نامه 19 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

19 و من كتاب له ع إلى بعض عماله

أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَ قَسْوَةً- وَ احْتِقَاراً وَ جَفْوَةً- وَ نَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلًا لِأَنَّ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ- وَ لَا أَنْ يُقْصَوْا وَ يُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ- فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ- وَ دَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَ الرَّأْفَةِ- وَ امْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَ الْإِدْنَاءِ- وَ الْإِبْعَادِ وَ الْإِقْصَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الدهاقين الزعماء أرباب الأملاك بالسواد- واحدهم دهقان بكسر الدال و لفظه معرب- . و داول بينهم أي مرة هكذا و مرة هكذا- أمره أن يسلك معهم منهجا متوسطا- لا يدنيهم كل الدنو لأنهم مشركون- و لا يقصيهم كل الإقصاء لأنهم معاهدون- فوجب أن يعاملهم معاملة- آخذة من كل واحد من القسمين بنصيب

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

نامه 18 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(كتاب له ع إلى عبد الله بن عباس)

18 و من كتاب له ع إلى عبد الله بن عباس- و هو عامله على البصرة

وَ اعْلَمْ أَنَّ الْبَصْرَةَ مَهْبِطُ إِبْلِيسَ وَ مَغْرِسُ الْفِتَنِ- فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ- وَ احْلُلْ عُقْدَةَ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ- وَ قَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّرُكَ لِبَنِي تَمِيمٍ وَ غِلْظَتُك عَلَيْهِمْ- وَ إِنَّ بَنِي تَمِيمٍ لَمْ يَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ- إِلَّا طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ- وَ إِنَّهُمْ لَمْ يُسْبَقُوا بِوَغْمٍ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَ لَا إِسْلَامٍ- وَ إِنَّ لَهُمْ بِنَا رَحِماً مَاسَّةً وَ قَرَابَةً خَاصَّةً- نَحْنُ مَأْجُورُونَ عَلَى صِلَتِهَا- وَ مَأْزُورُونَ عَلَى قَطِيعَتِهَا- فَارْبَعْ أَبَا الْعَبَّاسِ رَحِمَكَ اللَّهُ- فِيمَا جَرَى عَلَى يَدِكَ وَ لِسَانِكَ مِنْ خَيْرٍ وَ شَرٍّ- فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذَلِكَ- وَ كُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ- وَ لَا يَفِيلَنَّ رَأْيِي فِيكَ وَ السَّلَامُ قوله ع مهبط إبليس موضع هبوطه- . و مغرس الفتن موضع غرسها و يروى و مغرس الفتن- و هو الموضع الذي ينزل فيه القوم آخر الليل للاستراحة- يقال غرسوا و أغرسوا- . و قوله ع فحادث أهلها أي تعهدهم بالإحسان- من قولك حادثت السيف بالصقال- .

و التنمر للقوم الغلظة عليهم- و المعاملة لهم بأخلاق النمر من الجرأة و الوثوب- و سنذكر تصديق قوله ع- لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر- . و الوغم الترة و الأوغام الترات- أي لم يهدر لهم دم في جاهلية و لا إسلام- يصفهم بالشجاعة و الحمية- . و مأزورون كان أصله موزورون- و لكنه جاء بالألف ليحاذي به ألف مأجورون- و قد قال النبي ص مثل ذلك- . قوله ع فاربع أبا العباس- أي قف و تثبت في جميع ما تعتمده فعلا و قولا من خير و شر- و لا تعجل به فإني شريكك فيه- إذ أنت عاملي و النائب عني- . و يعني بالشر هاهنا الضرر فقط لا الظلم و الفعل القبيح- . قوله ع و كن عند صالح ظني فيك- أي كن واقفا عنده كأنك تشاهده- فتمنعك مشاهدته عن فعل ما لا يجوز- . فال الرأي يفيل أي ضعف و أخطأ

فصل في بني تميم و ذكر بعض فضائلهم

و قد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب التاج- أن لبني تميم مآثر لم يشركهم فيها غيرهم- أما بنو سعد بن زيد مناة- فلها ثلاث خصال يعرفها العرب- إحداها كثرة العدد فإنه أضعف عددها على بني تميم- حتى ملأت السهل و الجبل عدلت مضر كثرة- و عامة العدد منها في كعب بن سعد بن زيد مناة- و لذلك قال أوس بن مغراء

كعبي من خير الكعاب كعبا
من خيرها فوارسا و عقبا
تعدل جنبا و تميم جنبا

و قال الفرزدق أيضا فيهم هذه الأبيات-

لو كنت تعلم ما برمل مويسل
فقري عمان إلى ذوات حجور

لعلمت أن قبائلا و قبائلا
من آل سعد لم تدن لأمير

 و قال أيضا

تبكي على سعد و سعد مقيمة
بيبرين قد كادت على الناس تضعف‏

 و لذلك كانت تسمى سعد الأكثرين- و في المثل في كل واد بنو سعد- . و الثانية الإفاضة في الجاهلية- كان ذلك في بني عطارد- و هم يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى قام الإسلام- و كانوا إذا اجتمع الناس أيام الحج بمنى- لم يبرح أحد من الناس دينا و سنة- حتى يجوز القائم بذلك من آل كرب بن صفوان- و قال أوس بن مغراء-

 

و لا يريمون في التعريف موقفهم
حتى يقال أجيزوا آل صفوانا

و قال الفرزدق

إذا ما التقينا بالمحصب من منى
صبيحة يوم النحر من حيث عرفوا

ترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا
و إن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

و الثالثة أن منهم أشرف بيت في العرب- الذي شرفته ملوك لخم- قال المنذر بن المنذر بن ماء السماء ذات يوم- و عنده وفود العرب- و دعا ببردي أبيه محرق بن المنذر- فقال ليلبس هذين أعز العرب و أكرمهم حسبا- فأحجم الناس فقال أحيمر بن‏خلف بن بهدلة بن عوف- بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم أنا لهما- قال الملك بما ذا- قال بأن مضر أكرم العرب و أعزها و أكثرها عديدا- و أن تميما كاهلها و أكثرها- و أن بيتها و عددها في بني بهدلة بن عوف و هو جدي- فقال هذا أنت في أصلك و عشيرتك- فكيف أنت في عترتك و أدانيك- . قال أنا أبو عشرة و أخو عشرة و عم عشرة- فدفعهما إليه- و إلى هذا أشار الزبرقان بن بدر في قوله- و بردا ابن ماء المزن عمي اكتساهما بفضل معد حيث عدت محاصله‏- قال أبو عبيدة و لهم في الإسلام خصلة- قدم قيس بن عاصم المنقري على رسول الله ص في نفر من بني سعد- فقال له رسول الله ص هذا سيد أهل الوبر- فجعله سيد خندف و قيس ممن يسكن الوبر- .

قال و أما بنو حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم- فلهم خصال كثيرة- قال في بني دارم بن مالك بن حنظلة و هو بيت مضر- فمن ذلك زرارة بن عدس بن زيد بن دارم- يقال إنه أشرف البيوت في بني تميم- و من ذلك قوس حاجب بن زرارة المرهونة عند كسرى عن مضر كلها- و في ذلك قيل

و أقسم كسرى لا يصالح واحدا
من الناس حتى يرهن القوس حاجب‏

و من ذلك في بني مجاشع بن دارم صعصعة بن ناجية بن عقال- بن محمد بن سفيان بن مجاشع- و هو أول من أحيا الوئيد- قام الإسلام و قد اشترى ثلاثمائة موءودة- فأعتقهن و رباهن- و كانت العرب تئد البنات خوف الإملاق- . و من ذلك غالب بن صعصعة و هو أبو الفرزدق- و غالب هو الذي قرى مائة ضيف- و احتمل عشر ديات لقوم لا يعرفهم- و كان من حديث ذلك- أن بني كلب‏ بن وبرة افتخرت بينها في أنديتها- فقالت نحن لباب العرب و قلبها- و نحن الذين لا ننازع حسبا و كرما- فقال شيخ منهم إن العرب غير مقرة لكم بذلك- إن لها أحسابا و إن منها لبابا و إن لها فعالا- و لكن ابعثوا مائة منكم في أحسن هيئة و بزة- ينفرون من مروا به في العرب- و يسألونه عشر ديات و لا ينتسبون له- فمن قرأهم و بذل لهم الديات- فهو الكريم الذي لا ينازع فضلا- فخرجوا حتى قدموا على أرض بني تميم و أسد- فنفروا الأحياء حيا فحيا و ماء فماء- لا يجدون أحدا على ما يريدون- حتى مروا على أكثم بن صيفي فسألوه ذلك- فقال من هؤلاء القتلى و من أنتم و ما قصتكم- فإن لكم لشأنا باختلافكم في كلامكم فعدلوا عنه- ثم مروا بقتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي- فسألوه عن ذلك- فقال من أنتم قالوا من كلب بن وبرة- فقال إني لأبغي كلبا بدم- فإن انسلخ الأشهر الحرم و أنتم بهذه الأرض- و أدرككم الخيل نكلت بكم و أثكلتكم أمهاتكم- فخرجوا من عنده مرعوبين- فمروا بعطارد بن حاجب بن زرارة فسألوه ذلك- فقال قولوا بيانا و خذوها- فقالوا أما هذا فقد سألكم قبل أن يعطيكم فتركوه- و مروا ببني مجاشع بن دارم- فأتوا على واد قد امتلأ إبلا- فيها غالب بن صعصعة يهنأ منها إبلا- فسألوه القرى و الديات- فقال هاكم البزل قبل النزول- فابتزوها من البرك و حوزوا دياتكم ثم انزلوا- فتنزلوا و أخبروه بالحال- و قالوا أرشدك الله من سيد قوم- لقد أرحتنا من طول النصب- و لو علمنا لقصدنا إليك- فذلك قول الفرزدق-

فلله عينا من رأى مثل غالب
قرى مائة ضيفا و لم يتكلم‏

و إذ نبحت كلب على الناس إنهم‏
أحق بتاج الماجد المتكرم‏

فلم يجل عن أحسابها غير غالب
جرى بعناني كل أبلج خضرم‏

قال فأما بنو يربوع بن حنظلة فمنهم- ثم من بني رباح بن يربوع عتاب بن هرمي بن رياح- كانت له ردافة الملوك ملوك آل المنذر- و ردافة الملك أن يثنى به في الشرب- و إذا غاب الملك خلفه في مجلسه- و ورث ذلك بنوه كابرا عن كابر حتى قام الإسلام- قال لبيد بن ربيعة
و شهدت أنجبة الأكارم غالبا كعبي و أرداف الملوك شهود- و يربوع أول من قتل قتيلا من المشركين- و هو واقد بن عبد الله بن ثعلبة بن يربوع حليف عمر بن الخطاب- قتل عمرو بن الحضرمي في سرية نخلة- فقال عمر بن الخطاب يفتخر بذلك-

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد

و ظل ابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القد عاند

و لها جواد العرب كلها في الإسلام- بدأ العرب كلها جودا خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي- دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك- و كان يشنؤه لكثرة بأوه و فخره- فتهجمه و تنكر له- و أغلظ في خطابه حتى قال من أنت لا أم لك- قال أ و ما تعرفني يا أمير المؤمنين- أنا من حي هم من أوفى العرب و أحلم العرب- و أسود العرب و أجود العرب و أشجع العرب و أشعر العرب- فقال سليمان و الله لتحتجن لما ذكرت- أو لأوجعن ظهرك و لأبعدن دارك- قال أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة- رهن قوسه عن العرب كلها و أوفى- و أما أحلم العرب فالأحنف بن قيس- يضرب به المثل حلما- و أما أسود العرب فقيس بن عاصم- قال له رسول الله ص هذا سيد أهل الوبر-و أما أشجع العرب فالحريش بن هلال السعدي- و أما أجود العرب فخالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي- و أما أشعر العرب فها أنا ذا عندك- قال سليمان فما جاء بك- لا شي‏ء لك عندنا فارجع على عقبك- و غمه ما سمع من عزة و لم يستطع له ردا- فقال الفرزدق في أبيات

أتيناك لا من حاجة عرضت لنا
إليك و لا من قلة في مجاشع‏

قلت و لو ذكر عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي- و قال إنه أشجع العرب لكان غير مدافع- قالوا كانت العرب تقول- لو وقع القمر إلى الأرض لما التقفه إلا عتيبة بن الحارث- لثقافته بالرمح- و كان يقال له صياد الفوارس و سم الفوارس- و هو الذي أسر بسطام بن قيس- و هو فارس ربيعة و شجاعها- و مكث عنده في القيد مدة- حتى استوفى فداءه و جز ناصيته- و خلى سبيله على ألا يغزو بني يربوع- و عتيبة هذا هو المقدم على فرسان العرب- كلها في كتاب طبقات الشجعان و مقاتل الفرسان- و لكن الفرزدق لم يذكره و إن كان تميميا- لأن جريرا يفتخر به لأنه من بني يربوع- فحملته عداوة جرير على أن عدل عن ذكره- .

