خطبه 219 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

219 و من كلام له ع

وَ اللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً- أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً- أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً- لِبَعْضِ الْعِبَادِ- وَ غَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ- وَ كَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا- وَ يَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا- وَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَ قَدْ أَمْلَقَ- حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً- وَ رَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ- كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ- وَ عَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَ كَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً- فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي- وَ أَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي- فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا- فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا- وَ كَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا- فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ- أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ- وَ تَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ- أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَ لَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى- وَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا- وَ مَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا- كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا- فَقُلْتُ أَ صِلَةٌ أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ- فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ- فَقَالَ لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ وَ لَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ- فَقُلْتُ هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ أَ عَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي- أَ مُخْتَبِطٌ أَمْ ذُو جِنَّةٌ أَمْ تَهْجُرُ- وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا- عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍمَا فَعَلْتُهُ- وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا- مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لَا تَبْقَى- نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِينُ السعدان نبت ذو شوك- يقال له حسك السعدان و حسكة السعدان- و تشبه به حلمة الثدي فيقال سعدانة الثندوة- و هذا النبت من أفضل مراعي الإبل- و في المثل مرعى و لا كالسعدان- و نونه زائدة لأنه ليس في الكلام فعلال غير مضاعف- إلا خزعال و هو ظلع يلحق الناقة- و قهقار و هو الحجر الصلب- و قسطال و هو الغبار- .

و المسهد الممنوع النوم و هو السهاد- . و الأغلال القيود و المصفد المقيد- و الحطام عروض الدنيا و متاعها- شبه لزواله و سرعة فنائه بما يتحطم من العيدان و يتكسر- . ثم قال كيف أظلم الناس لأجل نفس تموت سريعا- يعني نفسه ع- . فإن قلت أ ليس قوله عن نفس يسرع إلى البلى قفولها- يشعر بمذهب من قال بقدم الأنفس- لأن القفول الرجوع- و لا يقال في مذهبه للمسافرة قافلة إلا إذا كانت راجعة- . قلت لا حاجة إلى القول بقدم الأنفس محافظة على هذه اللفظة- و ذلك لأن النفس إذا كانت حادثة فقد كان أصلها العدم- فإذا مات الإنسان عدمت نفسه فرجعت إلى العدم الأصلي- و هو المعبر عنه بالبلى- .

و أملق افتقر- قال تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ- . و استماحني طلب مني أن أعطيه صاعا من الحنطة- و الصاع أربعة أمداد و المد رطل و ثلث- فمجموع ذلك خمسة أرطال و ثلث رطل- و جمع الصاع أصوع و إن شئت همزت- و الصواع لغة في الصاع و يقال هو إناء يشرب فيه- . و العظلم بالكسرة في الحرفين- نبت يصبغ به ما يراد اسوداده- و يقال هو الوسمة- و شعث الألوان أي غبر- . و أصغيت إليه أملت سمعي نحوه- . و أتبع قياده أطيعه و انقاد له- . و أحميت الحديدة في النار فهي محماة- و لا يقال حميت الحديدة- . و ذي دنف أي ذي سقم مؤلم- . و من ميسمها من أثرها في يده- . و ثكلتك الثواكل دعاء عليه و هو جمع ثاكلة- و فواعل لا يجي‏ء إلا جمع المؤنث إلا فيما شذ- نحو فوارس أي ثكلتك نساؤك- . قوله أحماها إنسانها أي صاحبها- و لم يقل إنسان- لأنه يريد أن يقابل هذه اللفظة بقوله جبارها- .

و سجرها بالتخفيف أوقدها و أحماها- و السجور ما يسجر به التنور- . قوله بملفوفة في وعائها- كان أهدى له الأشعث بن قيس نوعا من الحلواء تأنق فيه- و كان ع يبغض الأشعث لأن الأشعث كان يبغضه- و ظن الأشعث أنه يستميله بالمهاداة- لغرض دنيوي كان في نفس الأشعث- و كان أمير المؤمنين‏ع يفطن لذلك و يعلمه- و لذلك رد هدية الأشعث- و لو لا ذلك لقبلها لأن النبي ص قبل الهدية- و قد قبل علي ع هدايا جماعة من أصحابه- و دعاء بعض من كان يأنس إليه- إلى حلواء عملها يوم نوروز فأكل- و قال لم عملت هذا فقال لأنه يوم نوروز- فضحك و قال نوروزا لنا في كل يوم إن استطعتم- . و كان ع من لطافة الأخلاق و سجاحة الشيم- على قاعدة عجيبة جميلة- و لكنه كان ينفر عن قوم كان يعلم من حالهم الشنآن له- و عمن يحاول أن يصانعه بذلك عن مال المسلمين- و هيهات حتى يلين لضرس الماضغ الحجر- . و قال بملفوفة في وعائها لأنه كان طبق مغطى- .

ثم قال و معجونة شنئتها أي أبغضتها و نفرت عنها- كأنها عجنت بريق الحية أو بقيئها- و ذلك أعظم الأسباب للنفرة من المأكول- . و قال الراوندي وصفها باللطافة فقال- كأنها عجنت بريق الحية و هذا تفسير أبعد من الصحيح- . قوله أ صلة أم زكاة أم صدقة- فذلك محرم علينا أهل البيت- الصلة العطية لا يراد بها الأجر- بل يراد وصلة التقرب إلى الموصول- و أكثر ما تفعل للذكر و الصيت- و الزكاة هي ما تجب في النصاب من المال- . و الصدقة هاهنا هي صدقة التطوع- و قد تسمى الزكاة الواجبة صدقة- إلا أنها هنا هي النافلة- . فإن قلت كيف قال فذلك محرم علينا أهل البيت- و إنما يحرم عليهم الزكاة الواجبة خاصة- و لا يحرم عليهم صدقة التطوع و لا قبول الصلات- قلت أراد بقوله أهل البيت الأشخاص الخمسة- محمدا و عليا و فاطمة و حسنا و حسيناع- فهؤلاء خاصة دون غيرهم من بني هاشم- محرم عليهم الصلة و قبول الصدقة- و أما غيرهم من بني هاشم فلا يحرم عليهم إلا الزكاة الواجبة خاصة- .

فإن قلت- كيف قلت إن هؤلاء الخمسة يحرم عليهم قبول الصلات- و قد كان حسن و حسين ع يقبلان صلة معاوية- . قلت كلا لم يقبلا صلته و معاذ الله أن يقبلاها- و إنما قبلا منه ما كان يدفعه إليهما- من جملة حقهما من بيت المال- فإن سهم ذوي القربى منصوص عليه في الكتاب العزيز- و لهما غير سهم ذوي القربى سهم آخر للإسلام من الغنائم- . قوله هبلتك الهبول أي ثكلتك أمك- و الهبول التي لها عادة بثكل الولد- .

فإن قلت ما الفرق بين مختبط و ذي جنة و يهجر- . قلت المختبط المصروع من غلبه الأخلاط السوداوية- أو غيرها عليه- و ذو الجنة من به مس من الشيطان- و الذي يهجر هو الذي يهذي في مرض ليس بصرع- كالمحموم و المبرسم و نحوهما- . و جلب الشعيرة بضم الجيم قشرها- و الجلب و الجلبة أيضا جليدة تعلو الجرح عند البرء- يقال منه جلب الجرح يجلب و يجلب- و أجلب الجرح أيضا- و يقال للجليدة التي تجعل على القتب جلبة أيضا- . و تقضمها بفتح الضاد و الماضي قضم بالكسر

نبذ من أخبار عقيل بن أبي طالب

و عقيل هو عقيل بن أبي طالب ع- بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف- أخو أمير المؤمنين ع لأمه و أبيه- و كان بنو أبي طالب أربعة- طالب و هو أسن من عقيل بعشر سنين- و عقيل و هو أسن من جعفر بعشر سنين- و جعفر و هو أسن من علي بعشر سنين- و علي و هو أصغرهم سنا و أعظمهم قدرا- بل و أعظم الناس بعد ابن عمه قدرا- . و كان أبو طالب يحب عقيلا أكثر من حبه سائر بنيه- فلذلك قال للنبي ص و للعباس حين أتياه- ليقتسما بنيه عام المحل فيخففا عنه ثقلهم- دعوا لي عقيلا و خذوا من شئتم فأخذ العباس جعفرا- و أخذ محمد ص عليا ع- .

و كان عقيل يكنى أبا يزيد-قال له رسول الله ص يا أبا يزيد إني أحبك حبين- حبا لقرابتك مني و حبا لما كنت أعلم من حب عمي إياك- . أخرج عقيل إلى بدر مكرها كما أخرج العباس- فأسر و فدي و عاد إلى مكة- ثم أقبل مسلما مهاجرا قبل الحديبية- و شهد غزوة مؤتة مع أخيه جعفر ع- و توفي في خلافة معاوية في سنة خمسين- و عمره ست و تسعون سنة- . و له دار بالمدينة معروفة- و خرج إلى العراق ثم إلى الشام ثم عاد إلى المدينة- و لم يشهد مع أخيه أمير المؤمنين ع شيئا من حروبه- أيام خلافته- و عرض نفسه و ولده عليه فأعفاه و لم يكلفه حضور الحرب- . و كان أنسب قريش و أعلمهم بأيامها- و كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساوئهم-و كانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله ص فيصلي عليها- و يجتمع إليه الناس في علم النسب و أيام العرب- و كان حينئذ قد ذهب بصره- و كان أسرع الناس جوابا و أشدهم عارضة- .

كان يقال إن في قريش أربعة يتحاكم إليهم- في علم النسب و أيام قريش- و يرجع إلى قولهم عقيل بن أبي طالب- و مخرمة بن نوفل الزهري و أبو الجهم بن حذيفة العدوي- و حويط بن عبد العزى العامري- . و اختلف الناس في عقيل- هل التحق بمعاوية و أمير المؤمنين حي فقال قوم نعم- و رووا أن معاوية قال يوما و عقيل عنده هذا أبو زيد- لو لا علمه أني خير له من أخيه لما أقام عندنا و تركه- فقال عقيل أخي خير لي في ديني- و أنت خير لي في دنياي و قد آثرت دنياي- أسأل الله خاتمة خير- .

و قال قوم- إنه لم يعد إلى معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين ع- و استدلوا على ذلك بالكتاب الذي كتبه إليه في آخر خلافته- و الجواب الذي أجابه ع و قد ذكرناه فيما تقدم- و سيأتي ذكره أيضا في باب كتبه ع- و هذا القول هو الأظهر عندي و روى المدائني- قال قال معاوية يوما لعقيل بن أبي طالب- هل من حاجة فأقضيها لك- قال نعم جارية عرضت علي و أبى أصحابها أن يبيعوها- إلا بأربعين ألفا- فأحب معاوية أن يمازحه فقال- و ما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا و أنت أعمى- تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهما- قال أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما- إذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف- فضحك معاوية و قال مازحناك يا أبا يزيد- و أمر فابتيعت له الجاريةالتي أولد منها مسلما- فلما أتت على مسلم ثماني عشرة سنة و قد مات عقيل أبوه- قال لمعاوية- يا أمير المؤمنين إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة- و إني أعطيت بها مائة ألف- و قد أحببت أن أبيعك إياها فادفع إلي ثمنها- فأمر معاوية بقبض الأرض و دفع الثمن إليه- .

فبلغ ذلك الحسين ع فكتب إلى معاوية أما بعد فإنك غررت غلاما من بني هاشم- فابتعت منه أرضا لا يملكها- فاقبض من الغلام ما دفعته إليه و اردد إلينا أرضنا- . فبعث معاوية إلى مسلم فأخبره ذلك- و أقرأه كتاب الحسين ع- و قال اردد علينا مالنا و خذ أرضك فإنك بعت ما لا تملك- فقال مسلم أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا- فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه- فقال يا بني هذا و الله كلام قاله لي أبوك- حين ابتعت له أمك- . ثم كتب إلى الحسين إني قد رددت عليكم الأرض- و سوغت مسلما ما أخذ- فقال الحسين ع أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما- .

و قال معاوية لعقيل- يا أبا يزيد أين يكون عمك أبو لهب اليوم- قال إذا دخلت جهنم- فاطلبه تجده مضاجعا لعمتك أم جميل بنت حرب بن أمية- . و قالت له زوجته ابنة عتبة بن ربيعة- يا بني هاشم لا يحبكم قلبي أبدا- أين عمي أين أخي كان أعناقهم أباريق الفضة- ترى آنافهم الماء قبل شفاههم- قال إذا دخلت جهنم فخذي على شمالك- .

سأل معاوية عقيلا عن قصة الحديدة المحماة المذكورة- فبكى و قال أنا أحدثك يا معاوية عنه- ثم أحدثك عما سألت- نزل بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهما اشترى به خبزا- و احتاج إلى الإدام فطلب من قنبر خادمهم- أن يفتح له زقا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن- فأخذ منه رطلا فلما طلبها ع ليقسمها- قال يا قنبر أظن أنه حدث بهذا الزق حدث- فأخبره فغضب ع- و قال علي بحسين- فرفع عليه الدرة- فقال بحق عمي جعفر- و كان إذا سئل بحق جعفر سكن- فقال له ما حملك أن أخذت منه قبل القسمة- قال إن لنا فيه حقا فإذا أعطيناه رددناه- قال فداك أبوك و إن كان لك فيه حق- فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم- أما لو لا أني رأيت رسول الله ص يقبل ثنيتك لأوجعتك ضربا- ثم دفع إلى قنبر درهما كان مصرورا في ردائه- و قال اشتر به خير عسل تقدر عليه- قال عقيل- و الله لكأني أنظر إلى يدي علي و هي على فم الزق- و قنبر يقلب العسل فيه- ثم شده و جعل يبكي- و يقول اللهم اغفر لحسين فإنه لم يعلم- . فقال معاوية ذكرت من لا ينكر فضله- رحم الله أبا حسن فلقد سبق من كان قبله- و أعجز من يأتي بعده هلم حديث الحديدة- .

