمّا في الدّنيا فالنعم التي تحصل ببركته لحامليه من القرّاء و المفسّرين و غيرهم ظاهرة الكثرة، و أمّا بالنسبة إلى الآخرة فما يحصل عليه مقتبسو أنواره من الكمالات المعدّة في الآخرة من العلوم و الاخلاق الفاضلة أعظم نعمة و أتمّ فضل السابع أنّ فيه مصابيح الظلم استعار لفظ المصابيح لقوانيته و قواعده الهادية إلى اللَّه في سبيله.

الثامن أنه لا يفتح الخيرات إلا بمفاتحه، أراد الخيرات الحقيقية الباقية و استعار لفظ المفاتح لمناهجه و طرقه الموصلة إلى تلك الخيرات.

التاسع و لا ينكشف الظّلمات إلّا بمصابيحه أراد ظلمات الجهل و بالمصابيح قوانينه.
العاشر كونه قد أحمى حماه، استعار لفظ الحمى لحفظه و تدبّره و العمل بقوانينه، و وجه الاستعارة أنّ بذلك يكون حفظ الشّخص و حراسته أمّا في الدّنيا فمن أيدى كثير من الظّالمين لاحترامهم حملة القرآن و مفسّريه و من يتعلّق به، و أمّا في الآخرة فلحمايته حفظته و متدبّريه و العامل به من عذاب اللَّه كما يحمى الحمى من يلوذ به، و نسبة الأحماء إليه مجاز.

الحادى عشر و كذلك أرعى مرعاه أى هيّأه لأن رعاه، و استعار لفظ المرعى للعلوم و الحكم و الآداب الّتي يشتمل عليه القرآن، و وجه المشابهة أنّ هذه مراعى النفوس الانسانيّة و غذائها الّذي به يكون نشوها العقلى و نماؤها الفعلى، كما أنّ المراعى المحسوسة من النّبات غذاء للأبدان الحيوانيّة الّتى بها يقوم وجودها.
الثّانيعشر فيه شفاء المشتفى، أى طالب الشّفاء منه أمّا في الأبدان فبالتغوّذ به مع صدق النيّة فيه و سلامة الصّدور، و أمّا في النّفوس فلشفائها به من أمراض الجهل.

الثالث عشر و كفاية المكتفى، أراد بالمكتفى طالب الكفاية أما من الدّنيا فلأنّ حملة القرآن الطالبين به المطالب الدّنيوية هم أقدر و أكثر الناس على الاحتيال به في تحصيل مطالبهم و كفايتهم بها، و أمّا في الآخرة فلأنّ طالب الكفاية منها يكفيه تدبّر القرآن و لزوم مقاصده في تحصيل مطلوبه منها
تذييل
قد وعدناك تحقيق الكلام في قوله عليه السّلام: لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم و عرفوه و لا يدخل النار إلّا من أنكرهم و أنكروه، و قد تكلّم فيه الشارحان البحراني‏و المعتزلي على ما يقتضيه سليقتهما و بلغا فيه غاية و سعهما و بذلا منتهى الجهد إلّا أنّهما لقصور يديهما عن أخبار العترة الأطهار الأطياب لم يكشفا عن وجوه خرايده النّقاب، و خفى عليهما وجه التحقيق و مقتضى النّظر الدّقيق، فأحببت أن اشبع الكلام في المقام، لكونه حقيقا بذلك مع الاشارة إلى بعض ما قاله الشّارحان الفاضلان، و ينبغي أن نورد أوّلا جملة من الرّوايات الموافقة معنى لكلامه عليه السّلام ثمّ نتبعها بالمقصود.

فأقول: و باللَّه التّوفيق قال تعالى: «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ» و للمفسّرين في تفسير الأعراف قولان: أحدهما أنّها سور بين الجنّة و النّار أو شرفها و أعاليها، أو الصّراط فيكون مأخوذا من عرف الدّيك و ثانيهما أنّ على معرفة أهل الجنّة و النّار رجال و الأخبار تدلّ على التّفسيرين، و ربّما يظهر من بعضها أنّه جمع عريف كشريف و أشراف، فيكون مرادفا للعرفاء، فلا بدّ على هذا التفسير من التّقدير أى على طريق الأعراف رجال أو على التجريد، هكذا قال العلّامة المجلسى: و هو انّما يستقيم إذا جعلنا الأعراف مأخوذا من المعرفة، و أمّا إذا كان جمعا لعريف فهذا التقدير لا يرفع الاشكال، إذ يكون محصّل المعنى أنّ على طريق عرفاء أهل الجنة و النّار رجال و الحال أنّ هذه الرّجال نفس الأعراف و العرفاء، فكيف يكونون على طريق العرفاء، و التجريد أيضا غير مستقيم كما لا يخفى فاللّازم حينئذ جعل الأعراف في الآية بمعنى السّور، أو المواضع العالية و نحوها، أو بمعنى المعرفة، و على ذلك فلا ينافي وصف الرّجال بكونهم أعرافا أيضا كما في الأخبار المتقدّمة و الآتية، لكونهم عرفاء العباد أعنى أنّ كلّا منهم عريف أو لكونهم عارفين باللَّه، أو لأنّهم سبيل معرفة اللَّه و نحو ذلك‏

قال في الصّافي: و الوجه في إطلاق لفظ الأعراف على الأئمة أنّ الأعراف إن كان اشتقاقها من المعرفة فالأنبياء و الأوصياء هم العارفون و المعروفون و المعرّفون اللَّه و النّاس للنّاس في هذه النشأة، و إن كان من العرف بمعنى المكان العالي المرتفع فهم الّذين من فرط معرفتهم و شدّة بصيرتهم كأنّهم في مكان عال مرتفع ينظرون إلى ساير النّاس في درجاتهم و دركاتهم، و يميزون السّعداء عن الأشقياء على معرفة منهم بهم و هم بعد في هذه النشأة إذا ظهر لك ذلك فلنورد بعض ما ورد من الأخبار المناسبة للمقام فأقول: روى في البحار من بصاير الدّرجات و منتخب البصاير معنعنا عن مقرن قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: جاء ابن الكوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين و على الأعراف رجال يعرفون كلّا بسيماهم، فقال عليه السّلام نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، و نحن الأعراف الّذين لا يعرف اللَّه عزّ و جلّ إلّا بسبيل معرفتنا، و نحن الأعراف يعرفنا «يوقفنا» اللَّه عزّ و جلّ يوم القيامة على الصّراط، فلا يدخل الجنّة إلّا من عرفنا و نحن عرفناه، و لا يدخل النّار إلّا من أنكرنا و أنكرناه، إنّ اللَّه لو شاء لعرف العباد نفسه، و لكن جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و الوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا فانّهم عن الصّراط لناكبون، و لا سواء من اعتصم النّاس به، و لا سواء من ذهب حيث ذهب النّاس، ذهب الناس إلى عيون كدرة«» يفرغ بعضها في بعض، و ذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجرى بامور لانفاد لها و لا انقطاع و فيه من البصاير و منتخب البصاير أيضا مرفوعا إلى الأصبغ بن نباتة عن سلمان الفارسي (ره) قال: اقسم باللَّه لسمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و هو يقول لعليّ عليه السّلام: يا عليّ إنك و الأوصياء من بعدي أو قال من بعدك أعراف لا يعرف اللَّه إلّا بسبيل معرفتكم و أعراف لا يدخل الجنّة إلّا من عرفكم و عرفتموه، و لا يدخل النّار إلّا من أنكركمو أنكرتموه.

و فيه من الكتابين المذكورين عن المنبه عن الحسين بن علوان عن سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن هذه الآية «و على الأعراف رجال يعرفون كلّا بسيماهم» قال عليه السّلام: يا سعد آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم و عرفوه، و لا يدخل النّار إلّا من أنكرهم و أنكروه، و أعراف لا يعرف اللَّه إلّا بسبيل معرفتهم و فيه من البصاير عن عبد اللَّه بن عامر و ابن عيسى عن الجمال عن رجل عن نصر العطار قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: يا عليّ ثلاث اقسم أنّهنّ حقّ: إنّك و الأوصياء عرفاء لا يعرف اللَّه إلّا بسبيل معرفتكم، و عرفاء لا يدخل الجنّة إلّا من عرفكم و عرفتموه، و عرفاء لا يدخل النّار إلّا من أنكركم و أنكرتموه و في الصّافي من المجمع و الجوامع عن أمير المؤمنين عليه السّلام نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة و النّار، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة، و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النّار و من تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي عن الصّادق عليه السّلام كلّ أمّة يحاسبها إمام زمانها و يعرف الأئمّة أوليائهم و أعدائهم بسيماهم، و هو قوله «و على الأعراف رجال يعرفون كلّا بسيماهم» فيعطوا أوليائهم كتابهم بيمينهم فيمرّوا إلى الجنّة بلا حساب و يعطوا اعدائهم كتابهم بشمالهم فيمرّوا على النّار بلا حساب هذا، و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و فيما أوردناه كفاية إذا عرفت هذا فلنعد إلى تحقيق معنى قوله عليه السّلام: لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم و عرفوه، و لا يدخل النّار إلّا من أنكرهم و أنكروه فأقول: أما القضية الاولى فالمراد بها معرفة النّاس بالولاية و الامامة، و معرفتهم للنّاس بالتّشيع و المحبّة، لا المعرفة بأعيانهم فقط، و إنّما لا يدخل الجنّة غير هؤلاء، لأنّ الاذعان بالولاية أعني معرفة الأئمة حقّ المعرفة و الاعتقاد بامامتهم و بأنّهم مفترض الطاعة هو الرّكن الأعظم من الايمان، و شرط قبوليّة ساير الأعمال و العبادات، و بدونه لا ينتفع بشي‏ء منها كما مرّ تحقيق ذلك و تفصيلهو دللنا عليه في التّذنيب الثّالث من شرح الفصل الرّابع من الخطبة الاولى.

و يدلّ عليه أيضا الأخبار المتظافرة بل القريبة من التّواتر لو لم تكن متواترة الدّالة إلى أنّ من مات و لم يعرف إمامه مات ميتة الجاهليّة.
و من جملة تلك الأخبار ما في البحار من كنز الكراجكى مسندا عن الحسن ابن عبد اللَّه الرّازي عن أبيه عن عليّ بن موسى الرّضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من مات و ليس له إمام من ولدى مات ميتة جاهليّة يؤخذ بما عمل في الجاهليّة و الاسلام.

و من طريق العامّة عن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و قال: من مات و ليس في عنقه بيعة لامام أو ليس في عنقه عهد لامام مات ميتة جاهليّة و من عيون أخبار الرّضا فيما كتب الرّضا عليه السّلام للمأمون من شرايع الدّين: من مات لا يعرف أئمّته مات ميتة جاهليّة ثمّ المراد بالمعرفة في قوله عليه السّلام: إلّا من عرفهم و عرفوه، هو المعرفة في الدّنيا و في الآخرة، أمّا معرفة النّاس بالأئمة في هذه النشأة فبأن يعرفوا أنّ لكلّ زمان إماما و يعرفوا إمام زمانهم بخصوصه و هو حىّ ناطق يجب طاعته فيما يأمر و ينهى و أمّا معرفتهم بهم في النشأة الآخرة فانّ كلّ امّة تدعى مع امامه قال تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا».

روى في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم بسنده عن الفضل عن أبي جعفر عليه السّلام في هذه الآية قال: يجي‏ء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في قرنه، و عليّ عليه السّلام في قرنه، و الحسن في قرنه، و الحسين في قرنه، و كلّ من مات بين ظهرانيّ قوم جاءوا معه، و قال عليّ ابن إبراهيم في هذه الآية ذلك يوم القيامة ينادى مناد ليقم أبو بكر و شيعته، و عمر و شيعته، و عثمان و شيعته، و عليّ عليه السّلام و شيعته، و قد مرّ في شرح الفصل الثالث من الخطبة السّادسة و الثّمانين الحديث الشّريف النّبوي في ورود الامّة على النّبيّ‏يوم القيامة على خمس رايات، و أنّ الرّاية الخامسة مع أمير المؤمنين عليه السّلام و معه شيعته، فليتذكّر.
و في البحار من أمالي الشّيخ بسنده عن كثير بن طارق قال سألت زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السّلام عن قول اللَّه تعالى: «لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً».

فقال: يا كثير إنّك رجل صالح و لست بمتّهم و إنّي أخاف عليك أن تهلك أنّ كلّ إمام جائر فان أتباعهم إذا أمر بهم إلى النّار نادوا باسمه فقالوا يا فلان يا من أهلكناهم «كذا» الآن فخلصنا ممّا نحن فيه، ثمّ يدعون بالويل و الثّبور فعندها يقال لهم «لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا» قال زيد بن عليّ رحمه اللَّه: حدّثني أبي عليّ بن الحسين عن أبيه حسين بن عليّ عليهما السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام يا عليّ أنت و أصحابك في الجنّة أنت و أتباعك يا عليّ في الجنّة، هذا و بما ذكرناه من أنّ المراد بمعرفة الأئمة عليهم السّلام معرفتهم بالولاية و الامامة لا المعرفة بأعيانهم فقط ظهر لك أنّ هذه المعرفة مخصوصة بالفرقة المحقّة الاماميّة لا توجد في غيرهم.

فما حكاه الشّارح المعتزلي من أصحابه المعتزلة من أنّهم قائلون بصحة هذه القضيّة، و هى أنّه لا يدخل الجنّة إلّا من عرف الأئمة ألا ترى أنّهم يقولون الأئمة بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فلان و فلان و يعدّوهم واحدا واحدا، فلو أنّ انسانا لا يقول بذلك لكان عندهم فاسقا و الفاسق عندهم لا يدخل الجنّة أبدا أعنى من مات على فسقه، فقد ثبت أنّ هذه القضيّة و هى قوله عليه السّلام: لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم قضيّة صحيحة على مذهب المعتزلة انتهى فيه ما لا يخفى إذ مجرّد معرفتهم و تعدادهم واحدا واحدا لا يكفى في دخول الجنّة و لا يترتّب عليها ثمرة أصلا، و إنّما اللّازم معرفتهم بوصف الامامة و الخلافة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بلا فصل، و أنّ العصر لا يخلو من إمام إمّا ظاهر مشهور أوغائب مستور و إنّ امام زماننا الآن حيّ حاضر موجود و إن كان غايبا عن أعيننا، لاقتضاء الحكمة و هو الثّاني عشر من الأئمة و مهدي الامّة سلام اللَّه عليه و على آبائه الطاهرين، و هو ينافي القول بخلافة الأوّل و الثّاني و الثّالث كما هو مذهب المعتزلة و ساير العامّة، و ينافي إنكار وجود امام الزّمان عليه السّلام الآن كما عليه بنائهم استبعادا لغيبته بطول المدّة و الزّمان، هذا تمام الكلام في معرفة النّاس بالأئمة و أمّا معرفتهم عليهم السّلام بالنّاس فقد قلنا إنّ المراد بها أيضا معرفتهم لهم بالتّشيّع و المحبّة، لا المعرفة بذواتهم و أشخاصهم فقط و إلّا فهم يعرفون المنافقين و الكفّار كما يعرفون شيعتهم و المؤمنين الأبرار فان قلت: نحن نرى كثيرا من شيعتهم و محبّيهم لا تعرفهم الأئمّة و لا يرون أشخاصهم.

قلت: هذا اعتراض سخيف أورده الشّارح البحراني في هذا المقام، و أجاب عنه بقوله: لا يشترط في معرفتهم لمحبّيهم و معرفة محبّيهم لهم المعرفة الشّخصيّة العينيّة، بل الشّرط المعرفة على وجه كلّي و هو أن يعلموا أنّ كلّ من اعتقد حقّ امامتهم و اهتدى بما انتشر من هديهم فهو ولىّ لهم و مقيم لهذا الرّكن من الدّين فيكونون عارفين بمن يتولّاهم على هذا الوجه و يكون من يتولّاهم عارفا بهم لمعرفته بحقّية ولايتهم و اعتقاد ما يقولون و إن لم يشترط المشاهدة و المعرفة الشّخصيّة انتهى.

و لا يكاد ينقضي عجبي من هذا الفاضل كيف ضعف اعتقاده بأئمّة الدّين و شهداء النّاس أجمعين، و هذه العقيدة لا يرتضيها عوام الشّيعة و لا يستحسنها لأنفسهم لو عرضت عليهم، فكيف بالخواص و كيف يجتمع القول بعدم المعرفة الشّخصيّة مع القول بكونهم عليهم السّلام شهداء العباد يوم المعاد على ما دلّت عليه الأخبار الكثيرة المتقدّمة في شرح الخطبة الحادية و السّبعين و الشّهادة فرع المعرفة التّفصيليّة بلى و اللَّه إنّهم عليهم السّلام ليعرفون شيعتهم و محبّيهم و المؤمنين بهم تفصيلا بأشخاصهم و ذواتهم و أعيانهم، و يعرفون حالاتهم و درجاتهم و التفاوت في مقاماتهم و درجاتهم‏بحسب تفاوتهم في الايمان و المحبّة شدّة و ضعفا و نقصا و كمالا كما يعرفونهم بأسمائهم و أسماء آبائهم و عشايرهم و أنسابهم كلّ ذلك قد قامت عليه الأدلّة المعتبرة.

و دلّت عليه الأخبار القريبة من التواتر بل هى متواترة منها ما في البحار من كتاب بصائر الدّرجات للصفار عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن صالح بن سهل عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو مع أصحابه فسلّم ثمّ قال: أنا و اللَّه أحبّك و أتولّاك، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: ما أنت كما قلت ويلك إنّ اللَّه خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام، ثمّ عرض علينا المحبّ لنا فو اللَّه ما رأيت روحك فيمن عرض علينا فأين كنت فسكت الرّجل عند ذلك و لم يراجعه و عن محمّد بن حمّاد الكوفي عن أبيه عن نصر بن مزاحم عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ اللَّه أخذ ميثاق شيعتنا من صلب آدم فنعرف بذلك حبّ المحبّ و إن أظهر خلاف ذلك بلسانه، و نعرف بغض المبغض و إن أظهر حبّنا أهل البيت و عن أحمد بن محمّد و محمّد بن الحسين معا عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن بكير قال: كان أبو جعفر عليه السّلام يقول: إنّ اللَّه أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية لنا و هم ذرّ يوم أخذ الميثاق على الذّر بالاقرار له بالرّبوبيّة و لمحمّد صلّى اللَّه عليه و آله بالنبوّة و عرض اللَّه على محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم امّته في الطّين و هم أظلّة، و خلقهم من الطّينة الّتي خلق منها آدم، و خلق اللَّه أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفى عام، و عرضهم عليه و عرّفهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و عرّفهم عليّا و نحن نعرفهم في لحن«» القول و عن ابن يزيد عن ابن فضال عن ظريف بن ناصح و غيره عمّن رواه عن حبابة الوالبية قالت: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام: إنّ لي ابن أخ و هو يعرف فضلكم و إني احبّ‏أن تعلّمنى أ من شيعتكم فقال: و ما اسمه قالت: قلت: فلان بن فلان، فقال عليه السّلام يا فلانة هات الناموس فجاءت بصحيفة تحملها كبيرة فنشرها ثمّ نظر فيها فقال: هو ذا اسمه و اسم أبيه ههنا و بسنده أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام إنّ حبابة الوالبية كانت إذا وفد الناس إلى معاوية وفدت هي إلى الحسين عليه السّلام و كانت امرأة شديدة الاجتهاد قد يبس جلدها على بطنها من العبادة و أنّها خرجت مرّة و معها ابن عمّ لها و هو غلام فدخلت به على الحسين عليه السّلام فقالت له: جعلت فداك فانظر هل تجد ابن عمّي هذا فيما عندكم و هل تجده ناجيا قال: فقال: نعم نجده عندنا و نجده ناجيا و بسنده عن أبي محمّد البزّاز قال: حدّثنى حذيفة بن أسيد الغفاري «رض» صاحب النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: دخلت على عليّ بن الحسين بن عليّ عليهم السّلام فرأيته يحمل شيئا قلت: ما هذا قال: هذا ديوان شيعتنا، قلت: أرنى أنظر فيها اسمى، فقلت إنّي لست أقرء و انّ ابن أخى يقرأ، فدعى بكتاب فنظر فيه فقال ابن اخى: اسمى و ربّ الكعبة، قلت: ويلك أين اسمى فنظر فوجد اسمي بعد اسمه بثمانية أسماء و عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن ابن عميرة عن الحضرمي عن رجل من بني حنيفة قال: كنت مع عمّي فدخل على عليّ بن الحسين عليهما السّلام فرأى بين يديه صحايف ينظر فيها فقال له: أىّ شي‏ء هذه الصّحف جعلت فداك قال: هذا ديوان شيعتنا قال: أ فتأذن أطلب اسمى فيها قال: نعم، فقال: و انّي لست أقرء و ابن اخى معى على الباب فتأذن له يدخل حتّى يقرأ قال: نعم فأدخلني عمّي فنظرت في الكتاب فأوّل شي‏ء هجمت عليه اسمى فقلت: اسمى و ربّ الكعبة قال: ويحك فأين أنا فجزت بخمسة أسماء أو ستّة ثمّ وجدت اسم عمّي، فقال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: أخذ اللَّه ميثاقهم معنا على ولايتنا لا يزيدون و لا ينقصون إنّ اللَّه خلقنا من أعلى علّيين و خلق شيعتنا من طينتنا أسفل من ذلك، و خلق عدوّنا من سجّين، و خلق أوليائهم منهم من أسفل ذلك و عن عبد اللَّه بن محمّد عمّن رواه عن محمّد بن الحسن عن عمّه عليّ بن السّرى

الكرخي قال: كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السّلام فدخل عليه شيخ و معه ابنه فقال له الشّيخ جعلت فداك أمن شيعتكم أنا فأخرج أبو عبد اللَّه عليه السّلام صحيفة مثل فخذ البعير فناوله طرفها ثمّ قال له: أدرج، فأدرجه حتّى أوقفه على حروف من حروف المعجم فاذا اسم ابنه قبل اسمه، فصاح الابن فرحا اسمي و اللَّه، فرحم الشّيخ ثمّ قال له: أدرج فأدرج فأوقفه أيضا على اسمه كذلك و عن محمّد بن عيسى عن عبد الصّمد بن بشير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: انتهى النّبي إلى السّماء السّابعة و انتهى إلى سدرة المنتهى قال: فقالت السّدرة ما جازني مخلوق قبلك، ثمّ دنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى قال: فدفع إليه كتاب أصحاب اليمين و كتاب أصحاب الشّمال، فأخذ كتاب أصحاب اليمين بيمينه و فتحه و نظر فيه فاذا فيه أسماء أهل الجنّة و أسماء آبائهم و قبائلهم، ثمّ نزل و معه الصحيفتان فدفعهما إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و في البحار من كتاب الاختصاص معنعنا عن عبد اللَّه بن الفضل الهاشمي قال قال لي أبو عبد اللَّه عليه السّلام: يا عبد اللَّه بن الفضل إنّ اللَّه تبارك و تعالى خلقنا من نور عظمته، و صنعنا برحمته و خلق أرواحكم منّا، فنحن نحنّ إليكم و أنتم تحنّون إلينا، و اللَّه لو جهد أهل المشرق و المغرب أن يزيدوا في شيعتنا رجلا أو ينقصوا منهم رجلا ما قدروا على ذلك، و إنّهم لمكتوبون عندنا بأسمائهم و عشايرهم و أنسابهم، يا عبد اللَّه بن الفضل و لو شئت لأريتك اسمك في صحيفتنا قال: ثمّ دعى الصحيفة فنشرها فوجدتها بيضاء ليس فيها أثر الكتابة فقلت: يا ابن رسول اللَّه ما أرى فيها أثر الكتابة، قال: فمسح يده عليها فوجدتها مكتوبة فوجدت في أسفلها اسمى، فسجدت اللَّه شكرا، هذا و الأخبار في هذا الغرض كثيرة و قد عقد في البحار بابا عليها و فيما رويناه كفاية إنشاء اللَّه عزّ و جلّ و أمّا القضية الثانية أعنى قوله عليه السّلام: و لا يدخل النّار إلّا من أنكرهم و أنكروه، فهى لتضمّنها أداة الحصر منحلّة إلى قضيّتين كالقضيّة الاولى إحداهما ايجابيّة و الأخرى سلبيّة

أمّا الايجابيّة فهى أنّ المنكر لهم و من أنكروه في النّار، و هذه قضيّة صحيحة لا غبار عليها لما قدّمنا من أنّ من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميته الجاهليّة، و ميتة الجاهليّة مستلزمة لدخول النار، و قد مرّ في التذييل الثالث من شرح الفصل الرّابع من الخطبة الأولى رواية جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن أبيه قال: نزل جبرئيل على النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و قال: يا محمّد اللَّه يقرؤك السلام و يقول: خلقت السماوات السبع و ما فيهنّ و خلقت الأرضين السبع و من عليهنّ، و ما خلقت موضعا أعظم من الركن و المقام، و لو أنّ عبدا دعاني منذ خلقت السماوات و الأرض ثمّ لقينى جاحدا لولاية عليّ عليه السّلام لأكببته في سقر، و قد مرّ هناك روايات أخر بهذا المعنى فتذكّر و أمّا السلبيّة فهى أنّ من لا ينكرهم و لا ينكرونه فهو لا يدخل النار، و هى بظاهرها مستلزمة لعدم دخول أحد من غير المنكرين في النار و إن كان من مرتكبي الكبائر.

و قد أخذ الشارح البحراني بظاهرها حيث قال: لا يجوز أن يكون من أنكرهم فأنكروه أخسّ ممن يدخل النّار و إلّا لصدق على بعض من يتولّاهم و يعترف بصدق إمامتهم أنه يدخل النار لكن ذلك باطل لقول الرسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يحشر المرء مع من أحبّ، و لقوله لو أحبّ رجل حجرا لحشر معه، دلّ الخبر على أنّ محبّة الانسان لغيره مستلزم لحشره معه، و قد ثبت أنهم عليهم السّلام إلى الجنّة يحشرون فكذلك من أحبّهم و يعترف بحقيّة إمامتهم، و دخول الجنّة و دخول النار ممّا لا يجتمعان، فثبت أنّه لا واحد ممّن يحبّهم و يعترف بحقّهم يدخل النّار، و قد ظهر إذا صدق هذه الكليّة و وجه الحصر فيها، انتهى أقول: و يصدق هذه الكلّية و يدلّ عليها روايات كثيرة فوق حدّ الاحصاء: ففى البحار من كتاب فضايل الشّيعة للصّدوق باسناده عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: حبّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يأكل السيّئات كما تأكل النّار الحطب.

و من كنز جامع الفوايد و تأويل الآيات قال: روى شيخ الطّايفة باسناده‏عن زيد بن يونس الشّحام قال: قلت لأبي الحسن موسى عليه السّلام، الرّجل من مواليكم عاص يشرب الخمر و يرتكب الموبق من الذّنب نتبرّء منه فقال عليه السّلام: تبرّؤا من فعله و لا تبرّؤا من خيره و ابغضوا عمله، فقلت: يسع لنا أن نقول: فاسق فاجر فقال: لا الفاسق الفاجر الكافر الجاحد لنا و لأوليائنا أبي اللَّه أن يكون وليّنا فاسقا فاجرا و إن عمل ما عمل، و لكنّكم قولوا: فاسق العمل فاجر العمل مؤمن النّفس خبيث الفعل طيّب الرّوح و البدن، لا و اللَّه لا يخرج وليّنا من الدّنيا إلّا اللَّه و رسوله و نحن عنه راضون، يحشر اللَّه على ما فيه من الذّنوب مبيضّا وجهه، مستورة عورته، آمنة روعته لا خوف عليه و لا حزن، و ذلك أنّه لا يخرج من الدّنيا حتى يصفى من الذّنوب إمّا بمصيبة في مال أو نفس أو ولد أو مرض و أدنى ما يصنع بوليّنا أن يريه اللَّه رؤيا مهولة فيصبح حزينا لما رآه فيكون ذلك كفّارة له، أو خوفا يرد عليه من أهل دولة الباطل أو يشدّد عليه عند الموت فيلقى اللَّه عزّ و جلّ طاهرا من الذّنوب آمنة روعته بمحمّد و أمير المؤمنين صلّى اللَّه عليهما، ثمّ يكون أمامه أحد الأمرين إمّا رحمة اللَّه الواسعة الّتي هي أوسع من أهل الأرض جميعا، أو شفاعة محمّد و أمير المؤمنين عليهما السّلام فعندها تصيبه رحمة اللَّه الواسعة الّتي كان أحقّ بها و أهلها و له إحسانها و فضلها.

و من كتاب المحتضر للحسن بن سليمان من كتاب سيّد حسن بن كبش عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ إنّ جبرئيل أخبرني عنك بأمر قرّت به عيني و فرح به قلبي، قال: يا محمّد قال اللَّه عزّ و جلّ: اقرء محمّدا منّي السّلام و أعلمه أنّ عليّا إمام الهدى، و مصباح الدّجى، و الحجّة على أهل الدّنيا، و أنّه الصّديق الأكبر و الفاروق الأعظم، و إنّي آليت و عزّتي و جلالي أن لا أدخل النّار أحدا تولّاه و سلّم له و للأوصياء من بعده، حقّ القول منّي لأملانّ جهنّم و أطباقها من أعدائه، و لأملئنّ الجنّة من أوليائه و شيعته و من كتاب اعلام الدّين للدّيلمي من كتاب الحسين بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من أحبّنا و لقى اللَّه و عليه مثل زبد البحر ذنوبا كان حقّاعلى اللَّه أن يغفر له.

و من كتاب المناقب لابن شاذان باسناده عن أبي الصّلت الهروى قال: سمعت الرّضا عليه السّلام يحدّث عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يقول: سمعت اللَّه عزّ و جلّ يقول: عليّ بن أبي طالب حجّتي على خلقي و نوري في بلادي و أميني على علمي لا أدخل النّار من عرفه و إن عصاني، و لا أدخل الجنّة من أنكره و إن أطاعني.

و من كتاب بشارة المصطفى بسنده عن الحسين بن مصعب قال: سمعت جعفر بن محمّد عليه السّلام يقول: من أحبّنا و أحبّ محبّنا لا لغرض دنيا يصيبها منه، و عادى عدوّنا لا لأحنة كانت بينه و بينه، ثمّ جاء يوم القيامة و عليه من الذّنوب مثل رمل عالج و زبد البحر غفر اللَّه تعالى له.
و من تفسير العياشي عن بريد بن معاوية العجلي في حديث عن أبي جعفر عليه السّلام قال: فقال أبو جعفر عليه السّلام: و اللَّه لو أحبّنا حجر لحشر معنا.

و من عيون الأخبار باسناد التّميمي عن الرّضا عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من أحبّنا أهل البيت حشره اللَّه آمنا يوم القيامة.
و بهذا الاسناد قال: قال النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام من أحبّك كان مع النّبيين في درجتهم يوم القيامة و من مات و هو يبغضك فلا يبالي مات يهوديّا أو نصرانيّا.
و من أمالي الشّيخ عن أبي محمّد الفحّام عن عمّه عن أبيه قال: دخل سماعة بن مهران على الصّادق عليه السّلام فقال: يا سماعة من شرّ النّاس عند النّاس قال: نحن يا ابن رسول اللَّه، قال: فغضب حتّى احمرّت و جنتاه ثمّ استوى جالسا و كان متّكئا فقال يا سماعة من شرّ النّاس عند النّاس فقلت: و اللَّه ما كذبتك يا ابن رسول اللَّه نحن شرّ النّاس عند الناس لأنّهم سمّونا كفارا و رفضة، فنظر إلىّ ثمّ قال: كيف بكم إذا سيق بكم إلى الجنّة و سيق بهم إلى النّار فينظرون إليكم فيقولون «ما لَنا لا نَرى‏ رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ» يا سماعة بن مهران إنّه من أساء منكم إسائة مشينا إلى اللَّه تعالى يوم القيامة بأقدامنا فنشفع فيه فنشفّع و اللَّه لا يدخل النّار منكم عشرة رجال، و اللَّه لايدخل النّار منكم ثلاثة رجال، و اللَّه لا يدخل النّار منكم رجل واحد، فتنافسوا في الدّرجات و اكمدوا أعدائكم بالورع.

و من كتاب كنز جامع الفوايد و تأويل الآيات عن محمّد بن عليّ عن عمرو بن عثمان عن عمران عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام في قول اللَّه عزّ و جلّ: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ».

فقال: إنّ اللَّه يغفر لكم جميعا الذّنوب، قال: فقلت: ليس هكذا نقرأ، فقال: يا أبا محمّد فاذا غفر الذّنوب جميعا فلمن يعذّب و اللَّه ما عني من عباده غيرنا و غير شيعتنا و ما نزلت إلّا هكذا إنّ اللَّه يغفر لكم جميعا الذّنوب.
و من تفسير العياشي بالاسناد عن جابر عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّه قال: أهل النّار يقولون «ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدّهم من الأشرار» يعنونكم لا يرونكم في النّار لا يرون و اللَّه أحدا منكم في النّار.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ» قال منكم يعني من الشّيعة «إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ» قال معناه أنّ من تولّى أمير المؤمنين عليه السّلام و تبرّء من أعدائه عليهم لعائن اللَّه و أحلّ حلاله و حرّم حرامه ثمّ دخل في الذنوب و لم يتب في الدّنيا عذّب لها في البرزخ و يخرج يوم القيامة و ليس له ذنب يسأل عنه يوم القيامة.
و في الصافي من المجمع عن الرّضا عليه السّلام قال في هذه الآية: إنّ من اعتقد الحقّ ثمّ أذنب و لم يتب في الدّنيا عذّب عليه في البرزخ و يخرج يوم القيامة و ليس له ذنب يسأل عنه.

إلى غير هذه مما لا نطيل بذكرها، و هذه الأخبار كما ترى تعارض الأخبار الواردة في كون مرتكبى الكبائر في النار تعارض العموم من وجه، لأنّ هذه‏تدلّ على أنّ العارف بحقّ الأئمة عليهم السّلام و المذعن بولايتهم لا يدخل النار و إن كان مرتكبا للكبائر، و تلك الأخبار مفيدة لكون ارتكابها موجبا لدخول النار و لو كان المرتكب من أهل الولاية و المعرفة، فيتعارضان في مادّة الاجتماع، و هو العارف المرتكب للكبائر، فان رجّحنا أخبار الكبائر و ألقيناها على عمومها لا بدّ من حمل هذه الأخبار الدّالة على أنّ العارف بهم لا يدخل النار على الدّخول بعنوان الخلود لظهور أنّ الخلود إنما هو في حقّ الكفار و المنافقين، و إن رجّحنا تلك الأخبار فلا بدّ من التخصيص في الأخبار الواردة في طرف الكبائر بحملها على غير أهل المحبّة و المعرفة.

و لو لا خوف الاحتياط و ايجاب الترجيح للجسارة في الدّين و لعدم المبالات في شرع سيّد المرسلين لرجّحنا أخبار الولاية و قلنا بما قاله الشارح البحراني بل أقول إنه لا تعارض بين أخبار الطرفين حقيقة إذ أخبار الولاية حاكمة على أخبار الكبائر، بل نسبة بعض الأخبار الأولة إلى الثّانية مثل نسبة الدّليل إلى الأصل، فانّ بعض هذه الأخبار كما عرفت مفيد لكون المعرفة حابطة للسيئات و آكلة لها أكل النار للحطب، و بعضها دالّ على أنّ أهل المعرفة يبتلى بمحن و مصائب يكون تمحيصا لذنوبه و كفارة لها، فعلى ذلك لا يبقى للعاصي معصية حتى توجب دخول النّار، و بعضها يفيد كون الولاية موجبة لمغفرة الذّنوب من اللَّه سبحانه تفضّلا أو كونها محصلة للشفاعة من النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام يوم القيامة.

نعم يبقى الاشكال بين هذه الأخبار و بين الأخبار الدّالّة على حصول الشفاعة لبعض مرتكبي السيّئات بعد دخول النّار و المكث فيها بزمان قليل أو كثير بحسب اختلاف مراتب المعصية، و هى أيضا كثيرة و طريق الاحتياط هو الوقوف بين مرتبتي الخوف و الرّجاء و الورع و التّقوى في الدّين و سلوك نهج الشّرع المبين، وفّقنا اللَّه سبحانه لما يحبّ و يرضى و نسأله أن يعاملنا بفضله و لا يؤاخذنا بعد له إنّه لما يشاء قدير، و بالاجابة حقيق جدير.

الترجمة

از جمله فصلهاى آن خطبه است كه بعد از قتل عثمان و انتقال أمر خلافت بآن برج فلك امامت فرموده كه: بتحقيق طلوع كرد طلوع كننده و درخشيد درخشنده و ظاهر شد ظاهر شونده كه عبارتست از ظهور شمس خلافت از مطلع خود كه وجود مسعود آن بزرگوار است، و مستقيم و معتدل شد چيزى كه منحرف شده بود از اركان دين، و بدل كرد حق سبحانه و تعالى بقومي كه از أهل باطل بودند قومى را از اهل حق، و بروزى كه پر از جور و بدعت بود روزى را كه ظاهر شد در آن انصاف و عدالت، و منتظر بوديم ما تغيرات روزگار را مثل انتظار كشيدن قحطى رسيده بباران.
و جز اين نيست كه أئمه طاهرين سلام اللَّه عليهم أجمعين قائمين خدا هستند بر مخلوق او شناساندگان اويند بر بندگان او داخل نمى‏شود در بهشت عنبر سرشت مگر كسى كه بشناسد أئمه را و أئمه عليهم السّلام او را بشناسند، و داخل نمى‏شود در آتش سوزان مگر كسى كه نشناسد ايشان را و ايشان او را نشناسند.

بدرستى كه خداوند متعال مختصّ نمود شما را باسلام و خالص گردانيد شما را از براى آن اسلام، و اين از جهت آنست كه اسلام نام سلامتست و جامع كرامت، پسنديده است خدا از براى شما طريق اسلام را، و بيان فرموده است دلائل آن را از علمى كه ظاهر است از كتاب و سنّت، و از حكمتى كه باطن است از عقل و فطرت، فانى نمى‏شود غرائب آن و تمام نمى‏شود عجائب آن، در اوست بارانهاى بهارى، و چراغهاى ظلمتها، گشاده نمى‏شود خيرها مگر با كليدهاى آن، و كشف نمى‏شود ظلمتها مگر بچراغهاى آن.

بتحقيق كه منع فرمود قوروق اسلام را كه عبارتست از محرّمات شرعيّه، و مرخّص نمود چراگاه آنرا كه عبارتست از مباحات بينه، در اوست شفاى طلب شفا كننده، و كفايت طلب كفايت نماينده.

الفصل الثالث و الرابع منها

و هو في مهلة من اللَّه يهوي مع الغافلين، و يغدو مع المذنبين، بلا سبيل قاصد، و لا إمام قائد. الفصل الرابع منها حتّى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم، و استخرجهم من جلابيب غفلتهم، استقبلوا مدبرا، و استدبروا مقبلا، فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم، و لا بما قضوا من وطرهم، و إنّي أحذّركم و نفسي هذه المنزلة، فلينتفع امرء بنفسه، فإنّما البصير من سمع فتفكّر، و نظر فأبصر، و انتفع بالعبر، ثمّ سلك جددا واضحا، يتجنّب فيه الصرّعة في المهاوي، و الضّلال في المغاوي، و لا يعين على نفسه الغواة بتعسّف في حقّ، أو تحريف في نطق، أو تخوّف من صدق، فأفق أيّها السّامع من سكرتك، و استيقظ من غفلتك، و اختصر من عجلتك، و أنعم الفكر فيما جاءك على لسان النّبيّ الأمّيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ممّا لا بدّ منه، و لا محيص عنه، و خالف من خالف في ذلك إلى غيره، و دعه و ما رضى لنفسه، وضع فخرك، و احطط كبرك،و اذكر قبرك، فإنّ عليه ممرّك، و كما تدين تدان، و كما تزرع تحصد، و ما قدّمت اليوم تقدّم عليه غدا، فامهد لقدمك، و قدّم ليومك، فالحذر الحذر أيّها المستمع، و الجدّ الجدّ أيّها الغافل، «و لا ينبّئك مثل خبير» إنّ من عزائم اللَّه في الذّكر الحكيم الّتي عليها يثيب و يعاقب، و لها يرضى و يسخط، أنّه لا ينفع عبدا و إن أجهد نفسه و أخلص فعله، أن يخرج من الدّنيا لاقيا ربّه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها أن يشرك باللَّه فيما افترض عليه من عبادته، أو يشفي غيظه بهلاك نفسه، أو يقرّ بأمر فعله غيره، أو يستنجح حاجة إلى النّاس باظهار بدعة في دينه، أو يلقى النّاس بوجهين، أو يمشى فيهم بلسانين، اعقل ذلك فإنّ المثل دليل على شبهه، إنّ البهائم همّها بطونها، و إنّ السّباع همّها العدوان على غيرها، و إنّ النّسآء همّهنّ زينة الحياة الدّنيا و الفساد فيها، إنّ المؤمنين مستكينون، إنّ المؤمنين مشفقون، إنّ المؤمنين خائفون.

اللغة

(هوى) يهوي من باب ضرب هويا بالضمّ و الفتح و هواء بالمدّ سقط من أعلى إلى أسفل و (الجلباب) ما يغطى به من ثوب و غيره و قيل ثوب أوسع من الخمار و دون الرّداء و (الطلبة) بالكسر اسم كالطّلب محرّكة و (الجدد) محرّكةما أشرق من الرّمل و الأرض الغليظة المستوية و بالضمّ جمع جدّة كغرف و غرفة و هو الطريق و (الصّرعة) بالفتح الطّرح على الأرض و (المهاوى) جمع المهواة و هو بفتح الميم ما بين الجبلين و قيل الحفرة و قيل الوهدة العميقة و (المغاوى) جمع المغوة قال الشّارح المعتزلي: و هي الشّبهة التي يغوى بها الانسان أى يضلّ و (الغواة) جمع غاو من غوى غيّا انهمك في الجهل و ضلّ و (استنجح) الحاجة و تنجّحها تنجزّها و استقضاها

الاعراب

جملة يهوى حال من فاعل الظّرف، و قوله: بتعسّف، متعلّق بقوله يعين، و قوله: الحذر الحذر و الجدّ الجدّ، منصوبات على الاغراء، و قوله: و لا ينبّئك مثل خبير، مثل صفة لمحذوف و كذلك خبير أى لا ينبّئك منبي‏ء مثل امرء خبير، و قوله: انّه لا ينفع عبدا، اسم إنّ على تأويله بالمصدر أى إنّ من عزائمه تعالى عدم نفع عبد، و قوله: أن يخرج، فاعل ينفع، و قوله: ان يشرك بدل من خصلة أو من هذه الخصال فتكون أو في الجملات المعطوفة بعدها بمعنى الواو، و جملة إنّ البهايم استيناف بيانيّ، و كذلك جملة إنّ المؤمنين آه

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّن لفصلين اما الفصل الاول فقد قال الشّارح المعتزلي و غيره: انّه يصف فيه انسانا من أهل الضّلال غير معيّن كقوله عليه السّلام: رحم اللَّه امرء اتّقى ربّه و خاف ذنبه أقول: و هو إنّما يتمّ لو علم بعدم سبق ذكر مرجع للضّمير الآتى أعنى قوله: هو، في كلامه عليه السّلام حذفه السيّد على ديدنه في الكتاب، و أمّا على تقدير سبقه و حذفه كما هو الأظهر في النّسخ الّتي فيها عنوان هذا الفصل بقوله (منها) بل الظّاهر أيضا في نسخة الشّارح المعتزلي الّتي عنوانه فيها بمن خطبة له عليه السّلام فلا و كيف كان فقوله (و هو في مهلة من اللَّه يهوى مع الغافلين) أراد أنّ اللَّه سبحانه أمدّ في عمره و أمهله و أخّر أجله و كان ذلك سببا لغفلته فهو يسقط و يتردّى من‏درجة الكمال و السّلامة في مهابط الهلاك و مهوات الغفلة و ينخرط في سلك ساير الجهّال و الغافلين (و يغدو مع المذنبين) أى يصبح معهم و هو كناية عن موافقته لهم و ملازمته إيّاهم في ارتكاب المعاصي و انهماك الآثام و الذّنوب (بلا سبيل قاصد و لا إمام قائد) أى من دون أن يسلك سبيلا مستقيما يوصله إلى المطلوب و يتّبع إماما عادلا يقوده إلى الصّواب و أما الفصل الثاني متضمّن للنّصح و الموعظة و تذكير المخاطبين بالموت و تنبيههم من نوم الغفلة و هو قوله (حتّى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم و استخرجهم من جلابيب غفلتهم) قال الشّارح البحراني: النفس ذو جهتين جهة تدبير أحوالها البدنيّة بما لها من القوّة العملية، و جهة استكمالها بقوّتها النظرية التي تتلقّى بها من العاليات كمالها، و بقدر خروجها عن حدّ العدل في استكمال قوّتها العملية تنقطع عن الجهة الأخرى و تكتنفها الهيآت البدنيّة فتكون في أغطية منها و جلابيب من الغفلة عن الجهة الاخرى بالانصباب إلى ما يقتنيه مما يعدّ خيرا في الدّنيا و بسبب انصبابها في هذه الجهة و تمكن تلك الهيآت البدنية منها يكون بعدها عن بارئها و نزولها في دركات الجحيم عن درجات النعيم و بالعكس كما قال صلّى اللَّه عليه و آله و: الدّنيا و الآخرة ضرّتان بقدر ما تقرب من إحداهما تبعد من الأخرى، و ظاهر إنّ بالموت تنقطع تلك الغفلة، و تنكشف تلك الحجب، فيؤمئذ يتذكر الانسان و أنى له الذّكرى، و يكون ما أثبته له يومئذ من تعلّق تلك الهيئات بنفسه و حطها له عن درجات الكمال من السلاسل و الأغلال هو جزاء معصيتهم المنكشف لهم، انتهى، هذا و تشبيه الغفلة بالجلباب من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و وجه الشّبه إحاطتها بهم و ملازمتها لهم إحاطة الثوب بالبدن و لزومه له و قوله (استقبلوا مدبرا و استدبروا مقبلا) أراد بالمدبر الّذي استقبلوه ما كان غائبا عنهم من الشقاء و النكال و النقم، و بالمقبل الّذي استدبروه ما كان حاضرا لهم من الآلاء و الأموال و النعم (فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم) أى اللّذات الدّنيوية التي كانت أعظم طلباتهم، لأنّهم تركوها وراء ظهورهم (و لا بما قضوا منوطرهم) أى الشهوات النفسانية الّتي كانت أهمّ حاجاتهم، لأنها قد زالت عنهم (و انّي أحذّركم و نفسي هذه المنزلة) أراد بها الحالة التي كان الموصوفون عليها من الغفلة و الجهالة، و تشريك نفسه عليه السّلام معهم في التحذير لتطييب قلوب السامعين و تسكين نفوسهم ليكونوا إلى الانقياد و الطاعة أقرب، و عن الآباء و النفرة أبعد، و في بغض النسخ بدل المنزلة المزلّة، فالمراد بها الدّنيا الّتي هي محلّ الزّيغ و الزّلل و الخطاء و الخطل و لمّا نبّههم بعدم الانتفاع بالمطالب و المآرب الدّنيوية أردف ذلك بالتنبيه على ما نفعه أعمّ، و صرف الهمّة إليه أهمّ فقال: (فلينتفع امرء بنفسه) بأن يصرفها فيما صرفها فيه أولوا الأبصار و الفكر و يوجّهها الى ما وجّهها إليه أرباب العقول و النظر و إليه أشار بقوله (فانّما البصير) العارف بما يصلحه و يفسده و الخبير المميّز بين ما يضرّه و ينفعه (من سمع) الآيات البيّنات (فتفكّر) فيها (و نظر) إلى البراهين الساطعات (فأبصر) ها و أمعن فيها (و انتفع بالعبر) أى نظر بعين الاعتبار إلى السلف الماضين من الجبابرة و الملوك و السلاطين و غيرهم من الناس أجمعين كيف انتقلوا من ذروة القصور إلى و هدة القبور، و من دار العزّ و المنعة إلى بيت الذّلّ و المحنة، و فارقوا من الأموال و الأوطان، و جانبوا الأقوام و الجيران، و صاحبوا الحيّات و الديدان، و كيف كانت الدّيار منهم بلاقع، و القبور لهم مضاجع و اندرست آثارهم، و انقطعت أخبارهم، و خربت ديارهم، و قسمت أموالهم، و نكحت أزواجهم، و حشر في اليتامى أولادهم، و أنكرهم صديقهم، و تركهم وحيدا شفيقهم، ففى أقلّ هذه عبرة لمن اعتبر، و تذكرة لمن اتّعظ و تذكّر (ثمّ سلك جددا) أى طريقا (واضحا) و هو الصراط المستقيم، و النهج القويم أى جادّة الشريعة و منهج الدّين الموصل لسالكه إلى حظاير القدس، و مجالس الانس بشرط أن (يتجنّب) و يتباعد (فيه) عن اليمين و الشمال فانّ الطريق الوسطى هى الجادّة و اليمين و الشمال مزلّة و مضلّة توجبان (الصّرعة في المهاوى و الضلالفي المغاوي) كما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: ضرب اللَّه مثلا صراطا مستقيما و على جنبتى الصّراط أبواب مفتّحة، و عليها ستور مرخاة و على رأس الصّراط داع يقول جوزوا و لا تعرّجوا، قال: فالصّراط هو الدّين و هو الجدد الواضح هنا، و الدّاعى هو القرآن و الأبواب المفتّحة محارم اللَّه، و هي المهاوى و المغاوى هنا، و السّتور المرخاة هى حدود اللَّه و نواهيه.
و لمّا نبّه عليه السّلام على ما ينفع المرء و يصلحه نبّه على ما يضرّه و يفسده فقال عليه السّلام (و لا يعين على نفسه الغواة) أى أهل الضّلالات و المنهمكين في الجهالات (بتعسّف في حقّ) قال الشّارح البحراني: أى لا يحملهم على مرّ الحقّ و صعبه، فانّ الحقّ له درجات بعضها سهل من بعض، فالاستقصاء فيه على غير أهله يوجب لهم النّفرة عمّن يقوله و يأمر به، و العداوة له و القول فيه، و قريب منه ما قاله الشّارح المعتزلي أى يتعسّف في حقّ يقوله أو يأمر به فانّ الرّفق أنجح.

أقول: و ظاهر كلامهما يفيد أنّهما فهما من التّعسف من كلامه عليه السّلام تشديد التّكليف على الغواة و التّضييق عليهم في الأحكام، فيكون محصّل مقصوده عليه السّلام على ما قالاه الرّفق بهم عند الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر، لئلّا يجلب العداوة منهم لنفسه بتركه فيصيبه منهم مكروه و ضرر و هذا معنى لا بأس به، و قد مرّ نظيره في قوله عليه السّلام في الفصل الثّاني من الكلام السّادس عشر: من أبدى صفحته للحقّ هلك عند جهلة النّاس، إلّا أنّ الظّاهر أنّه عليه السّلام أراد معنى آخر أى لا يعين الغاوين بما ضرره عايد إليه، و هو تعسّفه في حقّ و عدم كشفه لهم و تبليغه عليهم و إرجاعهم إليه، و ذلك لما رأى من تركهم للحقّ و عدو لهم عنه و انهما كهم في الغيّ و الضّلال و رغبتهم في الباطل، فيتعسّف تطييبا لنفوسهم و تحصيلا لرضاهم، و عود ضرر هذا التّعسف إليه معلوم حيث يشترى رضاء المخلوق بسخط الخالق.

فعلى ما قلناه يكون المراد بالضّرر الضّرر الأخروى، و بالتّعسف العدول و الانحراف عن قول الحقّ و العمل به (أو تحريف في نطق) أى يحرّف الكلم‏عن مواضعه، و يكذب مداراة معهم و منازلة أذواقهم (أو تخوّف من صدق) أى يتكلّف الخوف من قول الصّدق و إن لم يكن خائفا في الواقع، و عود ضرر التّحريف و التّخوف على المحرّف و المتخوّف لاستلزامها مداهنة الغواة، و قد ذمّ اللَّه أقواما بترك الصّدق و الجهاد في الحقّ بقوله: «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ».

فاللّازم على المرء أن لا يأخذه في اللَّه لومة لائم، و لا يكون له من ردع من خالف الحقّ و خابط الغيّ و زجره من أوهان و لا ايهان ثمّ أمر السّامعين بأوامر نافعة و نصحهم بمواعظ بالغة فقال (فأفق أيّها السّامع من سكرتك و استيقظ من) رقدتك و (غفلتك) استعار لفظ السّكرة الغفلة باعتبار كون الغفلة موجبة لترك أعمال العقل كما أنّ السّكرة كذلك، و هى استعارة تحقيقيّة و ذكر الافاقة ترشيح، و شبه الغفلة بالنّوم باعتبار أن لا التفات للغافل كالنّائم، و هى استعارة بالكناية و ذكر الاستيقاظ تخييل (و اختصر من عجلتك) و سرعتك في امور الدّنيا أى قصّر الاهتمام بها، فانّ بقائها يسير و زوالها قريب (و أنعم الفكر) أى أمعن النّظر (فيما جاءك) و كثر دورانه (على لسان النّبيّ الأمىّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم) قد مضى تفسير الامّي من النّهاية في شرح الخطبة الثامنة و الثّمانين و أقول هنا: روى في الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السّلام في قوله تعالى: «وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ».

إنّ الأميّ منسوب إلى امّه أى هو كما خرج من بطن امّه لا يقرأ و لا يكتب فزعم بعض النّاس و منهم الشّارح المعتزلي أنّ وصف النّبيّ به كان أيضا بذلك الاعتبار، أى لا يحسن أن يقرأ و يكتب، و هو زعم فاسد، بل وصفه باعتبار نسبته إلى امّ القرى أعنى مكّة زادها اللَّه شرفا و عزّا و يدلّ على ما ذكرنا ما رواه في الصّافي في تفسير قوله تعالى:«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ».

من علل الشّرايع عن الجواد عليه السّلام أنّه سئل عن ذلك فقال: ما يقول النّاس قيل يزعمون أنّه سمّى الامّي لأنّه لم يحسن أن يكتب، فقال عليه السّلام: كذبوا عليهم لعنة اللَّه أنّي ذلك و اللَّه يقول: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ».

فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن، و اللَّه لقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يقرأ و يكتب باثنين و سبعين أو قال بثلاث و سبعين لسانا، و انّما سمّى الامّى لأنّه كان من أهل مكّة و مكّة من أمّهات القرى، و ذلك قوله تعالى: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها». هذا و بيّن ما جاء على لسان النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله بقوله (ممّا لا بدّ منه و لا محيص عنه) أى الموت الذي ليس منه مناص و لا خلاص و لا مهرب و لا مفرّ (و خالف من خالف في ذلك إلى غيره) يعني أنّ من خالف في امعان النّظر في الموت و أهاويل الفناء و الفوت و أعرض عنه و التفت إلى غيره و اتّبع هواه و أطال أمله و مناه، كادحا سعيا لدنياه في لذّات طربه و بدوات اربه فخالفه (و دعه و ما رضى لنفسه) فانّ الموافقة له توجب فوات الثّواب و أليم العذاب، و تجرّ الشّقاء الأبد و الخزى السّرمد (وضع فخرك) فانّ من صنع شيئا للمفاخرة حشره اللَّه يوم القيامة أسود، رواه في عقاب الأعمال عن أمير المؤمنين عليه السّلام (و احطط كبرك) لأنّ من مشى على الأرض اختيالا لعنته الأرض و من تحتها و من فوقها، رواه في عقاب الأعمال عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم.

و فيه أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه: ويل لمن في الأرض يعارض‏جبّار السّماوات و الأرض هذا و قد تقدّم الكلام في شرح الخطبة المأة و السّابعة و الأربعين في تحقيق معنى الكبر و كونه من أعظم الموبقات و ما في ذمّه من الأخبار و الآيات، و كذلك الكلام في حسن التّواضع مفصّلا و مستوفا فليراجع ثمة (و اذكر قبرك) و ما فيه من الوحدة و الوحشة و الغربة و الظلمة و الحسرة و النّدامة (فانّ عليه ممرّك) و مجازك و لا بدّ لمن يمرّ على منزل موحش مظلم أن يذكره و يتزوّد له و يهتمّ بأخذ الزّاد و تكميل الاستعداد ليتمكّن من الوصول إلى المطلوب و النّجاح بالمقصود (و كما تدين تدان) أى كما تجزي تجزى و هو من باب المشاكلة، و المقصود أنّك كما تعمل للَّه سبحانه و تعالى و تعامل معه فاللَّه يعامل معك إنّ خيرا فخيرا و إن شرا فشرّا و لنعم ما قيل:من يفعل الحسنات اللَّه يشكرها و الشرّ بالشرّ عند اللَّه مثلان‏

(و كما تزرع تحصد) فانّ من زرع النّواة حصد النّخل باسقات، و من زرع الفجور حصد الثّبور، و من توانا عن الزّرع في أوانه حرم الحصاد في ابانه
إذا أنت لم تزرع و أدركت حاصدا ندمت على التقصير في زمن البذر

(و ما قدّمت اليوم) لنفسك أو عليها (تقدم عليه غدا) و تقام فيه (فا) جهد نفسك في تحصيل الخير و تجنّب الشرّوا (مهد لقدمك) أى مهّد و هيّى‏ء لموضع قدمك من الحسنات و الأعمال الصالحات (و قدّم) الزّاد (ليوم) معاد (ك) و إياك و التفريط فتقع في الحسرة و تعقب الندامة و ملامة النفس اللّوامة لدي الحساب يوم القيامة (فالحذر الحذر) من التقصير و الغفلة (أيها المستمتع) المفتون (و الجدّ الجدّ) للتقوى و الطاعة (أيها الغافل) المغرور (و لا ينبّئك) أحد (مثل) واعظ (خبير) و عارف بصير بأحوال الآخرة و أهوالها و لما أمرهم بالحذر و الجد و نبّههم على أنّ المنبئ لهم خبير و بصير بما يحذر منه و يجد عليه، عقّب ذلك بالتنبيه على بعض ما يجب الحذر منه و الجدّ على تركه فقال (إنّ من عزائم اللَّه) أى الأحكام التي لا يجوز مخالفتها في حال من الأحوال‏على ما مر تفصيلا في شرح الفصل السابع عشر من الخطبة الاولى (في الذكر الحكيم) أى القرآن الكريم أو اللّوح المحفوظ كما قيل، و على الأوّل فلا ينافيه عدم ورود بعض ما يذكره من العزائم فيه بخصوصه لامكان استفادته من عمومات الكتاب أو فحاويه حسبما تطلع عليه انشاء اللَّه و وصف العزائم بقوله (الّتى عليها يثيب و يعاقب و لها يرضى و يسخط) أى يرضى و يثيب على الأخذ بها و امتثالها، و يسخط و يعاقب على مخالفتها و تركها (أنه) الضمير للشأن (لا ينفع عبدا و إن أجهد نفسه و أخلص فعله) أمّا إجهاد النفس فيتصوّر في حقّ كلّ من ارتكب باحدى الخصال الخمس الآتية، و أمّا إخلاص الفعل فانّما يتصوّر في المرتكب بغير الاولى من الأربع الباقية، و أمّا الأولى فلا لظهور أنّ الاخلاص لا يجتمع مع الرّيا فيكون الشّرطيّة الثّانية بملاحظة الأغلب أو من باب التغليب فتدبّر (أن يخرج من الدّنيا) أى لا ينفع خروجه منها حالكونه (لاقيأ ربّه بخصلة) واحدة (من هذه الخصال) و الحال أنّه (لم يتب منها) و لم يندم عليها، و هذه الخصال خمس: إحداها (أن يشرك باللَّه فيما افترض عليه من عبادته) أى يرائي في عمله و لم يخلصه للَّه سبحانه، و الدليل من الكتاب الحكيم على حرمته قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» و قوله «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ».

و قد مضى تحقيق الكلام في الرياء و تفصيل أقسامه في شرح الفصل الأوّل من الخطبة الرابعة و العشرين الثانية ما أشار إليها بقوله (أو يشفى غيظه بهلاك نفسه) أى يقتل نفسه‏لافراط قوّته الغضبيّة بحيث لا يطفى نار غضبه إلّا به، و الدليل على حرمته قوله تعالى «وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ».

روى في عقاب الأعمال عن أبي ولاد الحنّاط قال سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: من قتل نفسه متعمّدا فهو في نار جهنّم خالدا فيها، هذا و يحتمل أن يكون المراد بهلاك نفسه الهلاك الاخروى أى لا يتشفّى من غيظه إلّا بأن يكتسب إثما و يوبق نفسه مثل أن يكون بينه و بين آخر بغضاء و عداوة فيغتابه أو يفترى عليه أو ينمّ عليه أو يسعى به إلى الملوك أو يسبّه و نحو ذلك ممّا فيه أليم العذاب و نصّ على حرمته محكم الكتاب، هذا و في بعض النّسخ بهلاك نفس بدل نفسه فيكون المراد أنّه لا يسكت غضبه إلّا بالقتل، و يدلّ على حرمته و عقابه صريحا قوله تعالى: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً».

و روى في عقاب الأعمال بسنده عن حمران قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: قول اللَّه عزّ و جلّ: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً».
و إنّما قتل واحدا، فقال عليه السّلام: يوضع في موضع من جهنّم إليه ينتهى شدّة عذاب أهلها لو قتل النّاس جميعا كان إنّها يدخل ذلك المكان، قلت: فانّه قتل آخر قال: و يصاعف عليه.

و عن أبي عمير قال: حدّثني غير واحد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب آيس من رحمة اللَّه.

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 9 ، صفحه‏ى 219

وطرهم) أى الشهوات النفسانية الّتي كانت أهمّ حاجاتهم، لأنها قد زالت عنهم (و انّي أحذّركم و نفسي هذه المنزلة) أراد بها الحالة التي كان الموصوفون عليها من الغفلة و الجهالة، و تشريك نفسه عليه السّلام معهم في التحذير لتطييب قلوب السامعين و تسكين نفوسهم ليكونوا إلى الانقياد و الطاعة أقرب، و عن الآباء و النفرة أبعد، و في بغض النسخ بدل المنزلة المزلّة، فالمراد بها الدّنيا الّتي هي محلّ الزّيغ و الزّلل و الخطاء و الخطل و لمّا نبّههم بعدم الانتفاع بالمطالب و المآرب الدّنيوية أردف ذلك بالتنبيه على ما نفعه أعمّ، و صرف الهمّة إليه أهمّ فقال: (فلينتفع امرء بنفسه) بأن يصرفها فيما صرفها فيه أولوا الأبصار و الفكر و يوجّهها الى ما وجّهها إليه أرباب العقول و النظر و إليه أشار بقوله (فانّما البصير) العارف بما يصلحه و يفسده و الخبير المميّز بين ما يضرّه و ينفعه (من سمع) الآيات البيّنات (فتفكّر) فيها (و نظر) إلى البراهين الساطعات (فأبصر) ها و أمعن فيها (و انتفع بالعبر) أى نظر بعين الاعتبار إلى السلف الماضين من الجبابرة و الملوك و السلاطين و غيرهم من الناس أجمعين كيف انتقلوا من ذروة القصور إلى و هدة القبور، و من دار العزّ و المنعة إلى بيت الذّلّ و المحنة، و فارقوا من الأموال و الأوطان، و جانبوا الأقوام و الجيران، و صاحبوا الحيّات و الديدان، و كيف كانت الدّيار منهم بلاقع، و القبور لهم مضاجع و اندرست آثارهم، و انقطعت أخبارهم، و خربت ديارهم، و قسمت أموالهم، و نكحت أزواجهم، و حشر في اليتامى أولادهم، و أنكرهم صديقهم، و تركهم وحيدا شفيقهم، ففى أقلّ هذه عبرة لمن اعتبر، و تذكرة لمن اتّعظ و تذكّر (ثمّ سلك جددا) أى طريقا (واضحا) و هو الصراط المستقيم، و النهج القويم أى جادّة الشريعة و منهج الدّين الموصل لسالكه إلى حظاير القدس، و مجالس الانس بشرط أن (يتجنّب) و يتباعد (فيه) عن اليمين و الشمال فانّ الطريق الوسطى هى الجادّة و اليمين و الشمال مزلّة و مضلّة توجبان (الصّرعة في المهاوى و الضلال

و عن جابر بن يزيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: أوّل ما يحكم اللَّه في القيامة في الدّماء فيوقف ابنا آدم فيفصل بينهما، ثمّ الّذين يلونهم من أصحاب الدّماء حتّى لا يبقى منهم أحد، ثمّ النّاس بعد ذلك فيأتي المقتول قاتله فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلنى، فيقول أنت قتلته فلا يستطيع أن يكتم اللَّه حديثا و عن سعيد الأزرق عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام في رجل قتل رجلا مؤمنا يقال له: مت أىّ ميتة شئت إن شئت يهوديا و ان شئت نصرانيّا، و إن شئت مجوسيّا الثالثة ما أشار اليها بقوله (أو يقرّ بأمر فعله غيره) الظّاهر أنّ المراد به أن يحكى أمرا قبيحا ارتكبه غيره، و يدلّ على أنّه حرام و معصية قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» روى في عقاب الأعمال عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: قلت له: جعلت فداك الرّجل من اخواني بلغني عنه الشي‏ء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك، و قد أخبرني عنه قوم ثقات، فقال لي: يا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك و إن شهد عندك خمسون قسامة و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم، و لا تذيعنّ عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروّته، فتكون من الذين قال اللَّه عزّ و جلّ «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ» الآية و عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من روى عن مؤمن رواية يريد بها شينه و هدم مروّته ليسقطه من أعين النّاس أخرجه اللَّه عزّ و جلّ من ولايته إلى ولاية الشّيطان.

قال الشّارح البحراني: و روى بعض الشّارحين يعرّ بالعين المهملة قال: و معناه أن يقذف غيره بأمر قد فعله هو فيكون غيره منصوبا مفعولا به و العامل يعرّ يقال عرّه يعرّه أى عابه و لطخه أقول: و على هذا فيدلّ على حرمته ما يدل على حرمة البهت و الافتراء، قال تعالى:«إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ».

روى في عقاب الأعمال عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من اتّهم مؤمنا أو مؤمنة بما ليس فيهما بعثه اللَّه يوم القيامة في طينة خبال حتّى يخرج ممّا قال، قلت: و ما طينة خبال قال: صديد يخرج من فروج الزّناة، بل يدلّ عليه جميع ما ورد في حرمة الغيبة إذ ذلك قسم من الغيبة بل من أعظم أقسامها كما لا يخفى.

الرابعة ما أشار اليها بقوله (أو يستنجح حاجة إلى النّاس باظهار بدعة في دينه) يعني أنّه يبدع في الدّين طلبا لنجاح حاجته، و من المعلوم أنّ كلّ بدعة ضلالة و الضّلالة في النّار قال تعالى: «وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» و قال «وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ».

و استنجاح الحاجة بالبدعة أشدّ خزيا و أعظم مقتا، كما يدلّ عليه ما في عقاب الأعمال عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: صونوا دينكم بالورع، و قوّوه بالتّقوى و الاستغناء باللَّه عزّ و جلّ عن طلب الحوائج من السّلطان، و اعلموا أنّه أيّما مؤمن خضع لصاحب سلطان أو لمن يخالفه على دينه طلبا لما في يديه أخمله اللَّه و مقته عليه و وكله اللَّه إليه، و إن هو غلب على شي‏ء من دنياه و صار في يده منه شي‏ء نزع اللَّه البركة منه و لم يأجره على شي‏ء ينفقه في حجّة و لا عمرة و لا عتق و فيه عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: كان رجل في الزّمن الأوّل طلب الدّنيا من حلال فلم يقدر عليها، فطلبها من حرام فلم يقدر عليها، فأتاه الشّيطان فقال له: يا هذا إنّك قد طلبت الدّنيا من حلال فلم تقدر عليها و طلبتها من حرام فلم تقدر عليها أفلا أدلّك على شي‏ء يكثر به مالك و دنياك و تكثر به بعك قال: بلى، قال: تبتدع دينا و تدعو إليه النّاس، ففعل، فاستجاب له‏النّاس فأطاعوه و أصاب من الدّنيا، ثمّ إنّه فكّر فقال: ما صنعت ابتدعت دينا و دعوت النّاس إليه و ما أرى لى توبة إلّا أن آتى من دعوته إليه فأردّه، فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه فيقول: إنّ الذى دعوتكم اليه باطل و إنّما ابتدعته فجعلوا يقولون: كذبت هذا الحقّ و لكنّك شككت في دينك فرجعت عنه، فلمّا رأى ذلك عمد إلى سلسلة فوتد لها و تدا ثمّ جعلها في عنقه و قال: لا احلّها حتّى يتوب اللَّه عزّ و جلّ علىّ، فأوحى اللَّه عزّ و جلّ إلى نبيّ من الأنبياء قل لفلان: و عزّتي لو دعوتني حتّى ينقطع أو صالك ما استجبت لك حتّى تردّ من مات على ما دعوته إليه فيرجع عنه.

الخامسة ما أشار إليها بقوله (أو يلقى النّاس بوجهين أو يمشى فيهم بلسانين) قال الشّارح البحرانيّ: أى يلقى كلّا من الصّديقين مثلا بغير ما يلقى به الآخر ليفرق بينهما، أو بين العدوّين ليضري بينهما، و بالجملة أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه فيدخل في زمرة المنافقين و وعيد المنافقين في القرآن: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ».
أقول: و يدخل أيضا في زمرة المغتابين فيشمله الآيات المفيدة لحرمة الغيبة و يدلّ على حرمته من السّنة ما رواه في الكافي بسنده عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من لقى المسلمين بوجهين و لسانين جاء يوم القيامة و له لسانان من نار و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بئس العبد عبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين، يطرى أخاه شاهدا و يأكله غائبا إن أعطى حسده، و ان ابتلى خذله و عن عبد الرّحمان بن حماد رفعه قال: قال اللَّه تبارك و تعالى لعيسى: يا عيسى ليكن لسانك في السّر و العلانية لسانا واحدا و كذلك قلبك إنّي احذّرك نفسك و كفى بي خبيرا، لا يصلح لسانان في فم واحد، و لا سيفان في غمد واحد، و لا قلبان في صدر واحد، و كذلك الأذهان، و رواها جميعا في عقاب الأعمال نحوها.

و في عقاب الأعمال عن زيد بن عليّ عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله‏ و عن جابر بن يزيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: أوّل ما يحكم اللَّه في القيامة في الدّماء فيوقف ابنا آدم فيفصل بينهما، ثمّ الّذين يلونهم من أصحاب الدّماء حتّى لا يبقى منهم أحد، ثمّ النّاس بعد ذلك فيأتي المقتول قاتله فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلنى، فيقول أنت قتلته فلا يستطيع أن يكتم اللَّه حديثا و عن سعيد الأزرق عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام في رجل قتل رجلا مؤمنا يقال له: مت أىّ ميتة شئت إن شئت يهوديا و ان شئت نصرانيّا، و إن شئت مجوسيّا الثالثة ما أشار اليها بقوله (أو يقرّ بأمر فعله غيره) الظّاهر أنّ المراد به أن يحكى أمرا قبيحا ارتكبه غيره، و يدلّ على أنّه حرام و معصية قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» روى في عقاب الأعمال عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: قلت له: جعلت فداك الرّجل من اخواني بلغني عنه الشي‏ء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك، و قد أخبرني عنه قوم ثقات، فقال لي: يا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك و إن شهد عندك خمسون قسامة و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم، و لا تذيعنّ عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروّته، فتكون من الذين قال اللَّه عزّ و جلّ «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ» الآية و عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من روى عن مؤمن رواية يريد بها شينه و هدم مروّته ليسقطه من أعين النّاس أخرجه اللَّه عزّ و جلّ من ولايته إلى ولاية الشّيطان.