قال أبو عبيدة و لبني عمرو بن تميم خصال- تعرفها لهم العرب و لا ينازعهم فيها أحد- فمنها أكرم الناس عما و عمة و جدا و جدة- و هو هند بن أبي هالة- و اسم أبي هالة نباش بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم- كانت خديجة بنت خويلد قبل‏النبي ص تحت أبي هالة- فولدت له هندا- ثم تزوجها رسول الله ص و هند بن أبي هالة غلام صغير- فتبناه النبي ص- ثم ولدت خديجة من رسول الله ص القاسم و الطاهر و زينب- و رقية و أم كلثوم و فاطمة- فكان هند بن أبي هالة أخاهم لأمهم- ثم أولد هند بن أبي هالة هند بن هند- فهند الثاني أكرم الناس جدا و جدة- يعني رسول الله ص و خديجة- و أكرم الناس عما و عمة- يعني بني النبي ص و بناته- . و منها أن لهم أحكم العرب في زمانه أكثم بن صيفي- أحد بني أسد بن عمرو بن تميم- كان أكثر أهل الجاهلية حكما و مثلا و موعظة سائرة- . و منها ذو الأعواز- كان له خراج على مضر كافة تؤديه إليه- فشاخ حتى كان يحمل على سرير- يطاف به على مياه العرب- فيؤدى إليه الخراج- و قال الأسود بن يعفر النهشلي- و كان ضريرا و لقد علمت خلاف ما تناشي أن السبيل سبيل ذي الأعواز- .

و منها هلال بن أحوز المازني- الذي ساد تميما كلها في الإسلام و لم يسدها غيره- . قال و دخل خالد بن عبد الرحمن- بن الوليد بن المغيرة المخزومي مسجد الكوفة- فانتهى إلى حلقة فيها أبو الصقعب التيمي- من تيم الرباب و المخزومي لا يعرفه- و كان أبو الصقعب من أعلم الناس فلما سمع علمه و حديثه حسده- فقال له ممن الرجل قال من تيم الرباب- فظن المخزومي أنه وجد فرصة- فقال و الله ما أنت من سعد الأكثرين- و لا من حنظلة الأكرمين و لا من عمرو الأشدين- فقال أبو الصقعب فممن أنت قال من بني مخزوم- قال و الله ما أنت من هاشم المنتخبين- و لا من أمية المستخلفين-و لا من عبد الدار المستحجبين- فبم تفخر قال نحن ريحانة قريش- قال أبو الصقعب قبحا لما جئت به- و هل تدري لم سميت مخزوم ريحانة قريش- سميت لحظوة نسائها عند الرجال فأفحمه- روى أبو العباس المبرد في كتاب الكامل- أن معاوية قال للأحنف بن قيس- و جارية بن قدامة و رجال من بني سعد معهما كلاما أحفظهم- فردوا عليه جوابا مقذعا- و امرأته فاختة بنت قرظة في بيت يقرب منهم- و هي أم عبد الله بن معاوية فسمعت ذلك- فلما خرجوا قالت يا أمير المؤمنين- لقد سمعت من هؤلاء الأجلاف كلاما تلقوك به فلم تنكر- فكدت أن أخرج إليهم فأسطو بهم- فقال معاوية إن مضر كأهل العرب و تميما كأهل مضر- و سعدا كأهل تميم و هؤلاء كأهل سعد- .

و روى أبو العباس أيضا أن عبد الملك ذكر يوما بني دارم- فقال أحد جلسائه يا أمير المؤمنين هؤلاء قوم محظوظون- يعني في كثرة النسل و نماء الذرية- فلذلك انتشر صيتهم- فقال عبد الملك ما تقول- هذا و قد مضى منهم لقيط بن زرارة و لم يخلف عقبا- و مضى قعقاع بن معبد بن زرارة و لم يخلف عقبا- و مضى محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة- و لم يخلف عقبا- و الله لا تنسى العرب هذه الثلاثة أبدا- .

قال أبو العباس إن الأصمعي قال- إن حربا كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة- فتفاقم الأمر فيها ثم مشي بين الناس بالصلح- فاجتمعوا في المسجد الجامع- قال فبعثت و أنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم- فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت- فإذا به في شملة يخلط بزرا لعنز له حلوب- فخبرته بمجتمع القوم فأمهل حتى أكلت العنز- ثم غسل الصحفة و صاح يا جارية غدينا- فأتته بزيت و تمر فدعاني- فقذرته‏ أن آكل معه- حتى إذا قضى من أكله و حاجته وطرا- وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل به يده- ثم صاح يا جارية اسقيني ماء- فأتته بماء فشربه و مسح فضله على وجهه- ثم قال الحمد لله ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام- متى نؤدي شكر هذه النعم- ثم قال علي بردائي- فأتته برداء عدني فارتدى به على تلك الشملة- قال الأصمعي فتجافيت عنه استقباحا لزيه- فلما دخل المسجد صلى ركعتين- ثم مشى إلى القوم- فلم تبق حبوة إلا حلت إعظاما له- ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الأحياء في ماله ثم انصرف- .

قال أبو العباس و حدثني أبو عثمان المازني- عن أبي عبيدة قال- لما أتى زياد بن عمرو المربد- في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي- و جاء زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي- ليثأر به من بني تميم صف أصحابه- فجعل في الميمنة بكر بن وائل و في الميسرة عبد القيس- و هم لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة- و كان زياد بن عمرو العتكي في القلب- فبلغ ذلك الأحنف بن قيس- فقال هذا غلام حدث شأنه الشهرة- و ليس يبالي أين قذف بنفسه- فندب أصحابه فجاءه حارثة بن بدر الغداني- و قد اجتمعت بنو تميم- فلما أتى قال قوموا إلى سيدكم- ثم أجلسه فناظره- فجعلوا سعدا و الرباب في القلب- و رئيسهم عبس بن طلق الطعان المعروف بأخي كهمس- و هو أحد بني صريم بن يربوع- فكانوا بحذاء زياد بن عمرو و من معه من الأزد- و جعل حارثة بن بدر الغداني في بني حنظلة بحذاء بكر بن وائل- و جعل عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس- فذلك حيث يقول حارثة بن بدر للأحنف-

سيكفيك عبس أخو كهمس
مقارعة الأزد في المربد

و يكفيك عمرو على رسلها
لكيز بن أفصى و ما عددوا

و نكفيك بكرا إذا أقبلت
بضرب يشيب له الأمرد

و لكيز بن أفصى تعم عبد القيس- قال فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف- يا معشر الأزد من اليمن و ربيعة من أهل البصرة- أنتم و الله أحب إلينا من تميم الكوفة- و أنتم جيراننا في الدار و يدنا على العدو- و أنتم بدأتمونا بالأمس و وطئتم حريمنا- و حرقتم علينا فدفعنا عن أنفسنا- و لا حاجة لنا في الشر ما طلبنا في الخير مسلكا- فتيمموا بنا طريقة مستقيمة- فوجه إليه زياد بن عمرو تخير خلة من ثلاث- إن شئت فانزل أنت و قومك على حكمنا- و إن شئت فخل لنا عن البصرة- و ارحل أنت و قومك إلى حيث شئتم- و إلا فدوا قتلانا و أهدروا دماءكم- و ليود مسعود دية المشعرة- . قال أبو العباس و تأويل قوله دية المشعرة- يريد أمر الملوك في الجاهلية- و كان الرجل إذا قتل و هو من أهل بيت المملكة- ودي عشر ديات- فبعث إليه الأحنف سنختار- فانصرفوا في يومكم فهز القوم راياتهم و انصرفوا- فلما كان الغد بعث الأحنف إليهم- إنكم خيرتمونا خلالا ليس لنا فيها خيار- أما النزول على حكمكم فكيف يكون و الكلم يقطر- و أما ترك ديارنا فهو أخو القتل- قال الله عز و جل وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ- أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ- و لكن الثالثة إنما هي حمل على المال- فنحن نبطل دماءنا و ندي قتلاكم- و إنما مسعود رجل من المسلمين- و قد أذهب الله عز و جل أمر الجاهلية- فاجتمع القوم على أن يقفوا أمر مسعود و يغمدوا السيف- و تودى سائر القتلى من الأزد و ربيعة- فضمن ذلك الأحنف- و دفع إليهم إياس بن قتادة المجاشعي رهينة- حتى يؤدي هذا المال- فرضي به القوم- ففخر بذلك الفرزدق فقال لجرير-

و منا الذي أعطى يديه رهينة
لغاري معد يوم ضرب الجماجم‏

عشية سال المربدان كلاهما
عجاجة موت بالسيوف الصوارم‏

هنالك لو تبغي كليبا وجدتها
أذل من القردان تحت المناسم‏

و يقال إن تميما في ذلك الوقت مع باديتها- و حلفائها من الأساورة و الزط و السبابجة و غيرهم- كانوا زهاء سبعين ألفا- و في ذلك يقول جرير

سائل ذوي يمن و رهط محرق
و الأزد إذ ندبوا لنا مسعودا

فأتاهم سبعون ألف مدجج‏
متسربلين يلامقا و حديدا

قال الأحنف بن قيس- فكثرت على الديات فلم أجدها في حاضرة تميم- فخرجت نحو يبرين إلى بادية تميم- فسألت عن المقصود هناك فأرشدت إلى قبة- فإذا شيخ جالس بفنائها مؤتزر بشملة محتب بحبل- فسلمت عليه و انتسبت له- فقال لي ما فعل رسول الله ص قلت توفي- قال فما فعل عمر بن الخطاب- الذي كان يحفظ العرب و يحوطها قلت توفي- قال فأي خير في حاضرتكم بعدهما- قال فذكرت له الديات- التي لزمتنا للأزد و ربيعة- قال فقال لي أقم- فإذا راع قد أراح عليه ألف بعير فقال خذها- ثم أراح علينا آخر مثلها فقال خذها- فقلت لا أحتاج إليها- قال فانصرفت بالألف عنه- و و الله ما أدري من هو إلى الساعة

 

 

نامه 17 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(ذكر بعض ما كان بين علي و معاوية يوم صفين)

17 و من كتاب له ع إلى معاوية- جوابا عن كتاب منه إليه

وَ أَمَّا طَلَبُكَ إِلَى الشَّامِ- فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لَأُعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ- وَ أَمَّا قَوْلُكَ- إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلْتِ الْعَرَبَ إِلَّا حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِيَتْ- أَلَا وَ مَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى الْجَنَّةِ- وَ مَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى النَّارِ- وَ أَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ وَ الرِّجَالِ- فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ- وَ لَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا- مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الآْخِرَةِ- وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ- فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَ لَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ- وَ لَا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ لَا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ- وَ لَا الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ وَ لَا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ- وَ لَا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَ لَا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ- وَ لَبِئْسَ الْخَلْفُ خَلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ- وَ فِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ- وَ نَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ- وَ لَمَّا أَدْخَلَ اللَّهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً- وَ أَسْلَمَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ طَوْعاً وَ كَرْهاً- كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وَ إِمَّا رَهْبَةً- عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ- وَ ذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ- فَلَا تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً- وَ لَا عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا وَ السَّلَامُ‏

يقال طلبت إلى فلان كذا- و التقدير طلبت كذا راغبا إلى فلان- كما قال تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى‏ فِرْعَوْنَ أي مرسلا- . و يروى إلا حشاشة نفس بالإفراد- و هو بقية الروح في بدن المريض- . و روي ألا و من أكله الحق فإلى النار- و هذه الرواية أليق من الرواية المذكورة- في أكثر الكتب- لأن الحق يأكل أهل الباطل- و من روى تلك الرواية أضمر مضافا تقديره أعداء الحق- و مضافا آخر تقديره أعداء الباطل- و يجوز أن يكون من أكله الحق فإلى الجنة- أي من أفضى به الحق و نصرته و القيام دونه إلى القتل- فإن مصيره إلى الجنة- فيسمى الحق لما كانت نصرته كالسبب إلى القتل- أكلا لذلك المقتول- و كذلك القول في الجانب الآخر- .