قال نعم أقويت و أصابتني مخمصة شديدة- فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبياني و جئته بهم- و البؤس و الضر ظاهران عليهم- فقال ائتني عشية لأدفع إليك شيئا- فجئته يقودني أحد ولدي فأمره بالتنحي- ثم قال أ لا فدونك فأهويت حريصا قد غلبني الجشع- أظنها صرة فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا- فلما قبضتها نبذتها- و خرت كما يخور الثور تحت يد جازره- فقال لي ثكلتك أمك- هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا- فكيف بك و بي غدا إن سلكنا في سلاسل جهنم- ثم قرأ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ- . ثم قال ليس لك عندي فوق حقك- الذي فرضه الله لك إلا ما ترى- فانصرف إلى أهلك- . فجعل معاوية يتعجب- و يقول هيهات هيهات عقمت النساء أن يلدن مثله

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

 

خطبه 218 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(تلاوت)

218 و من كلام له ع قاله عند تلاوته

يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ- أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَ أَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً- لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ- يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ- وَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَ مَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ- أَ مَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقَظَةٌ- أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ- فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ- أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ- فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَ جَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ- وَ عَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ- وَ هِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ- وَ كَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ- وَ قَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ- فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ- وَ مِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ- وَ كُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَ بِذِكْرِهِ آنِساً- وَ تَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ- إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ- وَ يَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَ أَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ-فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ- وَ تَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ- وَ أَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ- وَ فِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ- فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَ لَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ- بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ- فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ- أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ- مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ- لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ- وَ مَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ- وَ حَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَ لَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ- وَ لَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وَ آذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ- وَ لَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ- وَ النَّقْضِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَ أَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ- وَ لَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ- وَ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ- وَ لَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ- لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ- وَ بَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ- بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَ الشَّحِيحِ بِكَ- وَ لَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً- وَ مَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلًّا- وَ إِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ- إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ وَ حَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِيَامَةُ- وَ لَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَ بِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ- وَ بِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ- فَلَمْ يَجْرِ فِي عَدْلِهِ وَ قِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ- وَ لَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ- فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ- وَ عَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ- فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِكَ مَا يَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ وَ تَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ- وَ خُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لَا تَبْقَى لَهُ- وَ تَيَسَّرْ لِسَفَرِكَ وَ شِمْ بَرْقَ النَّجَاةِ وَ ارْحَلْ مَطَايَا التَّشْمِيرِ

لقائل أن يقول- لو قال ما غرك بربك العزيز أو المنتقم أو نحو ذلك- لكان أولى لأن للإنسان المعاتب أن يقول- غرني كرمك الذي وصفت به نفسك- . و جواب هذا أن يقال- إن مجموع الصفات صار كشي‏ء واحد- و هو الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك- في أي صوره ما شاء ركبك- و المعنى ما غرك برب هذه صفته- و هذا شأنه و هو قادر على أن يجعلك في أي صوره شاء- فما الذي يؤمنك من أن يمسخك- في صورة القردة و الخنازير- و نحوها من الحيوانات العجم- و معنى الكريم هاهنا الفياض على المواد بالصور- و من هذه صفته ينبغي أن يخاف منه تبديل الصورة- .

قال ع أدحض مسئول حجة- المبتدأ محذوف و الحجة الداحضة الباطلة- . و المعذرة بكسر الذال العذر- . و يقال لقد أبرح فلان جهالة- و أبرح لؤما و أبرح شجاعة- و أتى بالبرح من ذلك أي بالشديد العظيم- و يقال هذا الأمر أبرح من هذا أي أشد- و قتلوه أبرح قتل و جهالة منصوب على التمييز- . و قال القطب الراوندي مفعول به- قال معناه جلب جهالة إلى نفسه و ليس بصحيح- و أبرح لا يتعدى هاهنا و إنما يتعدى أبرح في موضعين- أحدهما أبرحه الأمر أي أعجبه- و الآخر أبرح زيد عمرا أي أكرمه و عظمه- . قوله ما جرأك بالهمزة- و فلان جري‏ء القوم أي مقدمهم- .

و ما أنسك بالتشديد و روي ما آنسك بالمد- و كلاهما من أصل واحد- و تأنست‏بفلان و استأنست بمعنى- و فلان أنيسي و مؤانسي و قد أنسني كله بمعنى- أي كيف لم تستوحش من الأمور التي تؤدي إلى هلكة نفسك- . و البلول مصدر بل الرجل من مرضه إذا برئ- و يجوز أبل- قال الشاعر-

إذا بل من داء به ظن أنه نجا
و به الداء الذي هو قاتله‏

و الضاحي لحر الشمس البارز- و هذا داء ممض أي مؤلم أمضني الجرح إمضاضا- و يجوز مضني- . و روي و جلدك على مصائبك بصيغة الجمع- . و بيات نقمة بفتح الباء طروقها ليلا- و هي من ألفاظ القرآن العزيز- . و تورط وقع في الورطة بتسكين الراء و هي الهلاك- و أصل الورطة أرض مطمئنة لا طريق فيها- و قد أورطه و ورطه توريطا أي أوقعه فيها- . و المدارج الطرق و المسالك- و يجوز انتصاب مدارج هاهنا- لأنها مفعول به صريح- و يجوز أن ينتصب على تقدير حرف الخفض و حذفه- أي في مدارج سطواته- . قوله و تمثل أي و تصور- . و يتغمدك بفضله أي يسترك بعفوه- و سمى العفو و الصفح فضلا تسمية للنوع بالجنس- .

قوله مطرف عين بفتح الراء- أي زمان طرف العين- و طرفها إطباق أحدجفنيها على الآخر- و انتصاب مطرف هاهنا على الظرفية- كقولك وردت مقدم الحاج أي وقت قدومهم- . قوله متوازيين في القدرة أي متساويين- و روي متوازنين بالنون- . و العظات جمع عظة- و هو منصوب على نزع الخافض- أي كاشفتك بالعظات- و روي العظات بالرفع على أنه فاعل- و روي كاشفتك الغطاء- . و آذنتك أي أعلمتك- . و على سواء أي على عدل و إنصاف- و هذا من الألفاظ القرآنية- . و الراجفة الصيحة الأولى- و حقت بجلائلها القيامة أي بأمورها العظام- و المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك- و هي ذبائح القربان و يجوز فتح السين- و قد قرئ بهما في قوله تعالى- لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً- . فإن قلت إذا كان يلحق بكل معبود عبدته- فالنصارى إذن تلحق بعيسى- و الغلاة من المسلمين بعلي- و كذلك الملائكة فما القول في ذلك- .

قلت لا ضرر في التحاق هؤلاء بمعبوديهم- و معنى الالتحاق أن يؤمر الأتباع في الموقف- بالتحيز إلى الجهة التي فيها الرؤساء- ثم يقال للرؤساء أ هؤلاء أتباعكم و عبدتكم- فحينئذ يتبرءون منهم- فينجو الرؤساء و تهلك الأتباع- كما قال سبحانه أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ- قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ- بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ- أي إنما كانوا يطيعون الشياطين المضلة لهم- فعبادتهم في‏الحقيقة للشياطين لا لنا- و إنهم ما أطاعونا و لو أطاعونا لكانوا مهتدين- و إنما أطاعوا شياطينهم- . و لا حاجة في هذا الجواب إلى أن يقال ما قيل في قوله تعالى- إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- من تخصيص العموم بالآية الأخرى- و هي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏- أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ- .

فإن قلت فما قولك في اعتراض ابن الزبعري على الآية- هل هو وارد- . قلت لا لأنه قال تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ- و ما لما لا يعقل- فلا يرد عليه الاعتراض بالمسيح و الملائكة- و الذي قاله المفسرون من تخصيص العموم بالآية الثانية- تكلف غير محتاج إليه- . فإن قلت فما الفائدة في أن قرن القوم بأصنامهم في النار- و أي معنى لذلك في زيادة التعذيب و السخط- . قلت لأن النظر إلى وجه العدو باب من أبواب العذاب- و إنما أصاب هؤلاء ما أصابهم- بسبب الأصنام التي ضلوا بها- فكلما رأوها معهم زاد غمهم و حسرتهم- .

و أيضا فإنهم قدروا أن يستشفعوا بها في الآخرة- فإذا صادفوا الأمر على عكس ذلك- لم يكن شي‏ء أبغض إليهم منها- . قوله فلم يجر قد اختلف الرواة في هذه اللفظة- فرواها قوم فلم يجر و هو مضارع جرى يجري- تقول ما الذي جرى للقوم- فيقول من سألته قدم الأمير من السفر- فيكون المعنى على هذا- فلم يكن و لم يتجدد في ديوان حسابه ذلك اليوم- صغير و لا حقير إلا بالحق و الإنصاف- و هذا مثل قوله تعالى- لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ‏الْحِسابِ- و رواها قوم فلم يجز مضارع جاز يجوز- أي لم يسغ و لم يرخص ذلك اليوم لأحد من المكلفين- في حركة من الحركات المحقرات المستصغرات- إلا إذا كانت قد فعلها بحق- و على هذا يجوز فعل مثلها- و رواها قوم فلم يجر من جار أي عدل عن الطريق- أي لم يذهب عنه سبحانه- و لم يضل و لم يشذ عن حسابه شي‏ء- من أمر محقرات الأمور إلا بحقه- أي إلا ما لا فائدة في إثباته و المحاسبة عليه- نحو الحركات المباحة و العبثية- التي لا تدخل تحت التكليف- .

و قال الراوندي خرق بصر مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله- و لا أعرف لهذا الكلام معنى- . و الهمس الصوت الخفي- . قوله فتحر من أمرك- تحريت كذا أي توخيته و قصدته و اعتمدته- . قوله و تيسر لسفرك أي هيئ أسباب السفر- و لا تترك لذاك عائقا- . و الشيم النظر إلى البرق- . و رحلت مطيتي إذا شددت على ظهرها الرحل- قال الأعشى-
رحلت سمية غدوة أجمالها غضبى عليك فما تقول بدا لها- . و التشمير الجد و الانكماش في الأمر- . و معاني الفصل ظاهرة- و ألفاظه الفصيحة تعطيها و تدل عليها- بما لو أراد المفسر أن يعبر عنه بعبارة غير عبارته ع- لكان لفظه ع أولى أن يكون تفسيرا لكلام ذلك المفسر

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

 

خطبه217 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(تلاوت)

217 و من كلام له ع قاله عند تلاوته

يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ- لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ- إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جَلاءً لِلْقُلُوبِ- تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ- وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ- وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ- وَ فِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ- وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ- فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَسْمَاعِ وَ الْأَبْصَارِ وَ الْأَفْئِدَةِ- يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ- بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ- مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ- وَ مَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ- وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ- وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ- وَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ- وَ إِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا- فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْهُ- يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ- وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ- وَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأْتَمِرُونَ بِهِ- وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ- فَكَأَنَّهُمْ قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الآْخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا- فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ- فَكَأَنَّمَااطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ- وَ حَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا- فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا- حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَ يَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ- وَ مَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ- وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ اعْمَالِهِمْ- وَ فَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَ كَبِيرَةٍ- أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا- وَ حَمَّلُوا ثقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ- فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا- فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِيباً- يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَ اعْتِرَافٍ- لَرَأَيْتَ أَعْلَامَ هُدًى وَ مَصَابِيحَ دُجًى- قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ- وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ- وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ- فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ- يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ- رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَ أُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ- جَرَحَ طُولُ الْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَ طُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ- لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ- يَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ- وَ لَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ- فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ من قرأ يسبح له فيها بفتح الباء- ارتفع رجال عنده بوجهين-

أحدهما أن يضمر له فعل يكون هو فاعله- تقديره يسبحه رجال- و دل على يسبحه يسبح- كما قال الشاعر-
ليبك يزيد ضارع لخصومة و مختبط مما تطيح الطوائح‏أي يبكيه ضارع و دل على يبكيه ليبك- . و الثاني أن يكون خبر مبتدإ محذوف- تقديره المسبحون رجال- و من قرأ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بكسر الباء فرجال فاعل- و أوقع لفظ التجارة في مقابلة لفظ البيع- إما لأنه أراد بالتجارة هاهنا الشراء خاصة- أو لأنه عمم بالتجارة المشتملة على البيع و الشراء- ثم خص البيع لأنه أدخل في باب الإلهاء- لأن البيع يحصل ربحه بيقين- و ليس كذلك الشراء- و الذكر يكون تارة باللسان و تارة بالقلب- فالذي باللسان نحو التسبيح و التكبير- و التهليل و التحميد و الدعاء- و الذي بالقلب فهو التعظيم و التبجيل و الاعتراف و الطاعة- .

و جلوت السيف و القلب جلاء بالكسر- و جلوت اليهود عن المدينة جلاء بالفتح- . و الوقرة الثقل في الأذن- و العشوة بالفتح فعله من العشا في العين- و آلاؤه نعمه- . فإن قلت أي معنى تحت قوله عزت آلاؤه- و عزت بمعنى قلت- و هل يجوز مثل ذلك في تعظيم الله- . قلت عزت هاهنا ليس بمعنى قلت- و لكن بمعنى كرمت و عظمت- تقول منه عززت على فلان بالفتح- أي كرمت عليه و عظمت عنده- و فلان عزيز علينا أي كريم معظم- .

و البرهة من الدهر المدة الطويلة و يجوز فتح الباء- . و أزمان الفترات ما يكون منها بين النوبتين- . و ناجاهم في فكرهم ألهمهم- بخلاف مناجاة الرسل ببعث الملائكة إليهم- و كذلك و كلمهم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة- صار ذلك النور مصباحا لهم يستضيئون به- .

قوله من أخذ القصد حمدوا إليهم طريقه- إلى هاهنا هي التي في قولهم أحمد الله إليك- أي منهيا ذلك إليك أو مفضيا به إليك و نحو ذلك- و طريقة العرب في الحذف في مثل هذا معلومة- قال سبحانه وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً- أي لجعلنا بدلا منكم ملائكة- و قال الشاعر-

فليس لنا من ماء زمزم
شربة مبردة بانت على طهيان‏

أي عوضا من ماء زمزم- . قوله و من أخذ يمينا و شمالا أي ضل عن الجادة- . و إلى في قوله ذموا إليه الطريق مثل إلى الأولى- . و يهتفون بالزواجر يصوتون بها- هتفت الحمامة تهتف هتفا و هتف زيد بالغنم هتافا بالكسر- و قوس هتافة و هتفى أي ذات صوت- . و القسط العدل و يأتمرون به يمتثلون الأمر- . و قوله فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة- إلى قوله و يسمعون ما لا يسمعون- هو شرحقوله عن نفسه ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا- . و الأوزار الذنوب و النشيج صوت البكاء- و المقعد موضع القعود- .