قال الشّارح البحراني: و روى بعض الشّارحين يعرّ بالعين المهملة قال: و معناه أن يقذف غيره بأمر قد فعله هو فيكون غيره منصوبا مفعولا به و العامل يعرّ يقال عرّه يعرّه أى عابه و لطخه أقول: و على هذا فيدلّ على حرمته ما يدل على حرمة البهت و الافتراء، قال تعالى:

يجي‏ء يوم القيامة ذو الوجهين دالعا لسانه في قفاه و آخر من قدامه يلتهبان نارا حتّى يلهبا جسده ثمّ يقال له: هذا الّذي كان في الدّنيا ذا وجهين و ذا لسانين يعرف بذلك يوم القيامة.
(اعقل ذلك) أشار به إلى ما يذكره بقوله إنّ البهايم آه (فانّ المثل دليل على شبهه) لمّا كان أكثر الأفهام قاصرة عن إدراك الماهيّة العقليّة للشّي‏ء إلّا في مادّة محسوسة كمن لا يعرف حقيقة العلم مثلا فيقال له إنّه مثل اللّبن حيث إنّه غذاء للرّوح النّاقص و يصير به كاملا كما يتغذّي باللّبن الطّفل النّاقص و به يصير كماله و هكذا، لا جرم جرت عادة اللَّه تعالى و عادة رسله و أوليائه في بيان الأحكام للنّاس و تبليغ التكاليف اليهم على ضرب الأمثال تقريبا للأفهام و أكثر القرآن أمثال ضربت للنّاس ظواهرها حكاية عن حقايقها المكشوفة عند ذوى البصاير قال صدر المتألّهين: كثر في القرآن ضرب الأمثال لأنّ الدّنيا عالم الملك و الشّهادة، و الآخرة عالم الغيب و الملكوت، و ما من صورة في هذا العالم إلّا و لها حقيقة في عالم الآخرة و ما من معنى حقيقى في الآخرة إلّا و له مثال و صورة في الدّنيا، إذ العوالم و النّشئات مطابقة تطابق النفس و الجسد، و شرح أحوال الآخرة لمن كان بعد في الدّنيا لا يمكن إلّا بمثال، و لذلك وجدت القرآن مشحونا بالأمثال كقوله: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مثله «كَمَثَلِ الْكَلْبِ» مثلهم «كَمَثَلِ الْحِمارِ».

و ليس للأنبياء أن يتكلّموا مع الخلق إلّا بضرب الأمثال، لأنّهم كلّفوا أن يكلّموا النّاس على قدر عقولهم، و قدر عقولهم أنّهم في النوم و النائم لا يكشف له شي‏ء إلّا بمثل، فاذا ماتوا انتبهوا و عرفوا أنّ المثل صادق، فالأنبياء هم المعبرون لما عليه أهل الدّنيا من الأحوال و الصّفات و ما يؤل عليه عاقبتها في يقظة الآخرة بكسوة الأمثال الدّنيوية إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا كان مقصوده التمثيل و أداءغرضه بضرب المثل، و المثل ينتفع به العام و الخاص، و كان نصيب العامى من كلّ مثل أن يدرك ظاهره المحسوس و يقف عليه و ينتفع به ترغيبا و ترهيبا لما فيه من نوع مطابقة لأصله و نصيب الخاصى أن يدرك باطنه و يعبّر من ظاهره إلى سرّه و من محسوسه الجزئي إلى معقوله الكلّى كما قال تعالى: «وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ».

أراد عليه السّلام أن يكون انتفاع المخاطبين بالمثل الذي يضربه على وجه الكمال و نحو الخصوص، فلذلك قال عليه السّلام: مقدّمة و تنبيها لهم: اعقل ذلك فانّ المثل دليل على شبهه، أي أفهم ما أقول و تدبّر فيه و لا تقصر نظرك إلى ظاهره، بل تفكّر في معناه حتّى تصل من قشره إلى لبّه، و يمكن لك الاستدلال بالمثل على ممثّله و الانتقال من ظاهره إلى باطنه و الوصول من قشره إلى لبّه و المثل الّذي ضربه هو قوله (إنّ البهايم همّها بطونها) لكمال قوّتها الشّهوية فاهتمامها دائما بالطعام و الشّراب و الأكل و الشّرب و النزو و السّفاد (و إنّ السّباع همّها العدوان) لافراط قوّتها الغضبيّة فلذّتها أبدا في الاضراء و الافتراس و الغلبة و الانتقام (و إنّ النّساء همهنّ زينة الحياة الدّنيا) لفرط قوّتها الشّهويّة (و الفساد فيها) لشدّة قوّتها الغضبيّة و غرضه عليه السّلام من هذا المثل التنبيه على أنّ كمال الانسان الّذي به فارق غيره هو إدراك ما يخرج عن عالم الحواس و الاحاطة بالمعلومات و التنزّه عن التّعلّقات و التّرقّي إلى الملاء الأعلى، فمن ذهل عن ذلك و عطل نفسه عن تحصيله و أهمله و لم يجاوز عالم المحسوسات فهو الذي أهلك نفسه و أبطل قوّة استعداده بالاعراض عن الآيات و التأمّل فيها، و نزل عن مرتبة الانسانية و أخلد إلى الأرض فان كان تابعا لقوّته الشهويّة البهيميّة فهو نازل عن حقيقة الانسانيّة إلى درجة البهايم، و وافق الأنعام فمثله كمثل الحمار بل البهايم أشرف منه و هو أضلّ منها كما قال تعالى. «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ‏أَضَلُّ سَبِيلًا» و ذلك لأنّها ما ابطلت استعدادها لما كان لها و ما أضلّت عن سبيلها الّتي كانت عليها، بل ما من دابّة إلّا هو آخذ بناصيتها، بخلاف هذا، فانّه أبطل كماله و انسانيّته و تبع شهوة بطنه و فرجه و آثر البهيميّة و ان كان تابعا لقوته الغضبيّة فهو منحطّ إلى درجة السّبعيّة فمثله كمثل الكلب أو الخنزير أو الضّبع و نحوها و إن كان تابعا لشهوته و غضبه معا فقد انحطّ من كمال الرجوليّة إلى مرتبة الأنوثيّة.

فقد تلخّص مما ذكرنا أنّ غرضه عليه السّلام من التمثيل التنفير عن اتّباع الشهوة و الغضب بالتنبيه على أنّ الخارج فيهما عن حدّ العدل إلى مرتبة الافراط إمّا أن تشبه البهيمة أو السبع أو المرأة، و كلّ منها مما يرغب العاقل عنه و لا يرضى به لنفسه، و لذلك قال أوّلا: اعقل ذلك ثمّ إنّه عليه السّلام لما نفّر عن اتباع هاتين القوّتين عقّب ذلك بصفات المؤمنين ترغيبا إليها فقال عليه السّلام: (إنّ المؤمنين مستكينون) أى خاضعون للَّه متواضعون له (إنّ المؤمنين مشفقون) كما قال سبحانه: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها- أي الساعة- وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» و قال في موضع آخر: «وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» و قال «وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ».
(إنَّ المؤمنين خائفون) كما قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» و قال «وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى‏ رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ‏فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ». هذا و انما أتى عليه السّلام في الجملات الثلاث الأخيرة بالأسماء الظاهرة مع اقتضاء الظاهر الاتيان في الأخيرتين بالضمير لغرض زيادة تمكين المسند إليه عند السامع كما في قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ» و في قوله «وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ».
و هو من محسّنات البلاغة.

تذييل

قال الشّارح المعتزلي في شرح هذا الفصل من كلامه عليه السّلام: إنّما رمز بباطن هذا الكلام إلى الرّؤساء يوم الجمل، لأنّهم حاولوا أن يشفوا غيظهم باهلاكه و إهلاك غيره من المسلمين، و عزوه بأمرهم فعلوه و هو التّأليب على عثمان و حصره و استنجحوا حاجتهم إلى أهل البصرة باظهار البدعة و الفتنة و لقوا النّاس بوجهين و لسانين، لأنّهم بايعوه و أظهروا الرّضا به، ثمّ دبّوا له فجعل دبوبهم هذه مماثلة للشّرك باللَّه سبحانه في أنّها لا تغفر إلّا بالتّوبة، و هذا هو معنى قوله: اعقل ذلك فانّ المثل دليل على شبهه، و روى فانّ المثل واحد الأمثال أى هذا الحكم بعدم المغفرة لمن أتى شيئا من هذه الأشياء عام و الواحد منها دليل على ما يماثله و يشابهه.

فان قلت: فهذا تصريح بمذهب الامامية في طلحة و الزّبير و عايشة قلت: كلّا فانّ هذه الخطبة خطب بها و هو سائر إلى البصرة و لم يقع الحرب بعد، و رمز فيها إلى المذكورين و قال إن لم يتوبوا و قد ثبت أنّهم تابوا، و الأخبار عنهم بالتّوبة مستفيضة، ثمّ أراد أن يؤمى إلى ذكر النّساء للحال الّتي كان وقع إليها من استنجاد أعدائه بالامرأة فذكر قبل ذكر النّساء أنواعا من الحيوان تمهيدا لقاعدة

ذكر النساء فقال: إنّ البهايم همّها بطونها كالحمر و البقر و الابل، و إنّ السبّاع همّها العدوان على غيرها كالاسود الضّارية و النّمور و الفهود و البزاة و الصّقور، و إنّ النساء همّهنّ زينة الحياة الدّنيا و الفساد فيها انتهى أقول: أمّا ما ذكره الشّارح من كون هذا الكلام رمزا إلى قادة الضلال يوم الجمل فغير بعيد، و اتّصافهم بالخصال الخمس التي هى من أوصاف أهل النفاق و الضلال معلوم و مبرهن.

و أمّا جوابه عن الاعتراض الذي اعترض به فسخيف جدّا أمّا أوّلا فلأنّ صدور هذه الخطبة عنه عليه السّلام حين مسيره إلى البصرة و قبل وقوع الحرب لا يرفع الايراد بعد تحقّق اتّصاف الرّؤساء بالخصال المذكورة و أمّا ثانيا فلأنه عليه السّلام لم يقل إن لم يتوبوا بل قال و لم يتب، و كونه رمزا إلى عدم توبتهم و أنهم يموتون بلا توبة أظهر من أن يكون رمزا إلى حصول التوبة و أمّا ثالثا فلأنّ أخبار توبتهم التي ادعى استفاضتها بعد تسليم كونها مستفيضة مما تفرّدت العامّة بروايتها، و لا يتمّ بها الاحتجاج قبال الاماميّة، و قد قدّمنا في شرح الكلام الثامن بطلان توبة الزبير، و في شرح الكلام الثاني عشر بطلان توبة الطلحة، و في شرح الكلام التاسع و السبعين بطلان توبة الخاطئة، و قد مرّ تحقيق بطلان توبة الأوّلين أيضا في شرح الكلام المأة و السابعة و الثلاثين بما لا مزيد عليه فليتذكّر.

الترجمة

بعض ديگر از آن خطبه شريفه در صفت بعض أهل ضلالست مى‏ فرمايد: و آن شخص معصيت كار در مهلت است از پروردگار فرو مى ‏افتد با غافلان، و صباح مى‏ كند با گنه كاران، بدون راه راست و بدون پيشوائى كه كشنده خلايق است بطرف حضرت ربّ العزّة و بعض ديگر از اين خطبه متضمّن نصيحت و موعظه است مر مخاطبين را مى‏ فرمايد:

تا آنكه چون كشف كند خداى تعالى از جزاء معصيت ايشان، و خارج مي كند ايشان را از لباسهاى غفلت ايشان استقبال مى‏ كنند بچيزى كه ادبار كرده بود و غايب بود از ايشان كه عبارتست از عقوبات آخرت، و استدبار مى‏ كنند بچيزى كه حاضر بود ايشان را كه عبارتست از لذايذ دنيا، پس نفع نبردند از آنچه دريافتند از مطلوب خودشان، و نه به آنچه كه رسيدند از حاجت خود، و بدرستى كه من مى‏ ترسانم شما را و نفس خود مرا از اين حالت غفلت، پس بايد كه منتفع بشود مرد بنفس خود، پس بدرستى كه صاحب بصيرت شخصى است كه بشنود پس تفكر نمايد، و نظر كند پس بينا گردد، و منتفع بشود با عبرتهاى روزگار پس از آن راه برود در راه راست آشكار كه دورى ورزد در آن راه از افتادن مواضع پستى و تباهى و از گمراه شدن در مواضع گمراهى، و اعانت نكند بر ضرر خود گمراهان را بجهة كج روى در امر حق يا بجهة تغيير دادن در گفتار، يا بجهة اظهار خوف در راستى و صداقت پس افاقه حاصل كن اى شنونده از بيهوشى خود را بيدار باش از خواب غفلت خود، و مختصر كن از تعجيل و شتاب خودت، و نيك تأمّل نما در آنچه آمده بتو بر زبان پيغمبرى كه از أهل مكه معظمه است از آنچه ناچار است از آن و هيچ گريزى نيست از آن، و مخالفت كن با كسى كه مخالفت كند در آن، و متوجّه بشود بطرف غير آن، و مگذار او را به آن چه كه پسنديده است او را از براى خودش، و بگذار فخر خودت را، و پست كن كبر خود را، و ذكر كن قبر خود را پس بدرستى كه بر آن قبر است عبور تو، و همچنان كه جزا مى‏دهى جزا داده مى‏شوى، و همچنان كه زراعت مى‏كنى مى‏دروى، و آنچه كه پيش فرستاده امروز مى‏ آئى بر او فردا پس مهيّا كن از براى آمدن خود بدار بقا، و مقدّم كن از براى روز حاجت خود، پس البته حذر كن و بترس أى گوش دهنده، و البتّه جدّ و جهد كن أى غفلت كننده، و آگاه نكند تو را هيچ كس مانند كسى كه آگاهست از كارها، بدرستى كه از جمله أوامر محتومه پروردگار در ذكر محكم و استوار كه بر اخذ آن ثواب مى‏ دهد، و بر ترك آن عقاب مى ‏نمايد، و از براى اطاعت آن خوشنود مى‏ شود، و بجهةمخالفت آن غضب مى‏ كند.

اينست كه هيچ نفع نمى ‏بخشد بنده را اگر چه بمشقت اندازد نفس خود را و خالص نمايد فعل خود را اين كه خارج بشود از دنيا در حالتى كه ملاقات كند پروردگار خود را با يك خصلت از اين خصلتهاى ذميمه در حالتى كه توبه ننموده باشد از آن: آنكه شرك آورد بخدا در آنچه كه واجب نموده است بر او از عبادت خود، يا شفا بدهد غيظ خود را با هلاك كردن نفس خود، يا اقرار كند بكارى كه ديگرى او را نموده، يا خواهش روا كردن حاجتى نموده باشد بسوى خلق با اظهار بدعت در دين خود، يا ملاقات كند مردمان را بدو روئى و نفاق، يا مشى كند در ميان ايشان با دو زباني و عدم وفاق درك كن و بهم اين مثل را كه خواهم زد از براى تو پس بدرستى كه مثل دليل است بر مشابه خود، و آن مثل اينست كه: چهار پايان قصد آنها شكمهاى آنهاست، و بدرستى كه درندگان قصد ايشان ستم و عدوانست، و بدرستى كه زنان قصد ايشان زينت زندگاني اين جهان و فساد كردنست در آن، بدرستى كه مؤمنان متواضعانند، بدرستى كه مؤمنان ترسندگانند از غضب پروردگار، بدرستى كه مؤمنان خائفند از سخط آفريدگار، اللّهمّ وفّقنا بمحمّد و آله الأطهار

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 151 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 151 صبحی صالح

151- و من خطبة له ( عليه ‏السلام ) يحذر من الفتن‏

اللّه و رسوله‏

وَ أَحْمَدُ اللَّهَ وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ الشَّيْطَانِ وَ مَزَاجِرِهِ
وَ الِاعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَ مَخَاتِلِهِ
وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً
عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ
وَ نَجِيبُهُ وَ صَفْوَتُهُ
لَا يُؤَازَى فَضْلُهُ وَ لَا يُجْبَرُ فَقْدُهُ
أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ الْمُظْلِمَةِ
وَ الْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ وَ الْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ
وَ النَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ
وَ يَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ
يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ وَ يَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ

التحذير من الفتن‏

ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلَايَا قَدِ اقْتَرَبَتْ
فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ
وَ احْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَةِ
وَ تَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ
وَ اعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا
وَ ظُهُورِ كَمِينِهَا وَ انْتِصَابِ قُطْبِهَا وَ مَدَارِ رَحَاهَا
تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ
وَ تَئُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ
شِبَابُهَا كَشِبَابِ الْغُلَامِ
وَ آثَارُهَا كَآثَارِ السِّلَامِ
يَتَوَارَثُهَا الظَّلَمَةُ بِالْعُهُودِ
أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لِآخِرِهِمْ وَ آخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بِأَوَّلِهِمْ
يَتَنَافَسُونَ فِي دُنْيَا دَنِيَّةٍ وَ يَتَكَالَبُونَ عَلَى جِيفَةٍ مُرِيحَةٍ
وَ عَنْ قَلِيلٍ يَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ وَ الْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ
فَيَتَزَايَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ وَ يَتَلَاعَنُونَ عِنْدَ اللِّقَاءِ
ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ وَ الْقَاصِمَةِ الزَّحُوفِ
فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ
وَ تَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلَامَةٍ
وَ تَخْتَلِفُ الْأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا
وَ تَلْتَبِسُ الْآرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا
مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ
وَ مَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْهُ
يَتَكَادَمُونَ فِيهَا تَكَادُمَ الْحُمُرِ فِي الْعَانَةِ
قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ
وَ عَمِيَ وَجْهُ الْأَمْرِ
تَغِيضُ فِيهَا الْحِكْمَةُ وَ تَنْطِقُ فِيهَا الظَّلَمَةُ
وَ تَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا
وَ تَرُضُّهُمْ بِكَلْكَلِهَا
يَضِيعُ فِي غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ
وَ يَهْلِكُ فِي طَرِيقِهَا الرُّكْبَانُ
تَرِدُ بِمُرِّ الْقَضَاءِ
وَ تَحْلُبُ عَبِيطَ الدِّمَاءِ
وَ تَثْلِمُ مَنَارَ الدِّينِ
وَ تَنْقُضُ عَقْدَ الْيَقِينِ
يَهْرُبُ مِنْهَا الْأَكْيَاسُ وَ يُدَبِّرُهَا الْأَرْجَاسُ
مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ
كَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ
تُقْطَعُ فِيهَا الْأَرْحَامُ
وَ يُفَارَقُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ
بَرِيئُهَا سَقِيمٌ وَ ظَاعِنُهَا مُقِيمٌ
منهابَيْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ وَ خَائِفٍ مُسْتَجِيرٍ
يَخْتِلُونَ بِعَقْدِ الْأَيْمَانِ وَ بِغُرُورِ الْإِيمَانِ
فَلَا تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ وَ أَعْلَامَ الْبِدَعِ
وَ الْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ
وَ بُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ
وَ اقْدَمُوا عَلَى اللَّهِ مَظْلُومِينَ وَ لَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ
وَ اتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ وَ مَهَابِطَ الْعُدْوَانِ
وَ لَا تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ الْحَرَامِ
فَإِنَّكُمْ بِعَيْنِ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَعْصِيَةَ
وَ سَهَّلَ لَكُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و الواحد و الخمسون من المختار في باب الخطب

و أستعينه على مداحر الشّيطان و مزاجره، و الاعتصام من حبائله و مخاتله، و أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، و نجيبه و صفوته، لا يوازى فضله، و لا يجبر فقده، أضاءت به البلاد بعد الضّلالة المظلمة، و الجهالة الغالبة، و الجفوة الجافية، و النّاس يستحلوّن الحريم، و يستذلّون الحكيم، يحيون على فترة، و يموتون على كفرة، ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتّقوا سكرات النّعمة، و احذروا بوائق النّقمة، و تثبّتوا في قتام العشوة، و اعوجاج الفتنة، عند طلوع جنينها،و ظهور كمينها، و انتصاب قطبها، و مدار رحاها، تبدو في مدارج خفيّة، و تئول إلى فظاعة جليّة، شبابها كشباب الغلام، و آثارها كآثار السّلام، تتوارثها الظّلمة بالعهود، أوّلهم قائد لآخرهم، و آخرهم مقتد بأوّلهم، يتنافسون في دنيا دنيّة، و يتكالبون على جيفة مريحة، و عن قليل يتبرّء التّابع من المتبوع، و القائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، و يتلاعنون عند الّلقآء، ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف، و القاصمة الزّحوف، فتزيغ قلوب بعد استقامة، و تضلّ رجال بعد سلامة، و تختلف الأهواء عند هجومها، و تلتبس الآراء عند نجومها، من أشرف لها قصمته، و من سعى فيها حطمته، يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة، قد اضطرب معقود الحبل، و عمى وجه الأمر، تغيض فيها الحكمة، و تنطق فيها الظّلمة، و تدقّ أهل البدو بمسحلها، و ترضّهم بكلكلها، يضيع في غبارها الوحدان، و يهلك في طريقها الرّكبان، ترد بمرّ القضاء، و تحلب عبيط الدّمآء، و تثلم منار الدّين، و تنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، و تدبّرها الأرجاس، مرعاد مبراق، كاشفة عن ساق، تقطّع فيها الأرحام، و يفارق عليها الإسلام، بريّها سقيم، و ظاعنها مقيم.

منها بين قتيل مطلول، و خائف مستجير، يختلون بعقد الأيمان، و بغرور الإيمان، فلا تكونوا أنصاب الفتن، و أعلام البدع، و الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، و بنيت عليه أركان الطّاعة، و اقدموا على اللَّه مظلومين، و لا تقدموا على اللَّه ظالمين، و اتّقوا مدارج الشّيطان، و مهابط العدوان، و لا تدخلوا بطونكم لعق الحرام، فإنّكم بعين من حرّم عليكم المعصية، و سهّل لكم سبيل الطّاعة.

اللغة

(الدّحر) الطّرد و الابعاد و الدّفع بعنف على الاهانة كالدّحور و قال سبحانه «وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً» و قال أيضا «قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً».
و مداحر الشّيطان جمع مدحر و هى الأمور الّتى محلّ طرده و إبعاده.
و قال الشّارح البحراني و المعتزلي: هى الامور الّتي بها يطرد و يبعد، و على قولهما فهى للآلة، و على ذلك فلا يجوز جعلها جمعا لمدحر كما توهّمه البحراني لأنّ مفعل بفتح الميم للمكان و بالكسر للآلة كما صرّح به جميع علماء الأدبيّة، فلا بدّ من جعلها جمعا حينئذ لمدحرة بكسر الأوّل و الهاء أخيرا و زان مكسحة و مروحة، اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ مدحر بالكسر للآلة أيضا و جمع مفعل على مفاعل قد ورد في كلامهم مثل ملحف و ملاحف و مقود و مقاود.

فقد تلخص ممّا ذكرنا أنّ مداحر يصحّ جعلها جمع مدحر بالفتح للمكان و مدحر و مدحرة بالكسر فيهما للآلة و نحوه (المزاجر) للامور الّتي‏ يزجر بها أو هى محلّ الزّجر من زجر الكلب نهنهه جمع مزجر و مزجر و (ختله) يختله بالكسر خدعه، و المخاتل الأمور الّتي بها يختل و يخدع و (يوازي) مضارع آزى بالهمز و لا يقال وازى و (الجهالة الغالبة) في بعض النّسخ بالموحّدة من الغلبة و في بعضها بالمثنّاة من الغلاء و هو الارتفاع أو من الغلوّ و هو مجاوزة الحدّ و (يستذلّون الحكيم) في بعض النّسخ باللّام من الحلم و (الفترة) انقطاع ما بين النبييّن و (كفرة) بالفتح واحدة الكفرات كضربة و ضربات.

(ثمّ انّكم معشر العرب) في بعض النّسخ معشر النّاس و (تثبّتوا) من التثبّت و هو التوقّف، و في بعض النسخ تبيّنوا من التبيّن و بهما أيضا قرء قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ» يقال تبيّنه أى أوضحه، و تبيّن الأمر أى وضح يستعمل متعدّيا و لازما كاستبان قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ».

أى اطلبوا بيان الأمر و ثباته و لا تعجلوا فيه و (القتام) الغبار و (العشوة) بتثليث الأوّل ركوب الأمر على غير بيان و وضوح، و بالفتح فقط الظلمة و (الجنين) الولد ما دام في البطن و (الكمين) الجماعة المختفية في الحرب.

و (مدار رحاها) مصدر و المكان بعيد و (تبدو في مدارج) في بعض النسخ بالواو من البدو و هو الظهور و في أكثرها تبدء بالهمز مضارع بدء و (شبّ) الفرس يشبّ شبابا بالكسر و شبيبا نشط و رفع يديه جميعا، و في بعض النسخ، شبابها كشباب الغلام بالفتح و (السّلام) بالكسر الحجارة و (مريحة) من أراح اللّحم و الماء أى أنتن أو من أراح الرّجل إذا مات و (رجف) الشي‏ء رجفا تحرّك و اضطرب شديدا و رجف القوم تهيّا و الحرب.

و (زحف) اليه مشي و في شرح المعتزلي الزّحف السير على تؤدة كسير الجيوش بعضها إلى بعض و (نجم) الشي‏ء ينجم نجوما من باب قعد ظهر و طلع و (قصمت)العود كسرته و قصمه اللَّه أى أذلّه و أهانه و قيل قرب موته و (التّكادم) التّعاض بأدنى الفم و (العانة) القطيع من حمر الوحش و (المسخل) و زان منبر المبرد أى السّوهان و يقال أيضا للمنحت و (الوحدان) جمع واحد كركبان و راكب قال الشّارح المعتزلي: و يجوز أن يكون جمع أوحد مثل سودان و أسود يقال فلان أوحد الدّهر.

و (ثلمت) الاناء أى كسرت حرفه فانثلم و (الطلّ) بالمهملة هدر الدّم و هو مطلول اى مهدر لا يطلب بدمه و (يختلون) في بعض النّسخ بالبناء على المفعول و في بعضها بالبناء على الفاعل من ختله خدعه و (عقد) الايمان بصيغة المصدر أو وزان صرد جمع عقدة و (الأنصاب) جمع نصب كأسباب و سبب و هو العلم المنصوب في الطريق يهدى به، و في بعض النّسخ بالرّاء و (مدارج الشّيطان) جمع مدرجة و هى السّبل التّي يدرج فيها و (لعق الحرام) جمع لعقة اسم لما يلعق بالاصبع أو بالملعقة و هى بكسر الميم آلة معروفة، و اللعقة بالفتح المرّة منه من لعقه العقه من باب تعب لحسه باصبع و مصدره لعق و زان فلس.

الاعراب

جملة لا يوازى فضله الظّاهر أنّها استيناف بيانيّ، و جملة أضاءت حال من فاعل المصدر أعني فقده، و يحتمل الاستيناف البياني أيضا، و النّاس حال من مفعول أضاءت، و قوله: تتوارثها الظلمة بالعهود، الظّرف متعلّق بالفعل أو بالظلّمة، و قوله و عن قليل إلى قوله: عند اللّقاء، جملة معترضة، و عن، بمعنى بعد.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة مسوقة في معرض الاخبار عن الملاحم و الوقايع الحادثة في غابر الزّمان، و صدّرها بالاستعانة على ما يجب الاستعانة من اللَّه سبحانه عليه، و عقّب ذلك بالشّهادة بالتّوحيد و الرّسالة و ذكر ممادح الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله فقال:

(و أستعينه على مداحر الشّيطان و مزاجره) أى العبادات و الحسنات الّتي هى محلّ طرده و زجره أو بها يطرد و يزجر (و الاعتصام من حبائله و مخاتله) أى المعاصي و السّيئآت الّتي لها يصيد الانسان و يخدع البشر: قال الشّارح البحراني: و استعار لها لفظ الحبائل و هى أشراك الصّائد لمشابهتها في استلزام الحصول فيها للبعد عن السّلامة و الحصول في العذاب (و أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له) قد تقدّم في شرح الفصل الثّاني من الخطبة الثّانية شرح هذه الكلمة الطيّبة بما لا مزيد عليه فليراجع ثمّة (و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله) صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (و نجيبه) أى الكريم الحسيب الّذي انتجبه من خلقه، و يروى و نجيّه أى المناجي له و المشرف بمناجاته و مخاطبته و أصله من النّجوى و هي التّخاطب سرّا (و صفوته) أى مختاره و مصطفاه من النّاس، و قد مضى تحقيق ذلك في شرح الخطبة الثّالثة و التّسعين.

و لمّا كان ههنا مظنّة أن يسأل و يقال: هل يدانيه أحد في فضله أو يوازيه في كماله فيقوم مقامه عند افتقاره أجاب بقوله: (لا يوازى فضله) أى لا يحاذى و لا يساوى (و لا يجبر فقده) قال الشارح البحراني: إذ كان كماله في قوّتيه النّظرية و العمليّة غير مدرك لأحد من الخلق، و من كان كذلك لم يجبر فقده إلّا بقيام مثله من النّاس، و إذ لا مثل له فيهم فلا جبران لفقده.

(أضاءت به البلاد بعد الضّلالة المظلمة) نسبة أضاءت إلى البلاد من باب التّوسع، و المراد اهتداء أهل البلاد بنور وجوده الشّريف إلى ما فيه صلاح المعاش و المعاد بعد تيههم في ظلمة الكفر و الضلال كما تقدّم في شرح الفصل السّادس عشر من الخطبة الأولى، و عرفت هناك أنّه صلّى اللَّه عليه و آله قد بعث و أهل الأرض يومئذ ملل متفرّقة، و أهواء منتشرة، و طرايق متشتّتة، بين مشبّهة و مجسّمة و زنادقة و غيرها (و) كانوا متّصفين ب (الجهالة الغالبة) عليهم (و) موصوفين ب (الجفوة الجافية) يريد بها غلظ الطّبيعة و قساوة القلوب و سفك الدّماء و وصفه بالجافية للمبالغة من قبيل شعر الشّاعر و داهية دهياء، و قد تقدّم توضيح جفوة العرب و غلظهم في شرح‏

الفصل الأوّل من الخطبة السّابعة و العشرين.

(و النّاس يستحلّون الحريم) أى حرمات اللَّه الّتي يجب احترامها و محرّماته (و يستذلّون الحكيم) أو الحليم كما في بعض الرّوايات، و الحكمة هو العلم الّذي يرفع الانسان عن فعل القبيح، و الحلم هو العقل و التّؤادة و ضبط النّفس عن هيجان الغضب، و المعلوم من حال العرب استذلال من له عقل و معرفة و تجنّب عن سفك الدّماء و عن النهب و الغارة و إثارة الفتن لزعمهم أنّ ذلك من الجبن و الضّعف (يحيون على فترة) من الرّسل و انقطاع من الوحى الموجب لانقطاع الخير و تقليل العبادات و المجاهدات و موت النفوس بداء الجهل و الضّلالات (و يموتون على كفرة) لعدم هاد يهديهم إلى النّهج القويم و الشّرع المستقيم.

ثمّ شرع عليه السّلام في إنذار النّاس بالبلايا النّازلة و اقتراب الحوادث المستقبلة فقال (ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض بلايا) و أهدافها (قد اقتربت) أوقاتها (فاتّقوا سكرات النعمة) لفظة السّكرات استعارة لما يحدثه النّعم عند أربابها من الغفلة و الخمرة المشابهة للسّكرة (و احذروا بوائق النّقمة) أى دواهي المؤاخذات و العقوبات (و تثبّتوا في قتام العشوة) و هو أمر لهم بالتّثبت و التّوقّف عند اشتباه الأمور و ترك الاقتحام فيها من غير بصيرة و رويّة.
قال الشّارح البحراني: استعار لفظ القتام للشّبهة المثيرة للفتن كشبهة قتل عثمان التي نشأت منها وقايع الجمل و صفين و الخوارج، و وجه المشابهة كون ذلك الأمر المشتبه ممّا لا يهتدى فيه خائضوه، كما لا يهتدى القائم في القتام عند ظهوره و خوضه.

(و اعوجاج الفتنة) أى إتيانها على غير وجهها و انحرافها عن النّهج (عند طلوع جنينها و ظهور كمينها) كنى بالجنين و الكمين عن المستور المختفي من تلك الفتنة و يحتمل إرادة الحقيقة بأن يكون المقصود بروز ما اجتن منها و استتر و ظهور ما كمن منها و بطن (و انتصاب قطبها و مدار رحاها) كنايتان عن استحكام أمرها و انتظامها (تبدو في مدارج خفيّة و تؤل إلى فظاعة جليّة) يعني أنّها تكون‏ ابتداء يسيرة ثمّ تصير كثيرة.

فانّ النّار بالعودين تذكي و إنّ الحرب أوّلها كلام‏

أو أنّ ظهورها في مسالك خفيّة حتّى تنتهى إلى شناعة عظيمة (و شبابها كشباب الغلام و آثارها كآثار السّلام) أى إنّ أربابها يمرحون في أوّل الأمر كما يمرح الغلام ثمّ تؤل إلى أن تعقب فيهم أو في الاسلام آثارا كآثار الحجارة في الأبدان، أو أنّ المراد أنّها في الدّنيا كنشاط الغلام و ما أعقبتها من الآثار في الآخرة كآثار السّلام.

(يتوارثها الظّلمة بالعهود) أى يتوارثها الظّلام بعهد الأوّل منهم للثّاني و عقد الأمر منه له كما هو دأب أمراء الجور يجعلون لهم وليّ العهد، أو أنّ توارثهم بما عهدوا بينهم من ظلم أهل البيت و غصب حقّهم، و على تعلّق الظّرف بالظلمة فالمراد أنّه يتوارثها الظالمين بعهد اللَّه و النّاقضين لميثاقه و التّاركين لتكاليفه.

(أوّلهم قائد لآخرهم) يقوده إلى الظّلم و الضّلال و النّار (و آخرهم مقتد بأوّلهم) في الجور و إثارة الفتن و تشييد تلك الآثار (يتنافسون في دنيا دنيّة) أي يتعارضون و يتبارون في دنيا لا مقدار لها عند العقلاء (و يتكالبون على جيفة مريحة) أي يتواثبون على جيفة منتنة عند ذوى العقول و الأولياء، و استعار لها لفظ الجيفة باعتبار النّفرة عنها، و لفظ المريحة ترشيح قال الشّاعر:

و ما هي إلّا جيفة مستحيلة
عليها كلاب همّهنّ اجتذابها

ثمّ قال عليه السّلام (و عن قليل) أى بعد حين قليل) يتبرّء التّابع عن المتبوع و القائد من المقود) أى الأتباع من الرّؤساء و الرّؤساء من الأتباع و ذلك التبرّء يوم القيامة كما قاله الشّارح المعتزلي، و قد أخبر اللَّه سبحانه عن تبرّء الأتباع بقوله: «ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ.

فقولهم لم نكن ندعو هو التبرّء، و أخبر عن تبرّء الرّؤساء بقوله: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا» (فيتزايلون) و يفرقون (بالبغضاء و يتلاعنون عند اللّقاء) كما قال تعالى: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً».

قال الشّارح المعتزلي: فان قلت: ألم يكن قلت إنّ قوله عن قليل يتبرّء التابع من المتبوع يعني يوم القيامة فكيف يقول (ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف) و هذا إنّما يكون قبل القيامة قلت: لمّا ذكر تنافس النّاس على الجيفة المنتنة و هي الدّنيا أراد أن يقول بعده بلا فصل: ثمّ يأتي بعد ذلك اه لكنّه لمّا تعجّب من تزاحم النّاس و تكالبهم على تلك الجيفة أراد أن يؤكّد ذلك التّعجب فأتى بجملة معترضة بين الكلامين فقال: إنّهم على ما قد ذكرنا من تكالبهم عليها عن قليل يتبرّء بعضهم من بعض و يلعن بعضهم بعضا، و ذلك أدعى لهم لو كانوا يعقلون إلى أن يتركوا التّكالب و التّهارش على هذه الجيفة الخسيسة، ثمّ عاد إلى نظام الكلام فقال: ثمّ يأتي بعد ذلك آه.

و قال الشّارح البحراني حكاية عن بعضهم: إنّ ذلك التّبرء عند ظهور الدّولة العبّاسية، فانّ العادة جارية بتبرّء النّاس عن الولاة المعزولين خصوصا عند الخوف ممّن تولّى عزل ذلك أو قتلهم، فيتباينون بالبغضاء إذ لم تكن الفتهم و محبّتهم إلّا لغرض دنياوىّ زال، و يتلاعنون عند اللّقاء، ثمّ قال الشّارح: و قوله: ثم يأتي طالع الفتنة، هي فتنة التتار، إذ الدائرة فيها على العرب.
و قال بعض الشارحين: بل ذلك إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزّمان كفتنة الدّجال.

و كيف كان فوصف الفتنة بالرّجوف لكثرة اضطراب النّاس أو أمر الاسلام فيها و أراد بطالعها مقدّماتها و أوايلها و وصفها ثانيا بقوله (و القاصمة الزّحوف) أى الكاسرة الكثيرة الزّحف و كنّى بقصمها عن هلاك الخلق فيها و شبّهها بالرّجل الشّجاع كثير الزّحف إلى أقرانه أى يمشى إليهم قدما.

ثمّ أشار إلى ما يترتّب على تلك الفتنة من المفاسد العظام و قال (فتزيغ) أى تميل (قلوب بعد استقامة) على سبيل اللَّه (و تضلّ رجال بعد سلامة) في دين اللَّه (و تختلف الأهواء عند هجومها و تلتبس الآراء) الصّحيحة بالفاسدة (عند نجومها) و ظهورها، فيشتبه الحقّ بالباطل و يتيه فيها الجاهل و الغافل (من أشرف لها) أى قابلها و صادمها (قصمته) و هلكته (و من سعى فيها) أى أسرع في إطفائها و اسكاتها (حطمته) و كسرته (يتكادمون فيها تكادم الحمر) الوحش (في العانة) أى في قطيعها.

قال العلامة المجلسي (ره): و لعلّ المراد بتكادمهم مغالبة مثيرى تلك الفتنة بعضهم لبعض، أو مغالبتهم لغيرهم.
و قال الشّارح البحراني: و شبّه ذلك بتكادم الحمر في العانة، و وجه التّشبيه المغالبة مع الايماء أى خلعهم ربق التّكليف من أعناقهم و كثرة غفلتهم عمّا يراد بهم في الآخرة.

(قد اضطرب معقود الحبل) أى قواعد الدّين و الأحكام الشّرعيّة الّتي كلّفوا بها (و عمى وجه الأمر) في اسناد العمى الى الوجه تجوّز، و المراد عدم اهتدائهم الى وجوه الصلاح و طرق الفلاح (تغيض) و تنقص (فيها الحكمة) لسكوت الحكماء عنها و عدم تمكّنهم عن التكلّم بها (و تنطق فيها الظلمة) بما يقتضيه أهواؤهم عن الظّلم و الفساد لمساعدة الزّمان عليهم (و تدقّ) تلك الفتنة (أهل البدو) أى البادية (بمسحلها) أى يفعل بهم ما يفعل المسحل بالحديد«» أو الخشب (و ترضّهم) أى تدقّهم دقّا جريشا (بكلكلها) أى صدرها شبّه هذه الفتنة بالنّاقة الّتي تبرك على الشي‏ء فتسحقه بصدرها على سبيل الاستعارة بالكناية و إثبات الكلكل تخييل و الرّضّ ترشيح (يضيع في غبارها الوحدان و يهلك في طريقها الرّكبان) أى لا يخلص منها أحد و لا ينجو منها لشدّتها و قوّتها، فمن كان يسير وحده فانّه يهلك فيها بالكلّيّة و إذا كانوا جماعة فهم يضلّون في طريقها فيهلكون، و لفظ الغبار مستعار للقليل اليسير من حركة أهلها أى إذا أراد القليل من النّاس دفعها هلكوا في غبارها من دون أن يدخلوا في غمارها، و أمّا الرّكبان و هم الكثير من النّاس فانّهم يهلكون في طريقها و عند الخوض فيها.

و على كون الوحدان جمع أوحد فالمراد أنّه يضلّ في غبار هذه الفتنة و شبهها فضلاء عصرها، لغموض الشبّهة و استيلاء الباطل، و يكون الركبان حينئذ كناية عن الجماعة أهل القوّة، فهلاك أهل العلم بالضّلال و هلاك أهل القوّة بالقتل و الاستيصال.

(ترد بمرّ القضاء) أى بالهلاك و البوار و البلايا الصّعبة و ظاهر أنّها واردة عن القضاء الالهي متّصفة بالمرارة (و تحلب عبيط الدّماء) أى الطرىّ الخالص منها و هو كناية عن سفك الدّماء فيها (و تثلم منار الدّين) استعارة للعلماء أو القوانين الشّرع المبين و ثلمها عبارة عن هدمها و عدم العمل بها (و تنقض عقد اليقين) أى العقائد الحقّة الموصلة إلى جوار اللَّه تعالى، و نقضها كناية عن تغيّرها و تبدّلها و ترك العمل على وفقها (تهرب منها الأكياس) أى ذوو العقول السّليمة (و تدبّرها الأرجاس) الأنجاس أى ذوو النفوس الخبيثة (مرعاد مبراق) كثيرة الرّعد و البرق أى ذات تهدّد و وعيد و يجوز أن يراد بالرّعد قعقعة السّلاح و صوته و بالبرق لمعانه و ضوئه.

(كاشفة عن ساق) قال ابن الأثير: السّاق في اللّغة الأمر الشّديد، و كشف السّاق مثل في شدّة الأمر و أصله من كشف الانسان عن ساقه و تشميره إذا وقع في أمر شديد، و في القاموس يذكرون السّاق إذا أرادوا شدّة الأمر و الاخبار عن‏ هو له قال تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ».

أى عن شدّة (تقطع فيها الأرحام و يفارق عليها الاسلام) بجريانها على خلاف قواعد الدّين و قواعد الشّرع المبين.
(بريئها سقيم) قال العلّامة المجلسيّ (ره): أى من يعد نفسه بريئا سالما من المعاصي أو الآفات أو من كان سالما بالنسبة إلى ساير النّاس فهو أيضا مبتلى بها، أو أنّ من لم يكن مائلا إلى المعاصي و أحبّ الخلاص من شرورها لا يمكنه ذلك (و ظاعنها مقيم) اى المرتحل عنها خوفا لا يمكنه الخروج منها أو من اعتقد أنّه متخلّف عنها فهو أيضا داخل فيها لكثرة الشّبه و عموم الضّلالة.

(منها) ما يشبه أن يكون وصفا لحال المتمسّكين بالدّين في زمان الفتنة السّابقة و هو قوله: (بين قتيل مطلول) أى مهدر الدّم لا يطلب به (و خائف مستجير) أى مستامن يطلب الأمان (يختلون بعقد الأيمان) إن كان يختلون بصيغة المجهول فهو إخبار عن حال المخدوعين الّذين يخدعهم غيرهم بعقد العهود و شدّها بمسح ايمانهم أو بالايمان المعقودة فيما بينهم، و على كونه بصيغة المعلوم فهو بيان لحال الخادعين (و بغرور الايمان) أى بالايمان الّذي يظهره الخادعون فيغرّونهم بالمواعيد الكاذبة أو الذي يظهره هؤلاء الموصوفون فيغرّون النّاس به على اختلاف النّسختين (فلا تكونوا أنصاب الفتن) أى رؤسائها يشار إليهم فيها (و أعلام البدع) الّتي يقتدى بها و هو نظير قوله عليه السّلام في كلماته القصار: كن في الفتنة كابن اللّبون لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب.

(و الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة) و هى القوانين الّتي ينتظم بها اجتماع الناس على الحقّ (و بنيت عليه أركان الطاعة) استعارة بالكناية و ذكر الأركان تخييل و البناء ترشيح (و اقدموا على اللَّه مظلومين و لا تقدموا على اللَّه ظالمين) يعني أنّه إذا دار الأمر بين الظالمية و المظلومية فكونوا راضين بالمظلوميّة، لأنّ‏ الظلم قبيح عقلا و شرعا و الظالم مؤاخذ ملعون كتابا و سنة، أو لا تظلموا الناس و إن استلزم ترك الظلم مظلوميّتكم فانّ يوم المظلوم من الظالم أشدّ من يوم الظالم من المظلوم، و المظلوم منصور من اللَّه سبحانه قال تعالى: «وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا».

و قال أبو جعفر عليه السّلام في رواية أبي بصير عنه عليه السّلام: ما انتصر اللَّه من ظالم إلّا بظالم، و ذلك قول اللَّه عزّ و جلّ: «وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً».
(و اتّقوا مدارج الشيطان) و مسالكه (و مهابط العدوان) و محاله أو المواضع الّتي يهبط صاحبه فيها (و لا تدخلوا بطونكم لعق الحرام) أى لا تدخلوا بطونكم القليل منه فكيف بالكثير أو الاتيان باللّعق للتّنبيه على قلّة ما يكتسب من متاع الدّنيا المحرّم بالنّسبة الى متاع الآخرة و حقارته عنده (فانّكم بعين من حرّم عليكم المعصية و سهّل لكم سبيل الطّاعة) أى بعلمه كقوله تعالى: «تَجْرِي بِأَعْيُنِنا».

و لا يخفى ما في هذا التّعليل من الحسن و اللّطف في الرّدع عن المعاصي و الحثّ على الطاعات، فانّ العبد العالم بأنّه من مرئى من مولاه و مسمع منه يكون أكثر طاعة و أقلّ مخالفة من عبد مولاه غافل عنه و جاهل بأعماله و أفعاله و لتأكيد هذا المعنى عبّر بالموصول و قال: بعين من حرّم آه و لم يقل بعين اللَّه هذا و تسهيل سبيل الطاعة باعتبار أنّ اللَّه سبحانه ما جعل على المكلّفين في الدّين من حرج.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام مبين و سيّد وصيّين است در ذكر ملاحم مى ‏فرمايد و طلب يارى ميكنم از حضرت ربّ العالمين بر عبادات و طاعات كه محلّ طرد و زجر شيطان لعين است، و بر محفوظ شدن از معاصى و سيئات كه ريسمانهاى صيد آن ملعون و اسباب مكر و خدعه آن نابكار است، و شهادت مى‏ دهم باين كه نيست خدائى جز خداى متعال در حالتى كه تنها است شريك نيست مر او را، و شهادت مى‏دهم باين كه محمّد بن عبد اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بنده پسنديده و پيغمبر اوست و برگزيده و مختار اوست برابر كرده نمى‏شود فضل او، و جبران نمى‏شود فقدان او، روشن شد بوجود شريف آن بزرگوار شهرها بعد از گمراهى ظلمانى و نادانى غالب و غلظت غليظه طبايع در حالتى كه مردمان حلال مى ‏شمردند محرمات را، و خوار مى‏شمردند صاحب حكمت و معرفت را زندگانى مى‏كردند در زمان انقطاع پيغمبران، و مى‏مردند بر كفر و طغيان.

پس از آن بدرستى كه شما أى جماعت عرب نشانهاى بلا هستيد كه نزديك شده ظهور آن، پس پرهيز كنيد از مستيهاى نعمتها، و حذر نمائيد از دواهى عذاب، و توقّف كنيد در غبار ظلمة شبهه و در كجى فتنه در وقت ظهور و بروز باطن و كمون آن فتنه، و هنگام استقامت قطب و دوران آسياى آن در حالتى كه ظاهر مى‏شود آن فتنه در جهاى پنهان، و باز گردد بشناعت آشكار، نشو و نماى آن مثل نشو و نماى جوانست، و أثرهاى آن مثل اثرهاى سنگها است، ارث مى ‏برند از يكديگر آن فتنه را ظالمان با عهود و پيمان، يعنى هر يكى ديگرى را وليّ عهد خود مى‏ سازد.

اوّل ايشان پيشواى آخر ايشانست، و آخر ايشان اقتدا كننده است بأوّل ايشان، تعارض مى‏كنند در دنياى پست و بى‏مقدار، و خصومت مى‏كنند بر جيفه گنديده مردار، و بعد از زمان قليل تبرّى مى‏كند تابع از متبوع، و مقتدا از پيشوا پس پراكنده شوند از يكديگر بعداوت و دشمنى، و لعنت كنند بيكديگر هنگام ملاقات.

پس از آن مى ‏آيد طلوع كننده فتنه كثير الاضطراب، و شكننده تند رونده، پس ميل بباطل مى‏كند قلبها بعد از استقامت آنها، و گمراه مى‏شوند مردمان بعد از سلامت ايشان، و مختلف مى‏شود خواهشات وقت هجوم آن فتنه، و ملتبس مى‏شود رأيها نزد ظهور آن فتنه، هر كس مقابله گرى نمايد آن را مى‏شكند و هلاك مى‏سازد او را، و هر كس سعى كند در اسكات آن بر مى‏كند و نابود نمايد او را.

بگزند و آزار رسانند مردمان آن زمان يكديگر را در آن فتنه مثل آزار رساندن حمارهاى وحشى يكديگر را در رمه، بتحقيق كه مضطرب شد ريسمان بسته اسلام، و پوشيده شد روى صلاح كار، ناقص مى‏ شود در آن فتنه حكمت و معرفت و ناطق مى ‏شود در آن ستمكاران، و بكوبد آن فتنه أهل باديه را با منحت و تيشه خود و خورد و مرد كند ايشان را با سينه خود، و ضايع مى‏ شود در غبار آن فتنه تنها روندگان، و هلاك گردد در راه آن فتنه سوارگان.

وارد شود به تلخ‏ترين قضاى الهى، و بدوشد خونهاى تازه را، و خراب مى‏ كند منارهاى دين را، و درهم شكند كوههاى يقين را، بگريزند از آن فتنه صاحبان عقل و كياست، و تدبير كنند آن را صاحبان پليدى و نجاست، بسيار صاحب رعد و برقست و كشف كننده است از شدّت، قطع مى‏ شود در آن فتنه رحمها، و مفارقت مى‏ شود بر آن از دين اسلام، برائت كننده از آن فتنه ناخوش است، و كوچ كننده آن مقيم است.

از جمله فقرات آن خطبه است در وصف حال مؤمنان آن زمان مى ‏فرمايد: ايشان در ميان كشته شده است كه خونش هدر رفته، و ترسنده كه طلب أمان مى ‏كند، فريب داده مى‏ شوند با سوگندهاى بسته شده دروغى، و با ايمانى كه از روى فريب و غرور است، پس نباشيد علامتهاى فتنها و نشانهاى بدعتها، و لازم شويد به آنچه كه بسته شده بآن ريسمان اجتماع و ايتلاف كه عبارتست از قواعد شريعت و بر آنچه كه بنا شده بر آن ركنهاى طاعت و عبادت، و اقدام كنيد بر خدا در حالتى كه مظلوم هستيد، و اقدام نكنيد بر او در حالتى كه ظالم باشيد، و بپرهيزيد از راههاى شيطان و از محلهاى طغيان و عدوان، و داخل نكنيد در شكمهاى خودتان‏ لقمه‏ هاى حرام را پس بدرستى كه شما در نظر كسى هستيد كه حرام كرده بشما گناه را، و آسان كرده از براى شما راه طاعت را چنانچه فرموده «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 150 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 150 صبحی صالح

150- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) يومي فيها إلى الملاحم و يصف فئة من أهل الضلال‏

وَ أَخَذُوا يَمِيناً وَ شِمَالًا ظَعْناً فِي مَسَالِكِ الْغَيِّ

وَ تَرْكاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ

فَلَا تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مُرْصَدٌ

وَ لَا تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِي‏ءُ بِهِ الْغَدُ

فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْرَكَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ

وَ مَا أَقْرَبَ الْيَوْمَ مِنْ تَبَاشِيرِ غَدٍ

يَا قَوْمِ هَذَا إِبَّانُ وُرُودِ كُلِّ مَوْعُودٍ

وَ دُنُوٍّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لَا تَعْرِفُونَ

أَلَا وَ إِنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنَّا يَسْرِي فِيهَا بِسِرَاجٍ مُنِيرٍ

وَ يَحْذُو فِيهَا عَلَى مِثَالِ الصَّالِحِينَ

لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً

وَ يُعْتِقَ فِيهَا رِقّاً وَ يَصْدَعَ شَعْباً وَ يَشْعَبَ صَدْعاً

فِي سُتْرَةٍ عَنِ النَّاسِ

لَا يُبْصِرُ الْقَائِفُ أَثَرَهُ وَ لَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ

ثُمَّ لَيُشْحَذَنَّ فِيهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَيْنِ النَّصْلَ

تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ

وَ يُرْمَى بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهِمْ

وَ يُغْبَقُونَ كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ في الضلال‏

منهاوَ طَالَ الْأَمَدُ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا الْخِزْيَ

وَ يَسْتَوْجِبُوا الْغِيَرَ

حَتَّى إِذَا اخْلَوْلَقَ الْأَجَلُ

وَ اسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَى الْفِتَنِ

وَ أَشَالُوا عَنْ لَقَاحِ حَرْبِهِمْ

لَمْ يَمُنُّوا عَلَى اللَّهِ بِالصَّبْرِ

وَ لَمْ يَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْحَقِّ

حَتَّى إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَلَاءِ

حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهِمْ

وَ دَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ

حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الْأَعْقَابِ

وَ غَالَتْهُمُ السُّبُلُ وَ اتَّكَلُوا عَلَى الْوَلَائِجِ

وَ وَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ وَ هَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ

وَ نَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ

مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَ أَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ

قَدْ مَارُوا فِي الْحَيْرَةِ وَ ذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ

عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ

مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى الدُّنْيَا رَاكِنٍ

أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام في الملاحم و هى المأة و الخمسون من المختار في باب الخطب
و أخذوا يمينا و شمالا ظعنا في مسالك الغىّ، و تركا لمذاهب الرّشد، فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد، و لا تستبطئوا ما يجبى‏ء به الغد، فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه، و ما أقرب اليوم من تباشير غد، يا قوم هذا إبّان ورود كلّ موعود، و دنوّ من طلعة ما لا تعرفون، ألا و من أدركها منّا يسري فيها بسراج منير، و يحذو فيها على مثال الصّالحين، ليحلّ فيها ربقا، و يعتق رقّا، و يصدع شعبا، و يشعب صدعا، في سترة عن النّاس لا يبصر القائف أثره و لو تابع نظره، ثمّ ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النّصل، يجلى بالتّنزيل أبصارهم، و يرمى بالتّفسير في مسامعهم، و يغبقون كأس الحكمة بعد الصّبوح. منها و طال الأمد بهم ليستكملوا الخزى، و يستوجبوا الغير حتّى إذا اخلولق الأجل، و استراح قوم إلى الفتن، و اشتالوا عن لقاح حربهم، لم يمنّوا على اللَّه بالصّبر، و لم يستعظموا بذل أنفسهم‏ في الحقّ، حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء، حملوا بصائرهم على أسيافهم، و دانوا لربّهم بأمر واعظهم، حتّى إذا قبض اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجع قوم على الأعقاب، و غالتهم السّبل، و اتّكلوا على الولائج، و وصلوا غير الرّحم، و هجروا السّبب الّذي أمروا بمودّته، و نقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه، معادن كلّ خطيئة، و أبواب كلّ ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة، و ذهلوا في السّكرة، على سنّة من آل فرعون، من منقطع إلى الدّنيا راكن، أو مفارق للدّين مباين.

اللغة

(ظعن) ظعنا من باب منع و ظعنا بالتّحريك سار و (التباشير) أوائل الصّبح و كلّ شي‏ء، و (إبّان) الشي‏ء بكسر الهمزة و تشديد الباء الموحّدة وقته و زمانه و (الرّبق) بالكسر فالسّكون حبل فيه عدّة عري يشدّ به البهم و كلّ عروة ربقة بالكسر و الفتح و الجمع ربق و رباق و أرباق و (يشحذنّ) على البناء للمفعول من الشّحذ و هو التّحديد و (القين) الحدّاد و (النّصل) حديدة الرّمح و السّهم و السّيف ما لم يكن له مقبض و (الغبوق) وزان صبور الشّرب بالعشىّ و غبقه سقاه ذلك و (الصّبوح) كصبور أيضا الشّرب بالغداة، و صبّحهم سقاهم صبوحا و قد يطلق الغبوق و الصّبوح على ما يشرب بالعشىّ و الغداة.

و (الغير) بكسر الغين المعجمة و فتح الياء المثنّاة قال في مجمع البحرين:

في الحديث: الشكر أمان من الغير، و مثله من يكفر باللَّه يلقى الغير، أى تغيّر الحال و انتقالها عن الصّلاح إلى الفساد و (شالت) النّاقة ذنبها و أشالته رفعته فشال الذّنب نفسه لازم متعدّ و (اللقاح) بالفتح اسم ماء الفحل لقحت النّاقة من باب سمع لقاحا أى قبلت اللّقاح فهى لاقح أى حامل و (غاله) السّيل أهلكه كاغتاله و (الرّص) مصدر من رصّ الشي‏ء ألصق بعضه ببعض و ضمّ كرصّصه قال تعالى: «كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» و تراصّوا في الصفّ تلاصقوا و انضمّوا و (مار) الشي‏ء من باب قال تحرّك بسرعة قال سبحانه: «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً»

الاعراب

قال الشّارح المعتزلي: ينصب ظعنا و تركا على المصدريّة و العامل فيهما من غير لفظهما و هو أخذوا، انتهى.
و الصّواب أنّهما حالان من فاعل أخذوا على التّأويل بالفاعل، أى ظاعنين و تاركين، و يا قوم بكسر الميم منادى مرّخم، و قوله: في سترة خبر لمبتدأ محذوف و جملة لا يبصر القائف أثره حال مؤكّدة نحو: وليّ مدبرا، و جملة يجلى بالتّنزيل في محلّ الرّفع صفة لقوم، و قوله: حتّى اذا اخلولق الأجل، جواب اذا محذوف بقرينة جواب اذا الآتية أعنى قوله: حملوا بصائرهم، و جملة لم يمنّوا حال من فاعل اشتالوا، و قوله: معادن كلّ خطيئة، خبر لمبتدأ محذوف و الجملة في محلّ الرّفع صفة لقوم.

و قوله: على سنّة من آل فرعون من منقطع آه ظرف مستقرّ حال من فاعل ذهلوا، و من الاولى نشويّة ابتدائيّة و الثّانية أيضا للابتداء، و مجرور الثانية بدل من مجرور الاولى بدل اشتمال نظير قوله تعالى:

«فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» قال ابن هشام: من فيهما للابتداء و مجرور الثانية بدل من مجرور الأولى بدل اشتمال لأنّ الشّجرة كانت نابتة بالشّاطى‏ء، انتهى.
و ربّما يعترض عليه بانّه لا بدّ على ذلك من تقدير ضمير يعود على المبدل منه، و اجيب عنه بأنّ تكرار من يغنى عن تقدير الضّمير، هذا.
و يحتمل كون من الثانية للتّبيين فهى إمّا بيان لمجرور من الاولى على حدّ قوله تعالى: «وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا».أو بيان لمعادن كلّ خطيئة، و الأوّل أقرب لفظا و الثّاني معنى، فافهم.

المعنى

اعلم أنّه عليه السّلام يذكر في هذه الخطبة قوما من فرق الضّلال زاغوا عن طريق الهدى إلى سمت الرّدى و مدارها على فصول:

الفصل الاول

قوله عليه السّلام: (و أخدوا يمينا و شمالا ظعنا في مسالك الغيّ و تركا لمذاهب الرّشد) أى مرتحلين في مسالك الغيّ و الضّلال، و تاركين لمذاهب الرّشد و السّداد، فانّ اليمين و الشّمال مضلّة و الطّريق الوسطى هي الجادّة على ما تقدّم تفصيلا في شرح الفصل الثّاني من الكلام السّادس عشر، فمن أخذ بالشّمال و اليمين ضلّ لا محالة عن النّهج القويم و الصراط المستقيم.

ثمّ نهاهم عن استعجال ما كانوا يتوقّعونه من الفتن الّتي أخبرهم الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله‏ و هو عليه السّلام بوقوعها في مستقبل الزّمان، و كانوا يسألونه عليه السّلام عنها و يستبطئون حصولها فقال: (فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد) أى مترقّب و معدّ (و لا تستبطئوا ما يجي‏ء به الغد) و علّل النّهى عن الاستعجال بقوله (فكم من مستعجل بما إن أدركه) حريص عليه (ودّ أنّه لم يدركه) و ذلك لأنّه ربّما يستعجل أمرا غفلة عمّا يترتّب عليه من المفاسد و المضارّ، و جهلا بما يتضمّنه من الشّرور و المعايب فاذا أدركه ظهر له ما كان مخفيّا عنه فيودّ أن لا ينيله و لا يدركه قال سبحانه: «وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».

و لمّا نهاهم عن استبطاء ما يجي‏ء به الغد أشار إلى قربه بقوله (و ما أقرب اليوم من تباشير غد) و أوائله كما قال الشّاعر: غد ما غد ما أقرب اليوم من غد.
ثمّ قال عليه السّلام: (يا قوم هذا إبّان ورود كلّ موعود) أى وقت وروده و زمانه و المستفاد من شرح البحراني أنّ المقصود بهذه الجملة تقريب ذلك الموعود من الفتن، و من شرح المعتزلي أنّها إشارة إلى قرب وقت القيامة و ظهور الفتن التي يظهر أمامها، و الانصاف أنّ كلامه عليه السّلام متشابه المراد، لأنّ السيّد (ره) حذف أوّل الخطبة و ساقها على غير نسق، فأوجب ذلك إبهام المرام و إعضال الكلام، و كم له (ره) من مثل هذا الاسلوب المخالف للسّليقة في هذا الكتاب الموجب للغلق و الاضطراب هذا.

و قوله: (و دنوّ من طلعة ما لا تعرفون) أى هذا وقت قرب ظهور ما لا تعرفون من تلك الملاحم و الفتن الحادثة بالتّفصيل.

قال الشّارح المعتزلي: لأنّ تلك الملاحم و الأشراط الهايلة غير معهود مثلها، نحو دابّة الأرض، و الدّجال و فتنته و ما يظهر على يده من المخاريق و الامور الموهمة، و واقعة السّفياني و ان يقتل فيها من الخلائق الذي لا يحصى عددهم، انتهى ثمّ أشار إلى سيرة أهل بيته عليه السّلام عند ظهور هذه الفتن فقال (ألا و من أدركها منّا) أهل البيت (يسرى فيها) أى في ظلمات هذه الفتن (بسراج منير) أى بنور الامامة و الولاية، فلا توجب ظلماتها انحرافه عن طريق الهدى، و لا توقع له شبهة في عقيدته الصّادقة الصّافية بل يسلك فيها مسلك الحقّ المبين (و يحذو فيها على مثال) أسلافه (الصّالحين) و يقتفى آثار أولياء الدّين (ليحلّ فيها ربقا و يعتق رقّا) أى يستفكّ الهدى و ينقذ مظلومين من أيدى الظّالمين، و يحتمل أن يكون كناية عن حلّه فيها ربق الشّك من أعناق النّفوس و عتقها من ذلّ الجهل (و يصدع شعبا و يشعب صدعا) أى يفرّق ما اجتمع و اتّفق من الضّلال و يصلح ما تشتّت و تفرّق من الهدى.

و قوله: (في سترة عن النّاس) قال الشّارح المعتزلي هنا بعد بنائه على أنّ المراد بالموصول في قوله عليه السّلام سابقا: و من أدركها، هو مهدىّ آل محمّد سلام اللَّه عليه و على آبائه الطّاهرين: إنّ هذا الكلام يدلّ على استتار هذا الانسان المشار إليه و ليس ذلك بنافع للاماميّة في مذهبهم و إن ظنّوا أنّه تصريح بقولهم، و ذلك لأنّه من الجايز أن يكون هذا الامام يخلقه اللَّه في آخر الزّمان و يكون مستترا مدّة و له دعاة يدعون إليه و يقرّرون أمره ثمّ يظهر بعد ذلك الاستتار و يملك المماليك و يقهر الدّول و يمهّد الأرض كما ورد في الخبر انتهى.

أقول: قد أشرنا في شرح الخطبة المأة و الثّامنة و الثلاثين أنّ المهدىّ صاحب الزّمان عليه صلوات الرّحمن مخلوق موجود الآن، و أنّ خلاف المعتزلة و من حذا حذوهم فيه و إنكارهم لوجوده بعد ممّا لا يعبأ به بعد قيام البراهين العقليّة و النقلية و دلالة الأصول المحكمة على وجوده كما هو ضروريّ مذهب الاماميّة رضوان اللَّه عليهم، و كتب أصحابنا في الغيبة كفتنا مؤنة الاستدلال في هذا المقام و كيف كان فلو اريد بالموصول خصوص امام الزّمان عليه السّلام لا بدّ أن يكون المراد بقوله: في سترة عن النّاس، غيبته و استتاره عن أعين النّاس، و يكون قوله (لا يبصر القائف أثره و لو تابع نظره) إشارة إلى شدّة استتاره و عدم إمكان الوصول إليه و لو استقصى في الطلب و بولغ في النّظر و التّأمل إلّا للأوحدىّ من النّاس إذا اقتضت الحكمة الالهيّة، و لو اريد به العموم كان المقصود به ما قاله الشّارح‏ البحراني حيث قال: و ما زالت أئمة أهل البيت عليهم السّلام مغمورين في النّاس لا يعرفهم إلّا من عرّفوه أنفسهم حتّى لو تعرّفهم من لا يريدون معرفته لم يعرفهم، لست أقول لم يعرف أشخاصهم بل لا يعرف أنّهم أهل الحقّ و الأحقّون بالأمر.

(ثمّ ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النّصل) قال الشّارح المعتزلي: يريد ليحرضنّ في هذه الملاحم قوم على الحرب و قتل أهل الضّلال، و ليوطننّ عزائمهم كما يشحذ الصّيقل السّيف و يطلق حدّه.

و قال الشّارح البحراني: أى في أثناء ما يأتي من الفتن تشحذ أذهان قوم و تعدّ لقبول العلوم و الحكمة كما يشحذ الحدّاد النّصل، و لفظ الشّحذ مستعار لاعداد الأذهان، و وجه الاستعارة الاشتراك في الاعداد التّام النّافع، فهو يمضى في مسائل الحكمة و العلوم كمضىّ النّصل فما يقطع به و هو وجه التّشبيه المذكور، انتهى.

أقول: فعلى قول الأوّل يكون المراد بقوله عليه السّلام: قوم، أنصار إمام الزمان عليه السّلام و أصحابه، و على قول الثّاني يكون المراد به علماء الامّة المستجمعين لكمالات النفوس، السّالكين لسبيل اللَّه من جاء منهم قبلنا و من يأتي في آخر الزمان و وصف هؤلاء بقوله (يجلى بالتنزيل أبصارهم و يرمى بالتّفسير في مسامعهم) أى يكشف الرّين و تدفع ظلمات الشّكوك و الشّبهات عن أبصار بصائرهم بالقرآن و التّدبر في بديع اسلوبه و معانيه، و يرمى بتفسيره حقّ التفسير في مسامعهم، و الجملة الثّانية بمنزلة التّعليل للأولى، يعني أنّهم لتلقّيهم تفسيره على ما يحقّ و ينبغي من أهل الذكر الذينهم معادن التنزيل و التّأويل و تحصيلهم المعرفة عنهم عليهم السّلام بمعانيه و مبانيه و اسراره الباطنة و الظاهرة و حكمه الجليّة و الخفيّة ارتفعت غطاء الشّبهات و غشاوة الشّكوكات عن ضمائرهم و بصائرهم، فاستعدّت أذهانهم لادراك المعارف الحقّة و الحكم الالهيّة، و لم يزل الأسرار الرّبانيّة و العنايات الالهيّة تفاض اليهم صباحا و مساء.

و هو معنى قوله: (و يغبقون كأس الحكمة بعد الصّبوح) و هو من باب الاستعارةبالكناية حيث شبّه الحكمة التي هى عبارة عن المعارف المتضمّنة لصلاح النشأتين بالشّراب، و الجامع عظم المنفعة و اللّذة فيهما و إن كانت منفعة الأولى للأرواح و بها التذاذها و كمالها، و نفع الثّاني للأبدان و منه حظّها، و اثبات الكأس تخييل، و ذكر الغبوق و الصّبوح ترشيح.

الفصل الثاني

(منها) قوله عليه السّلام (و طال الأمد بهم ليستكملوا الخزى و يستوجبوا الغير) قال الشارحان البحراني و المعتزلي: هذا الفصل من كلامه يتّصل بكلام قبله لم يذكره الرّضيّ قد وصف فيه فئة ضالّة قد استولت و ملكت و املى لها اللَّه سبحانه انتهى.
ان قيل: كيف ساغ جعل طول الأمد علّة لاستكمال الخزى قلت: اللّام هنا ليست على التّعليل حقيقة بل هى على العلّية المجازيّة كما في قوله سبحانه «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا و حزنا» حيث شبّه ترتّب كونه عدوّا و حزنا على الالتقاط بترتّب العلّة الغائية على معلولها، فاستعمل فيه اللّام الموضوعة للعليّة، و فيما نحن فيه أيضا لمّا كان طول المدّة سببا لتماديهم في الغيّ و الغفلة، و فعلهم للآثام و المعاصي بسوء اختيارهم، و كان فعل المعاصى جالبا لكمال الخزى، و موجبا لتغيّر النّعم، فجعلوا بفعلهم للمعاصي بمنزلة الطّالبين لكمال الخزى، ثمّ رتّب استكمال الخزى على طول الأمد و استعمل اللّام الموضوعة للعليّة فيه و مثله قوله تعالى: «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ».

و محصّل المرام أنّهم بطول بقائهم في الدّنيا ركبوا الذّنوب و المعاصي، فاستحقّوا بذلك الخزى و النّكال، و استوجبوا تغير النّعمة بسوء الأعمال‏ لأنّ «اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» قال «فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ، وَ شَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا».

(حتّى إذا اخلولق الأجل) قال الشّارح البحراني: أى صار خليقا، و ليس بشي‏ء، لأنّ اخلولق لم يذكر له إلّا الفاعل فهو فعل تامّ بمعنى قرب، و ما ذكره معنى اخلولق إذا ذكر له اسم و خبر و كان فعلا ناقصا مثل: اخلولق السّماء أن تمطر أى صار خليقا للأمطار، و كيف كان فالمراد أنّه قرب انقضاء مدّة هؤلاء الضّالين المستكملين للخزى و المستوجبين للغير.

(و استراح قوم إلى الفتن) أى مال و صبا قوم من الشّيعة و أهل البصرة إلى فتن تلك الفئة الضّالّة، و وجدوا الرّاحة لأنفسهم في توجّههم إليها (و اشتالوا عن لقاح حربهم) أى رفع هؤلاء المستريحون أنفسهم عن تهيّج الحرب بينهم و بين هذه الفئة، و شبّه الحرب بالنّاقة اللّاقح و أثبت لها اللّقاح تخييلا، و المراد أنّهم تركوا محاربتهم و رفعوا أيديهم عن سيوفهم إمّا لعجزهم عن القتال أو لعدم قيام القائم بالأمر فهادنوهم و ألقوا اليهم السّلم.

حالكونهم (لم يمنّوا على اللَّه بالصّبر) على مشاقّ القتال، و في رواية: بالنّصر، أى بنصرهم للَّه (و لم يستعظموا بذل أنفسهم في) طلب (الحقّ) و نصرته (حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء) أى ورد القضاء الالهي بانقطاع بلاء هذه الفئة الضّالة و انقضاء ملكهم و أمارتهم و أذن اللَّه في استيصالهم بظهور من يقوم بنصر الحقّ و دعوته اليه (حملوا) أى هؤلاء المستريحون إلى الفتن (بصائرهم على أسيافهم) لحرب أهل الضّلال، قال الشّارح المعتزلي: و هذا معنى لطيف، يعني أنّهم أظهروا بصائرهم و عقايد قلوبهم للنّاس و كشفوها و جرّدوها من أجفانها مع تجريد السّيوف من أجفانها فكأنها شي‏ء محمول على السيوف يبصره من يبصر السيوف، فترى في‏غاية الجلاء و الظهور كما ترى السيوف المجرّدة (و دانوا لربّهم بأمر و اعظهم) أشار به إلى الامام القائم عجّل اللَّه ظهوره، هذا.