و كان الترتيب يقتضي أن يجعل هاشما بإزاء عبد شمس- لأنه أخوه في قعدد- و كلاهما ولد عبد مناف لصلبه- و أن يكون أمية بإزاء عبد المطلب- و أن يكون حرب بإزاء أبي طالب- و أن يكون أبو سفيان بإزاء أمير المؤمنين ع- لأن كل واحد من هؤلاء في قعدد صاحبه- إلا أن أمير المؤمنين ع لما كان في صفين بإزاء معاوية- اضطر إلى أن جعل هاشما بإزاء أمية بن عبد شمس- .

فإن قلت فهلا قال و لا أنا كانت- قلت قبيح أن يقال ذلك- كما لا يقال السيف أمضى من العصا- بل قبيح به أن يقولها مع أحد من المسلمين كافة- نعم قد يقولها لا تصريحا بل تعريضا- لأنه يرفع نفسه على أن يقيسها بأحد- . و هاهنا قد عرض بذلك في قوله و لا المهاجر كالطليق- فإن قلت فهل معاويةمن الطلقاء قلت نعم- كل من دخل عليه رسول الله ص مكة عنوة بالسيف فملكه- ثم من عليه عن إسلام أو غير إسلام- فهو من الطلقاء ممن لم يسلم كصفوان بن أمية- و من أسلم كمعاوية بن أبي سفيان- و كذلك كل من أسر في حرب رسول الله ص- ثم امتن عليه بفداء أو بغير فداء فهو طليق- فممن امتن عليه بفداء كسهيل بن عمرو- و ممن امتن عليه بغير فداء أبو عزة الجمحي- و ممن امتن عليه معاوضة أي أطلق- لأنه بإزاء أسير من المسلمين عمرو بن أبي سفيان بن حرب- كل هؤلاء معدودون من الطلقاء- . فإن قلت فما معنى قوله و لا الصريح كاللصيق- و هل كان في نسب معاوية شبهة ليقول له هذا- . قلت كلا إنه لم يقصد ذلك- و إنما أراد الصريح بالإسلام و اللصيق في الإسلام- فالصريح فيه هو من أسلم اعتقادا و إخلاصا- و اللصيق فيه من أسلم تحت السيف أو رغبة في الدنيا- و قد صرح بذلك- فقال كنتم ممن دخل في هذا الدين إما رغبة و إما رهبة- .

فإن قلت فما معنى قوله- و لبئس الخلف خلفا يتبع سلفا هوى في نار جهنم- و هل يعاب المسلم بأن سلفه كانوا كفارا- . قلت نعم إذا تبع آثار سلفه و احتذى حذوهم- و أمير المؤمنين ع ما عاب معاوية بأن سلفه كفار فقط- بل بكونه متبعا لهم- . قوله ع و في أيدينا بعد فضل النبوة- أي إذا فرضنا تساوي الأقدام في مآثر أسلافكم- كان في أيدينا بعد الفضل عليكم بالنبوة التي نعشنا بها الخامل- و أخملنا بها النبيه- . قوله ع على حين فاز أهل السبق- قال قوم من النحاة حين مبني هاهنا على الفتح- و قال قوم بل منصوب لإضافته إلى الفعل- . قوله ع فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا- أي لا تستلزم من أفعالك- ما يدوم به كون الشيطان ضاربا فيك بنصيب- لأنه ما كتب إليه هذه الرسالة- إلا بعد أن صار للشيطان فيه أوفر نصيب- و إنما المراد نهيه عن دوام ذلك و استمراره

ذكر بعض ما كان بين علي و معاوية يوم صفين

و ذكر نصر بن مزاحم بن بشار العقيلي في كتاب صفين- أن هذا الكتاب كتبه علي ع إلى معاوية- قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة- قال نصر أظهر علي ع أنه مصبح معاوية و مناجز له- و شاع ذلك من قوله- ففزع أهل الشام لذلك و انكسروا لقوله- و كان معاوية بن الضحاك بن سفيان- صاحب راية بني سليم مع معاوية- مبغضا لمعاوية و أهل الشام- و له هوى مع أهل العراق و علي بن أبي طالب ع- و كان يكتب بأخبار معاوية إلى عبد الله بن الطفيل العامري- و هو مع أهل العراق- فيخبر بها عليا ع- فلما شاعت كلمة علي ع وجل لها أهل الشام- و بعث ابن الضحاك إلى عبد الله بن الطفيل- إني قائل شعرا أذعر به أهل الشام و أرغم به معاوية- و كان معاوية لا يتهمه- و كان له فضل و نجدة و لسان- فقال ليلا ليستمع أصحابه-

ألا ليت هذا الليل أطبق سرمدا
علينا و إنا لا نرى بعده غدا

و يا ليته إن جاءنا بصباحه‏
وجدنا إلى مجرى الكواكب مصعدا

حذار علي إنه غير مخلف مدى
الدهر ما لب الملبون موعدا

و أما قراري في البلاد فليس لي‏
مقام و إن جاوزت جابلق مصعدا

كأني به في الناس كاشف رأسه
على ظهر خوار الرحالة أجردا

يخوض غمار الموت في مرجحنة
ينادون في نقع العجاج محمدا

فوارس بدر و النضير و خيبر
و أحد يهزون الصفيح المهندا

و يوم حنين جالدوا عن نبيهم‏
فريقا من الأحزاب حتى تبددا

هنالك لا تلوي عجوز على ابنها
و إن أكثرت من قول نفسي لك الفدا

فقل لا بن حرب ما الذي أنت صانع‏
أ تثبت أم ندعوك في الحرب قعددا

فلا رأي إلا تركنا الشام جهرة
و إن أبرق الفجفاج فيها و أرعدا

فلما سمع أهل الشام شعره أتوا به معاوية فهم بقتله- ثم راقب فيه قومه فطرده من الشام- فلحق بمصر و ندم معاوية على تسييره إياه- و قال معاوية لشعر السلمي أشد على أهل الشام من لقاء علي- ما له قاتله الله- لو صار خلف جابلق مصعدا لم يأمن عليا- أ لا تعلمون ما جابلق يقوله لأهل الشام قالوا لا- قال مدينة في أقصى المشرق ليس بعدها شي‏ء- . قال نصر و تناقل الناس كلمة علي ع- لأناجزنهم مصبحا- فقال الأشتر

قد دنا الفضل في الصباح
و للسلم رجال و للحروب رجال‏

فرجال الحروب كل خدب
مقحم لا تهده الأهوال‏

يضرب الفارس المدجج بالسيف‏
إذا فر في الوغا الأكفال‏

يا ابن هند شد الحيازيم
للموت و لا تذهبن بك الآمال‏

إن في الصبح إن بقيت لأمرا
تتفادى من هوله الأبطال‏

فيه عز العراق أو ظفر الشام
بأهل العراق و الزلزال‏

فاصبروا للطعان بالأسل السمر
و ضرب تجري به الأمثال‏

إن تكونوا قتلتم النفر البيض
و غالت أولئك الآجال‏

فلنا مثلهم غداة التلاقي‏
و قليل من مثلهم أبدال‏

يخضبون الوشيج طعنا
إذا جرت من الموت بينهم أذيال‏

طلب الفوز في المعاد و فيه‏
تستهان النفوس و الأموال‏

قال فلما انتهى إلى معاوية شعر الأشتر- قال شعر منكر من شاعر منكر- رأس أهل العراق و عظيمهم- و مسعر حربهم و أول الفتنة و آخرها- قد رأيت أن أعاود عليا و أسأله إقراري على الشام- فقد كنت كتبت إليه ذلك فلم يجب إليه- و لأكتبن ثانية فألقى في نفسه الشك و الرقة- فقال له عمرو بن العاص و ضحك- أين أنت يا معاوية من خدعة علي- قال أ لسنا بني عبد مناف قال بلى- و لكن لهم النبوة دونك- و إن شئت أن تكتب فاكتب- فكتب معاوية إلى علي ع مع رجل من السكاسك- يقال له عبد الله بن عقبة و كان من نافلة أهل العراق- أما بعد فإنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت- لم يجنها بعضنا على‏ بعض- و لئن كنا قد غلبنا على عقولنا- لقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى- و نصلح به ما بقي- و قد كنت سألتك الشام على أن تلزمني لك بيعة و طاعة- فأبيت ذلك علي فأعطاني الله ما منعت- و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس- فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو- و لا أخاف من الموت إلا ما تخاف- و قد و الله فارقت الأجناد- و ذهبت الرجال و نحن بنو عبد مناف- ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز- و لا يسترق به حر و السلام- .

فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي ع قرأه- ثم قال العجب لمعاوية و كتابه- و دعا عبيد بن أبي رافع كاتبه فقال اكتب جوابه- أما بعد فقد جاءني كتابك- تذكر أنك لو علمت و علمنا أن الحرب تبلغ بنا و بك- ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض- فإني لو قتلت في ذات الله و حييت- ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة- لم أرجع عن الشدة في ذات الله و الجهاد لأعداء الله- و أما قولك إنه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى- فإني ما نقصت عقلي و لا ندمت على فعلي- و أما طلبك الشام- فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس- و أما استواؤنا في الخوف و الرجاء- فلست أمضى على الشك مني على اليقين- و ليس أهل الشام بأحرص على الدنيا- من أهل العراق على الآخرة- و أما قولك إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض- فلعمري إنا بنو أب واحد- و لكن ليس أمية كهاشم و لا حرب كعبد المطلب- و لا المهاجر كالطليق و لا المحق كالمبطل- و في أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز- و أعززنا بها الذليل و السلام – .

فلما أتى معاوية كتاب علي ع- كتمه عن عمرو بن العاص أياما- ثم دعاه‏فاقرأه إياه فشمت به عمرو- و لم يكن أحد من قريش أشد إعظاما لعلي- من عمرو بن العاص منذ يوم لقيه و صفح عنه- فقال عمرو فيما كان أشار به على معاوية-

ألا لله درك يا ابن هند
و در الأمرين لك الشهود

أ تطمع لا أبا لك في علي‏
و قد قرع الحديد على الحديد

و ترجو أن تحيره بشك
و تأمل أن يهابك بالوعيد

و قد كشف القناع و جر حربا
يشيب لهولها رأس الوليد

له جأواء مظلمة طحون
فوارسها تلهب كالأسود

يقول لها إذا رجعت إليه‏
و قد ملت طعان القوم عودي‏

فإن وردت فأولها ورودا
و إن صدت فليس بذي صدود

و ما هي من أبي حسن بنكر
و لا هو من مسائك بالبعيد

و قلت له مقالة مستكين
ضعيف الركن منقطع الوريد

دعن لي الشام حسبك يا ابن هند
من السوآة و الرأي الزهيد

و لو أعطاكها ما ازددت عزا
و لا لك لو أجابك من مزيد

فلم تكسر بذاك الرأي عودا
لركته و لا ما دون عود

فلما بلغ معاوية شعر عمرو دعاه- فقال له العجب لك- تفيل رأيي و تعظم عليا و قد فضحك- فقال أما تفييلي رأيك فقد كان- و أما إعظامي عليا فإنك بإعظامه أشد معرفة مني- و لكنك تطويه و أنا أنشره- و أما فضيحتي فلم يفتضح امرؤ لقي أبا حسن

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

نامه 16 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

16 و كان يقول ع لأصحابه عند الحرب

لَا تَشْتَدَّنَّ عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ- وَ لَا جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ- وَ أَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا- وَ وَطِّنُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا- وَ اذْمُرُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الطَّعْنِ الدَّعْسِيِّ وَ الضَّرْبِ الطِّلَحْفِيِّ- وَ أَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ- وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- مَا أَسْلَمُوا وَ لَكِنِ اسْتَسْلَمُوا وَ أَسَرُّوا الْكُفْرَ- فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَيْهِ أَظْهَرُوهُ قال لا تستصعبوا فرة تفرونها بعدها كرة- تجبرون بها ما تكسر من حالكم- و إنما الذي ينبغي لكم أن تستصعبوه فرة لا كرة بعدها- و هذا حض لهم على أن يكروا- و يعودوا إلى الحرب إن وقعت عليهم كسرة- . و مثله قوله و لا جولة بعدها حملة- و الجولة هزيمة قريبة ليست بالممعنة- . و اذمروا أنفسكم من ذمره على كذا أي حضه عليه- و الطعن الدعسي الذي يحشى به أجواف الأعداء- و أصل الدعس الحشو دعست الوعاء حشوته- . و ضرب طلحفي بكسر الطاء و فتح اللام أي شديد- و اللام زائدة- .