و يد قارعة تطرق باب الرحمة و هذا الكلام مجاز- . و المنادح المواضع الواسعة- . و على في قوله و لا يخيب عليه الراغبون- متعلقة بمحذوف مثل إلى المتقدم ذكرها- و التقدير نادمين عليه- . و الحسيب المحاسب- . و اعلم أن هذا الكلام في الظاهر- صفة حال القصاص و المتصدين لإنكار المنكرات- أ لا تراه يقول يذكرون بأيام الله- أي بالأيام التي كانت فيها النقمة بالعصاة- و يخوفون مقامه من قوله تعالى- وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ- ثم قال فمن سلك القصد حمدوه- و من عدل عن الطريق ذموا طريقه و خوفوه الهلاك- ثم قال يهتفون بالزواجر عن المحارم في أسماع الغافلين- و يأمرون بالقسط و ينهون عن المنكر- .

و هذا كله إيضاح لما قلناه أولا- إن ظاهر الكلام شرح حال القصاص- و أرباب المواعظ في المجامع و الطرقات- و المتصدين لإنكار القبائح- و باطن الكلام شرح حال العارفين- الذين هم صفوة الله تعالى من خلقه- و هو ع دائما يكني عنهم و يرمز إليهم- على أنه في هذا الموضع قد صرح بهم في قوله- حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس- و يسمعون ما لا يسمعون- . و قد ذكر من مقامات العارفين في هذا الفصل الذكر- و محاسبة النفس و البكاء و النحيب- و الندم و التوبة و الدعاء و الفاقة و الذلة- و الحزن و هو الأسى الذي ذكر أنه جرح قلوبهم بطوله‏

بيان أحوال العارفين

و قد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين فيما تقدم- و هذا موضعه فنقول- إن أول مقام من مقامات العارفين- و أول منزل من منازل السالكين التوبة- قال الله تعالى وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقال النبي ص التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقال علي ع ما من شي‏ء أحب إلى الله من شاب تائب- .

و التوبة في عرف أرباب هذه الطريقة- الندم على ما عمل من المخالفة- و ترك الزلة في الحال- و العزم على ألا يعود إلى ارتكاب معصية- و ليس الندم وحده عند هؤلاء توبة- و إن جاءفي الخبر الندم توبة- لأنه على وزان قوله ع الحج عرفة- ليس على معنى أن غيرها ليس من الأركان- بل المراد أنه أكبر الأركان و أهمها- و منهم من قال يكفي الندم وحده- لأنه يستتبع الركنين الآخرين- لاستحالة كونه نادما على ما هو مصر على مثله- أو ما هو عازم على الإتيان بمثله- .

قالوا و للتوبة شروط و ترتيبات- فأول ذلك انتباه القلب من رقد الغفلة- و رؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة- و إنما يصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء- إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه يسمع قلبه- فإنفي الخبر النبوي عنه ص واعظ كل حال الله في قلب كل امرئ مسلموفي الخبر أن في بدن المرء لمضغة- إذا صلحت صلح جميع البدن ألا و هي القلب- و إذا فسدت فسد جميع البدن ألا و هي القلب- .و إذا فكر العبد بقلبه في سوء صنيعه- و أبصر ما هو عليه من ذميم الأفعال- سنحت في قلبه إرادة التوبة و الإقلاع عن قبيح المعاملة- فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة- و الأخذ في طرق الرجوع و التأهب لأسباب التوبة- .

و أول ذلك هجران إخوان السوء- فإنهم الذين يحملونه على رد هذا القصد- و عكس هذا العزم- و يشوشون عليه صحة هذه الإرادة- و لا يتم ذلك له إلا بالمواظبة على المشاهد- و المجالس التي تزيده رغبة في التوبة- و توفر دواعيه إلى إتمام ما عزم عليه- مما يقوي خوفه و رجاءه- فعند ذلك تنحل عن قلبه عقدة الإصرار- على ما هو عليه من قبيح الفعال- فيقف عن تعاطي المحظورات- و يكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات- فيفارق الزلة في الحال- و يلزم العزيمة على ألا يعود إلى مثلها في الاستقبال- فإن مضى على موجب قصده و نفذ على مقتضى عزمه- فهو الموفق حقا- و إن نقض التوبة مرة أو مرات-

ثم حملته إرادته على تجديدها- فقد يكون مثل هذا كثيرا- فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء- فإن لكل أجل كتابا- و قد حكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال- اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي- فلما قمت لم يبق في قلبي شي‏ء- فعدت ثانيا فسمعت كلامه- فبقي من كلامه في قلبي أثر في الطريق ثم زال- ثم عدت ثالثا فوقر كلامه في قلبي- و ثبت حتى رجعت إلى منزلي- و كسرت آلات المخالفة و لزمت الطريق- . و حكيت هذه الحكاية ليحيي بن معاذ- فقال عصفور اصطاد كركيا- يعني بالعصفور القاص و بالكركي أبا سليمان- .

و يحكي أن أبا حفص الحداد ذكر بدايته- فقال تركت ذلك العمل يعني المعصية- كذا و كذا مرة ثم عدت إليها- ثم تركني العمل فلم أعد إليه- .و قيل إن بعض المريدين تاب- ثم وقعت له فترة و كان يفكر و يقول- أ ترى لو عدت إلى التوبة كيف كان يكون حكمي- فهتف به هاتف يا فلان أطعتنا فشكرناك- ثم تركتنا فأمهلناك- و إن عدت إلينا قبلناك فعاد الفتى إلى الإرادة- . و قال أبو علي الدقاق التوبة على ثلاثة أقسام- فأولها التوبة و أوسطها الإنابة و آخرها الأوبة- فجعل التوبة بداية و الأوبة نهاية و الإنابة واسطة بينهما- و المعنى أن من تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبة- و من تاب طمعا في الثواب فهو صاحب الإنابة- و من تاب مراعاة للأمر فقط فهو صاحب الأوبة- .

و قال بو علي أيضا التوبة صفة المؤمنين- قال سبحانه وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- و الإنابة صفة الأولياء- قال سبحانه وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ- و الأوبة صفة الأنبياء- قال سبحانه نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ- . و قال الجنيد دخلت على السري يوما فوجدته متغيرا- فسألته فقال دخل علي شاب فسألني عن التوبة- فقلت ألا تنسى ذنبك- فقال بل التوبة ألا تذكر ذنبك- قال الجنيد فقلت له إن الأمر عندي ما قاله الشاب- قال كيف قلت لأني إذا كنت في حال الجفاء- فنقلني إلى حال الصفاء- فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء- فسكت السري- . و قال ذو النون المصري- الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين- . و سئل البوشنجي عن التوبة- فقال إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره- فذاك حقيقة التوبة- .

و قال ذو النون- حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت- حتى لا يكون لك قرار ثم تضيق عليك نفسك- كما أخبر الله تعالى في كتابه- بقوله حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ- وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ- وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ- . و قيل لأبي حفص الحداد لم تبغض الدنيا- فقال لأني باشرت فيها الذنوب- قيل فهلا أحببتها لأنك وفقت فيها للتوبة- فقال أنا من الذنب على يقين- و من هذه التوبة على ظن- . و قال رجل لرابعة العدوية- إني قد أكثرت من الذنوب و المعاصي- فهل يتوب علي أن تبت- قالت لا بل لو تاب عليك لتبت- .

قالوا و لما كان الله تعالى يقول في كتابه العزيز- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ- دلنا ذلك على محبته لمن صحت له حقيقة التوبة- و لا شبهة أن من قارف الزلة فهو من خطئه على يقين- فإذا تاب فإنه من القبول على شك- لا سيما إذا كان من شرط القبول محبة الحق سبحانه له- و إلى أن يبلغ العاصي محلا- يجد في أوصافه أمارة محبة الله تعالى إياه مسافة بعيدة- فالواجب إذا على العبد- إذا علم أنه ارتكب ما يجب عنه التوبة دوام الانكسار- و ملازمة التنصل و الاستغفار- كما قيل استشعار الوجل إلى الأجل- .

و كان من سنته ع دوام الاستغفار- و قال إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة- .و قال يحيى بن معاذ- زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها- . و يحكي أن علي بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم- فجعل الغرباء يقولون من هذا من هذا- فقالت امرأة قائمة على السطح- إلى متى تقولون من هذا من هذا- هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه بما ترون- فسمع علي بن عيسى كلامها فرجع إلى منزله- و لم يزل يتوصل في الاستعفاء من الوزارة حتى أعفي- و ذهب إلى مكة فجاور بها- .

و منها المجاهد و قد قلنا فيها ما يكفي فيما تقدم- . و منها العزلة و الخلوة- و قد ذكرنا في جزء قبل هذا الجزء- مما جاء في ذلك طرفا صالحا و منها التقوى و هي الخوف من معصية الله- و من مظالم العباد- قال سبحانه إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وقيل إن رجلا جاء إلى رسول الله ص- فقال يا رسول الله أوصني- فقال عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير- و عليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلم- و عليك بذكر الله فإنه نور لك- . و قيل في تفسير قوله تعالى اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ- أن يطاع فلا يعصى- و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر- .

و قال النصرآباذي- من لزم التقوى بادر إلى مفارقة الدنيا- لأن الله تعالى يقول وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا- . و قيل يستدل على تقوى الرجل بثلاث- التوكل فيما لم ينل و الرضا بما قد نال- و حسن الصبر على ما فات- . و كان يقال- من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه- .

و قد حكوا من حكايات المتقين شيئا كثيرا- مثل ما يحكى عن ابن سيرين- أنه اشترى أربعين حبا سمنا- فأخرج غلامه فأرة من حب- فسأله من أي حب أخرجها- قال لا أدري فصبها كلها- . و حكي أن أبا يزيد البسطامي غسل ثوبه في الصحراء- و معه مصاحب له- فقال صاحبه نضرب هذا الوتد في جدار هذا البستان- و نبسط الثوب عليه- فقال لا يجوز ضرب الوتد في جدار الناس- قال فنعلقه على شجرة حتى يجف قال يكسر الأغصان- فقال نبسطه على الإذخر- قال إنه علف الدواب لا يجوز أن نستره منها- فولى ظهره قبل الشمس- و جعل القميص على ظهره حتى جف أحد جانبيه- ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر- . و منها الورع و هو اجتناب الشبهات- وقال ص لأبي هريرة كن ورعا تكن أعبد الناسو قال بو بكر كنا ندع سبعين بابا من الحلال- مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام- .

و كان يقال- الورع في المنطق أشد منه في الذهب و الفضة- و الزهد في الرئاسة أشد منه في الذهب و الفضة- لأنك تبذلهما في طلب الرئاسة- . و قال أبو عبد الله الجلاء- أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة- لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته و رشائه- . و قال بشر بن الحارث أشد الأعمال ثلاثة- الجود في القلة و الورع في الخلوة- و كلمة الحق عند من يخاف و يرجى- .

و يقال إن أخت بشر بن الحارث- جاءت إلى أحمد بن حنبل- فقالت إنا نغزل على سطوحنا- فتمر بنا مشاعل الطاهرية فيقع شعاعها علينا- أ فيجوز لنا الغزل في ضوئها- فقال أحمد من أنت يا أمة الله- قالت أخت بشر الحافي فبكى أحمد- و قال من بيتكم خرج الورع- لا تغزلي في ضوء مشاعلهم- . و حكى بعضهم- قال مررت بالبصرة في بعض الشوارع- فإذا بمشايخ قعود و صبيان يلعبون- فقلت أ ما تستحيون من هؤلاء المشايخ- فقال غلام من بينهم هؤلاء المشايخ قل ورعهم- فقلت هيبتهم- . و يقال إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة- ما صح له أن يأكل من تمر البصرة و لا من رطبها- حتى مات و لم يذقه- و كان إذا انقضى أوان الرطب- يقول يا أهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شي‏ء- سواء علي أكلت من رطبكم أو لم آكل- .

و قال الحسن مثقال ذرة من الورع- خير من ألف مثقال من الصوم و الصلاة- . و دخل الحسن مكة- فرأى غلاما من ولد علي بن أبي طالب- قد أسند ظهره إلى‏الكعبة و هو يعظ الناس- فقال له الحسن ما ملاك الدين قال الورع- قال فما آفته قال الطمع- فجعل الحسن يتعجب منه- . و قال سهل بن عبد الله- من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل و لم يشبع- . و حمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم- فقبض على مشمه و قال إنما ينتفع من هذا بريحه- و أنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين- .

و سئل أبو عثمان الحريري عن الورع- فقال كان أبو صالح بن حمدون عند صديق له و هو في النزع- فمات الرجل فنفث أبو صالح في السراج فأطفأه- فقيل له في ذلك- فقال إلى الآن كان الدهن الذي في المسرجة له- فلما مات صار إلى الورثة- . و منها الزهد و قد تكلموا في حقيقته- فقال سفيان الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل- . و قال الخواص الزهد أن تترك الدنيا فلا تبالي من أخذها- .

و قال أبو سليمان الداراني- الزهد ترك كل ما يشغل عن الله- . و قيل الزهد تحت كلمتين من القرآن العزيز- لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ- . و كان يقال من صدق في زهده أتته الدنيا و هي راغمة- و لهذا قيل لو سقطت قلنسوة من السماء- لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها- . و قال يحيى بن معاذ الزهد يسعطك الخل و الخردل- و العرفان يشمك المسك و العنبر- .

و قيل لبعضهم ما الزهد في الدنيا- قال ترك ما فيها على من فيها- . و قال رجل لذي النون المصري- متى تراني أزهد في الدنيا- قال إذا زهدت في نفسك- . و قال رجل ليحيي بن معاذ- متى تراني أدخل حانوت التوكل- و ألبس رداء الزهد و أقعد بين الزاهدين- فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد- لو قطع الله عنك القوت ثلاثة أيام- لم تضعف في نفسك و لا في يقينك- فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة- فقعودك على بساط الزاهدين جهل- ثم لا آمن أن تفتضح- . و قال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثة أوجه- ترك الحرام و هو زهد العوام- و ترك الفضول من الحلال و هو زهد الخواص- و ترك كل ما يشغلك عن الله و هو زهد العارفين- .

و قال يحيى بن معاذ الدنيا كالعروس- فطالبها كماشطتها تحسن وجهها و تعطر ثوبها- و الزاهد فيها كضرتها تسخم وجهها- و تنتف شعرها و تحرق ثوبها- و العارف مشتغل بالله لا يلتفت إليها و لا يشعر بها- . و كان النصرآباذي يقول في مناجاته- يا من حقن دماء الزاهدين- و سفك دماء العارفين- . و كان يقال إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت- و جعل مفتاحه الزهد- و جعل الشر كله في بيت و جعل مفتاحه حب الدنيا- . و منها الصمت- و قدمنا فيما سبق من الأجزاء نكتا نافعة في هذا المعنى- و نذكر الآن شيئا آخر-قال رسول الله ص من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذين جاره- و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه- و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو فليصمت- .