و للشّراح في شرح هذا الفصل من كلامه عليه السّلام اضطراب عظيم، و تحيّروا في مراجع الضمائر الموجودة فيه، و اضطرّوا في إصلاح نظم الكلام إلى التأويلات الباردة التي يشمئزّ عنها الأفهام، و نحن شرحناه بحمد اللَّه على ما لا يخرجه من السلاسة و النظم بمقتضى سليقتنا، و العلم بعد موكول إلى صاحب الكلام عليه السّلام

الفصل الثالث

في اقتصاص حال المرتدّين بعد قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و ظاهر هذا الفصل يعطى أن يكون قبله كلام أسقطه الرّضىّ حتى يكون هذا الكلام غاية له، و إلّا فلا ارتباط له بالفصل المتقدّم.
يقول عليه السّلام: (حتّى إذا قبض اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجع قوم على الأعقاب) و تركوا ما كانوا عليه من الانقياد للشريعة و امتثال أوامر اللَّه و رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و المراد بهؤلاء القوم الغاصبون للخلافة و متّبعوهم و المقتفون اثرهم (و غالتهم السبل) أى أهلكتهم سبل الضلال و عدو لهم عن سبيل الحقّ قال سبحانه: «وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ».

و قد فسّر السبيل في هذه الآية و في غير واحد من الآيات بالأئمة و ولايتهم، و فسّر السبل بأئمة الضلال و ولايتهم و قد مضى طرف من الأخبار في هذا المعنى في شرح الفصل الثاني من الكلام السابع عشر و أقول هنا: روى في البحار من تفسير فرات بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد الفزارى معنعنا عن حمران، قال سمعت أبا جعفر يقول في قول اللَّه: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ».

قال: عليّ بن أبي طالب و الأئمة من ولد فاطمة عليهم السّلام هم صراط اللَّه، فمن أتاهم سلك السبيل و من كنز جامع الفوايد و تأويل الآيات عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النضر عن يحيى الحلبي عن أبي بصير عن أبي جعفر في قوله: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ».

قال: طريق الامامة فاتّبعوهوَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ».أى طرقا غيرها.و عن محمّد بن القاسم عن السيارى عن محمّد بن خالد عن حماد عن حريز عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنه قال قوله عزّ و جلّ: «يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا».

يعني عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و من تفسير الامام قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: ما من عبد و لا أمة اعطى بيعة أمير المؤمنين عليه السّلام في الظاهر و نكثها في الباطن و أقام على نفاقه إلّا و إذا جاءه ملك الموت لقبض روحه تمثّل له إبليس و أعوانه، و تمثّلت النيران و أصناف عفاريتها لعينيه و قلبه و مقاعده مقاعد الناكث من مضايقها، و تمثّل له أيضا الجنان و منازله فيها لو كان بقى على ايمانه و وفي بيعته فيقول له ملك الموت: انظر إلى تلك الجنان التي لا يقادر قدر سرّائها و بهجتها و سرورها إلّا اللَّه ربّ العالمين كانت معدّة لك، فلو كنت بقيت على ولايتك لأخى محمّد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كان يكون إليها مصيرك يوم فصل القضاء، و لكن نكثت و خالفت فتلك النيران و أصناف عذابها و زبانيتها و أفاعيها الفاغرة أفواهها و عقاربها الناصبة أذنابها و سباعها الثائلة مخالبها و ساير أصناف عذابها هو لك و إليها مصيرك فعند ذلك يقول:«وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى‏ يَدَيْهِ».
و قبلت ما أمرني به و التزمت من موالاة عليّ عليه السّلام ما ألزمنى.

(و اتكلوا على الولايج) أى اعتمدوا في آرائهم الفاسدة و بدعهم المبتدعة على أهلهم و خواصّهم في نصرة ذلك الرّأى و ترويج تلك البدعة (و وصلوا غير الرّحم) أى رحم آل محمّد و اللّام عوض عن المضاف إليه يعني أنّهم قطعوا رحم الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله بحسبانهم أنّها لا تنفع، و وصلوا غيرها لانتفاعهم في دنياهم بها.

و هؤلاء هم الّذين أشار إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في الحديث المرويّ في البحار من أمالي الشّيخ و ابنه عن المفيد معنعنا عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يقول على المنبر: ما بال أقوام يقولون إنّ رحم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا ينفع يوم القيامة، بلى و اللَّه إنّ رحمي لموصولة في الدّنيا و الآخرة، و إنّي أيّها النّاس فرطكم يوم القيامة على الحوض، فاذا جئتم قال الرّجل يا رسول اللَّه أنا فلان بن فلان فأقول: أمّا النّسب فقد عرفته و لكنّكم أخذتم بعدى ذات الشّمال و ارتددتم على أعقابكم القهقرى.

و فيه منه باسناده عن حمزة بن أبي سعيد الخدرى أيضا عن أبيه عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: أ تزعمون أنّ رحم نبيّ اللَّه لا ينفع قومه يوم القيامة بلى و اللَّه إنّ رحمي لموصولة في الدّنيا و الآخرة، ثمّ قال: يا أيّها النّاس أنا فرطكم على الحوض فاذا جئت و قام رجال يقولون يا نبيّ اللَّه أنا فلان بن فلان، و قال آخر يا نبيّ اللَّه أنا فلان بن فلان، و قال آخر يا نبيّ اللَّه أنا فلان بن فلان، فأقول: أمّا النّسب فقد عرفت و لكنّكم أحدثتم بعدى و ارتددتم القهقرى قال العلّامة المجلسيّ بعد رواية هذا الحديث: الظّاهر أنّ المراد بالثلاثة الثّلاثة.

(و هجروا السبب الّذى أمروا بمودّته) أراد بهم آل محمّد عليهم السّلام أيضا لكونهم سببا لمن اهتدى بهم في الوصول إلى اللَّه سبحانه.

و يدلّ عليه ما رواه في البحار من أمالى الشّيخ و ابنه بسنده عن محمّد بن المثنى الأزدي أنّه سمع أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول. نحن السّبب بينكم و بين اللَّه عزّ و جلّ و قد أمرنا اللَّه بمودّتهم في قوله: «ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا».

و قال رسول اللَّه في مروىّ البحار من كتاب العمدة من مناقب الفقيه ابن المغازلي الشّافعي باسناده إلى ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: لمّا خلق اللَّه الخلق اختار العرب فاختار قريشا و اختار بني هاشم فأنا خيرة من خيرة، ألا فأحبّوا قريشا و لا تبغضوها فتهلكوا، ألا كلّ سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا سببى و نسبي، ألا و إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من نسبى و حسبي فمن أحبّه فقد أحبّني و من أبغضه فقد أبغضني.

قال الشّارح المعتزلي في شرح قوله: و هجروا السّبب: يعني أهل البيت، و هذا إشارة إلى قول النّبي صلّى اللَّه عليه و آله: خلفت فيكم الثقلين: كتاب اللَّه و عترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان من السّماء إلى الأرض لا يفترقان حتّى يردا علىّ الحوض فعبّر أمير المؤمنين عن أهل البيت بلفظ السّبب لما كان النبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: حبلان، و السبب في اللغة الحبل، انتهى.

أقول: و قد استعير لهم عليهم السّلام لفظ الحبل في غير واحد من الآيات، قال شيخنا أبو عليّ الطبرسي في تفسير قوله تعالى: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» قيل في معنى حبل اللَّه أقوال: أحدها أنّه القرآن ثانيها أنّه دين الاسلام و ثالثها ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: نحن حبل اللَّه الذي قال: و اعتصموا بحبل اللَّه جميعا، و الأولى حمله على الجميع.

و الّذي يؤيّده ما رواه أبو سعيد الخدرى عن النّبيّ أنّه قال: يا أيّها النّاس إنّي قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أحدهما اكبر من الآخر كتاب اللَّه حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي ألا و إنّهما لن‏يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض.

و في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم في هذه الآية قال: التّوحيد و الولاية و في رواية أبي الجارود في قوله تعالى: «وَ لا تَفَرَّقُوا»، قال: إنّ اللَّه تبارك و تعالى علم أنّهم سيفترقون بعد نبيّهم و يختلفون، فنهاهم اللَّه عن التفرّق كما نهى من كان قبلهم، فأمرهم أن يجتمعوا على ولاية آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و لا يتفرّقوا.
و في البحار أيضا من كنز جامع الفوايد و تأويل الآيات رواية عن صاحب نهج الايمان، عن الحسين بن جبير باسناده إلى أبي جعفر الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: «إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ».
قال: حبل من اللَّه كتاب اللَّه، و حبل من النّاس عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و فيه من الكتاب المذكور أيضا مسندا عن حصين بن مخارق عن أبي الحسن موسى عن آبائه عليهم السّلام في قوله عزّ و جلّ: «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏».
قال: مودّتنا أهل البيت.
و في الصّافي من معاني الأخبار عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى الّتي لا انفصام لها فليستمسك بولاية أخي و وصيّي عليّ بن أبي طالب فانّه لا يهلك من أحبّه و تولاه، و لا ينجو من أبغضه و عاداه.
(و نقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه) أى نقلوا بناء الدّين و الايمان عن أساسه المرصوص المستحكم اللّاصق بعضه ببعض، فبنوه في غير موضعه و هو اشارة إلى عدو لهم بالخلافة عن أصلها و مكانها اللّايق به إلى غيره، و هو توبيخ و تفريع آخر لأولئك المنافقين بعد و لهم عن أولياء المؤمنين و أئمة الدّين، كما و بخّ اللَّه اخوانهم في هذا المعنى بقوله:

«أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ تَقْوى‏ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ».
يعني أنّ المحقّ اسّس بنيان دينه على قاعدة محكمة و أساس وثيق و هو الحقّ الّذي هو التّقوى من اللَّه و طلب مرضاته بالطّاعة، و المبطل أسّس بنيانه على قاعدة هي أضعف القواعد و هو الباطل و النّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلّة الثّبات فهوى به الباطل في نار جهنّم.

ثمّ وصفهم، بأوصاف اخرى فقال (معادن كلّ خطيئة) قال الشّارح البحراني أى إنّهم مستعدّون لفعل كلّ خطيئة و مهيّؤن لها، فهم مظانّها، و لفظ المعادن استعارة، انتهى.
أقول: و الظّاهر أنّ المراد أنّهم معدن كلّ خطيئة صدرت من هذه الامّة و أصل كلّ ذنب واقع منهم و منشاه و مبدء الشّرور و المساوى، و ذلك باغتصابهم للخلافة إذ لو استقرّت في أهلها أعنى أهل بيت العصمة و الطهارة لحملوا النّاس على الحنيفيّة البيضاء، و جرى الامور على وفق الحقّ فضّلوا و أضلّوا.

«وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» روى في الصّافى عن العيّاشي عن الباقر عليه السّلام ما ذا أنزل ربّكم في عليّ قالوا: أساطير الأوّلين سجع أهل الجاهليّة في جاهليّتهم ليحملوا أوزارهم ليستكملوا الكفر ليوم القيامة و من أوزار الّذين يضلّونهم يعني كفر الّذين يتولّونهم و عن عليّ بن إبراهيم القمّي قال: يحملون آثامهم يعني الّذين غصبوا امير المؤمنين و آثام كلّ من اقتدى بهم، و هو قول الصّادق عليه السّلام: و اللَّه ما اهريقت‏ محجمة من دم و لا قرع عصا بعصا و لا غصب فرج حرام و لا اخذ مال من غير حلّه إلّا و زر ذلك في أعناقهما من غير أن ينقص من أوزار العاملين شي‏ء.

و في حديث مفضّل بن عمر الوارد في الرّجعة عن الصّادق عليه السّلام بعد اقتصاصه مسير المهدي عليه السّلام إلى قبر جدّه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و إخراجه بضجيعيه و أمره بصلبهما قال: فيأمر المهدى ريحا فتجعلهم كأعجاز نخل خاوية، ثمّ يأمر بانزالهما فينزلان فيحييهما باذن اللَّه تعالى و يأمر الخلايق بالاجتماع، ثمّ يقصّ عليهم قمص أفعالهم في كلّ كور و دور حتّى يقصّ عليهم قتل هابيل بن آدم عليه السّلام، و جمع النّار لابراهيم، و طرح يوسف في الجبّ، و حبس يونس في بطن الحوت، و قتل يحيى، و صلب عيسى، و عذاب جرجيس، و دانيال، و ضرب سلمان الفارسى، و اشعال النّار على باب أمير المؤمنين و فاطمة و الحسنين عليهم السّلام و إرادة إحراقهم بابها، و ضرب صديقة الكبرى فاطمة الزّهراء بسوط، و رفس بطنها و إسقاطها محسنا، و سمّ الحسن عليه السّلام، و قتل الحسين و ذبح أطفاله و بني عمّه و أنصاره و سبى ذرارى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و إراقة دماء آل محمّد، و كلّ دم مؤمن، و كلّ فرج نكح حراما، و كلّ ربا اكل، و كلّ خبث و فاحشة و ظلم منذ عهد آدم إلى قيام قائمنا، كلّ ذلك يعد ده عليهما و يلزمهما إيّاه و يعترفان به ثمّ يأمر بهما فيقتصّ منهما في ذلك الوقت مظالم من حضر، الحديث.

(و) بما ذكرنا ظهر أيضا أنّهم (أبواب كلّ ضارب في غمرة) يعني أنّ كلّ من أراد الباطل و الضّلال فليقصد هؤلاء و ليرمق أعمالهم و ليتّبع آثارهم، إذ كلّ ضلال قد خرج منهم و انتشر في مشارق الأرض و مغاربها، فهم أبواب الضلال كما أنّ الأئمة عليهم السّلام أبواب الهدى.
روى في البحار من كنز جامع الفوايد و تأويل الآيات عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابه رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ».

قال: هو الأوّل ثاني عطفه إلى الثّاني، و ذلك لما أقام رسول اللَّه أمير المؤمنين علما للناس و قال: و اللَّه لا نفى بهذه له أبدا (قد ماروا في الحيرة) أى تردّدوا في أمرهم، فهم حائرون تائهون لا يعرفون جهة الحقّ فيقصدونه، و ذلك بعدو لهم عن أئمة الدين و أدلّاء الشّرع المبين.

روى العلّامة المجلسيّ من كتاب المحاسن عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن العلا عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ من دان اللَّه بعبادة يجهد فيها نفسه بلا إمام عادل من اللَّه فانّ سعيه غير مقبول، و هو ضالّ متحيّر، و مثله كمثل شاة ضلّت عن راعيها و قطيعها فتاهت ذاهبة و جائية يومها، فلمّا أن جنّها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها فجاءت إليها فباتت معها في ربضها«»، فلمّا أن ساق الرّاعي قطيعه أنكرت راعيها و قطيعها فهجمت متحيّرة تطلب راعيها و قطيعها، فبصرت بسرح«» قطيع غنم آخر فعمدت نحوها و حنّت إليها، فصاح بها الرّاعي: ألحقى بقطيعك فانّك تائهة متحيّرة قد ضللت عن راعيك و قطيعك فهجمت زعرة متحيّرة لا راعى لها يرشدها إلى مرعاها أو يردّها، فبينا هى كذلك إذا اغتنم الذّئب ضيعتها فأكلها، و هكذا يا محمّد بن مسلم من أصبح من هذه الامّة لا إمام له من اللَّه عادل أصبح تائها متحيّرا إن مات على حاله تلك مات ميتة كفر و نفاق، و اعلم يا محمّد أنّ أئمة الحقّ و أتباعهم على دين اللَّه.

و قد تقدّمت هذه الرّواية في التّذنيب الثّالث من شرح الفصل الرّابع من الخطبة الاولى برواية الكافي و أوردتها هنا لاقتضاء المقام، و توضيح كلام الامام عليه السّلام (و ذهلوا في السّكرة) أى غابت أذهانهم في سكرة الجهل (على سنّة من آل فرعون) أى على طريقة اتباع فرعون الّذين قال اللَّه فيهم: «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» كما أنّ الأئمة عليهم السّلام على سنّة آل موسى و شيعته، و المراد أنّهم‏ على طريقة أهل الظلم و الضّلال كما أنّ الأئمة عليهم السّلام على طريقة أهل العدل و الهدى.

و قد صرّحوا بذلك في غير واحد من الرّوايات مثل ما في البحار عن العياشي عن أبي الصّباح الكناني قال: نظر أبو جعفر إلى أبي عبد اللَّه عليهما السّلام فقال: هذا و اللَّه من الذين قال اللَّه: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ». الآية و قال سيّد العابدين عليّ بن الحسين عليهما السّلام: و الذي بعث محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ الأبرار منّا أهل البيت و شيعتهم بمنزلة موسى و شيعته، و إنّ عدوّنا و أشياعهم بمنزلة فرعون و أشياعه.

و فيه من تفسير فرات بن إبراهيم عن الحسين بن سعيد باسناده عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: من أراد أن يسأل عن أمرنا و أمر القوم فانا. و أشياعنا يوم خلق اللَّه السّموات و الأرض على سنّة موسى و أشياعه، و إنّ عدوّنا يوم خلق اللَّه السّموات و الأرض على سنّة فرعون و أشياعه، فنزلت فينا هذه الآيات: «نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى‏ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ».

و إنّي اقسم بالّذى خلق «فلق ظ» الحبّة و برى‏ء النّسمة ليعطفنّ عليكم هؤلاء عطف الضّروس«» على ولدها.
و فيه عن عليّ بن إبراهيم قال: حدّثني أبي عن النّضر عن ابن حميد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: لقى المنهال بن عمرو عليّ بن الحسين صلوات اللَّه عليهما فقال له: كيف أصبحت يا ابن رسول اللَّه قال: ويحك أما آن لك أن تعلم كيف أصبحت أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبّحون أبنائنا و يستحيون نسائنا (من منقطع إلى الدّنيا راكن أو مفارق للدّين مباين) أو لمنع الخلوّ يعني أنّ صنفا منهم منقطع إلى الدّنيا منهمك في لذّاتها مكبّ على شهواتها، و الصّنف الآخر مفارق للدّين مزايل له و إن لم يكن له دنيا كما ترى كثيرا من أحبار النّصارى و رهبانهم، يتركون الدّنيا و يزهدون فيها و هم من أهل الضّلال.

تنبيه

قال الشّارح المعتزليّ في شرح هذا الفصل الأخير من الخطبة: فان قلت: أليس الفصل صريحا في تحقيق مذهب الاماميّة قلت: لا، بل نحمله على أنّه عنى عليه السّلام أعدائه الّذين حاربوه من قريش و غيرهم من افناء العرب في أيّام صفّين، و هم الّذين نقلوا البناء، و هجروا السّبب و وصلوا غير الرّحم، و اتّكلوا على الولايج، و غالتهم السّبل، و رجعوا على الأعقاب كعمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و مروان بن الحكم و الوليد بن عقبة و حبيب بن مسلمة و بسر بن أرطاة و عبد اللَّه بن الزّبير و سعيد بن العاص و جوشب، و ذى الكلاع و شرجيل بن الصمت و أبي الأعور السّلمى و غيرهم ممّن تقدّم ذكرنا لهم في الفصول المتعلّقة بصفين و أخبارها، فانّ هؤلاء نقلوا الامامة عنه عليه السّلام إلى معاوية، فنقلوا البناء عن رصّ أصله إلى غير موضعه.

فان قلت: لفظ الفصل يشهد بخلاف ما تأوّلته لأنّه عليه السّلام قال: حتّى إذاقبض اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجع قوم على الأعقاب، فجعل رجوعهم على الأعقاب عقيب قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و ما ذكرته أنت كان بعد قبض الرّسول بنيّف و عشرين سنة قلت: ليس يمتنع أن يكون هؤلاء المذكورون رجعوا على الأعقاب لمّا مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و أضمروا في أنفسهم مشاقّة أمير المؤمنين عليه السّلام و أذاه، و قد كان فيهم من يتحكّك به في أيام أبي بكر و عمر و عثمان و يتعرّض له و لم يكن أحد منهم و لا من غيرهم تقدّم على ذلك في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، و لا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدادهم عن الاسلام بالكلّية، فانّ كثيرا من أصحابنا يطعنون في ايمان بعض من ذكرناه، و يعدّونهم من المنافقين، و قد كان سيف رسول اللَّه يقمعهم و يردعهم عن إظهار ما في أنفسهم من النفاق، فأظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه من ذلك خصوصا فيما يتعلّق بأمير المؤمنين الّذي ورد في حقّه: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إلّا ببغض عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و هو خبر محقّق مذكور في الصّحاح.

فان قلت: يمنعك من هذا التّأويل قوله: و نقلوا البناء عن رصّ أساسه فجعلوه في غير موضعه، و ذلك لأنّ إذا ظرف و العامل فيها قوله: رجع قوم على الأعقاب، و قد عطف عليه قوله: و نقلوا البناء، فاذا كان الرّجوع على الأعقاب واقعا في الظرف المذكور و هو وقت قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله وجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في ذلك الوقت أيضا، لأنّ أحد الفعلين معطوف على الآخر، و لم ينقل أحد وقت قبض الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله البناء إلى معاوية عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و إنّما نقل عنه إلى شخص آخر و في إعطاء العطف حقّه إثبات مذهب الاماميّة صريحا.

قلت: إذا كان الرّجوع على الأعقاب واقعا وقت قبض النّبي صلّى اللَّه عليه و آله فقد قلنا بما يجب من وجود عامل في الظرف، و لا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في تلك الحال أيضا بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر إمّا بأن يكون الواو للاستيناف لا للعطف، أو بأن يكون العطف في مطلق الحدث لا في وقوع الحدث في عين ذلك الزّمان المخصّص كقوله تعالى:«حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ».

فالعامل في الظرف استطعما، و يجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلها لا محالة، و لا يجب أن يكون جميع الأفعال المذكورة المعطوفة واقعة حال الاتيان أيضا، ألا ترى أنّ من جملتها، فأقامه، و لم يكن إقامة الجدار حال إتيانهما القرية بل متراخيا عنه بزمان ما اللّهم إلّا أن يقول قائل أشار بيده إلى الجدار فقام، أو قال له قم فقام، لأنّه لا يمكن أن يجعل إقامة الجدار مقارنا للاتيان إلّا على هذا الوجه، و هذا لم يكن و لا قاله مفسّر، و لو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له: لو شئت لا تّخذت عليه أجرا لأنّ الأجر إنّما يكون على اعتمال عمل فيه مشقّة و إنّما يكون فيه مشقّة إذا بناه بيده و باشره بجوارحه و أعضائه.

قال الشّارح: و اعلم أنّا نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على ما يقتضيه سودده الجليل و منصبه، و دينه القويم من الاغضاء عمّا سلف ممّن سلف، فقد صاحبهم بالمعروف برهة من الدّهر، فامّا أن يكون ما كانوا فيه حقّهم أو حقّه فتركه لهم رفعا لنفسه عن المنازعة أو لما رآه من المصلحة، و على تحمّلى التّقديرين فالواجب علينا أن نطبق بين آخر أفعاله و أقواله بالنّسبة اليهم و بين أوّلها، فان بعد تأويل من يتأوّل كلامه فليس بأبعد من تأويل أهل التّوحيد و العدل الآيات المتشابهة في القرآن، و لم يمنع بعدها من الخوض في تأويلها محافظة على الاصول المقرّرة فكذلك ههنا، انتهى كلامه هبط مقامه.

أقول: و أنت خبير بما فيه من وجوه الكلام و ضروب الملام اما اولا فلأنّ قوله: لا بل نحمله على أنّه عنى أعداءه الّذين حاربوه من قريش و غيرهم في أيّام صفّين، فيه أنّه لا وجه لهذا الحمل بل ظاهر كلامه عليه السّلام بمقتضى الاطلاق يشمل كلّ من اتّصف بالأوصاف الّتي ذكره عليه السّلام، و من المعلوم أنّ اتّصاف المتخلّفين الثلاثة و متبعيهم بالأوصاف المذكورة أظهر و أشهر من اتّصاف أهل‏صفّين بها، لأنّهم أوّل من فتح باب غصب الخلافة و نقلوها عن أمير المؤمنين عليه السّلام إلى أنفسهم و تبعهم أشياعهم فنقلوها عنه عليه السّلام إليهم.

بل أقول: انّه لو لا جسارة الثّاني على إحراق باب بيت النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و إخراج أمير المؤمنين عليه السّلام من البيت للبيعة ملبّبا و ضربه لفاطمة عليها السّلام و كسره ضلعها، و غصب فدك و قطعه لرحم الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و هتكه لناموس أهل بيته، لم يجسر أحد على معارضة أمير المؤمنين عليه السّلام، و لم يخطر على قلب أحد نزع الخلافة عنه عليه السّلام إلى نفسه، و لو لا تولية معاوية للشّام و رضاه بظلمه و جوره و أفعاله المخالفة للشّريعة، و تشييده بصنعه لم يطمع معاوية في الأمارة و الخلافة و النّهوض لقتال عليّ عليه السّلام، فكلّ فتنة و فساد و أمر مخالف للدّين و لسنّة سيد المرسلين من فروع تلك الشجرة الملعونة على ما عرفته في شرح الكلام المأة و السّادس و العشرين.

و بالجملة فكلامه عليه السّلام بحكم الاصول و القواعد اللّفظية العموم و الاطلاق، و حمله على طائفة مخصوصة خلاف الأصل لا يصار إليه إلّا بدليل و ليس فليس.
و أما ثانيا فلأنّ قوله: قلت ليس يمتنع أن يكون هولاء المذكورون رجعوا على الأعقاب لمّا مات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أضمروا في أنفسهم آه فيه إنّ هؤلاء إن كانوا رجعوا على الأعقاب حين موته و أضمروا في أنفسهم مشاقة أمير المؤمنين عليه السّلام و أذاه فالّذين ذكرناهم أعنى الثلاثة و أشياعهم قد رجعوا على الأعقاب أيضا و أبدوا مشاقته و أذاه عقيب موته صلوات اللَّه عليه و آله، يشهدك على ذلك إحراقهم بابه و إخراجهم له من بيته ملبّبا و تدبيرهم لقتله على يد خالد بن الوليد كما روته العامّة و الخاصّة.
و يشهد به أيضا ما رواه الشّارح في الشّرح في غير هذا المقام.

قال: روى كثير من المحدّثين أنّ عليّا عقيب يوم السّقيفة تظلّم و تألّم و استنجد و استصرخ حيث ساموه إلى الحضور و البيعة و أنّه قال و هو يشير إلى القبر: يا نبيّ إنّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني، و أنّه قال: وا جعفراه و لا جعفر لى اليوم‏وا حمزتاه و لا حمزة لى اليوم.

و بهذا كلّه يظهر لك أنّ رجوع من ذكرناه على الأعقاب مع نصبهم العداوة لأمير المؤمنين عليه السّلام و إعلانهم بالمشاقة و الأذى له أظهر من رجوع غيرهم ممّن ذكره الشّارح مع إخفائهم له، و مع هذا فصرف كلام الامام عليه السّلام إلى الآخرين دون الأوّلين لا وجه له.

و أما ثالثا فانّ قوله: و لا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدادهم عن الاسلام بالكليّة حقّ لا ريب فيه، و لكن قوله: فانّ كثيرا من أصحابنا يطعنون في ايمان بعض ما ذكرناه و يعدّونهم من المنافقين، فيه أنّ تخصيص الارتداد و النّفاق ببعض من ذكره لا وجه له، بل كلّ من ذكره و ذكرناه مطعون منافق ملعون.

و قد ورد في غير واحد من أحاديثنا و إن لم يكن حجّة على العامّة، ارتدّ النّاس إلّا ثلاثة نفر: سلمان، و أبو ذر، و المقداد.
و روى في غاية المرام عن ابن شهر آشوب من طريق العامّة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ».

يعني بالشّاكرين عليّ بن أبي طالب، و المرتدّين على أعقابهم الّذين ارتدّوا عنه.
فقد ظهر بذلك أنّ الارتداد عن الاسلام في الحقيقة هو الارتداد عن أمير المؤمنين فكلّ من ارتدّ عنه فقد ارتدّ عنه، و التّخصيص بقوم دون قوم تعسّف و تعصّب.
و أما رابعا فانّ قوله: بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر، بعيد و جعل الواو للاستيناف سخيف، و العطف في مطلق الحدث خلاف الظّاهر، و القياس على الآية فاسد، لأنّ العاطف هنا هي الواو، و هى للجمع و التّشريك، و الكلام من‏باب التنازع، فيدلّ على وقوع الجملات المتعاطفة في زمان القبض إن قلنا إنّ العامل في إذا الشرطيّة هو الجواب دون الشّرط، و أمّا الآية فالعاطف فيها هي الفاء و هي تفيد التّرتيب و التّعقيب، فلا يلزم من عدم وقوع إقامة الجدار حين الاتيان هناك عدم وقوع نقل البناء حين القبض فيما نحن فيه.

و التّحقيق أنّ قوله: فأقامه، عطف على قوله: فوجدا، و ليس عطفا على استطعما، فلا يلزم عمله في الظّرف لأنّ المعطوف على المعطوف على الجواب لا يجب أن يكون مشتركا للجواب في جميع الأحكام و عاملا فيما يعمله، بخلاف المعطوف على نفس الجواب.

و هذا كلّه مبنيّ على التنزّل و المماشاة، و إلّا فنقول: إنّ إقامة الجدار قد كانت حال إتيان القرية و التراخى بزمان ما لا ينافيه، لأنّهم قد صرّحوا في إفادة الفاء للتعقيب أنّه في كلّ شي‏ء بحسبه، فيقال: تزوّج فلان فولد له ولد، إذا لم يكن بينهما إلّا مدّة الحمل، و دخلت البغداد فالبصرة إذا لم يقم في بغداد و لم يتوقّف بين البلدين.

هذا على قول بعض المفسّرين من أنّه نقض الجدار و بناه، و أمّا على قول من قال إنّه أقامه بيده، و كذا على قول من قال: إنّه مسحه بيده فقام، كما رواه في الكشّاف و غيره عن البعض الآخرين فلا يكون هناك تراخ أصلا، إذ لا فرق بين الاشارة باليد كما فرضه الشّارح و بين المسح بها كما رواه الزّمخشري.

ثمّ استبعاد الشّارح لذلك بأنّه لو كان على هذا الوجه لم يستحقّ اجرة لأنّ الاجرة إنّما يكون على اعتمال عمل فيه مشقّة، مدفوع بأنّ الاجرة إنّما هى على عمل فيه منفعة للغير سواء كان فيه مشقّة أم لا، لا سيّما عمل له منفعة عظيمة مثل إقامة الجدار، فقد قيل كما في الكشّاف: إنّ طوله في السّماء مأئة ذراع.

و أما خامسا فانّ قوله: و اعلم أنّا نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام آه، تمويه باطل بصورة الحقّ، فانّ سودد أمير المؤمنين عليه السّلام و منصبه و حلمه إنّما كان مقتضيا للعفو و الصّفح و الاغضاء و الاغماض فيما يتعلّق بأمر الدّنيا، و قد كان عليه السّلام‏ كذلك حسبما عرفت من مكارم أخلاقه في تضاعيف الشّرح و تعرفه بعد ذلك في مواقعه انشاء اللَّه أيضا، و أمّا أمر الدّين و ما فيه صلاح الشّرع المبين فلا يجوز له فيه الاغضاء و الاغماض أصلا، بل لا بدّ له من باب اللّطف و الأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر التّنبيه على هفوات المتخلّفين الضالين المضلّين الغاصبين للخلافة من دون أن يأخذه في اللَّه لومة لائم، ليتنبّه النّاس من مراقد الغفلة، و يلتفتوا إلى سوء ما فعلوه من البدعات المبتدعة، و يرتدعوا عن حسن الاعتقاد و الظنّ لهم، و لا يتّخذوا من دون اللَّه و لا رسوله و لا المؤمنين وليجة.

و أما سادسا فانّ قوله: فان بعد ذلك فليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد و العدل الآيات المتشابهة، فيه أنّ تأويلنا للآيات المتشابهة مثل قوله «وَ جاءَ رَبُّكَ» و «إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ» و «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏» و نحوها إنما هو لقيام الأدلّة القاطعة و البراهين العقلية و النقلية و الاصول المحكمة الملجئة لنا على التأويل، و أما فيما نحن فيه فأيّ دليل و برهان و داع دعى إلى التأويل و أىّ أصل محكم اقتضى ذلك لو لم يقتض خلافه و غير خفيّ على الخبير المنصف المجانب للتعصّب و التعسّف أنّ أهل السّنّة حيث ضاق بهم الخناق لم يبق لهم إلّا التمسك بحسن الظنّ على السلف، و الحال أنّ الظنّ لا يغنى من الحقّ شيئا، و اللَّه الهادي إلى سواء السبيل.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن بزرگوار است كه اشاره فرموده در آن بواقعات عظيمه مى‏ فرمايد: و فرا گرفتند گمراهان امت طريق يمين و شمال و راه افراط و تفريط را در حالتى كه كوچ كنندگانند در راه جهل و ضلالت، و ترك نمايندگانند راه رشد و سعادت را، پس طلب ننمائيد بشتاب آنچه كه واقع شونده است و مهيا، و دير مشماريد آنچه كه مى‏ آورد آنرا فردا پس بسا بشتاب طلب كننده است چيزى را كه اگردرك نمايد آن را دوست مى‏ گيرد در نيافتن آن را، و چه نزديكست امروز بأوايل فردا.

اى قوم اين زمان وقت وارد شدن هر وعده داده شده است و وقت نزديكيست از طلوع و ظهور آنچه كه نمى‏شناسيد آن را در فتنه‏ هاى حادثه و علامات هائله، آگاه باشيد قسم بخدا بدرستى كسى كه درك نمايد آن فتنه‏ ها را از ما سير مى‏كند در ظلمتهاى آن فتنه‏ ها بچراغى كه نور بخشنده است، و رفتار مى‏كند در آن بقرار صالحان تا اين كه بگشايد در آن فتنه ‏ها ريسمانها را از گردن اسيران، و آزاد نمايد بندگان را از بندگى، و پراكنده سازد آنچه كه بهم پيوسته از منكرات، و بهم بست كند آنچه كه پاشيده شده از محسنات، آن شخص در پرده است از أنظار مردمان نمى ‏بيند صاحب قيافه أثر و نشانه آن را اگر چه امعان نظر نمايد.

پس از آن البته تيز ساخته شود در آن فتنه‏ ها طائفه بجهة قتال أهل ضلال يا بجهة كسب معارف و كمالات همچو تيز ساختن شمشير ساز شمشير را در حالتى كه جلا داده بشود با نور قرآن ديدهاى بصيرت آن طائفه، و انداخته شود تفسير قرآن در گوشهاى ايشان، و مى‏آشامند كاسه حكمت را در شبانگاه بعد از آشاميدن آن در چاشتگاه از جمله اين خطبه است كه مى ‏فرمايد: و طول يافت مدّت بآن أهل ضلال تا اين كه كامل نمايند ذلت و خوارى را، و مستحق باشند بتغيير نعمت پروردگار تا زمانى كه نزديك شد گذشتن آن عهد ميل كردند طايفه از أهل بصيرت بآن فتنه‏ ها، و بلند كردند دم را از آبستنى جنگشان در حالتى كه منت نگذاشتند به پروردگار با صبر نمودن در كار زار، و بزرگ نشمردند بخش كردن جانهاى خودشان را در راه حق تا زمانى كه موافقت نمود قضاء فرود آمده الهى با بريده شدن مدّت بلا، برداشتند أهل معرفت و بصيرت بصيرتهاى خودشان را بر شمشيرهاى خود، و تقرّب جستند بسوى پروردگار بفرمان واعظ خودشان.
تا زمانى كه قبض فرمود خداوند تبارك و تعالى روح رسول خود را بازگشتند

گروهى بر پاشنهاى خود بارتداد، و هلاك ساخت ايشان را طرق ضلالت، و اعتماد كردند بر خواص و انصار خود، و پيوستند بغير خويشان پيغمبر، و دورى گزيدند از سببى كه مامور شده بودند از جانب خدا بمحبّت آن، و نقل كردند بناى خلافت را از استوارى بنياد خود، پس بنا كردند آن را در غير محل و مكان خود.

ايشان معدنهاى هر خطا و ضلالتند، و درهاى هر در آمده در باطل و جهالت، بتحقيق كه متردّد شدند در حيرت، و غفلت ورزيدند در مستى جهالت بر طريقه آل فرعون و روش أتباع آن ملعون، هستند بعضى از ايشان منقطعند از عقبا بسوى دنيا مايلند بآن، و برخى مفارقند از دين خدا مباينند از آن.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 149 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)توصية قبل موته‏

خطبه 149 صبحی صالح

149- و من كلام له ( عليه ‏السلام  ) قبل موته‏

أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّ امْرِئٍ لَاقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ

الْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ

وَ الْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ

كَمْ أَطْرَدْتُ الْأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هَذَا الْأَمْرِ

فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا إِخْفَاءَهُ

هَيْهَاتَ عِلْمٌ مَخْزُونٌ

أَمَّا وَصِيَّتِي فَاللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً

وَ مُحَمَّداً ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ

أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ

وَ أَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ

وَ خَلَاكُمْ ذَمٌّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا

حُمِّلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ مَجْهُودَهُ

وَ خُفِّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ

رَبٌّ رَحِيمٌ وَ دِينٌ قَوِيمٌ وَ إِمَامٌ عَلِيمٌ

أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ

وَ أَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ

وَ غَداً مُفَارِقُكُمْ

غَفَرَ اللَّهُ لِي وَ لَكُمْ

إِنْ تَثْبُتِ الْوَطْأَةُ فِي هَذِهِ الْمَزَلَّةِ فَذَاكَ

وَ إِنْ تَدْحَضِ الْقَدَمُ فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفْيَاءِ أَغْصَانٍ وَ مَهَابِّ رِيَاحٍ وَ تَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ

اضْمَحَلَّ فِي الْجَوِّ مُتَلَفَّقُهَا

وَ عَفَا فِي الْأَرْضِ مَخَطُّهَا

وَ إِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً

وَ سَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلَاءً

سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاكٍ وَ صَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ

لِيَعِظْكُمْ هُدُوِّي وَ خُفُوتُ إِطْرَاقِي وَ سُكُونُ أَطْرَافِي

فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقِ‏ الْبَلِيغِ

وَ الْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ

وَدَاعِي لَكُمْ وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلَاقِي

غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي

وَ يُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي

وَ تَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَ قِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من كلام له عليه السّلام قبل موته

و هو المأة و التاسع و الاربعون من المختار فى باب الخطب.

و هو مرويّ في الكافي على اختلاف تطلع عليه أيّها النّاس كلّ امرء لاق ما يفرّ منه في فراره و الأجل مساق النّفس، و الهرب منه موافاته، كم اطّردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللَّه إلّا إخفائه، هيهات علم مخزون، أمّا وصيّتي‏ فاللَّه لا تشركوا به شيئا، و محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فلا تضيّعوا سنّته أقيموا هذين العمودين و أوقدوا هذين المصباحين، و خلاكم ذمّ ما لم تشردوا، حمل كلّ امرء منكم مجهوده، و خفّف عن الجهلة، ربّ رحيم، و دين قويم، و إمام عليم، أنا بالأمس صاحبكم و أنا اليوم عبرة لكم، و غدا مفارقكم، غفر اللَّه لي و لكم، إن ثبتت الوطأة في هذه المزلّة فذاك، و إن تدحض القدم فإنّا كنّا في أفياء أغصان و مهبّ رياح، و تحت ظلّ غمام اضمحلّ في الجوّ متلفّقها، و عفى في الأرض مخطّها، و إنّما كنت جارا جاوركم بدني أيّاما، و ستعقبون منّي جثّة خلاء ساكنة بعد حراك، و صامتة بعد نطوق ليعظكم هدويّ و خفوت أطراقي و سكون أطرافي فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ، و القول المسموع، و داعيكم وداع امرء مرصد للتّلاقي، غدا ترون أيّامي، و يكشف لكم عن سرائري، و تعرفونني بعد خلوّ مكاني، و قيام غيري مقامي.

اللغة

(الطّرد) الابعاد و تقول طزدته أى نفيته عنّي، و الطريدة ما طردته من صيد و غيره، و الطّريدان اللّيل و النهار، و أطردت الرّجل على صيغة الافعال، إذا أمرت باخراجه و (شرد) البعير شرودا من باب قعد ندّ و نفر، و الاسم الشراد بالكسر و (حمل كلّ امرء منكم مجهوده) في بعض النّسخ على البناء للمفعول من باب التّفعيل و رفع كلمة كلّ، و في بعضها على المعلوم من باب التفعيل أيضا و نصب كلّ، فالفاعل هو اللَّه سبحانه، و في بعضها حمل كضرب على المعلوم و رفع كلّ و (خفف) على بناء المجهول و (الوطأة) بالفتح موضع القدم و المرّة من الوطى و هو الدّوس بالرّجل.

و (دحض) الرّجل دحضا من باب منع زلق و زلّ و (الأفياء) جمع في‏ء و هو الظلّ الحادث بعد الزّوال و (مهبّ الرّياح) محلّ هبوبها و في بعض النّسخ و مهاب رياح بصيغة الجمع و (اضمحل) السّحاب تقشّع و الشي‏ء ذهب و فنى و (الجوّ) ما بين السّماء و الأرض و (متلفقّها) بكسر الفاء من تلفّق الشي‏ء انضمّ و التأم و لفقت الثّوب لفقأ من باب ضرب ضممت احدى شقتيه إلى الأخرى للخياطة و (المخطّ) بالخاء المعجمة ما يحدث في الأرض من الخطّ الفاصل بين الظلّ و النّور.

و (ستعقبون) بالبناء على المجهول من الاعقاب و هو اعطاء الشي‏ء عقيب الشي‏ء يقال أكل أكلة أعقبته سقما أى أورثته و (حراك) كسحاب الحركة و (هدوى) في بعض النّسخ بالهمز على الأصل و في بعضها بتشديد الواو بقلب الهمزة واوا و (خفت) الصّوت خفوتا سكن و (اطراقى) إمّا بكسر الهمزة من اطرق إطراقا أى أرخى عينيه إلى الأرض، أو بفتحها جمع طرق بالكسر بمعنى القوّة كما في القاموس، أو بالفتح و هو الضرب بالمطرقة، و قيل جمع طرقة بالفتح أى صنايع الكلام يقال: هذا طرقته أى صنعته و الأوّل أظهر و أضبط، و في بعض النّسخ أطرافي بالفاء فهو جمع الطرف بالتسكين و هو تحريك العين و الجفن إلّا أنّ جمعه لم يثبت إلّا عند القتيبى و قال الزّمخشري: الطّرف لا يثنى و لا يجمع لأنّه مصدر و كذا ذكره الجوهري.

و (سكون أطرافي) جمع الطرف بالتحريك كجمل و جمال، و المراد بها الأعضاء و الجوارح كاليدين و الرّجلين و (الوداع) بفتح الواو اسم من ودّعته توديعا و هو أن تشيعه عند سفره، و أمّا الوداع بالكسر فهو اسم من أودعته موادعة أى‏ صالحته و (رصدته) إذا قعدت له على طريقه تترقّبه و أرصدت له العقوبة أى أعددتها له و حقيقتها جعلها على طريقة كالمترقّبة له، و مرصد في بعض النّسخ على صيغة اسم المفعول فالفاعل هو اللَّه تعالى أو نفسه عليه السّلام، و في بعضها على صيغة اسم الفاعل فالمفعول نفسه عليه السّلام أو ما ينبغي اعداده و تهيئته.

الاعراب

قوله: في فراره متعلّق بقوله لاق، و جملة أبحثها منصوبة المحلّ على الحالية و علم مخزون خبر لمبتدأ محذوف أى ذلك العلم علم مخزون، و قوله: فاللَّه لا تشركوا به شيئا و محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله، منصوبان على الاضمار على شريطة التفسير، و في بعض النسخ بالرّفع على الابتداء و الأوّل أرجح كما قرّر في الأدبيّة لاستلزام الثّاني كون الجملة الطّبيّة خبرا فتأمّل، و قوله: و خلاكم ذمّ بالرّفع فاعل خلا أى عداكم و هي كلمة تجرى مجرى المثل.

قال الشّارح البحراني: و أوّل من قالها قصير مولى حذيمة حين حثّ عمرو بن عدى اخت حذيمة على طلب ثاره من الزّباء فقال له عمرو: و كيف لي بذلك و الزّباء أمنع من عقاب الجوّ، فقال له قصير اطلب الأمر و خلاك ذمّ.

و قوله: ربّ رحيم و دين قويم و إمام عليم، برفع الجميع على الخبر أى ربّكم ربّ رحيم و دينكم دين قويم و هكذا على الابتداء و الخبر محذوف أى لكم ربّ رحيم و دين قويم آه قال الشّارح المعتزلي: و من النّاس من يجعل ربّ رحيم فاعل خفّف على رواية من رويها فعلا معلوما، و ليس بمستحسن، لأنّ عطف الدين عليه يقتضي أن يكون الدّين أيضا مخففّا، و هذا لا يصحّ انتهى.

و قال المحدّث العلّامة المجلسيّ: إنّ في أكثر النّسخ خفف على بناء المعلوم فقوله: ربّ فاعله و لا يضرّ عطف الدّين و الامام عليه لشيوع التّجوّز في الاسناد.

أقول: و ههنا وجه آخر على رواية حمل و خفف بالبناء على المجهول، و هو أن يكون ربّ مرفوعا بفعل محذوف على حدّ قوله سبحانه: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ» على قراءة يسبح بصيغة المجهول، كأنّه قيل: من حمل و خفّف، فقال: ربّ رحيم و دين قويم، و هذا الوجه أيضا مبنيّ على التجوّز في الاسناد.

و قوله: ليعظكم بكسر اللّام و نصب الفعل كما في أكثر النّسخ، و يحتمل الجزم لكونه أمرا أو فتح اللّام و رفع الفعل أيضا.

و قوله: وداعيكم وداع امرء مرفوعان على المبتدأ و الخبر، و إضافة و داعى إلى ضمير المفعول أى وداعى إيّاكم، و في بعض النّسخ بنصب وداع، و في بعضها بجرّها، و كلاهما مبنىّ على حذف الخافض أى كوداع امرء فالنّصب على حدّ قوله تعالى «وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ» أى من قومه،

و الثاني على حدّ قول امرء القيس«أشارت كليب بالأكفّ الأصابع»أى إلى كليب، و في نسخة الشّارح المعتزلي و داعى لكم وداع امرء و روى فيها أيضا ودّعتكم وداع امرء على صيغة المتكلّم من باب التّفعيل، فالوداع منصوب بالمصدريّة و غدا ظرف للأفعال بعده.

المعنى

اعلم أنّ هذا الكلام قد قاله عليه السّلام لما ضربه ابن ملجم المرادي عليه لعائن اللَّه و هو مسوق فى معرض التوصية و التّذكير، فأيّة بالنّاس و نبّههم على لحوق ضرورة المنفور منه طبعا بقوله: (أيّها النّاس كلّ امرء لاق ما يفرّ منه في فراره) يعنى أنّ الانسان يفرّ من الموت ما دام حيّا، فهو في مدّة الفرار و هى الحياة الدّنيا يلاقي ما يفرّ منه البتّة كما قال تعالى «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ» (و الأجل مساق النّفس) يجوز أن يراد بالأجل غاية العمر كما في قوله تعالى «وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ» فيكون المساق بمعنى ما يساق إليه، و أن يراد به المدّة المضروبة لبقاء الانسان أعني مدّة العمر فيكون المساق بمعنى زمان السّوق، فانّ مدّة بقاء النّفس في هذا البدن مساق إلى غايتها.

(و الهرب منه) أى من الأجل بالمعنى الأوّل أو ممّا يفرّ منه إن اريد به المعنى الثاني (موافاته) لأنّ الهرب منه إنّما يكون بعلاج و حركة يفنى بهما بعض المدّة، و إفناء المدّة يلزمه الموافاة فأطلق لفظ الموافاة على الهرب من باب اطلاق اسم اللّازم على الملزوم، أو لأنّه إذا قدّر زوال عمر أو دولة فكلّ تدبير يدبّره الانسان يصير سببا لحصول ما يهرب منه كما أنّ كلّ دواء و معالجة إذا صادف قرب مجي‏ء الأجل يكون مضرّا بالبدن و إن كان بحيث اذا لم يصادفه كان نافعا مجرّبا عند الأطباء مع أنّ المرض و المزاج في كلتا الصّورتين واحد بناء على إبطال أفعال الطبيعة و أنّ نفع الأدوية إنّما هو فعل اللَّه تعالى عند الدّواء، و مع قطع النظر عن ذلك إذا صادف الدّواء الأجل يصير أحذق الأطباء عاجزا غافلا عمّا ينفع المريض، فيعطيه ما يضرّه و إذا لم يصادفه يلهم أجهل الأطبّاء بما ينفعه كما هو المجرّب.

و كيف كان فقوله عليه السّلام: و الهرب منه موافاته، جار مجرى المبالغة في عدم كون الفرار منجيا من الموت و عاصما عنه حتّى جعل نفس الهرب منه ملاقاة له و لم يقل و الهارب منه يوافيه.

(كم اطّردت الأيام) أى صيّرتها طريدة قال الشارح المعتزلي فالاطّراد أدلّ على العزّ و القهر من الطرد (أبحثها) و افتّشها (عن مكنون هذا الأمر فأبى اللَّه إلّا إخفائه) قال الشّارح المعتزلي: كأنه عليه السّلام جعل الأيّام أشخاصا يأمر باخراجهم و ابعادهم عنه، أى ما زلت أبحث عن كيفية قتلي و أىّ وقت يكون بعينه و في أىّ أرض يكون يوما يوما، فاذا لم أجده في اليوم اطردته و استقبلت يوما آخر فأبحث فيه أيضا فلا أعلم فأبعده و اطرده و أستأنف يوما آخر، و هكذا حتّى وقع المقدور.

قال الشّارح: و هذا الكلام يدلّ على أنه عليه السّلام لم يكن يعرف حال قتله مفصّلة من جميع الوجوه، و أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أعلمه بذلك مجملا، لأنّه قد ثبت‏ أنّه صلّى اللَّه عليه و آله قال له: ستضرب على هذه و أشار إلى هامته فتخضب منها هذه، و أشار إلى لحيته و ثبت أنّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال له: أتعلم من أشقى الأوّلين قال: نعم عاقر النّاقة فقال له: أتعلم من أشقى الآخرين قال: لا، فقال: من يضرب ههنا فتخضب هذه و كلام أمير المؤمنين عليه السّلام يدلّ على أنّه بعد ضرب ابن ملجم له لا يقطع على أنّه يموت من ضربته، ألا تراه يقول: إن ثبتت الوطأة في هذه المزّلة فذاك آه.

و يظهر منه أنّ الشارح زعم أنّ مراده عليه السّلام بمكنون هذا الأمر وقت قتله و مكانه المعينان بالتفصيل.

و حذا حذوه الشارح البحراني حيث قال: و ذلك المكنون هو وقته المعيّن بالتفصيل و مكانه، فان ذلك ممّا استأثر اللَّه بعلمه كقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» و قوله «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ» و إن كان قد أخبره الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بكيفية قتله مجملا-  إلى أن قال-  و أمّا بحثه هو فعن تفصيل الوقت و المكان و نحوهما من القراين المشخصة و ذلك البحث إمّا بالسّؤال من الرّسول مدّة حياته و كتمانه ايّاه، أو بالفحص و التّفرّس من قراين أحواله في ساير أوقاته مع النّاس، فأبى اللَّه إلّا أن تخفى عنه تلك الحال انتهى.

اقول: و لا يكاد ينقضي عجبى من هذين الفاضلين كيف توهّما أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لم يكن عالما بزمان موته و لا مكانه إلّا اجمالا، و أنّه لم يكن يعرفهما تفصيلا إن هذا إلّا زعم فاسد و رأى كاسد.

أمّا الشّارح المعتزلي فمع روايته الأخبار الغيبيّة له عليه السّلام و إذعانه على صحّتها حسبما تقدّمت في التّنبيه الثاني من شرح الخطبة الثانية و التّسعين كيف خفى عليه وجه الحقّ و كيف يتصوّر في حقّ من هو عالم بما كان و ما يكون و من يقول: فاسألوني قبل أن تفقدوني فو الّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شي‏ء فيما بينكم و بين السّاعة و لا عن فئة تهدى مأئة و تضلّ مأئة إلّا أنبئكم بناعقها و قائدها و سائقها و مناخ ركابها و محطّ رحالها و من يقتل من أهلها قتلا و يموت منهم موتا، الى آخر ما مرّ في الخطبة الّتي أشرنا اليها، أنّه لم يكن يعرف زمان موته و مكانه.

و أمّا الشّارح البحراني فمع كونه من فضلاء علماء الامامية قدّس اللَّه ضرايحهم كيف قصرت يده عن الأخبار العامية و الخاصية المفيدة لعلم الأئمّة عليهم السّلام بما كان و ما يكون و ما هو كائن و لمعرفتهم عليهم السّلام بوقت موتهم و موت شيعتهم، و أنّهم يعلمون علم المنايا و البلايا و الانساب، و هذه الأخبار قريبة من التواتر بل متواترة معنى و قد مضى جملة منها في تضاعيف الشّرح لا سيّما في شرح الفصل الثّاني من الخطبة المأة و الثّامنة و العشرين، و يأتي شطر منها في مواضعها اللّايقة، و قد روى المخالف و المؤالف قول أمير المؤمنين للحارث الأعور الهمداني:

يا حار همدان من يمت يرني
من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرفه و أعرفه‏
بنعته و اسمه و ما فعلا

فانّ من كان حاضرا عند كلّ ميّت، عارفا بوقت موته كيف لا يعرف وقت موت نفسه.

و كفاك دليلا على ما ذكرنا أنّ الكلينيّ قد عقد في الكافى بابا على ذلك، و قال: باب أنّ الأئمّة عليهم السّلام يعلمون متى يموتون و أنّهم لا يموتون إلّا باختيار منهم، و روى في ذلك الباب عن عليّ بن محمّد عن سهل بن زياد عن محمّد بن عبد الحميد عن الحسن بن الجهم قال: قلت للرّضا عليه السّلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قد عرف قاتله و اللّيلة التّي يقتل فيها، و الموضع الّذي يقتل فيه، و قوله لما سمع صياح الأوز في الدّار: صوايح تتبعها نوايح، و قول امّ كلثوم: لو صلّيت اللّيلة داخل الدّار و أمرت غيرك يصلّي بالنّاس فأبى عليها، و كثر دخوله و خروجه تلك اللّيلة بلا سلاح، و قد عرف عليه السّلام ان ابن ملجم قاتله بالسّيف كان هذا ممّا لم يحسن «لم يجز لم يحلّ خ ل» تعرّضه فقال عليه السّلام: ذلك كان و لكنه عليه السّلام خيّر في تلك اللّيلة لتمضى مقادير اللَّه عزّ و جلّ.

و هذا الحديث و إن كان ضعيفا عند بعض لكنّه سهل عند آخرين معتضد بأخبار أخر.

قال العلّامة المجلسي (ره) في شرحه: منشا الاعتراض أنّ حفظ النّفس واجب عقلا و شرعا، و لا يجوز إلقاؤها الى التّهلكة، فقال عليه السّلام: ذلك كان و لكنّه خيّر أى خيّره اللَّه بين البقاء و اللّقاء فاختار لقاء اللَّه، و هو مبنيّ على منع كون حفظ النّفس واجبا مطلقا، و لعلّه كان من خصائصهم عدم وجوب ذلك عند اختيارهم الموت و حكم العقل في ذلك غير متّبع مع أنّ حكم العقل في مثل ذلك غير مسلّم.

و في بعض النّسخ أعني نسخ الكافي حيّن بالحاء المهملة و النّون أخيرا، بدل خير، قال الجوهريّ: حيّنه جعل له وقتا يقال: حيّنت النّاقة إذا جعلت لها في يوم و ليلة وقتا تحلبها فيه انتهى، فالمعنى أنّه كان بلغ الأجل المحتوم المقدّر و كان لا يمكن الفرار منه.

قال المحدّث العلّامة المجلسيّ: و حاصله أنّ من لا يعلم أسباب التّقديرات الواقعة يمكنه الفرار عن المحذورات و يكلّف به، و أمّا من كان عالما بجميع الحوادث، فكيف يكلّف الفرار و إلّا يلزم عدم وقوع شي‏ء من التّقديرات فيه، بل هم عليهم السّلام غير مكلّفين بالعمل بهذا العلم في أكثر التّكاليف.

فانّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام كانا يعرفان المنافقين و يعلمان سوء عقايدهم و لم يكونوا مكلّفين بالاجتناب عنهم و ترك معاشرتهم و عدم مناكحتهم أو قتلهم و طردهم ما لم يظهر منهم شي‏ء يوجب ذلك.

و كذا علم أمير المؤمنين عليه السّلام بعدم الظّفر بمعاوية و بقاء ملكه بعده لم يكن سببا لأن يترك قتاله، بل كان يبلغ في ذلك غاية جهده إلى أن استشهد صلوات اللَّه عليه مع أنّه كان يخبر بشهادته و استيلاء معاوية بعده.

و كذا الحسين عليه السّلام كان عالما بغدر أهل العراق به و أنّه سيستشهد هناك مع أولاده و أقاربه و أصحابه، و يخبر بذلك مرارا و لم يكن مكلّفا بالعمل بهذا العلم بل كان مكلّفا بالعمل بهذا الأمر حيث بذلوا له نصرتهم و كاتبوه و راسلوه و وعدوه البيعة و بايعوا مسلم بن عقيل رضى اللَّه عنه انتهى.

و قال المجلسيّ أيضا في موضع آخر من شرح الكافي: الظاهر من ساير الأخبار أنّه عليه السّلام كان عالما بشهادته و وقتها و كان ينتظرها و يخبر بوقوعها و يستبطئها في اللّيلة التي وعدها و يقول: ما منع قاتلي من قتلي انتهى.

فقد ظهر و اتّضح بذلك كلّه أنّه عليه السّلام كان يعرف تفصيلا زمان قتله و مكانه كما ظهر دفع الاشكال فيه و الاعتراض عليه بأنّه مع المعرفة التفصيليّة كان الواجب عليه حفظ نفسه و عدم إلقاءه لها إلى التهلكة.

فان قلت: سلّمنا هذا كلّه و لكن ما تصنع بقوله عليه السّلام كم اطّردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللَّه إلّا إخفاءه قلت: يمكن توجيهه بأن يكون المراد بهذا الأمر خفاء الحقّ و مظلوميّة أهله و ظهور الباطل و غلبة أصحابه و كثرة أعوانه، لأنّه عليه السّلام سعى في أوّل الأمر في أخذ حقّه غاية السّعى فلم يتيسّر و جرت امور لم يكن يخطر ببال أحد وقوع مثله، و في آخر الأمر لمّا انتهى إليه و حصل له الأنصار و الأعوان و جاهد في اللَّه حقّ الجهاد و غلب على المنافقين سنحت فتنه التحكيم الّتي كانت من غرايب الامور ثمّ بعد ذلك لمّا جمع العساكر و أراد الخروج إليهم وقعت الطامة الكبرى، فالمراد بالمكنون سرّ ذلك و سببه فظهر لي و أبى اللَّه إلّا إخفاءه عنكم لضعف عقولكم عن فهمه، إذ هي من غوامض مسائل القضاء و القدر.

و هذا التوجيه أورده المحدّث المجلسيّ في مرآت العقول نقلا عن بعضهم و استحسنه.

و محصّله أنّ المراد بالأمر المكنون في كلامه عليه السّلام سرّ غلبة الباطل على الحقّ و علّة مظلومية أهل الحقّ، و المراد باخفاء اللَّه إياه إخفاءه منهم لا منه عليه السّلام، فيكون هذا الكلام منه نظير قوله عليه السّلام في الكلام الخامس: بل اند مجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة.

قوله (هيهات علم مخزون) أى بعد الاطلاع على ذلك السّر فانه علم مخزون و من شأن المخزون أن يسرّ و يخفى.

ثمّ شرع في الوصيّة فقال: (أما وصيّتي فاللَّه لا تشركوا به شيئا) أى وحّدوه و أخلصوا العمل له و الزموا أوامره و نواهيه (و محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله فلا تضيّعوا سنّته) أى لا تهملوها، و هو أمر بلزوم شرايع الدّين و سلوك نهج الشرع المبين.

و أكّد الأمر بالتّوحيد و اتّباع السّنة النّبويّة بقوله (أقيموا هذين العمودين) و استعار لهما لفظ العمود، لأنّ مدار الاسلام و نظام امور المسلمين في المعاش و المعاد على توحيد اللَّه سبحانه و اتباع سنّة رسوله، كما أنّ مدار الخيمة و القسطاط على العمود، و المراد باقامتهما الاعتقاد بهما و العمل بمقتضيات الايمان بهما.

(و اوقدوا هذين المصباحين) و هو استعارة اخرى و الجامع أنّهما يهديان إلى الصّراط المستقيم و جنّات النّعيم، و يدلّان على حظاير القدس و مجالس الانس، كما أنّ بالمصباح يهتدى في غياهب الدّجى إلى الطريق المطلوب، و ذكر الايقاد ترشيح للاستعارة (و خلاكم ذمّ ما لم تشردوا) أى سقط عنكم ذمّ و تجاوزكم فلا ذمّ يلحقكم ما لم تنفروا.

قال في مرآت العقول: و الغرض النّهى عن التّفرق و اختلاف الكلمة، أى لا ذمّ يلحقكم ما دمتم متّفقين في أمر الدّين متمسّكين بحبل الأئمّة الطاهرين أو المراد النّهى عن الرّجوع عن الدّين و إقامة سنّته.

و قوله (حمل كلّ امرء منكم مجهوده) كلام متّصل بما قبله، لأنّه لمّا قال ما لم تشردوا أنبأ عن تكليفهم كلّما وردت به السّنة النّبويّة أى كلّف كلّ أحد منكم مبلغ وسعه و طاقته.

و لمّا كان هذا الكلام بظاهره يعطى أنه سبحانه كلّف كلّ أحد بما هو مبلغ طاقته و نهاية و سعه فبيّن عليه السّلام أنّ التّكليف على حسب العلم و استدرك بقوله (و خفّف عن الجهلة) يعني أنّ الجهّال ليسوا مكلّفين بما كلّف به العلماء و قد قد قال اللَّه سبحانه: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ».

و هو بظاهره يدلّ على أنّ الجاهل معذور في أكثر الأحكام.

و قوله (ربّ رحيم) قد عرفت جهات الاحتمال في وجه اعرابه، و باختلافها يختلف المعنى فافهم، و وصف الرّب بالرّحمة لمناسبته بالتخفيف عن الجهلة (و دين قويم) ليس فيه أودوا عوجاج (و إمام عليم) أراد به الإمام في كلّ زمان، و يحتمل شموله لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله تغليبا، و ربّما يخصّ بالرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و وصفه بالعلم لكونه عالما بكيفيّة سلوك مسالك الآخرة و قطع مراحلها و منازلها و الهادى فيها بما يقتضيه حكمته من القول و العمل.

و عقّب وصيّته بالتّنبيه على مجارى حالاته لاعتبار الحاضرين و اتّعاظ المشاهدين فقال (أنا بالأمس صاحبكم) أى كنت صحيحا مثلكم نافذ الحكم فيكم، و صاحب الأمر و النّهى، أو صاحبكم الذي تعرفونني بالقوّة و الشّجاعة (و اليوم عبرة لكم) تعتبرون باشرافي على الموت و ضعفى عن الحراك بعد ما كنت اصرع الابطال و اقتل الأقران (و غدا مفارقكم غفر اللَّه لي و لكم) هذا الكلام نصّ في علمه عليه السّلام تفصيلا بزمان موته حسبما قدّمناه.

و تأويل الشّارح المعتزلي له بأنّه لا يعنى غدا بعينه بل ما يستقبل من الزّمان كما يقول الانسان الصّحيح: أنا غدا ميّت فمالى أحرص على الدّنيا خروج عن ظاهر الكلام بلا دليل.

فان قلت: الدّليل عليه قوله (إن ثبتت الوطأة في هذه المزلّة فذاك) فانّه يدلّ على أنّه عليه السّلام لم يكن يقطع بموته.

قلت: هذا الكلام من قبيل تصوير العالم نفسه بصورة الشّاك لبعض المصالح على حدّ قوله تعالى: «أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ».

و كيف كان فمقصوده أنّه إن ثبتت القدم بالبقاء في هذه الدّنيا بأن لا يؤدّي الجرح إلى الهلاك فذاك المراد أى مرادكم، فانّه عليه السّلام كان آنس بالموت من الطّفل بثدى امّه، أو مرادى لأنّه عليه السّلام كان راضيا بقضاء اللَّه فمع قضاء اللَّه حياته‏ وارادته له لا يريد غير ما أراده سبحانه (و ان تدحض القدم) و تزلق و هو كناية عن الموت (فانّا كنّا في أفياء أغصان) و ظلالها (و مهبّ رياح) أى محلّ هبوبها (و تحت ظلّ غمام اضمحلّ) و فنى (في الجوّ) أى ما بين السّماء و الأرض (متلفّقها) و ملتئمها (و عفى) و انمحى (في الأرض مخطّها) أى أثرها و علامتها و الغرض بهذه الجملات أنّي إن متّ فلا عجب، فانّا كنّا في امور فانية شبيهة بتلك الامور، لأنّها كلّها سريعة الانقضاء لا ثبات لها و لا بقاء، أو لا أبالي فانّي كنت في الدّنيا غير راكن إليها كمن كان في تلك الامور، و فيه حثّ للقوم أيضا على الزّهد في الدّنيا و ترك الرّغبة في زخارفها.

و قيل: أراد على وجه الاستعارة بالأغصان الأركان من العناصر الأربعة، و بالأفياء تركيبها المعرض للزّوال، و بالرّياح الأرواح، و بمهبّها الأبدان الفايضة هي عليها بالجود الالهي، و بالغمام الأسباب العلويّة من الحركات السّماويّة و الاتّصالات الكوكبيّة و الأرزاق المفاضة على الانسان في هذا العالم الّتي هي سبب بقائه، و كنّى باضمحلال متلفّقها في الجوّ عن تفرّق الأسباب العلويّة للبقاء و فنائها، و بعفاء مخطّها في الأرض عن فناء آثارها في الأبدان.

(و إنما كنت جارا) أي مجاورا (جاوركم بدني أيّاما) تخصيص المجاورة بالبدن لأنّها من خواصّ الأجسام أو لأنّ روحه عليه السّلام كان معلّقا بالملاء الأعلاء و هو بعد في الدّنيا (و ستعقبون منّي) أى تعطون عقيب فقدى و تجدون بعد رحلتى (جثّة خلاء) أى جسدا و بدنا خاليا من الرّوح و الحواسّ (ساكنة بعد حراك و صامتة بعد نطوق) أى متبدّلة الحركة بالسّكون و النّطق بالسّكوت (ليعظكم هدّوى) و سكونى (و خفوت اطراقى) أى سكون ارخاء عينى إلى الأرض و هو كناية عن عدم تحريك الأجفان، و قد مرّ وجوه اخر في بيان اللغة فتذكّر (و سكون أطرافي) أى الرّاس و اليدين و الرجلين و غيرها من الجوارح و الأعضاء و جناس الخط بين قوله اطرافي و اطرافي غير خفيّ (فانّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ و القول المسموع) لأنّ الطّباع أكثر اتعاظا و انفعالا عن مشاهدة ما فيه من العبرة من الوصف له بالقول المسموع و لو كان بأبلغ لفظ و أفصح عبارة ثمّ أخذ في توديعهم فقال (و داعيكم وداع امرء مرصد للّتلاقي) أي وداعى إيّاكم كوداع رجل مترقّب و منتظر للملاقات من ربّه تعالى و ساير الوجوه مرّ في بيان اللّغة (غدا ترون أيّامي) أي بعد مفارقتي إيّاكم و تولّى بني اميّة و غيرهم أمركم تعرفون فضل أيّام خلافتى و إني كنت بارّا بكم عطوفا عليكم و كنت على الحقّ (و يكشف لكم عن سرائرى) و يظهر أنّى ما أردت في حروبى و ساير ما أمرتكم به إلّا وجه اللَّه عزّ و جلّ و ابتغاء مرضاته (و تعرفوننى بعد خلوّ مكاني و قيام غيري مقامي) أي تعرفون عدلى و قدرى بعد قيام غيري مقامي بالامارة و الخلافة و تظاهره بالمنكرات، لأنّ الأشياء إنما تتبيّن بضدّها كما قال أبو تمام:

راحت وفود الأرض عن قبره
فارغة الأيدي ملاء القلوب‏

قد علمت ما ورثت إنما
تعرف قدر الشمس بعد الغروب‏

و قيل: و السرّ فيه أنّ الكمل إنما يعرف قدرهم بعد فقدهم، إذ مع شهودهم لا يخلو من يعرفهم عن حسد منه لهم، فكمال قدرهم مخبوء عن عين بصيرته لغشاوة حسده الّتي عليها هذا.

و قال المحدّث العلّامة المجلسيّ في شرح هذه الفقرات من رواية الكافي الآتية: اقول: و يحتمل أن يكون المراد بقوله: غدا، أيام الرجعة و يوم القيامة فانّ فيهما تظهر شوكتهم و رفعتهم و نفاذ حكمهم في عالم الملك و الملكوت، فهو عليه السّلام في الرّجعة وليّ انتقام العصاة و الكفّار و تمكين المتّقين الأخيار في الأصقاع و الأقطار، و في القيامة وليّ الحساب و قسيم الجنّة و النار و غير ذلك مما يظهر من درجاتهم و مراتبهم السنية فيها، فالمراد بخلوّ مكانه خلوّ قبره عن جسده في الرّجعة أو نزوله عن منبر الوسيلة و قيامه إلى شفير جهنّم يقول للنار: خذى هذا و اتركى هذا في القيامة.

قال: و في أكثر نسخ الكتاب أي الكافي: و قيامي غير مقامي، و هو أنسب بالأخير، و على الأوّل يحتاج إلى تكلّف شديد كأن يكون المراد قيامه عند اللَّه تعالى‏ في السموات و تحت العرش و في الجنان في الغرفات و في دار السّلام كما دلّت عليه الرّوايات.

قال: و في نسخ النّهج و بعض نسخ الكتاب: و قيام غيري مقامي، فهو بالأوّل انسب و يحتاج في الأخير إلى تكلّف تامّ بأن يكون المراد بالغير القائم عليه السّلام فانّه إمام الزّمان في الرّجعة، و قيام الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم مقامه للمخاصمة في القيامة.

قال: و يخطر بالبال أيضا أنّه يمكن الجمع بين المعنيين، فيكون أسدّ و أفيد بأن يكون ترون أيّامي و يكشف اللَّه عن سرائرى في الرّجعة و القيامة لاتّصاله بقوله: وداع مرصد للتّلاقي، و قوله عليه السّلام: و تعرفوني كلاما آخر إشارة إلى ظهور قدره في الدّنيا كما مرّ في المعنى الأوّل، و هذا أظهر الوجوه لا سيّما على النّسخة الأخيرة انتهى.

تذكرة

قد أوردنا في شرح الكلام التّاسع و السّتين قصّة شهادة أمير المؤمنين عليه السّلام تفصيلا، و أحببت أن اورد هنا بعض ما قيل في رثائه عليه السّلام.