ثم أمرهم بإماتة الأصوات- لأن شدة الضوضاء في الحرب أمارة الخوف و الوجل- . ثم أقسم أن معاوية و عمرا و من والاهما من قريش ما أسلموا- و لكن استسلموا خوفا من السيف و نافقوا- فلما قدروا على إظهار ما في أنفسهم أظهروه- و هذا يدل على أنه ع جعل محاربتهم له كفرا- . و قد تقدم في شرح حال معاوية و ما يذكره- كثير من أصحابنا من فساد عقيدته ما فيه كفاية

نبذ من الأقوال المتشابهة في الحرب

و أوصى أكثم بن صيفي قوما نهضوا إلى الحرب- فقال ابرزوا للحرب و ادرعوا الليل- فإنه أخفى للويل و لا جماعة لمن اختلف- و اعلموا أن كثرة الصياح من الفشل- و المرء يعجز لا محالة- . و سمعت عائشة يوم الجمل أصحابها يكبرون- فقالت لا تكبروا هاهنا- فإن كثرة التكبير عند القتال من الفشل- . و قال بعض السلف- قد جمع الله أدب الحرب في قوله تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا الآيتين- . و قال عتبة بن ربيعة لقريش يوم بدر- أ لا ترونهم يعني أصحاب النبي ص جثيا على الركب- يتلمظون تلمظ الحيات- .

و أوصى عبد الملك بن صالح أمير سرية بعثها- فقال أنت تاجر الله لعباده- فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحا تجر- و إلا احتفظ برأس المال- و لا تطلب‏ الغنيمة حتى تحوز السلامة- و كن من احتيالك على عدوك- أشد حذرا من احتيال عدوك عليك- . و في الحديث المرفوع إنه ص قال لزيد بن حارثة لا تشق جيشك- فإن الله تعالى ينصر القوم بأضعفهم و قال ابن عباس و ذكر عليا ع ما رأيت رئيسا يوزن به لقد رأيته يوم صفين- و كأن عينيه سراجا سليط- و هو يحمس أصحابه إلى أن انتهى إلي و أنا في كنف- فقال يا معشر المسلمين استشعروا الخشية- و تجلببوا السكينة و أكملوا اللأمة – … الفصل المذكور فيما تقدم‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

نامه 15 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

15 و كان ع يقول إذا لقي العدو محاربا

اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ وَ مُدَّتِ الْأَعْنَاقُ- وَ شَخَصَتِ الْأَبْصَارُ وَ نُقِلَتِ الْأَقْدَامُ وَ أُنْضِيَتِ الْأَبْدَانُ- اللَّهُمَّ قَدْ صَرَّحَ مَكْنُونُ الشَّنَآنِ- وَ جَاشَتْ مَرَاجِلُ الْأَضْغَانِ- اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ غَيْبَةَ نَبِيِّنَا- وَ كَثْرَةَ عَدُوِّنَا وَ تَشَتُّتَ أَهْوَائِنَا- رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ- وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ أفضت القلوب أي دنت و قربت- و منه أفضى الرجل إلى امرأته أي غشيها- و يجوز أن يكون أفضت أي بسرها فحذف المفعول- . و أنضيت الأبدان هزلت- و منه النضو و هو البعير المهزول- . و صرح انكشف و الشنئان البغضة- . و جاشت تحركت و اضطربت- . و المراجل جمع مرجل و هي القدر- . و الأضغان الأحقاد واحدها ضغن- .

و أخذ سديف مولى المنصور هذه اللفظة- فكان يقول في دعائه- اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا و تشتت أهوائنا- و ما شملنا من زيغ الفتن- و استولى علينا من غشوة الحيرة- حتى عاد فينا دولة بعد القسمة- و إمارتنا غلبة بعد المشورة- وعدنا ميراثا بعد الاختيار للأمة- و اشتريت الملاهي و المعازف بمال اليتيم و الأرملة- و رعى في مال الله من لا يرعى له حرمة- و حكم في أبشار المؤمنين أهل الذمة- و تولى القيام بأمورهم فاسق كل محلة- فلا ذائد يذودهم عن هلكة- و لا راع ينظر إليهم بعين رحمة- و لا ذو شفقة يشبع الكبد الحرى من مسغبة- فهم أولو ضرع و فاقة و أسراء فقر و مسكنة- و حلفاء كئابة و ذلة- اللهم و قد استحصد زرع الباطل و بلغ نهايته- و استحكم عموده و استجمع طريده- و حذف وليده و ضرب بجرانه- فأتح له من الحق يدا حاصدة- تجذ سنامه و تهشم سوقه- و تصرع قائمه ليستخفي الباطل بقبح حليته- و يظهر الحق بحسن صورته- . و وجدت هذه الألفاظ- في دعاء منسوب إلى علي بن الحسين زين العابدين ع- و لعله من كلامه و قد كان سديف يدعو به

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

نامه 14 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(قصة فيروز بن يزدجرد)

14 و من وصية له ع لعسكره بصفين قبل لقاء العدو

لَا تُقَاتِلُونَهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ- فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ- وَ تَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ- فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ- فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَ لَا تُصِيبُوا مُعْوِراً- وَ لَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ- وَ لَا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى- وَ إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَ سَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ- فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى وَ الْأَنْفُسِ وَ الْعُقُولِ- إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَ إِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ- وَ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- بِالْفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ- فَيُعَيَّرُ بِهَا وَ عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ نهى أصحابه عن البغي و الابتداء بالحرب- و قد روي عنه أنه قال ما نصرت على الأقران الذين قتلتهم- إلا لأني ما ابتدأت بالمبارزة – و نهى إذا وقعت الهزيمة عن قتل المدبر- و الإجهاز على الجريح و هو إتمام قتله- . قوله ع و لا تصيبوا معورا- هو من يعتصم منك في الحرب- بإظهار عورته لتكف عنه- و يجوز أن يكون المعور هاهنا المريب- الذي يظن أنه من القوم و أنه حضر للحرب و ليس منهم- لأنه حضر لأمر آخر- . قوله ع- و لا تهيجوا النساء بأذى أي لا تحركوهن- .و الفهر الحجر و الهراوة العصا- . و عطف و عقبه على الضمير- المستكن المرفوع في فيعير- و لم يؤكد للفصل بقوله بها- كقوله تعالى ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا- لما فصل بلا عطف و لم يحتج إلى تأكيد

نبذ من الأقوال الحكيمة

و مما ورد في الشعر في هذا المعنى قول الشاعر-

إن من أعظم الكبائر عندي
قتل بيضاء حرة عطبول‏

كتب القتل و القتال علينا
و على المحصنات جر الذيول‏

و قالت امرأة عبد الله بن خلف الخزاعي بالبصرة- لعلي ع بعد ظفره و قد مر ببابها- يا علي يا قاتل الأحبة لا مرحبا بك- أيتم الله منك ولدك- كما أيتمت بني عبد الله بن خلف فلم يرد عليها- و لكنه وقف و أشار إلى ناحية من دارها- ففهمت إشارته فسكتت و انصرفت- و كانت قد سترت عندها عبد الله بن الزبير- و مروان بن الحكم- فأشار إلى الموضع الذي كانا فيه- أي لو شئت أخرجتهما فلما فهمت انصرفت- و كان ع حليما كريما- . و كان عمر بن الخطاب إذا بعث أمراء الجيوش يقول- بسم الله و على عون الله‏ و بركته- فامضوا بتأييد الله و نصره- أوصيكم بتقوى الله و لزوم الحق و الصبر- فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله- و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين- و لا تجبنوا عند اللقاء و لا تمثلوا عند الغارة- و لا تسرفوا عند الظهور- و لا تقتلوا هرما و لا امرأة و لا وليدا- و توقوا أن تطئوا هؤلاء عند التقاء الزحفين- و عند حمة النهضات و في شن الغارات- و لا تغلوا عند الغنائم- و نزهوا الجهاد عن غرض الدنيا- و أبشروا بالأرباح في البيع الذي بايعتم به- و ذلك هو الفوز العظيم- .

و استشار قوم أكثم بن صيفي في حرب قوم أرادوهم- و سألوه أن يوصيهم- فقال أقلوا الخلاف على أمرائكم و اثبتوا- فإن أحزم الفريقين الركين- و رب عجلة تهب ريثا- . و كان قيس بن عاصم المنقري إذا غزا- شهد معه الحرب ثلاثون من ولده- يقول لهم إياكم و البغي- فإنه ما بغى قوم قط إلا ذلوا- قالوا فكان الرجل من ولده يظلم- فلا ينتصف مخافة الذل- . قال أبو بكر يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة- و كانوا اثني عشر ألفا- فهزموا يومئذ هزيمة قبيحة- و أنزل الله تعالى قوله وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ- فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً- . و كان يقال لا ظفر مع بغي- و لا صحة مع نهم و لا ثناء مع كبر- و لا سؤدد مع شح

قصة فيروز بن يزدجرد حين غزا ملك الهياطلة

و من الكلمات المستحسنة في سوء عاقبة البغي- ما ذكره ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار- إن فيروز بن يزدجرد بن بهرام لما ملك- سار بجنوده نحو بلاد الهياطلة- فلما انتهى إليهم اشتد رعب ملكهم أخشنوار منه و حذره- فناظر أصحابه و وزراءه في أمره- فقال رجل منهم- أعطني موثقا من الله و عهدا تطمئن إليه نفسي- أن تكفيني الغم بأمر أهلي و ولدي- و أن تحسن إليهم و تخلفني فيهم- ثم اقطع يدي و رجلي- و ألقني في طريق فيروز حتى يمر بي هو و أصحابه- و أنا أكفيك أمرهم- و أورطهم مورطا تكون فيه هلكتهم- فقال له أخشنوار- و ما الذي تنتفع به من سلامتنا و صلاح حالنا- إذا أنت هلكت و لم تشركنا في ذلك- فقال إني قد بلغت ما كنت أحب أن أبلغ من الدنيا- و أنا موقن أن الموت لا بد منه- و إن تأخر أياما قليلة- فأحب أن أختم عملي بأفضل ما يختم به الأعمال- من النصيحة بسلطاني- و النكاية في عدوي فيشرف بذلك عقبي- و أصيب سعادة و حظوة فيما أمامي- .

ففعل أخشنوار به ذلك- و حمله فألقاه في الموضع الذي أشار إليه- فمر به فيروز في جنوده فسأله عن حاله- فأخبره أن أخشنوار فعل به ما يراه و أنه شديد الأسف- كيف لا يستطيع أن يكون أمام الجيش في غزو بلاده- و تخريب مدينته- و لكنه سيدل الملك على طريق هو أقرب من هذا الطريق- الذي يريدون سلوكه و أخفى- فلا يشعر أخشنوار حتى يهجم عليه فينتقم الله منه بكم- و ليس في هذا الطريق من المكروه إلا تغور يومين- ثم تفضون إلى كل ما تحبون- .

فقبل فيروز قوله- بعد أن أشار إليه وزراؤه بالاتهام له- و الحذر منه و بغير ذلك- فخالفهم و سلك تلك الطريق- فانتهوا بعد يومين إلى موضع من المفازة- لا صدر لهم عنه و لا ماء معهم و لا بين أيديهم- و تبين لهم أنهم قد خدعوا- فتفرقوا في تلك المفازة يمينا و شمالا يلتمسون الماء- فقتل العطش أكثرهم- و لم يسلم مع فيروز إلا عدة يسيرة- فانتهى إليهم أخشنوار بجيشه- فواقعهم في تلك الحال التي هم فيها- من القلة و الضر و الجهد- فاستمكنوا منهم بعد أن أعظموا الكناية فيهم- . و أسر فيروز فرغب أخشنوار أن يمن عليه- و على من بقي من أصحابه على أن يجعل له عهد الله و ميثاقه- ألا يغزوهم أبدا ما بقي- و على أن يحد فيما بينه و بين مملكتهم حدا لا يتجاوزه جنوده- فرضي أخشنوار بذلك فخلى سبيله- و جعلا بين المملكتين حجرا لا يتجاوزه كل واحد منهما- . فمكث فيروز برهة من دهره- ثم حمله الأنف على أن يعود لغزو الهياطلة- و دعا أصحابه إلى ذلك فنهوه عنه- و قالوا إنك قد عاهدته- و نحن نتخوف عليك عاقبة البغي و الغدر- مع ما في ذلك من العار و سوء القالة- . فقال لهم- إنما اشترطت له ألا أجوز الحجر الذي جعلناه بيننا- و أنا آمر بالحجر فيحمل أمامنا على عجل- .