و قال أصحاب هذا العلم الصمت من آداب الحضرة- قال الله تعالى- وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا- . و قال مخبرا عن الجن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا- . و قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة- وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً- . و قالوا كم بين عبد سكت تصونا عن الكذب و الغيبة- و عبد سكت لاستيلاء سلطان الهيبة- . و أنشدوا-أرتب ما أقول إذا افترقنا و أحكم دائما حجج المقال‏فأنساها إذا نحن التقيناو أنطق حين أنطق بالمحال‏- . و أنشدوا-

فيا ليل كم من حاجة لي مهمة
إذا جئتكم لم أدر بالليل ماهيا

قالوا و ربما كان سبب الصمت و السكوت حيرة البديهة- فإنه إذا ورد كشف بغتة- خرست العبارات عند ذلك فلا بيان و لا نطق- و طمست الشواهد فلا علم و لا حس- قال الله تعالى- يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ- قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ- فأما إيثار أرباب المجاهدة الصمت- فلما علموا في الكلام من الآفات- ثم ما فيه من حط النفس و إظهار صفات المدح- و الميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق- و غير ذلك من ضروب آفات الكلام- و هذا نعت أرباب‏الرياضة- و هو أحد أركانهم في حكم مجاهدة النفس- و منازلتها و تهذيب الأخلاق- .

و يقال إن داود الطائي لما أراد أن يقعد في بيته- اعتقد أن يحضر مجلس أبي حنيفة- لأنه كان تلميذا له و يقعد بين أضرابه من العلماء- و لا يتكلم في مسألة على سبيل رياضته نفسه- فلما قويت نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة- قعد في بيته عند ذلك و آثر العزلة- .

و يقال إن عمر بن عبد العزيز- كان إذا كتب كتابا فاستحسن لفظه- مزق الكتاب و غيره- . و قال بشر بن الحارث- إذا أعجبك الكلام فاصمت فإذا أعجبك الصمت فتكلم- و قال سهل بن عبد الله- لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة- و لا يصح لأحد التوبة حتى يلزم نفسه الصمت- . و منها الخوف- قال الله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً- . و قال تعالى وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ- .

و قال يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ- . أبو علي الدقاق- الخوف على مراتب خوف و خشية و هيبة- . فالخوف من شروط الإيمان و قضاياه- قال الله تعالى فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- .و الخشية من شروط العلم- قال الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ- .و الهيبة من شروط المعرفة- قال سبحانه وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ- .

و قال أبو عمر الدمشقي- الخائف من يخاف من نفسه- أكثر مما يخاف من الشيطان- . و قال بعضهم من خاف من شي‏ء هرب منه- و من خاف الله هرب إليه- . و قال أبو سليمان الداراني- ما فارق الخوف قلبا إلا خرب و منها الرجاء- و قد قدمنا فيما قبل من ذكر الخوف و الرجاء طرفا صالحا- قال سبحانه مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ- . و الفرق بين الرجاء و التمني- و كون أحدهما محمودا و الآخر مذموما- أن التمني ألا يسلك طريق الاجتهاد و الجد- و الرجاء بخلاف ذلك- فلهذا كان التمني يورث صاحبه الكسل- .

و قال أبو علي الروذباري- الرجاء و الخوف كجناحي الطائر- إذا استويا استوى الطائر و تم طيرانه- و إذا نقص أحدهما وقع فيه النقص- و إذا ذهبا صار الطائر في حد الموت- . و قال أبو عثمان المغربي من حمل نفسه على الرجاء تعطل- و من حمل نفسه على الخوف قنط- و لكن من هذا مرة و من هذا مرة- . ومن كلام يحيى بن معاذ و يروى عن علي بن الحسين ع يكاد رجائي لك مع الذنوب- يغلب رجائي لك مع الأعمال- لأني أجدني أعتمد في الأعمال على‏ الإخلاص- و كيف أحرزها و أنا بالآفة معروف- و أجدني في الذنوب أعتمد على عفوك- و كيف لا تغفرها و أنت بالجود موصوف- . و منها الحزن و هو من أوصاف أهل السلوك- .

و قال أبو علي الدقاق- صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر- ما لا يقطعه من فقد الحزن في سنتين- .في الخبر النبوي ص إن الله يحب كل قلب حزين- . و في بعض كتب النبوات القديمة- إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة- و إذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا- .

و روي أن رسول الله ص كان متواصل الأحزان- دائم الفكر- . و قيل إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب- كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت- . و سمعت رابعة رجلا يقول وا حزناه- فقالت قل وا قلة حزناه- لو كنت محزونا ما تهيأ لك أن تتنفس- . و قال سفيان بن عيينة لو أن محزونا بكى في أمة- لرحم الله تلك الأمة ببكائه- . و كان بعض هؤلاء القوم- إذا سافر واحد من أصحابه يقول- إذا رأيت محزونا فأقرئه عني السلام- . و كان الحسن البصري لا يراه أحد- إلا ظن أنه حديث عهد بمصيبة- . و قال وكيع يوم مات الفضيل ذهب الحزن اليوم من الأرض- . و قال بعض السلف- أكثر ما يجده المؤمن- في صحيفته من الحسنات الحزن و الهم- .

و قال الفضيل- أدركت السلف يقولون- إن لله في كل شي‏ء زكاة- و زكاة العقل طول الحزن- . و منها الجوع و ترك الشهوات و قد تقدم ذكر ذلك- . و منها الخشوع و التواضع قال سبحانه- الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ و
في الخبر النبوي عنه ص لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر- و لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان- فقال رجل يا رسول الله- إن المرء ليحب أن يكون ثوبه حسنا- فقال إن الله جميل يحب الجمال- إنما المتكبر من بطر الحق و غمص الناس وروى أنس بن مالك أن رسول الله ص- كان يعود المريض و يشيع الجنائز- و يركب الحمار و يجيب دعوة العبد- . و كان يوم قريظة و النضير على حمار- مخطوم بحبل من ليف- عليه إكاف من ليف- .

و دخل مكة يوم فتحها راكب بعير برحل خلق- و إن ذقنه لتمس وسط الرحل خضوعا لله تعالى و خشوعا- و جيشه يومئذ عشرة آلاف- . قالوا في حد الخشوع هو الانقياد للحق- و في التواضع هو الاستسلام و ترك الاعتراض على الحكم- . و قال بعضهم- الخشوع قيام القلب بين يدي الحق بهم مجموع- . و قال حذيفة بن اليمان- أول ما تفقدون من دينكم الخشوع- .

و كان يقال من علامات الخشوع- أن العبد إذا أغضب أو خولف أو رد عليه- استقبل ذلك بالقبول- . و قال محمد بن علي الترمذي- الخاشع من خمدت نيران شهوته- و سكن دخان صدره- و أشرق نور التعظيم في قلبه- فماتت حواسه و حيي قلبه- و تطامنت جوارحه- . و قال الحسن- الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب- . و قال الجنيد- الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب- قال الله تعالى- وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً- أي خاشعون متواضعون- . و رأي بعضهم رجلا منقبض الظاهر- منكسر الشاهد- قد زوي منكبيه- فقال يا فلان الخشوع هاهنا- و أشار إلى صدره لا هاهنا- و أشار إلى منكبيه- .

وروي أن رسول الله ص رأى رجلا- يعبث بلحيته في صلاته- فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه- . و قيل شرط الخشوع في الصلاة- ألا يعرف من على يمينه و لا من على شماله- . و قال بعض الصوفية- الخشوع قشعريرة ترد على القلب بغتة- عند مفاجأة كشف الحقيقة- . و كان يقال- من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره- . و قيل إن عمر بن عبد العزيز لم يكن يسجد إلا على التراب- .

و كان عمر بن الخطاب يسرع في المشي- و يقول هو أنجح للحاجة و أبعد من الزهو- . كان رجاء بن حيوة ليلة- عند عمر بن عبد العزيز و هو خليفة- فصعف المصباح فقام رجل ليصلحه- فقال اجلس- فليس من الكرم أن يستخدم المرء ضيفه- فقال‏أنبه الغلام- قال إنها أول نومه نامها- ثم قام بنفسه فأصلح السراج- فقال رجاء أ تقوم إلى السراج و أنت أمير المؤمنين- قال قمت و أنا عمر بن عبد العزيز- و رجعت و أنا عمر بن عبد العزيز- .

وفي حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص كان يعلف البعير و يقم البيت- و يخصف النعل و يرقع الثوب- و يحلب الشاة و يأكل مع الخادم- و يطحن معها إذا أعيت- و كان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته- من السوق إلى منزل أهله- و كان يصافح الغني و الفقير و يسلم مبتدئا- و لا يحقر ما دعي إليه و لو إلى حشف التمر- و كان هين المئونة لين الخلق- كريم السجية جميل المعاشرة- طلق الوجه بساما من غير ضحك- محزونا من غير عبوس- متواضعا من غير ذلة- جوادا من غير سرف- رقيق القلب رحيما لكل مسلم- ما تجشأ قط من شبع- و لا مد يده إلى طبع- .

و قال الفضيل- أوحى الله إلى الجبال- أني مكلم على واحد منكم نبيا- فتطاولت الجبال و تواضع طور سيناء- فكلم الله عليه موسى لتواضعه- . سئل الجنيد عن التواضع- فقال خفض الجناح و لين الجانب- . ابن المبارك- التكبر على الأغنياء- و التواضع للفقراء من التواضع- . و قيل لأبي يزيد متى يكون الرجل متواضعا- قال إذا لم ير لنفسه مقاما و لا حالا- و لا يرى أن في الخلق من هو شر منه- . و كان يقال التواضع نعمة لا يحسد عليها- و التكبر محنة لا يرحم منها- و العز في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده- . و كان يقال الشرف في التواضع- و العز في التقوى و الحرية في القناعة- . يحيى بن معاذ التواضع حسن في كل أحد- لكنه في الأغنياء أحسن- و التكبر سمج في كل أحد- و لكنه في الفقراء أسمج- .

و ركب زيد بن ثابت- فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه- فقال مه يا ابن عم رسول الله- فقال إنا كذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا- فقال زيد أرني يدك فأخرجها فقبلها- فقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا- . و قال عروة بن الزبير- رأيت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى- و على عاتقه قربة ماء- فقلت يا أمير المؤمنين- إنه لا ينبغي لمثلك هذا- فقال إنه لما أتتني الوفود سامعة مهادنة- دخلت نفسي نخوة- فأحببت أن أكسرها- و مضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار- فأفرغها في إنائها- . أبو سليمان الداراني- من رأى لنفسه قيمة- لم يذق حلاوة الخدمة- .

يحيى بن معاذ التكبر على من تكبر عليك تواضع- . بشر الحافي- سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم بلغ عمر بن عبد العزيز- أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم- فكتب إليه- بلغني أنك اشتريت خاتما و فصه بألف درهم- فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم- و أشبع به ألف بطن- و اتخذ خاتما من درهمين- و اجعل فصه حديدا صينيا- و اكتب عليه رحم الله امرأ عرف قدره- . قومت ثياب عمر بن عبد العزيز- و هو يخطب أيام خلافته باثني عشر درهما- و هي قباء و عمامة و قميص و سراويل- و رداء و خفان و قلنسوة- .

و قال إبراهيم بن أدهم- ما سررت قط سروري في أيام ثلاثة- كنت في سفينة و فيها رجل مضحك- كان يلعب لأهل السفينة- فيقول كنا نأخذ العلج من بلاد الترك هكذا- و يأخذ بشعر رأسي فيهزني فسرني ذلك- لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر مني في عينه- و كنت عليلا في مسجد- فدخل المؤذن و قال اخرج فلم أطق- فأخذ برجلي و جرني إلى خارج المسجد- و كنت بالشام و علي فرو- فنظرت إليه فلم أميز بين الشعر- و بين القمل لكثرته- . عرض على بعض الأمراء مملوك بألوف من الدراهم- فاستكثر الثمن- فقال العبد اشترني يا مولاي- ففي خصلة تساوي أكثر من هذا الثمن- قال ما هي- قال لو قدمتني على جميع مماليك- و خولتني بكل مالك- لم أغلظ في نفسي- بل أعلم أني عبدك فاشتراه- .

تشاجر أبو ذر و بلال- فعير أبو ذر بلالا بالسواد- فشكاه إلى رسول الله ص- فقال يا أبا ذر- ما علمت أنه قد بقي في قلبك شي‏ء- من كبر الجاهلية- فألقى أبو ذر نفسه- و حلف ألا يحمل رأسه- حتى يطأ بلال خده بقدمه- فما رفع رأسه حتى فعل بلال ذلكمر الحسن بن علي ع بصبيان يلعبون- و بين أيديهم كسر خبز يأكلونها- فدعوه فنزل و أكل معهم- ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم و كساهم- و قال الفضل لهم- لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني- و نحن نجد أكثر مما أطعمناهم- .

و منها مخالفة النفس- و ذكر عيوبها و قد تقدم ذكر ذلك- . و منها القناعة قال الله تعالى- مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏- وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً- قال كثير من المفسرين هي القناعة- . وفي الحديث النبوي و يقال إنه من كلام أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفدوفي الحديث النبوي أيضا كن ورعا تكن أعبد الناس- و كن قنوعا تكن أشكر الناس- و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا- و أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما- و أقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب- . و كان يقال الفقراء أموات- إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة- .

و قال أبو سليمان الداراني- القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد- هذا أول الرضا و هذا أول الزهد- . و قيل القناعة سكون النفس- و عدم انزعاجها عند عدم المألوفات- . و قيل في تفسير قوله تعالى- لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أنه القناعة- . و قال أبو بكر المراغي- العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة و التسويف- و أنكر أبو عبد الله بن خفيف- فقال القناعة ترك التسويف بالمفقود- و الاستغناء بالموجود- . و كان يقال خرج العز و الغنى يجولان- فلقيا القناعة فاستقرا- . و كان يقال- من كانت قناعته سمينة طابت له كل مرقة- . مر أبو حازم الأعرج بقصاب- فقال له خذ يا أبا حازم- فقال ليس معي درهم قال أنا أنظرك- قال نفسي أحسن نظرة لي منك- .