فأقول: روى في شرح المعتزلي عن أبي الفرج الاصبهاني قال: أنشدني عمي الحسن بن محمّد قال: أنشدني محمّد بن سعد لبعض بني عبد المطلب يرثي عليّا و لم يذكر اسمه:

يا قبر سيّدنا المجنّ سماحة
صلّى الإله عليك يا قبر

ما ضرّ قبرا أنت ساكنه‏
أن لا يحلّ بأرضه القطر

فليغدينّ سماح كفّك بالثرى
و ليورقنّ بجنبك الصخر

و اللَّه لو بك لم أجد أحدا
إلّا قتلت لفاتنى الوتر

و قال عبد اللَّه بن عبّاس بن عبد المطلب:

و هزّ عليّ بالعراقين لحية
مصيبتها جلّت على كلّ مسلم‏

و قال سيأتيها من اللَّه نازل‏
و يخضبها أشقى البريّة بالدّم‏

فعاجله بالسّيف شلّت يمينه
لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم‏

فيا ضربة من خاسر ضلّ سعيه‏
تبوّء منها مقعدا في جهنّم‏

ففاز أمير المؤمنين بحظّه
و إن طرقت إحدى اللّئام بمعظم‏

ألا إنّما الدّنيا بلاء و فتنة
حلاوتها شيبت بصبر و علقم‏

و قالت امّ الهيثم بنت الأسود النخعية و هى الّتي استوهبت جثّة ابن ملجم من الحسن عليه السّلام فوهبها لها فحرّقتها بالنّار.

ألا يا عين ويحك فاسعدينا
ألا تبكى أمير المؤمنينا

رزينا خير من ركب المطايا
و حبّسها و من ركب السّفينا

و من لبس النّعال و من حذاها
و من قرء المثاني و المئينا

و كنّا قبل مقتله بخير
نرى مولى رسول اللَّه فينا

يقيم الدّين لا يرتاب فيه
و يقضى بالفرايض مستبينا

و يدعو للجماعة من عصاه‏
و ينهك قطع أيدي السّارقينا

و ليس بكاتم علما لديه
و لم يخلق من المتجبّرينا

لعمر أبي لقد أصحاب مصر
على طول الصحابة أرجعونا

و غرّونا بأنّهم عكوف
و ليس كذاك فعل العاكفينا

أ في شهر الصّيام فجعتمونا
بخير النّاس طرّا أجمعينا

و من بعد النبيّ فخير نفس
أبو حسن و خير الصّالحينا

كأنّ النّاس إذ فقدوا عليّا
نعام جال في البلد سنينا

و لو أنّا سئلنا المال فيه
بذلنا المال فيه و البنينا

أشاب ذؤابتى و أطال حزني‏
أمامة حين فارقت القرينا

تطوف بها لحاجتها إليه
فلمّا استيئست رفعت رنينا

و عبرة امّ كلثوم إليها
تجاو بها و قد رأت اليقينا

فلا تشمت معاوية بن صخر
فانّ بقيّة الخلفاء فينا

و جمّعت الامارة عن تراض‏
إلى ابن نبيّنا و إلى أخينا

و لا نعطى زمام الأمر فينا
سواه الدّهر آخر ما بقينا

و إنّ سراتنا و ذوى حجانا
تواصوا أن نجيب إذا دعينا

بكلّ مهنّد عضب و جرد
عليهنّ الكماة مسوّمينا

روى أحمد بن حازم قال لما بلغ نعى أمير المؤمنين عليه السّلام إلى عايشة سجدت للَّه شكرا، و لمّا بلغ إلى معاوية فرح فرحا شديدا و قال: إنّ الأسد الّذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه ثمّ قال:

قل للأرانب ترعى أينما سرحت
و للظّباء بلا خوف و لا وجل‏

تكملة

قد أشرنا سابقا إلى أنّ هذا الكلام له عليه السّلام مروىّ في الكافي على اختلاف لما أورده السيّد في الكتاب فأحببت أن أورد ما هناك، و هو ما رواه عن الحسين بن الحسن الحسني رفعه، و محمّد بن الحسن عن إبراهيم بن إسحاق الأحمري رفعه قال: لمّا ضرب أمير المؤمنين عليه السّلام حفّ به العوّاد و قيل له: يا أمير المؤمنين أوص، فقال عليه السّلام ثنوالي وسادة ثمّ قال: الحمد للَّه قدره متّبعين أمره، أحمده كما أحبّ، و لا إله إلّا اللَّه الواحد الأحد الصّمد كما انتسب، أيّها النّاس كلّ امرء لاق في فراره مامنه يفرّ، و الأجل مساق النّفس اليه، و الهرب منه موافاته، كم اطّردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللَّه عزّ ذكره إلّا إخفائه، هيهات علم مكنون (مخزون خ ل)، أمّا وصيّتي فأن لا تشركوا باللَّه جلّ ثناؤه شيئا، و محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فلا تضيّعوا سنّته، أقيموا هذين العمودين، و أوقدوا هذين المصباحين، و خلاكم ذمّ ما لم تشردوا، حمل كلّ امرء منكم مجهوده، و خفّف عن الجهلة، ربّ رحيم، و امام عليم، و دين قويم، أنا بالأمس صاحبكم، و اليوم عبرة لكم، و غدا مفارقكم، إن تثبت الوطأة في هذه المزلّة فذاك المراد، و إن تدحض القدم فانّا كنّا في أفياء أغصان و ذرى رياح و تحت ظلّ غمامة اضمحلّ في الجوّ متلفّقها، و عفى في الأرض مخطّها،و إنّما كنت جارا جاوركم بدني أيّاما، و ستعقبون منّي جثّة خلاء ساكنة بعد حركة، و كاظمة بعد نطق ليعظكم هدوّى، و خفوت أطرافي، و سكون أطرافي، فانّه أوعظ لكم من النّاطق البليغ، ودّعتكم وداع مرصد التّلاقي، غدا ترون أيّامي، و يكشف اللَّه عزّ و جلّ عن سرائرى، و تعرفوني بعد خلوّ مكاني، و قيامي غير مقامي، أنا إن أبق فأنا وليّ دمى، و إن أفن فالفناء ميعادى، العفو لي قربة و لكم حسنة فاعفوا و اصفحوا ألا تحبّون أن يغفر اللَّه لكم، فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة أو تؤدّيه امامه على شقوة، جعلنا اللَّه. و إيّاكم ممّن لا يقصر به عن طاعة اللَّه رغبة أو يحلّ به بعد الموت نقمة، فانّما نحن له و به.
ثمّ أقبل على الحسن عليه السّلام فقال: يا بنيّ ضربة مكان ضربة و لا تأثم.

بيان

قال في مرآت العقول «حفّ به» أي أحاط و «العوّاد» جمع عائدوهم الزّائرون للمريض و «الوسادة» ما يتّكاء عليه في المجلس، و ثنيّها إمّا للجلوس عليها ليرتفع و يظهر للسّامعين، أو للاتّكاء عليها لعدم قدرته على الجلوس مستقلا.

و قوله «الحمد للَّه قدره» أي حمدا يكون حسب قدره و كما هو أهله قائم مقام المفعول المطلق «متّبعين أمره» حال من فاعل الحمد، لأنّه في قوّة أحمده «كما أحبّ» أي حمدا يكون محبوبه و موافقا لرضاه «كما انتسب» أي نسب نفسه إليه في سورة التوحيد و لذا تسمّى نسبة الرّب و «الأجل» منتهى العمرو هو مبتداء و «مساق النّفس» مبتداء ثان و «إليه» خبره و الجملة خبر المبتدأ الأوّل.
«و محمّدا» منصوب بالاغراء بتقدير الزموا و «الفاء» للتفريع و «ذرى رياح» أي ما ذرته و جمعته شبّه ما فيه الانسان في الدّنيا من الأمتعة و الأموال بماذرته الرّياح في عدم ثباتها و قلّة الانتفاع، فانّها تجمعها ساعة و تفرقها اخرى، أو المراد محال ذروها و «كاظمة بعد نطق» قال الفيروزآبادي: كظم غيظه ردّة و حبسه و الباب أغلقه.

«ودّعتكم» على صيغة المتكلّم من باب التفعيل و «يكشف اللَّه عن سرائرى» لأنّ بالموت ينكشف بعض ما يسرّه الانسان من النّاس من حسناته المتعدّية إليهم «إن أبق فأنا وليّ دمى» صدق الشرطيّة لا يستلزم وقوع المقدّم، و قد مرّ الكلام فيه فلا ينافي ما مرّ من قوله: و غدا مفارقكم «فالفناء ميعادى» كما قال جلّ ثناؤه «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ».

«العفو لي قربة و لكم حسنة» يحتمل أن يكون استحلالا من القوم كما هو الشّايع عند الموادعة أي عفوكم عنّى سبب مزيد قربى و حسناتكم، أو عفوى لكم قربة و عفوى عنكم حسنة، فيكون طلب العفو على سبيل التّواضع و من غير أن يكون منه إليهم جناية، و في أكثر النّسخ و إن أعف فالعفو لي قربة، أي إن أعف عن قاتلى، فقوله: و لكم حسنة، لصعوبة ذلك عليكم حيث تريدون التّشفّى منه و تصبرون على عفوى بعد القدرة على الانتقام.

«فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا» عنّي على الوجه الأوّل أو عن غير قاتلى ممّن له شركة في هذا الأمر، أو عن جرايم اخوانكم و زلّاتهم و ظلمهم عليكم أو إذا جي‏ء عليكم بمثل هذه الجناية لئلا يناقض قوله عليه السّلام: ضربة مكان ضربة، مع أنّه يحتمل أن يكون معناه إن لم تعفوا فضربة لكن الأمر بالعفو عن مثل هذا الملعون بعيد

الترجمة

از جمله كلام آن امام است پيش از مرگ خود مى‏ فرمايد: أي مردمان هر مردى از شما ملاقات كننده است در گريختن خود به آن چه كه مى ‏گريزد از آن، و مدت عمر محل جريان نفس است بنهايت آن، و گريختن از مرگ رسيدنست بآن، بسا گردانيدم روزگار را رانده شده از خود در حالتى كه نيك تفحّص مى‏ كردم از پوشيده اين كار پس امتناع فرمود حق تعالى مگر پنهان كردن آن را، چه دور است مطّلع شدن بآن، اين علم علميست پوشيده شده.

و أمّا وصيّت من بشما پس اينست كه پروردگار عالميان را شريك قرار ندهيد و محمّد بن عبد اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ضايع نگردانيد سنّت و شريعت او را، بر پا داريد اين دو ستون اسلام را، و بر افروزيد اين دو چراغ هدايت را و خالى باشد از شما مذمّت مادامى كه رم ننمائيد از توحيد پروردگار و شريعت سيّد مختار.

برداشت هر مردى از شما تكليفي كه باندازه وسع و طاقت او است، و تخفيف داده شد بار تكليف از جاهلان و ضعيفان، خداى شما خدائيست مهربان، و دين شما دينى است راست، و امام شما امامى است عالم و آگاه، من ديروز مصاحب شما بودم، و امروز كه با اين حالت ضعف افتاده‏ ام عبرتم از براى شما، و فردا مفارقت كننده ‏ام از شما بيامرزد خداى تعالى مرا و شما را، اگر ثابت بشود قدم من در اين دنيا كه محلّ لغزش است پس اينست مقصود شما، و اگر بلغزد قدم پس بدرستي كه ما بوديم در سايه اى شاخه اى درخت و محلّ وزيدن بادها و در زير سايه أبرها كه نيست شد و نابود گشت و در هوا جمع شده آن ابرها و مندرس شد در زمين اثر آنها.

و جز اين نيست كه بودم من همسايه كه همسايگى نمود با شما بدن من چند روزى و زود باشد كه بيابيد بعد از من بدنى كه خالى باشد از روح، چنان بدنى كه ساكن باشد بعد از حركت، و خاموش باشد بعد از گفتار، تا وعظ نمايد بشما سكون من و چشم در پيش افكندن من، و ساكن شدن أطراف بدن من.

پس بدرستى كه مرگ پند دهنده‏ تر است از براى عبرت يابندگان از گفتار بليغ و فصيح، و از قول مسموع صريح، وداع كردن من شما را وداع مرديست كه مهيا شده از براى ملاقات پروردگار، فردا مى‏بينيد روزهاى مرا، و كشف مى‏شود شما را از سرّهاى من، و بشناسيد عدالت و قدر مرا بعد از خالى بودن مكان من از من، و ايستادن غير من بجاى من با امارت و خلافت و بى‏مبالاتي او در دين.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 148 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 148 صبحی صالح

148- و من كلام له ( عليه ‏السلام  ) في ذكر أهل البصرة

كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْجُو الْأَمْرَ لَهُ

وَ يَعْطِفُهُ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهِ

لَا يَمُتَّانِ إِلَى اللَّهِ بِحَبْلٍ

وَ لَا يَمُدَّانِ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ

كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبِهِ

وَ عَمَّا قَلِيلٍ يُكْشَفُ قِنَاعُهُ بِهِ

وَ اللَّهِ لَئِنْ أَصَابُوا الَّذِي يُرِيدُونَ لَيَنْتَزِعَنَّ هَذَا نَفْسَ هَذَا

وَ لَيَأْتِيَنَّ هَذَا عَلَى هَذَا

قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ

فَأَيْنَ الْمُحْتَسِبُونَ

فَقَدْ سُنَّتْ لَهُمُ السُّنَنُ

وَ قُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ

وَ لِكُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ

وَ لِكُلِّ نَاكِثٍ شُبْهَةٌ

وَ اللَّهِ لَا أَكُونُ كَمُسْتَمِعِ اللَّدْمِ

يَسْمَعُ النَّاعِيَ وَ يَحْضُرُ الْبَاكِيَ ثُمَّ لَا يَعْتَبِرُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام فى ذكر اهل البصرة

و هى المأة و الثامنة و الاربعون من المختار فى باب الخطب كلّ واحد منهما يرجو الأمر له، و يعطفه عليه دون صاحبه، لا يمتّان إلى اللَّه بحبل، و لا يمدّان إليه بسبب، كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه، و عمّا قليل يكشف قناعه به، و اللَّه لئن أصابوا الّذي يريدون لينتزعنّ هذا نفس هذا، و ليأتينّ هذا على هذا، قد قامت الفئة الباغية، فأين المحتسبون، قد سنّت لهم السّنن، و قدّم لهم الخبر، و لكلّ ضلّة علّة، و لكلّ ناكث شبهة، و اللَّه لا أكون كمستمع الّلدم يسمع النّاعي، و يحضر الباكي.

اللغة

عن النّهاية (المتّ) التوسّل و التوصّل بحرمة أو قرابة أو غير ذلك و (السّبب) في الأصل الحبل الّذي يتوصّل به إلى ماء، ثمّ استعير لكلّ ما يتوصّل به إلى شي‏ء كقوله تعالى: «وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ» أى الوصل و المودّات و (الضبّ) الغضب و الحقد و (المحتسب) طالب الحسبة، و هي الأجر و يقال احتسب عليه أى انكر و (سنّ) الأمر بيّنه (و لكلّ ضلّة) في ما رأيناه من النّسخ بفتح الضّاد، و المضبوط في القاموس و الاوقيانوس بكسرها، قال في القاموس: الضّلال و الضّلالة و الضلّ و يضمّ و الضّلضلة و الاضلولة بالضمّ و الضلّة بالكسر و الضّلل محرّكة ضدّ الهدى إلى أن قال: و الضلّة بالضمّ الحذق بالدّلالة و بالفتح الحيرة و الغيبة بخير أو شرّ و (اللّدم) اللّطم و الضّرب بشي‏ء ثقيل يسمع وقعه، و عن الصّحّاح اللّدم ضرب المرأة صدرها و عضديها في النياحة.

الاعراب

الظاهر أنّ جملة لا يمتّان إلى اللَّه استيناف بياني أو نحوى، و تحتمل الحال، و عن في قوله: و عمّا قليل، بمعنى بعد، و ما زائدة على حدّ قوله تعالى: «عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» و الباء في قوله: به، للسببيّة، و الضّمير راجع إلى الضّب، و جملة يسمع في محلّ الجرّ صفة للمستمع.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة مسوقة لاقتصاص حال طلحة و الزبير في نكثهما بيعته عليه السّلام و نهوضهما إلى حربه عليه السّلام، و نبّه على أنّ غرضهما من البغي و الخروج اليه هو الملك و الامارة، فأشار أوّلا إلى أنّ كلّا منهما يرى نفسه أحقّ بالامارة من الآخر و هو قوله: (كلّ واحد منهما يرجوا الأمر) أى أمر الامارة، فاللّام للعهد (له) أى يرى اختصاصه به (و يعطفه) أى يجذبه و يثنيه (عليه دون صاحبه) لمزعمه أنّه أولى به منه حال كونهما (لا يمتّان) و لا يتوسّلان في الحرب و قتال المسلمين (إلى اللَّه) تعالى (بحبل، و لا يمدّان اليه بسبب) يعني أنّه لا حجّة لهما يعتذران بها إلى‏ اللَّه سبحانه في البغى و الخروج و على الاستيناف البياني فالمعنى أنّه عليه السّلام لما ذكر أنّ كلّا منهما يرجوه لنفسه و يعطفه عليه كان لقائل أن يقول: هذا العطف و الرّجاء هل كان لغرض دينيّ منهما و تصلّب في الاسلام فأجاب بأنّ غرضهما ليس التقرّب إلى اللَّه تعالى و التمسّك بعهده.

و على الاستيناف النحويّ فالمقصود به شرح حالهما، فانّه لمّا ذكر أنّ رجاء كلّ واحد منهما كون الخلافة له، و قصد كلّ جذبها إليه أردفه بذلك تنبيها على أنّهما خالفا اللَّه سبحانه إذ لم يعتصما بحبله، بل تفرّقا عنه و قد أمرهم اللَّه بالاعتصام و نهاهم عن التفرّق بقوله «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا».

قال الطبرسيّ في معنى حبل اللَّه أقوال: احدها أنّه القرآن ثانيها أنّه دين الاسلام و ثالثها ما رواه أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: نحن حبل اللَّه الّذى قال «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً» قال الطبرسىّ: و الأولى حمله على الجميع و الّذي يؤيّده ما رواه أبو سعيد الخدري عن النّبي صلّى اللَّه عليه و آله أنّه قال: يا أيّها النّاس إنّي قد تركت فيكم حبلين، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي: أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللَّه حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي الا و إنهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض.

ثمّ ذكر انهما مع اتّفاقهما على الخلاف مختلفان في نفس الأمر و أنّ (كلّ واحد منهما حامل ضبّ) و حقد (لصاحبه) و يشهد به اختلافهما قبل وقوع الحرب في الأحقّ بالتّقديم في الصّلاة، فأقامت عائشة محمّد بن طلحة و عبد اللَّه بن الزّبير يصلّي هذا يوما و هذا يوما إلى أن تنقضى الحرب.

ثمّ إنّ عبد اللَّه بن الزّبير ادّعى أنّ عثمان نصّ عليه بالخلافة يوم الدّار، و احتجّ في ذلك بأنّه استخلفه على الصّلاة، و احتجّ تارة اخرى بنصّ صريح زعمه و ادّعاه، و طلب طلحة من عائشة أن يسلّم النّاس عليه بالامارة و أدلى إليها بالسّمية و أدلي الزّبير بأسماء اختها فأمرت النّاس أن يسلّموا عليهما معا بالامارة، و اختلفاأيضا في تولّى القتال فطلبه كلّ منهما اوّلا ثم نكل عنه.

(و عمّا قليل يكشف) كلّ منهما (قناعه به) أى يكشف قناعه الذي استتر به و يظهر حاله به بسبب حقده، فاستعار لفظ القناع لظاهره السّاتر لباطنه (و اللَّه لئن أصابوا الّذى يريدون) و يتمنّون (لينتزعنّ هذا نفس هذا و ليأتينّ هذا على هذا) أى ليثبّ كلّ منهما إلى صاحبه و يسعى اليه و يقتله، و هذا لا غبار عليه لأنّ الملك عقيم ثمّ قال (قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون) أي الطّالبون للأجر و الثّواب و العاملون للَّه أو المنكرون للمنكر، و الاستفهام للتحسّر و التحزّن من فقدان المتصلّبين في الدّين، و الراسخين فى الاسلام، و التّأسف على عدم حضورهم في تلك المعركة و قتال الفئة الباغية، و في بعض النسخ: فأين المحسنون.

(و قد سنّت لهم السّنن) أى بيّنت للمحتسبين أو للفئة الباغية الطّرق (و قدّم لهم الخبر) أى أخبرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بخروج الناكثة و القاسطة و المارقة و بأنّ عليّا عليه السّلام يقاتلهم، و قد روى هذا الخبر عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم غير واحد من العامّة و الخاصّة، و قدّمنا روايته في شرح الفصل الخامس من الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقية في حديث طويل عن امّ سلمة عن النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم.

و أقول هنا: روى في البحار من أمالي الشّيخ باسناده عن أخي دعبل عن الرّضا عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لأمّ سلمة: اشهدى على أنّ عليّا يقاتل النّاكثين و القاسطين و المارقين.

و من الامالي بهذا الاسناد عن الباقر عليه السّلام عن جابر الأنصاري قال: إنّي لأدناهم من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في حجّة الوداع بمنى فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: لاعرفنّكم ترجعون بعدي كفارا ليضرب بعضكم رقاب بعض، و أيم اللَّه لئن فعلتموها لتعرفنّني في الكتيبة التي تضاربكم، ثمّ التفت صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إلى خلفه ثمّ قال: أو عليّ أو عليّ أو عليّ، فرأينا أنّ جبرئيل غمزه و أنزل اللَّه عزّ و جلّ «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» بعليّ «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» ثمّ نزلت «قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَ إِنَّا عَلى‏ أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» ثمّ نزلت «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ-  من أمر عليّ بن أبي طالب-  فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ» و انّ عليّا علم للسّاعة لك و لقومك و لسوف تسئلون عن محبّة عليّ بن أبي طالب.

و من الكافي باسناده عن الفضيل بن غياض عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام عن أبيه قال: قال: بعث اللَّه محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله بخمسة أسياف ثلاثة منها شاهرة، و سيف منها مكفوف، و سيف منها سلّه إلى غيرنا و حكمه إليه، ثمّ قال: و أما السّيف المكفوف فسيف عليّ على أهل البغى و التأويل، قال اللَّه تعالى «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللَّهِ» فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: إنّ منكم من يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من هو فقال: خاصف النّعل، يعني أمير المؤمنين عليه السّلام فقال عمّار بن ياسر: قاتلت بهذه الرّواية مع النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ثلاثا و هذه الرّابعة، و اللَّه لو ضربونا حتّى بلغوا بنا السّعفات من هجر لعلمنا أنا على الحقّ و أنّهم على الباطل.

و من مناقب ابن شهر آشوب عن أبي عليّ الموصلي و الخطيب التّاريخي و أبي بكر بن مردويه بطرق كثيرة عن عليّ عليه السّلام قال: امرت بقتال النّاكثين و القاسطين و المارقين.

و من كشف الغمة قال ابن طلحة: قال البغوي في شرح السّنة عن ابن مسعود قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فأتى منزل امّ سلمة فجاء عليّ عليه السّلام فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يا امّ سلمة هذا و اللَّه قاتل النّاكثين و القاسطين و المارقين، إلى غير هذا ممّا رواه في البحار عنه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و في كشف الغمّة من المناقب لأبي المؤيد الخوارزمي عن أبي رافع أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: يا أبا رافع كيف انت و قوم يقاتلون عليّا و هو على الحقّ و هم على الباطل يكون حقّا في اللَّه جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فيجاهدهم‏ بلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فيجاهدهم بقلبه، و ليس وراء ذلك شي‏ء، قال: قلت: ادع اللَّه لي إن أدركتهم أن يعينني و يقوّينى على قتالهم فلمّا بايع النّاس عليّ بن ابي طالب عليه السّلام و خالفه معاوية و سار طلحة و الزّبير إلى البصرة قلت: هؤلاء القوم الّذين قال فيهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ما قال، فباع أرضه بخيبر و داره بالمدينة و تقوى بها هو و ولده ثمّ خرج مع عليّ عليه السّلام بجميع أهله و ولده، و كان معه حتّى استشهد عليّ عليه السّلام، فرجع إلى المدينة مع الحسن عليه السّلام و لا أرض له بالمدينة و لا دار فأقطعه الحسن عليه السّلام ارضا بينبع من صدقة علىّ و أعطاه دارا، هذا.

و لمّا كان هنا مظنّة سؤال و هو أن يقال: إذا كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم سنّ السّنن و اخبر بحال هؤلاء البغاة و أبان عن كونهم على الباطل فكيف كان خروج هؤلاء و كيف نكثوا عن بيعتهم مع تقدّم هذا الخبر منه و اشتهاره بين النّاس أجاب عليه السّلام عنه بقوله (و لكلّ ضلّة علّة و لكلّ ناكث شبهة) يعني أنّهم لما نكثوا و ضلّوا عن الطّريق لعلّة أوجبت الضّلال و شبهة أوجبت النكث أمّا العلّة فهى الحقد و الحسد و الطمع في الملك و حبّ الدّنيا، و أمّا الشّبهة فهى الطّلب لدم عثمان هذا.

و قيل إنّ المعنى أنّ لكلّ ضلالة غالبا علّة، و لكلّ ناكث شبهة بخلاف هولاء، فانّهم يعدلون عن الحقّ مع وضوحه بغير عذر و شبهة.

ثمّ أقسم عليه السّلام بقوله (و اللَّه لا أكون كمستمع اللّدم يسمع النّاعى و يحضر الباكى) أراد بمستمع اللّدم الضّبع هو صوت الحجر يضرب به الأرض أو حيلة يفعلها الصّائد عند باب جحرها فتنام و لا تتحرّك حتّى يجعل الحبل في عرقوبها فيخرجها فيكون نظير ما تقدّم في الكلام السّادس من قوله: و اللَّه لا اكون كضبع تنام على طول اللّدم حتى يصل اليها طالبها و يختلها راصدها، و قد مضى منّا هناك ما يتّضح به هذا المقام، فالمقصود انّى لا اغترّ و لا اغفل عن كيد الأعداء فأسمع النّاعي بقتل طائفة من المسلمين و احضر الباكي على قتلاهم فلا احاربهم حتّى يحيطوا بي و قيل: المراد إنّى لا أكون كمن يسمع اللّطم و الضرب و البكاء ثمّ لا يصدق حتّى يجي‏ء لمشاهدة الحال، أى لا أكون كمن علم بوقوع نازلة و شاهد اماراتها ثمّ‏ لم يتداركها حتّى يراها عيانا.

و قد تقدّم في شرح المختار السّادس إلى المختار الثالث عشر اقتصاص حال النّاكثة و كيفيّة بغيهم و خروجهم و جملة من أخبارهم و ذكرنا قصّة الجمل في شرح الكلام الحادى عشر، و ذكرنا في تضاعيف الشّرح و نذكر بعد ذلك أيضا إنشاء اللَّه بعض اخبارهم، و أقتصر هنا على ايراد خبرين مناسبين للمقام فأقول: روى في البحار من الارشاد قال: لما اتّصل بأمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه مسير عايشة و طلحة و الزّبير من مكّة إلى البصرة حمد اللَّه و أثنى عليه ثمّ قال: قد سارت عائشة و طلحة و الزّبير كلّ منهما يدّعى الخلافة دون صاحبه، و لا يدّعى طلحة الخلافة إلّا أنّه ابن عمّ عايشة، و لا يدّعيها الزبير إلّا أنّه صهر أبيها، و اللَّه لئن ظفروا بما يريدان ليضربنّ الزبير عنق طلحة، و ليضربنّ طلحة عنق الزّبير ينازع هذا على الملك هذا، و لقد علمت و اللَّه أنّ الراكبة الجمل لا تحلّ عقدة و لا تسير عقبة و لا تنزل منزلة إلّا إلى معصية اللَّه حتّى تورد نفسها و من معها موردا يقتل ثلثهم، و يهرب ثلثهم، و يرجع ثلثهم، و اللَّه إنّ طلحة و الزّبير ليعلمان أنّهما مخطئان و ما يجهلان، و لربّ عالم قتله جهله و علمه معه لا ينفعه، و اللَّه لتنبحنّها كلاب الحوأب، فهل يعتبر معتبر و يتفكّر متفكّر لقد قامت الفئة الباغية فأين المحسنون.

و في الكافي في باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ و المبطل في أمر الامامة عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن ابن محبوب عن سلام بن عبد اللَّه و محمّد بن الحسن و عليّ بن محمّد عن سهل بن زياد و أبو عليّ الأشعري عن محمّد بن حسان جميعا عن محمّد بن عليّ عن عليّ بن أسباط عن سلام بن عبد اللَّه الهاشميّ قال محمّد بن عليّ و قد سمعته منه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: بعث طلحة و الزّبير رجلا من عبد القيس يقال له: خدائن إلى أمير المؤمنين، إلى آخر ما يأتي في شرح الكلام المأة و التّاسع و السّتين إن شاء اللَّه.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن حضرت است در ذكر أهل بصره و مذمت زبيرو طلحة مى‏ فرمايد: هر يك از طلحه و زبير اميد دارند كه أمر خلافت از براى او باشد و بر مى‏ گرداند هر يكى آن را بنفس خود نه بصاحبش در حالتي كه تقرّب نمى‏ جويند بسوى خدا بريسمان پيمان، و توسّل نمى‏ كنند بسوى او با رشته عهد، هر يك از ايشان حمل كننده حقد و غضب است از براى رفيق خود و بعد از زمان قليل بر مى‏ دارد پرده تزوير خود را بسبب آن كينه كه در دل دارد، قسم بخدا اگر برسند به آن چه كه مى‏خواهند هر آينه البته بر مي كند اين يكى جان آن يكى را، و البته مى ‏آيد اين يكى بسر آن ديگرى بتحقيق كه برخاستند جماعت ظالم پس كجايند طالبان أجر و ثواب.

بتحقيق كه بيان كرده شد از براى ايشان سنّتهاى پيغمبر، و مقدّم داشته شد بجهت ايشان أخبار حضرت سيد البشر، و از براى هر ضلالت علّت و سببى هست، و از براى هر ناقض بيعت شبهه‏ايست، بحقّ خدا نمى‏توانم بشوم مثل شنونده صداى زدن برو و سينه با دست كه شنود خبر مرگ دهنده، و حاضر شود نزد گريه كننده، يعني بعد از اين كه أمارات و علامات بغى و عدوان اين طائفه ظاهر شد بايد با ايشان محاربه و مقاتله نمائيم، و جائز نيست كه در جاى خود با غفلت بنشينيم.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 147 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 147 صبحی صالح

147- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  )

الغاية من البعثة

فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً ( صلى ‏الله‏ عليه ‏وآله  )بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ

وَ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ

بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَ أَحْكَمَهُ

لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ

وَ لِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ

وَ لِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ

فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ

وَ خَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ

وَ كَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلَاتِ

وَ احْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ

الزمان المقبل‏

وَ إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْ‏ءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ وَ لَا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ

وَ لَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ

وَ لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ

وَ لَا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ

وَ لَا فِي الْبِلَادِ شَيْ‏ءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَ لَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ

فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ

وَ تَنَاسَاهُ‏حَفَظَتُهُ

فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَ أَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ

وَ صَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ

لَا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ

فَالْكِتَابُ وَ أَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَ لَيْسَا فِيهِمْ

وَ مَعَهُمْ وَ لَيْسَا مَعَهُمْ

لِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَا تُوَافِقُ الْهُدَى وَ إِنِ اجْتَمَعَا

فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ

وَ افْتَرَقُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ

كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَ لَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ

فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا اسْمُهُ

وَ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا خَطَّهُ وَ زَبْرَهُ

وَ مِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ

وَ سَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِرْيَةً

وَ جَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ

وَ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَ تَغَيُّبِ آجَالِهِمْ

حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ

وَ تُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ

وَ تَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَ النِّقْمَةُ

عظة الناس‏

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللَّهَ وُفِّقَ

وَ مَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلًا هُدِيَ لِلَّتِي هِيَ أَقُومُ

فَإِنَّ جَارَ اللَّهِ آمِنٌ

وَ عَدُوَّهُ خَائِفٌ

وَ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللَّهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ

فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ

وَ سَلَامَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ

فَلَا تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الْأَجْرَبِ

وَ الْبَارِئِ مِنْ ذِي السَّقَمِ

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي‏تَرَكَهُ

وَ لَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ

وَ لَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ

فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ

فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَ مَوْتُ الْجَهْلِ

هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ

وَ صَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ

وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ

لَا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ

فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ

وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام و هى الماة و السابعة و الاربعون من المختار في باب الخطب

فبعث محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، و من طاعة الشّيطان إلى طاعته، بقرآن قد بيّنه و أحكمه ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، و ليقرّوا به بعد إذ جحدوه، و ليثبّتوه بعد إذ أنكروه، فتجلّى سبحانه لهم في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أريهم من قدرته، و خوّفهم من سطوته، و كيف محق من محق بالمثلات، و احتصد من احتصد بالنّقمات.

و إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شي‏ء أخفى من الحقّ، و لا أظهر من الباطل، و لا أكثر من الكذب على اللَّه و رسوله، و ليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته، و لا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه، و لا في البلاد شي‏ء أنكر من‏المعروف، و لا أعرف من المنكر، فقد نبذ الكتاب حملته، و تناساه حفظته، فالكتاب يومئذ و أهله طريدان منفيّان، و صاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يئوبهما مؤو، فالكتاب و أهله في ذلك الزّمان في النّاس و ليسا فيهم، و معهم و ليسامعهم، لأنّ الضّلالة لا توافق الهدى و إن اجتمعا، فاجتمع القوم على الفرقة، و افترقوا عن الجماعة، كأنّهم أئمّة الكتاب و ليس الكتاب إمامهم، فلم يبق عندهم منه إلّا اسمه، و لا يعرفون إلّا خطّه و زبره، و من قبل ما مثلوا بالصّالحين كلّ مثلة، و سمّوا صدقهم على اللَّه فرية، و جعلوا في الحسنة عقوبة السّيّئة.

و إنّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم، و تغيّب آجالهم، حتّى نزل بهم الموعود الّذي تردّ عنه المعذرة، و ترفع عنه التّوبة، و تحلّ معه القارعة و النّقمة، أيّها النّاس من استنصح للَّه وفّق، و من اتّخذ قوله دليلا هدي للّتي هي أقوم، فإنّ جار اللَّه آمن، و عدوّ اللَّه خائف. و إنّه لا ينبغي لمن عرف عظمة اللَّه أن يتعظّم، فإنّ رفعة الّذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له، و سلامة الّذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له، فلا تنفروا من الحقّ نفار الصّحيح من الأجرب، و البارى‏ء من ذي السّقم، و اعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتّى تعرفوا الّذي تركه، و لن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الّذي نقضه، و لن تمسّكوا به حتّى تعرفوا الّذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنّهم عيش العلم، و موت الجهل، هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم، و صمتهم عن منطقهم، و ظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدّين، و لا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، و صامت ناطق.

اللغة

(تجلّى) الشي‏ء انكشف و ظهر و (محق) الشي‏ء محقا من باب منع أبطله و محاه و محق اللَّه الشي‏ء أذهب منه البركة و قيل هو ذهاب الشّي‏ء كلّه حتّى لا يرى له أثر و (المثلات) جمع المثلة بفتح الميم و ضمّ الثاء المثلّثة فيهما و هي العقوبة كذا في الاقيانوس و في القاموس، مثل بفلان نكل كمثل تمثيلا و هى المثلة بضمّ الثاء و سكونها و الجمع مثولات و مثلات و قال الفيومى: و مثلت بالقتيل مثلا من باب قتل و ضرب اذا جدعته و ظهرت آثار فعلك عليه تنكيلا و التشديد مبالغة و الاسم المثلة وزان غرفة و المثلة بفتح الميم و ضمّ الثاء العقوبة.

و (حصد) الزرع و النبات و احتصده قطعه بالمنجل و حصدهم بالسّيف و احتصدهم استأصلهم و (النّقمة) بالكسر و بالفتح و كفرحة المكافاة بالعقوبة جمعه نقم ككلم و عنب و نقمات ككلمات و (بار) الشي‏ء يبور من باب قال إذا فسد و (زبرت) الكتاب زبرا كتبته فهو زبور فعول بمعنى مفعول كرسول و الجمع زبر قال سبحانه: «وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» و الزّبر بالكسر الكتاب و جمعه زبور مثل قدر و قدور.

و (مثلوا) يروى بالتخفيف و التشديد معا أى نكلوا و (القارعة) الدّاهيةتفجؤ الانسان و قال الشّارح المعتزلي: المصيبة تقرع أى تلقى بشدّة و قوّة، و قوله. فانّ رفعة الذين، لفظة رفعة في بعض النّسخ بضمّ الرّاء و في أكثرها بالفتح و ضبط القاموس بالكسر قال: رفع ككرم رفاعة صار رفيع الصّوت و رفعة بالكسر شرف و علا قدره فهو رفيع كذا في الاوقيانوس.

الاعراب

قوله: ليعلم العباد، متعلّق بقوله: بيّنه أو أحكمه أو كليهما على سبيل التنازع و قوله: و كيف، عطف على قوله: من سطوته، و من الموصولة في قوله: من محق و من احتصد في محلّ النّصب مفعول به، و فاعل الأفعال الأربعة راجع إلى اللَّه سبحانه، و قوله: ليس فيه شي‏ء أخفى لفظة أخفى إمّا بتقدير الرّفع صفة لشي‏ء و يؤيّده رفع لفظ أظهر و أكثر المعطوفين عليه كما في بعض النسخ، و إمّا بتقدير النّصب على أنّه خبر ليس و يكون فيه متعلقا به، و على الأوّل فهو خبر مقدّم و ليس مع اسمه و خبره فى محل الرّفع صفة لزمان، و على تقدير نصب أخفى فيكون ما عطف عليه منصوبا كما في نسخة الشّارح المعتزلي و غيره، و مثله لفظ أبور و أنفق و أنكر و أعرف، و تروى جميعا بالرّفع و النّصب معا.

و قوله: و من قبل ما مثلوا بالصّالحين، لفظة ما مع الفعل بعدها في حكم المصدر و محلّه الرّفع بالابتداء، و من قبل خبرها أى مثلهم أو تمثيلهم بالصّالحين من قبل ذلك. و لا يجوز جعل ما موصولة و الجملة بعدها صلتها الخلوّها من الرّبط و على في قوله: و سمّوا صدقهم على اللَّه فرية، متعلّقة بفرية لا بصدقهم قال الشّارح المعتزلي، فان امتنع أن يتعلّق حرف الجرّ به لتقدّمه عليه و هو مصدر فليكن متعلّقا بفعل مقدّر دل عليه هذا المصدر الظّاهر.

و قوله: و جعلوا في الحسنة عقوبة السّيئة، باضافة العقوبة و في بعض النّسخ العقوبة السّيئة قال الشّارح المعتزلي: و الرّواية الاولى بالاضافة أكثر و أحسن.

و قوله: إنّه من استنصح، الضمير الشأن قال الشيخ عبد القاهر: إنّ لضمير الشأن مع إنّ حسنا ليس بدونها بل لا يصحّ بدونها نحو: إنّه من يتّق و يصبر، و إنّه من يعمل سوء، و انّه لا يفلح الكافرون، قال الشّارح المعتزلي: ما في قوله: ما عظمته بمعنى أىّ شي‏ء، و من روى بالنّصب جعلها زائدة

المعنى

اعلم أنّ مدار هذه الخطبة على فصول أربعة:

الفصل الاول في الاشارة إلى بعثة الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و الغرض من بعثته

و هو قوله (فبعث اللَّه محمّدا بالحقّ) و انّما بعثه (ليخرج عباده من عبادة الأوثان) و الأصنام (إلى عبادته و من طاعة الشيطان إلى طاعته) و لتخليص الخلق من عشق الدّنيا ورّق الطّبيعة و عبوديّة الهوى، و تشويقهم إلى حظائر القدس و مجالس الانس، و إيقاظهم عن مراقد الأبدان و نوم الغافلين، و ايصالهم إلى منازل الأبرار و المقرّبين و لم يقتصر سبحانه على مجرّد بعثه و إرساله، بل بعثه صلّى اللَّه عليه و آله (ب) ما يدلّ على صدق دعواه و مقاله من البراهين و الدلائل الباهرات و المعجزات الخارقة للعادات و أعظمها (قرآن قد بيّنه و أحكمه) أى كشفه و أوضحه و جعله متقنا مضبوطا مستقيما نظمه خاليا عن الخلل و الاختلاف كما قال عزّ من قائل: «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» و قال «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ» و في موضع آخر «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً».

و تخصيص القرآن بالذّكر من بين سائر المعجزات لما أشرنا إليه من أنّه أعظم‏معجزاته و أقويها و آكدها في باب التّحدى، و ذلك لأنّ الغالب على العرب حين بعثه صلوات اللَّه عليه و آله إنشاء الخطب و الرّسائل و المبالغة في فصاحة الكلام و بلاغته و حسن البيان و سلاسته، و مراعات المطابقة لمقتضى الحال و المحافظة على محاسن اللّفظ و بدائع النكت الغريبة، و لطائف المناسبات العجيبة و وجوه الاستعارات و التخيلات، و أنحاء المجاز و الكنايات، و سائر ما يزيد في الكلام رونقا و تاثيرا في القلوب.

فبعث اللَّه النّبيّ متحدّيا بالقرآن كتابا ساطعا تبيانه قاطعا برهانه بحجج و بيّنات و رسوم و آيات عجز عن الاتيان بما يماثلها أو يدانيها مصاقع الخطباء مشتملا على رموز و أسرار و علوم و أنوار تحيّرت في إدراكها عقول الأدباء، و مواعظ و حكم تبلّدت عن فهمها أذهان الحكماء، و لم يتصدّ لمعارضة أقصر سورة من سوره واحد من الفصحاء، و لم ينهض للقدح في كلمة من كلماته ناهض من أزكياء البلغاء، مع طول المدّة و كثرة العدّة، و شدّة الحرص و قوة الكدّ و غاية العصبيّة و نهاية الانانية و الافراط في المضادّة و المضارّة، و الرّسوخ في المنافرة و المفاخرة فاختاروا المقاتلة بالسّيف و السّنان على المعارضة بالكلام و البيان و الحجّة و البرهان، بعد ما خيّروا بين الأمرين.

فعلم أنّ المأتىّ به خارج عن مقدرة البشر، و إنّما هو أمر من عند خالق القوى و القدر، و به يهتدى إلى الرّشاد، و يحصل المعرفة بالمبدإ و المعاد كما قال عليه السّلام (ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه) يعني ببيان القرآن و أحكامه يحصل العلم بالربّ تعالى و ذلك لما اشتمل عليه من الآيات الدّالة على نعوت الجلال و صفات الجمال، و أدلّة التوحيد و براهين التّفريد مضافا إلى أنّه بنفسه مع قطع النّظر عن تلك الآيات كاف في الهداية إلى الحقّ الأوّل سبحانه بما فيه من وصف الاعجاز حسب ما اشرنا إليه، هذا.

و العجب من الشارح البحراني أنّه قال في شرح هذا المقام: و مدار هذا الفصل على بيان بعثة الرّسول، و بيان غاية البعثة، و السّبب المعدّ للوصول إلى تلك الغاية

ثمّ بيان غاية تلك الغاية، و الاشارة إلى البعثة بقوله: فبعث إلى قوله: بالحقّ، و أشار إلى غايتها بقوله: ليخرج إلى طاعته، و أشار إلى سبب تلك الغاية بقوله: بقرآن قد بيّنه، و أشار إلى غاية تلك الغاية أعني غاية طاعة اللَّه بقوله: ليعلم العباد إلى قوله: أنكروه، انتهى.

و أنت خبير بأنّ طاعة اللَّه سبحانه و عبادته إنّما تحصل بعد حصول العلم بالرّب، لأنّها فرع الدّين و هذا أصله و الأصل مقدّم على الفرع فكيف يمكن جعله غاية لها و ما هو إلّا من مفاسد قلّة التدبّر.

(و ليقرّوا به بعد إذ جحدوه و ليثبتوه بعد إذ أنكروه) إن كان المراد بالاقرار الاقرار باللّسان وحده و بالاثبات الاثبات بالجنان يكون عطف الجملة الثّانية على الاولى من باب التأسيس، و إن اريد بكلّ منهما الأعمّ فالمعنى بالجملتين واحد و الاختلاف في العبارة، و الاتيان بهما للتفنّن و على أيّ تقدير فالاثبات و الاقرار من جنود العقل، و الجحود و الانكار من جنود الجهل كما يفيده الحديث المرويّ في الكافي في باب العقل و الجهل عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام هذا.

و لما ذكر أنّ بالقرآن يحصل العلم بالرّب سبحانه و الاقرار به و إثباته أشار إلى كيفيّة حصول هذا العلم بقوله: (فتجلّى لهم سبحانه) أى ظهر ظهورا بيّنا (في كتابه) ربما يفسّر الكتاب هنا بعالم الايجاد و لما كان لفظ التجلّى موهما للظّهور برؤية البصر اتبعه بقوله (من غير أن يكونوا رأوه) من باب الاحتراس الذي عرفته في المحاسن البديعيّة من ديباجة الشّرح يعني أنّه سبحانه تجلّى لعباده و ظهر لهم لا برؤية البصر بل برؤية البصيرة (بما أراهم من قدرته) و ذكّرهم من بدائع مصنوعاته و حكمته و عجائب مبدعاته و صنعته كما قال عزّ من قائل: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» و قال «وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ‏ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى‏ بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ» و قال «وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» إلى غير ذلك ممّا لا نطيل بذكرها و قد مضى في شرح الخطبة التّسعين لا سيّما شرح الفصل السّادس منها ما فيه غنية للطالب و كفاية للمهتدى فليراجع ثمّة.

(و خوّفهم من سطوته) و حذرهم من نقمته كما قال عز و جلّ: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» و قال «إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى‏ أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» و غير ذلك من الآيات المشتملة على التّحذير بقصص الأوّلين، و التخويف بما جرى على السّلف الماضين.

(و) أنّه (كيف محق من محق بالمثلات) أي أهلك من أهلكه منهم و أذهب آثارهم عن وجه الأرض بالعقوبات النّازلة عليهم (و احتصد من احتصد بالنّقمات) أى استأصل من استأصله بما عذّبهم به مكافاة لسوء أعمالهم

الفصل الثاني في الاخبار عن زمان يأتي بعده بالأوصاف المذكورة

و هو قوله: (و أنّه سيأتي عليكم من بعدى زمان) الأظهر أنّ المراد به زمان بني اميّة و أيّام خلافتهم لاتّصافه بما وصفه من أنّه (ليس فيه شي‏ء أخفى من الحقّ و لا أظهر من الباطل و لا أكثر من الكذب على اللَّه و رسوله) و هو ظاهر للخبير بالسير و الأخبار.

فقد روى عن شعبة و هو امام المحدّثين عند العامّة أنّه قال: تسعة أعشار الحديث كذب، و عن الدّارقطنى ما الحديث الصحيح إلّا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، و قد كان جعل الأخبار الكاذبة و اشتهارها في زمن بني اميّة.

قال ابن عرفة المعروف بنفطويه و هو من أكابر محدّثى العامّة و أعلامهم‏

في تاريخه: إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصّحابة افتعلت في أيّام بني اميّة تقرّبا اليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أنف بني هاشم.

و يشهد بذلك ما تقدّم روايته في شرح الكلام السّابع و التّسعين من الخبر الذي رويناه من البحار عن كتاب سليم بن قيس الهلالي.

(و ليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب) أى متاع أكسد و أفسد من كتاب اللَّه سبحانه (إذا تلى حقّ تلاته) و فسّر على الوجه الذى انزل عليه و على المعنى الذي اريد منه، و ذلك لمنافاة المعنى المراد و الوجه الحقّ لأغراض أهل ذلك الزّمان الغالب على أهله الباطل و اتّباع الهوى.

(و لا أنفق منه) بيعا و أكثر رواجا (إذا حرّف عن مواضعه) و مقاصده الأصليّة و ذلك لموافقة أغراضهم الفاسدة (و لا في البلاد شي‏ء أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر) لما ذكرناه في شرح الكلام السابع عشر من أنّ المعروف لما خالف أغراضهم و مقاصدهم طرحوه حتّى صار منكرا بينهم يستقبحون فعله، و المنكر لما وافق دواعيهم لزموه حتّى صار معروفا بينهم يستحسنون أخذه.

(فقد نبذ الكتاب) وراء ظهره (حملته) أي أعرض عنه و ترك التدبّر فيه و العمل به قرّاؤه الحاملون له كمثل الحمار يحمل أسفارا (و تناساه حفظته) أى تغافلوا عن اتّباعه و عن امتثال أوامره و نواهيه (فالكتاب يومئذ و أهله) الّذين يتلونه حقّ تلاوته و هم أئمّة الدّين و أتباعهم الّذين يعملون به و يتّبعونه (طريدان منفيان) لأنّ أهل ذلك الزّمان برغبتهم إلى الباطل و عدولهم عن الحقّ معرضون عن الكتاب الهادي إلى الحقّ و عن أهله الأدلّاء اليه، بل مؤذون لهم فيما يخالفونهم فيه مما يقتضيه أحكام الكتاب، فكان إعراضهم عنه و عنهم إبعادا لهما و نفيا و طردا (و صاحبان مصطحبان في طريق واحد) أى متلازمان متّفقان على الدلالة في طريق الحقّ (لا يؤويهما مؤو) أى لا يضمّهما أحد من ذلك الزّمان إليه و لا ينزلهما عنده لنفرته عنهما و مضادّتهما لهواه.

(فالكتاب و أهله في ذلك الزّمان في النّاس) و بينهم ظاهرا (و ليسا فيهم)حقيقة لعدم اتّباعهما و الغاء فائدتهما فأشبها ما ليس بموجود و معهم بالمصاحبة الاتفاقية في الوجود، و ليسا معهم لانتفاء ثمرتهما و منافعهما عنهم (لأنّ الضّلالة لا توافق الهدى) يعني ضلالتهم لا توافق هدى الكتاب و أهله فكانا مضادّين لهم (و إن اجتمعا) في الوجود.

(فاجتمع القوم على الفرقة) أي اتّفق أهل ذلك الزّمان على الافتراق من الكتاب و تركه و طرده (و افترقوا عن الجماعة) أى الجماعة المعهودة و هم أهل الكتاب العاملون به.

قال الشارح البحراني (ره) في شرح هذه القرينة و سابقته، أي اتّفقوا على مفارقة الاجتماع و ما عليه الجماعة، أمّا في وقته عليه السّلام فكالخوارج و البغاة، و أمّا فيما يستقبل بعده من الزّمان فكالآخذين بالآراء و المذاهب المتفرّقة المحدثة في الدّين و الاجتماع على الفرقة يلازم الافتراق عن الجماعة، انتهى.

و ما ذكرنا أقرب و أنسب بالسياق و أولى فافهم (كأنّهم أئمة الكتاب) يحرّفونه و يغيّرونه و يبدّلونه و يأوّلونه عن وجهه على ما يطابق أغراضهم الفاسدة و يجبرون على مخالفته كما هو شان الامام مع الماموم (و ليس الكتاب إمامهم) الواجب عليهم اتّباعه و اللّازم لهم اقتفاء اثره.

و حيث إنهم خالفوه و نبذوه وراء ظهورهم (فلم يبق عندهم منه) في مقام التّمسك و الاستناد (إلّا اسمه و لا يعرفون) من آثاره و شئونه (إلّا خطّه و زبره) أى رسمه و كتابته فقط دون اتّباع مقاصده (و من قبل ما مثلوا بالصّالحين كلّ مثلة) أى من قبل الحالات المتقدّمة التي اشير اليها تنكيلهم بالصّالحين غاية تنكيل و عقوبتهم أشدّ عقوبة.

و لعلّه اشارة إلى ما صدر من بني اميّة في أوائل سلطنتهم، فقد روى العلّامة الحلّي قدّس اللَّه روحه في كشف الحقّ عن صاحب كتاب الهاوية أنّ معاوية قتل من المهاجرين و الأنصار و أولادهم أربعين ألفا، و فعل ابنه يزيد اللّعين بالحسين عليه السّلام و أصحابه في الطّف غني عن البيان، و كذلك ما فعله عبد الملك بن مروان و عامله‏الحجّاج عليهما لعائن اللَّه سبحانه بالعراق و الحجاز و غيرهما مشهور و مأثور، هذا.

و يحتمل أن يكون الاشارة بالكلام السّابق أعنى قوله: و إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان، إلى قوله: و من قبل إلى ملك فراعنة الأمّة أعني بني العبّاس خذلهم اللَّه، و يكون المراد بقوله: و من قبل الاشارة إلى زمن بني اميّة الكائن قبل زمن بني العبّاس، فانّ اتّصاف كلا الزّمانين بالأوصاف المذكورة لا غبار عليه.

و قوله: (و سمّوا صدقهم على اللَّه فرية) أى سمّوا صدق الصّالحين افتراء على اللَّه سبحانه و نسبوهم فى ما يقولون إلى الكذب (و جعلوا في الحسنة عقوبة السيّئة) يعني أنّهم بغلبة الشّرور و الفساد على طباعهم رأوا حسنات الصّالحين سيئات، فعاقبوهم عليها و عذّبوهم بها كما يعاقب المسي‏ء بإسائته.

الفصل الثالث في النّصح و الموعظة و تنبيه المخاطبين

على وجوب قصر الآمال على مفاسد طول الأمل الذي هو من أعظم الموبقات و أخزى السيّئات حسب ما عرفته في الخطبة الثانية و الأربعين و شرحها قال عليه السّلام هنا: (و إنّما هلك) أراد به الهلاك الاخروى (من كان قبلكم) من القرون الماضية (بطول آمالهم) في الدّنيا الموجب للاستغراق في لذّاتها و الانهماك في شهواتها المبعدة عن اللَّه سبحانه (و تغيّب آجالهم) عنهم الموجب للغفلة عنها و عن أخذ الزّاد ليوم المعاد (حتّى نزل بهم الموعود) أى الموت (الذي تردّ عنه المعذرة) أى لا يقبل فيه اعتذار معتذر (و ترفع عنه التّوبة) لأنّ بابها تنسدّ حين نزوله.

قال تعالى: «وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (و تحلّ معه القارعة) و المصيبة التي تقرع النّاس بالإفزاع و الأهوال (و) تتبعها (النقمة) و النكال.

و لمّا خوّفهم من طول الأمل عقّبه بالارشاد و الدّلالة على ما فيه صلاحهم فقال (أيّها النّاس إنّه من استنصح اللَّه وفّق) أي من اتّخذ اللَّه ناصحا له واعيا لكلامه حافظا لأوامره و نواهيه وفّق لكلّ خير (و من اتّخذ قوله دليلا) في مطالبه و مقاصده (هدى ل) لطريقة (الّتي هي أقوم) الطّرق و أنهجها.

و في هذه القرينة تلميح إلى قوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» قال الطّبرسي: يهدي إلى الديانة و الملّة و الطريقة الّتي هي أشدّ استقامة يقال هذه الطريق و للطّريق و إلى الظّريق، و قيل: معناه يرشد إلى الكلمة الّتي هى أعدل الكلمات و أصوبها و هى كلمة التّوحيد، و قيل: يهدى إلى الحال الّتي هي أعدل الحالات و هي توحيد اللَّه و الايمان به و برسله و العمل بطاعته انتهى.

و الأخير أظهر بمقتضى عموم وظيفته، و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام أنه يهدى إلى الامام، في رواية اخرى يهدى إلى الولاية.

و لما ذكر أنّ استنصاح اللَّه يستلزم التّوفيق و اتخاذ قوله دليلا يستلزم الهدى رتب عليه قوله: (فإنّ جار اللَّه آمن) تنبيها على ثمرة التوفيق و الهداية و هو حصول الجوار من اللَّه و القرب المحصّل لأمنه (و) به يعرف أنّ (عدوّ اللَّه خائف) لأنّ ترك استنصاحه تعالى مستلزم للخذلان و عدم اتّخاذ قوله دليلا موجب للضلال المبعدين عنه سبحانه و الجالبين لعداوته الذي هو محلّ الخوف و الخطر.

الفصل الرابع في الأمر بالتّواضع و التّسليم و الانقياد للَّه سبحانه

و بالمتابعة لأولياء الدّين و الرجوع اليهم و الأخذ منهم و هو قوله (و إنّه لا ينبغي لمن عرف عظمة اللَّه) سبحانه و جلاله و جبروته و سلطانه (أن يتعظّم) أى يظهر العظمة و يتكبّر، و تخصيص النّهى عن التعظّم بمن عرف عظمته تعالى لاحتقاره نفسه عند ملاحظته لنفسه و نسبته لها إلى جلاله تعالى، فهو أسرع انفعالا و أحقر في نفسه أن يتكبّر على اللَّه.

فهو نظير قوله سبحانه: «قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا» فانّ شرطها في التعوّذ منه كونه تقيا، لأنّ التقىّ إذا تعوّذ بالرّحمن منه ارتدع عمّا يسخط اللَّه كما تقول: إن كنت مؤمنا فلا تظلمنى قال أمير المؤمنين عليه السّلام: علمت أنّ التّقيّ ينهاه التّقى عن المعصية، هذا.

و علّل حسن التّواضع بقوله (فانّ رفعة الّذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له) يعني أنّ تواضعهم سبب لرفعة درجاتهم و علوّ مقامهم عند الخالق و الخلايق في الدّنيا و الآخرة أمّا في الدّنيا فمعلوم بالبديهة و العيان غنيّ عن البيان، و أمّا في العقبى فلدلالة الأخبار الكثيرة عليه.

روى في البحار عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ موسى بن عمران حبس عنه الوحى ثلاثين صباحا، فصعد على جبل بالشّام يقال له اريحا، فقال: يا ربّ لم حبست عنّى وحيك و كلامك الذنب أذنبته فها أنا بين يديك فاقتص لنفسك رضاها، و إن كنت إنما حبست عنّى وحيك و كلامك لذنوب بني اسرائيل فعفوك القديم، فأوحى اللَّه إليه يا موسى تدرى لم خصصتك بوحيى و كلامى من بين خلقى فقال: لا أعلمه يا ربّ، قال: يا موسى إنّي اطلعت على خلقي اطلاعة فلم أر في خلقي أشد تواضعا منك، فمن ثمّ خصصتك بوحيى و كلامي من بين خلقي، قال عليه السّلام: فكان موسى إذا صلّى لم ينفتل حتّى يلصق خدّه الأيمن بالأرض و خدّه الأيسر بالأرض.

و في عدّة الدّاعي عن الباقر عليه السّلام قال: أوحى اللَّه تعالى إلى موسى أ تدرى لم اصطفيتك بكلامى من دون خلقى قال: لا يا ربّ قال: يا موسى إني قلّبت عبادى ظهرا لبطن فلم أرأذلّ نفسا منك، إنك إذا صلّيت وضعت خدّيك على التراب.

و في رواية اخرى قلّبت عبادى ظهرا لبطن فلم أرأذلّ لي نفسا منك فأحببت أن أرفعك من بين خلقى.

و عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ثلاثة لا يزيد اللَّه بهنّ إلّا خيرا: التواضع لا يزيد اللَّه به إلّا ارتفاعا، و ذلّ النّفس لا يزيد اللَّه به إلّا عزّا، و التعفّف لا يزيد اللَّه به إلّا غني.

و في احياء العلوم لأبي حامد الغزالي قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: ما زاد اللَّه عبدا بعفو إلّا عزّا و ما تواضع أحد للَّه إلّا رفعه اللَّه.

قال المسيح عليه السّلام: طوبى للمتواضعين في الدّنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة طوبى للمصلحين بين النّاس في الدّنيا هم الّذين يرثون الفردوس، طوبى للمطهرة قلوبهم في الدّنياهم الّذين ينظرون إلى اللَّه تعالى يوم القيامة و قال ابن عباس قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله إذا تواضع العبد رفعه اللَّه إلى السّماء السّابعة و قال صلّى اللَّه عليه و آله: التواضع لا يزيد العبد إلّا رفعة فتواضعوا يرحمكم اللَّه و عن الفضيل و قد سئل عن التواضع ما هو، فقال: أن تخضع للحقّ و تنقاد له و لو سمعته من صبىّ قبلته و لو سمعته من أجهل النّاس قبلته، هذا.

و التّواضع من جنود العقل و يقابله التكبّر الّذي نشرح حاله في التّنبيه الآتى و هو من جنود الجهل، و الأوّل من منجيات الأخلاق و فضائل الأحوال، و الثاني من موبقات الصفات و رذائل الخصال، و لا يحصل التواضع إلّا بمعرفة النفس و معرفة الرّب تعالى، فمهما عرف نفسه حقّ المعرفة علم أنّه أذلّ من كلّ ذليل و أقلّ من كلّ قليل، و أنّه لا يليق به إلّا التواضع و الذلّة و المهانة، و إذا عرف ربّه علم أنّه لا يليق العظمة و الكبرياء إلّا به.

و علّله أيضا بقوله (و سلامة الّذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له) يعني سلامة من علم عموم قدرته سبحانه و غلبة عزّته تعالى من النّار و من غضب الجبّار إنّما تحصل بالاستسلام و ترك الاستكبار و الأوّل من جنود العقل، و الثّاني من جنود الجهل.

قال بعض شرّاح الكافي: الاستسلام هو الطاعة و الانقياد لكلّ ما هو حقّ، و هو من صفات المؤمن، و عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: المؤمنون هيّنون ليّنون إن قيدوا انقادوا و ان انيخوا استناخوا، و ضدّ الانقياد الاستكبار و الانفة، و الفرق بينه و بين الكبر أنّ الكبر حالة نفسانية كائنة في النفس ربما لم يظهر أثره في الخارج بخلاف الاستكبارفانّه عبارة عن إظهار التكبر.

و لما أمرهم بالتواضع و الاستسلام للَّه سبحانه المستلزمين لأخذ الحقّ و قبوله من أهله اتبعه بقوله: (فلا تنفروا من الحقّ) و أهله و هم أولياء الدّين (نفار الصحيح من الأجرب و البارى‏ء من ذى السّقم) أى أشدّ النّفار كما في الشّبه بهما، هذا و لما نهاهم عن النفار من الحقّ و أمرهم بلزومه عقّبه بقوله (و اعلموا أنكم لن تعرفوا الرّشد حتّى تعرفوا الّذي تركه) الرّشد يساوق الحقّ كما أنّ الغيّ يساوق الباطل، و الغرض بهذه الجملة التنبيه على أنّ معرفة الرّشد أي الحقّ تتوقّف على معرفة تاركه أى أئمّة الضّلال و أهل الباطل إذ مع عدم معرفتهم ربما يشتبه فيزعم أنّ أقوالهم حقّ فيأخذ بها و يقع في الخبط و الضلال.

كما اشير إليه في الخطبة الثامنة و الثلاثين بقوله: و إنما سمّيت الشبّهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ فأما أولياء اللَّه فضياءهم فيها اليقين و دليلهم سمت الهدى و أمّا أعداء اللَّه فدعائهم فيها الضّلال و دليلهم العمى، و قد مضى في شرح هذه الخطبة ما ينفعك ذكره في هذا المقام، فاللّازم على طالب الرّشد أن يعرف أئمة الغىّ و الضلال و يجتنب عنهم.

و بما ذكر يظهر أيضا معنى قوله: (و لن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الّذي نقضه و لن تمسّكوا به حتّى تعرفوا الّذي نبذه) توضيح ذلك أنّ كتاب اللَّه سبحانه لما كان من أسباب الرّشد كما قال تعالى: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ» و كان التمسّك به منقذا من الضّلال كما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في حديث الثقلين: انّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي الثقلين و أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي، لاجرم كان الأخذ و التمسّك به واجبا.

و لما كان معنى الأخذ و التمسّك هو اتّباعه و معرفة معناه حقّ العلم و العمل بمواثيقه و أحكامه الّتى هي عهد اللَّه تعالى لزم على ذلك معرفة الناقضين لمواثيقه و النابذين لأحكامه وراء ظهورهم، و هم المحرّفون المبدّلون له و المغيّرون لأحكامه‏ و المفسّرون له بآرائهم المتبوّءون مقعدهم من النّار، و إنّما توقف الأخذوا لتمسّك على معرفة هؤلاء ليحترز عن الرّجوع اليهم و الى تفاسيرهم كيلا يتبوّء مقعده مثلهم من النار.

و محصّل المراد من هذه الجملات الثلاث التّنبيه على وجوب التبرّى من أئمّة الضّلال و المعاداة لأعداء اللَّه سبحانه و قد دلّت عليه النصوص الكثيرة.

مثل ما في البحار من السرائر من كتاب انس العالم للصفوانى قال: إنّ رجلا قدم على أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين إنّي احبّك و احبّ فلانا و سمّى بعض أعدائه فقال: أمّا الآن فأنت أعور فإمّا أن تعمى و إمّا أن تبصر.

و قيل للصّادق عليه السّلام: إنّ فلانا يواليكم إلّا أنّه يضعف من البراءة من عدوّكم فقال هيهات كذب من ادّعى محبّتنا و لم يتبرّء من عدوّنا.

و روى عن الرّضا عليه السّلام أنه قال: كمال الدّين ولايتنا و البراءة من عدوّنا.

ثمّ قال الصفواني: و اعلم أنّه لا يتمّ الولاية و لا تخلص المحبّة و لا تثبت الموده لآل محمّد عليهم السّلام إلّا بالبرائة من أعدائهم قريبا كان أو بعيدا، فلا تأخذك به رأفة فانّ اللَّه عزّ و جلّ يقول: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ».

و فيه من تفسير العيّاشي عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر عليه السّلام يا أبا حمزة انّما يعبد اللَّه من عرف اللَّه، و أمّا من لا يعرف اللَّه كأنّما يعبد غيره هكذا«» ضالّا، قلت: أصلحك اللَّه و ما معرفة اللَّه قال: يصدّق اللَّه و يصدّق محمّدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في موالاة عليّ و الائتمام به و بأئمّة الهدى من بعده، و البراءة إلى اللَّه من عدوّهم، و كذلك عرفان اللَّه، قال قلت: أصلحك اللَّه أىّ شي‏ء اذا علمته أنا استكملت حقيقة الايمان قال: توالى أولياء اللَّه و تعادى أعداء اللَّه و تكون مع الصّادقين كما أمرك اللَّه، قال: قلت: و من أولياء اللَّه و من أعداء اللَّه فقال: أولياء اللَّه محمّد رسول اللَّه و عليّ و الحسن و الحسين‏و عليّ بن الحسين، ثمّ انتهى الأمر الينا ثمّ ابنى جعفر و أومأه إلى جعفر عليه السّلام و هو جالس، فمن والى هؤلاء فقد والى أولياء اللَّه و كان مع الصّادقين كما أمره اللَّه قلت و من أعداء اللَّه أصلحك اللَّه قال: الأوثان الأربعة قال: قلت: من هم قال: ابو الفصيل«»، و رمع، و نعثل، و معاوية و من دان دينهم، فمن عادى هؤلاء فقد عادى أعداء اللَّه.

و من عقايد الصّدوق قال: اعتقادنا في الظّالمين أنّهم ملعونون و البراءة منهم واجبة، قال اللَّه عزّ و جلّ: «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى‏ رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى‏ رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ».

و قال ابن عبّاس في تفسير هذه الآية: إنّ سبيل اللَّه عزّ و جلّ في هذا الموضع هو عليّ بن أبي طالب.

و الأئمة في كتاب اللَّه عزّ و جلّ إمامان: إمام هدى و إمام ضلالة، قال جلّ ثناؤه «وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» و قال عزّ و جلّ في أئمة الضلالة: «وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ».

و لمّا نزلت هذه الآية: «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» قال النّبي صلّى اللَّه عليه و آله من ظلم عليا مقعدى هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوّتي و نبوّة الأنبياء من قبلي، و من تولّى ظالما فهو ظالم.

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» و قال اللَّه عزّ و جلّ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» و قال عزّ و جلّ «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ»

و قال عزّ و جلّ: «وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» و الظلم هو وضع الشي‏ء في غير موضعه، فمن ادّعى الامامة و ليس بامام فهو ظالم ملعون.

و قال النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من جحد عليا إمامته من بعدى فانّما جحد نبوّتى، و من جحد نبوّتي فقد جحد اللَّه ربوبيّته.

و قال النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: يا عليّ أنت المظلوم بعدي من ظلمك فقد ظلمني و من أنصفك فقد أنصفني و من جحدك فقد جحدني و من والاك فقد والاني و من عاداك فقد عاداني و من أطاعك فقد أ طاعتي و من عصاك فقد عصاني، الى غير ذلك مما لا نطيل بذكرها.

فقد علم بذلك كلّه وجوب التّبرّى عن أئمّة الضّلال و التولّى لأئمّة الهدى.

و ذلك لما نبّه أمير المؤمنين عليه السّلام على التنفير عن الفرقة الاولى بمعرفتهم و معرفة ما هم عليه من الخطاء و الجهل و الشبّه أمر باتّباع الفرقة الاخرى و الرجوع اليهم بقوله: (فالتمسوا) و اطلبوا (ذلك) أى ما سبق ذكره يعني الحقّ و الرشد و ميثاق الكتاب و كيفية التمسّك به (من عند أهله) أراد به نفسه الشريف و الطيّبين من أولاده أعنى الأئمة المعصومين و ينابيع العلم و اليقين (فانهم عيش العلم و موت الجهل) أى بهم حياة العلم و ممات الجهل و استعار لهم هذين الوصفين باعتبار أنّ بهم ينتفع بالعلم و يحصل ثمراته و آثاره كما أنّ بحياة الشي‏ء يوجد آثاره و ينتفع به، و كذلك بهم يبطل الجهل و يضمحلّ كما أنّ بالموت يبطل حياة الحىّ و يفنى.

(هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم) يجوز أن يراد بالحكم ما صدر عنهم من الأحكام الشرعية و التكاليف الالهية، و أن يراد به القضاء و فصل الخصومات في الوقائع الشخصيّة، و على أيّ تقدير يدلّ ما صدر عنهم من القضاء و الأحكام على غزارة علمهم و جمّ معرفتهم عليهم السّلام، و ينبئك بذلك ما قدّمناه في شرح قوله عليه السّلام: و عندنا أهل البيت أبواب الحكم، في شرح الكلام المأة و التاسع عشر فتذكّر.

(و صمتهم من منطقهم) فانّ لصمت اللّسن ذي الحكمة الغزيرة هيئة و حالة و وقارا يدل على حسن منطقه و علمه بما يقول (و ظاهرهم عن باطنهم) أي حسن أفعالهم و حركاتهم الظاهريّة يكشف عن كمالاتهم و ملكاتهم النفسانيّة (لا يخالفون الدّين) لأنهم قوامه و أولياؤه و ملازمون له، معصومون من الذنوب، مبرّؤون من العيوب (و لا يختلفون فيه) أى لا يختلف أحدهم للآخر فيما يؤدّونه من أحكام اللَّه و يبلّغونه من أوامره، لأنّ علومهم كلّها من نبع واحد ملقاة عن مهبط الوحى و معدن الرّسالة، و بعد اتّحاد المنبع لا يتصوّر الاختلاف لمكان العصمة المانعة عن تعمد الكذب و الغلط و السّهو و الخطاء النّاشي منها الاختلاف.

روى في الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال اللَّه عزّ و جلّ في ليلة القدر: فيها يفرق كلّ أمر حكيم، يقول: ينزل فيها كلّ أمر حكيم، و المحكم ليس بشيئين، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللَّه عزّ و جلّ، و من حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطّاغوت، الحديث و قد مرّ بتمامه في شرح الفصل التّاسع من الخطبة الاولى.

و في البحار من معاني الأخبار عن الحسين الأشقر قال: قلت لهشام بن الحكم ما معنى قولكم: إنّ الامام لا يكون إلّا معصوما قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن ذلك فقال: المعصوم هو الممتنع باللَّه من جميع محارم اللَّه، و قال اللَّه تبارك و تعالى: «وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ».