فقالوا أيها الملك- إن العهود و المواثيق التي يتعاطاها الناس بينهم- لا تحمل على ما يسره المعطي لها- و لكن على ما يعلن به المعطى إياها- و إنما جعلت عهد الله و ميثاقه على الأمر الذي عرفه- لا على الأمر الذي لم يخطر له ببال- فأبى فيروز و مضى في غزوته حتى انتهى إلى الهياطلة- و تصاف الفريقان للقتال فأرسل أخشنوار إلى فيروز يسأله أن يبرز فيما بين صفيهم- فخرج إليه فقال له أخشنوار- إني قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا- إلا الأنف مما أصابك- و لعمري إن كنا قد احتلنا لك بما رأيت- لقد كنت التمست منا أعظم منه- و ما ابتدأناك ببغي و لا ظلم- و ما أردنا إلا دفعك عن أنفسنا و حريمنا- و لقد كنت جديرا- أن تكون من سوء مكافاتنا بمننا عليك و على من معك- و من نقض العهد و الميثاق الذي أكدته على نفسك أعظم أنفا- و أشد امتعاضا مما نالك منا- فإنا أطلقناكم و أنتم أسارى- و مننا عليكم و أنتم على الهلكة مشرفون- و حقنا دماءكم و لنا على سفكها قدرة- و إنا لم نجبرك على ما شرطت لنا- بل كنت أنت الراغب إلينا فيه و المريد لنا عليه- ففكر في ذلك و ميز بين هذين الأمرين- فانظر أيهما أشد عارا و أقبح سماعا- إن طلب رجل أمرا فلم يقدر له و لم ينجح في طلبته- و سلك سبيلا فلم يظفر فيه ببغيته- و استمكن منه عدوه على حال جهد و ضيعة منه و ممن هم معه- . فمن عليهم و أطلقهم على شرط شرطوه- و أمر اصطلحوا عليه- فاصطبر بمكروه القضاء و استحيا من الغدر و النكث- أن يقال نقض العهد و أخفر الميثاق- مع أني قد ظننت أنه يزيدك لجاجة- ما تثق به من كثرة جنودك- و ما ترى من حسن عدتهم- و ما أجدني أشك أنهم- أو أكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم- عارفون بأنك قد حملتهم على غير الحق- و دعوتهم إلى ما يسخط الله- و أنهم في حربنا غير مستبصرين- و نياتهم على مناصحتك مدخولة- .

فانظر ما قدر غناء من يقاتل على هذه الحال- و ما عسى أن يبلغ نكايته في عدوه- إذا كان عارفا بأنه إن ظفر فمع عار و إن قتل فإلى النار- و أنا أذكرك الله الذي جعلته‏ على نفسك كفيلا- و أذكرك نعمتي عليك و على من معك- بعد يأسكم من الحياة و إشفائكم على الممات- و أدعوك إلى ما فيه حظك و رشدك من الوفاء بالعهد- و الاقتداء بآبائك و أسلافك الذين مضوا على ذلك- في كل ما أحبوه و كرهوه- فأحمدوا عواقبه و حسن عليهم أثره- . و مع ذلك فإنك لست على ثقة من الظفر بنا- و بلوغ نهمتك فينا- و إنما تلتمس أمرا يلتمس منك مثله- و تنادي عدوا لعله يمنح النصر عليك- فاقبل هذه النصيحة فقد بالغت في الاحتجاج عليك- و تقدمت بالإعذار إليك- و نحن نستظهر بالله الذي اعتذرنا إليه- و وثقنا بما جعلت لنا من عهده- إذا استظهرت بكثرة جنودك- و ازدهتك عدة أصحابك فدونك هذه النصيحة- فبالله ما كان أحد من أصحابك يبالغ لك أكثر منها- و لا يزيدك عليها- و لا يحرمنك منفعتها مخرجها مني- فإنه ليس يزرى بالمنافع و المصالح عند ذوي الآراء- صدورها عن الأعداء- كما لا تحسن المضار أن تكون على أيدي الأصدقاء- .

و اعلم أنه ليس يدعوني إلى ما تسمع- من مخاطبتي إياك ضعف من نفسي- و لا من قلة جنودي- و لكني أحببت أن ازداد بذلك حجة و استظهارا- فأزداد به للنصر و المعونة من الله استيجابا- و لا أوثر على العافية و السلامة شيئا- ما وجدت إليهما سبيلا- . فقال فيروز لست ممن يردعه عن الأمر يهم به الوعيد- و لا يصده التهدد و الترهيب- و لو كنت أرى ما أطلب غدرا مني- إذا ما كان أحد أنظر و لا أشد إبقاء مني على نفسي- و قد يعلم الله أنى لم أجعل لك العهد و الميثاق- إلا بما أضمرت في نفسي- فلا يغرنك الحال التي كنت صادفتنا عليها- من القلة و الجهد و الضعف- .

فقال أخشنوار- لا يغرنك ما تخدع به نفسك من حملك الحجر أمامك- فإن الناس لو كانوا يعطون العهود- على ما تصف من إسرار أمر و إعلان آخر- إذا ما كان ينبغي لأحد أن يغتر بأمان أو يثق بعهد- و إذا ما قبل الناس شيئا مما كانوا يعطون من ذلك- و لكنه وضع على العلانية- و على نية من تعقد له العهود و الشروط ثم انصرف- . فقال فيروز لأصحابه لقد كان أخشنوار حسن المحاورة- و ما رأيت للفرس الذي كان تحته نظيرا في الدواب- فإنه لم يزل قوائمه- و لم يرفع حوافره عن مواضعها و لا صهل- و لا أحدث شيئا يقطع به المحاورة في طول ما تواقفنا- .

و قال أخشنوار لأصحابه- لقد وافقت فيروز كما رأيتم و عليه السلاح كله فلم يتحرك- و لم ينزع رجله من ركابه و لا حنى ظهره- و لا التفت يمينا و لا شمالا- و لقد توركت أنا مرارا و تمطيت على فرسي- و التفت إلى من خلفي و مددت بصري فيما أمامي- و هو منتصب ساكن على حاله- و لو لا محاورته إياي لظننت أنه لا يبصرني- و إنما أراد بما وصفا من ذلك- أن ينشر هذان الحديثان في أهل عسكرهما- فيشتغلوا بالإفاضة فيهما عن النظر فيما تذاكرا- . فلما كان في اليوم الثاني- أخرج أخشنوار الصحيفة التي كتبها لهم فيروز- و نصبها على رمح ليراها أهل عسكر فيروز- فيعرفوا غدره و بغيه- و يخرجوا من متابعته على هواه- فما هو إلا أن راوها حتى انتقض عسكرهم و اختلفوا- و ما تلبثوا إلا يسيرا حتى انهزموا- و قتل منهم خلق كثير و هلك فيروز- فقال أخشنوار لقد صدق الذي قال لا مرد لما قدر- و لا شي‏ء أشد إحالة لمنافع الرأي من الهوى و اللجاج- و لا أضيع من نصيحة يمنحها من لا يوطن نفسه على قبولها- و الصبر على مكروهها- و لا أسرع عقوبة و أسوأ عاقبة من البغي و الغدر- و لا أجلب لعظيم العار و الفضوح- من الأنف و إفراط العجب

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

 

نامه 13 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(نسب الأشتر و ذكر بعض فضائله)

13 و من كتاب له ع إلى أميرين من أمراء جيشه

وَ قَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا- وَ عَلَى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ- فَاسْمَعَا لَهُ وَ أَطِيعَا وَ اجْعَلَاهُ دِرْعاً وَ مِجَنّاً- فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَا يُخَافُ وَهْنُهُ وَ لَا سَقْطَتُهُ- وَ لَا بُطْؤُهُ عَمَّا الْإِسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ- وَ لَا إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا الْبُطْءُ عَنْهُ أَمْثَلُ

فصل في نسب الأشتر و ذكر بعض فضائله

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة- بن خزيمة بن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو- بن علة بن خالد بن مالك بن أدد- و كان فارسا شجاعا رئيسا من أكابر الشيعة و عظمائها- شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين ع و نصره- و قال فيه بعد موته رحم الله مالكا- فلقد كان لي كما كنت لرسول الله ص – . و لما قنت علي ع على خمسة و لعنهم- و هم معاوية و عمرو بن العاص و أبو الأعور السلمي- و حبيب بن مسلمة و بسر بن أرطاة- قنت معاوية على خمسة- و هم علي و الحسن و الحسين ع- و عبد الله بن العباس و الأشتر و لعنهم- .

و قد روي أنه قال- لما ولى علي ع بني العباس على الحجاز و اليمن و العراق- فلما ذا قتلنا الشيخ بالأمس- و إن عليا ع لما بلغته هذه الكلمة أحضره- و لاطفه و اعتذر إليه- و قال له فهل وليت حسنا أو حسينا- أو أحدا من ولد جعفر أخي- أو عقيلاأو واحدا من ولده- و إنما وليت ولد عمي العباس- لأني سمعت العباس يطلب من رسول الله ص الإمارة مرارا- فقال له رسول الله ص يا عم- إن الإمارة إن طلبتها وكلت إليها- و إن طلبتك أعنت عليها – و رأيت بنيه في أيام عمر و عثمان يجدون في أنفسهم- إذ ولى غيرهم من أبناء الطلقاء و لم يول أحدا منهم- فأحببت أن أصل رحمهم- و أزيل ما كان في أنفسهم- و بعد- فإن علمت أحدا من أبناء الطلقاء هو خير منهم فأتني به- فخرج الأشتر و قد زال ما في نفسه- .

و قد روى المحدثون حديثا- يدل على فضيلة عظيمة للأشتر رحمه الله- و هي شهادة قاطعة من النبي ص بأنه مؤمن- روى هذا الحديث أبو عمر بن عبد البر- في كتاب الإستيعاب في حرف الجيم- في باب جندب قال أبو عمر- لما حضرت أبا ذر الوفاة و هو بالربذة- بكت زوجته أم ذر- فقال لها ما يبكيك- فقالت ما لي لا أبكي و أنت تموت بفلاة من الأرض- و ليس عندي ثوب يسعك كفنا- و لا بد لي من القيام بجهازك- فقال أبشري و لا تبكي- فإني سمعت رسول الله ص يقول لا يموت بين امرءين مسلمين ولدان أو ثلاثة- فيصبران و يحتسبان فيريان النار أبدا – و قد مات لنا ثلاثة من الولد- و سمعت أيضا رسول الله ص يقول لنفر أنا فيهم ليموتن أحدكم بفلاة من الأرض- يشهده عصابة من المؤمنين – و ليس من أولئك النفر أحد إلا و قد مات في قرية و جماعة- فأنا لا أشك ذلك الرجل- و الله ما كذبت و لا كذبت فانظري الطريق-

قالت أم ذر فقلت أنى و قد ذهب الحاج و تقطعت الطرق- فقال اذهبي فتبصري- قالت فكنت‏أشتد إلى الكثيب فأصعد فأنظر- ثم أرجع إليه فأمرضه- فبينا أنا و هو على هذه الحال- إذ أنا برجال على ركابهم- كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم- فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي- و قالوا يا أمة الله ما لك- فقلت امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه- قالوا و من هو قلت أبو ذر- قالوا صاحب رسول الله ص قلت نعم- ففدوه بآبائهم و أمهاتهم- و أسرعوا إليه حتى دخلوا عليه- فقال لهم أبشروا- فأني سمعت رسول الله ص يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض- تشهده عصابة من المؤمنين – و ليس من أولئك النفر إلا و قد هلك في قرية و جماعة- و الله ما كذبت و لا كذبت- و لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي- لم أكفن إلا في ثوب لي أو لها- و إني أنشدكم الله- ألا يكفنني رجل منكم كان أميرا- أو عريفا أو بريدا أو نقيبا- قالت و ليس في أولئك النفر أحد إلا و قد قارف بعض ما قال- إلا فتى من الأنصار- قال له أنا أكفنك يا عم في ردائي هذا- و في ثوبين معي في عيبتي من غزل أمي- فقال أبو ذر أنت تكفنني- فمات فكفنه الأنصاري- و غسله النفر الذين حضروه و قاموا عليه و دفنوه- في نفر كلهم يمان- .