و قيل وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع- العز في الطاعة و الذل في المعصية- و الهيبة في قيام الليل- و الحكمة في البطن الخالي- و الغنى في القناعة- . و كان يقال انتقم من فلان بالقناعة- كما تنتقم من قاتلك بالقصاص- . ذو النون المصري- من قنع استراح من أهل زمانه- و استطال على أقرانه- . و أنشدوا-

و أحسن بالفتى من يوم عار
ينال به الغنى كرم و جوع‏

و رأى رجل حكيما يأكل- ما تساقط من البقل على رأس الماء- فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا- فقال و أنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان- . و قيل العقاب عزيز في مطاره- لا تسمو إليه مطامع الصيادين- فإذا طمع في جيفة علقت على حباله- نزل من مطاره فنشب في الأحبولة- . و قيل لما نطق موسى بذكر الطمع- فقال لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً- قال له الخضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ- و فسر بعضهم قوله هَبْ لِي مُلْكاً- لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي- فقال مقاما في القناعة لا يبلغه أحد- .

و منها التوكل- قال الله تعالى وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ- و قال سهل بن عبد الله- أول مقام في التوكل- أن يكون العبد بين يدي الله تعالى- كالميت بين يدي الغاسل- يقلبه كيف يشاء- لا يكون له حركة و لا تدبير- . و قال رجل لحاتم الأصم من أين تأكل- فقال وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ- . و قال أصحاب هذا الشأن التوكل بالقلب- و ليس ينافيه الحركة بالجسد- بعد أن يتحقق العبد أن التقدير من الله- فإن تعسر شي‏ء فبتقديره- و أن تسهل فبتيسيره- .

وفي الخبر النبوي أنه ع قال للأعرابي- الذي ترك ناقته مهملة فندت- فلما قيل له قال توكلت فتركتها- فقال ع اعقل و توكل- . و قال ذو النون التوكل الانخلاع من الحول و القوة- و ترك تدبير الأسباب- و قال بعضهم- التوكل رد العيش إلى يوم واحد بإسقاط هم غد- .

و قال أبو علي الدقاق- التوكل ثلاث درجات- التوكل و هو أدناها- ثم التسليم ثم التفويض- فالأولى للعوام و الثانية للخواص- و الثالثة لخواص الخواص- . جاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال- فقال ارجع إلى بيتك- فمن وجدت منهم ليس رزقه على الله- فأخرجه من البيت- . و قال سهل بن عبد الله- من طعن في التوكل فقط طعن في الإيمان- و من طعن في الحركة فقد طعن في السنة- . و كان يقال المتوكل كالطفل- لا يعرف شيئا يأوي إليه إلا ثدي أمه- كذلك المتوكل لا يهتدي إلا إلى ربه- .

و رأى أبو سليمان الداراني رجلا بمكة- لا يتناول شيئا إلا شربة من ماء زمزم- فمضت عليه أيام فقال له يوما- أ رأيت لو غارت أي زمزم- أي شي‏ء كنت تشرب- فقام و قبل رأسه- و قال جزاك الله خيرا حيث أرشدتني- فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام ثم تركه و مضى- . و قيل التوكل نفي الشكوك- و التفويض إلى مالك الملوك- . و دخل جماعة على الجنيد- فقالوا نطلب الرزق- قال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه- قالوا فنسأل الله ذلك- قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه- قالوا لندخل البيت فنتوكل- قال التجربة شك- قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة- .

و قيل التوكل الثقة بالله- و اليأس عما في أيدي الناس- . و منها الشكر- و قد تقدم منا ذكر كثير مما قيل فيه- . و منها اليقين و هو مقام جليل- قال الله تعالى وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وقال علي بن أبي طالب ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا- . و قال سهل بن عبد الله- حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين- و فيه شكوى إلى غير الله- . وذكر للنبي ص ما يقال- عن عيسى ابن مريم ع- أنه مشى على الماء- فقال لو ازداد يقينا لمشى على الهواءوفي الخبر المرفوع عنه ص أنه قال لعبد الله بن مسعود- لا ترضين أحدا بسخط الله- و لا تحمدن أحدا على فضل الله- و لا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله- و اعلم أن الرزق لا يسوقه حرص حريص- و لا يرده كراهة كاره- و أن الله جعل الروح و الفرج في الرضا و اليقين- و جعل الهم و الحزن في الشك و السخط- .

و منها الصبر- قال الله تعالى وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وقال علي ع الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد
– . و سئل الفضيل عن الصبر- قال تجرع المرارة من غير تعبيس- . و قال رويم الصبر ترك الشكوى- .وقال علي ع الصبر مطية لا تكبو- . وقف رجل على الشبلي- فقال أي صبر أشد على الصابرين- قال الشبلي الصبر في الله تعالى فقال لا- قال فالصبر لله- فقال لا- قال فالصبر مع الله تعالى فقال لا- قال فأي شي‏ء قال الصبر عن الله- فصرخ الشبلي صرخة عظيمة و وقع- .

و يقال إن الشبلي حبس في المارستان- فدخل عليه قوم- فقال من أنتم- قالوا محبوك جئناك زائرين- فرماهم بالحجارة فهربوا- فقال لو كنتم أحباي لصبرتم على بلائي وجاء في بعض الأخبار عن الله تعالى بعيني ما يتحمل المتحملون من أجليوقال عمر بن الخطاب لو كان الصبر و الشكر بعيرين- لم أبال أيهما ركبتوفي الحديث المرفوع الإيمان الصبر و السخاءوفي الخبر العلم خليل المؤمن- و الحلم وزيره و العقل دليله- و العمل قائده و الرفق والده- و البر أخوه و الصبر أمير جنوده- قالوا فناهيك بشرف خصلة- تتأمر على هذه الخصال- و المعنى أن الثبات على هذه الخصال- و استدامة التخلق بها إنما يكون بالصبر- فلذلك كان أمير الجنود- .

و منها المراقبة-جاء في الخبر عن النبي ص أن سائلا سأله عن الإحسان- فقال أن تعبد الله كأنك تراه- فإن لم تكن تراه فإنه يراك- . و هذه إشارة إلى حال المراقبة- لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه- فاستدامة العبد لهذا العلم مراقبة للحق- و هو أصل كل خير- و لا يكاد يصل إلى هذه الرتبة- إلا بعد فراغه عن المحاسبة- فإذا حاسب نفسه على ما سلف- و أصلح حاله في الوقت-و لازم طريق الحق- و أحسن بينه و بين الله تعالى بمراعاة القلب- و حفظ مع الله سبحانه الأنفاس- راقبه تعالى في عموم أحواله- فيعلم أنه تعالى رقيب عليه- يعلم أحواله و يرى أفعاله و يسمع أقواله- و من تغافل عن هذه الجملة- فهو بمعزل عن بداية الوصلة- فكيف عن حقائق القربة- .

و يحكى أن ملكا كان يتحظى جارية له- و كان لوزيره ميل باطن إليها- فكان يسعى في مصالحها- و يرجح جانبها على جانب غيرها- من حظايا الملك و نسائه- فاتفق أن عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الأحمر- أحدهما أنفس من الآخر بمحضر من وزيره- فتحيرت أيهما تأخذ- فأومأ الوزير بعينه إلى الحجر الأنفس- و حانت من الملك التفاته- فشاهد عين الوزير و هي مائلة إلى ذلك الجانب- فبقي الوزير بعدها أربعين سنة- لا يراه الملك قط إلا كاسرا عينه- نحو الجانب الذي كان طرفه مائلا إليه ذلك اليوم- أي كأن ذلك خلقة- و هذا عزم قوي في المراقبة- و مثله فليكن حال من يريد الوصول- .

و يحكى أيضا أن أميرا كان له غلام- يقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من مماليكه- و لم يكن أكثرهم قيمة- و لا أحسنهم صورة فقيل له في ذلك- فأحب أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره- فكان يوما راكبا و معه حشمه- و بالبعد منهم جبل عليه ثلج- فنظر الأمير إلى الثلج و أطرق- فركض الغلام فرسه- و لم يعلم الغلمان لما ذا ركض- فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء و معه شي‏ء من الثلج- فقال الأمير ما أدراك أني أردت الثلج- فقال إنك نظرت إليه- و نظر السلطان إلى شي‏ء لا يكون إلا عن قصد- فقال الأمير لغلمانه إنما أختصه بإكرامي و إقبالي- لأن لكل واحد منكم شغلا- و شغله مراعاة لحظاتي و مراقبة أحوالي- .

و قال بعضهم من راقب الله في خواطره- عصمه الله في جوارحه- . و منها الرضا- و هو أن يرضى العبد بالشدائد و المصائب- التي يقضيها الله تعالى عليه- و ليس المراد بالرضا رضا العبد- بالمعاصي و الفواحش- أو نسبتها إلى الرب تعالى عنها- فإنه سبحانه لا يرضاها- كما قال جل جلاله وَ لا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ- . و قال كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً- . قال رويم- الرضا أن لو أدخلك جهنم لما سخطت عليه- . و قيل لبعضهم متى يكون العبد راضيا- قال إذا سرته المصيبة- كما سرته النعمة- .

قال الشبلي مرة و الجنيد حاضر- لا حول و لا قوة إلا بالله- فقال الجنيد أرى أن قولك هذا ضيق صدر- و ضيق الصدر يجي‏ء من ترك الرضا بالقضاء- . و قال أبو سليمان الدارني- الرضا ألا تسأل الله الجنة- و لا تستعيذ به من النار- . و قال تعالى فيمن سخط قسمته- وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ- فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا- وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ- .

ثم نبه على ما حرموه من فضيلة الرضا- فقال وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ- وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ- سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ- إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ- و جواب لو هاهنا محذوف لفهم المخاطب و علمه به- .و في حذفه فائدة لطيفة- و هو أن تقديره لرضي الله عنهم- و لما كان رضاه عن عباده مقاما جليلا جدا حذف ذكره- لان الذكر له لا ينبئ عن كنهه و حقيقة فضله- فكان الإضراب عن ذكره أبلغ في تعظيم مقامه- . ومن الأخبار المرفوعة أنه ص قال اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء- قالوا إنما قال بعد القضاء- لأن الرضا قبل القضاء لا يتصور- و إنما يتصور توطين النفس عليه- و إنما يتحقق الرضا بالشي‏ء بعد وقوع ذلك الشي‏ء- .

وفي الحديث أنه قال لابن عباس يوصيه اعمل لله باليقين و الرضا- فإن لم يكن فاصبر- فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيراوفي الحديث أنه ص رأى رجلا من أصحابه- و قد أجهده المرض و الحاجة- فقال ما الذي بلغ بك ما أرى- قال المرض و الحاجة- قال أ و لا أعلمك كلاما- إن أنت قلته أذهب الله عنك ما بك- قال و الذي نفسي بيده ما يسرني بحظي منهما- أن شهدت معك بدرا و الحديبية- فقال ص- و هل لأهل بدر و الحديبية ما للراضي و القانع- .

و قال أبو الدرداء- ذروة الإيمان الصبر و الرضا- . قدم سعد بن أبي وقاص مكة بعد ما كف بصره- فانثال الناس عليه يسألونه الدعاء لهم- فقال له عبد الله بن السائب- يا عم إنك تدعو للناس فيستجاب لك- هلا دعوت أن يرد عليك بصرك- فقال يا ابن أخي- قضاء الله تعالى أحب إلي من بصري- . عمر بن عبد العزيز- أصبحت و ما لي سرور إلا في مواقع القدر- . و كان يقال- الرضا إطراح الاقتراح على العالم بالصلاح- و كان يقال إذا كان القدر حقا كان سخطه حمقا- .

و كان يقال من رضي حظي- و من اطرح الاقتراح أفلح و استراح- . و كان يقال كن بالرضا عاملا- قبل أن تكون له معمولا- و سر إليه عادلا و إلا سرت نحوه معدولا- . و قيل للحسن من أين أتى الخلق- قال من قلة الرضا عن الله- فقيل و من أين دخلت عليهم قلة الرضا عن الله- قال من قلة المعرفة بالله- . و قال صاحب سلوان المطاع في الرضا-

يا مفزعي فيما يجي‏ء
و راحمي فيما مضى‏

عندي لما تقضيه ما
يرضيك من حسن الرضا

و من القطيعة أستعيذ مصرحا و معرضا- و قال أيضا-

كن من مدبرك الحكيم
علا و جل على وجل‏

و ارض القضاء فإنه‏
حتم أجل و له أجل‏

 و قال أيضا-

يا من يرى حالي و أن ليس
لي في غير قربي منه أوطار

و ليس لي ملتحد دونه‏
و لا عليه لي أنصار

حاشا لذاك العز و الفضل
أن يهلك من أنت له جار

و إن تشأ هلكي فهب لي رضا
بكل ما تقضي و تختار

عندي لأحكامك يا مالكي
قلب كما أنعمت صبار

كل عذاب منك مستعذب‏
ما لم يكن سخطك و النار

و منها العبودية- و هي أمر وراء العبادة- معناها التعبد و التذلل- قالوا العبادة للعوام من المؤمنين- و العبودية للخواص من السالكين- . و قال أبو علي الدقاق- العبادة لمن له علم اليقين- و العبودية لمن له عين اليقين- . و سئل محمد بن خفيف متى تصح العبودية- فقال إذا طرح كله على مولاه- و صبر معه على بلواه- .

و قال بعضهم العبودية معانقة ما أمرت به- و مفارقة ما زجرت عنه- . و قيل العبودية أن تسلم إليه كلك- و تحمل عليه كلك- . وفي الحديث المرفوع تعس عبد الدينار و تعس عبد الخبيصة- . رأى أبو يزيد البسطامي رجلا- فقال له ما حرفتك قال خربنده- قال أمات الله حمارك- لتكون عبدا لله لا عبدا للحمار- .

و كان ببغداد في رباط شيخ الشيوخ- صوفي كبير اللحية جدا- و كان مغرى و معنى بها أكثر زمانه- يدهنها و يسرحها- و يجعلها ليلا عند نومه في كيس- فقام بعض المريدين إليه في الليل و هو نائم- فقصها من الإذن إلى الإذن- فأصبحت كالصريم- و أصبح الصوفي شاكيا إلى شيخ الرباط- فجمع الصوفية و سألهم- فقال المريد أنا قصصتها- قال و كيف فعلت ويلك ذلك- قال أيها الشيخ- إنها كانت صنمه و كان يعبدها من دون الله- فأنكرت ذلك بقلبي- و أردت أن أجعله عبدا لله لا عبدا للحية- .