قال المحدّث العلّامة المجلسيّ: قال الصّدوق في معاني الأخبار بعد خبر هشام: الدّليل على عصمة الامام أنّه لما كان كلّ كلام ينقل عن قائله يحتمل وجوها من التأويل كان أكثر القرآن و السنّة مما اجتمعت الفرقة على أنّه صحيح لم يغيّر و لم يبدّل و لم يزد فيه و لم ينقص منه محتملا لوجوه كثيرة من التّأويل، وجب أن يكون مع ذلك مخبر صادق معصوم من تعمّد الكذب و الغلط منبى‏ء عمّا عنى اللَّه عزّ و جلّ في الكتاب و السّنّة على حقّ ذلك و صدقه، لأنّ الخلق مختلفون في التّأويل، كلّ فرقة تميل مع القرآن و السّنة إلى مذهبها، فلو كان اللَّه تبارك و تعالى تركهم بهذه الصّفة من غير مخبر عن كتابه صادق فيه لكان قد سوّغهم الاختلاف‏ في الدّين و دعاهم اليه إذ أنزل كتابا يحتمل التأويل و سنّ نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم سنّة تحتمل التأويل و أمرهم بالعمل بهما، فكأنّه قال: تأوّلوا و اعملوا، و في ذلك إباحة العمل بالمتناقضات و الاعتماد للحقّ و خلافه، فلمّا استحال ذلك على اللَّه عزّ و جلّ وجب أن يكون مع القرآن و السّنّة في كلّ عصر من يبيّن عن المعاني الّتي عناها اللَّه عزّ و جلّ في القرآن بكلامه دون ما يحتمل ألفاظ القرآن من التأويل، و يبيّن عن المعاني الّتي عناها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في سنّته و أخباره دون التأويل الّذي يحتمله الأخبار المرويّة عنه المجمع على صحّة نقلها، و إذا وجب أنّه لا بدّ من مخبر صادق وجب أن لا يجوز عليه الكذب تعمّدا، و لا الغلط فيما يخبر به عن مراد اللَّه عزّ و جلّ و عن مراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في اخباره و سنّته، و إذا وجب ذلك وجب أنّه معصوم، انتهى كلامه رفع مقامه.

فقد ظهر بذلك أنّه لا يتصوّر منهم الاختلاف في شرائع الدّين لا من أحدهم للآخر و لا من كلّ منهم فيما يصدر عنه من الأحكام المتعدّدة كما ظهر به وجوب الرجوع في فهم مرادات الكتاب و السّنّة إليهم حسب ما نبّه عليه أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله آنفا: فالتمسوا ذلك من عند أهله، فافهم و اغتنم.

(فهو) أى الدّين بينهم (شاهد صادق) أى شاهد صدق يشهد على اتّفاقهم فيه و عدم اختلافهم و خلافهم له (و صامت ناطق) أى ساكت باعتبار كونه أمرا عرضيّا اعتباريّا لا وجود له في الأعيان، و ناطق باعتبار افادته لكونهم ملازمين له و متّفقين عليه و إنبائه عن أنّهم على الحقّ و الحقّ معهم، هذا.

و ما ذكرناه في تفسير هاتين الفقرتين أظهر و أولى ممّا قاله الشارح البحراني حيث قال: و قوله: شاهد صادق أى شاهد يستدّلون به على الأحكام و الوقائع النّازلة بهم و بغيرهم لا يكذّب من حيث هو شاهد، و صامت ناطق لكونه حروفا و أصواتا، و إنما ينطق بألسنتهم فهو بمنزلة النّاطق، انتهى.

قال الشّارح المعتزلي: فالدّين بينهم شاهد صادق يأخذون بحكمه كما يأخذبحكم الشاهد الصادق، و صامت ناطق لأنه لا ينطق بنفسه بل لا بدّ له من مترجم فهو صامت في الصّورة و في المعنى أنطق النّاطقين، لأنّ الأوامر و النواهي و الآداب كلّها مبنيّة عليه و متفرّعة عنه، انتهى.

و أنت خبير بما فيما قالاه من الضّعف و الفساد و كونه أجنبيّا على تقدير صحّته من مساق كلام الامام عليه السّلام فافهم و تأمّل.

تنبيه

لمّا كانت هذه الخطبة الشريفة متضمنة للأمر بالتواضع و النّهى عن التكبّر و اشرنا إلى فضل التّواضع و حسنه أحببنا أن نشرح صفة الكبر و نبيّن ما ورد فيه من الأدلّة الدّالة على قبحه و خسّته و كونه من الموبقات، و الكلام فيه في مقامات

المقام الاول في الآيات و الأخبار الواردة في النّهى عن تلك الصّفة

و المتضمّنة لقبحها و ذمّها و ما يترتّب عليه من الخزى و العقاب.

فأقول: قال اللَّه تعالى في سورة الزّمر: «وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ». و في سورة المؤمن: «الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ». و في سورة المؤمن أيضا: «وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» أى صاغرين ذليلين.

و في سورة بني اسرائيل: «وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» قال الطبرسي: معناه لا تمش على وجه الأشر و البطر و الخيلاء و التكبّر و قوله: إنّك لن تخرق الأرض، هذا مثل ضربه اللَّه تعالى، قال:

إنّك أيّها الانسان لن تشقّ الأرض من تحت قدمك بكبرك، و لن تبلغ الجبال بتطاولك، و المعنى أنّك لن تبلغ ممّا تريد كثير مبلغ كما لا يمكنك أن تبلغ هذا فما وجه المنابذة على ما هذا سبيله مع أنّ الحكمة زاجرة عنه، و انّما قال ذلك، لأنّ من النّاس من يمشى فى الأرض بطرا يدقّ قدميه عليها ليرى بذلك قدرته و قوّته و يرفع رأسه و عنقه، فبيّن سبحانه أنه ضعيف مهين لا يقدر أن يخرق الأرض بدقّ قدميه عليها حتّى ينتهى إلى آخرها، و أنّ طوله لا تبلغ طول الجبال و إن كان طويلا، هذا.

و الآيات الناهية في الكتاب العزيز كثيرة لا حاجة إلى ايرادها.

و اما الاخبار ففي الكافي باسناده عن أبي حمزة الثمالي قال. قال عليّ بن الحسين صلوات اللَّه عليهما: عجبا للمتكبّر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثمّ هو غدا جيفة.

و عن عيسى بن ضحاك قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: عجبا للمختال الفخور و إنّما خلق من نطفة ثمّ يعود جيفة و هو فيما بين ذلك لا يدرى ما يصنع به.

و عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفليّ عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجل فقال: يا رسول اللَّه أنا فلان بن فلان حتى عدّ تسعة.

فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: أما أنّك عاشرهم في النّار.

و عن حكيم قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن أدنى الالحاد، قال عليه السّلام: إنّ الكبر أدناه.

و عن العلاء بن الفضيل عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: العزّ رداء اللَّه، و الكبر ازاره، فمن تناول منه شيئا أكبّه اللَّه في جهنّم.

و عن عبد الأعلا بن أعين قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: إنّ أعظم الكبر غمس الخلق و سفه الحقّ، قلت: و ما غمس الخلق و سفه الحقّ قال: يجهل الحقّ و يطعن على أهله، فمن فعل ذلك فقد نازع اللَّه ردائه.

و عن أعظم بن كثير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنّ في جهنّم لواديا للمتكبّرين‏

يقال له سقر شكى إلى اللَّه شدّة حرّة و سأله أن يأذن له أن يتنفّس فتنفّس فأحرق جهنّم.

و عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: ما من عبد إلّا و في رأسه حكمة و ملك يمسكها فاذا تكبّر قال له: اتّضع وضعك اللَّه، فلا يزال أعظم النّاس في نفسه و أصغر النّاس في أعين الناس، و إذا تواضع رفعها اللَّه عزّ و جلّ ثمّ قال له: انتعش نعشك اللَّه فلا يزال أصغر الناس في نفسه و أعظم النّاس في أعين النّاس.

و في احياء العلوم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر، و لا يدخل النّار من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من ايمان.

و قال أبو هريرة: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: يقول اللَّه تعالى: الكبرياء ردائى و العظمة ازاري فمن نازعنى واحدا منهما ألقيته في جهنّم و لا ابالي.

و قال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: بئس العبد عبد تجبّر و اعتدى و نسى الجبّار الأعلى، بئس العبد عبد تجبّر و اختال و نسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد غفل و سهى و نسى المقابر و البلى، بئس العبد عبد عتا و بغى و نسى المبدأ و المنتهى.

و قال أبو هريرة قال النّبي صلّى اللَّه عليه و آله: يحشر الجبّارون و المتكبّرون يوم القيامة في صور الذّر تطؤهم النّاس لهوانهم على اللَّه تعالى.

و عن محمّد بن واسع قال: دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له: يا بلال إنّ أباك حدّثني عن أبيه عن النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ في جهنّم واديا يقال له هبهب حقّ على اللَّه أن يسكنه كلّ جبار فايّاك يا بلال أن تكون ممّن يسكنه.

الثاني في حقيقة الكبر و ماهيته

و هو الانتفاخ و التعزّز الحاصل من استعظام النّفس و استحقار الغير،و بعبارة اخرى هو أن يرى نفسه فوق غيره في صفات الكمال فيحصل من ذلك فيه نفخة و اهتزاز و تلك النفخة هي الكبر، و لذلك قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: أعوذ بك من نفخة الكبرياء، و هذه الحالة إذا حصلت في النفس اقتضت أعمالا في الظاهر تصدر عن الجوارح هي ثمرات تلك الخصلة الرّذيلة، فالكبر هي الحالة النّفسانيّة و الخلق الباطني، و ثمرات تلك الخضلة و آثارها في الظّاهر تسمّى تكبّرا كالترفّع في المجالس و التقدّم على الغير و توقع السّلام و النظر بعين التحقير، فان حاجّ أو ناظر أنف أن يردّ عليه، و إن وعظ استنكف من قبول الحقّ، و إن وعظ أعنف في النّصح، و إن ردّ عليه شي‏ء من قوله غضب، و إن علّم لم يرفق بالمتعلّمين و استذلّهم و امتنّ عليهم، و إن نظر إلى العامّة نظر إليهم بعين الاحتقار كأنه ينظر إلى الحمير استجهالا لهم و استحقارا.

الثالث في المتكبر عليه

و الفرق بين الكبر و العجب بذلك، فانّ العجب لا يستدعى غير المعجب بل لو لم يخلق الانسان إلّا وحده يمكن أن يكون معجبا، بخلاف الكبر فانّه يتوقّف على أن يكون هنا غير فيرى نفسه فوق هذا الغير في صفات الكمال، و ذلك الغير هو المتكبّر عليه، و ينقسم الكبر باعتبار المتكبّر عليه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الاول التكبّر على اللَّه سبحانه

و هو من أفحش أنواع الكبر و أقبحها و أوبقها، و لا منشأ له إلّا محض الجهل و الحمق و الطّغيان، و ذلك مثل ما كان في نمرود حيث كان يحدّث نفسه بأنّه يقاتل ربّ السّماء، و في فرعون حيث قال أنا ربّكم الأعلى و في شدّاد حيث بنى إرم ذات العماد، و نحو ذلك ممّا صدر عن المدّعين للرّبوبيّة و المترفّعين عن درجة العبودية، وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ‏أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً.

القسم الثاني التكبّر على الأنبياء و الرّسل و الأوصياء عليهم السّلام

من حيث تعزّز النفس و ترفّعها عن الانقياد لبشر مثل سائر النّاس، و ذلك تارة يصرف عن الفكر و الاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره و هو ظانّ أنّه محقّ فيه، و تارة يمنع مع المعرفة و لكن نفسه لا تطاوع الانقياد للحقّ و التّواضع للرّسل كما حكى اللَّه عن قولهم: «قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا» و قوله: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» «وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ».

و قال سبحانه فيما اخبر عن كفّار قريش في رسول اللَّه: «وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» استبعدوا أن يكون من يأكل الطعام و يطلب المعاش في الأسواق رسولا مطاعا و استحقروه لفقره حتّى تمنّوا له الكنز لينفق منه و يستغني به عن النّاس و تمنّوا له البستان ليأكل من ثمارها.

و أخبر عنهم أيضا بقوله: «وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» يعنون بالقريتين مكّة و الطّائف و بالرّجل العظيم الوليد بن المغيرة من مكة و أبا مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، و انما قالوا ذلك لأنّ الرجلين كانا عظيمي قومهما ذوى الأموال الجسيمة فزعموا أنّ من كان كذلك أولى بالنّبوّة من غلام يتيم لا مال له فردّ اللَّه عليهم بقوله: «أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» أى النّبوة بين الخلق يعني أ بأيديهم مفاتيح الرسالة يضعونها حيث شاءوا، بل هى بيد اللَّه سبحانه يعطيها من يشاء.

و من هذا القسم تكبّر المتخلّفين على أمير المؤمنين عليه السّلام و تكبّر امراء بنى امية و بني مروان و بني العبّاس لعنهم اللَّه أجمعين على أئمّة الدّين.

القسم الثالث التكبّر على العباد

و ذلك بأن يستعظم نفسه و يستحقر غيره، فيدعوه ذلك إلى التّرفع عليه و يأباه عن الانقياد إليه و هذا أيضا قبيح من وجهين: أحدهما أنّ الكبر و العزّ و العظمة و الجلال لا يليق إلّا بالملك القادر المتعال فمن أين يليق هذا الوصف بالعبد الضّعيف الذّليل المهين، فمتى تكبّر فقد نازع اللَّه في جلاله و انتحل وصف كماله، و ما أشدّ جرئته على مولاه، و ما أقبح ما ادّعاه و تعاطاه، و لذلك قال عزّ من قائل: العظمة ازاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته، أراد أنّهما مختصّان بي اختصاص الازار و الرّداء و المنازع فيهما منازع في الصفّة المخصوصة بي.

و ثانيهما أنّه ربما يدعو إلى مخالفة أمر اللَّه و نهيه، لأنّ المتكبّر إذا سمع الحقّ من أحد استنكف من قبوله، و لذلك ترى اكثر المناظرين في المسائل العلمية يزعمون أنّهم يتباحثون للافادة و الاستفادة فمهما اتّضح الحقّ على لسان واحد منهم أنف الآخر من قبوله و ركب مركب العصبية و العناد، و يتجاحد تجاحد المنكر، و يحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس، لئلّا يظهر للنّاس مغلوبيّته، و من ذلك كان علماء الآخرة يتجنّبون عن المناظرة في المجالس.

و قد روى السيّد المحدّث الجزائري أنّ المولى الصّالح العالم عبد اللَّه التستري كان إذا سأل مولانا المقدّس الأردبيلي عطّر اللَّه مرقده عن مسألة و تكلّما فيها سكت الأردبيلي في أثناء الكلام، و قال حتّى اراجعها في الكتب، ثمّ أخذ بيد التّسترى و يخرجان من النّجف الأشرف إلى خارج البلد فاذا انفردوا قال المولى الأردبيلي: هات يا أخي تلك المسألة فيتكلّم فيها و يحقّقها الأردبيلي على ما يريد المولى التسترى، فسأله و قال يا أخي هذا التحقيق هلّا تكلّمت به هناك حيث ما سألتك فقال: إنّ كلامنا كان بين النّاس و عسى أن يكون فيه تنافس و طلب الظفر منك أو منّى و الآن لا أحد معنا سوى اللَّه سبحانه.

و كيف كان فهذا الخلق من أخلاق الكافرين و المنافقين الّذين حكى اللَّه عنهم‏

بقوله: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» فكلّ من يناظر للافحام و الغلبة لا يغتنم الحقّ إذا ظفر به فقد شاركهم في هذا الخلق و تبعهم عليه.

و أوّل من صدر عنه التّكبر على أمر اللَّه تعالى هو ابليس اللّعين حيث إنّه لما دعى إلى السّجود لآدم عليه السّلام قال: أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين، فحمله الكبر على الاباء من السّجود الّذي أمره اللَّه به، و كان مبدؤه الكبر على آدم و الحسد له فجرّه ذلك إلى التكبّر على أمر اللَّه فكان ذلك سبب الطّرد و الابعاد، و اهلاكه أبد الآباد.

الرابع في ما به التكبر

فاعلم أنّ أسباب الكبر سبعة:

الاول العلم

و ما أسرع الكبر إلى العلماء و لذلك قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم آفة العلم الخيلاء فلا يلبث العالم أن يتعزّز بعزّ العلم و يستشعر في نفسه جمال العلم و كماله و يستعظم نفسه و يستحقر النّاس و يستجهل و يتوقّع أن يبدءوه بالسّلام، فان بدء واحدا منهم بالسّلام أو ردّ عليه ببشر أو قام له أو أجاب له دعوة يمتنّ به عليه و رأى ذلك صنيعة عنده و اعتقد أنّه أكرمه و فعل به ما لا يستحقّه.

و السّبب لكبره هو خوضه في تحصيل العلوم و هو ردىّ النّفس خبيث الدّخلة سيّ‏ء الأخلاق فانّه لم يشتغل أوّلا بتهذيب نفسه و تزكية قلبه بالمجاهدات و الرياضات فبقى خبث الجوهر فاذا خاض في العلم أىّ علم كان صادف العلم من قبله منزلا خبيثا فلم يطب ثمره و لم يظهر في الخير أثره.

و لذلك قال عيسى بن مريم عليه السّلام: بالتّواضع تعمر الحكمة لا بالتكبّر و كذلك في السّهل ينبت الزرع لا في الجبل.

و قال وهب: العلم كالغيث ينزل من السّماء حلوا صافيا فتشربه الأشجاربعروقها فتحوله على قدر طعومها فيزداد المرّ مرارة و الحلو حلاوة، فكذلك العلم يحفظه الرّجال فتحوله على قدر هممها و أهوائها فيزيد المتكبّر كبرا و المتواضع تواضعا، لأنّ من كان همّته الكبر و هو جاهل إذا حفظ العلم وجد ما يتكبّر به فازداد كبرا، و إذا كان الرّجل خائفا مع جهله و ازداد علما علم أنّ الحجّة قد تأكّدت في حقّه فيزداد خوفا و إشفاقا و ذلّا و تواضعا.

الثاني العمل و العبادة

و كثيرا ما ترى العبّاد و الزّهاد يترشّح الكبر منهم على غيرهم بسبب زعمهم أنّهم ناجون و النّاس هالكون فيرى نفسه ناجيا و هو الهالك حقيقة، و لذلك قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: إذا سمعتم الرّجل يقول هلك النّاس فهو أهلكهم

الثالث النّسب

فترى من له نسب شريف يتكبّر على من ليس له ذلك النّسب.

الرابع التفاخر بالحسن و الجمال

و ذلك أكثر ما يجرى بين النّسوان.

الخامس الثروة و المال

و ذلك يجرى بين الملوك في خزائنهم و بين التجار في بضايعهم و بين الدّهاقين في أراضيهم و بين المتجمّلين في لباسهم و خيولهم و مراكبهم فيستحقر الغنى الفقير و يتكبّر عليه.

السادس القوّة و شدّة البطش

فيتكبّر بها على أهل الضّعف.

السابع الملك و السّلطنة و كثرة الأتباع و الخدم و الجنود و الجيوش

و ذلك يجري بين الملوك في الافتخار بكثرة العساكر و الرعيّة و الخدم، و بالجملة فكلّ ما هو نعمة و أمكن أن يعتقد كمالا و إن لم يكن كمالا في نفسه أمكن أن يتكبّر به حتّى أنّ المخنّث ليتكبّر على أقرانه بزيادة معرفته و قدرته في صنعة المخنّثين، لأنّه يرى ذلك كمالا يفتخر به، و إن لم يكن فعله إلّا نكالا، و كذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشّرب و الفجور و يتكبّر به لزعمه أنّ ذلك كمال و إن كان خزيا و وبالا و نكالا.

الخامس في معالجة الكبر

فاعلم وفّقك اللَّه تعالى و ألهمك الخير أنّ الكبر من أعظم المهلكات، و قلّما ينفكّ عن شي‏ء منه أحد و إزالته فرض عين و لا يزول بمجرّد التمنّى بل بالمعالجة و استعمال الأدوية القامعة له، و علاجه انّما يحصل بامور أربعة: الاول معرفة الرّب تعالى الثاني معرفة النّفس الثالث معرفة الغرض الدّاعى إلى خلقته الرابع معرفة المفاسد المترتّبة على الكبر.

أما الاول

فانّ من عرف ربّه و أنّه القادر الّذي لا يعجزه شي‏ء، و القوىّ الّذي لا يضعفه شي‏ء، و الأزليّ الّذي ليس له بداء، و الدّائم القيّوم بأمر الأشياء، و الفّعال لما يريد أو يشاء، و الممسك للسّموات و الأرض من الزّوال، و المستولى على الخلايق في كلّ حال، إلى غير ذلك من صفاته الحسنى و أمثاله العليا عرف أنّ العزّ و العظمة و الجلال و الجمال و الجبروت و الكبرياء لا تليق إلّا بجنابه، و أنّها إزاره و رداءه، و أنّ غيره مقهور تحت قدرته، ضعيف تحت قوّته، مسخّر تحت ارادته، منقاد لمشيّته ذليل مهين مستكين لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا و لا موتا و لا حياتا و لا نشورا.

و اما الثاني

فقد أشار إليه أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: ابن آدم أنّى لك و الفخر فان أوّلك جيفة و آخرك جيفة و في الدّنيا حامل الجيف، و نشرح حال هذه الجيف فانها ليست كجيف الحيوانات.

اما الجيفة الاولى و هى المني فقد أوجب الشّارع الغسل بخروجها من الانسان و أغلظ نجاسته حتّى فهم بعض الأصحاب من تغليظه وجوب تطهير الثياب و البدن منه مرّتين كما في البول.

و اما الجيفة الاخيرة فانّه بعذر هوق روحه يكون ميتة أخبث و أنجس و أوحش من ميتة الكلب و الخنزير، و ذلك لأنّ مسّ ميتة الكلب بالرّطوبة لا يوجب إلّا غسل اليد و تطهيرها بخلاف مسّ ميتة الانسان فقد أوجب الشارع فيه مضافا إلى تطهير الملاقي غسل المسّ مبالغة في خبث جيفته و قذارته، و ترى الأحياء أوحشوا جانب الميّت و تجنّبوا عنه و خافوا منه و لا يخافون من ميتة سائر الحيوانات و لا يستوحشون منها و اما كونه حامل الجيف فهو أظهر من أن يذكر لأنّه أخسّ من جمار يحمل العذرة، لأنّ الحمار يحملها اضطرارا و بالاجبار و الانسان يحملها بالرّضا، و الاختيار و هو يحملها على الظّهر و هذا على البطن، و إلى هذه الحالات الثلاث و ما بعدها اشير في قوله سبحانه: «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ» فقد أشارت الآية إلى أوّل خلق الانسان و إلى آخر أمره و إلى وسطه، فليفهم معناها و ليتفكّر في مغزاها.

فقد أتى عليه حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا، و قد كان في حيّز العدم و أيّ شي‏ء أخسّ و أقلّ من المحو و العدم، فبدء اللَّه بخلقه من أرذل الأشياء ثمّ من أقذرها إذ خلقه من سلالة من طين ثمّ من ماء مهين ثمّ من علقة ثمّ من مضغة ثمّ جعله عظاما فكسى العظام لحما، فهذا بداية وجوده.

و ما صار شيئا مذكورا إلّا و هو على أخسّ الأوصاف و أرذلها إذ لم يخلق كاملا بل خلقه جمادا ميّتا لا يسمع و لا يبصر و لا يحسّ و لا يشعر و لا ينطق و لا يبطش و لا يدرك و لا يفهم و لا يميّز و لا يعلم فبدء بموته قبل حياته، و بضعفه قبل قوّته، و بعجزه قبل قدرته، و بجهله قبل علمه، و بعماه قبل بصره، و بصممه قبل سمعه، و ببكمه قبل نطقه، و بضلاله قبل هداه، و فقره قبل غناه.

فهذا معنى قوله «مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» ثمّ امتنّ عليه فقال: «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» أى يسّر له سبيل الخير و الشرّ و أرشده إلى طريق الضّلال و الهدى يسلك الأوّل و يترك الثّاني كما قال: «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً» و قال: «وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ».

فانظر إلى عظم ما أنعم اللَّه سبحانه به عليه حيث نقله من حالة الذّلة و القلّة و الخسّة و القذارة إلى رتبة العزّ و الشّرف و الرّحمة و الكرامة، فصار موجودا بعد العدم، و حيّا بعد الموت، و ناطقا بعد البكم، و بصيرا بعد العمى، و قويّا بعد الضّعف و عالما بعد الجهل، و مهديّا بعد الضّلال، فكان في ذاته لا شي‏ء و أيّ شي‏ء أخسّ و أحقر من لا شي‏ء، و أىّ قلّة أقلّ من العدم المحض، ثمّ صار باللَّه شيئا و إنّما خلقه من التراب الذّليل الّذي يوطأ بالأقدام، و النطفة القذرة ليعرّفه خسّة نفسه و مهانة ذاته، و أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربّه، و يعلم عظمة بارئه و جلالة مبدئه و أنّه لا يليق الكبرياء و الجلال إلّا بحضرة ربوبيّته.

فمن كان هذا بدؤه و هذا حاله كيف يسوغ له البطر و الكبر و الخيلاء و الفخر نعم هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسّته شمخ بأنفه و تعظّم.

و لو أكمله و فوّض إليه اموره و أدام له الوجود باختياره لكان أكثر من ذلك يطغى و نسى المبدأ و المنتهى، و لكنّه سلّط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة و الأسقام العظيمة، و الآلام المختلفة، و الطّبائع المتضادّة من الصّفراء و السّوداء و البلغم و الدّم يهدم بعضها بعضا شاء أم أبى، رضى أم سخط، فيجوع كرها، و يعطش كرها، و يمرض كرها، و يموت كرها، لا يملك لنفسه خيرا و لا شرّا و لا نفعا و لا ضرّا، يريد أن يعلم الشي‏ء فيجهله، و يريد أن يذكر الشي‏ء فينساه، و يريد أن ينسى الشي‏ء و يغفل عنه فلا يغفل عنه، و يريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمّه فيحول في أودية الوساوس و الأفكار بالاضطرار فلا تملك قلبه قلبه و لا نفسه نفسه، و يشتهى الشي‏ء فربما يكون هلاكه فيه، و يكره الشي‏ء و ربّما يكون حياته فيه، يستلذّ الأطعمة و هى تهلكه و ترديه، و يستبشع الأدوية و هى تنفعه و تحييه، و لا يأمن في لحظة من ليله و لا نهاره أن يسلب سمعه و بصره و تفلج أعضائه و يختلس عقله و يختطف و يسلب جميع ما يهواه في دنياه، فهو مضطّر ذليل إن ترك بقي و إن اختطف فنى، عبد مملوك لا يقدر على شي‏ء من نفسه و لا على شي‏ء من غيره، فأىّ شي‏ء أذلّ منه لو عرف نفسه و انّي يليق الكبر لو لا جهله، فهذا أوسط أحواله‏ و أمّا آخره فهو الموت المشار إليه بقوله: «ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ» و معناه انّه يسلب روحه و سمعه و بصره و علمه و قدرته و حسّه و إدراكه و حركته فيعود جمادا كما كان أوّل مرّة، لا يبقى إلّا شكل أعضائه و صورته، لا حسّ فيه و لا حركة، ثمّ يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأوّل نطفة مذرة.

ثمّ تبلى أعضاؤه، و تتفتت أجزاؤه، و تنخرّ عظامه، و تصير رميما رفاتا، و يأكل الدّود أجزائه فيبتدى‏ء بحدقتيه فيقلعهما، و بخديّة فيقطعهما، و بسائر أجزائه فيصير روثا في أجواف الدّيدان، و يكون جيفة يهرب منه الحيوان، و يتنفّر منه كلّ انسان، و يكرهه لشدّة الانتان، و أحسن أحواله أن يعود إلى ما كان، فيصير ترابا يعمل منه الكيزان، و يعمر منه البنيان، فيصير مفقودا بعد ما كان موجودا و صار كأن لم يغن بالأمس حصيدا، كما كان في أوّل أمره أمدا مديدا.

و ليته بقى كذلك، و يأمن ممّا يتلوه من المعاطب و المهالك، فما أحسنه لو ترك ترابا لابل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شدّة البلاء، و إليه أشار بقوله: «ثمّ إذا شاء أنشره» فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرّقة، و أعضائه المتفتّتة، و يسرع إلى أهوال القيامة، فينظر إلى قيامة قائمة و سماء مشقّقة، و أرض مبدّلة و جبال مسيّرة، و نجوم منكدرة، و شمس منكسفة. و أحوال مظلمة و كثرة عرق ملجمة، و ملائكة غلاظ شداد، و أهوال تتفتّت منها الأكباد.

و يرى الصّحائف منشورة فيقال له: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» فيقرأ فيه مساويه الّتى كان افتخاره بها، و استكباره بأسبابها، فعند ذلك يقول: «يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» فيقال له: هلّم إلى الحساب و استعدّ للجواب أو تصير إلى أليم العذاب فينقطع قلبه من قول ذلك الخطاب.

فما لمن هذا حاله و التكبّر و التعزز و الكبرياء و الخيلاء، بل ماله و للفرح في لحظة واحدة فضلا عن البطر و الأشر مدّة متمادية، و لو ظهر آخره و العياذ باللَّه أحبّ أن يكون ترابا، و لا يكون إنسانا يسمع خطابا، و لا يشاهد الجحيم له مآباو لو رأى أهل الدّنيا العبد المذنب في النّار لصعقوا من وحشة خلقته و قبح صورته، و لو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه، و لو وقعت قطرة من شرابه في بحار الدّنيا لصارت أشدّ عفونة من الجيفة.

فمن هذا حاله في العاقبة كيف يفرح و يبطر، و كيف يتجبّر و يتكبّر، و كيف يرى نفسه شيئا، و يعتقد له فضلا، و أىّ عبد لم يذنب ذنبا استحقّ به العقوبة إلّا أن يعفو له الكريم بفضله، و يغفره باحسانه و منّه.

أ رأيت من جنى على ملك قاهر قادر، و استحقّ بجنايته القتل أو السيّاسة فجلس في السّجن و هو ينتظر أن يخرج إلى العرض و يقام عليه العقوبة على ملاء من الخلق، و ليس يدرى أ يعفى عنه أم يعاقب، كيف يكون ذلّه، أفترى أنه يتكبّر على من في السّجن، و ما من عبد مذنب إلّا و الدّنيا سجنه، و قد استحقّ العقوبة من اللَّه و لا يدرى كيف يكون آخر أمره فيكفيه لو تفكّر ذلك حزنا و خوفا و إشفاقا و مهانة و ذلّا.

و أما الثالث

فاعلم أنّ الغرض من خلقة الانسان هو العبوديّة و الاطاعة، قال تعالى: «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» فاذا لا فضل لأحد أفراد هذا النّوع على الآخر إلّا بحصول ذلك الغرض منه أعنى القيام بوظائف العبوديّة، و به يترقّي إلى درجات الكمال، و يتقرّب إلى الربّ المتعال، و يكرم عنده كما قال عزّ من قائل: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ».

يعني إنّ أكثركم عند اللَّه ثوابا و أرفعكم عند اللَّه منزلة أتقيكم لمعاصيه و أعملكم بطاعته.

روى الطبرسي في مجمع البيان في وجه نزول الآية أنّ ثابت بن قيس بن شماس كان في اذنه و قر، و كان إذا دخل تفسّحوا له حتّى يقعد عند النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فيسمع‏ما يقول، فدخل المسجد يوما و النّاس قد فرغوا من الصّلاة و أخذوا مكانهم، فجعل يتخطّى رقاب النّاس و يقول: تفسّحوا، حتّى انتهى إلى رجل، فقال له: اصبت مجلسا فاجلس، فجلس خلفه مغضبا، فلمّا انجلت الظّلمة قال: من هذا قال الرّجل: أنا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة ذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهليّة فنكس الرّجل رأسه حياء فقال صلوات اللَّه و سلامه عليه و آله: من الذّاكر فلانة فقام ثابت فقال: أنا يا رسول اللَّه، فقال: انظر في وجوه القوم، فنظر إليهم، فقال: ما رأيت يا ثابت قال: رأيت أبيض و أحمر و أسود، قال فانّك لا تفضّلهم إلّا بالتقوى و الدّين فنزلت هذه الآية.

و قيل لمّا كان يوم فتح مكّة أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بلالا حتّى علا ظهر الكعبة و أذّن، فقال عتاب بن اسيد: الحمد للَّه الذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم، و قال الحارث بن هشام: أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذّنا، و قال سهيل بن عمر: ان يرد اللَّه شيئا لغيّره، و قال أبو سفيان: إنّى لا أقول شيئا أخاف أن يخبره به ربّ السّماوات، فأتى جبرئيل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فأخبره بما قالوا فدعاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و سألهم عمّا قالوا فأقرّوا به، و نزلت الآية و زجرهم عن التّفاخر بالأنساب و الازراء بالفقر و التكاثر بالأموال.

فقد ظهر بذلك أنّ جهة الفضل في أفراد النّوع الانساني منحصرة في الورع و التقوى فقط.

و يدلّ عليه أيضا ما روى أنّ رجلا سأل عيسى بن مريم أىّ النّاس أفضل فأخذ قبضتين من التّراب فقال: أىّ هاتين أفضل، النّاس خلقوا من تراب، فأكرمهم أتقيهم.

و كان أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا عوتب على التّسوية في العطاء و عدم التفضيل لاولى السابقات و الشّرف من المهاجرين و الأنصار على غيرهم، و اعترض عليه بعدم ترجيح المولى على العبيد و عدم التّفرقة بين الأبيض و الأسود أجاب عليه السّلام بقوله: إنّى نظرت في كتاب اللَّه فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلا.

و كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم صعد المنبر يوما و ذكر ما كانوا يتفاخرون و يتكبّرون به في الجاهليّة، فقال: إنّه موضوع تحت قدمى إلى يوم القيامة و لم ينزل من المنبر حتى زوّج بنت عمّته صفيّة ابنة عبد المطلب من المقداد مع كونه من أفقر النّاس حالا و أقلّهم مالا.

و قد سوّى بينهم أيضا في أعظم الأمور و أهمّها و هو أمر الدّماء فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: المسلمون اخوة تتكافا دماؤهم و يسعى بذمّتهم أدناهم.

فاذا كان دم السّلطان مساويا لدم الكنّاس فأىّ مزيّة له عليه.

فقد علم بذلك أن لا تفضيل في غير الورع و التّقوى و الدّين و أنّه لا يجوز الافتخار و التفاخر به بل لا يجوز التفاخر بالتقوى أيضا و لا ينبغي المباهاة به.

و يؤمى إليه ما رواه الطبرسي عن ابن عباس قال قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: إنّ اللَّه عزّ و جلّ جعل الخلق قسمين: فجعلني في خيرهم و ذلك قوله: و أصحاب اليمين و أصحاب الشّمال فأنا من أصحاب اليمين و أنا خير أصحاب اليمين، ثمّ جعل القسمين أثلاثا فجعلنى في خيرها ثلثا و ذلك قوله و أصحاب الميمنة و أصحاب المشئمة و السابقون السّابقون، فأنا من السابقين و أنا خير السابقين، ثمّ جعل الأثلاث قبائل فجعلنى في خيرها قبيلة و ذلك قوله: «وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ» الآية، فأنا أتقى ولد آدم و لا فخر و أكرمهم على اللَّه و لا فخر ثمّ جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا و ذلك قوله عزّ و جلّ: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» فأنا و أهل بيتى مطهّرون من الذّنوب فانّ غرضه بذلك بيان شأنه للناس لا التفاخر، و لهذا قال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في المقامين: و لا فخر، فبالغ في نفيه بلاء النافية للجنس.

و الى هذا المعنى ينظر ما جاء في الحديث من أنّ اللَّه سبحانه أوحى الى موسى اذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خيرا منه، فجعل موسى عليه السّلام لا يعترض أحدا و هو لا يجسر أن يقول إنّى خير منه، فنزل عن الناس و شرع في أصناف الحيوانات حتى مرّ بكلب أجرب فقال: أصحب هذا، فجعل في عنقه حبلا ثمّ مرّ به، فلما كان به في بعض الطريق شمر الحبل و أرسله، فلما جاء إلى مناجاة الرّبّ سبحانه‏

قال تعالى: يا موسى أين ما أمرتك به قال: يا ربّ لم أجده، فقال تعالى: و عزّتي و جلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النّبوة.

فاذا كان مثل موسى مع كونه نبيّا أولى العزم و أفضل أهل زمانه كما هو اعتقادنا في الأنبياء و الرّسل لم يجسر أن يقول لأحد من آحاد النّاس و لفرد من أفراد الحيوان حتّى الكلب الأجرب أنا خير منه فكيف لغيره.

و أىّ معنى للتعزّز و التكبّر و التّفاخر على عباد اللَّه و قد قال اللَّه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى‏ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى‏ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ» مع أنّ الامور التي يتكبّر المتكبّر بها على غيره و يزعمها كمالا لنفسه ليست كمالا ذاتيا في الحقيقة، و لا تليق أن يتعزّز بها.

لان المتكبر به ان كان النسب ففيه أنّ التكبّر إن كان بالنسب البعيد «ففيه أن النّسب البعيد ظ» لكلّ إنسان هو الماء و الطّين لا تفاوت بين أفراده من هذه الجهة كما لا تفاوت بينهم في الجدّ و الجدّة قال أمير المؤمنين عليه السّلام في الديوان المنسوب إليه:

النّاس من جهة التّمثال أكفاء
أبوهم آدم و الامّ حوّاء

و إن يكن لهم في أصلهم شرف‏
يفاخرون به فالطين و الماء

و إن كان بالنّسب القريب ففيه انّه إذا كان خسيسا في ذاته ذميما في صفاته فلا يجبر نقصانه كمال آبائه و أسلافه قال الشاعر:

لئن فخرت بآباء ذوي شرف
لقد صدقت و لكن بئس ما ولدوا

و قال آخر:

كن ابن من شئت و اكتسب أدبا
يغنيك مضمونه من النسب‏

إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي‏

على أنّ التعزّز بالنسب تعزّز بكمال غيره و لا ينفعه ذلك في الدّنيا و لا في العقبى، و لذلك كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول بعد تلاوة «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى‏ زُرْتُمُ الْمَقابِرَ»: أ فبمصارع آبائهم يفخرون، أم بعديد الهلكى يتكاثرون، إلى آخر ما يأتي في الكلام المأتين و التاسع عشر، و قال سلمان (رض):

أبي الاسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم‏

و قال صاحب بن عبّاد:

لعمرك ما الانسان إلّا بدينه
فلا تترك التّقوى اتّكالّا على نسب‏

لقد رفع الاسلام سلمان فارس‏
و قد وضع الشرك الشريف أبا لهب‏

ألا ترى إلى ابن نوح فانّه مع كونه ابن نبيّ مرسل من اولى العزم ما نجاه ذلك النّسب الشريف و لا نفعه، بل كان من المغرقين، و في جهنّم من الخالدين، «وَ نادى‏ نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» فلم يستجب فيه دعوته و نفى عنه بنوّته لمخالفته لأبيه و عصيانه له.

و روى عن سيّد السّاجدين عليه السّلام أنّه قال: إنّما خلقت النّار لمن عصى اللَّه و لو كان سيّدا قرشيّا، و الجنّة لمن أطاع اللَّه و لو كان عبدا حبشيّا.

و ناهيك في المنع من التكبّر بالنّسب قوله عزّ من قائل: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ».

بل أقول: إنه إذا كان البناء على افتخاره بأصله و نسبه القريب فليفتخر بأقرب اصوله و أنسابه و هو النّطفة القذرة و الدّودة الّتي خرجت من مبال أبيه، فأين الافتخار بالدّودة و أنّى التعزّز بالعلقة و المضغة.

قال سبحانه: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً» فالأصل تراب يوطأ بالأقدام، و الفصل نجس تغسل منه الأبدان فمن كان هذا أصله و فصله كيف يسوغ له التكبّر بالأنام، و لنعم ما قيل:

يا ابن التراب و ماكول التّراب غدا
أقصر فإنّك مأكول و مشروب‏

و أما العلم فهو إنّما يكون كمالا إذا أوجب ارتفاع درجة العالم و قربه من اللَّه سبحانه، و إلّا فالجهل منه أفضل البتّة، و قد مضى في شرح الفصل الثّاني من الخطبة السّادسة و الثّمانين ما فيه كفاية في ذم العلماء السّوء.

و أقول هنا مضافا إلى ما سبق: من أنّ العالم مهما خطر بخاطره عظم قدره بالاضافة إلى الجاهل فليتفكّر في الخطر العظيم الذي هو بصدده، فانّ خطره أعظم من خطر غيره كما أنّ قدره أعظم من قدر غيره، فقد يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد، و ذلك لمكان علمه.

و قد ضرب اللَّه مثلا للعالم العامل بغيره تارة بالحمار فقال: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» و أخرى بالكلب فقال: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» إلى قوله «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» نزلت في بلعم بن باعور فقد اوتى اسم الأعظم و قال ابن عبّاس اوتى كتابا فأخلد إلى شهوات الأرض أى سكن حبّه اليها فمثّله بالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث أى سواء أتيته الحكمة أو لم اوته لا يدع شهوته.

و يكفى العالم هذا الخطر فبعد معرفته بأنّ الكبر لا يليق إلّا بذات اللَّه سبحانه و أنّه مختصّ به و علمه بانّه إذا تكبّر يصير ممقوتا عنده تعالى بغيضا اليه محروما من قربه، و بأنّ المطلوب منه الذّل و التّواضع و هو موجب لمحبّته تعالى، فلا بدّ أن يكلّف نفسه ما يحبّه مولاه و ما فيه رضاه، فهذا يزيل التكبّر عن قلبه.

و يمكن ازالته أيضا بالتفكّر في امور ثلاثة.

أحدها أن يلتفت إلى ما سبق من ذنوبه و خطاياه حتّى يصغر قدره في عينيه.

الثّاني أن يلاحظ لما هو فيه من وصف العلم من حيث انه نعمة من اللَّه سبحانه في حقّه فيرى ذلك منه تعالى حتّى لا يعجب بنفسه، و إذا لم يعجب لم يتكبّر.

الثالث ملاحظة سوء الخاتمة فربما يمكن أن يختم عاقبته بالسّوء و عاقبة المتكبّر عليه بالحسنى حتّى يشغله الخوف عن التكبّر عليه.

و أما الحسن و الجمال فما أعجب التكبّر به مع كونه سريع الزّوال، و اللّازم على المتعزّز بجماله أن ينظر إلى قبح باطنه لا إلى حسن ظاهره، فلو لا حظ باطنه رأى فيه من القبائح و الخبائث ما يكدّر تعزّزه، فانه وكّل به الأقذار في جميع أجزائه الرّجيع في امعائه، و البول في مثانته، و المخاط في أنفه، و البزاق في فيه، و الوسخ في اذنيه، و الدّم في عروقه، و الصّديد تحت بشرئه، و يخرج منه في كلّ يوم من الأقذار ما يتأذّى بنفسه من رؤيته و من فضول ريحه إلى شامته فضلا عن غيره فانّما مثله كالقبور المجصّصة يرى ظاهرها مليحا و باطنها قبيحا، و لو ترك نفسه في حياته يوما لم يتعهّدها بالتنظيف و التّطهير لشارت منه الأنتان و الأقذار و صار أنتن من الدّواب المهملة التي لا تتعهّد نفسها قطّ فحسنه كخضراء الدّمن و كالأزهار في الرّبيع بينما تعجبها إذ صارت هشيما تذروه الرّياح.

و اما الغنى و كثرة المال و في معناه الملك و السلطنة فلأنّه أيضا سريع الزوال و في معرض الانتقال، بينا تراه غنيا إذ صار فقيرا، أو فقيرا إذ صار غنيّا، و ترى المغبوط مرحوما و المرحوم مغبوطا، فما أقبح التكبّر بشي‏ء ليس اختياره بيده، و ما أذلّ الغنى إذ انتزع ماله أو اختلسه سارق، و ما أذلّ السّلطان إذ انتزع من ملكه و غلب عليه في سلطنته، مع أنّ ما بيد الغنى ليس إلّا أقلّ قليل من مال الدّنيا قد كان قبله في يد غيره و سيصير في يد آخر، و الدّنيا كلّها عند اللَّه سبحانه لا تزن جناح بعوضة و الّا لما سقى الكافر شربة ماء، و عند نظر أولياء اللَّه أزهد من عرق خنزير في يد المجذوم.

فما هذا شأنه لا يليق التعزّز به، و ناهيك في ذلك الأخبار الواردة في ذمّ الدّنيا و أكثر خطب أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا الكتاب مسوق لهذا الغرض على أنّ الغنى لو تأمل لوجد في اليهود و النّصارى من يزيد عليه في الغنى و الثروة و التجمّل، فافّ لشرف يسبقك به الكافر و افّ لشرف يأخذه السارق في لحظة واحدة فيعود صاحبه‏ذليلا مفلسا.

و اما القوة و شدة البطش فيكفى في المنع من التكبّر به أن يعلم ما سلّط عليه من العلل و الأمراض، و أنّه لو توجع عرق واحد في يده لصار أعجز من كلّ عاجز و أذلّ من كلّ ذليل، و أنّه لو سلبه الذّباب شيئا لم يستنقذه منه، و أنّ بقّة لو دخلت في أنفه أو نملة دخلت في أذنه لقتلته، و أنّ شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته، و أنّ حمى يوم تحلّل من قوّته ما لا ينجبر في مدّة، فمن لا يطيق شوكة و لا يقاوم بقّة و لا يقدر على أن يدفع عن نفسه ذبابة فلا ينبغي أن يفتخر بقوّته.

ثمّ إن قوى الانسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل، و أىّ افتخار في صفة يسبقه فيها البهائم.

و أمّا الزهد و العبادة فيزول التكبّر بهما على الفاسق بالتفكّر في سوء الخاتمة و حسنها، فربّما يموت الفاسق و يختم له بالخير، و يزلّ العابد فيختم له بالشرّ.

ألا ترى إلى برصيصاء عابد بني إسرائيل كيف سائت خاتمته على ما عرفت في شرح الفصل السّادس من الخطبة الثانية و الثمانين.

و إلى خليع بنى إسرائيل كيف حسنت عاقبته و كان من قصّته أنّه لكثرة فساده يسمّى خليع بني إسرائيل، فمرّ يوما برجل يقال له عابد بني إسرائيل، و كان على رأس العابد غمامة تظلّله فلمّا مرّ الخليع به قال الخليع في نفسه: أنا خليع بني إسرائيل و هذا عابد بني إسرائيل، فلو جلست إليه لعلّ اللَّه يرحمني، فجلس إليه فقال العابد: أنا عابد بني إسرائيل و هذا خليع بني إسرائيل فكيف يجلس إلىّ، فأنف منه و قال له: قم عنّي، فأوحى اللَّه إلى نبيّ ذلك الزّمان مرهما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع و أحبطت عمل العابد، و في رواية اخرى فتحوّلت الغمامة إلى رأس الخليع.

و كيف كان فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الأمور الّتي يزعمها المتكبّر كمالا له و يتعزّز بها على غيره ليست كمالا في الحقيقة، بل هى منقصة و وبال.

و يرشد إلى ما ذكرته ما روى عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إنّ اللَّه سبحانه أوحى إليه‏أن يقول لمن يتعزّز بالحسن و الجمال: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، و لمن يتعزّز بالفصاحة: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ، و لمن يتعزّز بالنّسب: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، و لمن يتعزّز بالمال و الولد: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ، و لمن يتعزّز بالقوّة: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ، و لمن يتعزّز بالملك: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.

و اما الامر الرابع

أعني معرفة معايب الكبر و مفاسده فنقول: إنّ هذه الصّفة الخبيثة لا منفعة فيها للمتكبّر البتة بل هي مضرّة له في الدّنيا و الآخرة.

أما في الدنيا فلا يجابها انحطاط درجته عند الخلايق و كراهتهم له و بعدهم عنه فهو لا يحبّهم و هم لا يحبّونه كما هو مشاهد بالعيان معلوم بالتجربة و الوجدان، و يبتليه اللَّه سبحانه في أغلب الأوقات بالذّل و الهوان.

و يدلّ عليه ما قدّمنا روايته في المقام الأوّل عن الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: ما من عبد إلّا و في رأسه حكمة و ملك يمسكها فاذا تكبّر قال له: اتّضع وضعك اللَّه فلا يزال أعظم النّاس في نفسه و أصغر النّاس في أعين النّاس الحديث.

و قد مثّل الصادقان عليهما السّلام الدّنيا ببيت سقفه مخفوض، فالدّاخل إليه لا بدّ من أن يطأطأ رأسه عند الدّخول و من رفع رأسه تلك الحالة شجّه السّقف و أخرج دمه و رمى بعمامته من فوق رأسه و فضحه بين الاقران الّذين كان يريد الترفّع عليهم.

و ناهيك في التنبيه على عظم ضرره ما رواه في الكافي عن عدّة من أصحابه عن أحمد بن محمّد عن مدرك بن عبيد عمّن حدّثه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنّ يوسف لما قدم عليه الشّيخ يعقوب عليه السّلام دخله عزّ الملك فلم ينزل إليه فهبط عليه جبرئيل فقال: يا يوسف ابسط راحتك، فخرج منها نور ساطع فصار في جوّ السّماء، فقال يوسف: يا جبرئيل ما هذا النّور الذي خرج من راحتي فقال: نزعت النبوّة من عقبك عقوبة لما لم تنزل إلى الشّيخ يعقوب فلا يكون من عقبك نبيّ.

و اما فى الاخرة فلا يجابها دخول النّار و سخط الجبّار جلّ جلاله كما يشهد به ما قدّمنا في المقام الأوّل من الآيات و الأخبار، و ناهيك في ذلك التذكر بحال ابليس اللّعين فانّه مع كونه خطيب الملائكة و قد عبد اللَّه في السّماء ستّة آلاف سنة كيف حبط أجره و انحط قدره و حزم الحضرة الرّبوبيّة و الألطاف الآلهيّة و استحقّ مقت الجبّار و الخلود في النّار بمحض الانائيّة و الاستكبار على ما يأتي مشروحا في الخطبة القاصعة و هي المأة و الحادية و التسعون من المختار في باب الخطب، و ما التوفيق إلّا باللَّه.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام مبين و وليّ ربّ العالمين است در بيان بعثت حضرت خاتم الأنبياء صلوات اللَّه و سلامه عليه و آله و إشاره بفوائد بعثت مى‏فرمايد: پس مبعوث فرمود خداوند تبارك و تعالى محمّد مصطفى صلّى اللَّه عليه و آله را براستى و درستى تا اين كه خارج نمايد بندگان را از عبادت بتان بسوى عبادت پروردگار، و از طاعت شيطان بسوى طاعت حضرت كردگار، با قرآنى كه بيان فرمود آنرا و محكم ساخت آنرا تا اين كه بدانند بندگان پروردگار خودشان را وقتى كه جاهل بودند بأو، و تا اقرار كنند بآفريدگار بعد از اين كه منكر بودند بوحدانيّت او، و تا اثبات كنند وجود او را بعد از اين كه نمى‏شناختند او را پس ظاهر گرديد حق سبحانه و تعالى از براى ايشان در كتاب عزيز خود بدون اين كه ديده باشند او را به آن چه نمود بايشان از قدرت خود، و ترسانيد ايشان را از غضب و سطوت خود، و چه گونه محو و نابود كرد آن كسى را كه نابود كرد از قرون ماضيه با عقوبات نازله، و درويد و مستأصل ساخت كسى را كه مستأصل نمود با عذابهاى هائله.

و بدرستى كه زود باشد كه بيايد بشما از پس رفتن من بعالم قدس زمانى كه نباشد در او چيزى كه پنهان‏تر باشد از حق، و نه آشكاراتر از باطل، و نه بيشتر از دروغ بخدا و رسول او، و نباشد نزد اهل آن زمان متاع كاسدتر از قرآن زمانى كه تلاوت شده باشد حقّ تلاوت آن، و نه متاع رايج‏تر از قرآن زمانى كه تغيير داده شود از مواضع خود، و نباشد در شهرها چيزى كه قبيح‏تر باشد از معروف، و نه چيزى كه پسنديده‏تر باشد از منكر، پس بتحقيق كه بيندازند قرآن را حاملان او، و فراموش كنند او را حافظان او، پس قرآن در آن روز و اهل آن منفى و مطرود باشند و دو مصاحب صحبت گيرنده باشند با يكديگر در يك طريق در حالتي كه منزل ندهد ايشان را منزل دهنده، پس كتاب و اهل آن در آن زمان در ميان مردمان باشند بصورت و أبدان و نباشند در ميان ايشان بحسب معنى، و با ايشان باشند ظاهرا و نباشند با ايشان باطنا از جهة اين كه ضلالت موافقت نمى‏نمايد با هدايت اگر چه مجتمع شوند در يك زمان پس متفق باشند قوم آن روزگار بر جدائى از قرآن، و جدا باشند از جماعت محقّه گويا ايشان پيشوايان كتاب عزيزند و كتاب عزيز پيشواى ايشان نيست، پس باقى نماند نزد ايشان از قرآن مگر نام او، و نشناسند مگر خطّ او را او كتاب او را، و پيش از اين است مثله و عقوبت نمودن ايشان بصالحان با هر گونه عقوبت، و تسميه كردن ايشان راست گوئى صالحان را بر خداى تعالى افترا و بهتان، و گردانيدن ايشان در حسنات عقوبت سيئات را.

و بدرستى كه هلاك شدند كسانى كه بودند پيش از شما بجهت طول آرزوها و پنهان بودن اجلها تا اين كه نازل شد بايشان مرگ موعود كه ردّ مى‏شود از او عذر خواهى، و برداشته مى‏شود از او توبه و پشيمانى، و حلول مى‏كند بأو مصيبت شديده و نقمت اى گروه مردمان هر كسى طلب نصيحت كند از خداى تعالى موفّق مى‏شود، و هر كس اخذ نمايد فرمايش خدا را دليل خود هدايت يابد براه راست، پس بدرستى كه همسايه خدا ايمن است از عذاب، و دشمن خدا ترسانست از عقاب.

و بدرستى كه سزاوار نيست مر كسى را كه معرفت رساند بعظمت خدا اين كه اظهار بزرگى نمايد، پس بتحقيق كه بلندي مرتبه كسانى كه مى‏دانند چيست عظمت و جلال خدا در اين است كه تواضع نمايند او را، و سلامتى كساني كه مى‏دانند چيست قدرت آفريدگار در اين است كه انقياد و اطاعت نمايند بر او، پس نفرت نكنيد از حق مثل نفرت صحيح المزاج از كسى كه ناخوشى جرب داشته باشد، و مثل نفرت سالم‏ البدن از صاحب مرض، و بدانيد كه بدرستى شما نخواهيد شناخت طريق حق را تا اين كه بشناسيد آن كسى را كه ترك نموده او را، و نمى‏توانيد فراگيريد عهد و پيمان قرآن را مگر اين كه معرفت رسانيد آن كسى را كه نقض عهد او را كرده و نمى‏توانيد چنك بزنيد بقرآن تا اين كه عارف شويد كسى را كه انداخته آن را، پس طلب كنيد اين را از نزد أهل أو، پس بدرستى كه ايشان حيات علمند و ممات جهل، ايشان كسانى هستند كه خبر مى‏دهد شما را حكم ايشان از علم ايشان، و سكوت ايشان از گفتار ايشان، و ظاهر ايشان از باطن ايشان، مخالف نباشند دين را و اختلاف نمى‏كنند در او، پس دين در ميان ايشان شاهدى است راست گو، و ساكتى است زبان‏دار.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 146 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 146 صبحی صالح

146- و من كلام له ( عليه ‏السلام  ) و قد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه‏

إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَ لَا خِذْلَانُهُ بِكَثْرَةٍ وَ لَا بِقِلَّةٍ

وَ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ

وَ جُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَ أَمَدَّهُ

حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ

وَ طَلَعَ حَيْثُ طَلَعَ

وَ نَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللَّهِ

وَ اللَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ

وَ نَاصِرٌ جُنْدَهُ

وَ مَكَانُ الْقَيِّمِ بِالْأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَ يَضُمُّهُ

فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وَ ذَهَبَ

ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً

وَ الْعَرَبُ الْيَوْمَ وَ إِنْ كَانُوا قَلِيلًا فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالْإِسْلَامِ

عَزِيزُونَ بِالِاجْتِمَاعِ

فَكُنْ قُطْباً

وَ اسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ

وَ أَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ

فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَ أَقْطَارِهَا

حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ

إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا هَذَا أَصْلُ الْعَرَبِ

فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ

فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ

وَ طَمَعِهِمْ فِيكَ

فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ

وَ هُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ

وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ

فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى بِالْكَثْرَةِ

وَ إِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَ الْمَعُونَةِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من كلام له عليه السّلام و قد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس

بنفسه و هو المأة و السادس و الاربعون من المختار في باب الخطب

و قد رواه غير واحد من الخاصّة و العامّة على اختلاف تطلع عليه: إنّ هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا بقلّة، و هو دين اللَّه الّذي أظهره، و جنده الّذي أعدّه و أمدّه، حتّى بلغ ما بلغ، و طلع حيث ما طلع، و نحن على موعود من اللَّه، و اللَّه منجز وعده، و ناصر جنده، و مكان القيّم بالأمر مكان النّظام من الخرز، يجمعه و يضمّه، فإذا انقطع النّظام تفرّق الخرز و ذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره‏ أبدا، و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا و استدر الرّحى بالعرب، و أصلهم دونك نار الحرب، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها، حتّى يكون ما تدع ورائك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك، إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك و طمعهم فيك، فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإنّ اللَّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، و هو أقدر على تغيير ما يكره، و أمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، و إنّما كنّا نقاتل بالنّصر و المعونة.

اللغة

في بعض النّسخ بدل قوله (أعدّه) أعزّه و (طلع) الكوكب طلوعا ظهر و طلع الجبل علاه و (نظمت) الخرز نظما من باب ضرب جعلته في خيط جامع له و هو النظام بالكسر و (الخرز) محرّكة معروف و الواحد خرزة كقصب و قصبة و (الحذفور) و زان عصفور الجانب كالحذفار و الجمع حذافير، و أخذه بحذافيره أي بأسره أو بجوانبه و (صلى) اللّحم يصليه صليا من باب رمى شواه أو ألقاه في النّار للاحراق كأصلاه و صلاه و يده بالنّار سخنها و صلى النّار و بها كرضى صليا و صليّا قاسى حرّها، و أصلاه النّار و صلا إيّاه و فيها و عليها أدخله إيّاها و أثواه فيها و (العورة) في الثغر و الحرب خلل يخاف منه و الجمع عورات بالسّكون‏ للتخفيف و القياس الفتح لأنّه اسم و هو لغة هذيل و (الكلب) محرّكة الحرص و الشدّة.

الاعراب

قوله: و طلع حيث ما طلع، حيث ظرف مكان في محلّ النصب على الظّرفيّة أو جرّ بمن إن كان طلع بمعنى ظهر، و إن كان بمعنى علا فهو مفعول لطلع كما في قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ، و على أيّ تقدير فلفظ ما بعده مصدريّة و في بعض النّسخ حيث طلع بدون ما، جملة يجمعه و يضمّه حال من النّظام، و العامل فيها معنى التشبيه، و يجوز الوصف، و اليوم ظرف لقليلا و تقدّمه للتوسّع و اللّام فيه للعهد الحضورى، و الباء في قوله: بالعرب، للاستعانة، و دونك، حال من فاعل أصل أى متجاوزا الاصلاء أو الصلى المستفاد منه عنك أو من نار الحرب فتقديمه على ذيها على التوسع، و يمكن كونه حالا من مفعول أصل أى متجاوزين عنك فافهم.

المعنى

اعلم أنّ هذا الكلام قاله عليه السّلام لعمر في وقعة القادسيّة أو نهاوند على اختلاف من الرواة تطلع عليه، و ذلك حين أراد عمر أن يغزو العجم و جيوش كسرى، و قد استشاره عمر و استشار غيره في الشخوص و الخروج لقتال الفرس بنفسه فأشاروا عليه بالشخوص و نهاه عليه السّلام عن ذلك و أشار إلى وجه الصّواب و الرأى الصّواب بكلام مشتمل على أنواع البلاغة فقال (إنّ هذا الأمر) مؤكّدا بإنّ واسميّة الجملة لأنّ المخاطب إذا كان متردّدا في الحكم حسن التقوية بمؤكّد، قال الشيخ عبد القاهر: أكثر مواقع إنّ بحكم الاستقراء هو الجواب، لكن يشترط فيه أن تكون للسّائل ظنّ على خلاف ما أنت تجيبه به، هذا و تعريف المسند إليه بالاشارة و ايراده اسم الاشارة لقصد التعظيم و التفخيم على حدّ قوله سبحانه ذلك الكتاب تنزيلا لبعد درجته و رفعة محلّه منزلة بعد المسافة، و المراد به الاسلام.

(لم يكن نصره و خذلانه بكثرة و لا بقلّة) نشر على ترتيب اللّف (و هو دين اللَّه الذي أظهره) أي جعله غالبا على سائر الأديان بمقتضى قوله: ليظهره على الدّين كلّه و لو كره المشركون، و في الاتيان بالموصول زيادة تقرير للغرض المسوق له الكلام و هو ربط جاش عمرو سائر من حضر، و إزالة الخور و الفشل عنهم.

و لهذا الغرض أيضا عقّبه بقوله (و جنده الذي أعدّه و أمدّه) أى هيّأه أو جعله عزيزا و أعطاه مددا و كثرة (حتّى بلغ ما بلغ) من العزّة و الكثرة (و طلع حيث ما طلع) أي ظهر في مكان ظهوره و انتشر في الآفاق، أو طلع من مطلعه أى أقطار الأرض و أطرافها، أو أنّه علا مكان علوّه و المحلّ الذي ينبغي أن يعلى عليه، و على أيّ تقدير فالاتيان بالموصول في القرينة الاولى أعنى قوله: بلغ ما بلغ، و ابهام مكان الطلوع في هذه القرينة على حدّ قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ.

قال أبو نواس:

و لقد نهزت مع الغواة بدلوهم
و اسمت سرح اللحظ حيث أساموا

و بلغت ما بلغ امرء بشبابه‏
فاذا عصارة كلّ ذاك اثام‏

ثمّ أكّد تقوية قلوبهم و تشديدها بقوله (و نحن على موعود من اللَّه) أى وعدنا النصر و الغلبة و الاستخلاف بقوله: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً».

و عقّبه بقوله (و اللَّه منجز وعده و ناصر جنده) من باب الايغال الذي قدّمنا ذكره في ضمن المحسّنات البديعيّة من ديباجة الشّرح، و قد كان المعنى يتمّ دونه لظهور أنّ اللَّه منجز لوعده لا محالة، لكن في الاتيان به زيادة تثبيت لقلوبهم و تسكين لها.

ثمّ قال: (و مكان القيّم بالأمر) أى الامراء و الولا (مكان النظام من الخرز) و هو من التشبيه المؤكد بحذف الأداة، و الغرض به تقرير حال المشبّه و وجه الشبّه‏ قول (يجمعه و يضمّه) يعنى أنّ انتظام أمر الرّعية إنما هو برئيسهم كما أنّ انتظام الخرز إنّما هو بالنظام و الخيط الّذي ينتظم به و محلّه من الرّعيّة محلّه من الخرز (فاذا انقطع النظام) و انضم (تفرّق الخرز و ذهب) و انتثر (ثمّ لم يجتمع بحذافيره) أى بجوانبه (أبدا) و كذلك إذا ارتفع الأمير من بين الرعيّة و لم يكن فيهم فسد حال الرّعية و ضاع نظم امورهم.

ثمّ رفع الفزع عن عمر بقلّة جنده و كثرة العدوّ فقال (و العرب اليوم و ان كانوا قليلا) بالعدد (فهم كثيرون بالاسلام) قال الشارح البحرانى: أراد بالكثرة القوّة و الغلبة مجازا اطلاقا للاسم مظنّة الشي‏ء على الشي‏ء (عزيزون) أى غالبون (بالاجتماع) أى باجتماع الرّأي و اتّفاق القلوب، و هو خير من كثرة الأشخاص مع النفاق.

و لما مهّدما مهّده من المقدّمة أمره بالقيام في مقامه و الثبات في مركزه فقال (فكن قطبا) قائما بمكانك (و استدر الرّحى) أي رحى الحرب (بالعرب) و استعانتهم (و اصلهم) أى ادخلهم (دونك نار الحرب) لأنّهم ان سلموا و غنموا فهو الغرض، و ان انقهروا و غلبوا كنت مرجعا لهم و ظهرا يقوى ظهورهم بك و تتمكّن من اصلاح ما فسد من امورهم.

و لمّا أمره بالثبات في مقامه نبّهه على مفاسد الشخوص و ما فيه من الضّرر و هو أمران: أحدهما ما أشار إليه بقوله: (فانك إن شخصت من هذه الأرض) و نهضت معهم إلى العدوّ (انتقضت عليك العرب من أطرافها) أي من أطراف الأرض (و أقطارها) و ذلك لقرب عهدهم يومئذ بالاسلام و عدم استقراره في قلوبهم و ميل طبائعهم الى الفتنة و الفساد، و مع علمهم بخروجك و تركك للبلادهاج طمعهم و صار فتنتهم على الحرمين و ما يضاف إليهما (حتّى يكون ما تدع ورائك من العورات) و خلل الثغور (أهمّ إليك ممّا بين يديك) و الأمر الثاني ما أشار إليه بقوله: (انّ الأعاجم إن) تخرج اليهم بنفسك‏ و (ينظروا إليك غدا) طمعوا فيك و (يقولوا هذا أصل العرب) أى به قوامهم و ثباتهم (فاذا قطعتموه استرحتم) إذ لا أصل لهم سواه و لا لهم ظهر يلجئون به (فيكون ذلك أشدّ لكلبهم) و حرصهم (عليك و) أقوى ل (طمعهم فيك) ثمّ إنّ عمر حسب ما نذكره بعد تفصيلا قد كان قال له عليه السّلام في جملة ما قال: إنّ هؤلاء الفرس قد قصدوا المسير إلى المسلمين و قصدهم إيّاهم دليل قوّتهم و أنا أكره أن يغزونا قبل أن نغزوهم فأجابه عليه السّلام بقوله: (فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فانّ اللَّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك) و أشدّ كراهيّة لذلك (و هو أقدر على تغيير ما يكره).

قال الشّارح البحراني، و هذا الجواب يدور على حرف، و هو أنّ مسيرهم إلى المسلمين و ان كان مفسدة إلّا أنّ لقائه لهم بنفسه فيه مفسدة أكبر، و إذا كان كذلك فينبغي أن يدفع العظمى و يكل دفع المفسدة الاخرى إلى اللَّه تعالى فانّه كاره لها و مع كراهيّته لها فهو أقدر على إزالتها.

(و أمّا ما ذكرت من) كثرة القوم و (عددهم فانا لم نكن نقاتل) الأعداء (فيما مضى) أى في زمن رسول اللَّه و صدر الاسلام (بالكثرة و إنّما كنّا نقاتل بالنصر و المعونة) أى بنصر اللَّه سبحانه و معونته.

و يصدّقه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ، الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»

تبصرة

قد أشرنا فيما مضى إلى أنّ هذا الكلام مما رواه الخاصّة و العامّة، و قد اختلف في الحال الّتي قاله فيها لعمر، فقيل: قاله عليه السّلام له في غزاة القادسيّة، و قيل في غزوة نهاوند، و لا بأس بايراد ما رووه.

فأقول: روى المحدّث العلّامة المجلسي في المجلّد التاسع من البحار عن المفيد في الارشاد في فضل ما جاء عن أمير المؤمنين في معنى صواب الرّأى و إرشاد القوم إلى مصالحهم و تداركه على ما كان يفسدهم لو لا تنبيهه على وجه الرّأى عن سبابة بن سوار عن أبي بكر الهذلي قال: سمعت رجالا من علمائنا يقولون: تكاتبت الأعاجم من أهل همدان و أهل الرى و اصفهان و قومس«» و نهاوند و أرسل بعضهم إلى بعض أنّ ملك العرب الذي جاءهم بدينهم و أخرج كتابهم قد هلك، يعنون النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و أنّه ملكهم من بعده رجل ملكا يسيرا ثمّ هلك، يعنون أبا بكر، ثمّ قام بعده آخر قد طال عمره حتّى تناولكم في بلادكم و اغزاكم جنوده، يعنون عمر بن الخطاب، و أنه غير منته عنكم حتى يخرجوا من في بلادكم من جنوده و تخرجون إليه و تغزون في بلاده، فتعاقدوا على هذا و تعاهدوا عليه.

فلمّا انتهى الخبر إلى من بالكوفة من المسلمين أنهوه إلى عمر بن الخطاب فلمّا انتهى إليه الخبر فزع لذلك فزعا شديدا، ثمّ أتى مسجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فصعد المنبر فحمد اللَّه و أثنى عليه ثمّ قال: معاشر المهاجرين و الأنصار إنّ الشيطان قد جمع لكم جموعا و أقبل بها ليطفئ نور اللَّه ألا إنّ أهل همدان و أهل اصبهان و أهل الرى و قومس و نهاوند مختلفة ألسنتها و ألوانها و أديانها، قد تعاقدوا و تعاهدوا أن يخرجوا من بلادهم إخوانكم من المسلمين و يخرجوا إليكم فيغزوكم في بلادكم، فأشيروا إلىّ فاوجزوا و لا تطنبوا في القول فانّ هذا يوم له ما بعده من الأيّام فتكلّموا.

فقام طلحة بن عبيد اللَّه فحمد اللَّه و أثنى عليه ثمّ قال: يا أمير المؤمنين قد حنكتك«»الأمور و جرستك الدّهور و عجمتك البلايا و أحكمتك التّجارب، و أنت مبارك الأمر و ميمون النقيبة و قد وليت فخيّرت و اختبرت و لم تكشف من عواقب قضاء اللَّه إلّا عن خيار فاحضر هذا الأمر برأيك و لا تغب عنه ثمّ جلس.

فقال عمر: تكلّموا فقام عثمان بن عفان فحمد اللَّه و أثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد يا أمير المؤمنين إنّي أرى أن تشخص أهل الشّام من شامهم و أهل اليمن من يمنهم و تسير أنت في أهل هذين الحرمين و أهل المصرين الكوفة و البصرة فتلتقى جميع المشركين بجميع المؤمنين، فانك يا أمير المؤمنين لا تستبقى من نفسك باقية بعد العرب، و لا تمتع من الدّنيا بعزيز و لا تلوذ منها بحريز فاحضره برأيك و لا تغب عنه ثمّ جلس فقال عمر: تكلّموا فقال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: الحمد للَّه حتّى تمّ التحميد و الثناء على اللَّه و الصّلاة على رسوله ثمّ قال: أمّا بعد فانّك إن أشخصت أهل الشّام من شامهم سارت أهل الرّوم إلى ذراريهم، و إن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة الى ذراريهم، و إن شخصت من هذين الحرمين انتقضت عليك العرب من أطرافها و أكنافها حتّى تكون ما تدع وراء ظهرك من عيالات العرب و العجم أهمّ إليك ممّا بين يديك، فأمّا ذكرك كثرة العجم و رهبتك من جموعهم فانا لم نكن نقاتل على عهد رسول اللَّه بالكثرة، و إنما كنّا نقاتل بالنّصرة و أمّا ما بلغك من اجتماعهم على المسير إلى المسلمين فانّ اللَّه لمسيرهم أكره منك لذلك و هو أولى بتغيير ما يكره، و إنّ الأعاجم إذا نظروا إليك قالوا: هذا رجل العرب فان قطعتموه قطعتم العرب و كنت أشدّ لكلبهم و كنت قد ألبتهم«» على نفسك و أمدّهم من لم يكن يمدّهم، و لكنّى أرى أن تقرّ هؤلاء في أمصارهم و تكتب إلى أهل البصرة فليفترقوا على ثلاث فرق فليقم فرقة على ذراريهم حرسا لهم، و ليقم فرقة على أهل عهدهم لئلا ينتقضوا، و لتسر فرقة إلى إخوانهم مددا لهم.