روى أبو عمر بن عبد البر قبل أن يروي هذا الحديث- في أول باب جندب- كان النفر الذين حضروا موت أبي ذر بالربذة مصادفة جماعة- منهم حجر بن الأدبر و مالك بن الحارث الأشتر- . قلت حجر بن الأدبر هو حجر بن عدي الذي قتله معاوية- و هو من أعلام الشيعة و عظمائها- و أما الأشتر فهو أشهر في الشيعة- من أبي الهذيل في المعتزلة- .

قرئ كتاب الإستيعاب- على شيخنا عبد الوهاب بن سكينة المحدث- و أنا حاضر- فلما انتهى القارئ إلى هذا الخبر قال- أستاذي عمر بن عبد الله الدباس- و كنت أحضر معه سماع الحديث- لتقل الشيعة بعد هذا ما شاءت- فما قال المرتضى و المفيد إلا بعض ما كان حجر و الأشتر- يعتقدانه في عثمان و من تقدمه- فأشار الشيخ إليه بالسكوت فسكت- . و ذكرنا آثار الأشتر و مقاماته بصفين فيما سبق- . و الأشتر هو الذي عانق عبد الله بن الزبير يوم الجمل- فاصطرعا على ظهر فرسيهما حتى وقعا في الأرض- فجعل عبد الله يصرخ من تحته اقتلوني و مالكا- فلم يعلم من الذي يعنيه لشدة الاختلاط و ثوران النقع- فلو قال اقتلوني و الأشتر لقتلا جميعا- فلما افترقا قال الأشتر

أ عائش لو لا أنني كنت طاويا
ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا

غداة ينادي و الرماح تنوشه‏
كوقع الصياصي اقتلوني و مالكا

فنجاه مني شبعه و شبابه
و أني شيخ لم أكن متماسكا

و يقال إن عائشة فقدت عبد الله فسألت عنه- فقيل لها عهدنا به و هو معانق للأشتر- فقالت وا ثكل أسماء- و مات الأشتر في سنة تسع و ثلاثين- متوجها إلى مصر واليا عليها لعلي ع قيل سقي سما- و قيل إنه لم يصح ذلك و إنما مات حتف أنفه- . فأما ثناء أمير المؤمنين ع عليه في هذا الفصل- فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل- و لعمري لقد كان الأشتر أهلا لذلك- كان شديد البأس جوادارئيسا حليما فصيحا شاعرا- و كان يجمع بين اللين و العنف- فيسطو في موضع السطوة- و يرفق في موضع الرفق

نبذ من الأقوال الحكيمة

و من كلام عمر- إن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف- و لين في غير ضعف- . و كان أنو شروان إذا ولى رجلا- أمر الكاتب أن يدع في العهد موضع ثلاثة أسطر- ليوقع فيها بخطه- فإذا أتى بالعهد وقع فيه- سس خيار الناس بالمودة- و سفلتهم بالإخافة- و امزج العامة رهبة برغبة- . و قال عمر بن عبد العزيز- إني لأهم أن أخرج للناس أمرا من العدل- فأخاف ألا تحتمله قلوبهم- فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا- فإن نفرت القلوب من ذاك سكنت إلى هذا- . و قال معاوية إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي- و لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني- و لو أن بيني و بين الناس شعرة ما انقطعت- فقيل له كيف- قال إذا مدوها خليتها و إذا خلوها مددتها- .

و قال الشعبي في معاوية كان كالجمل الطب- إذا سكت عنه تقدم و إذا رد تأخر- . و قال ليزيد ابنه قد تبلغ بالوعيد ما لا تبلغ بالإيقاع- و إياك و القتل فإن الله قاتل القتالين- . و أغلظ له رجل فحلم عنه فقيل له أ تحلم عن هذا- قال إنا لا نحول بين الناس و ألسنتهم- ما لم يحولوا بيننا و بين سلطاننا- .

و فخر سليم مولى زياد عند معاوية بن زياد- فقال معاوية اسكت ويحك- فما أدرك صاحبك بسيفه شيئا قط- إلا و قد أدركت أكثر منه بلساني- . و قال الوليد بن عبد الملك لأبيه ما السياسة يا أبت- قال هيبة الخاصة لك مع صدق مودتها- و اقتيادك قلوب العامة بالإنصاف لها- و احتمال هفوات الصنائع- .

و قد جمع أمير المؤمنين ع من أصناف الثناء و المدح- ما فرقه هؤلاء في كلماتهم بكلمة واحدة- قالها في الأشتر- و هي قوله لا يخاف بطؤه عما الإسراع إليه أحزم- و لا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل – . قوله ع و على من في حيزكما أي في ناحيتكما- . و المجن الترس- . و الوهن الضعف- . و السقطة الغلطة و الخطأ- . و هذا الرأي أحزم من هذا- أي أدخل في باب الحزم و الاحتياط- و هذا أمثل من هذا أي أفضل

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

 

نامه 12 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

12 و من وصية له ع- وصى بها معقل بن قيس الرياحي- حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة له

اتَّقِ اللَّهَ الَّذِي لَا بُدَّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ- وَ لَا مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ- وَ لَا تُقَاتِلَنَّ إِلَّا مَنْ قَاتَلَكَ- وَ سِرِ الْبَرْدَيْنِ وَ غَوِّرْ بِالنَّاسِ- وَ رَفِّهْ فِي السَّيْرِ وَ لَا تَسِرْ أَوَّلَ اللَّيْلِ- فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ سَكَناً وَ قَدَّرَهُ مُقَاماً لَا ظَعْناً- فَأَرِحْ فِيهِ بَدَنَكَ وَ رَوِّحْ ظَهْرَكَ- فَإِذَا وَقَفْتَ حِينَ يَنْبَطِحُ السَّحَرُ- أَوْ حِينَ يَنْفَجِرُ الْفَجْرُ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ- فَإِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطاً- وَ لَا تَدْنُ مِنَ الْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ- وَ لَا تَبَاعَدْ عَنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ الْبَأْسَ- حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي- وَ لَا يَحْمِلَنَّكُمُ شَنَآنُهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ- قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ معقل بن قيس كان من رجال الكوفة و أبطالها- و له رئاسة و قدم- أوفده عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب مع الهرمزان- لفتح تستر- و كان من شيعة علي ع- وجهه إلى بني ساقة فقتل منهم و سبى- و حارب المستورد بن علفة الخارجي‏من تميم الرباب- فقتل كل واحد منهما صاحبه بدجلة- و قد ذكرنا خبرهما فيما سبق- و معقل بن قيس رياحي من ولد رياح بن يربوع بن حنظلة- بن مالك بن زيد مناة بن تميم- . قوله ع و لا تقاتلن إلا من قاتلك- نهى عن البغي- . و سر البردين هما الغداة و العشي- و هما الأبردان أيضا- .

و وصاه أن يرفق بالناس و لا يكلفهم السير في الحر- . قوله ع و غور بالناس انزل بهم القائلة- و المصدر التغوير و يقال للقائلة الغائرة- . قوله ع و رفه في السير- أي دع الإبل ترد رفها- و هو أن ترد الماء كل يوم متى شاءت- و لا ترهقها و تجشمها السير- و يجوز أن يكون قوله و رفه في السير- من قولك رفهت عن الغريم أي نفست عنه- .

قوله ع و لا تسر أول الليل- قد ورد في ذلك خبر مرفوع- و في الخبر أنه حين تنشر الشياطين- و قد علل أمير المؤمنين ع النهي- بقوله فإن الله تعالى جعله سكنا و قدره مقاما لا ظعنا- يقول لما امتن الله تعالى على عباده- بأن جعل لهم الليل ليسكنوا فيه كره أن يخالفوا ذلك- و لكن لقائل أن يقول- فكيف لم يكره السير و الحركة في آخره- و هو من جملة الليل أيضا- و يمكن أن يكون فهم من رسول الله ص- أن الليل الذي جعل سكنا للبشر- إنما هو من أوله إلى وقت السحر- .

ثم أمره ع- بأن يريح في الليل بدنه و ظهره و هي الإبل- و بنو فلان مظهرون أي لهم ظهر ينقلون عليه- كما تقول منجبون أي لهم نجائب- . قال الراوندي الظهر الخيول- و ليس بصحيح و الصحيح ما ذكرناه- . قوله ع فإذا وقفت- أي فإذا وقفت ثقلك و رحلك لتسير- فليكن ذلك حين ينبطح السحر- .

قال الراوندي فإذا وقفت- ثم قال و قد روي فإذا واقفت- قال يعني إذا وقفت تجارب العدو و إذا واقفته- و ما ذكره ليس بصحيح و لا روي- و إنما هو تصحيف- أ لا تراه كيف قال بعده بقليل فإذا لقيت العدو- و إنما مراده هاهنا الوصاة- بأن يكون السير وقت السحر و وقت الفجر- .

قوله ع حين ينبطح السحر أي حين يتسع و يمتد- أي لا يكون السحر الأول- أي ما بين السحر الأول و بين الفجر الأول- و أصل الانبطاح السعة- و منه الأبطح بمكة- و منه البطيحة- و تبطح السيل أي اتسع في البطحاء- و الفجر انفجر انشق- . ثم أمره ع إذا لقي العدو- أن يقف بين أصحابه وسطا لأنه الرئيس- و الواجب أن يكون الرئيس في قلب الجيش- كما أن قلب الإنسان في وسط جسده- و لأنه إذا كان وسطا كانت نسبته إلى كل الجوانب واحدة- و إذا كان في أحد الطرفين بعد من الطرف الآخر- فربما يختل نظامه و يضطرب- . ثم نهاه ع أن يدنو من العدو- دنو من يريد أن ينشب الحرب- و نهاه أن يبعد منهم بعد من يهاب الحرب و هي البأس- قال الله تعالى وَ حِينَ الْبَأْسِ‏أي حين الحرب- بل يكون على حال متوسطة بين هذين- حتى يأتيه الأمر من أمير المؤمنين ع- لأنه أعرف بما تقتضيه المصلحة- .

ثم قال له لا يحملنكم بغضكم لهم على أن تبدءوهم بالقتال- قبل أن تدعوهم إلى الطاعة- و تعذروا إليهم أي تصيروا ذوي عذر في حربهم- . و الشنئان البغض بسكون النون و تحريكها نبذ من الأقوال الحكيمة في الحروب و في الحديث المرفوع لا تتمنوا العدو فعسى أن تبتلوا بهم- و لكن قولوا اللهم اكفنا شرهم- و كف عنا بأسهم- و إذا جاءوك يعرفون أن يضجون فعليكم الأرض جلوسا- و قولوا اللهم أنت ربنا و ربهم- و بيدك نواصينا و نواصيهم- فإذا غشوكم فثوروا في وجوههم – .

و كان أبو الدرداء يقول أيها الناس- اعملوا عملا صالحا قبل الغزو- فإنما تقاتلون بأعمالكم- . و أوصى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان حين استعمله- فقال سر على بركة الله- فإذا دخلت بلاد العدو فكن بعيدا من الحملة- فإني لا آمن عليك الجولة و استظهر بالزاد- و سر بالأدلاء و لا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه- و احترس من البيات فإن في العرب غرة- و أقلل من الكلام فإن ما وعي عنك هو عليك- و إذا أتاك كتابي فأمضه فإنما أعمل على حسب إنفاذه- و إذا قدم عليك وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك- و أسبغ عليهم من النفقة- و امنع الناس من محادثتهم ليخرجوا جاهلين- كما دخلوا جاهلين- و لاتلحن في عقوبة فإن أدناها وجيعة- و لا تسرعن إليها و أنت تكتفي بغيرها- و اقبل من الناس علانيتهم- و كلهم إلى الله في سريرتهم- و لا تعرض عسكرك فتفضحه- و أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه- .