قالوا و ليس شي‏ء أشرف من العبودية- و لا اسم أتم للمؤمن من اسمه بالعبودية- و لذلك قال سبحانه في ذكر النبي ص ليلة المعراج- و كان ذلك الوقت أشرف أوقاته في الدنيا- سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا- و قال تعالى- فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ ما أَوْحى‏- فلو كان اسم أجل من العبودية لسماه به- . و أنشدوا-

لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي‏

و منها الإرادة قال تعالى- وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ- بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ- . قالوا الإرادة هي بدء طريق السالكين- و هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله- و إنما سميت هذه الصفة إرادة- لأن الإرادة مقدمة كل أمر- فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله- فلما كان هذا الشأن أول الأمر- لمن يسلك طريق الله سمي إرادة- تشبيها له بالقصد إلى الأمور التي هو مقدمتها- . قالوا و المريد على موجب الاشتقاق من له إرادة- و لكن المريد في هذا الاصطلاح من لا إرادة له- فما لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا- كما أن من لا إرادة له على موجب الاشتقاق لا يكون مريدا- . و قد اختلفوا في العبارات الدالة- على ماهية الإرادة في اصطلاحهم- فقال بعضهم الإرادة ترك ما عليه العادة- و عادة الناس في الغالب التعريج على أوطان الغفلة-و الركون إلى اتباع الشهوة- و الإخلاد إلى ما دعت إليه المنية- و المريد هو المنسلخ عن هذه الجملة- . و قال بعضهم الإرادة نهوض القلب في طلب الرب- و لهذا قيل إنها لوعة تهون كل روعة- .

و قال أبو علي الدقاق الإرادة لوعة في الفؤاد- و لذعة في القلب و غرام في الضمير- و انزعاج في الباطن و نيران تأجج في القلوب- . و قال ممشاذ الدينوري- مذ علمت أن أحوال الفقراء جد كلها- لم أمازح فقيرا- و ذلك أن فقيرا قدم علي- فقال أيها الشيخ أريد أن تتخذ لي عصيدة- فجرى على لساني إرادة و عصيدة فتأخر الفقير و لم أشعر- فأمرت باتخاذ عصيدة و طلبته فلم أجده- فتعرفت خبره- فقيل إنه انصرف من فوره- و هو يقول إرادة و عصيدة إرادة و عصيدة- و هام على وجهه حتى خرج إلى البادية- و هو يكرر هذه الكلمة- فما زال يقول و يرددها حتى مات- .

و حكى بعضهم- قال كنت بالبادية وحدي فضاق صدري- فصحت يا أنس كلموني يا جن كلموني- فهتف هاتف أي شي‏ء ناديت- فقلت الله فقال الهاتف كذبت- لو أردته لما ناديت الإنس و لا الجن- . فالمريد هو الذي لا يشغله عن الله شي‏ء- و لا يفتر آناء الليل و أطراف النهار- فهو في الظاهر بنعت المجاهدات- و في الباطن بوصف المكابدات- فارق الفراش و لازم الانكماش- و تحمل المصاعب و ركب المتاعب- و عالج الأخلاق و مارس المشاق- و عانق الأهوال و فارق الأشكال فهو كما قيل-

ثم قطعت الليل في مهمه
لا أسدا أخشى و لا ذيبا

يغلبني شوقي فأطوى السرى
و لم يزل ذو الشوق مغلوبا

و قيل من صفات المريدين التحبب إليه بالتوكل- و الإخلاص في نصيحة الأمة- و الأنس بالخلوة- و الصبر على مقاساة الأحكام- و الإيثار لأمره و الحياء من نظره- و بذل المجهود في محبته- و التعرض لكل سبب يوصل إليه- و القناعة بالخمول- و عدم الفرار من القلب- إلى أن يصل إلى الرب- .

و قال بعضهم- آفة المريد ثلاثة أشياء التزويج- و كتبه الحديث و الأسفار- . و قيل- من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء- نومه غلبة و أكله فاقة و كلامه ضرورة- . و قال بعضهم نهاية الإرادة أن يشير إلى الله- فيجده مع الإشارة- فقيل له و أي شي‏ء يستوعب الإرادة- فقال أن يجد الله بلا إشارة- . و سئل الجنيد- ما للمريدين و سماع القصص و الحكايات- فقال الحكايات جند من جند الله تعالى- يقوي بها قلوب المريدين- فقيل له هل في ذلك شاهد- فتلا قوله تعالى وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ- ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ- .

و قال أصحاب الطريقة بين المريد و المراد فرق- فالمريد من سلك الرياضة طلبا للوصول- و المراد من فاضت عليه العناية الإلهية ابتداء- فكان مخطوبا لا خاطبا- و بين الخاطب و المخطوب فرق عظيم- . قالوا كان موسى ع مريدا- قال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي- و كان محمد ص مرادا- قال له أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ- و سئل الجنيد عن‏المريد و المراد- فقال المريد سائر و المراد طائر- و متى يلحق السائر الطائر- .

أرسل ذو النون المصري رجلا إلى أبي يزيد- و قال له إلى متى النوم و الراحة- قد سارت القافلة- فقال له أبو يزيد قل لأخي- الرجل من ينام الليل كله- ثم يصبح في المنزل قبل القافلة- فقال ذو النون هنيئا له- هذا الكلام لا تبلغه أحوالنا- . و قد تكلم الحكماء في هذا المقام- فقال أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات- أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة- و هو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني- أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني- من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى- فيتحرك سره إلى القدس- لينال من روح الاتصال- فما دامت درجته هذه فهو مريد- .

ثم إنه ليحتاج إلى الرياضة- و الرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض- الأول تنحيه ما دون الحق عن سنن الإيثار- . و الثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة- لتنجذب قوى التخيل و الوهم- إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي- منصرفة من التوهمات المناسبة للأمر السفلي- . و الثالث تلطيف السر لنفسه- .

فالأول يعين عليه الزهد الحقيقي- و الثاني يعين عليه عدة أشياء- العبادة المشفوعة بالفكرة- ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة- لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام- ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكي- بعبارة بليغة و نغمة رخيمة و سمت رشيد- و الثالث يعين عليه الفكر اللطيف- و العشق العفيف الذي تتأمر فيه شمائل المعشوق- دون سلطان الشهوة- .

و منها الاستقامة- و حقيقتها الدوام و الاستمرار على الحال- قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا- . و سئل بعضهم عن تارك الاستقامة- فقال قد ذكر الله ذلك في كتابه- فقال وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها- مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً وفي الحديث المرفوع شيبتني هود فقيل له في ذلك فقال قوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ‏- .

و قال تعالى وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ- لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً- فلم يقل سقيناهم بل أسقيناهم- أي جعلنا لهم سقيا دائمة- و ذلك لأن من دام على الخدمة دامت عليه النعمة- . و منها الإخلاص- و هو إفراد الحق خاصة في الطاعة- بالقصد و التقرب إليه بذلك خاصة- من غير رياء و من غير أن يمازحه شي‏ء آخر من تصنع لمخلوق- أو اكتساب محمدة بين الناس أو محبة مدح- أو معنى من المعاني- و لذلك قال أرباب هذا الفن- الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين- . و قال الخواص من هؤلاء القوم- نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه- فإذا أراد الله أن يخلص إخلاص عبد- أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه- فيكون مخلصا لا مخلصا- . وجاء في الأثر عن مكحول ما أخلص عبد لله أربعين صباحا- إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه- .

و منها الصدق و يطلق على معنيين- تجنب الكذب و تجنب الرياء- و قد تقدم القول فيهما- . و منها الحياء- و
في الحديث الصحيح إذا لم تستحي فاصنع ما شئتوفي الحديث أيضا الحياء من الإيمان- و قال تعالى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى‏- قالوا معناه أ لم يستحي- . وفي الحديث أنه قال لأصحابه استحيوا من الله حق الحياء- قالوا إنا لنستحيي و نحمد الله- قال ليس كذلك- من استحيا من الله حق الحياء- فليحفظ الرأس و ما وعى و البطن و ما حوى- و ليذكر الموت و طول البلى- و ليترك زينة الحياة الدنيا- فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء- .

و قال ابن عطاء- العلم الأكبر الهيبة و الحياء- فإذا ذهبا لم يبق خير- . و قال ذو النون- الحب ينطق و الحياء يسكت و الخوف يقلق- . و قال السري الحياء و الأنس يطرقان القلب- فإن وجدا فيه الزهد و الورع حطا و إلا رحلا- . و كان يقال تعامل القرن الأول من الناس- فيما بينهم بالدين حتى رق الدين- ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء- ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى فنيت المروءة- ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى قل الحياء- ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة و الرهبة

و قال الفضيل خمس من علامات الشقاء- القسوة في القلب و جمود العين- و قلة الحياء و الرغبة في الدنيا و طول الأمل- . و فسر بعضهم قوله تعالى وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها- لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ- أنها كان لها صنم في زاوية البيت- فمضت فألقت على وجهه ثوبا- فقال يوسف ما هذا قالت أستحيي منه- قال فأنا أولى أن أستحيي من الله- .

وفي بعض الكتب القديمة ما أنصفني عبدي يدعوني فأستحيي أن أرده- و يعصيني و أنا أراه فلا يستحيي مني
و منها الحرية- و هو ألا يكون الإنسان بقلبه رق شي‏ء من المخلوقات- لا من أغراض الدنيا و لا من أغراض الآخرة- فيكون فردا لفرد لا يسترقه عاجل دنيا- و لا آجل منى و لا حاصل هوى- و لا سؤال و لا قصد و لا أرب- .

قال له ص بعض أصحاب الصفة- قد عزفت نفسي يا رسول الله عن الدنيا- فاستوى عندي ذهبها و حجرها قال صرت حرا- . و كان بعضهم يقول- لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت-أ تمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر- و سئل الجنيد عمن لم يبق له من الدنيا- إلا مقدار مص نواه- فقال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم- . و منها الذكر- قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراًوروى أبو الدرداء أن رسول الله ص قال أ لا أنبئكم بخير أعمالكم- و أزكاها عند خالقكم- و أرفعها في درجاتكم- و خير من إعطائكم الذهب و الفضة في سبيل الله- و من أن تلقوا عدوكم- فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم- قالوا ما ذلك يا رسول الله قال ذكر اللهوفي الحديث المرفوع لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله- .

و قال أبو علي الدقاق- الذكر منشور الولاية- فمن وفق للذكر فقد أعطي المنشور- و من سلب الذكر فقد عزل- . و قيل ذكر الله تعالى بالقلب سيف المريدين- به يقاتلون أعداءهم و به يدفعون الآفات التي تقصدهم- و أن البلاء إذا أظل العبد- ففزع بقلبه إلى الله حاد عنه كل ما يكرهه- . وفي الخبر المرفوع إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها- قيل و ما رياض الجنة قال مجالس الذكروفي الخبر المرفوع أنا جليس من ذكرني- . و سمع الشبلي و هو ينشد-

ذكرتك لا أني نسيتك لمحة
و أيسر ما في الذكر ذكر لساني‏

فكدت بلا وجد أموت من الهوى‏
و هام على القلب بالخفقان‏

فلما أراني الوجد أنك حاضري
شهدتك موجودا بكل مكان‏

فخاطبت موجودا بغير تكلم‏
و لاحظت معلوما بغير عيان‏

و منها الفتوة- قال سبحانه مخبرا عن أصحاب الأصنام- قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ- . و قال تعالى في أصحاب الكهف- إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً- . و قد اختلفوا في التعبير عن الفتوة ما هي- فقال بعضهم الفتوة ألا ترى لنفسك فضلا على غيرك- . و قال بعضهم الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان- .

و قالوا إنما هتف الملك يوم أحد بقوله-لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي‏- . لأنه كسر الأصنام- فسمي بما سمي به أبوه إبراهيم الخليل- حين كسرها و جعلها جذاذا- . قالوا و صنم كل إنسان نفسه- فمن خالف هواه فقد كسر صنمه- فاستحق أن يطلق عليها لفظ الفتوة- . و قال الحارث المحاسبي الفتوة أن تنصف و لا تنتصف- . و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سئل أبي عن الفتوة- فقال ترك ما تهوى لما تخشى- . و قيل الفتوة ألا تدخر و لا تعتذر- .

سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد الصادق ع عن الفتوة- فقال ما تقول أنت- قال إن أعطينا شكرنا و إن منعنا صبرنا- قال إن الكلاب عندنا بالمدينة هذا شأنها- و لكن قل إن أعطينا آثرنا و إن منعنا شكرنا- .

و منها الفراسة- قيل في تفسير قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ- أي للمتفرسين- وقال النبي ص اتقوا فراسة المؤمن فإنها لا تخطئقيل الفراسة سواطع أنوار لمعت في القلوب- حتى شهدت الأشياء من حيث أشهدها الحق إياها- و كل من كان أقوى إيمانا كان أشد فراسة- . و كان يقال- إذا صحت الفراسة ارتقى منها صاحبها إلى المشاهدة- .

و منها حسن الخلق و هو من صفات العارفين- فقد أثنى الله تعالى به على نبيه- فقال وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ وقيل له ص- أي المؤمنين أفضل إيمانا- فقال أحسنهم خلقا و بالخلق تظهر جواهر الرجال- و الإنسان مستور بخلقه مشهور بخلقه- .

و قال بعضهم- حسن الخلق استصغار ما منك و استعظام ما إليك- . وقال النبي ص إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم- فسعوهم بأخلاقكم- . قيل لذي النون- من أكبر الناس هما قال أسوؤهم خلقا- . و كان يقال- ما تخلق أحد أربعين صباحا بخلق إلا صار ذلك طبيعة فيه- . قال الحسن في قوله تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ- أي و خلقك فحسن- . شتم رجل الأحنف بن قيس و جعل يتبعه و يشتمه- فلما قرب الحي وقف- و قال يا فتى إن كان قد بقي في قلبك شي‏ء فقله- كيلا يسمعك سفهاء الحي فيجيبوك- .

و يقال إن معروفا الكرخي نزل دجلة ليسبح- و وضع ثيابه و مصحفه- فجاءت امرأة فاحتملتهما فتبعها- و قال أنا معروف الكرخي فلا بأس عليك- أ لك ابن يقرأ قالت لا- قال أ فلك بعل قالت لا- قال فهاتي المصحف و خذي الثياب- . قيل لبعضهم ما أدب الخلق- قال ما أدب الله به نبيه- في قوله خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ يقال إن في بعض كتب النبوات القديمة يا عبدي اذكرني حين تغضب- أذكرك حين أغضب- .