فقال عمر: أجل هذا الرأى، و قد كنت أحبّ أن اتابع عليه، و جعل يكرّر قول أمير المؤمنين عليه السّلام اعجابا و اختيارا له.

قال الشيخ المفيد (ره): فانظروا أيّدكم اللَّه إلى هذا الموقف الذي ينبى بفضل الرّأى، إذ تنازعه اولو الألباب و العلم، و تأمّلوا في التوفيق الذى قرن اللَّه به أمير المؤمنين عليه السّلام في الأحوال كلّها و فزع القوم إليه في المعضل من الامور، و اضيفوا ذلك إلى ما أثبتناه من الفضل في الدّين الّذى أعجز متقدّمي القوم حتّى اضطرّوا في علمه إليه، تجدوه من باب المعجز الّذى قدّمناه و اللَّه ولىّ التّوفيق.

قال الشّارح المعتزلي في شرح هذا المقام: و اعلم أنّ هذا الكلام قد اختلف في الحال التّي قاله فيها لعمر، فقيل قاله له في غزوة القادسيّة، و قيل في غزوة نهاوند، و الى هذا القول الأخير ذهب محمّد بن جرير الطّبرى في التاريخ الكبير، و إلى هذا القول الأوّل ذهب المدايني في كتاب الفتوح.

أمّا وقعة القادسيّة فكانت في سنة أربع عشر للهجرة استشار عمر المسلمين فى أمر القادسيّة فأشار إليه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في رواية أبي الحسن عليّ بن محمّد ابن سيف المدايني أن لا يخرج بنفسه و قال: إنّك إن تخرج تكن للعجم همّة لاستيصالك لعلمهم أنّك قطب الرّحى للعرب فلا يكون للاسلام بعدها دولة و أشار عليه غيره من النّاس أن يخرج بنفسه فأخذ برأي عليّ، ثم أورد الشارح وقعة القادسيّة و لا حاجة بنا إلى ايرادها ثمّ قال: فأما وقعة نهاوند فانّ أبا جعفر محمّد بن جرير الطّبرى ذكر في كتاب التاريخ انّ عمر لمّا أراد أن يغزو العجم و جيوش كسرى و هي مجتمعة بنهاوند استشار الصّحابة.

فقام عثمان فتشهّد فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشّام فيسيروا من شامهم و تكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ثمّ تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين البصرة و الكوفة فتلقى جميع المشركين بجميع المسلمين فانّك إذا سرت بمن معك و من عندك تكن فى نفسك بالكاثر من عدد القوم و كنت أعزّ عزّا و أكثر انّك لا تستبقى بعد اليوم باقية و لا تمنع من الدّنيا بعزيز و تكون منها في حرز حريز، إنّ هذا يوم له ما بعده فاشهده برأيك و نفسك و لا تغب عنه.

قال أبو جعفر: و قام طلحة فقال: أمّا بعد يا أمير المؤمنين فقد أحكمتك الامور و عجمتك البلايا و حنكتك التّجارب و أنت و شأنك و أنت و رأيك لا تنبو في يديك و لا نكل أمرنا إلّا إليك، فأمرنا نجب، و ادعنا نطع، و احملنا نركب، و قدمنا ننقد، فانّك ولىّ هذا الأمر و قد بلوت و جربت و اختبرت فلم ينكشف شي‏ء من عواقب الامور لك إلّا عن خيار.

فقال عليّ بن أبي طالب: أمّا بعد فانّ هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا قلّة، إنما هو دين اللَّه الّذي أظهره و جنده الّذي أعزّه و أمدّه بالملائكة حتّى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من اللَّه و اللَّه منجز وعده و ناصر جنده، و انّ مكانك منهم مكان النّظام من الخرز يجمعه و يمسكه، فان انحلّ تفرّق ما فيه و ذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا، و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فانّهم كثير، و عزيز بالاسلام، أقم مكانك و اكتب إلى أهل الكوفة فانّهم أعلام العرب و رؤسائهم، و ليشخص منهم الثلثان و ليقم الثّلث، و اكتب إلى أهل البصرة أن يمدّوهم ببعض من عندهم، و لا تشخص الشّام و لا اليمن إنّك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الرّوم إلى ذراريهم و إن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم و متى شخصت من هذه الأرض، انتقضت عليك العرب من أطرافها و أكنافها حتّى يكون ما تدع ورائك أهمّ إليك ممّا بين يديك من العورات و العيالات، إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا: هذا أمير العرب و أصلهم فكان ذلك أشدّ لكلبهم عليك و أمّا ما ذكرت من مسير القوم فانّ اللَّه هو أكره لمسيرهم منك و هو أقدر على تغيير ما يكره، و أمّا ما ذكرت من عددهم فانا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة و إنّما كنّا نقاتل بالصّبر و النّصر.

فقال عمر: أجل هذا الرأى و قد كنت أن اتابع عليه، فأشيروا علىّ برجل‏ اوليّه ذلك الثغر، قالوا أنت أفضل رأيا فقال: أشيروا علىّ به و اجعلوه عراقيّا قالوا أنت أعلم بأهل العراق و قد وفدوا عليك فرأيتهم و كلّمتهم، قال: أما و اللَّه لأوّلينّ أمرهم رجلا يكون غمدا لأوّل الأسنّة فقيل: و من هو يا أمير المؤمنين قال: النّعمان بن مقرن، قالوا: هولها و كان النّعمان يومئذ بالبصرة فكتب إليه عمر فولّاه أمر الجيش.

قال أبو جعفر: كتب اليه عمر: سر إلى نهاوند فقد وليتك حرب الفيروزان و كان المقدم على جيوش كسرى فان حدث بك حدث فعلى النّاس حذيفة بن اليمان، فان حدث به حدث فعلى النّاس نعيم بن مقرن، فان فتح اللَّه عليكم فاقسم على النّاس ما أفاء اللَّه عليهم و لا ترفع إلىّ منه شيئا، و إن نكث القوم فلا ترانى و لا أراك، و قد جعلت معك طليحة بن جويلد و عمرو بن معديكرب لعلمهما بالحرب فاستشرهما و لا تولّهما شيئا.

قال أبو جعفر: فسار النّعمان بالعرب حتّى وافى نهاوند و ذلك في السّنة السّابعة من خلافة عمر، و ترائى الجمعان و نشب القتال و حجزهم المسلمون «المشركون» في خنادقهم و اعتصموا بالحصون و المدن و شقّ على المسلمين ذلك، فأشار طليحة عليه فقال أرى أن تبعث خيلا ببعض القوم و تحمشهم«» فاذا استحمشوا خرج بعضهم و اختلطوا بكم فاستطردوا لهم فانهم يطمعون بذلك ثمّ نعطف عليهم حتّى يقضى اللَّه بيننا و بينهم بما يجب، ففعل النّعمان ذلك فكان كما ظنّ طليحة و انقطع العجم عن حصونهم بعض الانقطاع فلمّا أمعنوا في الانكشاف للمسلمين حمل النعمان بالنّاس فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السّامعون مثله، و زلق النعمان فرسه فصرع و اصيب فتناول الرّاية أخوه فأتا حذيفة فدفعها إليه و كتم المسلمون مصاب أميرهم و اقتتلوا حتّى أظلم اللّيل و رجعوا و المسلمون ورائهم، فعمى عليهم قصدهم فتركوه و غشيهم المسلمون بالسيوف، فقتلوا منهم ما لا يحصى، و أدرك المسلمون الفيروزان و هو هارب و قد هارب و انتهى إلى ثنيّة مشحونة ببغال موقّرة عسلا فحبسته على أصله فقتل‏ فقال المسلمون: إنّ للَّه جنودا من عسل، و دخل المسلمون نهاوند فاحتووا على ما فيها و كانت أنفال هذا اليوم عظيمة.

الترجمة

از جمله كلام آن حضرتست در حالتى كه مشاوره كرد بأو عمر بن الخطاب در رفتن بمحاربه أهل فارس بنفس خود فرمود: كه بدرستي اين أمر يعني اسلام نيست يارى نمودن او و نه خوارى او بزيادتي لشكر و نه بكمى آن و آن امر دين خدائيست غالب گردانيد او را بر همه أديان و لشكر او است كه مهيا فرمود و قوّت داد آنرا بر دشمنان تا اين كه رسيد آن مقامى را كه رسيد و بلند شد هر چه بلند شد و ما مستقرّيم بر وعده خداوند تعالى و خدا وفا كننده وعده خود است و نصرت دهنده لشكر خود و مكان قائم بأمر مردمان و رئيس ايشان مكان خياطه است از مهره كه جمع ميكند آن را و انضمام مى‏ دهد او را بهم، پس اگر بريده شود مهره متفرّق و پراكنده مى‏ شود مهرها و از هم بپاشند، پس از آن جمع نمى ‏شود بتمامى خود هيچوقت و مردمان عرب اگر چه امروز اندكند نسبت بكافران پس ايشان بسيارند بجهت اسلام عزيزند بحسب اجتماع و اتّفاق پس باش مثل قطب آسيا از جاى خود حركت مكن و بگردان آسياى حرب را با عرب و در آرايشان را نه خود را در آتش مقاتله و محاربه، پس بدرستى كه تو اگر بيرون روى از اين زمين يعني مدينه منوّره فرود آيند بتو عربها از اطراف و جوانب تا اين كه باشد آنچه كه ترك كرده آنرا در پشت خود از مواضع مخافت بر اسلام و أهل آن مهم‏تر بسوى تو از آنچه كه در پيش تو است از محاربه دشمن بدرستى كه عجمها اگر نظر كنند بسوى تو فردا گويند اين مرد اصل عرب و أمير ايشانست پس اگر شما پاره پاره كرديد او را راحت مى‏شويد پس باشد رفتن تو بمحاربه ايشان باعث شدت حرص ايشان بر تو و طمع ايشان در تو، پس امّا آنچه ذكر كردى از آمدن أهل فارس بمحاربه مسلمانان پس بدرستى كه خداى تعالى ناخوش گيرنده‏تر است از تو رفتار ايشان را و او قادر تر است بر تغيير آن چه كه ناخوش مى‏ گيرد و أمّا آنچه كه ذكر كردى از بسيارى عدد ايشان پس بدرستى كه ما نبوديم كه دعوا كنيم در زمان گذشته با بسيارى لشكر و جز اين نيست كه بوديم كه محاربه مى‏كرديم بمعاونت و نصرت پروردگار، يعنى در حرب اعدا توكل بخدا بايد نمود و از كثرت أعدا نبايد ترسيد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 145 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 145 صبحی صالح

145- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  )

فناء الدنيا

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا

مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ

وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ

لَا تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى

وَ لَا يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ

وَ لَا تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلَّا بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ

وَ لَا يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ إِلَّا مَاتَ لَهُ أَثَرٌ

وَ لَا يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ

إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ وَ لَا تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلَّا وَ تَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ

وَ قَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا

فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ

ذم البدعة

منهاوَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ

فَاتَّقُوا الْبِدَعَ

وَ الْزَمُوا الْمَهْيَعَ

إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا

وَ إِنَّ مُحْدِثَاتِهَا شِرَارُهَا

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

و من خطبة له عليه السّلام

و هى المأة و الخامسة و الأربعون من المختار فى باب الخطب

أيّها النّاس، إنّما أنتم في هذه الدّنيا غرض تنتضل فيه المنايا،مع كلّ جرعة شرق، و في كلّ أكلة غصص، لا تنالون منها نعمة إلّا بفراق أخرى، و لا يعمر معمّر منكم يوما من عمره إلّا بهدم آخر من أجله، و لا تجدّد له زيادة في أكله إلّا بنفاد ما قبلها من رزقه، و لا يحيى له أثر إلّا مات له أثر، و لا يتجدّد له جديد إلّا بعد أن يخلق جديد، و لا تقوم له نابتة إلّا و تسقط منه محصودة، و قد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء فرغ بعد ذهاب أصله منها و ما أحدثت بدعة إلّا ترك بها سنّة، فاتّقوا البدع، و ألزموا المهيع، إنّ عوازم الامور أفضلها، و إنّ محدثاتها شرارها

اللغة

(الغرض) ما ينصب للرّمى و هو الهدف و (ناضلته) مناضلة و نضالا راميته فنضلته نضلا من باب قتل غلبته في الرمى، و تناضل القوم و انتضلوا تراموا للسّبق و (الشّرق) محرّكة مصدر من شرق فلان بريقه من باب تعب غصّ و (الغصص) محرّكة أيضا مصدر من غصصت بالطّعام كتعب أيضا، قال الشارح المعتزلي: و روى غصص جمع غصّة و هى الشجى و (المهيع) من الطّريق وزان مقعد الواضح البيّن.

و (العوازم) جمع العوزم و هى النّاقة المسنّة و العجوز قال الشارح المعتزلي: عوازم الامور ما تقادم منها، من قولهم: عجوز عوزم، أي مسنّة، و يجمع فوعل على فواعل كدورق و هو جلّ و يجوز أن يكون جمع عازمة و يكون فاعل بمعنى مفعول‏ أي معزوم عليها أي مقطوع معلوم بيقين صحّتها، و يجي‏ء فاعلة بمعنى مفعولة كثيرا كقولهم: عيشة راضية بمعنى مرضيّة، ثمّ قال: و الأوّل أظهر عندي، لأنّ في مقابلته قوله: و انّ محدثاتها شرارها، و المحدث في مقابلة القديم.

الاعراب

قوله: فما بقاء فرع، الفاء فصيحة و الاستفهام إمّا للتّعجب كما في قوله تعالى: «وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما» أو للتحقير.

المعنى

اعلم أنّ مقصوده بهذه الخطبة التنفير عن الدّنيا و الترغيب عنها بالتنبيه على معايبها و مثالبها المنفرة منها فقوله (أيّها النّاس انما أنتم في هذه الدّنيا غرض) من باب التشبيه البليغ و رشّح التشبيه بقوله (تنتضل فيه المنايا) و هي استعارة بالكناية حيث شبّه المنايا بالمتناضلين بالسّهام باعتبار قصدها للانسان كقصد المتناضلين للهدف، و ذكر الانتضال تخييل، و المعنى أنكم في هذه الدّنيا بمنزلة هدف تترامى فيه المنايا بسهامها، و سهامها هي الأعراض و الأمراض، و جمع المنايا إما باعتبار تعدّد الأسباب من الغرق و الحرق و التردّى في بئر و السّقوط من حائط و نحوها، و إمّا باعتبار تعدّد من تعرض عليه و كثرة أفراد الأموات، و لكلّ نفس موت مخصّص بها.

(مع كلّ جرعة شرق و في كلّ اكلة غصص) قال الشّارح البحراني: كنّى بالجرعة و الاكلة عن لذّات الدّنيا، و بالشرق و الغصص عما فى كلّ منها في ثبوت الكدورات اللّازمة لها طبعا من الأمراض و المخاوف و ساير المنقصات لها.

أقول: و محصّل مراده عليه السّلام أنّ صحتها مقرونة بالمحنة، و نعمتها مشفوعة بالنقمة و احسانها معقبة بالاسائة، و لذّتها مشوبة بالكدورة.

و لكمال الاتصال بين هذه الجملة و بين الجملة التالية لها أعني قوله (لا تنالون منها نعمة إلّا بفراق اخرى) وصل بينهما و لم يفصل بالعاطف، فانه لما أشار إلى أنّ الدّنيا رنق المشرب ردغ المشرع لذّاتها مشوبة بالكدورات عقّبه بهذه الجملة،لأنها توكيد و تحقيق و بيان لما سبق، و فيه زيادة تثبيت له.

و المراد بها أنّ الانسان لا يكون مشغولا بنوع من اللّذات الجسمانية إلّا و هو تارك لغيره، و ما استلزم مفارقة نعمة اخرى لا يعدّ في الحقيقة نعمة ملتذا بها.

توضيح ذلك ما أشار إليه الشّارح البحراني: من أنّ كلّ نوع من نعمة فانما يتجدّد شخص منها و يلتذّبه بعد مفارقة مثله، كلذّة اللّقمة مثلا، فانّها تستدعى فوت اللّذة باختها السّابقة، و كذلك لذّة ملبوس شخصى أو مركوب شخصى و سائر ما يعدّ نعما دنيويّة ملتذّا بها، فانّها إنّما تحصل بعد مفارقة ما سبق من أمثالها، بل و أعمّ من ذلك فانّ الانسان لا يتهيّأ له الجمع بين الملاذّ الجسمانيّة في وقت واحد، بل و لا اثنين منها، فانه حال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا و حال ما هو في لذّة الأكل لا يكون يلتذّ بمشروب، و لا حال ما يكون خاليا على فراشه الوثير يكون راكبا للنزهة و نحو ذلك.

(و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلّا بهدم آخر من أجله) لظهور أنّ بقائك إلى الغد مثلا لا يحصل إلّا بانقضاء اليوم الذي أنت فيه و هو من جملة أيّام عمرك و بانقضائه ينقص يوم من عمرك، و تقرب إلى الموت بمقدار يوم، و اللّذة بالبقاء المستلزم للقرب من الموت ليست لذّة في الحقيقة (و لا تجدّد له زيادة في أكله إلّا بنفاد ما قبلها من رزقه) أي من رزقه المعلوم أنّه رزقه و هو ما وصل إلى جوفه مثلا، فانّ ما لم يصل جاز أن يكون رزقا لغيره، و من المعلوم أنّ الانسان لا يأكل لقمة إلّا بعد الفراغ من أكل اللّقمة الّتي قبلها فهو اذا لا يتجدّد له زيادة في أكله إلّا بنفاد رزقه السّابق و ما استلزم نفاد الرّزق لا يكون لذيذا في الحقيقة.

(و لا يحيى له أثر الّا مات له أثر) قال الشّارح البحراني: أراد بالأثر الذكر أو الفعل، فانّ ما كان يعرف به الانسان في وقت ما من فعل محمود أو مذموم أو ذكر حسن أو قبيح و يحيى له بين النّاس يموت منه ما كان معروفا به قبله من الآثار و ينسى.

(و) كذلك (لا يتجدّد له جديد) من زيادات بدنه و نقصانه و أوقاته (الّا بعد أن يخلق له جديد) إلّا بتحلّل بدنه و معاقبة شيخوخته بشبابه و مستقبل أوقاته لسالفها.

(و) كذلك (لا تقوم له نابتة إلّا و تسقط منه محصودة) أراد بالنابتة ما ينشأ من الأولاد و الأحفاد، و بالمحصودة من يموت من الآباء و الأجداد، و لذلك قال (و قد مضت اصول) يعنى الآباء (نحن فروعها).

و لما استعار الاصول و الفروع اللّذين هما من وصف الأشجار و نحوها للسّلف و الخلف و كان بناء الاستعارة على تناسى التشبيه حسن التّعجب بقوله (فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله) لأنّ الشجر إذا انقطع أصله أو انقلع لا يبقى لفرعه قوام، و لا يكون له ثبات و مثل هذا التّعجب له المبنى على تناسي التشبيه قول الشّاعر:

فبتّ ألثم عينها و من عجب            إنّي اقبّل أسيافا سفكن دمى.

و قد مرّ مثال آخر في التّقسيم السّادس من تقسيمات الاستعارة في أوائل هذا الشّرح.

قال السيّد ره (منها) أي بعض هذه الخطبة في النّهى عن متابعة البدعات و التّنبيه على ضلالها و الأمر بالتجنّب عنها، و قد مضى معنى البدعة و تحقيق الكلام فيها في شرح الكلام السّابع عشر، و قال الشّارح المعتزلي هنا: البدعة كلّ ما احدث لم يكن على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله، فمنها الحسن كصلاة التراويح، و منها القبيح كالمنكرات التّي ظهرت في أوائل الخلافة العثمانيّة و إن كانت قد تكلّفت الاعذار عنها.

إذا عرفت ذلك فنقول قوله: (و ما احدثت بدعة إلّا ترك بها سنّة) معناه انّ السّنة مقتضيه لترك البدعة و حرمتها بقوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة في النّار، فاحداث البدعة يوجب ترك السنة أعنى مخالفة قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا محالة، و في هذا تعريض على الخلفاء في بدعاتهم التي أحدثوها بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم على ما تقدّمت تفصيلها في الخطبة التي رويناها عن أمير المؤمنين عليه السّلام في شرح الخطبة الخمسين فتذكّر.

(فاتقوا البدع و الزموا المهيع) أي الطريق الواضح و النّهج المستقيم و هي الجادّة الوسطى الّتى من سلكها فاز و نجى، و من عدل عنها ضلّ و غوى، و هي الّتي تقدّمت ذكرها في شرح الفصل الثّاني من الكلام السّادس عشر عند شرح قوله هناك: اليمين و الشّمال مضلّة و الطريق الوسطى هى الجادّة، عليها باقي الكتاب و آثار النّبوة، و منها منفذ السّنة، فليراجع ثمّة.

و علّل وجوب التجنّب من البدع و لزوم سلوك المهيع بقوله: (إنّ عوازم الامور أفضلها) أراد بها الامور القديمة التي كانت على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و على التفسير الآخر الامور المقطوع بصحتّها و الخالية عن الشكوك و الشبهات و المصداق واحد.

(و انّ محدّثاتها شرارها) لكونها خارجة عن قانون الشريعة مستلزمة للهرج و المرج و المفاسد العظيمة، ألا ترى إلى البدعة التّي أحدثها عمر من التفضيل في العطاء فضلا عن سائر بدعاته أيّ مفاسد ترتّبت عليها حسب ما عرفتها في شرح الكلام المأة و السّادس و العشرين، و اللَّه الموفق و المعين.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام مبين و وصيّ رسول ربّ العالمين است در مذمّت دنيا و تنبيه بر معايب آن غدّار بى وفا مى‏ فرمايد: أي گروه مردمان جز اين نيست كه شما در اين دنيا بمنزله هدف و نشانگاهيد كه تير اندازند در او مرگ‏ها، با هر آشاميدنى از شراب دنيا اندوهى است گلو گير، و در هر خوردني محنتها است گلو گرفته، نمى‏ رسيد از دنيا بنعمتي مگر بجدا شدن از نعمت ديگر، و معمّر نمى‏ شود هيچ طويل العمري از شما يك روزي از عمر خود مگر بويرانى يك روز ديگر از عمر او، و تجديد كرده نمى‏ شود از براى او زيادتي در خوردن او مگر به نابود شدن آنچه پيش از اين زيادتي است از روزى‏ او، و زنده نمى‏ شود از براى او اثرى مگر آنكه مى ‏ميرد از براى او اثر ديگر، و تازه نمى‏ شود از براى او هيچ تازه مگر بعد از آنكه كهنه شود از براى او تازه ديگر، و قائم نم ى‏شود از براى او روينده مگر آنكه مى ‏افتد از او روينده خشك شده، و بتحقيق كه گذشت اصلهائى كه ما فرعهاى ايشانيم يعنى پدرانى كه ما فرزندان ايشانيم، پس چه عجب است باقى ماندن فرع بعد از رفتن اصل او.

از جمله فقرات اين خطبه در نهى از متابعت بدعت مى‏ فرمايد: و پديد آورده نشد هيچ بدعتى مگر آنكه ترك كرده شد بجهت آن بدعت سنّتي، پس پرهيز نمائيد از بدعتها، و لازم شويد براه روشن آشكارا، بدرستى كه أمرهاى قديمه بهترين أمرها است، و بدرستى كه امور متجدّده تازه پيدا شده بدترين امور است، زيرا كه مخالف دين خاتم النّبيّين است.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 144 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 144 صبحی صالح

144- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  )

مبعث الرسل‏

بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ

وَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ

لِئَلَّا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ

فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ

أَلَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً

لَا أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ

وَ مَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ

وَ لَكِنْ‏لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً

وَ الْعِقَابُ بَوَاءً

فضل أهل البيت‏

أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا

كَذِباً وَ بَغْياً عَلَيْنَا

أَنْ رَفَعَنَا اللَّهُ وَ وَضَعَهُمْ

وَ أَعْطَانَا وَ حَرَمَهُمْ

وَ أَدْخَلَنَا وَ أَخْرَجَهُمْ

بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى

وَ يُسْتَجْلَى الْعَمَى

إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ

لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ

وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ

أهل الضلال‏

منهاآثَرُوا عَاجِلًا وَ أَخَّرُوا آجِلًا

وَ تَرَكُوا صَافِياً

وَ شَرِبُوا آجِناً

كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى فَاسِقِهِمْ وَ قَدْ صَحِبَ الْمُنْكَرَ فَأَلِفَهُ

وَ بَسِئَ بِهِ وَ وَافَقَهُ

حَتَّى شَابَتْ عَلَيْهِ مَفَارِقُهُ

وَ صُبِغَتْ بِهِ خَلَائِقُهُ

ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ لَا يُبَالِي مَا غَرَّقَ

أَوْ كَوَقْعِ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ

لَا يَحْفِلُ مَا حَرَّقَ

أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى

وَ الْأَبْصَارُ اللَّامِحَةُ إِلَى مَنَارِ التَّقْوَى

أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ لِلَّهِ

وَ عُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ

ازْدَحَمُوا عَلَى الْحُطَامِ

وَ تَشَاحُّوا عَلَى الْحَرَامِ

وَ رُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ‏الْجَنَّةِ وَ النَّارِ

فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ

وَ أَقْبَلُوا إِلَى النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ

وَ دَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا وَ وَلَّوْا

وَ دَعَاهُمُ الشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَ أَقْبَلُوا

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

الجزء التاسع

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الرابعة و الاربعون من المختار في باب الخطب

و شرحها في فصلين:

الفصل الاول

بعث رسله بما خصّهم به من وحيه، و جعلهم حجّة له على خلقه، لئلّا تجب الحجّة لهم بترك الإعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصّدق إلى سبيل الحقّ، ألا إنّ اللَّه قد كشف الخلق كشفة، لا أنّه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم، و مكنون ضمائرهم، و لكن ليبلوهم أيّهم أحسن عملا، فيكون الثّواب جزاء، و العقاب بواء، أين الّذين زعموا أنّهم الرّاسخون في العلم دوننا كذبا و بغيا علينا، أن رفعنا اللَّه و وضعهم، و أعطانا و حرمهم، و أدخلنا و أخرجهم، بنا يستعطى الهدى، و يستجلى العمى، إنّ الأئمّة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم،لا تصلح على سويهم، و لا تصلح الولاة من غيرهم.

اللغة

(الاعذار) التخويف و الوعيد و (الكشف) الاظهار و رفع كلّ شي‏ء عما يواريه و يستره و (البواء) الكفوء و باء الرّجل بفلان قتل به، و أبأت القاتل بالقتل و استبأته أي قتلته به و (كذب) يكذب من باب حسب كذّبا و كذبا و كذبة و كذّبة و كذّابا و (البطن) دون القبيلة أو دون الفخد و فوق العمارة كذا في القاموس و قيل: أوّل العشيرة الشعب قال سبحانه: «وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا» ثمّ القبيلة، ثمّ البطن، ثمّ العمارة ثمّ الفخذ.

الاعراب

قوله: من وحيه، بيان لما الموصولة، و قوله: ليبلوهم أيّهم أحسن عملا، كلمة أيّ استفهاميّة مضافة إلى ما بعدها و هي مبتدأ و أحسن خبره، و عملا تميز و جملة الاستفهام بدل من مفعول يبلو على حدّ قوله سبحانه: «وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» فانّ جملة هل هذا إلّا بشر، بدل من النّجوى.

و يجوز أن يكون الجملة الاستفهاميّة استينافا بيانيا، كأنّه سئل عن المبتلين و قيل: من هم فقيل: أيّهم أحسن عملا نظير ما قاله بعض النحويّين في قوله: «لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» من أنّ أيّ استفهاميّة و جملة الاستفهام مستأنفة، و من كلّ شيعة، مفعول ننزعنّ، و المعنى لننزعنّ بعض كلّ شيعة، و كأنّ قائلا يقول: و من المنزعين فقيل: أيّهم أشدّ.

و قوله: أين الذين، استفهام على سبيل التقريع و التوبيخ، و قوله: دوننا في محلّ النّصب حال من فاعل الرّاسخون و هو بمعنى سوى و غير مبنيّ على الفتح لملازمته الاضافة، و كذبا و بغيا منصوبان على الحال من فاعل زعموا و هما بمعنى الفاعل أي كاذبين في زعمهم، و علينا، متعلّق ببغيا، و أن رفعنا، في محلّ النّصب مفعول له لبغيا، أي بغيهم علينا لأنّ رفعنا اللَّه، و قوله: لا تصلح، فاعله راجع إلى‏الامامة المفهومة من قوله: إنّ الأئمة من قريش.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة حسب ما أشار اليه الشّارحان البحراني و المعتزلي منافرة بينه و بين قوم من الصّحابة الذين كانوا ينازعونه الفضل، و صدّر الفصل بالاشارة إلى بعث الرّسل و الحكمة في بعثهم فقال: (بعث رسله بما خصّهم به من وحيه) الضمائر راجعة إلى اللَّه سبحانه و إن لم يجر له ذكر لعدم الالتباس كما في قوله تعالى: «فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ ما أَوْحى‏.» و الوحى كلام مأخوذ من اللَّه سبحانه بواسطة الملك، و الالهام يحصل منه سبحانه بغير واسطة، و قيل: الوحى قد يحصل بشهود الملك و سماع كلامه فهو من الكشف الصّورى المتضمّن للكشف المعنوي، و الالهام من المعنوى، و أيضا الوحى من خواصّ الرّسالة و متعلّق بالظاهر، و الالهام من خواصّ الولاية، و أيضا هو مشروط بالتبليغ كما قال: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» دون الالهام، و منهم من جعل الالهام نوعا من الوحى فيكون إطلاق الوحى على الالهام في قوله سبحانه: «وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» «وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏» على سبيل الحقيقة، و أمّا على الأقوال السّابقة فهو من باب التوسّع و التجوّز.

(و جعلهم حجّة له على خلقه لئلا) يكون للنّاس على اللَّه حجّة بعد الرّسل و (تجب الحجّة لهم عليه بترك الاعذار) و التّخويف و إبداء العذر في العقاب و تقديمه (إليهم) يعني أنّه سبحانه إنّما أرسل رسله مبشّرين و منذرين إتماما للحجّة و إزالة للعذر عنه في العقاب على العصيان لأنّ العقاب بلا بيان قبيح على الحكيم كما قال تعالى: «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا».

فان قلت: هذا ينافي بالقول بالواجبات العقليّة و كفاية حكم العقل بالوجوب أو التحريم فيما استقل بحسنه أو قبحه و لو لم يبعث الرّسل كما هو مذهب العدليّة من الامامية و المعتزلة.

قلت: قد أجاب عنه الشّارح المعتزلي بأنّ صحّة مذهبهم يقتضي أن يحمل عموم الألفاظ على أنّ المراد بها الخصوص، فيكون التّأويل لئلا يكون للنّاس على اللَّه حجّة فيما لم يدلّ العقل على وجوبه و لا قبحه كالشّرعيّات، و كذلك و ما كنّا معذّبين على ما لم يكن العقل دليلا عليه حتّى نبعث رسولا، و محصّله أنّ العمومات مخصوصة بغير المستقلات، و أنّ المقصود بالآية و ما كنّا معذّبين قبل بعث الرّسل إلّا فيما استقلّ لحكمه العقل، هذا.

و يمكن الجواب بابقاء الآية على عمومها و التصرّف في البعث بأن يجعل بعث الرّسل كناية أو مجازا عن مطلق بيان التكليف و لو بلسان العقل كما في المستقلات العقليّة إلّا أنّه لمّا كان الغالب بل الأغلب كون البيان بالرّسول، فعبّر به عنه كما في قولك لا أبرح هذا المكان حتّى يؤذّن المؤذّن، مريدا به دخول الوقت إذ كثيرا ما يعلم دخوله به.

(فدعاهم بلسان الصّدق) و هو لسان الأنبياء و الحجج، لأنّهم تراجمة وحى اللَّه سبحانه و يقرب منه ما في شرح البحراني قال: هو لسان الشريعة النّاطقة عن مصباح النّبوة المشتعل عن نور الحقّ سبحانه (إلى سبيل الحقّ) و هو سبيل الدّين و نهج الشّرع المبين.

و لمّا أشار عليه السّلام إلى الحكمة في بعث الرّسل أردفه بالتّنبيه على الغرض من التّكليف و هو قوله: (ألا إنّ اللَّه تعالى قد كشف الخلق كشفة) أي أبداهم و أظهر حالهم بما تعبّدهم به من الأحكام إذ بالتعبّد بها يظهر ما هم عليه من السّعادة و الشّقاوة و الجحود و التّسليم، و هذا معنى ما قيل إنّه أراد بالكشف الاختبار و الابتلاء (لا) ل (أنّه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم و) أضمروه من (مكنون ضمائرهم) بل هو العالم بالسّرائر و الخبير بمكنونات الضّمائر.

و إن تجهر بالقول فانّه يعلم السّر و أخفى، و لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السّماء، و ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم و لا خمسة إلّا هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلّا هو معهم، على ما مرّ تحقيقا و تفصيلا في‏تنبيهات الفصل السّابع من الخطبة الأولى، و في شرح الخطبة التّاسعة و الأربعين و الخطبة الخامسة و الثّمانين فليراجع (و لكن) كشفهم (ليبلوهم أيّهم أحسن عملا) اقتباس من الآية الشّريفة في سورة هود قال تعالى: «وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».

قال الطّبرسيّ: معناه أنّه خلق الخلق و دبّر الامور ليظهر إحسان المحسن فانّه الغرض في ذلك أي ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر لئلا يتوهم أنّه سبحانه يجازى العباد على حسب ما في معلومه أنّه يكون منهم قبل أن يفعلوه.

و في سورة الملك «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».

قال الطّبرسيّ: أي ليعاملكم معاملة المختبر بالأمر و النّهى فيجازى كلّ عامل بقدر عمله، و قيل: ليبلوكم أيّكم أكثر للموت ذكرا و أحسن له استعدادا و أحسن صبرا على موته و موت غيره، و أيّكم أكثر امتثالا للأوامر و اجتنابا عن النّواهي في حال حياته.

قال أبو قتادة سألت النّبي صلّى اللَّه عليه و آله عن قوله تعالى: «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ما عنى به فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: يقول: أيّكم أحسن عقلا ثمّ قال: أتمّكم عقلا، و أشدّكم للَّه خوفا، و أحسنكم فيما أمر اللَّه به و نهى عنه نظرا، و إن كان أقلّكم تطوّعا.

و عن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أنّه تلى تبارك الذي بيده الملك إلى قوله: أيّكم أحسن عملا، ثمّ قال: أيّكم أحسن عقلا، و أورع عن محارم اللَّه، و أسرع في طاعة اللَّه، و عن الحسن أيّكم أزهد في الدّنيا و أترك لها انتهى.

أقول: و قد مضى تفصيل الكلام في معنى ابتلاء اللَّه سبحانه لعباده في شرح الخطبة الثانية و السّتين، و محصّله أنّه سبحانه يختبر عباده مع علمه بما يؤل اليه أمرهم من سعادة أو شقاوة بأوامره و نواهيه، و يعاملهم معاملة المختبر ليجازي كلّ عامل بمقتضى فعله و عمله، كما لا يجازي المختبر للغير إلّا بعد وقوع الفعل و العمل منه (فيكون الثواب) منه تعالى (جزاء) للحسنات بمقتضى فضله (و العقاب بواء) للسيّئات بمقتضى عدله.

ثمّ إنّه لمّا أشار الى الحكمة في بعث الرّسل و نبّه على الغرض من التّكليف أردفه بقوله: (أين الّذين زعموا أنّهم الرّاسخون في العلم دوننا) و غرضه بذلك توبيخ الزّاعمين لذلك و الانكار عليهم و التّنبيه على أنّ الرّسوخ في العلم مخصوص بأهل بيت الولاية عليهم السّلام و أنّ غيرهم كاذب في دعوى الرّسوخ.

و هذه الدّعوى منهم أعنى اختصاصهم بالرّسوخ قد شهد عليه البراهين العقلية و النقلية و نصّ عليه العامّة و الخاصّة.

اما العامة فلما أورده الشّارح المعتزلي في شرح هذا المقام حيث قال: إنّه كناية و إشارة إلى قوم من الصّحابة كانوا ينازعونه الفضل، فمنهم من كان يدّعى له أنّه أفرض، و منهم من كان يدّعى له أنّه أقرء، و منهم من كان يدّعى له أنّه أعلم بالحلال و الحرام، هذا.

مع تسليم هؤلاء له أنّه عليه السّلام أفضل «أقضى ظ» الامّة و أنّ القضاء يحتاج إلى كلّ هذه الفضائل و كلّ واحدة منها لا تحتاج إلى غيرها، فهو إذا أجمع للفقه و أكثرهم احتواء عليه إلّا أنه لم يرض بذلك، و لم يصدق الخبر«» الذي قيل أفرضكم فلان إلى آخره، فقال إنّه كذب و افتراء حمل قوما على وضعه الحسد و البغى و المنافسة لهذا الحىّ من بني هاشم.

و أما الخاصة فقد تظافرت رواياتهم على ذلك.

ففي البحار من بصائر الدّرجات باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: نحن الرّاسخون في العلم و نحن نعلم تأويله.

و من البصائر أيضا عن إبراهيم بن إسحاق عن عبد اللَّه بن حمّاد عن بريد البجلي «العجلى ظ» عن أحدهما عليهما السّلام في قوله تعالى: «وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فرسول اللَّه أفضل الرّاسخين في العلم قد علّمه اللَّه جميع ما أنزله عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللَّه لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه.

و من مناقب ابن شهر آشوب عن أبي القاسم الكوفي قال: روى في قوله: «وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» إنّ الراسخون في العلم من قرنهم الرّسول بالكتاب و أخبر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

قال صاحب المناقب: و في اللّغة الرّاسخ هو اللّازم لا يزول عن حاله و ليس يكون كذلك إلّا من طبعه اللَّه على العلم في ابتداء نشوه كعيسى عليه السّلام في وقت ولادته قال: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ» الآية، فأما من يبقى السنين الكثيرة لا يعلم ثمّ يطلب العلم فينا له من جهة غيره على قدر ما يجوز أن يناله منه فليس ذلك من الراسخين يقال: رسخت عروق الشجر في الأرض و لا يرسخ إلّا صغيرا انتهى.

و هذا هو الدّليل العقلى على اختصاص الرّسوخ لهم مضافا إلى الأدلّة الاخر لا نطول بذكرها.

و لمكان الاختصاص كذب المدّعين للاتصاف بالرسوخ و الزاعمين لاختصاصه بهم دونهم بقوله (كذبا و بغيا علينا) و حسدا لنا و علّة كذبهم و بغيهم (أن رفعنا اللَّه و وضعهم) أى رفع اللَّه درجاتنا في الدّنيا و الآخرة على الكافّة و وضعهم.

كما يدلّ عليه قوله سبحانه: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» فقد روى في غاية المرام من تفسير الثعلبي في تفسير هذه الآية برفع الاسناد إلى أنس بن مالك قال: قرء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم هذه الآية فقام رجل فقال: يا رسول اللَّه أىّ بيوت هذه قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول اللَّه هذا البيت منها يعني بيت عليّ و فاطمة، قال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: نعم من أفاضلها، و بمعناها روايات اخر عامية و خاصية.

(و أعطانا و حرمهم) أي آتانا النبوّة و الخلافة و الامامة و حرمهم هذه كما قال تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ»، قال أبو جعفر عليه السّلام في المروّى من بصائر الدرّجات: فنحن الناس المحسودون على ما آتانا اللَّه من الامامة دون خلق اللَّه جميعا.

و من مناقب ابن شهر آشوب و تفسير العياشي عن أبي سعيد المؤدب عن ابن عباس في قوله «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» قال: نحن الناس‏ و فضله النبوة.

(و أدخلنا) في عناية الخاصّة (و أخرجهم) منها و من جملة تلك العناية الخاصّة أنّه سبحانه أمر بسدّ الأبواب الشّارعة في المسجد غير باب أمير المؤمنين عليه السّلام، روى الحمويني بسنده عن بريد الأسلمي قال: أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بسدّ الأبواب فشقّ ذلك على أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله فلمّا بلغ ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم دعا الصّلاة جامعة حتّى إذا اجتمعوا صعد المنبر فلم يسمع لرسول اللَّه تحميدا و تعظيما في خطبة مثل يومئذ فقال: يا أيّها النّاس ما أنا سددتها و لا أنا فتحتها، بل اللَّه عزّ و جلّ سدّها، ثمّ قرء: «وَ النَّجْمِ إِذا هَوى‏ ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى‏ وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏»، و قال رجل: دع لى كوّة تكون في المسجد فأبى و ترك باب عليّ صلوات اللَّه عليه مفتوحا و كان يدخل و يخرج منه و هو جنب.

(بنا يستعطى الهدى) لأنّهم عليه السّلام الأعلام و المنار و نور الأنوار و شموس الضّياء و كواكب الدّجى و نجوم الظّلماء، و الهداة لمن اهتدى في الآخرة و الاولى على ما مرّ تحقيقا و تفصيلا في شرح الخطبة الرابعة.

(و يستجلى العمى) و هو استعارة وفاقيّة مرشّحة حيث استعير العمى للضلالة بجامع عدم الاهتداء و قرن بما يلايم المستعار منه و هو الاستجلاء.

و قوله عليه السّلام (إنّ الأئمة من قريش) مأخوذ من الحديث النّبوي المعروف بين الفريقين حسب ما تطلع عليه في التنبيه الآتى، و هو مفيد للحصر كما نبّه عليه العلامة التفتازاني في باب تعريف المسند من شرح التلخيص حيث قال: إنّ المعرّف بلام الجنس إن جعل مبتدأ فهو المقصور على الخبر سواء كان الخبر معرّفا بلام الجنس أو غيره، نحو الكرم هو التقوى أي لا غيرها، و الأمير الشّجاع أي لا الجبان و الأمير هذا أو زيد أو غلام زيد أو كان غير معرّف أصلا نحو التوكل على اللَّه و التفويض إلى أمر اللَّه و الكرم في العرب و الامام من قريش لأنّ الجنس حينئذ يتّحد مع واحد ممّا يصدق عليه الخبر فلا يتحقّق بدون ذلك الواحد، لكن يمكن تحقّق واحد منه في الجملة بدون ذلك الجنس فيلزم أن يكون الكرم مقصورا على الاتّصاف بكونه‏ في العرب، و لا يلزم أن يكون ما في العرب مقصورا على الاتصاف بالكرم، و على هذا القياس.

قال المحقق الشريف في وجه إفادته القصر لأنّ المعنى أنّ كلّ توكّل على اللَّه و كلّ تفويض إلى أمر اللَّه و كلّ كرم في العرب فيلزم أن يكون الكرم مقصورا على الاتصاف بكونه في العرب، لأنّ كلّ فرد منه موصوف بكونه فيهم فلا يوجد فرد منه في غيرهم، و لا يلزم من ذلك أن يكون كلّ ما هو كائن في العرب موصوفا بكونه كرما، لئلا يلزم قصر الخبر على المبتدأ انتهى.

فقد ظهر بذلك أنّه لاغبار على إفادته القصر و إن اختلف أنظارهم في وجه إفادته له، و ليكن هذا على ذكر منك تثنبّه به على فساد أكثر ما ذهب إليه المعتزلة في باب الامامة حسب ما حكاه الشّارح المعتزلي عنهم على ما تطلع عليه في التنبيه الآتي إنشاء اللَّه.

و قوله: (غرسوا في هذا البطن) المعيّن (من هاشم) أراد به نفسه الشّريف مع الأحد عشر من ولده على ما هو مذهب أصحابنا الاماميّة المحقّة رضوان اللَّه عليهم و قوله: (لا تصلح) أي الامامة المستفادة من سوق الكلام (على سواهم و لا تصلح الولاة من غيرهم) و هو تأكيد لما قد دلّ عليه القصر السّابق و اختصاص الامامة بالعترة الطاهرة أعنى الأئمة الاثنى عشر عليهم السّلام كما هو مدلول الفقرة الأخيرة.

و وجهه أنّ للولاية و الامامة خصائص بها يتأهل لها، و تلك الخصائص موجودة فيهم غير موجودة في غيرهم، فلا تصلح إلّا لهم عليهم السّلام كما تقدّم تحقيق ذلك و توضيحه في شرح الفصل الخامس من الخطبة الثّانية في معنى قوله: و لهم خصائص حقّ الولاية، و فيهم الوصيّة و الوراثة.

تنبيه

قال الشّارح المعتزلي في شرح قوله: إنّ الائمة من قريش إلى آخر الفصل‏ما لفظه: قد اختلف النّاس في اشتراط النّسب في الامامة.

فقال قوم من قدماء أصحابنا: النّسب ليس فيها شرطا أصلا و أنّها تصلح في القرشيّ و غير القرشي إذا كان فاضلا مستجمعا للشّرائط المعتبرة و اجتمعت الكلمة و هو قول الخوارج.

و قال أكثر أصحابنا و أكثر النّاس: إنّ النّسب شرط فيها و إنّها لا تصلح إلّا في العرب خاصّة و من العرب فقريش خاصّة.

و قال أكثر أصحابنا: معنى قول النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: الأئمة من قريش أنّ القرشيّة شرط إذا وجد في قريش من يصلح للامامة فان لم يكن فيها من يصلح فليست القرشيّة شرطا فيها.

و قال بعض أصحابنا. معنى الخبر أنّه لا يخلو قريش أبدا ممّن يصلح للامامة فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها في كلّ عصر و زمان.

و قال معظم الزّيدية: إنّها في الفاطميّين خاصة من الطالبيين لا تصلح في غير البطنين و لا تصح إلّا بشرط أن يقوم بها و يدعو إليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس و بعض الزيدية يجيز الامامة في غير الفاطميّين من ولد عليّ و هو من أقوالهم الشاذّة.

و أما الراوندية فانهم خصّصوها بالعباس و ولده من بطون قريش كلّها و هو القول الذي ظهر في أيام المنصور و المهدي.

و أما الامامية فانهم جعلوها سارية في ولد الحسين عليه السّلام في الأشخاص المخصوصين و لا تصحّ عندهم لغيرهم.

و جعلها الكيسانية في محمّد بن الحنفية و ولده.

و منهم من نقلها منه إلى ولد غيره.

ثمّ قال الشارح: فان قلت: إنك شرحت هذا الكتاب على قواعد المعتزلة و اصولهم فما قولك في هذا الكلام و هو تصريح بأنّ الامامة لا يصلح من قريش إلّا في بني هاشم خاصة و ليس ذلك بمذهب المعتزلة لا متقدّميهم و لا متأخّريهم.

قلت: هذا الموضع مشكل ولى فيه نظر و إن صحّ أنّ عليا قاله كما قال لأنّه ثبت عندى أنّ النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال: إنّه مع الحقّ و إنّ الحقّ يدور معه حيثما دار، و يمكن أن يتأوّل على مذهب المعتزلة فيحمل أنّ المراد به كمال الامامة كما حمل قوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد على نفي الكمال لا على نفى الصحّة، انتهى كلامه هبط مقامه.

أقول محصّل: ما حكاه الشّارح من الأقوال و أورده في هذا المقام عن أصحابه المعتزلة و غيرهم عشرة.

أمّا القول الأوّل فيبطله قوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: الأئمة من قريش لافادته القصر و اشتراطه النّسب حسب ما عرفت سابقا.

و أمّا القول الثاني فهو مسلّم لكن لا على اطلاقه بل بتقييد القرشي بالبطن المخصوص من هاشم أعنى عليا و ولده للأدلّة الآتية الدالة عليه مضافة إلى ما تقدّم من تصريح عليّ عليه السّلام به.

و أمّا القول الثّالث ففيه إنا قدّمنا أنّ معنى النّبوى أنّه لا بدّ أن يكون الامام من قريش، و عليه فلا معنى لقولهم فان لم يكن فيها من يصلح فليست القرشيّة شرطا فيها، ضرورة أنه إذا لم تكن شرطا فيها على تقدير عدم وجود من يصلح لجاز أن يكون من غيرها لكنه باطل بمقتضى القصر و لازمه أنه إذا فرض عدم وجود من يصلح من قريش لها أن لا يكون هناك امام أصلا على ما هو قضية الشرطية المستفادة من القصر لا وجوده من غير قريش على ما زعموا.

و أما القول الرّابع ففيه أنّ مفاد الخبر أنّ الامام لا بدّ أن يكون من قريش و أما أنّ قريشا لا بدّ أن يكون منهم في كلّ عصر و زمان من يصلح للامامة فلا دلالة للخبر عليه باحدى من الدلالات، نعم قد قامت الأدلّة العقلية و النقلية على ما تقدّمت في شرح الفصل الخامس عشر من الخطبة الاولى و في غيره أيضا على أنّ الزّمان لا يخلو من حجّة، فيضمّ قوله: إنّ الأئمة من قريش إلى تلك الأدلّة يثبت أنّ قريشا لا تخلو من أن يكون منهم في كلّ عصر إمام، نظير دلالة قوله سبحانه:

«وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ» بضميمة قوله: «وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» على أنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر إلّا أنه دلالة تبعيّة غير مقصودة.

و أما القول الخامس فهو مسلّم لكن لا في مطلق الطالبى و الفاطمي، بل في الأشخاص المخصوصة أعنى الأئمة الاثنى عشر، و ما ذكروه من الشروط أعنى القيام و الدّعوة و السياسة لم يدلّ عليها دليل من الكتاب و السنة، و عمدة شروطها العصمة و النص و الأفضلية، و لها شرايط اخر مذكورة في الكتب الكلامية لأصحابنا و أما القول السادس و السابع فشاذّان ضعيفان لا يعبأ بهما مع قيام الأدلّة القاطعة على خلافهما.

و أما القول الثامن فهو المذهب الحقّ الذى أحقّ أن يدان و يتّبع، و عليه دلّت النصوص المعتبرة المتواترة.

و أما القول التاسع و العاشر فكالسادس و السابع ضعيفان أيضا، هذا.

و بقى الكلام مع الشارح فيما ذكره جوابا عن الاعتراض الذى أورده على نفسه أعني قوله قلت: هذا الموضع مشكل ولى فيه نظر إلى قوله: حيثما دار.

فأقول: هذا الجواب يستشمّ منه ميل الشارح إلى مذهب الشيّعة الاماميّة كما هو زعم بعض العامّة بل أكثرهم حيث ينسبونه إلى التشيّع و يتبرّون منه إلّا أنّ أكثر كلماته صريحة في اختياره مذهب الاعتزال حسب ما عرفتها و ستعرفها إنشاء اللَّه في تضاعيف الشرح على ما جرى عليه ديدننا و التزمنا به من حكاية كلّما وقع فيه منه خطاء و زلّة من كلامه و تعقيبه بالتنبيه على هفواته و آثامه.

ثمّ أقول: إنّ هذا الموضع ليس محلّ اشكال و لا نظر لأنّ صحّة الرّواية لا غبار عليها فانّها و إن رواها السيّد (ره) على نحو الارسال إلّا أنّ مضمونها معتضد و موافق للاخبار النبوية و غير النّبوية المعتبرة العاميّة و الخاصيّة القطعيّة السّند حسب ما تعرف جملة منها عن قريب انشاء اللَّه تعالى، و بالجملة فليس الدليل منحصرا في المقام في هذه الرّواية حتّى يستشكل في صحّتها، بل لنا على هذه الدّعوى أدلّة قاطعة متظافرة بل متواترة حسب ما تطلع عليها.

و أما قول الشارح و يمكن أن يتأوّل و يطبق على مذهب المعتزلة ففيه: أولا إنّ الامامة منصب إلهي و ملك عظيم غير قابل للكمال و النّقصان و الشدّة و الضّعف، بل لها شروط و خصال بها يتأهّل لها، فحيث ما وجدت تلك الشّرائط وجدت، و حيث ما انتفت انتفت، فلا معنى لحمل قوله عليه السّلام: الأئمة من قريش، على الامامة الكاملة إذ ليس لنا إمامة ناقصة.

اللهمّ إلّا أن يجعل المراد بالامام معناه اللّغوى أعنى مطلق المقتدى فحينئذ يصحّ توصيفه بالكمال و النّقصان، فيراد بالكامل الأئمة الّذين يهدون بالحقّ و به يعدلون، و بالنّاقص الأئمة الذين يدعون إلى النّار و هم للحقّ جاهدون، و على ذلك فيكون معنى قوله: الأئمة من قريش آه، المقتدين الكاملين يعني أئمة الهدى من قريش غرسوا في البطن المخصوص من هاشم، فلا ينافي وجود المقتدين الناقصين أعني أئمة الضّلال من غير ذلك البطن.

لكن هذا المعنى مضافا إلى أنّه مجاز ممّا لا يلتزم به الشّارح، لأنّ غرضه من حمل الحديث على كمال الامامة، و من تمحّل ذلك التّأويل إنّما هو تصحيح مذهب المعتزلة و رفع تضادّ الحديث لذلك المذهب، فكيف يقرّ و يذعن بضلال أئمته و له أن يجيب عن ذلك و يقول إنّ المراد بالإمام الكامل الأفضل و الأجمع للخلال«» الحميدة، و بالنّاقص من دون ذلك كما يؤمى إليه اعترافه وفاقا لأصحابه المعتزلي بأنّ عليّا أفضل من سائر الخلفاء على ما تقدّم تفصيلا حكاية عنه في المقدّمة الثانية من مقدّمات الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقية.

إلّا أنّه يتوجّه عليه ما قدّمناه في المقدّمة المذكورة في المقصد الثّاني منها من أنّه بعد القول و الالتزام بأفضليّة أمير المؤمنين عليه السّلام لا يبقى لغيره إمامة و خلافة أصلا، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح و غير الأفضل على الأفضل عقلا و شرعا فيبقى ايراد الذي أوردناه أعنى عدم كون الامامة قابلة للنّقصان على حالها.

و ثانيا إنّ بعد الغضّ عمّا قلنا و المماشاة نقول: إنّ قوله: الأئمة من قريش، جمع محلّى باللّام و كذلك قوله، لا تصلح الولاة من غيرهم، و الجمع المحلّى مفيد للعموم و حقيقة في الاستغراق الحقيقي على ما قرّر في الاصول و حملها على الأئمة و الولاة الكاملين يوجب صرف الاستغراق إلى المجاز أعنى الاستغراق العرفي و الأصل في الاستعمال الحقيقة.

لا يقال: لا نسلّم كون اللّام في لفظ الأئمة و الولاة للاستغراق، و إنّما هى للجنس كما صرّح به العلامة التّفتازاني على ما حكيته عنه فيما تقدّم، و عليه فلا ينافي كون بعض أفراد الأئمة أعني غير الكاملين من غير قريش.

لأنّي أقول: مراده من الجنس هو الاستغراق، لأنّه صرّح في باب تعريف المسند إليه بكون الاستغراق قسما من الجنس تبعا لصاحب التلخيص، و يومى إلى ذلك أيضا ما قال المحقق الشريف: من أنّ معنى قولنا: التوكّل على اللَّه و الكرم في العرب، أنّ كلّ توكّل على اللَّه، و كلّ كرم في العرب، سلّمنا و لكن نقول إنّ كون بعض أفراد الأئمة من غير قريش ينافي القصر المستفاد من الحديث على ما حقّقه المحقّقان المذكوران و قدّمنا حكايته عنهما فيما تقدّم.

هذا كلّه مضافا إلى وقوع التّصريف «يح ظ» في الأخبار النبويّة الآتية بالاستغراق الحقيقي و عدم احتمالها للتأويل لكونها نصّا في العموم و هو مؤكّد لكون الاستغراق هنا أيضا حقيقيا.

و ثالثا انّ قياس الحديث على نحو لا صلاة لجار المسجد و التمثيل به فاسد ضرورة أنّ لاء النّافية للجنس موضوعة لنفى الماهيّة و حقيقة فيه كما في لا رجل في الدّار، و استعماله في نفى صفة من صفات الجنس كالصّحة و الكمال و نحوهما مجاز لا يصار إليه إلّا بدليل، و قد قام الدّليل على إرادة المعنى المجازي نحو لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد، و لا طلاق إلّا بشهود، و لا نكاح إلّا بوليّ، و لا عتق إلّا في ملك، و ما ضاهاها، لعلمنا بأنّ الماهيّة موجودة فيها جزما، و إنما المنفىّ‏ صحّتها أو كمالها، و أما فيما نحن فيه فأصالة الحقيقة محكمة لم يقم دليل على خلافها، فلا وجه للتأويل بكمال الامامة على ما زعمه.

إذا عرفت ذلك فلنتصدّ لذكر الأخبار الدّالة على أنّ الأئمة كلّهم من قريش و أنّ الامامة مخصوصة بعليّ أمير المؤمنين عليه السّلام و ولده الأحد عشر، و هى كثيرة جدّا عاميّة و خاصيّة و نحن نوره طائفة منها من طريق العامّة لكونها أقلع لعذر الخصم و أبلغ حجّة، نرويها من كتاب غاية المرام للسيّد المحدّث العلّامة السيّد هاشم البحراني و هو أحد و عشرون حديثا.

الاول أبو عبد اللَّه محمّد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عبد الملك قال: سمعت جابر بن سمرة قال: سمعت النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يقول: يكون بعدي اثنا عشر أميرا فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كلمة لم أسمعها فسألت أبي ما ذا قال قال: إنّه قال: كلّهم من قريش.

الثاني البخاري رفعه إلى ابن عيينة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: لا يزال أمر النّاس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا، ثمّ تكلّم بكلمة خفيت علىّ فسألت أبي ما ذا قال رسول اللَّه فقال: قال: كلّهم من قريش.

الثالث مسلم في صحيحه مسندا عن حصين عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فسمعته يقول: إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيه اثنا عشر خليفة، قال: ثمّ تكلّم بكلام خفي عليّ قال: فقلت لأبي ما قال قال: كلّهم من قريش.

الرابع مسلم في صحيحه قال: حدّثنا ابن أبي عمر و قال: حدّثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يقول: لا يزال أمر النّاس ماضيا ما وليّهم اثنى عشر رجلا ثمّ تكلّم النّبي بكلمة خفيت علىّ فسألت أبي ما ذا قال رسول اللَّه فقال: قال: كلّهم من قريش.

الخامس مسلم في صحيحه قال: حدّثنا هذاب بن خالد الأزدى قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة عن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يقول: لا يزال الاسلام عزيزا الى اثنى عشر خليفة ثمّ قال كلمةلم أفهمها فقلت لأبي ما قال فقال: قال: كلّهم من قريش.

السادس مسلم في صحيحه قال حدّثنا أحمد بن عثمان النّوفلي حدّثنا أزهر حدّثنا أحمد بن عون بن عثمان عن الشعبي عن جابر بن سمرة قال: انطلقت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و معي أبي فسمعته يقول: لا يزال هذا الدّين عزيزا منيعا إلى اثنى عشر خليفة فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كلمة أخفيها النّاس فقلت لأبي ما قال قال: كلّهم من قريش السابع الحميدى في الجمع بين الصحيحين قال: و في رواية مسلم عن حديث عامر بن أبي وقاص قال: كتب إلىّ جابر بن سمرة مع غلامى نافع أن أخبرني بشي‏ء سمعته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فكتب إلىّ: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يوم جمعة عشيّة رجم الأسلمي قال: لا يزال الدّين قائما حتّى تقوم و يكون عليهم اثنى عشر خليفة كلّهم من قريش، الحديث.

قال السيّد البحراني: بعد ايراد هذه الأخبار السّبعة و عشر روايات كلّها من طريق المخالفين عن جابر بن سمرة ما لفظه: أقول: قد ذكر يحيى بن الحسن البطريق في كتاب المستدرك أنّه ذكر في كتاب العمدة من طريق العامّة عشرين طريقا في أنّ الخلفاء بعده إثنا عشر خليفة كلّها من الصّحاح من صحيح البخاري ثلاثة طرق، و من مسلم تسعة، و من صحيح أبي داود ثلاثة، و في الجمع بين الصحاح الستة طريقين، و منها من الجمع بين الصحيحين للحميدى ثلاثة كلّها ينطق بأنه لا يزال الاسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة و ماوليهم اثنى عشر خليفة كلّهم من قريش الثامن أبو علي الطبرسى الفضل بن الحسن في كتاب اعلام الورى من طريق المخالفين و هو عدّة روايات منها ما رواه عن أبي سلمة القاضي قال: أخبرنا أبو القاسم القسوى «أبو العباس النسوى خ» حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدّثنا حاتم بن إسماعيل عن المهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشي‏ء سمعته عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فكتب إليّ أني سمعت رسول اللَّه يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول: لا يزال الدّين قائما حتى تقوم الساعة و يكون عليكم اثنى عشر خليفة كلّهم من قريش و سمعته يقول. أناالفرط على الحوض.

التاسع ما رواه من طريق المخالفين الشيخ أبو عبد اللَّه محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد عن محمّد بن عثمان الذهبي حدّثنا عبد اللَّه بن جعفر الرّقي قال: حدّثنا عيسى ابن يونس عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: كنّا عند عبد اللَّه بن مسعود فقال له رجل: أحدّثكم بنبيّكم كم يكون بعده من الخلفاء فقال له: نعم من الخلفاء عدّة نقباء موسى اثنى عشر خليفة كلّهم من قريش.

العاشر ما رواه حمّاد بن زيد عن مجالد عن الشّعبي عن مسروق عن عبد اللَّه ابن مسعود و زاد فيه قال: كنّا جلوسا إلى عبد اللَّه يقرينا القرآن، فقال له رجل: يا عبد الرّحمن هل سألتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كم يملك أمر هذه الأمّة خليفة بعده فقال له عبد اللَّه: ما سألني بها أحد منذ قدمت العراق، نعم سألنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فقال: اثنى عشر عدّة نقباء بني اسرائيل.

الحادى عشر ما رواه عبد اللَّه بن أبي اميّة مولى مجامع عن يزيد الرّفاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: لم يزل هذا الدّين قائما إلى اثنى عشر من قريش فاذا مضوا هاجت الأرض بأهلها.

الثاني عشر ما رواه سليمان بن أحمر قال: حدّثنا أبو عون عن الشّعبي عن جابر بن سمرة أنّ النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: لا يزال أهل هذا الدّين ينصرون على من ناداهم الى اثنى عشر خليفة فجعل الناس يقومون و يقعدون، و تكلّم بكلمة لم أفهمها فقلت لأبي أو لأخي: أيّ شي‏ء قال قال: كلّهم من قريش.

الثالث عشر ما رواه قطر بن خليفة عن أبي خالد الوالبي عن جابر بن سمرة عن النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم مثله.

الرابع عشر ما رواه سهل بن حماد عن يونس بن أبي يعفور قال: حدّثني عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: كنت عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و عمّي جالس بين يدي فقال‏ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله لا يزال أمر امّتي صالحا حتّى يمضى اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش اسم أبي جحيفة وهب بن عبد اللَّه.

الخامس عشر ما رواه الليث بن سعد عن خالد بن زيد عن سعد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف قال: كنّا عند شقيق الأصبحي فقال: سمعت عبد اللَّه بن عمر يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يقول: يكون خلفي اثنى عشر خليفة.

السادس عشر ما رواه الشيخ أبو عبد اللَّه جعفر بن محمّد بن أحمد الدورستي في كتابه في الرّد على الزّيدية قال: أخبر أبي قال: أخبرنا الشيخ أبو جعفر بن بابويه قال: حدّثنا محمّد بن عليّ ماجيلويه عن عمّه عن أحمد بن أبي عبد اللَّه عن أبيه عن خلف بن حماد الأسدي عن الأعمش عن عباية بن ربعي عن ابن عباس قال: سألت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله حين حضرته وفاته فقلت إذا كان ما نعوذ باللَّه منه فإلى من فأشار إلى عليّ عليه السّلام فقال: هذا، فانّه مع الحقّ و الحقّ معه ثمّ يكون بعده أحد عشر إماما مفترضة طاعتهم كطاعته.

السابع عشر الدورستي أيضا قال: أخبرنا أبو عبد اللَّه محمّد بن وهبان قال: حدّثنا أبو بشر أحمد بن إبراهيم بن أحمد قال: أخبرنا محمّد بن زكريّا بن دينار العلائي حدّثنا سليمان بن إسحاق عن سليمان بن عبد اللَّه بن العبّاس قال: حدّثني أبي قال: كنت يوما عند الرّشيد فذكر المهدي و ما ذكر من عدله فأطنب من ذلك فقال للرّشيد: إنّي أحسبكم أنكم تحسبونه أبا المهدي حدثني أبي عن أبيه عن جدّه عن ابن عبّاس عن أبيه العباس بن عبد المطلب أنّ النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: يا عم تملك من ولدي اثنى عشر خليفة ثمّ يكون امور كريهة و شدّة عظيمة ثمّ يخرج المهدي من ولدي يصلح اللَّه أمره في ليلة فيملاء الأرض عدلا كما ملئت جورا يمكث في الأرض ما شاء اللَّه ثمّ يخرج الدّجال.

قال أبو عليّ الطبرسي عقيب هذه الأخبار و ما بمعناها ممّا لم نوردها: هذا بعض ما جاء من الأخبار من طريق المخالفين و رواياتهم في النّص على عدد الأئمة الاثني عشر عليهم السّلام و إذا كانت الفرقة المخالفة قد نقلت ذلك كما نقلته الشّيعة الاماميّة و لم ينكر ما تضمّنه الخبر فهو أدّل دليل على أنّ اللَّه تعالى هو الذي سخّر لروايته اقامة لحجّته و إعلاء لكلمته و ما هذا الأمر إلّا كالخارق للعادة و الخارج عن الامور المعتادة، و لا يقدر عليها إلّا اللَّه تعالى الذي يذلّل الصّعب و يقلّب القلب و يسهّل له العسير و هو على كلّ شي‏ء قدير انتهى.

الثامن عشر صدر الأئمة أخطب خوارزم أبو المؤيد موفق بن أحمد في كتاب فضائل أمير المؤمنين قال: حدّثنا فخر القضاة نجم الدّين أبو منصور محمّد بن الحسين بن محمّد البغدادي فيما كتب إليّ من همدان، قال: أنبأنا الامام الشّريف نور الهدى أبو طالب الحسن بن محمّد الزّيني قال: أخبرنا إمام الأئمة أحمد بن محمّد بن شاذان قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عبد اللَّه الحافظ قال: حدّثنا عليّ بن سنان الموصلي عن أحمد بن محمّد بن صالح عن سلمان بن محمّد عن زيد بن مسلم عن زياد بن محمّد عن عبد الرّحمن بن يزيد عن جابر عن سلامة عن أبي سليمان الرّاعي راعى رسول اللَّه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يقول: ليلة اسرى بي إلى السّماء قال لي الجليل جلّ جلاله. آمن الرّسول بما انزل اليه من ربّه فقلت: و المؤمنون، فقال: صدقت يا محمّد من خلّفت في امّتك فقلت: خيرها، قال: عليّ بن أبي طالب قلت: نعم يا ربّ قال: يا أحمدانيّ اطلعت على الأرض اطلاعة فاخترتك منها فاشتققت لك اسما من اسمائي فلا اذكر في موضع إلّا ذكرت معى فأنا المحمود و أنت محمّد، ثمّ اطلعت الثانية فاخترت منها عليّا فشققت له اسما من أسمائي فأنا الأعلى و هو عليّ، يا محمّد إنّي خلقتك و خلقت عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من ولده من نور من نورى، و عرضت ولايتكم على أهل السّماوات و الأرضين، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، و من جحدها كان عندي من الكافرين، يا محمّد لو أنّ عبدا من عبادي عبدني حتّى ينقطع أو يصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحدا لولايتكم ما غفرت له حتّى يلقاني بولايتكم، يا محمّد تحبّ أن تراهم قلت: نعم يا ربّ، قال: فالتفت عن يمين العرش، فالتفتّ فاذا بعليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ و جعفر بن محمّد و موسى بن جعفر و عليّ بن موسى و محمّد بن عليّ و عليّ ابن محمّد و الحسن بن عليّ و المهدي في ضحضاح من نور قيام يصلّون، و هو في وسطهم يعني المهدي كأنّه كوكب درّيّ، و قال: يا محمّد هولاء الحجج و هذا السّائر من عترتك و عزّتي و جلالي انّه الحجّة الواجبة و المنتقم.

قال السيّد المحدّث البحراني: روى هذا الحديث جماعة من الخاصّة و العامّة: رواه الشّيخ الطوسي في الغيبة و أبو الحسن محمّد بن أحمد بن الحسن بن شاذان في المناقب المأة من طريق العامّة، و رواه صاحب المقتضب و صاحب الكنز الخفي و الحمويني من العامّة التاسع عشر إبراهيم بن محمّد الحمويني من أعيان علماء العامّة في كتاب فرائد السمطين في فضائل المرتضى و فاطمة و الحسن و الحسين بسنده عن سعيد بن جبير عن عبد اللَّه بن العبّاس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: إنّ خلفائي و أوصيائي و حجج اللَّه على الخلق بعدي الاثنى عشر أوّلهم أخي و آخرهم ولدي، قيل: يا رسول اللَّه و من أخوك قال: عليّ بن أبي طالب، قيل: فمن ولدك قال: المهدي الذي يملاءها قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما، و الّذي بعثني بالحقّ بشيرا لو لم يبق من الدّنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتّى يخرج فيه ولدى المهدي فينزل فيه روح اللَّه عيسى بن مريم فيصلّى خلفه و تشرق الأرض بنور ربّها و يبلغ سلطانه المشرق و المغرب.

العشرون الحمويني هذا بالاسناد إلى ابن بابويه قال: حدّثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدّثنا أحمد بن يحيى بن زكريّا القطان قال حدّثنا بكر بن عبد اللَّه بن حبيب قال: حدّثنا الفضل بن الصّقر العبدي قال: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عباية بن ربعي عن عبد اللَّه بن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أنا سيّد النّبيين و عليّ بن أبي طالب سيّد الوصيّين و إنّ أوصيائي بعدي اثنى عشر أوّلهم عليّ بن أبي طالب و آخرهم القائم.

الحادى و العشرون محمّد بن أحمد بن شاذان أبو الحسن الفقيه في المناقب المأة و الفضائل لأمير المؤمنين و الأئمة من طريق العامة عن سلمان المحدّي قال:

دخلت على النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إذا الحسين بن عليّ على فخذه و هو يقبّل عينيه و يلثم فاه و هو يقول: أنت سيّد و ابن سيّد و أبو السّادات أنت إمام ابن إمام أبو الأئمة، أنت حجّة ابن حجّة أبو الحجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة لا تستقصى و فيما ذكرناه كفاية في هذا الباب و من أراد الزيادة فعليه بكتاب غاية المرام، و قد عقد السيّد المحدّث البحراني فيه با بين على هذا المعنى قال: الباب الرابع و العشرون في أنّ الأئمة بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم اثنى عشر بنصّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله إجمالا و تفصيلا: علىّ و بنوه الأحد عشر من طريق العامة و فيه ثمانية و خمسون حديثا، ثمّ أورد الرّوايات العاميّة فقال: الباب الخامس و العشرون في أنّ الأئمة بعد رسول اللَّه اثنى عشر إجمالا و تفصيلاهم: عليّ بن أبي طالب و بنوه الأحد عشر من طريق الخاصّة و فيه خمسون حديثا ثمّ روى الأحاديث الخاصيّة و اللَّه الهادي إلى سواء السّبيل.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام مبين و وليّ ربّ العالمين است كه متضمّن فائده بعثت پيغمبران عاليمقدار و اظهار مناقب عترت رسول مختار و أهل بيت اطهار است چنانچه فرموده: مبعوث فرمود حق سبحانه و تعالى پيغمبران خود را بآن چه كه مخصوص ساخت ايشان را از وحى خود، و گردانيد ايشان را حجّة واضحه از براى خود بر مخلوقات خود تا اين كه واجب نشود حجّت مر ايشان را بسبب ترك تخويف و ترساندن ايشان، پس خواند ايشان را بزبان راست كه دعوت أنبياء است بسوى راه درست كه طريق شريعت غرّا است، آگاه باشيد بدرستى كه خداوند آشكارا ساخت خلق را آشكار ساختنى نه از جهة اين كه جاهل بود به آن چه مخفى داشته‏اند از أسرار محفوظه و مكنونات قلوب ايشان، و ليكن از جهة اين كه امتحان نمايد ايشان را تا كدام يك از ايشان بهترند از حيث عمل تا باشد ثواب جزاى حساب و عقاب‏ پاداش سيئات.