و أوصى أبو بكر أيضا عكرمة بن أبي جهل حين وجهه إلى عمان- فقال سر على اسم الله و لا تنزلن على مستأمن- و قدم النذير بين يديك- و مهما قلت إني فاعل فافعله- و لا تجعلن قولك لغوا في عقوبة و لا عفو- فلا ترجى إذا أمنت و لا تخاف إذا خوفت- و انظر متى تقول و متى تفعل- و ما تقول و ما تفعل- و لا تتوعدن في معصية بأكثر من عقوبتها- فإنك إن فعلت أثمت و إن تركت كذبت- و اتق الله و إذا لقيت فاصبر- . و لما ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان- قال له إن أباك كفى أخاه عظيما- و قد استكفيتك صغيرا- فلا تتكلن على عذر مني- فقد اتكلت على كفاية منك- و إياك مني من قبل أن أقول إياك منك- و اعلم أن الظن إذا أخلف منك أخلف فيك- و أنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه- و قد تبعك أبوك فلا تريحن نفسك- و اذكر في يومك أحاديث غدك- .

و قال بعض الحكماء- ينبغي للأمير أن يكون له ستة أشياء- وزير يثق به و يفشي إليه سره- و حصن إذا لجأ إليه عصمه يعني فرسا- و سيف إذا نزل به الأقران لم يخف نبوته- و ذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة وجدها- يعني جوهرا- و طباخ إذا أقرى من الطعام صنع له ما يهيج شهوته- و امرأة جميلة إذا دخل أذهبت همه- في الحديث المرفوع خير الصحابة أربعة- و خير السرايا أربعمائة- و خير الجيوش أربعة آلاف-و لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة إذا اجتمعت كلمتهم – . كان يقال ثلاثة من كن فيه لم يفلح في الحرب- البغي قال الله تعالى إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ- و المكر السيئ قال سبحانه وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ- و النكث قال تعالى فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ- .

يقال خرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم- فأهمه ذلك فقيل ما يهمك منهم- وجه إليهم وكيع بن أبي أسود يكفيك أمرهم- فقال لا أوجهه و إن وكيعا رجل فيه كبر- و عنده بغي يحقر أعداءه- و من كان هكذا قلت مبالاته بخصمه فلم يحترس- فوجد عدوه فيه غرة فأوقع به- . و في بعض كتب الفرس- إن بعض ملوكهم سأل أي مكايد الحرب أحزم- فقال إذكاء العيون و استطلاع الأخبار- و إظهار القوة و السرور و الغلبة و إماتة الفرق- و الاحتراس من البطانة من غير إقصاء لمن ينصح- و لا انتصاح لمن يغش و كتمان السر- و إعطاء المبلغين على الصدق- و معاقبة المتوصلين بالكذب- و ألا تخرج هاربا فتحوجه إلى القتال- و لا تضيق أمانا على مستأمن- و لا تدهشنك الغنيمة عن المجاوزة- . و في بعض كتب الهند- ينبغي للعاقل أن يحذر عدوه المحارب له على كل حال- يرهب منه المواثبة إن قرب و الغارة إن بعد- و الكمين إن انكشف و الاستطراد إن ولي- و المكر إن رآه وحيدا- و ينبغي أن يؤخر القتال ما وجد بدا- فإن النفقة عليه من الأنفس و على غيره من المال

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

نامه 11 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

11 و من وصية له ع وصى بها جيشا بعثه إلى العدو

فَإِذَا نَزَلْتُمْ بِعَدُوٍّ أَوْ نَزَلَ بِكُمْ- فَلْيَكُنْ مُعَسْكَرُكُمْ فِي قُبُلِ الْأَشْرَافِ- أَوْ سِفَاحِ الْجِبَالِ أَوْ أَثْنَاءِ الْأَنْهَارِ- كَيْمَا يَكُونَ لَكُمْ رِدْءاً وَ دُونَكُمْ مَرَدّاً- وَ لْتَكُنْ مُقَاتَلَتُكُمْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ- وَ اجْعَلُوا لَكُمْ رُقَبَاءَ فِي صَيَاصِي الْجِبَالِ- وَ مَنَاكِبِ الْهِضَابِ- لِئَلَّا يَأْتِيَكُمُ الْعَدُوُّ مِنْ مَكَانِ مَخَافَةٍ أَوْ أَمْنٍ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ مُقَدِّمَةَ الْقَوْمِ عُيُونُهُمْ- وَ عُيُونَ الْمُقَدِّمَةِ طَلَائِعُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ وَ التَّفَرُّقَ- فَإِذَا نَزَلْتُمْ فَانْزِلُوا جَمِيعاً- وَ إِذَا ارْتَحَلْتُمْ فَارْتَحِلُوا جَمِيعاً- وَ إِذَا غَشِيكُمُ اللَّيْلُ فَاجْعَلُوا الرِّمَاحَ كِفَّةً- وَ لَا تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلَّا غِرَاراً أَوْ مَضْمَضَةً المعسكر بفتح الكاف موضع العسكر و حيث ينزل- . الأشراف الأماكن العالية و قبلها- ما استقبلك منها و ضده الدبر- . و سفاح الجبال أسافلها حيث يسفح منها الماء- . و أثناء الأنهار ما انعطف منها واحدها ثني- و المعنى أنه أمرهم أن ينزلوا مسندين ظهورهم- إلى مكان عال كالهضاب العظيمة أو الجبال- أو منعطف الأنهار التي تجري مجرى الخنادق على العسكر- ليأمنوا بذلك من البيات- و ليأمنوا أيضا من إتيان العدو لهم‏ من خلفهم- و قد فسر ذلك بقوله كيما يكون لكم ردءا- و الردء العون- قال الله تعالى فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي- . و دونكم مردا أي حاجزا بينكم و بين العدو- .

ثم أمرهم بأن يكون مقاتلتهم بفتح التاء- و هي مصدر قاتل- من وجه واحد أو اثنين أي لا تتفرقوا- و لا يكن قتالكم العدو في جهات متشعبة- فإن ذلك أدعى إلى الوهن- و اجتماعكم أدعى إلى الظفر- ثم أمرهم أن يجعلوا رقباء في صياصي الجبال- و صياصي الجبال أعاليها و ما جرى مجرى الحصون منها- و أصل الصياصي القرون- ثم استعير ذلك للحصون- لأنه يمتنع بها كما يمتنع ذو القرن بقرنه- و مناكب الهضاب أعاليها- لئلا يأتيكم العدو إما من حيث تأمنون- أو من حيث تخافون- .

قوله ع مقدمة القوم عيونهم- المقدمة بكسر الدال و هم الذين يتقدمون الجيش- أصله مقدمة القوم أي الفرقة المتقدمة- و الطلائع طائفة من الجيش تبعث ليعلم منها أحوال العدو- و قال ع المقدمة عيون الجيش- و الطلائع عيون المقدمة- فالطلائع إذا عيون الجيش- . ثم نهاهم عن التفرق- و أمرهم أن ينزلوا جميعا و يرحلوا جميعا- لئلا يفجأهم العدو بغتة على غير تعبئة و اجتماع فيستأصلهم- ثم أمرهم أن يجعلوا الرماح كفة إذا غشيهم الليل- و الكاف مكسورة- أي اجعلوها مستديرة حولكم كالدائرة- و كل ما استدار كفة بالكسر نحو كفة الميزان- و كل ما استطال كفة بالضم نحو كفة الثوب و هي حاشيته- و كفة الرمل و هو ما كان منه كالحبل- . ثم نهاهم عن النوم إلا غرارا أو مضمضة- و كلا اللفظتين ما قل من النوم- .

و قال شبيب الخارجي- الليل يكفيك الجبان و يصف الشجاع- . و كان إذا أمسى قال لأصحابه أتاكم المدد يعني الليل- . قيل لبعض الملوك بيت عدوك- قال أكره أن أجعل غلبتي سرقة- . و لما فصل قحطبة من خراسان- و في جملته خالد بن برمك- بينا هو على سطح بيت في قرية نزلاها- و هم يتغدون نظر إلى الصحراء- فرأى أقاطيع ظباء قد أقبلت من جهة الصحاري- حتى كادت تخالط العسكر- فقال خالد لقحطبة أيها الأمير- ناد في الناس يا خيل الله اركبي- فإن العدو قد قرب منك- و عامة أصحابك لن يسرجوا- و يلجموا حتى يروا سرعان الخيل- فقام قحطبة مذعورا- فلم ير شيئا يروعه و لم يعاين غبارا- فقال لخالد ما هذا الرأي- فقال أيها الأمير لا تتشاغل بي- و ناد في الناس أ ما ترى أقاطيع الوحوش قد أقبلت- و فارقت مواضعها حتى خالطت الناس- و إن وراءها لجمعا كثيفا- قال فو الله ما أسرجوا و لا ألجموا- حتى رأوا النقع و ساطع الغبار فسلموا- و لو لا ذلك لكان الجيش قد اصطلم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

 

نامه 10 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(كتاب له ع إلى معاوية)

10 و من كتاب له ع إلى معاوية أيضا

وَ كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ- إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلَابِيبُ مَا أَنْتَ فِيهِ- مِنْ دُنْيَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا وَ خَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا- دَعَتْكَ فَأَجَبْتَهَا وَ قَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا- وَ أَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا- وَ إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقِفَكَ وَاقِفٌ عَلَى مَا لَا يُنْجِيكَ مِنْهُ مُنْجٍ- فَاقْعَسْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ- وَ خُذْ أُهْبَةَ الْحِسَابِ وَ شَمِّرْ لِمَا قَدْ نَزَلَ بِكَ- وَ لَا تُمَكِّنِ الْغُوَاةَ مِنْ سَمْعِكَ- وَ إِلَّا تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ- فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ- وَ بَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ وَ جَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَ الدَّمِ- وَ مَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ- وَ وُلَاةَ أَمْرِ الْأُمَّةِ- بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَ لَا شَرَفٍ بَاسِقٍ- وَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ الشَّقَاءِ- وَ أُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَادِياً فِي غِرَّةِ الْأُمْنِيِّةِ- مُخْتَلِفَ الْعَلَانِيَةِ وَ السَّرِيرَةِ- وَ قَدْ دَعَوْتَ إِلَى الْحَرْبِ فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً- وَ اخْرُجْ إِلَيَّ وَ أَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ- لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَ الْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ- فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ- قَاتِلُ جَدِّكَ وَ أَخِيكَ وَ خَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ- وَ ذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي- وَ بِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي- مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً وَ لَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً- وَ إِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ- وَ دَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ- وَ زَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائِراً بِدَمِ عُثْمَانَ- وَ لَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمَانَ- فَاطْلُبْهُ‏مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنْتَ طَالِباً- فَكَأَنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ- إِذَا عَضَّتْكَ ضَجِيجَ الْجِمَالِ بِالْأَثْقَالِ- وَ كَأَنِّي بِجَمَاعَتِكَ تَدْعُونِي جَزَعاً مِنَ الضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ- وَ الْقَضَاءِ الْوَاقِعِ وَ مَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ- وَ هِيَ كَافِرَةٌ جَاحِدَةٌ أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ الجلابيب جمع جلباب و هي الملحفة في الأصل- و استعير لغيرها من الثياب- و تجلبب الرجل جلببة- و لم تدغم لأنها ملحقة بدحرجة- .

قوله و تبهجت بزينتها صارت ذات بهجة- أي زينة و حسن- و قد بهج الرجل بالضم و يوشك يسرع- . و يقفك واقف يعني الموت- و يروى و لا ينحيك مجن و هو الترس- و الرواية الأولى أصح- . قوله فاقعس عن هذا الأمر أي تأخر عنه- و الماضي قعس بالفتح و مثله تقاعس و اقعنسس- . و أهبة الحساب عدته- و تأهب استعد و جمع الأهبة أهب- . و شمر لما قد نزل بك أي جد و اجتهد و خف- و منه رجل شمري بفتح الشين و تكسر- . و الغواة جمع غاو و هو الضال- .

قوله و إلا تفعل- يقول و إن كنت لا تفعل- ما قد أمرتك و وعظتك به- فإني أعرفك من نفسك ما أغفلت معرفته- . إنك مترف- و المترف الذي قد أترفته النعمة أي أطغته‏قد أخذ الشيطان منك مأخذه- و يروى مآخذه بالجمع- أي تناول الشيطان منك لبك و عقلك- و مأخذه مصدر أي تناولك الشيطان تناوله المعروف- و حذف مفعول أخذ لدلالة الكلام عليه- و لأن اللفظة تجري مجرى المثل- . قوله و جرى منك مجرى الروح و الدم- هذه كلمة رسول الله ص إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم- .