قالت امرأة لمالك بن دينار يا مرائي- فقال لقد وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة- . قال بعضهم و قد سئل عن غلام سوء له لم يمسكه- قال أ تعلم عليه الحلم- . و كان يقال ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة- الحليم عند الغضب و الشجاع عند الحرب- و الصديق عند الحاجة إليه- . و قيل في تفسير قوله تعالى- وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً- الظاهرة تسوية الخلق و الباطنة تصفية الخلق- . الفضيل لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي- من أن يصحبني عابد سيئ الخلق- . خرج إبراهيم بن أدهم إلى بعض البراري- فاستقبله جندي فسأله أين العمران- فأشار إلى المقبرة فضرب رأسه فشجه و أدماه- فلما جاوزه قيل له- إن ذلك إبراهيم بن أدهم‏زاهد خراسان- فرد إليه يعتذر- فقال إبراهيم- إنك لما ضربتني سألت الله لك الجنة- .

قال لم سألت ذلك- قال علمت أني أوجر على ضربك لي- فلم أرد أن يكون نصيبي منك الخير و نصيبك مني الشر- . و قال بعض أصحاب الجنيد- قدمت من مكة- فبدأت بالشيخ كي لا يتعنى إلي فسلمت عليه- ثم مضيت إلى منزلي- فلما صليت الصبح في المسجد- إذا أنا به خلفي في الصف- فقلت إنما جئتك أمس لئلا تتعنى- فقال ذلك فضلك و هذا حقك- .

كان أبو ذر على حوض يسقي إبله- فزاحمه إنسان فكسر الحوض- فجلس أبو ذر ثم اضطجع فقيل له في ذلك- فقال أمرنا رسول الله ص- إذا غضب الرجل و هو قائم فليجلس فإن ذهب عنه- و إلا فليضطجع- . دعا إنسان بعض مشاهير الصوفية إلى ضيافة- فلما حضر باب داره رده و اعتذر إليه- ثم فعل به مثل ذلك و ثانية و ثالثة- و الصوفي لا يغضب و لا يضجر- فمدحه ذلك الإنسان و أثنى عليه بحسن الخلق- فقال إنما تمدحني على خلق تجد مثله في الكلب- إن دعوته حضر و إن زجرته انزجر- .

مر بعضهم وقت الهاجرة بسكة- فألقى عليه من سطح طست رماد- فغضب من كان في صحبته فقال لا تغضبوا- من استحق أن يصب عليه النار فصولح على الرماد- لم تجز له أن يغضب- . كان لبغض الخياطين جار يدفع إليه ثيابا فيخيطها- و يدفع إليه أجرتها دراهم زيوفا- فيأخذها فقام يوما من حانوته و استخلف ولده- فجاء الجار بالدراهم الزائفة- فدفعها إلى الولد فلم يقبلها فأبدلها بدراهم جيدة- فلما جاء أبوه دفع إليه الدراهم- فقال ويحك هل جرى بينك و بينه أمر قال نعم- إنه أحضر الدراهم زيوفا فرددتها فأحضر هذه-فقال بئس ما صنعت- إنه منذ كذا و كذا سنة يعاملني بالزائف و أصبر عليه- و ألقيها في بئر كي لا يغر غيري بها و قيل الخلق السيئ هو أن يضيق قلب الإنسان- عن أن يتسع لغير ما تحبه النفس و تؤثره- كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه- . و كان يقال- من سوء الخلق أن تقف على سوء خلق غيرك و تعيبه به- .

قيل لرسول الله ادع الله على المشركين- فقال إنما بعثت رحمة و لم أبعث عذابادعا علي ع غلاما له مرارا و هو لا يجيبه- فقام إليه فقال أ لا تسمع يا غلام قال بلى- قال فما حملك على ترك الجواب- قال أمني لعقوبتك قال اذهب فأنت حر- .

و منها الكتمان-قال رسول الله ص استعينوا على أموركم بالكتمان- . و قال السري علامة الحب الصبر و الكتمان- و من باح بسرنا فليس منا- . و قال الشاعر-

كتمت حبك حتى منك تكرمة
ثم استوى فيك إسراري و إعلاني‏

كأنه غاض حتى فاض عن جسدي‏
فصار سقمي به في جسم كتماني‏

و هذا ضد ما يذهب إليه القوم من الكتمان- و هو عذر لأصحاب السر و الإعلان- و كان يقال المحبة فاضحة و الدمع نمام- . و قال الشاعر-

لا جزى الله دمع عيني خيرا
و جزى الله كل خير لساني‏

فاض دمعي فليس يكتم شيئا
و وجدت اللسان ذا كتمان‏

يقال إن بعض العارفين- أوصى تلميذه بكتمان ما يطلع عليه من الحال- فلما شاهد الأمر غلب- فكان يطلع في بئر في موضع خال فيحدثها بما يشاهد- فنبتت في تلك البئر شجرة- سمع منها صوت يحكي كلام ذلك التلميذ- كما يحكي الصدا كلام المتكلم- فأسقط بذلك من ديوان الأولياء- . و أنشدوا-

أبدا تحن إليكم الأرواح
و وصالكم ريحانها و الراح‏

و قلوب أهل ودادكم تشتاقكم‏
و إلى لقاء جمالكم ترتاح‏

وا رحمة للعاشقين تحملوا
ثقل المحبة و الهوى فضاح‏

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم‏
و كذا دماء البائحين تباح‏

 و قال الحسين بن منصور الحلاج

إني لأكتم من علمي جواهره
كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتننا

و قد تقدمني فيه أبو حسن‏
إلى الحسين و أوصى قبله الحسنا

يا رب مكنون علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

و لاستحل رجال صالحون دمي‏
يرون أقبح ما يأتونه حسنا

و منها الجود و السخاء و الإيثار- قال الله تعالى وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وقال النبي ص السخي قريب من الله قريب من الناس-و البخيل بعيد من الله بعيد من الناس- و أن الجاهل السخي أحب إلى الله من العابد البخيل- .

قالوا لا فرق بين الجود و السخاء في اصطلاح أهل العربية- إلا أن الباري سبحانه لا يوصف بالسخاء- لأنه يشعر بسماح النفس عقيب التردد في ذلك- و أما في اصطلاح أرباب هذه الطريقة- فالسخاء هو الرتبة الأولى و الجود بعده ثم الإيثار- فمن أعطى البعض و أبقى البعض فهو صاحب السخاء- و من أعطى الأكثر و أبقى لنفسه شيئا فهو صاحب الجود- و الذي قاسى الضراء و آثر غيره بالبلغة فهو صاحب الإيثار- .

قال أسماء بن خارجة الفزاري- ما أحب أن أرد أحدا عن حاجة طلبها- إن كان كريما صنت عرضه عن الناس- و إن كان لئيما صنت عنه عرضي- . كان مؤرق العجلي يتلطف في بر إخوانه- يضع عندهم ألف درهم و يقول أمسكوها حتى أعود إليكم- ثم يرسل إليهم أنتم منها في حل- . و كان يقال الجود إجابة الخاطر الأول- . و كان أبو الحسن البوشنجي في الخلاء فدعا تلميذا له- فقال انزع عني هذا القميص و ادفعه إلى فلان- فقيل له هلا صبرت فقال لم آمن على نفسي- أن تغير علي ما وقع لي من التخلق معه بالقميص- .

رئي علي ع يوما باكيا فقيل له لم تبكي- فقال لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام- أخاف أن يكون الله قد أهانني- . أضاف عبد الله بن عامر رجلا فأحسن قراه- فلما أراد أن يرتحل لم يعنه غلمانه فسئل عن ذلك- فقال إنهم إنما يعينون من نزل علينا- لا من ارتحل عنا- . و منها الغيرة-قال رسول الله ص لا أحد أغير من الله- إنما حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن لغيرتهوفي حديث أبي هريرة أن الله ليغار و أن المؤمن ليغارقال و الغيرة هي كراهية المشاركة فيما هو حقك- . و قيل الغيرة الأنفة و الحمية- .

و حكي عن السري أنه قرئ بين يديه- وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ- جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً- فقال لأصحابه أ تدرون ما هذا الحجاب- هذا حجاب الغيرة و لا أحد أغير من الله- . قالوا و معنى حجاب الغيرة- أنه لما أصر الكافرون على الجحود- عاقبهم بأن لم يجعلهم أهلا لمعرفة أسرار القرآن- . و قال أبو علي الدقاق- إن أصحاب الكسل عن عبادته- هم الذين ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخذلان- فاختار لهم البعد و أخرهم عن محل القرب- و لذلك تأخروا- . و في معناه أنشدوا فقالوا-

أنا صب بمن هويت و لكن
ما احتيالي في سوء رأي الموالي‏

 و في معناه قالوا سقيم لا يعاد و مريد لا يراد- . و كان أبو علي الدقاق- إذا وقع شي‏ء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين- يقول هذا من غيرة الحق- يريد به ألا يتم ما أملناه من صفاء هذا الوقت- . و أنشدوا في معناه-
همت بإتياننا حتى إذا نظرت إلى المرأة نهانا وجهها الحسن‏- . و قيل لبعضهم أ تريد أن تراه قال لا- قيل لم قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي- و في معناه أنشدوا-

إني لأحسد ناظري عليك
حتى أغض إذا نظرت إليك‏

و أراك تخطر في شمائلك
التي هي فتنتي فأغار منك عليكا

و سئل الشبلي متى تستريح- قال إذا لم أر له ذاكرا- . و قال أبو علي الدقاق فيقول النبي ص عند مبايعته فرسا من أعرابي- و أنه استقاله فأقاله- فقال الأعرابي عمرك الله فمن أنت- قال ص أنا امرؤ من قريش- فقال بعض الصحابة من الحاضرين للأعرابي- كفاك جفاء ألا تعرف نبيك- فكان أبو علي يقول إنما قال امرؤ من قريش- غيرة و نوعا من الأنفة- و إلا فقد كان الواجب عليه- أن يتعرف لكل أحد أنه من هو- لكن الله سبحانه أجرى على لسان ذلك الصحابي- التعريف للأعرابي بقوله كفاك جفاء ألا تعرف نبيك- .

و قال أصحاب الطريقة- مساكنة أحد من الخلق للحق في قلبك- توجب الغيرة منه تعالى- . أذن الشبلي مرة فلما انتهى إلى الشهادتين- قال و حقك لو لا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك- . و سمع رجل رجلا يقول جل الله- فقال أحب أن تجله عن هذا- . و كان بعض العارفين يقول- لا إله إلا الله من داخل القلب- محمد رسول الله من قرط الأذن- . و قيل لأبي الفتوح السهروردي- و قد أخذ بحلب ليصلب على خشبة- ما الذي أباحهم هذا منك- قال إن هؤلاء دعوني- إلى أن أجعل محمدا شريكا لله في الربوبية- فلم أفعل فقتلوني- .

و منها التفويض– قال الله تعالى وَ عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ- وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ- وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ- فاستوقف من عقل أمره عن الاقتراح عليه- و أفهمه ما يرضاه به من التفويض إليه- فالعاقل تارك للاقتراح على العالم بالصلاح- .

و قال تعالى فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً- وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً- فبعث على تأكيد الرجاء بقوله خَيْراً كَثِيراً- . و لما فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا- وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ- كما ورد في الكتاب العزيز- . و حقيقة التفويض هي التسليم لأحكام الحق سبحانه- و إلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى- قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا- هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ- فأس التفويض و الباعث عليه- هو اعتقاد العجز عن مغالبة القدر- و أنه لا يكون في الخير و الشر- أعني الرخص و الصحة و سعة الرزق و البلايا- و الأمراض و العلل و ضيق الرزق- إلا ما أراد الله تعالى كونه- و لا يصح التفويض ممن لم يعتقد ذلك و لم يعلمه علم اليقين- .

و قد بالغ النبي ص في التصريح به- و النص عليهبقوله لعبد الله بن مسعود ليقل همك ما قدر أتاك و ما لم يقدر لم يأتك- و لو جهد الخلق أن ينفعوك بشي‏ء- لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه- و لو جهدوا أن يضروك بشي‏ء- لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلكوفي صحيح مسلم بن الحجاج أنه قال لأبي هريرة في كلام له فإن أصابك شي‏ء فلا تقل- لو فعلت كذا لكان كذا- فإن لو تفتح عمل الشيطان- و لكن قل ما قدر الله و ما شاء فعلوفي صحيح مسلم أيضا عن البراء بن عازب إذا أخذت مضجعك فقل كذا- إلى أن قال- وجهت وجهي إليك و ألجأت ظهري إليك- رغبة و رهبة إليك لا منجى و لا ملجأ منك إلا إليك- .

و كان يقال معارضة المريض طبيبه توجب تعذيبه- و كان يقال إنما الكيس الماهر من أمسى في قبضة القاهر- . و كان يقال إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة- فما من أعوان تقوده إلى الحيلة- . و كان يقال إذا التبست المصادر ففوض إلى القادر- . و كان يقال- من الدلالة على أن الإنسان مصرف مغلوب- و مدبر مربوب- أن يتبلد رأيه في بعض الخطوب- و يعمى عليه الصواب المطلوب- . و إذا كان كذلك- فربما كان تدميره في تدبيره و اغتياله من احتياله- و هلكته من حركته- . و في ذلك أنشدوا-

أيا من يعول في المشكلات
على ما رآه و ما دبره‏

إذا أعضل الأمر فافزع به‏
إلى من يرى منه ما لم تره‏

تكن بين عطف يقيل الخطوب
و لطف يهون ما قدره‏

إذا كنت تجهل عقبى الأمور
و ما لك حول و لا مقدره‏

فلم ذا العنا و علام الأسى
و مم الحذار و فيم الشره‏

و أنشدوا في هذا المعنى-

يا رب مغتبط و مغبوط
بأمر فيه هلكه‏

و منافس في ملك ما
يشقيه في الدارين ملكه‏

علم العواقب دونه
ستر و ليس يرام هتكه‏

و معارض الأقدار بالآراء
سيئ الحال ضنكه‏

فكن امرأ محض اليقين
و زيف الشبهات سبكه‏

تفويضه توحيده‏
و عناده المقدار شركه‏

و منها الولاية و المعرفة و قد تقدم القول فيهما- .

و منها الدعاء و المناجاة– قال الله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وفي الحديث المرفوع الدعاء مخ العبادة- . و قد اختلف أرباب هذا الشأن في الدعاء- فقال قوم الدعاء مفتاح الحاجة- و مستروح أصحاب الفاقات- و ملجأ المضطرين و متنفس ذوي المآرب- . و قد ذم الله تعالى قوما فقال وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ- فسروه و قالوا لا يمدونها إليه في السؤال- .