كجايند كسانى كه دعوى باطل كردند كه ايشان راسخان در علمند نه ما از روى دروغ و ظلم بر ما بجهة اين كه خداوند رتبه ما را بلند فرموده و پست كرد ايشان را، و عطا نمود بما منصب امامت و خلافت را و محروم كرد ايشان را، و داخل نمود ما را در عنايت خاصّه خود و خارج كرد ايشان را، بوجود ما خواسته مى‏شود هدايت، و طلب روشنى مى‏شود از كورى و ضلالت، بدرستى كه امامان از طائفه قريش‏اند كاشته شدند در اين بطن معيّن از هاشم بن عبد مناف يعني در ذرّيه علويّه صلاحيت ندارد امامت بر غير ايشان و صلاحيت ندارند واليان از غير ايشان.

الفصل الثاني

منها: آثروا عاجلا، و أخّروا آجلا و تركوا صافيا و شربوا آجنا، كأنّي أنظر إلى فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه، و بسأبه و وافقه، حتّى شابت عليه مفارقه و صبغت به خلائقه، ثمّ أقبل مزبدا كالتّيّار لا يبالي ما غرق، أو كوقع النّار في الهشيم لا يحفل ما حرق، أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، و الأبصار اللّامحة إلى منار التّقوى، أين القلوب الّتي وهبت للَّه، و عوقدت على طاعة اللَّه ازدحموا على الحطام، و تشاحّوا على الحرام، و رفع لهم علم الجنّة و النّار، فصرفوا عن الجنّة وجوههم، و أقبلوا على النّار بأعمالهم، و دعاهم ربّهم فنفروا و ولّوا، و دعاهم الشّيطان فأطاعوا و أقبلوا

اللغة

(الآجن) الماء المتغيّر الطّعم و اللّون و (بسأ) به كجعل و فرح بسئا و بسئا و بسوءا أنس و (المفارق) جمع المفرق و زان مجلس و مقعد وسط الرأس، و هو الذي يفرق فيه الشعر و (الخلائق) جمع الخليقة أى الطبيعة و (أزبد) البحر أى صار ذا زبد و رجل مزبد أى ذو زبد و هو ما يخرج من الفم كالرغوة و (التّيّار) مشدّدة موج البحر و (الهشيم) النّبت اليابس المتكسر أو يابس كلّ كلاء و (حفل) الماء يحفل من باب ضرب حفلا و حفولا اجتمع، و قال الشّارح المعتزلي لا يحفل أي لا يبالي و (المستصبحة) في بعض النّسخ بتقديم الحاء على الباء من الاستصحاب و في بعضها بالعكس كما ضبطناه من الاستصباح و هو الأوفق.

الاعراب

ما في قوله: ما غرق، موصول في محلّ النّصب أى لا يبالي ممّا غرق، و كذلك في قوله ما حرق إن كان يحفل بمعنى يبالي كما فسّره الشارح و إن كان بمعنى يجتمع كما في القاموس فما في محلّ الرّفع فاعل له و هو ظاهر.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل وارد في معرض التّوبيخ و التّقريع لطائفة غير مرضيّة الطريقة.

فقال بعض الشّارحين: إنّه عني بذلك الصّحابة الذين مضى ذكرهم في الفصل السّابق يعنى الّذين زعموا أنّهم الرّاسخون في العلم.

و قال بعضهم: إنّ المراد به بنو اميّة.

و قال الشّارح البحراني: أراد بذلك من تخلّف من النّاس إلى زمانه ممّن هو غير مرضيّ الطريقة و إن كان معدودا من الصّحابة بالظاهر كالمغيرة بن شعبة و عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و معاوية و نحوهم من امراء بني اميّة، و يقرب منه‏ كلام الشّارح المعتزلي و ستطلع عليه.

و كيف كان فقوله (آثروا عاجلا و أخّروا آجلا) أراد به أنّهم اختاروا الدّنيا على الآخرة و قدّموها عليها و أخّروها عنها و ذلك لكون شهواتها حاضرة معجّلة و لذاتها غائبة مؤجّلة (و تركوا صافيا و شربوا آجنا) أى تركوا اللّذات الاخرويّة الصّافية من الكدورات و العلائق البدنيّة، و استلذّوا باللذات الدّنيوية المشوبة بالآلام و الاسقام فاستعار لفظ الآجن للذّاتها و الجامع عدم السّوغ أو عدم الصّفاء فيها كما أنّ الماء المتغيّر الطّعم و اللّون لا يسوغ و لا يصفى و ذكر الشّرب ترشيح.

(كأنّي أنظر إلى فاسقهم) قال الشارح البحراني: يحتمل أن يريد فاسقا معيّنا كعبد الملك بن مروان، و يكون الضّمير عائد إلى بني اميّة و من تابعهم، و يحتمل أن يكون مطلق الفاسق أى من يفسق من هؤلاء فيما بعده و يكون بالصّفات الّتي أشار إليها بقوله (و قد صحب المنكر فألفه) أي أخذه الفا له (و بسأبه و وافقه) أى استأنس به و وجده موافقا لطبعه (حتّى شابت عليه مفارقه) و هو كناية عن طول عهده بالمنكر إلى أن بلغ عمره غايته، لأنّ شيب المفارق عبارة عن بياضها و هو إنّما يكون إذا بلغ الشّيوخيّة و لتأخر شيب المفرق عن شيب الصّدغ و تأكّد دلالته على طول العهد خصّصه بالذّكر (و صبغت به خلائقه) أى صارت طبائعه مصبوغة ملوّنة بالمنكر أى صار المنكر خلقا له و سجيّة، فاستعار لفظ الصبغ لرسوخ المنكر في جبلته لشدّة ملازمته له.

(ثمّ أقبل مزبدا كالتّيّار) شبّهه بالبحر الموّاج و رشح التشبيه بذكر لفظ الازباد و وجه الشبه أنّه عند الغضب لا يبالى بما يفعله فى النّاس من المنكرات كما (لا يبالي) البحر ب (ما غرق) و شبّهه اخرى بالنّار المضرمة الملتهبة فقال (أو كوقع النّار في الهشيم) يعني أنّ حركاته في الظّلامات مثل وقع النّار في النّبت اليابس و الدّقاق من الحطب و وجه الشّبّه أنّه (لا يحفل) و لا يبالي بظلمه‏ كما لا يحفل وقع النّار و لا يبالي ب (ما حرق)«» أو انّ ما أفسده لا يرجى اصلاحه كما أنّ ما حرقه النّار لا يمكن اجتماعه.

ثمّ استفهم على سبيل الأسف و التحسّر فقال (أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى) استعار لفظ المصابيح لأولياء الدّين و أئمّة اليقين المقتبس عنهم نور الهداية و رشّح بذكر لفظ الاستصباح، و يجوز أن يكون استعارة لأحكام الشّرع المبين الموصلة لآخذها و السّالكة بعاملها إلى حظيرة القدس.

و مثله لفظ المنار في قوله (و الأبصار اللامحة إلى منار التقوى) إذ أئمّة الهدى أعلام التّقى بهم يهتدى في ظلمات الضّلال و غياهب الدّجى و كذلك بأحكام سيّد الأنام و الانقياد بها يهتدي إلى نهج الحقّ و سواء الطريق الذي يؤمن لسلوكها و يتقى من النّار و ينجي من غضب الجبّار جلّ و تعالى.

ثمّ استفهم اخرى بقوله (أين القلوب الّتي وهبت للَّه) أي وهبها أهلها للَّه سبحانه و المراد بهبتها له جعلها مستغرقة في مطالعة أنوار كبريائه و التوجّه إلى كعبة وجوب وجوده و هي القلوب الّتي صارت عرش الرّحمن و اشير اليها في الحديث القدسي لا يسعني أرضي و لا سمائي و لكن يسعني قلب عبدى المؤمن.

(و عوقدت على طاعة اللَّه) أي أخذ اللَّه عليهم العهد بطاعته إمّا في عالم الميثاق أو بألسنة الأنبياء و الرّسل و إليه اشير في قوله سبحانه: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» ثمّ رجع إلى ذمّ الفرقة المتقدّمة المصدّرة بهذا الفصل فقال (ازدحموا على الحطام) أي تزاحموا على متاع الدّنيا و استعار له لفظ الحطام الموضوع لليابس من النّبت المتكسّر لسرعة فنائه و فساده (و تشاحّوا على الحرام) أى تنازعوا عليه لأنّ غرض كلّ منهم جذبه اليه (و رفع لهم علم الجنّة و النّار) قال الشّارح البحراني: أشار بعلم الجنّة إلى قانون الشريعة القائد إلى الجنّة و بعلم النّار إلى‏ الوساوس المزينة لقنيات الدّنيا، و العلم الأوّل بيد الدّعاة إلى اللَّه و هم الرّسول و من بعده من أولياء اللَّه من أهل بيته و التّابعين لهم باحسان، و العلم الثّاني بيد ابليس و جنوده من شياطين الجنّ و الانس الدّاعين إلى النار.

(فصرفوا عن الجنّة وجوههم) و أعرضوا عنها (و أقبلوا إلى النار بأعمالهم) القبيحة الموصلة إليها (و دعاهم ربّهم فنفروا) و استكبروا (و ولّوا و دعاهم الشيطان فأطاعوا و أقبلوا) و استجابوا.

تنبيه

قال الشارح المعتزلي في شرح هذا الفصل: فان قلت: هذا الكلام يرجع إلي الصّحابة الذين مضى ذكرهم في أوّل الخطبة.

قلت: لا و إن زعم قوم أنّه عناهم، بل هو إشارة إلى قوم ممّن يأتي من الخلف بعد السّلف، ألا تراه قال: كأنّي أنظر إلى فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه، و هذا اللّفظ إنّما يقال في حقّ من لم يوجد بعد كما قال في حقّ الأتراك: كأنّي أنظر اليهم قوما كأنّ وجوههم المجان، و كما قال في حقّ صاحب الزّنج كأنى به يا أحنف و قد سار بالجيش، و كما قال في الخطبة التّى ذكرناها آنفا كأنى به قد نعق بالشّام، يعني به عبد الملك.

و حوشى عليه السّلام أن يعنى بهذا الكلام الصّحابة لأنّهم ما آثروا العاجل، و لا أخّروا الآجل، و لاصحبوا المنكر، و لا أقبلوا كالتيّار لا يبالي ما غرق، و لا كالنار لا يبالي ما احترقت، و لا ازدحموا على الحطام، و لا تشاحّوا على الحرام، و لا صرفوا وجوههم عن الجنّة، و لا أقبلوا إلى النّار بأعمالهم، و لا دعاهم الرّحمن فولّوا، و لا دعاهم الشيطان فاستجابوا، و قد علم كلّ أحد حسن سيرتهم و سداد طريقتهم و إعراضهم عن الدّنيا و قد ملكوها، و زهدهم فيها و قد تمكّنوا منها، و لو لا قوله: كأنّي أنظر الى فاسقهم، لم أبعد أن يغني بذلك قوما ممّن عليهم اسم الصّحابة و هو ردّى الطريقة كالمغيرة بن شعبة، و عمرو بن العاص، و مروان بن الحكم، و معاوية،و جماعة معدودة أحبّوا الدّنيا و استغواهم الشّيطان، و هم معدودون في كتب أصحابنا من اشتغل بعلوم السيرة و التواريخ عرفهم بأعيانهم انتهى كلامه.

أقول: و لا يبعد عندي أن يعنى عليه السّلام به المتقدّمين ذكرهم في أوّل الخطبة و استبعاد الشارح له بظهور لفظ كأنّى أنظر في حقّ من لم يوجد بعد لا وجه له، لا مكان أن يقال: إنّ نظره في الاتيان بهذا اللّفظ إلى الغاية أعني قوله: حتى شابت عليه مفارقه، و بعبارة اخرى سلّمنا ظهور هذا اللفظ في حقّ ما لم يوجد إلّا أنّ مراده عليه السّلام به ليس نفس الفاسق حتّى يقال إنه كان موجودا في زمانه عليه السّلام، و إنّما مراده بذلك الاخبار عن استمرار الفاسق في فسقه و تماديه في المنكرات الى آخر عمره، و هذا الوصف للفاسق لم يكن موجودا، فحسن التعبير بهذه اللفظة فافهم جيدا و أما استيحاشه من أن يعنى به الصحابة بأنهم ما آثروا العاجل إلى آخر ما ذكره فهو أوضح فسادا لأنّه لو لا اختيارهم الدّنيا على الاخرى لم يعدلوا عن امام الورى، فعدو لهم عنه دليل على أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، و آثروا العاجل، و أخّروا الآجل و قد تركوا الشرب من الماء المعين، و منهل علوم ربّ العالمين، و استبدّوا بعقولهم الكاسدة، و ارتووا من آرائهم اللّاجنة الفاسدة، و مصاحبتهم جميعا للمنكر بالبدعات التي أحدثوها واضحة، و اقبال فاسقهم كالتيار و النار لا يبالي مما غرق و حرق لا غبار عليه و ما فعل عثمان من ضرب ابن مسعود و كسر بعض أضلاعه، و ضرب عمار و إحداث الفتق فيه، و ضربه لأبي ذرّ و إخراجه إلى الرّبذة و نحوها مما تقدّم ذكرها في شرح الكلام الثالث و الأربعين و غيره شاهد صدق على ما قلناه.

و كذلك اجتماعه مع «بنى ظ» أبيه إلى الحطام و مشاحتهم على الحرام و حضمهم لمال اللَّه خضم الابل نبته الرّبيع على ما تقدّم في شرح الخطبة الثالثة أوضح دليل على ما ذكرنا فبعدولهم جميعا عن اللَّه و عن وليّه صرفوا وجوههم عن الجنّة، و أقبلوا بأعمالهم إلى النار، فاستحقّوا الخزى العظيم و العذاب الأليم في أسفل درك من الجحيم.

الترجمة

بعض ديگر از اين خطبه در ذمّ و توبيخ طائفه غير مرضيّه از غاصبين خلافت و بني اميه و أمثال ايشان مى‏فرمايد كه: اختيار كردند ايشان متاع دنياى ناپايدار را، و تأخير انداختند امورات دار القرار را، و ترك كردند زلال صافي را، و آشاميدند از آب متغير گنديده، گويا من نظر ميكنم بسوى فاسق ايشان در حالتى كه مصاحب شده است با قبايح و منكرات و الفت گرفته به آنها و استيناس يافته به آنها و موافق طبع خود يافته آنها را تا آنكه عمر او بپايان رسيد، و سفيد شده ميانهاى سر او و رنگ گرفته به آنها طبيعتهاى او.

پس از آن رو آورد در حالتى كه كف بر آورده مثل درياى موج دار اصلا باك ندارد از آنچه غرق گرداند، يا مثل افتادن آتش در گياه خشك كه هيچ باك نمى‏كند از آنچه كه سوزاند، كجايند عقلهاى چراغ بر افروزنده بچراغهاى هدايت، و چشمهاى نظر كننده به نشانهاى تقوى، كجايند قلبهايى كه بخشيده شده‏اند بخدا، و بسته شدند بر طاعت خدا، ازدحام كردند آن طايفه بد كردار بر متاع دنياى بى‏اعتبار، و نزاع كردند با يكديگر در بالاى حرام، و بلند شد از براى ايشان علم بهشت و جهنم، پس گردانيدند از بهشت روهاى خود را، و اقبال كردند بسوى دوزخ باعملهاى خود، و دعوت كرد ايشان را پروردگار ايشان بعبادت و اطاعت پس رميدند و اعراض نمودند، و دعوت كرد ايشان را شيطان لعين بسوى قبائح پس قبول كردند و اقبال نمودند.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 143 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 143 صبحی صالح

143- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  ) في الاستسقاء

و فيه تنبيه العباد وجوب استغاثة رحمة اللّه إذا حبس عنهم رحمة المطر

أَلَا وَ إِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تُقِلُّكُمْ وَ السَّمَاءَ الَّتِي تُظِلُّكُمْ مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ

وَ مَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَكُمْ

وَ لَا زُلْفَةً إِلَيْكُمْ

وَ لَا لِخَيْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ

وَ لَكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا

وَ أُقِيمَتَا عَلَى حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا

إِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ

وَ حَبْسِ الْبَرَكَاتِ

وَ إِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ

لِيَتُوبَ تَائِبٌ

وَ يُقْلِعَ مُقْلِعٌ

وَ يَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ

وَ يَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ

وَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الِاسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَ رَحْمَةِ الْخَلْقِ

فَقَالَ سُبْحَانَهُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً

فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ

وَ اسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ

وَ بَادَرَ مَنِيَّتَهُ

اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ مِنْ تَحْتِ الْأَسْتَارِ وَ الْأَكْنَانِ

وَ بَعْدَ عَجِيجِ الْبَهَائِمِ وَ الْوِلْدَانِ

رَاغِبِينَ فِي رَحْمَتِكَ وَ رَاجِينَ فَضْلَ نِعْمَتِكَ وَ خَائِفِينَ مِنْ عَذَابِكَ وَ نِقْمَتِكَ

اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَيْثَكَ

وَ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ‏الْقَانِطِينَ

وَ لَا تُهْلِكْنَا بِالسِّنِينَ

وَ لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّايَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ

اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ نَشْكُو إِلَيْكَ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ

حِينَ أَلْجَأَتْنَا الْمَضَايِقُ الْوَعْرَةُ

وَ أَجَاءَتْنَا الْمَقَاحِطُ الْمُجْدِبَةُ

وَ أَعْيَتْنَا الْمَطَالِبُ الْمُتَعَسِّرَةُ

وَ تَلَاحَمَتْ عَلَيْنَا الْفِتَنُ الْمُسْتَصْعِبَةُ

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَلَّا تَرُدَّنَا خَائِبِينَ

وَ لَا تَقْلِبَنَا وَاجِمِينَ

وَ لَا تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا

وَ لَا تُقَايِسَنَا بِأَعْمَالِنَا

اللَّهُمَّ انْشُرْ عَلَيْنَا غَيْثَكَ وَ بَرَكَتَكَ

وَ رِزْقَكَ وَ رَحْمَتَكَ

وَ اسْقِنَا سُقْيَا نَاقِعَةً مُرْوِيَةً مُعْشِبَةً

تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ

وَ تُحْيِي بِهَا مَا قَدْ مَاتَ

نَافِعَةَ الْحَيَا

كَثِيرَةَ الْمُجْتَنَى

تُرْوِي بِهَا الْقِيعَانَ

وَ تُسِيلُ الْبُطْنَانَ

وَ تَسْتَوْرِقُ الْأَشْجَارَ

وَ تُرْخِصُ الْأَسْعَارَ

إِنَّكَ عَلَى مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج9  

تتمة باب المختار من خطب أمير المؤمنين ع و أوامره

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

و من خطبة له عليه السّلام في الاستسقاء

و هي المأة و الثالثة و الاربعون من المختار في باب الخطب.

ألا و إنّ الأرض الّتي تحملكم، و السّماء الّتي تظلّكم، مطيعتان لربّكم، و ما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعا لكم، و لا زلفة إليكم، و لا لخير ترجوا له منكم، و لكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، و أقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا، إنّ اللَّه يبتلي عباده عند الأعمال السّيّئة بنقص الثّمرات، و حبس البركات، و إغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، و يقلع مقلع، و يتذكّر متذكّر، و يزدجر مزدجر، و قد جعل اللَّه سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرّزق، و رحمة الخلق، فقال:-  استغفروا ربّكم إنّه كان غفارا، يرسل السّماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموال و بنين-  فرحم اللَّه امرء استقبل توبته، و استقال‏ خطيئته، و بادر منيّته. الّلهمّ إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار و الأكنان، و بعد عجيج البهائم و الولدان، راغبين في رحمتك، و راجين فضل نعمتك، و خائفين من عذابك و نقمتك، الّلهمّ فاسقنا غيثك، و لا تجعلنا من القانطين، و لا تهلكنا بالسّنين، و لا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا يا أرحم الرّاحمين، اللّهم إنّا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك حين ألجأتنا المضائق الوعرة، و أجائتنا المقاحط المجدبة، و أعيتنا المطالب المتعسّرة، و تلاحمت علينا الفتن المستصعبة، الّلهمّ لا تردّنا خائبين، و لا تقلبنا و اجمين، و لا تخاطبنا بذنوبنا، و لا تقايسنا بأعمالنا، ألّلهم انشر علينا نميثك و بركتك و رزقك و رحمتك، و اسقنا سقيا نافعة مروية معشبة تنبت بها ما قد فات، و تحيي بها ما قد مات، نافعة الحيا، كثيرة المجتنى، تروي بها القيعان، و تسيل البطنان، و تستورق الأشجار، و ترخص الأسعار، إنّك على ما تشاء قدير.

اللغة

(الأرض) مؤنثة و الجمع أرضون بفتح الرّاء (و السّماء) المظلّة للأرض‏ قال ابن الأنباري: تذكّر و تؤنّث و قال الفراء: التذكير قليل و هو على معنى السّقف و السّماء أيضا المطر قال الفيومى: مؤنّثة لأنّها في معنى السّحابة و كلّ عال مظلّ سماء حتّى يقال اظهر الفرس سماء و (جاد) بالمال بذله و جادت السّماء أمطرت و الأرض أنبتت و (توجّع) لفلان رثاه و (أقلع) عن الأمر اقلاعا تركه و (الاكنان) جمع الكنّ و هو ما ستر من الحرّ و البرد من كننته أى سترته و أخفيته في كنّه بالكسر.

و (السّنين) جمع السّنة و هي الجدب و أرض سنواء و سنهاء أصابتها السّنة و (المضايق) جمع المضيق و هو ما ضاق من الأمور و (الوعر) بسكون العين و كسرها ضدّ السّهل قال الشارح المعتزلي: الوعرة بالتسكين و لا يجوز التحريك و (المقاحط) أماكن القحط أو أزمانه جمع المحقط يأتي للمكان و الزّمان و (الوجم) و الواجم العبوس المطرق لشدّة الحزن و (السّقيا) بالضمّ اسم من سقاه اللَّه الغيث أنزله له و (القيعان) جمع القاع و هو المستوى من الأرض.

و (تسيل) في بعض النسخ بفتح التاء مضارع سال كباع و في بعضها بالضمّ من باب الافعال و (البطنان) بالضمّ جمع البطن كعبد و عبدان و ظهر و ظهران و هو المنخفض من الأرض كما قاله الطريحى، أو الغامض منها كما في شرح المعتزلي و قال الفيروز آبادي جمع الباطن و هو مسيل الماء في غلظ و (الرخص) بالضمّ ضدّ الغلاء و رخص الشي‏ء من باب قرب فهو رخيص و يتعدّي بالهمزة فيقال: أرخص اللَّه السّمر و تعديته بالتضعيف غير معروف و (الأسعار) جمع سعر بالكسر و هو تقدير أثمان الأشياء و ارتفاعه غلاء و انحطاطه رخص و قيل تقدير ما يباع به الشي‏ء طعاما كان أو غيره، و يكون غلاء و رخصا باعتبار الزيادة على المقدار الغالب في ذلك المكان و الأوان و النقصان عنه.

الاعراب

جملة تجودان، منصوبة المحلّ على أنّه خبر أصبحت أو أصبح بمعنى صار قال نجم الأئمة ما محصّله: إنّ من خصائص كان ما ذهب إليه ابن درستويه،و هو أنّه لا يجوز أن يقع الماضي خبر كان فلا يقال كان زيد قام، و فعل ذلك لدلالة كان على المضىّ فيقع المضىّ في خبره لغوا فينبغي أن يقال كان زيد قائما أو يقوم، و كذا ينبغي أن يمنع يكون زيد يقوم لتلك العلّة إلى أن قال: و منع ابن مالك و هو الحقّ من مضىّ خبر صار و ليس و ما دام و كلّ ما كان ماضيا من ما زال و لا زال و مراد فاتها، لدلالة صار على الانتقال في الزمن الماضي إلى حالة مستمرّة و هي مضمون خبرها، و كذا ما زال و أخواتها موضوعة لاستمرار مضمون اخبارها في الماضي و ما يصلح الاستمرار هو الاسم الجامد نحو هذا أسد أو الصفّة نحو زيد قائم أو غنيّ أو مضروب أو الفعل المضارع نحو زيد يقدم في الحرب و يسخو بموجوده، فناسبت الثلاثة لصلاحيتها للاستمرار أن يقع خبرا لصار و أخواتها من أصبح و أمسى و ظلّ و بات و كذا ما زال و أخواتها بخلاف الماضي فانّه لا يستعمل في استمرار هذه الثلاثة فلم يقع خبرا لهذه الأفعال.

و توجّعا، مفعول لأجله و العامل فيه تجودان، و قوله ليتوب، تعليل ليبتلى و متعلّق به، و مدرارا، حال من السّماء و الفاء في قوله: فرحم اللَّه، فصيحة و الجملة دعائية لا محلّ لها من الاعراب.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة خطبها في الاستسقاء و طلب السّقياء كالخطبة المأة و الرابعة عشر، و قد قدّمنا في شرح تلك الخطبة كيفية الاستسقاء و ما يناسب شرحها من الأخبار.

و أقول هنا: انّه عليه السّلام لما كان بصدد الدعاء و طلب الرحمة من اللَّه سبحانه و تعالى و كانت استجابة الدّعاء موقوفة على وجود المقتضى و انتفاء الموانع، قدّم أمورا مهمّة أمام الدّعاء تنبيها للسامعين و من كان معه عليه السّلام من المستسقين على ماله مدخلية في استجابة دعائهم و انجاح مقصدهم كى لا يردّوا خائبين و لا ينقلبوا و اجمين.

فنبّه أوّلا على أنّ الأرض و السّماء مخلوقان مقهوران تحت قدرة اللَّه سبحانه و النّفع و الضّرر الحاصلان منهما بالجود و الامساك لا ينشآن منهما بنفسهما و بالاستقلال‏و إنّما ينشآن منهما بتعلّق مشيّة الفاعل المختار و تدبير الحكيم المدبّر سبحانه و على ذلك فاللّازم على العباد في الدّاهية و النّاد أن تقرعوا بأيدى السّؤال و الذلّ و الابتهال بابه، و يتوجّهوا في انجاح الآمال إلى جنابه عزّ و جلّ.

و هو قوله: (ألا و إنّ الأرض الّتي تحملكم و السّماء الّتي تظلّكم) أى تعلوكم و تشرف عليكم أو تلقى اليكم ظلّها و المراد بالسّماء إمّا معناها المجازى أعنى السّحاب، أو الحقيقي باعتبار أنّ زوال المطر من السّماء لا لكون السّماوات بحركاتها أسبابا معدّة لكلّ ما في هذا العالم من الحوادث كما زعمه الشّارح البحراني.

و يؤيّد الثّاني ظواهر الآيات التي تدلّ على نزول المطر من السّماء مثل قوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» و قوله: «وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» و نحوها مما يقرب عشرين آية.

و يؤيّد الأوّل ظاهر قوله سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى‏ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» و قوله: «وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ» الآية.

و يدلّ على الاحتمالين ما في البحار من علل الشّرائع للصّدوق عن أبيه عن الحميري عن هارون عن ابن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم السّلام قال: كان عليّ عليه السّلام يقوم في المطر أوّل مطر يمطر حتّى يبتلّ رأسه و لحيته و ثيابه فيقال له: يا أمير المؤمنين الكنّ الكنّ فيقول: إنّ هذا ماء قريب العهد بالعرش ثمّ أنشأ عليه السّلام يحدّث فقال إنّ تحت العرش بحرا فيه ماء ينبت به أرزاق الحيوانات و إذا أراد اللَّه أن ينبت به ما يشاء لهم رحمة منه أوحى اللَّه عزّ و جلّ فمطر منه ما شاء من سماء إلى سماء حتّى يصير إلى السّماء الدنيا، فتلقيه إلى السّحاب و السّحاب بمنزلة الغربال ثمّ يوحى اللَّه عزّ و جلّ إلى السّحاب أن اطحنيه و اذيبيه ذوبان الملح في الماء ثم انطلقي به إلى موضع كذا و كذا و عبابا أو غير عباب، فتقطر عليهم على النحو الذي يأمرها به فليس من قطرة تقطر إلّا و معها ملك حتّى تضعها بموضعها، الحديث.

و رواه في الكافي عن هارون عن مسعدة بن صدقة نحوه.

قال الرّازي في تفسير قوله: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» اختلف النّاس فيه: فقال الجبائي إنّه تعالى ينزل الماء من السّماء إلى السّحاب و من السّحاب إلى الأرض يقال لأنّ ظاهر النصّ يقتضي نزول المطر من السّماء و العدول عن الظاهر إلى التّأويل إنّما يحتاج إليه عند قيام الدّليل على أنّ إجراء اللّفظ على ظاهره غير ممكن، و في هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السّماء فوجب إجراء اللّفظ على ظاهره إلى أن قال: و القول الثّاني المراد انزل من جانب السّماء ماء.

و القول الثالث انزل من السّحاب ماء و سمّا اللَّه السّحاب سماء لأنّ العرب تسمّى كلّ ما فوقك سماء كسماء البيت، انتهى.

و رجّح في موضع آخر نزول المطر من السّحاب قال: لأنّ الانسان ربما كان واقفا على قلّة جبل عال و يرى الغيم أسفل فاذا نزل من ذلك الجبل يرى الغيم ماطرا عليهم، و إذا كان هذا الأمر مشاهدا بالبصر كان النزاع باطلا، هذا.

و قوله: (مطيعتان لربّكم) وصفهما بالاطاعة تنبيها على عظمة قدرته سبحانه و نفوذ امره فيهما كما قال تعالى: «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (و ما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما) أى ما صارت السّماء تجود لكم بالأمطار و لا الأرض تجود لكم بالانبات (توجّعا لكم) أي تألّما لما أصاب بكم (و لا زلفة) و تقرّبا (اليكم و لا لخير ترجوانه منكم) كما هو المعهود المتعارف في جود النّاس بعضهم لبعض حيث إنّهم يبذلون المال للترحّم أو التقرّب أو لجلب الخير أو لدفع الضرّ أو نحو ذلك، و أمّا السّماء و الأرض فلا يتصوّر في حقوقهما ذلك لأنّهما أجسام جامدة غير شاعرة لا يوجد ما يوجد منهما بالارادة و الاختيار.

(و لكنّ) هما مسخّرتان تحت قدرة اللَّه و مشيّته تعالى (أمرتا بمنافعكم فأطاعتا و اقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا) و المراد بالأمر و الاقامة الأمر و الاثبات التكويني كما أنّ المراد بالقيام و الاطاعة الثبات و الجرى على وفق ما أراد اللَّه‏ سبحانه منهما.

و في هاتين القرينتين تلميح إلى قوله سبحانه: «وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ» أى يريكم البرق خوفا من الصّاعقة و للمسافر و طمعا في الغيث و للمقيم، و ينزل من السّماء مطر فيحيى به الأرض بالنّبات بعد موتها و يبسها و جدوبها، و قيام السّماء و الأرض بأمره باقامته لهما و إرادته لقيامهما.

قال الطبرسي: بلاد عامة تدعمها و لا علاقة تتعلّق بهما بأمره لهما بالقيام كقوله تعالى: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» و قيل بأمره أي بفعله و امساكه إلّا أنّ افعال اللَّه عزّ اسمه تضاف إليه بلفظ الأمر لأنّه أبلغ في الاقتدار فانّ قول القائل أراد فكان أو أمر فكان أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول فعل فكان، و معنى القيام الثّبات و الدّوام انتهى.

و قد مضى تفصيل الكلام في منافع السّماء و الأرض و تحقيق ما يتعلّق بمصالحها في شرح الخطبة التّسعين فليراجع هناك هذا.

و لمّا نبّه على أنّ السّماء و الأرض مخلوقان مسخّران تحت قدرة الفاعل المختار و أنّ جودهما بالامطار و الانبات إنّما هو بتعلّق أمر اللَّه سبحانه و مشيّته و إرادته أردف ذلك بالتنبيه على أنّ المانع من نزول الخير و إفاضة الجود إنما هو أمر راجع إلى الخلق و حادث من جهة العبد و هو سوء فعله و ذنبه المانع من استعداده لقبول الرّحمة و فيضان الجود فقال (إنّ اللَّه يبتلي عباده عند الأعمال السّيئة) لأنّ البلاء للظالم أدب (بنقص الثمرات و حبس البركات و إغلاق خزائن الخيرات) كما قال سبحانه «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ».

و إنّما يبتليهم بذلك لطفا منه تعالى (ليتوب تائب) عن سوء عمله (و يقلع مقلع) أي يكفّ عن ضلاله و زلله (و يتذكّر متذكّر) بما أعدّ اللَّه سبحانه‏ من النّعيم في دار القرار للمتقين الأبرار (و يزدجر مزدجر) بما أعدّ اللَّه تعالى من العذاب الأليم في دار البوار للفجّار و الأشرار.

ثمّ نبّه على ما به يرتفع المانع من الخير و الجود و يتأهّل لافاضة الرّحمة من واجب الوجود فقال (و قد جعل اللَّه سبحانه الاستغفار) ممحاة للذّنب و (سببا لدرور الرزق) و كثرته (فقال) في سورة نوح (استغفروا ربّكم انّه كان غفّارا يرسل السّماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموال و بنين) و يجعل لكم جنّات و يجعل لكم أنهارا.

قال الطّبرسي في تفسيره: أى اطلبوا منه المغفرة على كفركم و معاصيكم إنّه كان غفارا لكلّ من طلب منه المغفرة، فمتى رجعتم عن كفركم و معاصيكم و أطعتموه يرسل السّماء عليكم مدرارا، أى كثيرة الدّرور بالغيث، و قيل: إنّهم كانوا قد قحطوا و اسنتوا و هلكت أموالهم و أولادهم فلذلك رغّبهم في ردّ ذلك بالاستغفار مع الايمان و الرّجوع إلى اللَّه تعالى، و يمددكم بأموال و بنين، أي يكثر أموالكم و أولادكم الذّكور، و يجعل لكم جنّات، أي بساتين في الدّنيا و يجعل لكم أنهارا تسقون بها جنّاتكم، قال قتادة: علم نبيّ اللَّه نوح عليه السّلام أنّهم كانوا أهل حرص على الدّنيا فقال: هلمّوا إلى طاعة اللَّه فانّ فيها درك الدّنيا و الآخرة.

و روى الرّبيع بن صبيح أنّ رجلا أتى إلى الحسن عليه السّلام فشكى إليه الجدوبة فقال له الحسن عليه السّلام: استغفر اللَّه، و أتاه آخر فشكى إليه الفقر، فقال له: استغفر اللَّه و أتاه آخر فقال: ادع اللَّه أن يرزقني ابنا، فقال له: استغفر اللَّه، فقلنا: أتاك رجال يشكون أبوابا و يسألون أنواعا، فأمرتهم كلّهم بالاستغفار، فقال عليه السّلام: ما قلت ذلك من ذات نفسي إنّما اعتبرت فيه قول اللَّه تعالى حكاية عن نبيّه نوح عليه السّلام أنّه قال لقومه: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» إلى آخره، هذا.

و الآيات و الأخبار في فضيلة الاستغفار و كونه سببا لدرور الرزق و سائر ما يترتّب عليه من الثمرات كثيرة.

فمن الآيات مضافة إلى ما مرّ قوله تعالى في سورة هود عليه السّلام حكاية عنه انّه‏ قال لقومه: «وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً». و من الأخبار في الكافي باسناده عن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول إنّ العبد إذا أذنب ذنبا اجّل من غدوة إلى اللّيل فان استغفر اللَّه لم يكتب عليه و عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من عمل سيّئة اجلّ فيها سبع ساعات من النّهار، فان قال: أستغفر اللَّه الذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، ثلاث مرّات لم تكتب عليه.

و عن عبد الصّمد بن بشير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: العبد المؤمن إذا أذنب ذنبا أجّله اللَّه سبع ساعات و إن استغفر اللَّه لم يكتب عليه شي‏ء و إن مضت السّاعات و لم يستغفر كتب اللَّه عليه سيّئة و إنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى يستغفر ربّه فيغفر اللَّه له و إنّ الكافر لينساه من ساعته.

و فيه مرسلا عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: ما من مؤمن يقارف في يومه و ليلته أربعين كبيرة فيقول و هو نادم: أستغفر اللَّه الذي لا إله إلّا هو الحىّ القيوم بديع السّماوات و الأرض ذو الجلال و الاكرام و أسأله أن يصلّي على محمّد و آل محمّد و أن يتوب علىّ، إلّا غفرها اللَّه له عزّ و جلّ و لا خير في من يقارف في يوم أكثر من أربعين كبيرة.

و في ثواب الأعمال بسنده عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام، عن أبيه عن آبائه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: لكلّ داء دواء و دواء الذّنوب الاستغفار.

و فيه عن سلام الخيّاط عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من قال: أستغفر اللَّه مأئة مرّة حين ينام بات و قد تحاطت الذنوب كلّها عنه كما تتحاط الورق من الشّجر و يصبح و ليس عليه ذنب.

و عن مسعدة بن صدقة عن جعفر الصّادق عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: طوبى لمن وجد في صحيفته يوم القيامة تحت كلّ ذنب أستغفر اللَّه و عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من استغفر اللَّه بعد صلاة الفجر سبعين مرّة غفر اللَّه له و لو عمل ذلك اليوم سبعين ألف ذنب، و من عمل أكثر من سبعين ألف ذنب فلا خير له.

و في الوسائل من الكافي عن ياسر الخادم عن الرّضا عليه السّلام قال: مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرك فتناثر، و المستغفر من ذنب و يفعله كالمستهزى‏ء بربّه و عن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: إذا كثر العبد من الاستغفار رفعت صحيفته و هي تتلألأ.

و عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عن آبائه عليهم السّلام في حديث قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: من كثرت همومه فعليه بالاستغفار.

و فيه من عدّة الدّاعى لأحمد بن فهد قال: قال عليه السّلام إنّ للقلوب صداء كصداء النّحاس فأجلوها بالاستغفار.

قال: و قال: من أكثر من الاستغفار جعل اللَّه له من كلّ همّ فرجا و من كلّ ضيق مخرجا و رزقه من حيث لا يحتسب.

و فيه من أمالي ابن الشّيخ مسندا عن أبي الحسن المنقري قال: سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يقول: عجبا لمن يقنط و معه الممحاة: قيل: و ما الممحاة قال: الاستغفار.

و فيه من كتاب ورّام بن أبي فراس قال: قال عليه السّلام أكثروا الاستغفار إنّ اللَّه لم يعلّمكم الاستغفار إلّا و هو يريد أن يغفر لكم، هذا.

و لمّا نبّه على كون الاستغفار سببا لدرور الرزق و استشهد عليه بالآية الشريفة أردفه بالدّعاء على المستغفرين التائبين بقوله (فرحم اللَّه امرء استقبل توبته) أي استأنفها (و استقال خطيئته) أي طلب الاقالة منها و من المؤاخذة بها قال الشّارح البحراني: و لفظ الاقالة استعارة و وجهها أنّ المخطى كالمعاهد و الملتزم لعقاب اخرويّة بلذّة عاجلة لما علم من استلزام تلك اللّذة المنهيّ عنها للعقاب، فهو يطلب للاقالة من هذه المعاهدة كما يطلب المشتري الاقالة من البيع (و بادر منيّته) أى سارع‏ إليها بالتوبة، و الاستقالة قبل إدراكها له، هذا.

و لمّا فرغ عليه السّلام من تمهيد مقدّمات الدّعاء شرع فيه فقال (اللّهم إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار و الأكنان) الّتي ليس من شأنها أن تفارق إلّا لضرورة شديدة (و بعد عجيح البهائم و الولدان) و أصواتها المرتفعة بالبكاء و النحيب (راغبين) في برّك و (رحمتك و راجين فضل) منّك و (نعمتك و خائفين من عذابك و نقمتك اللّهمّ فأسقنا غيثك) المغدق من السّحاب المنساق لنبات أرضك المونق (و لا تجعلنا من القانطين) الآيسين (و لا تهلكنا بالسّنين و لا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا يا أرحم الرّاحمين) و المراد بالسّفهاء الجهّال من أهل المعاصي و بفعلهم معاصيهم المبعدة عن رحمته سبحانه كما في قوله سبحانه حكاية عن موسى عليه السّلام: «أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا» ثمّ عاد عليه السّلام إلى تكرير شكوى الجدب بذكر أسبابها الحاملة عليها فقال: (اللّهمّ إنّا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك) من الضرّ و السّوء (حين ألجائتنا المضائق الوعرة) المستصعبة (و أجائتنا المقاحط المجدبة) أي السّنون المحلّة (و أعيتنا المطالب المتعسّرة، و تلاحمت علينا الفتن المستصعبة) أى تزاحمت علينا امور من الجوع و العرى و سائر مسبّبات القحط ما كانت لنا فتنة أي بلاء و محنة أى صارفة للقلوب عمّا يراد بها.

(اللّهمّ) إنّا نسألك أن (لا تردّنا خائبين) من رحمتك (و لا تقلبنا و اجمين) محزونين باليأس عن عطيّتك (و لا تخاطبنا بذنوبنا) قال الشّارح المعتزلي: أي لا تجعل جواب دعائنا لك ما يقتضيه ذنوبنا كأنّه يجعله كالمخاطب لهم و المجيب عمّا سألوه إيّاه كما يفاوض الواحد منّا صاحبه و يستعطفه فقد يجيبه و يخاطبه بما يقتضيه ذنبه إذا اشتدّت موجدته عليه و نحوه قوله (و لا تقايسنا بأعمالنا) أي لا تجعل ما تجيبنا به مقايسا و مماثلا لأعمالنا السيّئة، و بعبارة اخرى لا تجعل فعلك بنا مقايسا لأعمالنا السيّئة و مشابها لها و سيئة مثلها.

(اللّهمّ انشر علينا غيثك و بركتك و رزقك و رحمتك، و اسقنا سقيا نافعة)سالمة من الافساد بالافراط (مروية) مسكتة للعطش (معشبة) أى ذات العشب و الكلاء (تنبت بها ما قد فات) أي مضى و ذهب (و تحيى بها ما قد مات).

قال بعض الأفاضل: أي تخرج و تعيد بها ما قد ذهب و يبس من أصناف النبّات و ضروب الأعشاب و ألوان الأزهار و أنواع الأشجار و الثمار، و ما انقطع من جواري الجداول و الأنهار فاستعار الاحياء الذي حقيقته هو إفاضة الرّوح على الجسد للإخراج و الاعادة المذكورين كما استعار الموت الذي هو حقيقة انقطاع تعلّق الرّوح بالجسد لليبس و الذّهاب، و الجامع في الاولى إحداث القوى النّامية في المواد و المنافع المترتّبة على ذلك، و في الثانية استيلاء اليبوسة و عدم النّفع، و هما استعارتان تبعيّتان لأنّ المستعار في كلّ منهما فعل و القرينة في الاولى المجرور أعني الضمير في بها العايد إلى السّقيا لظهور عدم حصول الاحياء الحقيقي بالسّقيا، و في الثّانية الاسناد إلى الفاعل لأنّ الموت الذي يحيي المتّصف به بالسقى لا يكون حقيقيا البتة.

(نافعة الحياء) و المطر (كثيرة المجتنى) و الثّمر (تروى بها القيعان) و الأراضي المستوية (و تسيل بها البطنان) و الأراضي المنخفضة، و نسبة السّيلان أو الاسالة إلى البطنان من المجاز العقلي إذ حقّه أن يسند أو يوقع على الماء، لأنّه الماء حقيقة و لكنّه أوقع على مكانه لملابسته له كما اسند الفعل إليه في سال النهر، و الغرض طلب كثرة المطر، (و تستورق الأشجار، و ترخص الأسعار، إنّك على ما تشاء قدير) و بالاجابة حقيق جدير.

تنبيه

قال بعض شرّاح الصحيفة الكاملة: اختلف في التّسعير فقيل هو من فعل اللَّه سبحانه و هو ما ذهبت إليه الأشاعرة بناء على أصلهم من أنّه لا فاعل إلّا اللَّه تعالى، و لما ورد في الحديث حين وقع غلاء بالمدينة فاجتمع أهلها إليه و قالوا: سعّر لنا يا رسول اللَّه، فقال: المسعّر هو اللَّه.

و اختلف المعتزلة في هذه المسألة فقال بعضهم هو فعل المباشر من العبد إذ ليس ذلك إلّا مواضعة منهم على البيع و الشّرى بثمن مخصوص، و قال آخرون هو متولّد من فعل اللَّه تعالى و هو تقليل الأجناس و تكثير الرّغبات بأسباب هي من اللَّه تعالى.

و الذي تذهب إليه معشر الامامية أن خروج السّعر عن مجري عادته ترقيّا أو نزولا إن استند إلى أسباب غير مستندة إلى العبد و اختياره نسب إلى اللَّه تعالى.

و إلّا نسب إلى العبد كجبر السلطان الرّعية على سعر مخصوص، و ما ورد في الحديث النبّوي المذكور محمول على أنّه لا ينبغي التّسعير، بل يفوّض إلى اللَّه، ليقرّره بمقتضى حكمته البالغة و رحمته الشاملة.

و ما ورد من الأخبار عن أهل البيت عليهم السّلام في هذا المعنى كما روى عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام أنّه قال: إنّ اللَّه و كلّ ملكا بالسّعر يدبّره بأمره، و عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام إنّ اللَّه و كلّ بالأسعار ملكا يدبّرها بأمره، فالمراد بالسّعر ما لم يكن للعبد و أسبابه مدخل، و اللَّه أعلم.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن ولىّ دين و سيّد وصيّين است در مقام استسقا و باران خواستن از خدا كه فرموده: آگاه باشيد بدرستى كه زمينى كه بر مى‏ دارد شما را، و آسمانى كه سايه مى ‏افكند بر شما، مطيع و منقاد هستند پروردگار شما را، و نگرديده‏ اند آن آسمان و زمين كه ببخشد بشما بركت خودشان را بجهة غمخوارى از براى شما، و نه بجهة تقرّب و منزلت بسوى شما، و نه از جهة خيري كه اميدوار باشند بآن از شما، و لكن مأمور شدند از جانب خداوند قادر قاهر بمنفعتهاي شما، پس اطاعت كرده ‏اند و بر پا داشته شده ‏اند بر نهايات مصلحت‏هاى شما، پس قيام نموده‏ اند.

پس بدرستى كه خداوند تعالى مبتلا مى‏نمايد و امتحان مى‏فرمايد بندگان خود را هنگام اقدام بر أعمال ناشايست بنقص ميوجات و حبس كردن بركات و بستن خزينهاى خيرها تا اين كه توبه نمايد توبه كننده، و ترك كند گناه را ترك كننده،و متذكّر شود صاحب تذكّر، و منزجر شود قابل زجر.

و بتحقيق كه گردانيده حق تعالى طلب مغفرت و استغفار را سبب فرود آمدن روزى و رحمت از براى خلق، پس فرمود در كلام مجيد خود: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً»، يعني طلب مغفرت و آمرزش نمائيد از پروردگار خود بدرستى كه اوست صاحب مغفرت و آمرزنده، تا بفرستد أبر را بر شما در حالتى كه ريزان شود بباران، و مدد فرمايد شما را بأموال و أولاد، پس رحمت نمايد خدا بر كسى كه روى آورد بدرگاه خدا به توبه و انابه و طلب اقاله و فسخ خطاى خود را نمود و مبادرت و پيش دستى كرد بسوى مرگ خود با توبه نمودن از معصيت.

بار الها بدرستى كه ما بيرون آمده‏ ايم بسوى رحمت تو از زير پردها و پوششها يعني از خانهاى خود بيرون آمده و پا برهنه رو بصحرا نهاده و متوجّه تو شده بعد از ناله چهارپايان و فرزندان در حالتى كه راغبيم در رحمت تو، و اميدواريم بزيادتي نعمت تو، و ترسانيم از عذاب تو و عقاب تو، بار پروردگارا پس آب ده ما را بباران خودت، و مگردان ما را از نوميدان، و هلاك مكن ما را بسالهاى قحطى، و مؤاخذه مكن بما بجهت فعل قبيح سفيهان و بى‏خردان ما أي پروردگارى كه ارحم الرّاحمين هستى.

بار خدايا بدرستى كه ما بيرون آمده ا‏يم بسوى تو شكايت مى‏ كنيم بسوى تو چيزى را كه پنهان و پوشيده نيست بتو وقتى كه مضطر گردانيد ما را تنگيها بغايت سخت، و ملجأ نمود ما را سالهاى قحطي، و عاجز ساخت ما را مطلب‏هائى دشوار، و هجوم آور شد بما فتنه هاى صعب و با شدّت.

بار الها بدرستي كه ما سؤال مى‏ كنيم از فضل و كرم تو اين كه برنگردانى ما را در حالتى كه مأيوس باشيم، و باز نبرى ما را در حالتى كه محزون و پريشان شويم و خطاب عتاب نكنى بما بجهة گناهان ما، و قياس نكنى ما را بأعمال قبيحه ما.. پروردگارا پراكنده كن بر ما باران خود را، و سيراب كن ما را سيرابى با منفعت كه سيراب سازنده هر موجود است، و روياننده گياه كه بروياني بسبب آن‏ سيرابى آنچه كه فوت شده باشد از غلّات، و زنده گرداني بواسطه آن آنچه كه مرده از نبات، آن چنان سيرابي كه صاحب باران را منفعت باشد، و بسيار شود ميوه آن كه سيراب گرداني بآن زمينهاى هموار را، و روان گرداني بآن زمينهاي پست را، و برگ دار گرداني درختان را بآن، و أرزان گردانى نرخها را، بدرستي كه تو بر آنچه كه مى‏ خواهى از رخص و جدب صاحب قدرت و توانائى.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 142 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 142 صبحی صالح

142- و من كلام له ( عليه ‏السلام  )المعروف في غير أهله‏

وَ لَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أَتَى

إِلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ

وَ ثَنَاءُ الْأَشْرَارِ

وَ مَقَالَةُ الْجُهَّالَ

مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ

وَ هُوَ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ بِخَيْلٌ

مواضع المعروف‏

فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ

وَ لْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ

وَ لْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِيرَ وَ الْعَانِيَ

وَ لْيُعْطِ مِنْهُ الْفَقِيرَ وَ الْغَارِمَ

وَ لْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَ النَّوَائِبِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ

فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا وَ دَرْكُ فَضَائِلِ الْآخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج8  

و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و الثاني و الاربعون من المختار فى باب الخطب

و الظّاهر أنّه ملتقط من كلام طويل له عليه السّلام قدّمنا روايته في شرح الكلام المأة و السّادس و العشرين من البحار من كتاب الغارات لابراهيم بن محمّد الثقفي من كتاب الكافي لمحمّد بن يعقوب الكليني على اختلاف عرفته. و ليس لواضع المعروف في غير حقّه و عند غير أهله من الحظّ فيما أتى إلّا محمدة اللّئام، و ثناء الأشرار، و مقالة الجهّال ما دام منعما عليهم‏ ما أجود يده و هو عن ذات اللّه بخيل، فمن آتاه اللّه ما لا فليصل به القرابة، و ليحسن منه الضّيافة، و ليفكّ به الأسير و العانى، و ليعط منه الفقير و الغارم، و ليصبر نفسه على الحقوق و النّوائب ابتغاء الثّواب فإنّ فوزا بهذه الخصال شرف مكارم الدّنيا، و درك فضائل الآخرة إنشاء اللّه.

اللغة

قال الفيومى (المحمدة) بفتح الميم نقيض المذمّة، و نقل ابن السرّاج و جماعة بالكسر و (الغارم) من عليه الدّين و (صبرت) صبرا من باب ضرب حبست النفس عن الجزع قال تعالى: و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم، و يستعمل تارة بعن كما في المعاصى، و تارة بعلى كما في الطاعات، و (النّوائب) جمع النائبة و هى النازلة التي تنوب على الانسان و تنزل عليه.

الاعراب

قوله و مقالة الجهّال ما دام منعما عليهم، ما ظرفيّة مصدريّة، و دام فعل ناقص و اسمه ضمير مستتر عايد إلى واضع المعروف، و منعما خبره، و إنّما جعلت ما مصدريّة لأنّها تؤل بمصدر مضاف إليه الزّمان أى مدّة دوامه منعما، و سميّت ظرفيّة لنيابتها عن الظرف، و هو المدّة، فأصل ما دام منعما مدّة ما دام منعما، فحذف المضاف أعنى المدّة و ناب المضاف إليه و هو ما وصلتها عنها في الانتصاب على الظرفية كما ناب المصدر الصّريح عن ظرف الزّمان في نحو جئتك صلاة العصر أى وقت صلاة العصر، فعلى هذا يكون قوله: ما دام منعما، ظرفا للمقالة و منصوبا بها و قيدا لها و جملة ما أجود يده، في محلّ النّصب مقول القول أى مقالتهم ذلك، و الواو في قوله، و هو حالية، و الفاء في قوله: فمن أتاه، فصيحة، و عطف العاني على الأسير للتفسير، و الفاء في قوله: فانّ فوزا، للسببيّة.

المعنى

اعلم أنّ هذا الكلام له عليه السّلام وارد في معرض الذّم على صرف المال في غير أهله و الحثّ على صرفه في وجوه البرّ و مصارف الخير.

أمّا الأوّل أعني صرف المال لغير مستحقّه فقد نبّه على خساسة ثمرته و زهادة منفعته بقوله (و ليس لواضع المعروف) أى البرّ و الاحسان (في غير حقّه) أى غير المحلّ الّذي هو حقيق به و حقّ له (و عند غير أهله) و مستحقّه من الحظّ و النصيب فيما أتى و جاء به (إلّا محمدة اللّئام) الموصوفين بدنائة النّفس و رزالة الطبع (و ثناء الأشرار) و الفجّار (و مقالة الجهّال ما دام منعما عليهم ما أجود يده) يعني أنّ الجهلة و السفهة يصفونه بالكرم و الجود و يقولون إنّه جواد ما دام إنعامه عليهم حتّى إذا انقطع انعامه عنهم يبدلون الشّكر بالكفران، و الثناء بالمذمّة، بل ربّما يجعلون الشّر عوض الشكر استجلابا لذلك الانعام المنقطع، و استعادة له فهذا الرّجل و إن كان السفلة و السّفهاء يصفونه بالجود لجهلهم بوضع الأشياء في مواضعها التي هي مقتضي العقل و الشّرع، و لكنّه ليس بجواد في نفس الأمر و عند اولى الألباب العارفين بمواضع الأشياء و مواضعها التي يحسن وضعها فيها، بل يصفونه العقلاء بالبخل كما قال عليه السّلام (و هو عن ذات اللّه بخيل) يعني أنّه بخيل عما يرجع إلى ذات اللّه سبحانه و يحصل رضاه كوجوه البرّ الواجبة و المندوبة من الصدّقات و صلة الرّحم و الضيافة و الحقّ المعلوم للسّائل و المحروم و نحوها.

و توضيح المرام موقوف على تحقيق الكلام فى معنى الجود و البخل.

فنقول: المال خلق لحكمة و مقصود و هو صلاحه لحاجات الخلق، و يمكن إمساكه عن الصّرف إلى ما خلق للصّرف إليه و يمكن بذله بالصّرف إلى ما لا يحسن‏ الصّرف إليه، و يمكن التّصرّف فيه بالعدل و هو أن يحفظ حيث يجب الحفظ، و يبذل حيث يجب البذل فالامساك حيث يجب البذل بخل، و البذل حيث يجب الامساك تبذير و إسراف، و الوسط بينهما و هو الجود و السّحاء محمود قال سبحانه: و الّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما، فالوسط بين الاسراف و الاقتار هو الجود، و هو أن يقدّر بذله و امساكه بقدر الواجب.

و الواجب قسمان: واجب بالشّرع و واجب بالمروّة و العادة، فمن منع واحدا منهما فهو بخيل، و لكنّ المانع من واجب الشرع أبخل كالمانع من أداء الزّكاة و نفقة عياله الواجبي النفقة، و أما واجب المروّة فهو ترك المضايقة و الاستقصاء في المحقرات، فانّ ذلك مستقبح و يختلف استقباحه باختلاف الأحوال و الأشخاص فيستقبح من الغنى ما لا يستقبح من الفقير من المضايقة، و كذلك من الرّجل مع أهله و أقاربه ما لا يستقبح مع الأجانب، و كذلك يستقبح المضايقة من الجار في حقّ الجار دون البعيد، و فى الضيافة دون المعاملة، و بالنسبة إلى العالم دون الجاهل و هكذا.

فمن أدّى واجب الشّرع و واجب المروّة اللّائقة فقد تبرّء من البخل، نعم لا يتّصف بصفة الجود و السّخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك لطلب الفضيلة و نيل الدّرجات، فاذا اتّسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع و لا يتوجّه إليه الملامة في العادة فهو جواد بقدر ما تتّسع له نفسه من قليل أو كثير، و درجات ذلك متفاوتة غير محصورة، فاصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة و المروّة هو الجود، و لكن يشترط فيه أمران: أحدهما أن يكون عن طيب نفس و الثّاني أن لا يكون عن طمع عوض و لو ثناء و محمدة و شكرا، فانّ من طمع في الشّكر و الثّناء ممّن يحسن إليه أو من غيره فانّه بيّاع ليس بجواد، فانّه يشترى المدح بماله، و المدح لذيذ و هو مقصود فى نفسه و كذلك لو كان الباعث عليه الخوف من الهجاء مثلا أو من ملامة الخلق أو دفع شرّ، فكلّ ذلك ليس من‏ الجود لأنّه مضطرّ إليه بهذه البواعث نعم لو لم يكن غرضه إلّا الثّواب في الآخرة و تحصيل رضاء اللّه سبحانه و اكتساب فضيلة الجود و تطهير النّفس من رذالة الشّح فهو الجواد و الموصوف بالسخاء.

إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك أنّ وضع المعروف في غير حقّه و عند غير أهله أو لرجاء العوض و المنفعة فليس جوادا في الحقيقة و عند أهل المعرفة و البصيرة، كما نبّه به الامام عليه السّلام و نهى عنه.

ثمّ أرشد عليه السّلام إلى ما ينبغي القيام به لمن آتاه اللّه المال و الثّروة بقوله (فمن آتاه اللّه مالا فليصل به) الرّحم و (القرابة) فقد روى في الوسائل من الكافي باسناده عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أىّ الصّدقة أفضل، فقال: على ذى الرّحم الكاشح.

و بهذا الاسناد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: الصّدقة بعشرة و القرض بثمانية عشر و صلة الاخوان بعشرين و صلة الرّحم بأربعة و عشرين.

و في الوسائل أيضا عن الصّدوق قال: قال عليه السّلام لا صدقة و ذو رحم محتاج و باسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصّادق عن آبائه عليهم السّلام عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث المناهي قال: و من مشى إلى ذي قرابة بنفسه و ماله ليصل رحمه أعطاه اللّه عزّ و جلّ أجر مأئة شهيد و له بكلّ خطوة أربعون ألف حسنة و محى عنه أربعون ألف سيّئة، و رفع له من الدّرجات مثل ذلك، و كان كأنّما عبد اللّه عزّ و جلّ مأئة سنة صابرا محتسبا، هذا.

و قد مضى جملة من منافع صلة الرّحم و مضارّ القطيعة و الأخبار المتضمّنة لهذا المعنى في شرح الفصل الثّاني من الخطبة الثّالثة و العشرين فليراجع.

(و ليحسن منه الضّيافة) قال الصّادق عليه السّلام لحسين بن نعيم الصحّاف في حديث رواه فى الكافي: أتحبّ إخوانك يا حسين قلت: نعم، إلى أن قال أ تدعوهم إلى منزلك قلت: نعم ما آكل إلّا و معى منهم الرّجلان و الثلاثة و الأقلّ و الأكثر، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما إنّ فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم، فقلت: جعلت‏ فداك أطعمهم طعامى و أوطئهم رحلى و يكون فضلهم علىّ أعظم قال: نعم إنّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك و مغفرة عيالك، و إذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك و ذنوب عيالك.

(و ليفكّ به الأسير و العانى و ليعط منه الفقير و الغارم) أى المديون (و ليصبر نفسه على الحقوق) الواجبة و المندوبة كالزّكاة و الصّدقات، أى ليحبس نفسه على أدائها، و إنّما سمّى حبسا لأنّه خلاف ما يميل إليه الطّبع و النفس الامارة (و النّوائب) التي تنزل به من الحوادث و المهمّات الموجبة لغرمه.

كما في حديث الجهاد عن أبي الحسن عليه السّلام في قسمة الغنائم ثمّ قال: و يأخذ يعني الامام الباقى فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينويه من تقوية الاسلام و تقوية الدّين في وجوه الجهاد و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامة قال الشّارح البحراني: و أشار بالنّوائب إلى ما يلحق الانسان من المصادرات التي يفكّ بها الانسان من أيدى الظالمين و ألسنتهم، و الانفاق في ذلك من الحقوق الواجبة على الانسان، انتهى.

و الأظهر التّعميم حسب ما ذكرنا و لمّا أشار إلى المواضع التي يحسن وضع المال فيها و صرفه إليها أردفه بقوله (ابتغاء الثواب) تنبيها على أنّ حسنه إنّما يكون إذا قصد به وجه اللّه سبحانه و طلب جزائه لا عن قصد رياء و سمعة.

ثمّ نبّه على ما يترتّب على هذه الخصال الحسنة من الأجر الجميل و الجزاء الجزيل بقوله (فانّ فوزا بهذه الخصال) الخمس (شرف مكارم الدّنيا و درك فضائل الآخرة إنشاء اللّه) لأنها توجب الذكر الجميل و الجاه العريض في الاولى و الثواب الجزيل الموعود لاولى الفضل و التّقى في العقبى، هذا.

و انّما أتى فوزا بالتنكير و لم يقل فانّ الفوز بهذه الخصال قصدا إلى التّقليل يعني أنّ قليل فوز بهذه يوجب شرف الدّنيا و الآخرة كما في قوله تعالى، و رضوان من اللّه أكبر، أى رضوان قليل منه سبحانه أكبر من ذلك كلّه على ما ذهب إليه صاحب التّلخيص.

و هذا أقرب و أولى بل أظهر ممّا قاله الشّارح المعتزلي في وجه تعليل التنكير حيث قال: قوله: فانّ فوزا أفصح من أن يقول فانّ الفوز أو فإنّ فى الفوز كما قال الشّاعر:

إنّ شواء و نشوة و خبب البازل الأمون            من لذّة العيش للفتى في الدّهر و الدّهر ذو فنون‏

و لم يقل إنّ الشواء و النشوة، و السرّ في هذا أنّه كأنّه يجعل هذا المصدر و هذا الشواء شخصا من جملة اشخاص داخلة تحت نوع واحد و يقول: إنّ واحدا منها أيّها كان فهو من لذّة العيش و إن لم يحصل له كلّ أشخاص و ذلك النوع و مراده عليه السّلام تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس أى متى حصل للانسان فوز بأيّها فقد حصل له الشّرف، و هذا المعنى و إن أعطاه لفظة الفوز بالألف و اللّام إذا قصد بها الجنسيّة إلّا أنّه قد يسبق إلى الذّهن منها الاستغراق لا الجنسية فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق و هى اللّفظة المنكرة، و هذا دقيق و هو من لباب علم البيان، انتهى.

و فيه أوّلا أنّ الذّوق السّليم يحكم بأنّ القصد في التنكير هنا إلى التقليل لا إلى الافراد كما في جاء رجل من أقصى المدينة و في قوله: و اللّه خلق كلّ دابّة من ماء، أى كلّ فرد من أفراد الدّواب من فرد من أفراد الماء أى النطفة المختصّة به فتأمّل تعرف.

و ثانيا أنّ قوله: و هذا المعنى و إن أعطاه لفظة الفوز ممنوع، لظهور أنّ النكرة هو الفرد المنتشر، و البعض الغير المعيّن المعرّف بلام الجنس موضوع لماهيّة من حيث هى و بينهما بون بعيد.

و ثالثا أنّ قوله: قد يسبق إلى الذّهن منها الاستغراق لا الجنسية، يدفعه أنّ المتبادر من المعرّف باللّام المفرد هى الماهية لا بشرط، و بعبارة اخرى المتبادر السّابق إلى الذّهن من المفرد المحلّى باللّام هى نفس الحقيقة، من دون نظر إلى الافراد كلّا أو جزء، فمن أين يسبق إلى الذّهن الاستغراق إن هو إلّا توهّم فاسد و به يظهر فساد ما زعمه الشّارح البحراني أيضا حيث قال: و إنّما نكّر الفوز لأنّ تنكيره يفيد نوع الفوز فقط الّذي يحصل بأىّ شخص كان من أشخاصه و هذا و إن كان حاصلا مع الألف و اللّام لتعريف تلك الطبيعة إلّا أنّ ذلك التعريف مشترك بين تعريف الطبيعة و المعهود الشخصي فكان موهما لفوز شخصىّ، و ذلك كان الاتيان به منكرا أفصح و أبلغ انتهى.

وجه ظهور الفساد منع اشتراك المعرّف بلام الحقيقة بين تعريف الطّبيعة و المعهود الشخصى ذهنيّا كان أو خارجيّا، بل هو حقيقة في الأوّل فقط، و مجاز في غيره، و انفهامه منه محتاج إلى القرينة، و ليست فليس، مضافا إلى ما استظهرناه من افادة التنكير للتقليل لا النوع في ضمن أىّ شخص فافهم و تبصّر.

تذنيب في الاخبار الواردة فى ذمّ وضع المعروف فى غير موضعه و مع غير أهله

ففي الوسائل من الكافي باسناده عن سيف بن عميرة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لمفضّل بن عمر: يا مفضّل إذا أردت أن تعلم أشقىّ الرّجل أم سعيد فانظر سيبه و معروفه إلى من يصنعه فان كان يصنعه إلى من هو أهله فاعلم أنّه إلى خير و إن كان يصنعه إلى غير أهله فاعلم أنّه ليس له عند اللّه خير.

و من الكافي عن العدّة عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن محمّد بن سنان عن مفضّل ابن عمر قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا أردت أن تعرف إلى خير يصير الرّجل أم إلى شرّ فانظر أين يضع معروفه فان كان يضع معروفه عند أهله فاعلم أنّه يصير إلى خير، و إن كان يضع معروفه مع غير أهله فاعلم أنّه ليس له في الآخرة من خلاق.

و في الوسائل عن الصّدوق باسناده عن قتادة بن عمرو و أنس بن مالك عن أبيه جميعا في وصيّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام قال: يا عليّ أربعة تذهب ضياعا: الأكل على الشّبع، و السّراج في القمر، و الزّرع في السبخة، و الصّنيعة عند غير أهلها.

و فيه من مجالس ابن الشّيخ عن أبيه عن أبي محمّد الفحام عن المنصورى عن‏عمّ أبيه عن الامام عليّ بن محمّد عن أبيه عن آبائه واحدا واحدا عليهم السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: خمس تذهب ضياعا: سراج تفسده في شمس، الدّهن يذهب و الضّوء لا ينتفع به، و مطرجود على أرض سبخة المطر يضيع و الأرض لا ينتفع بها، و طعام يحكمه طاهيه يقدم إلى شبعان فلا ينتفع به، و امرأة تزف إلى عنين فلا ينتفع بها، و معروف يصطنع إلى من لا يشكره.

الترجمة

از جمله كلام بلاغت نظام آن امام عليه الصّلاة و السّلام در ارشاد مردمان بر مواقع و مصارف احسان مى‏فرمايد: و نيست مر نهنده احسان را در غير محلى كه لايق است بأو در نزد غير أهل و مستحق آن از حظ و نصيب در آنچه آورده مگر ستايش لئيمان و ثناء شريران و گفتار جاهلان مادامى كه احسان كننده است بر ايشان: چه سخى نموده دست او را و حال آنكه آن شخص بخيل است از ذات بارى تعالى، پس هر كه عطا كند او را خداوند سبحانه مالى را پس بايد وصل نمايد آن را بأقربا و أقوام خود و بايد كه نيك سازد از آن مهمانى را، و بايد كه برهاند بآن اسير و دست گير را، و بايد كه بدهد از آن فقير قرض دار را، و بايد كه حبس نمايد نفس خود را بر أداء حقوق واجبه و مندوبه و حوادثات روزگار، بجهة طلب ثواب از حضرت پروردگار، پس بدرستى كه فائز شدن باين خصلتها بزرگوارى مكرمتهاى دنيا است، و رسيدن بفضيلتهاى عقبى إنشاء اللّه تعالى.

هنا انتهى الجزء الثامن من هذه الطبعة الجديدة القيمة و تمّ تصحيحه و تهذيبه بيد العبد «السيد ابراهيم الميانجى» عفى عنه و عن و الديه و ذلك فى اليوم الرابع و العشرين من المحرم سنة «1381» و يليه انشاء اللّه الجزء التاسع و اوله أول المختار المأة و الثالث و الاربعين، و الحمد للّه كما هو أهله

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 141 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 141 صبحی صالح

141- و من كلام له ( عليه ‏السلام  ) في النهي عن سماع الغيبة و في الفرق بين الحق و الباطل‏

أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَ سَدَادَ طَرِيقٍ فَلَايَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ

أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي

وَ تُخْطِئُ السِّهَامُ

وَ يُحِيلُ الْكَلَامُ

وَ بَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ

وَ اللَّهُ سَمِيعٌ وَ شَهِيدٌ

أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ

فسئل ( عليه‏ السلام  ) عن معنى قوله هذا فجمع أصابعه و وضعها بين أذنه و عينه ثم قال‏

الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَ الْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج8  

و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و الحادى و الاربعون من المختار في باب الخطب.

أيّها النّاس من عرف من أخيه وثيقة دين و سداد طريق فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرّجال، أما أنّه قد يرمي الرّامي، و تخطى‏ء السّهام و يحيل الكلام و باطل ذلك يبور، و اللّه سميع و شهيد، أما أنّه ليس بين الباطل و الحقّ إلّا أربع أصابع، فسئل عن معني قوله عليه السّلام هذا، فجمع أصابعه و وضعها بين اذنه و عينه ثمّ قال: الباطل أن تقول سمعت، و الحقّ أن تقول رأيت.

اللغة

(وثق) الشي‏ء بالضمّ وثاقة قوى و ثبت فهو وثيق ثابت محكم و (السّداد) بالفتح الصّواب من القول و الفعل و (الأقاويل) جمع أقوال و هو جمع قول و (أخطأ السّهم) الغرض تجاوزه و لم يصبه و (يحيل الكلام) في أكثر النّسخ باللام مضارع حال بمعنى يستحيل أى يكون محالا قال في القاموس: و كلّ ما تغيّر أو تحرّك من الاستواء إلى العوج فقد حال و استحال، و قال أيضا: و المحال بالضم من الكلام ما عدل عن وجهه كالمستحيل، أحال أتى به، و في المصباح المحال‏ الباطل الغير الممكن الوقوع، و في بعض النسخ بالكاف مضارع حاك أو أحاك قال في القاموس: حاك القول في القلب يحيك حيكا أخذ، و السّيف اثر و الشفرة قطعت كأحاك فيهما و (بار) الشي‏ء يبور بورا بالضّم هلك.

الاعراب

إضافة وثيقة دين و سداد طريق من إضافة الصّفة إلى موصوفه و التاء في الوثيقة للنّقل من الوصفيّة إلى الاسميّة كما قيل أو للمبالغة، و جملة فلا يسمعنّ، في محلّ الرّفع خبر من و لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط اتى بالفاء في خبره، و الضمير في قوله: إنّه، للشأن، و الواو في قوله: و باطل ذلك، للحال.