ثم خرج ع إلى أمر آخر- فقال لمعاوية- و متى كنتم ساسة الرعية و ولاة أمر الأمة- ينبغي أن يحمل هذا الكلام- على نفي كونهم سادة و ولاة في الإسلام- و إلا ففي الجاهلية لا ينكر رئاسة بني عبد شمس- و لست أقول برياستهم على بني هاشم- و لكنهم كانوا رؤساء على كثير من بطون قريش- أ لا ترى أن بني نوفل بن عبد مناف ما زالوا أتباعا لهم- و أن بني عبد شمس كانوا في يوم بدر قادة الجيش- كان رئيس الجيش عتبة بن ربيعة- و كانوا في يوم أحد و يوم الخندق قادة الجيش- كان الرئيس في هذين اليومين أبا سفيان بن حرب- و أيضا فإن في لفظة أمير المؤمنين ع ما يشعر بما قلناه- و هو قوله و ولاة أمر الأمة- فإن الأمة في العرب هم المسلمون أمة محمد ص- . قوله ع بغير قدم سابق- يقال لفلان قدم صدق أي سابقة و أثرة حسنة- . قوله ع و لا شرف باسق أي عال- . و تمادى تفاعل من المدى و هو الغاية- أي لم يقف بل مضى قدما- . و الغرة الغفلة و الأمنية طمع النفس- و مختلف السريرة و العلانية منافق- . قوله ع فدع الناس جانبا منصوب على الظرف- .

و المرين على قلبه المغلوب عليه- من قوله تعالى كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ- و قيل الرين الذنب على القريب- . و إنما قال أمير المؤمنين ع لمعاوية هذه الكلمة- لأن معاوية قالها في رسالة كتبها- و وقفت عليها من كتاب أبي العباس يعقوب بن أبي أحمد الصيمري- الذي جمعه من كلام علي ع و خطبه- و أولها أما بعد فإنك المطبوع على قلبك- المغطى على بصرك الشر من شيمتك- و العتو من خليقتك- فشمر للحرب و اصبر للضرب- فو الله ليرجعن الأمر إلى ما علمت- و العاقبة للمتقين- هيهات هيهات أخطأك ما تمنى- و هوى قلبك فيما هوى- فأربع على ظلعك و قس شبرك بفترك- تعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه- و يفصل بين أهل الشك علمه و السلام- .

فكتب إليه أمير المؤمنين ع أما بعد يا ابن صخر- يا ابن اللعين يزن الجبال فيما زعمت حلمك- و يفصل بين أهل الشك علمك- و أنت الجاهل القليل الفقه- المتفاوت العقل الشارد عن الدين- و قلت فشمر للحرب و اصبر- فإن كنت صادقا فيما تزعم و يعينك عليه ابن النابغة- فدع الناس جانبا و أعف الفريقين من القتال- و ابرز إلي لتعلم أينا المرين على قلبه المغطى على بصره- فأنا أبو الحسن حقا- قاتل أخيك و خالك و جدك- شدخا يوم بدر و ذلك السيف معي- و بذلك القلب ألقى عدوي- .

قوله ع شدخا- الشدخ كسر الشي‏ء الأجوف- شدخت رأسه فانشدخ- و هؤلاء الثلاثة حنظلة بن أبي سفيان- و الوليد بن عتبة و أبوه عتبة بن ربيعة- فحنظلة أخوه و الوليد خاله و عتبة جده- و قد تقدم ذكر قتلة إياهم في غزاة بدر- . و الثائر طالب الثأر- و قوله قد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك- يريد به إن كنت تطلب ثأرك- من عند من أجلب و حاصر- فالذي فعل ذلك طلحة و الزبير- فاطلب ثأرك من بني تميم و من بني أسد بن عبد العزى- و إن كنت تطلبه ممن خذل- فاطلبه من نفسك فإنك خذلته- و كنت قادرا على أن ترفده و تمده بالرجال- فخذلته و قعدت عنه بعد أن استنجدك و استغاث بك- . و تضج تصوت و الجاحدة المنكرة- و الحائدة العادلة عن الحق- .

و اعلم أن قوله و كأني بجماعتك يدعونني- جزعا من السيف إلى كتاب الله تعالى- إما أن يكون فراسة نبوية صادقة و هذا عظيم- و إما أن يكون إخبارا عن غيب مفصل- و هو أعظم و أعجب- و على كلا الأمرين فهو غاية العجب- و قد رأيت له ذكر هذا المعنى في كتاب غير هذا- و هو أما بعد فما أعجب ما يأتيني منك- و ما أعلمني بمنزلتك التي أنت إليها صائر و نحوها سائر- و ليس إبطائي عنك إلا لوقت أنا به مصدق و أنت به مكذب- و كأني أراك و أنت تضج من الحرب- و إخوانك يدعونني خوفا من السيف- إلى كتاب هم به كافرون و له جاحدون- .

و وقفت له ع على كتاب آخر إلى معاوية- يذكر فيه هذا المعنى- أوله أما بعد فطالما دعوت أنت- و أولياؤك أولياء الشيطان الحق أساطير- و نبذتموه وراءظهوركم و حاولتم إطفاءه بأفواهكم- وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ- و لعمري لينفذن العلم فيك- و ليتمن النور بصغرك و قماءتك- و لتخسأن طريدا مدحورا أو قتيلا مثبورا- و لتجزين بعملك حيث لا ناصر لك- و لا مصرخ عندك- و قد أسهبت في ذكر عثمان- و لعمري ما قتله غيرك و لا خذله سواك- و لقد تربصت به الدوائر و تمنيت له الأماني- طمعا فيما ظهر منك و دل عليه فعلك- و إني لأرجو أن ألحقك به على أعظم من ذنبه- و أكبر من خطيئته- فأنا ابن عبد المطلب صاحب السيف- و إن قائمه لفي يدي- و قد علمت من قتلت به من صناديد بني عبد شمس- و فراعنة بني سهم و جمح و بني مخزوم- و أيتمت أبناءهم و أيمت نساءهم- و أذكرك ما لست له ناسيا يوم قتلت أخاك حنظلة- و جررت برجله إلى القليب و أسرت أخاك عمرا- فجعلت عنقه بين ساقيه رباطا- و طلبتك ففررت و لك حصاص- فلو لا أني لا أتبع فارا لجعلتك ثالثهما- و أنا أولي لك بالله ألية برة غير فاجرة- لئن جمعتني و إياك جوامع الأقدار- لأتركنك مثلا يتمثل به الناس أبدا- و لأجعجعن بك في مناخك حتى يحكم الله بيني و بينك- و هو خير الحاكمين- و لئن أنسأ الله في أجلي قليلا لأغزينك سرايا المسلمين- و لأنهدن إليك في جحفل من المهاجرين و الأنصار- ثم لا أقبل لك معذرة و لا شفاعة- و لا أجيبك إلى طلب و سؤال- و لترجعن إلى تحيرك و ترددك و تلددك- فقد شاهدت و أبصرت و رأيت‏سحب الموت- كيف هطلت عليك بصيبها- حتى اعتصمت بكتاب أنت و أبوك أول من كفر و كذب بنزوله- و لقد كنت تفرستها و آذنتك أنك فاعلها- و قد مضى منها ما مضى- و انقضى من كيدك فيها ما انقضى- و أنا سائر نحوك على أثر هذا الكتاب- فاختر لنفسك و انظر لها و تداركها- فإنك إن فطرت و استمررت على غيك و غلوائك- حتى ينهد إليك عباد الله- أرتجت عليك الأمور- و منعت أمرا هو اليوم منك مقبول- يا ابن حرب- إن لجاجك في منازعة الأمر أهله من سفاه الرأي- فلا يطمعنك أهل الضلال- و لا يوبقنك سفه رأي الجهال- فو الذي نفس علي بيده- لئن برقت في وجهك بارقة من ذي الفقار- لتصعقن صعقة لا تفيق منها- حتى ينفخ في الصور النفخة التي يئست منها- كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ- .

قلت سألت النقيب أبا زيد- عن معاوية- هل شهد بدرا مع المشركين- فقال نعم شهدها ثلاثة من أولاد أبي سفيان- حنظلة و عمرو و معاوية قتل أحدهم و أسر الآخر- و أفلت معاوية هاربا على رجليه- فقدم مكة و قد انتفخ قدماه و ورمت ساقاه- فعالج نفسه شهرين حتى برأ- . قال النقيب أبو زيد- و لا خلاف عند أحد أن عليا ع قتل حنظلة- و أسر عمرا أخاه و لقد شهد بدرا- و هرب على رجليه من هو أعظم منهما- و من أخيهما عمرو بن عبد ود فارس يوم الأحزاب- شهدها و نجا هاربا على قدميه و هو شيخ كبير-و ارتث جريحا- فوصل إلى مكة و هو وقيذ فلم يشهد أحدا- فلما برأ شهد الخندق فقتله قاتل الأبطال- و الذي فاته يوم بدر استدركه يوم الخندق- .

ثم قال لي النقيب رحمه الله- أ ما سمعت نادرة الأعمش و مناظره- فقلت ما أعلم ما تريد- فقال سأل رجل الأعمش و كان قد ناظر صاحبا له- هل معاوية من أهل بدر أم لا- فقال له أصلحك الله- هل شهد معاوية بدرا فقال نعم من ذلك الجانب و اعلم أن هذه الخطبة قد ذكرها نصر بن مزاحم- في كتاب صفين- على وجه يقتضي أن ما ذكره الرضي رحمه الله منها- قد ضم إليه بعض خطبة أخرى- و هذه عادته- لأن غرضه التقاط الفصيح و البليغ من كلامه- والذي ذكره نصر بن مزاحم هذه صورته من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان- سلام على من اتبع الهدى- فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإنك قد رأيت مرور الدنيا و انقضاءها- و تصرمها و تصرفها بأهلها- و خير ما اكتسب من الدنيا- ما أصابه العباد الصالحون منها من التقوى- و من يقس الدنيا بالآخرة يجد بينهما بعيدا-.

و اعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمرا لست من أهله- لا في القديم و لا في الحديث- و لست تقول فيه بأمر بين يعرف له أثر- و لا عليك منه شاهد من كتاب الله- و لست متعلقا بآية من‏كتاب الله- و لا عهد من رسول الله ص- فكيف أنت صانع إذا تقشعت عنك غيابة ما أتت فيه- من دنيا قد فتنت بزينتها- و ركنت إلى لذاتها- و خلي بينك و بين عدوك فيها- و هو عدو و كلب مضل جاهد مليح ملح- مع ما قد ثبت في نفسك من جهتها- دعتك فأجبتها و قادتك فاتبعتها و أمرتك فأطعتها- فاقعس عن هذا الأمر و خذ أهبة الحساب- فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك مجن- و متى كنتم يا معاوية ساسة الرعية- أو ولاة لأمر هذه الأمة- بلا قدم حسن و لا شرف تليد على قومكم- فاستيقظ من سنتك و ارجع إلى خالقك- و شمر لما سينزل بك- و لا تمكن عدوك الشيطان من بغيته فيك- مع أني أعرف أن الله و رسوله صادقان- نعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء و إلا تفعل- فإني أعلمك ما أغفلت من نفسك إنك مترف- قد أخذ منك الشيطان مأخذه- فجرى منك مجرى الدم في العروق- و لست من أئمة هذه الأمة و لا من رعاتها- و اعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم- لحسدوناه و لامتنوا علينا به- و لكنه قضاء ممن منحناه و اختصنا به- على لسان نبيه الصادق المصدق- لا أفلح من شك بعد العرفان و البينة- رب احكم بيننا و بين عدونا بالحق و أنت خير الحاكمين- .

قال نصر فكتب معاوية إليه الجواب- من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب- أما بعد فدع الحسد فإنك طالما لم تنتفع به- و لا تفسد سابقةجهادك بشرة نخوتك- فإن الأعمال بخواتيمها- و لا تمحص سابقتك بقتال من لا حق لك في حقه- فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك- و لا تمحق إلا عملك و لا تبطل إلا حجتك- و لعمري إن ما مضى لك من السابقات- لشبيه أن يكون ممحوقا- لما اجترأت عليه من سفك الدماء- و خلاف أهل الحق- فاقرأ السورة التي يذكر فيها الفلق- و تعوذ من نفسك فإنك الحاسد إذا حسد

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15