المعنى

اعلم أنّ المقصود بهذا الكلام النّهى عن التسّرع إلى التصديق بما يقال في حقّ الانسان الموصوف بحسن الظاهر المشهور بالوثوق و الصّلاح و التدّين ممّا يعيبه و يقدحه، و يدلّ عليه الأدلّة الدّالة على حرمة الاصغاء إلى الغيبة على ما تقدّم في شرح الكلام السّابق، و إليه اشير في قوله سبحانه: يا أيّها الّذين آمنوا إن جائكم فاسق بنبا فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين إذا عرفت ذلك فأقول قوله: (أيّها النّاس من عرف من أخيه وثيقة دين و سداد طريق) أى دينا محكما و طريقا صوابا، قيل المراد بوثيقة الدّين اللّزوم للأحكام الشرعيّة و التقييد لا كمن يعبد اللّه على حرف فان أصابه خير اطمأنّ به و إن أصابته فتنة انقلب على وجهه.

و لعلّ المراد بوثيقة الدّين العقيدة و بسداد الطريق حسن العمل كما يشعر به ما رواه الحافظ أبو نعيم بسنده عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال لابنه الحسن عليه السّلام: يا بنيّ ما السّداد فقال: يا أبتي السداد دفع المنكر بالمعروف، أي من عرف من أخيه المؤمن حسن الاعتقاد و العمل (فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرّجال) أى أقاويلهم الّتي توجب شينه و تهدم مروّته و تسقطه عن أعين النّاس.

روى الصّدوق في عقاب الأعمال باسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: قلت له: جعلت فداك الرّجل من اخواني بلغني عنه الشي‏ء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك و قد أخبرني عنه قوم ثقات، فقال عليه السّلام لي: يا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك و إن شهد عندك خمسون قسامة و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم، و لا تذيعنّ عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروّته فتكون من الذّين قال اللّه: إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدّنيا و الآخرة.

و في الوسائل عن العياشي في تفسيره عن الفيض بن المختار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لمّا نزلت المائدة على عيسى قال للحواريّين: لا تأكلوا منها حتّى آذن لكم، فأكل منها رجل فقال بعض الحواريّين: يا روح اللّه أكل منها فلان، فقال له عيسى عليه السّلام: أكلت منها فقال: لا، فقال الحواريّون: بلى و اللّه يا روح اللّه لقد أكل منها، فقال عيسى عليه السّلام: صدّق أخاك و كذّب بصرك.

ثمّ علّل عليه السّلام عدم جواز استماع أقاويل الرّجال و تصديقها بالمثل الّذي ضربه بقوله (أما أنّه قد يرمى الرّامى و تخطى‏ء السهام) يعني أنّه ربما يرمى الرّامى سهمه فلا يصيب الغرض بل يخطيه (و) كذلك قد يتكلّم إنسان بكلام يعيب به على غيره أو يغتابه ف (يحيل الكلام) و يستحيل و يعدل عن وجه الصّواب و يخالف الواقع و لا يعيبه إما لغرض شخصىّ فاسد للقائل في المقول عليه من العداوة و الشحناء و الحسد و نحوها فيرميه بالعيب و يطعنه بالغيب لذلك، و إمّا لشبهة منه فيه بأن يشتبه الأمر عليه فيظنّ المعروف منكرا مثل ما لو رأى في يد أحد قارورة مملوّة يشرب منها فظنّها خمرا و هو خلّ فيتّهمه بشرب الخمر.

و لذلك ورد في الأخبار المستفيضة حمل فعل المسلم على الصّحة مثل ما رواه في الكافي عن الحسين بن المختار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك منه، و لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير محملا.

و عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا اتّهم المؤمن أخاه انماث الايمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء.

هذا كلّه على رواية يحيل باللّام و أمّا على الرّواية الاخرى فالمراد به التنبه على أنّ ضرر الكلام أقوى من ضرر السهام، و تأثيره أشدّ من تأثيرها، و ذلك لأنّ الرّامى قد يرمي فتخطئ سهامه و لا تصيب الغرض، و أمّا الكلام فيؤثر لا محالة و إن كان باطلا لأنّه يلوث العرض في نظر من لا يعرفه و يسقط محلّ المقول فيه و منزلته من القلوب.

ثمّ قال تهديدا أو تحذيرا و تنبيها على ضرر ذلك الكلام الفاسد و القول الباطل على سبيل إرسال المثل (و باطل ذلك يبور و اللّه سميع و شهيد) يعني أنّ الغرض و الغاية من ذلك القول الّذي يعاب به باطل نشأ من الحقد و الحسد أو التّصادم في مال أو جاه أو نحو ذلك من الأغراض الباطلة، و الباطل انّما يبور أى يهلك و يفنى كما قال تعالى: إنّ الباطل كان زهوقا، و وزره يدوم و يبقى لأنّه بعين اللّه السميع البصير الشّاهد الخبير بمحاسن الأفعال و الأقوال و مقابحها المجازى بالحسنات عظيم الثواب و بالسيّئات أليم العقاب.

ثمّ نبّه على الفرق بين الحقّ و الباطل بقوله (أما أنّه ليس بين الحقّ و الباطل إلّا أربع أصابع فسئل عليه السّلام عن معنى قوله هذا) لاجماله و إبهامه (فجمع أصابعه) الأربع (و وضعها بين أذنه و عينه ثمّ قال: الباطل أن تقول سمعت، و الحقّ أن تقول رأيت) يعنى أنّ الباطل هو المسموع و الحقّ هو المرئى، فتسامح عليه السّلام في التفرقة بما ذكر تعويلا على الظهور، ضرورة أنّ الباطل ليس قولك سمعت، و لا الحقّ قولك رأيت، لأنّ قولك إخبار عن نفسك بالسّماع أو الرّؤية، و الحقّ و الباطل و صفان للمخبر عنه لا الخبر كما هو ظاهر.

فان قلت: كيف يقول الباطل ما يسمع و الحقّ ما يرى مع أنّ كثيرا من المسموعات حقّ لا ريب فيه، فانّ جلّ الأحكام الشرعيّة قد ثبت علينا بطريق النّقل‏ و السماع، و كذلك كثير من العقائد الاصولية كنبوّة نبينا و معجزاته و كذا نبوّة سائر الأنبياء و إمامة الأئمة و معجزاتهم عليهم السّلام و أخبار المعاد من الحشر و النّشر و البعث و الحساب و الجنّة و النّار و غيرها.

قلت: قد أجاب عنه الشّارح المعتزلي بأنه ليس كلامه في المتواتر من الأخبار و إنّما كلامه في الأقوال الشّاذّة الواردة من طريق الآحاد الّتي تتضمّن القدح فيمن قد علمت «غلبت خ» نزاهته، فلا يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك.

و أجاب الشّارح البحراني بأنّ قوله: الباطل أن تقول سمعت، لا يستلزم الكلّية حتّى يكون كلّ ما سمعه باطلا، فانّ الباطل و المسموع مهملان يعني انه ليس بقضية كلّية بل كلام خطابي مهمل يصدق بجزئي.

أقول: و لعلّ مرادهما أنّ اللّام في قوله: الباطل و الحقّ، للعهد و مراده عليه السّلام ليس تعريف مطلق الباطل و الحقّ بل التفرقة في افراد ما يعاب به الغير و يتضمّن قدحه بأنّه على قسمين: أحدهما ما سمعته من غيرك، فهو باطل لأنّ من جاءك به فاسق لا يمكن الرّكون إليه فلا بدّ من الحكم ببطلان خبره و إن كان ما خاله صدقا في نفس الأمر و الواقع، و ثانيهما ما أبصرته بعينك فهو الحقّ.

فان قلت: كيف التوفيق بين قوله عليه السّلام ذلك المفيد لحقيّة المرئى و بين روايتي عقاب الأعمال و الوسائل المتقدّمتين في شرح قوله عليه السّلام: فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرّجال، حيث أمر فيهما بتكذيب البصر فيما شاهدته.

قلت: لا منافاة بينهما، لأنّ المراد بتكذيب البصر فيهما عدم ترتيب الآثار على العيب الذي رآه و النّهى عن إذاعته و إفشائه للغير، لا أنّ ما رآه ليس بحق و محصلهما وجوب ستر ما رآه من أخيه و عدم هتك عرضه عند الغير، مثلا إذا رأى أنّه يشرب الخمر فان وجد لفعله محملا صحيحا كأن يحتمل أنّه خلّ أو أنّ شربه للدواء و العلاج، فلا بدّ من حمل فعله على الصّحة، و إن لم يجد له محملا فيحكم في نفسه بفسق الشّارب، و لا يأتمنه في امور يشترط فيها العدالة، و مع‏ ذلك فلا يجوز إظهار ما فعله لغيره تنقيصا له على ما تقدّم في شرح الكلام السّابق و اللّه العالم.

الترجمة

از جمله كلام آن قدوه أنام است كه فرموده: اى مردمان هر كس كه شناخت از برادر مؤمن خودش دين محكم و راه راستى را پس بايد البتّه نشنود در حق او گفتارهاى مردمان را، آگاه شويد كه گاهست مى‏ اندازد اندازنده و خطا مى ‏كند تيرها و محال مي باشد سخن و حال اين كه باطل كلام فاسد و تباه مى‏ شود و خداى تعالى شنونده است كلام بدگو را و شاهد است بر آن و جزا دهنده است بآن، آگاه باشيد بدرستى كه نيست ميان حق و باطل مگر چهار انگشت پس سؤال كرده شد از آن حضرت از معنى اين فرمايش او، پس جمع فرمود انگشتان مبارك خود را و نهاد آنها را ميان گوش و چشم خود بعد از آن فرمود باطل آنست كه گوئي شنيدم، و حق آنست كه گوئى ديدم، يعنى مادامى كه عيب أحديرا با چشم خود نديده و يقين نكرده بمجردّ شنيدن از ديگران باور مكن

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 140 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)نهي ازغیبت مردم

خطبه 140 صبحی صالح

140- و من كلام له ( عليه‏ السلام  ) في النهي عن غيبة الناس‏

وَ إِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَ الْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلَامَةِ أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَ الْمَعْصِيَةِ

وَ يَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ وَ الْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ

فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَ عَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ

أَ مَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ

وَ كَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذَلِكَ الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ

وَ ايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِيرِ وَ عَصَاهُ فِي الصَّغِيرِ لَجَرَاءَتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ

يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ

وَ لَا تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَةٍ

فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ

فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ

وَ لْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلًا لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُهُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج8  

و من كلام له عليه السّلام فى النهى عن غيبة الناس و هو المأة و الاربعون من المختار فى باب الخطب

و إنّما ينبغي لأهل العصمة و المصنوع إليهم في السّلامة أن يرحموا أهل الذّنوب و المعصية، و يكون الشّكر هو الغالب عليهم، و الحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الّذي عاب أخاه، و عيّره ببلواه، أما ذكر موضع ستر اللّه عليه من ذنوبه ممّا هو أعظم من الذّنب الّذي عابه به،و كيف يذمّه بذنب قد ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذّنب بعينه فقد عصى اللّه فيما سواه ممّا هو أعظم منه، و أيم اللّه لئن لم يكن عصاه في الكبير و عصاه في الصّغير لجرأته على عيب النّاس أكبر، يا عبد اللّه لا تعجل في عيب أحد بذنبه، فلعلّه مغفور له، و لا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، و ليكن الشّكر شاغلا له على معافاته ممّا ابتلى به غيره.

اللغة

(صنع) إليه معروفا من باب منع صنعا بالضّم فعله و الاسم الصنيع و الصنيعة و (عافاه) اللّه من المكروه معافاة و عافية وهب له العافية من العلل و البلاء كأعفاه

الاعراب

قوله: و يكون الشكر هو الغالب، بنصب الغالب خبر يكون و على ذلك فلفظ هو قبله فصل أتى به للدّلالة على أنّ ما بعده خبر لا تابع له، و له فائدة معنويّة نشير إليه في بيان المعنى، و على مذهب البصيريّين لا محلّ له من الاعراب، لأنّه عندهم حرف، و قال الكوفيّون: له محلّ فقال الكسائى: محلّه باعتبار ما بعده، و قال الفرّاء: باعتبار ما قبله، فمحلّه بين المبتدأ و الخبر رفع، و بين معمولي ظنّ نصب، و بين معمولي كان كما في هذا المقام رفع عند الفرّاء، و نصب عند الكسائي، و بين معمولي انّ بالعكس هذا و في بعض النّسخ الغالب بالرّفع فيكون هو مبتدأ و الغالب خبره و الجملة خبر يكون.

و قوله: فكيف بالغائب، الباء زائدة في المبتدأ و كيف خبر له قدّم عليه، و هو ظرف على مذهب الأخفش و اسم على مذهب سيبويه، فمحلّه نصب على الأوّل، و على الثّانى رفع و يتفرّع على ذلك أنّك إذا قلت كيف زيد فمعناه على الأوّل على أىّ حال زيد، و على الثّاني أ صحيح زيد مثلا أم مريض.

و أمّا في قوله و كيف يذمّه فهو حال كما نبّه عليه ابن هشام حيث قال: و يقع أى كيف خبرا قبل ما لا يستغنى عنه نحو كيف أنت و كيف كنت. و منه كيف ظننت زيدا و كيف أعلمته فرسك لأنّ ثاني مفعولي ظنّ و ثالث مفعولات اعلم خبران في الأصل، و حالا قبل ما يستغنى عنه نحو كيف جاء زيد أى على أىّ حالة جاء زيد، انتهى.

و الاستفهام هنا خارج مخرج التّعجب كأنّه عليه السّلام يتعجّب من غيبة الغائب لأخيه و من مذمة المذنب لمثله، و من هذا القبيل قوله سبحانه: كيف تكفرون باللّه، فانّه اخرج أيضا مخرج التعجّب.

و أما في قوله: أما ذكر موضع ستر اللّه عليه، حرف عرض بمنزلة لو لا فيختصّ بالفعل قال ابن هشام و قد يدّعى في ذلك أنّ الهمزة للاستفهام التقريري مثلها في ألم و ألا و أنّ مانا فئة، انتهى، و أراد بالتّقرير التّقرير بما بعد النّفى.

و قد يقال إنّها همزة الانكار، أى لانكار النّفى و قال التفتازاني: و أما العرض فمولد من الاستفهام، أى ليس بابا على حدّه، فالهمزة فيه همزة الاستفهام دخلت على النّفى و امتنع حملها على حقيقة الاستفهام لأنّه يعرف عدم النزول مثلا فالاستفهام عنه يكون طلبا للحاصل فتولّد منه بقرينة الحال عرض النزول على المخاطب و طلبه، و هى في التحقيق همزة الانكار، أى لا ينبغي لك أن لا تنزل، و انكار النّفى اثبات، انتهى.

و قال بعض المحقّقين: إنّ حروف التّحضيض تختصّ بالجمل الفعليّة الخبريّة فاذا كان فعلها مضارعا فكونها لطلب الفعل و الحضّ عليه ظاهرا، و أما إذا كان ماضيا فمعناها اللّوم على ترك الفعل إلّا أنّها تستعمل كثيرا في لوم المخاطب على‏ أنّه ترك شيئا يمكن تداركه في المستقبل، فكأنّها من حيث المعنى للتحضيض على فعل مثل ما فات، و ليكن هذا على ذكر منك ينفعك في معرفة المعنى.

و من في قوله: من ذنوبه، إمّا للابتداء كما في قوله: إنّه من سليمان، أو لبيان الجنس أعنى موضع أو للتّبعيض أو زائدة في المنصوب كما في قوله: ما اتّخذ اللّه من ولد، إلّا أنّه على قول من يجوز زيادتها في الاثبات أى ستر اللّه عليه ذنوبه، و قوله: ممّا هو أعظم، إمّا بدل من ذنوبه أو من زائدة، و يؤيّده ما في بعض النّسخ من حذف من فيكون ما هو أعظم مفعول ستر فافهم و تدبّر.

المعنى

اعلم أنّ هذا الكلام له عليه السّلام كما نبّه عليه السّيد (ره) وارد في مقام النّهى عن غيبة النّاس، و هى من أعظم الموبقات الموقع في الهلكات و الموجب لانحطاط الدّرجات لأنّ المفاسد الّتى تترتّب على ارتكابها أكثر من المفاسد التي تترتّب على سائر المنهيات، و ضرره ضرر نوعى، و ضرر سائر المعاصي شخصىّ غالبا.

بيان ذلك كما قاله الشّارح البحراني أنّه لمّا كان من المقاصد المهمّة للشّارع اجتماع النّفوس على همّ واحد و طريقة واحدة، و هى سلوك سبيل اللّه بسائر وجوه الأوامر و النّواهى و لن يتمّ ذلك إلّا بتعاون هممهم و تصافي بواطنهم و اجتماعهم على الالفة و المحبّة حتّى يكونوا بمنزلة عبد واحد في طاعة مولاه، و لن يتم ذلك إلّا بنفى الضّغائن و الأحقاد و الحسد و نحوه، و كانت الغيبة من كلّ منهم لأخيه مثيرة لضغنه، و مستدعية منه مثلها في حقّه، لاجرم كانت ضدّ المقصود الكلّى للشّارع فكانت مفسدة كليّة، انتهى.

أقول: هذا هو محصّل قوله سبحانه: تعاونوا على البرّ و التقوى و لا تعاونوا على الاثم و العدوان، و ستعرف إن شاء اللّه معنى الغيبة و الأدلّة الواردة في ذمّها و مفاسدها بعد الفراغ من شرح ما رواه السيّد (ره).

و هو قوله: (و انّما ينبغي لأهل العصمة) و هم الّذين عصمهم اللّه من المعاصي و وقيهم من الجرائر بجعل نفوسهم الأمّارة مقهورة لقوّتهم العقلانيّة بما عرّفهم من معايب المعاصي و منافع الطّاعات فحصل لهم بذلك ملكة الارتداع عن الذّنوب و الامتناع عن اقتحام المحارم و هم (المصنوع إليهم في السّلامة) أى الّذين اصطنع اللّه سبحانه إليهم و أنعم عليهم بالسّلامة من الانحراف عن صراطه المستقيم و الاعتساف عن نهجه القويم، و من الخروج من النّور إلى الظّلمات و الوقوع في مهاوى الهلكات (أن يرحموا أهل الذّنوب و المعصية) لمّا رأوا منهم الخطيئة و العصيان و الغرق في بحر الذّل و الهوان و الّتيه في وادى الضّلال و الخذلان، و الرّحمة منهم إنّما يحصل بانقاذهم الغريق من البحر العميق و إرشاد التّائه إلى الرّشاد بالتنبّه على السّداد في العمل و الاعتقاد.

(و يكون الشّكر) منهم على ما اصطنع اللّه إليهم (هو الغالب عليهم) و الاتيان بضمير الفصل لقصد تخصيص المسند إليه بالمسند أى قصر المسند على المسند إليه على حدّ قوله سبحانه: اولئك هم المفلحون، قال صاحب الكشاف في هذه الآية: فائدة الفصل الدّلالة على أنّ الوارد بعده خبر لا صفة، و التّوكيد أى توكيد الحكم بما فيه من زيادة الرّبط لا التوكيد الاصطلاحي إذ الضمير لا يؤكّد الظّاهر، و ايجاب أنّ فائدة المسند ثابتة في المسند إليه دون غيره يعني أنّ اللّازم على أهل العصمة أن يكون شكرهم على نعم اللّه سبحانه و من أعظمها عصمته له من الاقتحام في المعاصي هو الغالب عليهم دون غيره، و الشّاغل لهم عن حصائد الألسنة و عن التّعريض بعيوب النّاس (و الحاجز لهم عنهم) و عن كشف سؤاتهم و عوراتهم.

و إذا كان اللازم على أهل العصمة مع ما هم عليه من العصمة و ترك المعاصي ذلك (فكيف ب) من هو دونهم من اسراء عالم الحواس و الآخذين بهوى الأنفس و المتورطين في الجرائم و موبقات العظائم أعنى (العائب الذى عاب) و اغتاب (أخاه) بما يكرهه (و عيّره) و قرّعه (ببلواه) يعني أنّ اللائق بحال أهل العصمة إذا كان‏ترك التّعرض بعيوب النّاس فغيرهم مع ما عليهم من العيب أولى بترك التّعرض و أحرى.

و قوله (أما ذكر موضع ستر اللّه عليه من ذنوبه) توبيخ و لوم لهم على ترك الذّكر و تحضيض على تداركه في المستقبل يعني أنّه ينبغي له أن يذكر مكان ستر اللّه عليه ذنوبه مع علمه و إحاطته سبحانه بها صغائرها و كبائرها و بواطنها و ظواهرها و سوالفها و حوادثها، و قد ستر عليه من ذنوبه (مما هو أعظم من الذّنب الذي عابه به) فاذا ذكر معاملة اللّه سبحانه مع عبده هذه المعاملة و ستره عليه جرائمه و جرائره و عدم تفضيحه له مع علمه بجميع ما صدر عنه من الخطايا و الذّنوب فكيف به (و كيف يذمّه بذنب قد ركب مثله) و لا يذمّ نفسه (فان لم يكن ركب) مثل (ذلك الذّنب بعينه فقد عصى اللّه سبحانه فيما سواه ما هو أعظم منه و أيم اللّه) قسما حقا (لئن لم يكن عصاه في الكبير و عصاه في الصغير لجرأته على عيب النّاس) و غيبتهم (أكبر) و محصّل المراد أنّه لا يجوز لأحد أن يغيب أخاه لأنّه إمّا أن يكون بذنب و قد ارتكب الغائب مثله أو أكبر منه أو أصغر، فان كان بذنب قد ارتكب مثله أو أكبر كان له في عيب نفسه شغل عن عيب غيره.

و فيه قال الشّاعر:

و إذا جريت مع السّفيه كما جرى   

فكلا كما في جريه مذموم‏

و اذا عتبت على السّفيه و لمته‏

في مثل ما تأتي فأنت ظلوم‏

لاتنه عن خلق و تأتي مثله    

عار عليك إذا فعلت عظيم‏

إلى آخر الأبيات التي مرّت في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و الرابعة و إن كان بذنب ارتكب أصغر منه فهو ممنوع أيضا، لأنّ جرئته على الغيبة و إقدامه عليها أكبر المعاصي باعتبار ما يترتّب عليها من المفاسد و المضارّ الدّنيويّة و الاخرويّه.

ثمّ نادى عليه السّلام نداء استعطاف فقال (يا عبد اللّه لا تعجل في عيب أحد بذنبه‏ فلعلّه مغفور له) و لعلّه تائب عنه (و لا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه) و معاتب به.

ثمّ أكّد لهم الوصيّة بقوله (فليكفف من علم منكم عيب غيره) عن غيبته و توبيخه و تفضيحه (ل) مكان (ما يعلم من عيب نفسه و ليكن الشّكر شاغلا له على) ما أنعم اللّه سبحانه به عليه من (معافاته) و عصمته له (ممّا ابتلى به غيره)

تنبيه

في تحقيق معنى الغيبة و الأدلّة الواردة في حرمتها و ما يترتّب عليها من العقوبات و دواعيها و مستثنياتها و علاجها و كفارتها.

و قد حقّق الكلام فيها علمائنا البارعون قدّس اللّه أرواحهم في كتب الأخلاق و الفقه في مقدّمات أبواب المعايش بما لا مزيد عليه، بل قد أفرد بعضهم لتحقيقها رسالة مستقلّة فأحببنا أن نورد بعض ما فيها حسب ما اقتضته الحال و المجال لكونها من أعظم عثرات الانسان و أوبق آفات اللّسان، فأقول و باللّه التّوفيق:

الكلام في المقام في امور:

الامر الاول في تحقيق معناها، فأقول: قال الفيومى اغتابه اغتيابا إذا ذكره بما يكره من العيوب و هو حقّ و الاسم الغيبة فان كان باطلا فهو الغيبة في بهت، و في القاموس غابه عابه و ذكره بما فيه من السوء، كاغتابه و الغيبة بالكسر فعلة منه، و عن الصّحاح الغيبة أن يتكلّم خلف انسان مستور بما يغمّه لو سمعه، فان كان صدقا سمّى غيبة فان كان كذبا سمّى بهتانا.

و عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد سأله أبو ذر عن الغيبة: أنّها ذكرك أخاك بما يكرهه.

و في رواية اخرى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ تدرون ما الغيبة فقالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه فقد بهتّه.

و الظاهر أن يكون المراد بالذكر في كلامه و كلام غيره كما فهمه الأصحاب الأعمّ من الذكر القولي و إن كان عبارة الصّحاح تفيد الاختصاص، فكلّ ما يوجب التذكر للشّخص من القول و الفعل و الاشارة و غيرها فهو ذكر له، و ممّن صرّح بالعموم ثاني الشهيدين و صاحب الجواهر و شيخنا العلّامة الأنصاري في المكاسب.

قال الغزالي: إنّ الذكر باللّسان إنّما حرم لأنّ فيه تفهيم الغير نقصان أخيك و تعريفه بما يكرهه، فالتّعريض به كالتّصريح، و الفعل فيه كالقول، و الاشارة و الايماء و الغمز و الهمز و الكتابة و الحركة و كلّ ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة، فمن ذلك قول عايشة دخلت علينا امرأة فلمّا ولّت أومأت بيدي أنّها قصيرة فقال عليه السّلام اغتبتها، و من ذلك المحاكاة كأن يمشي متعارجا أو كما يمشي لأنّه أعظم في التّصوير و التّفهيم و لما رأى صلّى اللّه عليه و آله عايشة حاكت امرأة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يسرّني انّى حاكيت انسانا ولي كذا و كذا، و كذلك الغيبة بالكتابة فانّ القلم أحد اللّسانين.

قال شيخنا العلّامة الانصاري: و من ذلك تهجين المطلب الذى ذكره بعض المصنّفين بحيث يفهم منه الازراء بحال ذلك المصنّف فانّ قولك: إنّ هذا المطلب بديهى البطلان تعريض لصاحبه بأنّه لا يعرف البديهيات، بخلاف ما إذا قيل إنّه مستلزم لما هو بديهى البطلان، لأنّ فيه تعريضا بأنّ صاحبه لم ينتقل إلى الملازمة بين المطلب و بين ما هو بديهيّ البطلان، و لعلّ الملازمة نظريّة، هذا.

و المراد من الأخ في النبويّين كما صرّح به غير واحد من الأعلام هو المسلم فانّ غيبة الكافر و إن تسمّى غيبة في اللّغة إلّا أنّها لا يترتّب عليها حكم الحرمة إذ لا اخوّة بينه و بين المسلم، بل لا خلاف في جواز غيبتهم و هجوهم و سبّهم و لعنهم و شتمهم ما لم يكن قذفا و قد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسّانا بهجوهم، و قال: انّه أشدّ عليهم من رشق النّبال.

و بذلك يظهر اشتراك المخالفين للمشركين في جواز غيبتهم كما يجوز لعهنم لانتفاء الاخوّة بينهم و بين المؤمنين، و لذلك قال ثاني الشّهيدين في حدّها: و هوالقول و ما في حكمه في المؤمن بما يسوءه لو سمعه مع اتّصافه به، و في جامع المقاصد و حدّها على ما في الأخبار أن يقول المرء في أخيه ما يكرهه لو سمعه ممّا فيه، و من المعلوم أنّ اللّه تعالى عقد الاخوّة بين المؤمنين بقوله: إنّما المؤمنون اخوة، دون غيرهم و كيف يتصوّر الاخوّة بين المؤمن و المخالف بعد تواتر الرّوايات و تظافر الآيات في وجوب معاداتهم و البراءة منهم.

فانقدح بذلك فساد ما عن الأردبيلي و الخراساني (ره) من المنع عن غيبة المخالف نظرا إلى عموم أدلّة تحريمها من الكتاب و السنّة لأنّ قوله تعالى: و لا يغتب، خطاب للمكلّفين أو لخصوص المسلمين، و على التّقديرين فيعمّ المخالف و السّنة أكثرها بلفظ النّاس و المسلم و هما معا شاملان للجميع و لا استبعاد في ذلك اذ كما لا يجوز أخذ مال المخالف و قتله لا يجوز تناول عرضه.

و وجه ظهور الفساد أنّ ذيل الآية مفيد لاختصاص الخطاب بالمؤمنين، لأنّ تعليل النّهى عنها بأنّها بمنزلة أكل لحم الأخ يدلّ على اختصاص الحرمة بمن كان بينه و بين المغتاب اخوّة كما أشرنا.

قال شيخنا العلامة و توهّم عموم الآية كبعض الرّوايات لمطلق المسلم مدفوع بما علم بضرورة المذهب من عدم احترامهم و عدم جريان أحكام الاسلام عليهم إلّا قليلا مما يتوقّف استقامة نظام معاش المؤمنين عليه، مثل عدم انفعال ما يلاقيهم بالرّطوبة، و حلّ ذبايحهم و مناكحهم و حرمة دمائهم، لحكمة دفع الفتنة و فسادهم لأنّ لكلّ قوم نكاح أو نحو ذلك.

و قال صاحب الجواهر بعد نقل كلام الأردبيلي: و لعلّ صدور ذلك منه لشدّة تقدّسه و ورعه، لكن لا يخفى على الخبير الماهر الواقف على ما تظافرت به النّصوص بل تواترت من لعنهم و سبّهم و شتمهم و كفرهم و أنّهم مجوس هذه الامّة و أشرّ من النّصارى و أنجس من الكلاب أنّ مقتضى التّقدّس و الورع خلاف ذلك، و صدر الآية: الّذين آمنوا، و آخرها التشبيه بأكل لحم الأخ «إلى أن قال» و على كلّ‏حال فقد ظهر اختصاص الحرمة بالمؤمنين القائلين بامامة الأئمة الاثنى عشر دون غيرهم من الكافرين و المخالفين و لو بانكار واحد منهم.

ثمّ الظّاهر من المؤمن المغتاب بالفتح أعمّ من أن يكون حيّا أو ميّتا ذكرا أو انثى بالغا أو غير بالغ مميّزا أو غير مميّز، و قد صرّح بالعموم شيخنا السيّد العلّامة طاب رمسه في مجلس الدّرس، و مثله كاشف الرّيبة حيث صرّح بعدم الفرق بين الصّغير و الكبير و ظاهره الشّمول لغير المميّز أيضا.

و قال شيخنا العلّامة الأنصاري (قد): الظاهر دخول الصّبي المميّز المتأثّر بالغيبة لو سمعها، لعموم بعض الرّوايات المتقدّمة و غيرها الدّالة على حرمة اغتياب النّاس و أكل لحومهم مع صدق الأخ عليه كما يشهد به قوله تعالى: و إن تخالطوهم فاخوانكم في الدّين، مضافا إلى إمكان الاستدلال بالآية و إن كان الخطاب للمكلّفين بناء على عدّ أطفالهم منهم تغليبا و امكان دعوى صدق المؤمن عليه مطلقا أو في الجملة.

و على ما ذكرناه من التّعميم فلا بدّ أن يراد من السّماع في تعريفهم لها بأنّها ذكر المؤمن بما يسوءه لو سمعه الأعمّ من السّماع الفعلي، و المراد بالموصول فيما يسوءه ما يكره ظهوره سواء كره وجوده كالجذام و البرص و نحوهما أم لا كالميل إلى القبائح.

و المستفاد من بعض الرّوايات كغير واحد من الأصحاب عدم الفرق في ما يكره بين أن يكون نقصا في الدّين أو الدّنيا أو البدن أو النّسب أو الخلق أو الفعل أو القول أو ما يتعلّق به من ثوبه أو داره أو دابّته أو غير ذلك.

أمّا في الدّين فكقولك هو سارق أو كذّاب أو شارب الخمر أو خائن أو ظالم أو متهاون بالصّلاة أو الزّكاة أو لا يحسن الرّكوع أو السّجود أو لا يحترز من النّجاسات أو ليس بارّا بوالديه.

و أمّا في الدّنيا فكقوله إنّه قليل الأدب متهاون بالنّاس أو لا يرى لأحد على نفسه حقا أو يرى لنفسه الحقّ على النّاس أو أنّه كثير الكلام أو كثير الأكل أو كثير النّوم ينام في غير وقته.
و أما البدن فكما تقول إنّه طويل أو قصير أو أعمش أو أحول أو أقرع أو لونه أصفر أو أسود و نحو ذلك ممّا يسوئه.
و أمّا النسب فكقولك: أبوه فاسق أو خسيس أو حجام أو زبّال أو ليس بنجيب.
و أما الخلق فبأن تقول إنّه سيّ‏ء الخلق بخيل متكبّر مختال مراء شديد الغضب جبان عاجز ضعيف القلب متهوّر و ما يجرى مجرى ذلك.
و أما الفعل فامّا أن يكون متعلّقا بالدّين أو الدّنيا و قد مرّ مثالهما.
و أمّا القول فكقولك إنّه كذّاب أو سبّاب أو أنّه تمتام أو أعجم أو ألكن أو ألثغ أو أليغ و نحو ذلك.
و أمّا في ثوبه فكقولك إنّه واسع الكم طويل الذّيل و سخ الثّياب و نحوها.
و أمّا في داره فكما تقول أنّه مفحص قطاة أى في الصّغر أو كدير النّصارى أو نحوهما.
و أمّا في دابّته فكقولك لحصانه إنّه برذون أو لبغلته إنّها بغلة أبي دلامة أى كثيرة العيوب و لأبى دلامة ذلك قصيدة في ذكر معايبها منها قوله:أرى الشّهباء تعجن اذ غدونا برجليها و تخبزنا بيدين‏

الثاني في الأدلة الدالّة على حرمة الغيبة

و ما ترتّب عليها من الذّم و العقوبة فأقول: إنّها محرّمة بالأدلّة الأربعة أعنى الكتاب و السنّة و الاجماع و العقل، فأمّا الاجماع فواضح، و أمّا العقل فلأنّها موجبة لفساد النظام و انفصام عروة الانتظام، و عليها تبنى القبائح و منها يظهر العدوّ المكاشح على ما مرّ توضيحه في شرح كلام الامام عليه السّلام

و أما الكتاب

فمنه قوله تعالى: و لا يغتب بعضكم بعضا أيحبّ أحدكم أن‏ يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه و اتّقوا اللّه إنّ اللّه توّاب رحيم، فجعل سبحانه المؤمن أخا و عرضه كلحمه و التفكّه به أكلا و عذم شعوره بذلك بمنزلة حالة موته.
قال الفخر الرّازي: الحكمة في هذا التشبيه الاشارة إلى أنّ عرض الانسان كدمه و لحمه و هذا من باب القياس الظّاهر، و ذلك لأنّ عرض المرء أشرف من لحمه، فاذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم النّاس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأنّ ذلك ألم. و قوله: لحم أخيه آكدا في المنع لأنّ العدوّ يحمله الغضب على مضغ لحم العدوّ فقال تعالى أصدق الأصدقاء من ولدته امّك فأكل لحمه أقبح ما يكون، و قوله تعالى: ميتا، إشارة إلى دفع و هم و هو أن يقال: القول في الوجه يولم فيحرم و أما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم، فقال: أكل لحم الأخ و هو ميّت أيضا لا يؤلم، و مع هذا هو في غاية القبح لما أنّه لو اطلع عليه لتألّم كما أنّ الميّت لو أحسّ بأكل لحمه لآلمه ذلك هذا.

و الضّمير في قوله: فكرهتموه، إمّا راجع إلى الأكل المستفاد من أن يأكل، أو إلى اللّحم، أى فكما كرهتم لحمه ميتا فاكرهوا غيبته حيّا، أو الميت في قوله ميّتا، و التّقدير أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميّتا متغيّرا فكرهتموه فكأنّه صفة لقوله ميتا و يكون فيه زيادة مبالغة في التّحذير يعني الميتة إن اكلت لسبب كان نادرا و لكن إذا أنتن و أروح و تغيّر لا يؤكل أصلا فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة.
و الفاء فيه يفيد التعلّق و ترتّب ما بعدها على ما قبلها، و هو من تعلّق المسبّب بالسّبب و ترتّبه عليه كما تقول جاء فلان ماشيا فتعب، لأنّ المشى يورث التّعب فكذا الموت يورث النفرة و الكراهة إلى حدّ لا يشتهى الانسان أن يبيت في بيت فيه ميّت فكيف يقربه بحيث يأكل منه، ففيه إذا كراهة شديدة فكذلك ينبغي أن تكون حال الغيبة. 

و من الكتاب أيضا قوله سبحانه: ويل لكلّ همزة لمزة، قال اللّيث: الهمزة هو الّذي يعيبك بوجهك، و اللّمزة الّذي يعيبك بالغيب، و قيل: الهمز ما يكون‏ باللّسان و العين و الاشارة، و اللّمز لا يكون إلّا باللّسان، و قيل: هما بمعنى واحد.
و منه أيضا قوله: لا يحبّ اللّه الجهر بالسّوء من القول إلّا من ظلم، و قوله: إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذاب أليم روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو من الّذين قال اللّه عزّ و جلّ إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة.

و أما السنة فيدلّ عليها منها أخبار لا تحصى.
مثل ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الغيبة أسرع في دين الرّجل المسلم من الاكلة في جوفه.
قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الجلوس في المسجد انتظار الصّلاة عبادة ما لم يحدث، قيل يا رسول اللّه و ما يحدث قال: الاغتياب.

و فيه مسندا عن مفضّل بن عمر قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه و هدم مروّته ليسقط من أعين النّاس أخرجه اللّه من ولايته إلى ولاية الشّيطان فلا يقبله الشيطان.
و في الوسائل من المجالس باسناده عن أبي بصير عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله في وصيّة له قال: يا أبا ذر إيّاك و الغيبة فانّ الغيبة أشدّ من الزّنا، قلت: و لم ذاك يا رسول اللّه قال لأنّ الرّجل يزني فيتوب إلى اللّه فيتوب اللّه عليه، و الغيبة لا تغفر حتّى يغفرها صاحبها يا أبا ذر سباب المسلم فسوق و قتاله كفر و أكل لحمه من معاصى اللّه و حرمة ماله كحرمة دمه، قلت: يا رسول اللّه و ما الغيبة قال: ذكرك أخاك بما يكرهه، قلت يا رسول اللّه فان كان فيه الذي يذكر به قال: اعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، و إذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه.
و في الوسائل عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد مسندا عن زيد بن عليّ عن آبائه عليهم السّلام عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: تحرم الجنّة على ثلاثة: على المنّان، و على‏ المغتاب، و على مدمن الخمر.

و فيه أيضا عن أبي عبد اللّه الشّامي عن نوف البكالي أنه قال: أتيت أمير المؤمنين و هو في رحبة مسجد الكوفة فقلت: السّلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته فقال: و عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته، فقلت: يا أمير المؤمنين عظني، فقال: يا نوف أحسن يحسن إليك «إلى أن قال» قلت زدني قال: اجتنب الغيبة فانّها ادام كلاب النّار، ثمّ قال: يا نوف كذب من زعم أنّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم النّاس بالغيبة.

و في المكاسب لشيخنا العلّامة الأنصاري طاب رمسه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنه خطب يوما فذكر الرّبا و عظّم شأنه فقال: إنّ الدّرهم يصيبه الرّجل أعظم من ستّة و ثلاثين زنية، و إنّ أربى الرّبا عرض الرّجل المسلم.
و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل اللّه صلاته و لا صيامه أربعين صباحا إلّا أن يغفر له صاحبه.
و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع اللّه بينهما في الجنّة، و من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما، و كان المغتاب خالدا في النّار و بئس المصير.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذب من زعم أنّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم النّاس بالغيبة، فاجتنب الغيبة فانها ادام كلاب النّار.
و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مشى في غيبة أخيه و كشف عورته كانت أوّل خطوة خطاها وضعها في جهنّم.
و روى أنّ المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنّة و إن لم يتب فهو أوّل من يدخل النّار.
و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّ الغيبة حرام على كلّ مسلم و إنّ الغيبة ليأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب.
قال شيخنا (قد): و أكل الحسنات إمّا أن يكون على وجه الاحباط لاضمحلال ثوابهافي جنب عقابه، أو لأنها تنقل الحسنات إلى المغتاب كما في غير واحد من الأخبار و من جملتها النبوى يؤتى بأحد يوم القيامة فيوقف بين يدي الرّب عزّ و جلّ و يدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته فيه، فيقول إلهي ليس هذا كتابي لا أرى فيه حسناتي، فيقال له: إنّ ربّك لا يضلّ و لا ينسى ذهب عملك باغتياب النّاس، ثمّ يؤتى بآخر و يدفع إليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة فيقول إلهى ما هذا كتابي فانّى ما عملت هذه الطاعات، فيقال له: إنّ فلانا اغتابك فدفع حسناته إليك.

و في عقاب الأعمال باسناده عن أبي بردة قال: صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ انصرف مسرعا حتّى وضع يده على باب المسجد ثمّ نادى بأعلى صوته: يا معشر النّاس لا يدخل الجنّة من آمن بلسانه و لم يخلص الايمان إلى قلبه، لا تتّبعوا عورات المؤمنين فانّه من تتبّع عورات المؤمنين تتبّع اللّه عورته و من تتبّع اللّه عورته فيفضحه و لو في جوف بيته.

و فيه أيضا باسناده عن حفص بن غياث عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعة تؤذون أهل النّار على ما بهم من الأذى يسقون من الحميم و الجحيم ينادون بالويل و الثبور فيقول أهل النّار بعضهم لبعض: ما لهؤلاء الأربعة قد آذونا على ما بنا من الأذى: فرجل معلّق عليه تابوت من جمر، و رجل تجرى أمعاؤه صديدا و دما أسودنتنا، و رجل يسيل فوه قيحا و دما، و رجل يأكل لحمه، فيقال لصاحب التابوت: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الاذى فيقول: إنّ الأبعد مات و في عنقه أموال النّاس لم يجد لها في نفسه أداء و لا وفاء، ثمّ يقال للّذي يجرى امعاؤه: ما بال الأبعد قد آذانا على مابنا من الأذى فيقول: إنّ الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول من جسده، ثمّ يقال للّذي يسيل فوه قيحا و دما: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول: إنّ الأبعد كان يحاكي فينظر إلى كلّ كلمة خبيثة و يحاكي بها ثمّ يغتاب النّاس، ثمّ يقال للّذي يأكل لحمه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الاذي فيقول: إنّ الأبعد كان يأكل لحوم النّاس بالغيبة و يمشي بالنّميمة.

و في الأنوار النّعمانية للمحدّث الجزائري عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: مررت ليلة اسرى بي إلى السّماء على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء فقال: هؤلاء الذين يغتابون النّاس و يقعون في أعراضهم.
و فيه أيضا و روى أنّه أمر بصوم يوم و قال: لا يفطرنّ أحد حتّى آذن له، فصام النّاس حتى إذا أمسوا جعل الرّجل يجي‏ء فيقول: يا رسول اللّه ظللت صائما فأذن لي لأفطر فيأذن له، و الرّجل و الرّجل حتّى جاء رجل فقال: يا رسول اللّه فتاتان من أهلي ظللتا صائمتين فانّهما تستحيان أن يأتيانك فأذن لهما أن تفطرا فأعرض عنه، ثمّ عادوه فأعرض عنه، ثمّ عادوه فقال صلّى اللّه عليه و آله إنّهما لم تصوما و كيف صام من ظلّ هذا اليوم يأكل لحوم النّاس اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن تستقيا فرجع إليهما فأخبرهما فاستقائتا فقاءت كلّ واحدة منهما علقة من دم، فرجع إلى النّبيّ فأخبره، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفس محمّد بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النّار.
و في رواية أنّه لما أعرض عنه جاءه بعد ذلك و قال: يا رسول اللّه إنّهما و اللّه لقد قائتا و كادتا أن تموتا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ائتوني بهما فجاءتا فدعى بقدح فقال لإحداهما قيئي فقاءت من قيح و دم صديد حتّى ملأت القدح، و قال للاخرى قيئي، فقاءت كذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ هاتين صامتا عمّا أحل اللّه و أفطرتا على ما حرّم اللّه عليهما، جلست إحداهما على الاخرى فجعلتا تأكلان لحوم النّاس، و رواهما الغزالي في إحياء العلوم عن أنس مثلهما.

قال شيخنا العلّامة طاب رمسه: ثمّ إنّه قد يتضاعف عقاب المغتاب إذا كان ممّن يمدح المغتاب في حضوره، و هذا و إن كان في نفسه مباحا إلّا أنّه إذا انضمّ مع ذمه في غيبته سمّى صاحبه ذا اللسّانين يوم القيامة و تأكّد حرمته و لذا ورد في المستفيضة أنّه يجي‏ء ذو اللّسانين يوم القيامة و له لسانان من نار، فانّ لسان المدح في الحضور و إن لم يكن لسانا من نار إلّا أنّه إذا انضمّ إلى لسان الذّم في الغياب صار كذلك.

و عن المجالس بسنده عن حفص بن غياث عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من مدح أخاه المؤمن في وجهه و اغتابه من ورائه فقد انقطعت العصمة بينهما.
و عن الباقر عليه السّلام بئس العبد عبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين يطرى أخاه شاهدا و يأكله غائبا إن اعطى حسده و إن ابتلى غضبه.
الثالث في دواعى الغيبة

و هي كثيرة و قد أشار إليها الصّادق عليه السّلام اجمالا بقوله: الغيبة تتنوّع عشرة أنواع شفاء غيظ، و مساعدة قوم، و تصديق خبر بلا كشف، و تهمة، و سوء ظنّ، و حسد و سخرية، و تعجّب، و تبرّم، و تزيّن، رواه في المكاسب و الأنوار النّعمانيّة و أمّا تفصيلها فقد نبّه عليه أبو حامد الغزالي في احياء العلوم و قال:فالاول تشفى الغيظ

و ذلك إذا جرى سبب غضب به عليه فانّه إذا هاج غضبه يشتفى بذلك مساويه فيسبق اللّسان إليه بالطبع إن لم يكن ثمّ دين رادع، و قد يمتنع تشفّى الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب بالباطن فيصير حقدا ثابتا، فيكون سببا دائما لذكر المساوي فالحقد و الحسد من البواعث العظيمة على الغيبة.

الثاني موافقة الأقران و مجاملة الرفقاء و مساعدتهم على الكلامفانّهم إذا كانوا يتفكّهون بذكر الأعراض فيرى أنّه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه و نفروا عنه، فيساعدهم و يرى ذلك من حسن المعاشرة و يظنّ أنّه مجاملة في الصّحبة، و قد يغضب رفقائه فيحتاج إلى أن يغضب بغضبهم إظهارا للمساهمة في السّراء و الضراء، فيخوض معهم في ذكر العيوب و المساوى.

الثالث أن يستشعر من انسان أنّه سيقصده و يطول لسانه عليهأو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح هو حاله، و يطعن فيه ليسقط أثر شهادته أو يبتدى بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصّدق الأوّل و يستشهد به و يقول ما من عادتى الكذب فانّى أخبرتكم بكذا و كذا عن أحواله فكان كما قلت.

الرابع أن ينسب إلى شي‏ء فيريد أن يتبرّء منه فيذكر الذى فعلهو كان من حقّه أن يبرّى نفسه و لا يذكر الذي فعل فلا ينسب غيره إليه أو يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.

الخامس إرادة التصنّع و المباهات و هو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول: فلان جاهل و فهمه ركيك، و غرضه في ضمن ذلك فضل نفسه و يوهم أنّه أفضل منه أو يحذّر أن يعظّم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك.

السادس الحسد و هو أنّه ربما يحسد من يثنى الناس عليهو يحبّونه و يكرمونه فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلا إليه إلّا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند النّاس حتّى يكفّوا عن إكرامه و الثناء عليه.

السابع اللّعب و الهزل و المطايبةو ترجية الوقت بالذكر و تزيين الوقت بالذّكر فيذكر غيره بما يضحك النّاس على سبيل المحاكاة و منشاؤه التّعجب و التعجيب.

الثامن السّخرية و الاستهزاء استحقارا لهفانّ ذلك قد يجرى في الحضور و يجري أيضا في الغيبة و منشاؤه التكبّر و استصغار المستهزء به.

التاسع الرّحمةو هو مأخذ دقيق ربما يقع فيه الخواص، و هو أن يغتمّ بسبب ما يبتلى به فيقول مسكين فلان قد غمّني أمره و ما ابتلى به فيكون صادقا في دعوى الاغتمام و يلهيه الغمّ عن الحذر من ذكر اسمه، فيصير بذكره مغتابا فيكون غمّه و رحمته خيرا لكنّه ساقه الشيطان إلى شرّ من حيث لا يدرى و الترحّم و الاغتمام ممكن من دون ذكر اسمه فهيّجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه و ترحّمه.

العاشر الغضب للّه تعالىو هو كسابقه في غموض ادراكه و خفائه على الخواص فضلا عن العوام فانّه قد يغضب على منكر قارفه انسان إذا رآه أو سمعه فيظهر غضبه و يذكر اسمه و كان الواجب أن يذكر غضبه عليه بالأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر، و لا يظهر على غيره أو يستره و لا يذكر اسمه بالسّوء.

الرابع في عدم جواز استماع الغيبة

قال شيخنا في المكاسب: يحرم استماع الغيبة بلا خلاف، فقد ورد أنّ السّامع للغيبة أحد المغتابين، و الأخبار في حرمته كثيرة إلّا أنّ ما يدلّ على كونه من الكبائر كالرّواية المذكورة و نحوها ضعيفة السّند.
أقول: و من جملة الأخبار الدّالّة على حرمته ما رواه الصّدوق في عقاب الأعمال باسناده عن أبي الورد عن أبي جعفر عليه السّلام: قال من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره و أعانه نصره اللّه و أعانه في الدّنيا و الآخرة، و من لم ينصره و لم يدفع عنه و هو يقدر على نصرته حقّره اللّه عزّ و جلّ في الدّنيا و الآخرة.

و فيه أيضا في حديث طويل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و من ردّ عن أخيه غيبة سمعها في مجلس ردّ اللّه عزّ و جلّ عنه ألف باب من الشرّ في الدّنيا و الآخرة و إن لم يرد عنه كان عليه كوزر من اغتاب.
و في الوسائل عن الصّدوق باسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصّادق عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهى إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى عن الغيبة و الاستماع إليها، و نهى عن النّميمة و الاستماع إليها، و قال لا يدخل الجنّة قتات، يعني نمّاما، و نهى عن المحادثة التي يدعو إلى غير اللّه، و نهى عن الغيبة و قال: من اغتاب امرء مسلما بطل صومه و نقض وضوئه و جاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة يتأذّي به أهل الموقف، و إن مات قبل أن يتوب مات مستحلّا لما حرّم اللّه عزّ و جلّ، ألا و من تطوّل على أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردّها عنه ردّ اللّه عنه ألف باب من الشرّ في الدّنيا و الآخرة، فان لم يردّها و هو قادر على ردّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة.

قال شيخنا: و لعلّ وجه زيادة عقابه أنّه إذا لم يردّه تجرّى المغتاب على الغيبة فيصّر على هذه الغيبة و غيرها، ثمّ قال: و الظاهر أنّ الرّد غير النّهى عن الغيبة و المراد به الانتصار للغائب بما يناسب تلك الغيبة، فان كان عيبا دنيويّا انتصر له بأنّ العيب ليس إلّا ما عاب اللّه به من المعاصى التي من أكبرها ذكرك أخاك بما لم يعبه اللّه به، و إن كان عيبا دينيّا وجّهه بمحامل تخرجه عن المعصية فان لم يقبل التوجيه انتصر له بأنّ المؤمن قد يبتلى بالمعصية فينبغى أن يستغفر له و يهتم له، لا أن يعيّر عليه، لأنّ تعييرك إيّاه لعله أعظم عند اللّه من معصيته و نحوه.

ثمّ اعلم أنّ المحرم إنّما هو سماع الغيبة المحرّمة دون ما علم حلّيتها و لو كان متجاهرا عند المغتاب مستورا عند المستمع و قلنا بجواز الغيبة حينئذ للمتكلّم فالأقوى جواز الاستماع لأنّه قول غير منكر، فلا يحرم الاصغاء إليه للأصل و الرّواية الدّالة على كون السّامع أحد المغتابين تدلّ على أنّ السّامع لغيبة كقائل تلك الغيبة، فان كان القائل عاصيا كان المستمع كذلك، فيكون دليلا على الجواز فيما نحن فيه.

الخامس في مستثنيات الغيبة

أى الموارد التي يجوز فيها الغيبة جوازا بالمعنى الأعمّ، فانّ المستفاد من الأخبار أنّ حرمتها إنّما هو لأجل ما فيها من هتك عرض المؤمن و انتقاصه و تأذيه فلو لم توجب هتكا لكونه مهتوكا بدونها ككونه متجاهرا بالفسق أو لم يقصد بها الانتقاص بالذات فلا.
قال في جامع المقاصد: و ضابط الغيبة كلّ فعل يقصد به هتك عرض المؤمن و التفكّه به أو إضحاك النّاس منه، و أمّا ما كان لغرض صحيح فلا يحرم كنصيحة المستشير و التظلّم آه.
قال شيخنا العلامة: حرمة الغيبة لأجل انتقاص المؤمن و تأذّيه منه، فاذا فرض هناك مصلحة راجعة إلى المغتاب بالكسر أو الفتح أو ثالث دلّ العقل أو الشّرع على كونها أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه وجب كون الحكم على طبق أقوى المصلحتين كما هو الحال في كلّ معصية من حقوق‏اللّه و حقوق النّاس.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ مسوّغاتها امور.

الاول التظلّم

أى تظلّم المظلوم بذكر ظلم الظّالم عند من يرجو رفعه الظلم منه قال سبحانه: لا يحبّ اللّه الجهر بالسّوء من القول إلّا من ظلم، فعن تفسير القمّى أى لا يحبّ أن يجهر الرّجل بالظلم و السّوئة و يظلم إلّا من ظلم، فاطلق أن يعارض بالظلم.
قال شيخنا العلّامة: و يؤيد الحكم فيه إنّ في منع المظلوم من هذا الذي هو نوع من التّشفى حرجا عظيما، و لأنّ في تشريع الجواز مظنّة ردع للظّالم و هى مصلحة خالية عن مفسدة فيثبت الجواز، لأنّ الأحكام تابعة للمصالح، و يدلّ عليه ما روى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مطل الواجد يحلّ عقوبته و عرضه.

الثاني نصح المستشير

فانّ النّصيحة واجبة للمستشير فانّ خيانته قد تكون أقوى مفسدة من مفسدة الغيبة فقد قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفاطمة بنت قيس المشاورة في خطابها: معاوية صعلوك لا مال له و ابو الجهم لا يضع العصا على عاتقه، قال شيخنا: و كذلك النّصح من غير استشارة، فانّ من أراد تزويج امرأة و أنت تعلم بقبائحها التي يوجب وقوع الرّجل في الغيبة و الفساد لأجلها فلا ريب انّ التنبيه على بعضها و إن أوجب الوقيعة فيها أولى من ترك نصح المؤمن، مع ظهور عدّة من الأخبار في وجوبه.

الثالث الاستفتاء

بأن يقول للمفتى: ظلمني فلان حقّى فكيف طريقي في الخلاص، قال أبو حامد الغزالي و المحدّث الجزائرى: و الأسلم التّعريض، بأن يقول ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه أو زوجته، و لكن التّعيين مباح بهذا القدر، و قيّده شيخنا العلّامة بما إذا كان الاستفتاء موقوفا على ذكر الظالم بالخصوص، و إلّا فلا يجوز، و ظاهر الأخبار كظاهر كثير الأصحاب هو الاطلاق.
و استدلّوا عليه بما روى عن هند زوجة أبي سفيان أنّها قالت للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا و ولدى أ فآخذ من غير علمه‏

فقال صلّى اللّه عليه و آله: خذى ما يكفيك و ولدك بالمعروف، فذكرت الظلم و الشحّ لها و لولدها و لم يزجرها إذ كان قصدها الاستفتاء.
و بصحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ أمّي لا يدفع يد لا مس، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: احبسها، قال: قد فعلت، فقال: فامنع من يدخل عليها، قال: قد فعلت، قال: فقيّدها فانّك لا تبرّها بشي‏ء أفضل من أن تمنعها عن محارم اللّه، و احتمال كونها متجاهرة مدفوع بالأصل.

الرابع تحذير المسلم
من الشرّ و عن الوقوع في الضّرر لدنيا أو دين، لأنّ مصلحة دفع فتنة الشّر و الضّرر أولى من هتك شرّ المغتاب مثل من يريد أن يشترى مملوكا و أنت تعلم بكونه موصوفا بالسّرقة أو بعيب آخر، فسكوتك عن ذكر عيبه إضرار بالمشترى، و كذلك المبتدع الذي يخاف من إضلاله النّاس، فاذا رأيت من يتردّد إلى مبتدع أو فاسق و خفت أن يتعدّى إليه بدعته أو فسقه فلك أن تكشف مساويه.
و يدلّ عليه ما عن الكافي بسنده الصّحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم أهل الرّيب و البدع من بعدى فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة و باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الاسلام، و تحذرهم النّاس و لا تتعلّموا من بدعهم يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات و رفع لكم به الدّرجات، هذا.
و ربّما يجعل هذا المورد من باب نصح المستشير بعد تعميمه بالنّسبة إلى النصح المسبوق بالاستشارة و غيره.

الخامس قصد ردع المغتاب عن المنكر الذى يفعلهإذا لم يمكن الرّدع إلّا به فانّه أولى من ستر المنكر عليه فهو في الحقيقة إحسان في حقّه، مضافا إلى عموم أدلّة النّهى عن المنكر.

السادس باب التّرجيح و التّعديل في الرّوايةلأجل معرفة قبول الخبر و عدمه و معرفة صلاحيّته للمعارضة و عدمها، و إلّا لانسدّ باب التّعادل و التّراجيح الذي‏

هو أعظم أبواب الاجتهاد و جرت السّيرة عليه من قديم الزّمان كجريانها على الجرح في باب الشهادة و على ترجيح ما دلّ على وجوب اقامتها على ما دلّ على حرمة الغيبة على وجه الاشكال فيه، و إلّا لضاعت الحقوق في الدّماء و الأموال و غيرها و لغلب الباطل، و يلحق بذلك الشّهادة بالزّنا و غيره لاقامة الحدود.

السابع دفع الضّرر عن المغتاب في دم أو عرض أو مال و عليه يحمل ما ورد في ذمّ زرارة من عدّة أحاديث و قد ورد التّعليل بذلك في بعض الأحاديث و يلحق بذلك الغيبة للتّقية على نفس المتكلّم أو ماله أو عرضه، فانّ الضّرورات تبيح المحظورات.

الثامن ذكر الشخص بعينه الّذي صار بمنزلة الصّفة المميّزةالّتي لا يعرف إلّا به كالأعمش و الأعرج و الأشتر و الأحول و نحوها، فلا بأس به إذا صارت الصّفة في اشتهار يوصف بها الشّخص إلى حيث لا يكره ذلك صاحبها، و عليه يحمل ما صدر عن العلماء الأعلام.

التاسع إظهار العيوب الخفيّة للمريض عند الطبيب للمعالجة.

العاشر ردّ من ادّعى نسبا ليس لهفانّ مصلحة حفظ الانساب أولى من مراعات حرمة المغتاب.

الحادى عشر إذا علم اثنان عن رجل معصية
و شاهداها فأجرى أحدهما ذكره في غيبة ذلك العاصي جاز، لأنّه لا يؤثر عند السّامع شيئا و إن كان الأولى تنزيه اللّسان عن ذلك لغير غرض من الأغراض الصّحيحة خصوصا مع احتمال نسيان المخاطب لذلك أو خوف اشتهاره

الثاني عشر غيبة المتجاهر بالفسق
في ما تجاهر به، فانّ من لا يبالي بظهور فسقه بين النّاس لا يكره ذكره بالفسق و قد قال الامام عليه السّلام إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة، و في رواية اخرى من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له، و أمّا جواز غيبته في غير ما تجاهر به فقد منع منه الشّهيد الثّاني و حكى عن الشهيد الأوّل أيضا و استظهر الفاضل النراقي الجواز.

قال شيخنا العلامة الأنصاري (قد): ظاهر الرّوايات النّافية لاحترام المتجاهر و غير السّاتر هو الجواز، و استظهره في الحدائق من كلام جملة من الأعلام، و صرّح به بعض الأساطين، قال شيخنا العلامة: و ينبغي الحاق ما يتستّر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح، فمن تجاهر و العياذ باللّه باللّواط جاز اغتيابه بالتّعريض للنّساء الأجانب، و من تجاهر بقطع الطرق جاز اغتيابه بالسّرقة، و من تجاهر بكونه جلاد السّلطان يقتل النّاس و ينكلهم جاز اغتيابه بشرب الخمر، و من تجاهر بالقبايح المعروفة جاز اغتيابه بكلّ قبيح، و لعلّ هذا هو المراد بمن ألقى جلباب الحياء لا من تجاهر بمعصية خاصّة و عدّ مستورا بالنّسبة إلى غيرها كبعض عمّال الظّلمة، هذا.
و هذه الموارد المذكورة هو المعروف استثناؤها بين جمع من الأصحاب، و بعضهم قد زادوا عليها، و بعضهم قد نقصوا و لا حاجة إلى الاطناب بعد ما عرفت أنّ مدار الحرمة على قصد الانتقاص و الأذى بالذات، و اللّه العالم.

السادس فى معالجة الغيبة

و علاجها إنّما هو بالعلم بما يترتّب عليها من المفاسد الدنيوية و الأخرويّة و بالتدبّر في المضار المترتّبة عليها عاجلا و آجلا.
اما المضار الدنيوية فهو أنّها تورث العداوة و الشّحناء و توجب غضب المغتاب فيكون في مقام المكافاة و المجازاة لشنيع قولك فيغضبك و يؤذيك و يهينك و من ذلك تنبعث الفساد و ربّما يؤل الأمر إلى ما لا يمكن علاجه، بل قد يؤل إلى القتل و الجرح و الاستيصال و إتلاف الأموال و غيرها.

و اما المضار الاخروية فيحصل التنبّه عليها بالتفكّر و التدبّر في الآيات و الأخبار الواردة في ذمّها و عقوبتها، و بالعلم بأنّها توجب دخول النّار و غضب الجبار و مقته تعالى و تحبط الحسنات و تنقلها إلى ميزان حسنات المغتاب، فان لم تكن له حسنة نقل اللّه من سيئات خصمه بقدر ما استباحه من عرضه قال صلّى اللّه عليه و آله: ما النّارفي اليبس أسرع من الغيبة في حسنات العبد و إن كانت الغيبة في العيب بالخلق فليعلم أنّه عيب على الخالق فانّ من ذمّ الصنعة فقد ذمّ الصّانع، قيل لحكيم: يا قبيح الوجه، قال: ما كان خلق وجهى إلىّ فأحسنه.

و روى إنّ نوحا عليه السّلام مرّ على كلب أجرب فقال: ما هذا الكلب فنطق الكلب و قال: يا نبيّ اللّه هكذا خلقنى ربّي فان قدرت أن تغيّر صورتي بأحسن من هذه الصورة فافعل، فندم نوح على ما قال و بكى أربعين سنة فسمّاه اللّه نوحا و كان اسمه عبد الملك أو عبد الجبّار.
و روى أيضا أنّه مرّ عيسى عليه السّلام و معه الحواريّون بجيفة كلب فقال الحواريّون ما أنتن ريح هذا الكلب، فقال عليه السّلام: ما أشدّ بياض أسنانه كأنّه نهاهم عن غيبة الكلب و تعييبه، فانظر إلى عظم الخطر في تعييب النّاس فاذا لم يرض أولياء الدّين بعيب ميتة حيوان فكيف بعيب النفوس المحترمة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: طوبى لمن شغله عيب نفسه عن عيوب النّاس، فاذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك قال الشّاعر:
و أجرء من رأيت بظهر غيب على عيب الرّجال و ذو العيوب‏

فلربّما تبصر في عين أخيك القذى و لا تبصر الجذع في عينك
و مطروفة عيناه عن عيب نفسه فان لاح عيب من أخيه تبصّرا

و قد قيل للرّبيع بن خثيم: ما نراك تعيب أحدا قال: لست راضيا عن نفسي فأتفرّغ لذكر عيوب النّاس ثمّ قال:
لنفسي أبكى لست أبكى لغيرها لنفسى في نفسى عن النّاس شاغل‏

نعوذ باللّه من زلّات البيان و هفوات اللّسان و سقطات الألفاظ و رمزات الألحاظ.

السابع فى كفارة الغيبة

قال المحدّث الجزائري (ره) اعلم أنّ الواجب على المغتاب أن يندم و يتوب و يأسّف على ما فعل ليخرج من حقّ اللّه تعالى ثمّ يستحلّ المغتاب فيحلّه ليخرج‏ عن مظلمته و ينبغي أن يستحلّه و هو نادم حزين و إلّا فالمرائي قد يطلب المحالة فيكون عليه ذنب آخر، و قد ورد في كفارته حديثان: أحدهما قوله عليه السّلام: كفّارة من اغتبته أن تستغفر له، و في حديث آخر كلّما ذكرته، و معنى قوله: كلّما ذكرته على طريقة الغيبة أو كلّما عنّ في خاطرك أو جرى ذكره على لسانك بعد المحالة الاولى.

الثاني قوله صلّى اللّه عليه و آله: من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فيتحلّلها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار و لا درهم يؤخذ من حسناته فان لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فيزيد على سيئاته.
و جمع بين الحديثين شيخنا الشهيد الثّانى قدّس اللّه روحه بحمل الاستغفار له على من يبلغ غيبة المغتاب فينبغي الاقتصار على الدّعاء له و الاستغفار لأنّ في محالته إثارة للفتنة و جلبا للضّغائن، و في حكم من لم يبلغه من لم يقدر على الوصول إليه لموت أو غيبة، و حمل المحالة على من يمكن الوصول إليه مع بلوغه الغيبة قال الجزائري و يمكن الجمع بينهما بوجهين: أحدهما أنّ الاستغفار له كفّارة معجلة تكون مقارنة للغيبة و المحالة متأخّرة عنه غالبا فيجب عليه المبادرة بذلك لعدم توقّفه على التمكن و عدمه، و المحالة إذا تمكّن بعد هذا فيكون الواجب اثنين لا واحد كما هو مذكور في القول الأوّل.

الثاني حمل الاستغفار له على الاستحباب و الواجب إنّما هو المحالة لا غير، و إذا جاء إلى المغتاب فينبغي أن لا يظهر له الكلام الذي اغتاب خوفا من إثارة الشحناء و تجديد العداوة، بل يقول له: يا أخي لك حقوق عرضيّة و اريد أن تحالني منها، و نحو ذلك من العبارات المجملة، و يستحبّ للمعتذر إليه قبول العذر و المحالة استحبابا مؤكّدا، انتهى.
أقول: و الأظهر في وجه الجمع ما حكاه عن الشّهيد بل و هو الأقرب.

و التّحقيق ما حقّقه شيخنا العلّامة الأنصارى (قد) في المكاسب حيث قال:مقتضى كون الغيبة من حقوق النّاس توقّف رفعها على إسقاط صاحبها أمّا كونها من حقوق النّاس فلأنّه ظلم على المغتاب، و للأخبار في أنّ من حقّ المؤمن على المؤمن أن لا يغتابه و أنّ حرمة عرض المسلم كحرمة دمه و ماله و أمّا توقّف رفعها على إبراء ذي الحقّ فللمستفيضة المعتضدة بالأصل، ثمّ ذكر جملة من المستفيضة.
ثمّ قال: و لا فرق في مقتضي الأصل و الأخبار بين التمكّن من الوصول إلى صاحبه و تعذّره، لأنّ تعذّر البراءة لا يوجب سقوط الحقّ كما في غير هذا المقام، لكن روى السّكوني عن أبي عبد اللّه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّ كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته كلّما ذكرته، و لو صحّ سنده أمكن تخصيص الاطلاقات المتقدّمة به، فيكون الاستغفار طريقا أيضا إلى البراءة مع احتمال العدم أيضا لأنّ كون الاستغفار كفّارة لا يدلّ على البراءة، فلعلّه كفّارة للذّنب من حيث كونه حقّا للّه تعالى نظير كفّارة قتل الخطاء الّتي لا توجب برائة القاتل إلّا أن يدّعى ظهور السّياق في البراءة.

ثمّ ذكر كلام الشّهيد الثّاني (ره) و جمعه بين الخبرين المتقدّمين المتعارضين على ما تقدّم ذكره في كلام المحدّث الجزائري (ره) ثمّ أورد عليه بأنّه إن صحّ النّبوى أى ما رواه السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مسندا، فلا مانع عن العمل به بجعله طريقا إلى البراءة مطلقا في مقابل الاستبراء، و إلّا تعيّن طرحه و الرّجوع إلى الأصل و اطلاق الأخبار المتقدّمة و تعذّر الاستبراء أو وجود المفسدة فيه لا يوجب وجود مبرء آخر.

نعم أرسل بعض من قارب عصرنا عن الصّادق عليه السّلام أنّك إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحلّ منه و إن لم يبلغه فاستغفر اللّه له.
و في رواية السّكوني المرويّة في الكافي في باب الظلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من ظلم أحدا ففاته فليستغفر اللّه له فانّه كفّارة له.

و الانصاف أنّ الأخبار في هذا الباب كلّها غير نقيّة السّند و أصالة البراءة تقتضى عدم وجوب الاستحلال و لا الاستغفار، و أصالة بقاء الحقّ الثّابت للمغتاب‏بالفتح على المغتاب بالكسر تقتضي عدم الخروج منه إلّا بالاستحلال خاصّة، لكن المثبت لكون الغيبة حقّا بمعني وجوب البراءة منه ليس إلّا الأخبار الغير النّقية السّند، مع أنّ السند لو كان نقيّا كانت الدّلالة ضعيفة لذكر حقوق اخر في الرّوايات لا قائل بوجوب البراءة منها، فالقول بعدم كونه حقّا للنّاس بمعنى وجوب البراءة نظير الحقوق الماليّة لا يخلو عن قوّة، و امكان الاحتياط في خلافه بل لا يخلو عن قرب من جهة كثرة الأخبار الدالّة على وجوب الاستبراء منها بل اعتبار سند بعضها و الأحوط الاستحلال إن تيسّر و إلّا فالاستغفار، غفر اللّه لنا و لمن اغتبناه و لمن اغتابنا بحقّ محمّد و آله الطّاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

الترجمة

از جمله كلام آن امام أنام عليه السّلام است در نهى از غيبت مردمان مى‏ فرمايد: و جز اين نيست كه سزاوار است أهل عصمت و طهارت و كسانى كه انعام شده است ايشان را در سلامتى دين اين كه رحم نمايند گناهكاران و أهل معصيت را، و اين كه شود شكر خدا غالب بر ايشان و مانع ايشان از مذمت گنه‏كاران، پس چگونه است غيبت كننده كه غيبت برادر خود را كند و سرزنش نمايد او را ببلائى كه گرفتار شده است، آيا بيادش نمى ‏آرد مقام پوشانيدن خداوند تعالى بر او از گناهان او گناهى را كه بزرگتر است از گناهى كه عيب سرزنش نمود برادرشرا باو، و چگونه مذمّت ميكند او را بر گناهى كه مرتكب شده است مثل او را پس اگر نبوده باشد مرتكب آن گناه پس بتحقيق معصيت نموده خداى را در غير آن از گناهى كه بزرگتر است از آن.

و قسم بخدا هر آينه اگر نبوده باشد معصيت نموده خدا را در گناه كبير و عصيان نموده او را در گناه صغير هر آينه جرئت و جسارت او بر عيب و غيبت مردمان بزرگتر است اى بنده خدا سرعت مكن در عيب بنده بجهة گناه او پس شايد كه آن گناه آمرزيده شده او را، و أيمن مباش بر نفس خود گناه كوچك را پس شايد تو معذّب‏باشي بر آن، پس بايد كه خود دارى نمايد آن كسى كه داند از شما عيب ديگرى را از جهة آنكه ميداند از عيب خود، و بايد كه باشد شكر كردن او مشغول كننده او بر سلامتى خود از گناهى كه مبتلا شده است بأو غير او.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»