و قال سهل بن عبد الله التستري- خلق الله الخلق و قال تاجروا في- فإن لم تفعلوا فاسمعوا مني- فإن لم تفعلوا فكونوا ببابي- فإن لم تفعلوا فأنزلوا حاجاتكم بي- . قالوا و قد أثنى الله على نفسه- فقال أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ- قالوا الدعاء إظهار فاقة العبودية- .

و قال أبو حاتم الأعرج- لأن أحرم الدعاء أشد علي من أن أحرم الإجابة- . و قال قوم- بل السكوت و الخمود تحت جريان الحكم- و الرضا بما سبق من اختيار الحكيم- العالم بالمصالح أولى- و لهذا قال الواسطي اختيار ما جرى لك في الأزل- خير لك من معارضة الوقت- . وقال النبي ص إخبارا عن الله تعالى من شغله ذكري عن مسألتي- أعطيته أفضل ما أعطي السائلين- .

و قال قوم يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه- و صاحب رضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعا- . و قال قوم إن الأوقات تختلف- ففي بعض الأحوال يكون الدعاء أفضل من السكوت- و في بعض الأحوال يكون بالعكس- و إنما يعرف هذا في الوقت- لأن علم الوقت يحصل في الوقت- فإذا وجد في قلبه الإشارة إلى الدعاء فالدعاء أولى- و إن وجد بقلبه الإشارة إلى السكوت- فالسكوت له أتم و أولى- .

وجاء في الخبر أن الله يبغض العبد فيسرع إجابته بغضا لسماع صوته- و أنه يحب العبد فيؤخر إجابته حبا لسماع صوته- . و من أدب الدعاء حضور القلب-فقد روي عنه ص أن الله لا يستجيب دعاء قلب لاه- . و من شروط الإجابة طيب الطعمة و حل المكسب-قال ص لسعد بن أبي وقاص أطب كسبك تستجب دعوتك- .

و ينبغي أن يكون الدعاء بعد المعرفة-قيل لجعفر بن محمد الصادق ع- ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا- قال لأنكم تدعون من لا تعرفونه- . كان صالح المري يقول كثيرا- ادعوا فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له- فقالت له رابعة العدوية ما ذا تقول- أغلق هذا الباب حتى يستفتح- فقال صالح شيخ جهل و امرأة علمت- . و قيل فائدة الدعاء إظهار الفاقة من الخلق- و إلا فالرب يفعل ما يشاء- .

و قيل دعاء العامة بالأقوال و دعاء العابد بالأفعال- و دعاء العارف بالأحوال- . و قيل خير الدعاء ما هيجه الأحزان و الوجد- . و قيل أقرب الدعاء إلى الإجابة دعاء الاضطرار- لقوله تعالى أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ- . قال أصحاب هذه الطريقة- ألسنة المبتدءين أرباب الإرادة منطلقة بالدعاء- و ألسنة المحققين الواصلين قد خرست عن ذلك- . و كان عبد الله بن المبارك يقول- ما دعوته منذ خمسين سنة- و لا أريد أن يدعو لي أحد- .

و قيل الدعاء سلم المذنبين- . و قال من قال بنقيض هذا الدعاء مراسلة- و ما دامت المراسلة باقية فالأمر جميل بعد- . و قالوا ألسنة المذنبين دموعهم- . و كان أبو علي الدقاق يقول- إذا بكى المذنب فقد راسل الله- . و في معناه أنشدوا
دموع الفتى عما يجن تترجم و أنفاسه تبدين ما القلب يكتم‏- .

و قال بعضهم لبعض العارفين ادع لي- فقال كفاك من الإجابة ألا تجعل بينك و بينه واسطة- . و منها التأسي- قال سبحانه لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ- أي في مصابه و ما نيل منه في نفسه و في أهله يوم أحد- فلا تجزعوا أن أصيب بعضكم- . وجاء في الحديث المرفوع لا تنظروا إلى من فوقكم- و انظروا إلى من دونكم- فإنه أجدر ألا تزدروا نعم الله عليكم- . و قالت الخنساء ترثى أخاها-

و لو لا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي‏

و ما يبكون مثل أخي و لكن‏
أعزي النفس عنه بالتأسي‏

 و حقيقة التأسي- تهوين المصائب و النوائب على النفس- بالنظر إلى ما أصاب أمثالك- و من هو أرفع محلا منك- . و قد فسر العلماء قوله تعالى- وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ- أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ- قال إنه لا يهون على أحد من أهل النار عذابه- و إن تأسى بغيره من المعذبين- لأن الله تعالى جعل لهم التأسي نافعا في الدنيا- و لم يجعله نافعا لأهل النار مبالغة في تعذيبهم- و نفيا لراحة تصل إليهم- .

و منها الفقر و هو شعار الصالحين-قال رسول الله ص اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا- و احشرني مع المساكين
– . قال لعلي ع- إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بأحسن منها- وهب لك حب المساكين- فجعلك ترضى بهم أتباعا و يرضون بك إماما- .

وجاء في الخبر المرفوع الفقراء الصبر جلساء الله يوم القيامة- . و سئل يحيى بن معاذ عن الفقر- فقال ألا تستغني إلا بالله- . وقال أبو الدرداء لأن أقع من فوق قصر فأتحطم- أحب إلي من مجالسة الغني- لأني سمعت رسول الله ص يقول- إياكم و مجالسة الموتى- فقيل له و ما الموتى قال الأغنياء- . قيل للربيع بن خثيم قد غلا السعر- قال نحن أهون على الله من أن يجيعنا- إنما يجيع أولياءه- .

و قيل ليحيى بن معاذ ما الفقر قال خوف الفقر- . و قال الشبلي أدنى علامات الفقير- أن لو كانت الدنيا بأسرها لواحد فأنفقها في يوم واحد- ثم خطر بباله لو أمسكت منها قوت يوم آخر- لم يصدق في فقره- . سئل ابن الجلاء عن الفقر فسكت ثم ذهب قليلا- و عاد فقال كانت عندي أربعة دوانيق فضة- فاستحييت من الله أن أتكلم في الفقر و هي عندي- فذهبت فأخرجتها ثم قعد فتكلم في الفقر- . و قال أبو علي الدقاق في تفسيرقوله ص من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه- إن المرء بقلبه و لسانه و جوارحه- فمن تواضع لغني بلسانه و جوارحه ذهب ثلثا دينه- فإن تواضع له مع ذلك بقلبه ذهب دينه كله- .

و منها الأدب– قالوا في تفسير قوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى‏- حفظ أدب الحضرة- . قيل إنه ع لم يمد نظره فوق المقام- الذي أوصل إليه ليلة شاهد السدرة- و هي أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه البشريون- . وفي الحديث المرفوع أدبني ربي فأحسن تأديبيو قيل إن الجنيد لم يمد رجله في الخلوة عشرين سنة- و كان يقول الأدب مع الله أولى من الأدب مع الخلق- .

و قال أبو علي الدقاق- من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل- . ومن كلامه ع ترك الأدب يوجب الطرد- فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب- و من أساء الأدب على الباب رد إلى ساحة الدواب- . و قال عبد الله بن المبارك- قد أكثر الناس في الأدب- و عندي أن الأدب معرفة الإنسان بنفسه- . و قال الثوري من لم يتأدب للوقت فوقته مقت- .

و قال أبو علي الدقاق في قوله تعالى حكاية عن أيوب- إِذْ نادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ- قال لم يقل فارحمني لأنه حفظ آداب الخطاب- و كذلك قال في قول عيسى- إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ- قال لم يقل لم أقل رعاية لأدب الحضرة- .

و منها المحبة و هي مقام جليل- قالوا المحبة أن تهب كلك لمن أحببت- فلا يبقى لك منك شي‏ء- . قيل لبعض العرب ما وجدت من حب فلانة- قال أرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس- . و قال أبو عبد الرحمن السلمي- المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك- . و قال النصرآباذي المحبة نوعان- نوع يوجب حقن الدماء و نوع يوجب سفك الدماء- . و قال يحيى بن معاذ- المحبة الخالصة ألا تنقص بالجفاء و لا تزيد بالبر- . و قيل للنصرآباذي كيف حالك في المحبة- قال عدمت وصال المحبين- و رزقت حسراتهم فهو ذا أنا أحترق فيها- ثم قال المحبة مجانبة السلو على كل حال- . و أنشدوا-

و من كان في طول الهوى ذاق
سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق‏

و أكثر شي‏ء نلته من وصالها
أماني لم تصدق كلمحة بارق‏

وجاء في الحديث المرفوع المرء مع من أحب- و لما سمع سمنون هذا الخبر- قال فاز المحبون بشرف الدنيا و الآخرة- لأنهم مع الله تعالى- . وفي الحديث المرفوع لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله- و يحبه الله و رسوله
و هذا يتجاوز حد الجلالة و الشرف- . و كان يقال الحب أوله ختل و آخره قتل- . قيل كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد- سكرت من كثرة ما شربت من محبته- فكتب إليه أبو زيد- غيرك شرب بحور السموات و الأرض- و ما روي بعد و لسانه خارج و هو يقول هل من مزيد- .و أنشد-

عجبت لمن يقول ذكرت حبي
و هل أنسى فأذكر ما نسيت‏

شربت الحب كأسا بعد كأس‏
فما نفد الشراب و لا رويت‏

و قيل المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه- ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف- . و أنشدوا-

فأسكر القوم دور كأس
و كان سكري من المدير

 و منها الشوق-جاء في الخبر المرفوع أن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة- علي و سلمان و عمار- . الشوق مرتبة من مراتب القوم- و مقام من مقاماتهم- سئل ابن عطاء الشوق أعلى أم المحبة- فقال المحبة لأن الشوق منها يتولد- . ومن الأدعية النبوية المأثورة- الدعاء الذي كان يدعو به عمار بن ياسر رضي الله عنه اللهم بعلمك بالغيب و قدرتك على الخلق- أحيني ما علمت الحياة خيرا لي- و توفني ما كانت الوفاة خيرا لي- اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة- و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب- و أسألك القصد في الغنى و الفقر- و أسألك نعيما لا يبيد و قرة عين لا تنقطع- و أسألك الرضا بعد القضاء و برد العيش بعد الموت- و أسألك النظر إلى وجهك- و الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة- اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين- . قالوا الشوق احتياج القلب إلى لقاء المحبوب- و على قدر المحبة يكون الشوق- و علامة الشوق حب الموت- .

و هذا هو السر في قوله تعالى- فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- أي أن من كان صاحب محبة يتمنى لقاء محبوبه- فمن لا يتمنى ذلك لا يكون صادق المحبة- . قيل لبعض الصوفية هل تشتاق إليه- فقال إنما الشوق إلى غائب و هو حاضر لا يغيب- . و قالوا في قوله تعالى- مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ- إنه تطيب لقلوب المشتاقين- .

و
يقال إنه مكتوب في بعض كتب النبوات القديمة شوقناكم فلم تشتاقوا- و زمرنا لكم فلم ترقصوا- و خوفناكم فلم ترهبوا و نحنا لكم فلم تحزنواوقيل إن شعيبا بكى حتى عمي فرد الله إليه بصره- ثم بكى حتى عمي فرد عليه بصره ثم كذلك ثلاثا- فقال الله تعالى- إن كان هذا البكاء شوقا إلى الجنة فقد أبحتها لك- و إن كان خوفا من النار فقد أجرتك منها- فقال و حقك لا هذا و لا هذا و لكن شوقا إليك- فقال له لأجل ذلك أخدمتك نبيي و كليمي عشر سنين
– .

و منها الزهد و رفض الدنيا– قال سبحانه- وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ- زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا و
جاء في الخبر أن يوسف ع كان يجوع في سني الجدب- فقيل له أ تجوع و أنت على خزائن مصر- فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياعو كذلك قال علي ع و قد قيل له أ هذا لباسك- و هذا مأكولك و أنت أميرالمؤمنين- فقال نعم إن الله فرض على أئمة العدل- أن يقدروا لأنفسهم كضعفة الناس- كيلا يتبيغ بالفقير فقره- . و منع عمر بن الخطاب نفسه عام الرمادة الدسم- و قال لا آكله حتى يصيبه المسلمون جميعا- . و كان عمر بن عبد العزيز من أكثر الناس تنعما- قبل أن يلي الخلافة- قومت ثيابه حينئذ بألف دينار- و قومت و هو يخطب الناس أيام خلافته بثلاثة دراهم- .

و اعلم أن بعض هذه المراتب و المقامات- التي ذكرناها للقوم قد يكون متداخلا في الظاهر- و له في الباطن عندهم فرق يعرفه من يأنس بكتبهم- و قد أتينا في تقسيم مراتبهم- و تفصيل مقاماتهم في هذا الفصل بما فيه كفاية

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 216 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

216 و من كلام له ع قاله بعد تلاوته

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ- يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَ زَوْراً مَا أَغْفَلَهُ- وَ خَطَراً مَا أَفْظَعَهُ- لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وَ تَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ- أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ- أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ قد اختلف المفسرون في تأويل هاتين الآيتين- فقال قوم المعنى أنكم قطعتم أيام عمركم- في التكاثر بالأموال و الأولاد حتى أتاكم الموت- فكني عن حلول الموت بهم بزيارة المقابر- . و قال قوم بل كانوا يتفاخرون بأنفسهم- و تعدى ذلك إلى أن تفاخروا بأسلافهم الأموات- فقالوا منا فلان و فلان لقوم كانوا و انقرضوا- . و هذا هو التفسير الذي يدل عليه كلام أمير المؤمنين ع- قال يا له مراما منصوب على التمييز- . ما أبعده أي لا فخر في ذلك- و طلب الفخر من هذا الباب بعيد- و إنما الفخر بتقوى الله و طاعته- .

و زورا ما أغفله إشارة إلى القوم الذين افتخروا- جعلهم بتذكر الأموات السالفين كالزائرين لقبورهم- و الزور اسم للواحد و الجمع كالخصم و الضيف- قال ما أغفلهم عما يراد منهم- لأنهم تركوا العبادة و الطاعة- و صرموا الأوقات بالمفاخرة بالموتى- . ثم قال و خطرا ما أفظعه- إشارة إلى الموت أي ما أشده- فظع الشي‏ء بالضم فهو فظيع- أي شديد شنيع مجاوز للمقدار- .

قوله لقد استخلوا منهم أي مدكر- قال الراوندي- أي وجدوا موضع التذكر خاليا من الفائدة- و هذا غير صحيح- و كيف يقول ذلك و قد قال و خطرا ما أفظعه- و هل يكون أمر أعظم تذكيرا من الاعتبار بالموتى- و الصحيح أنه أراد باستخلوا- ذكر من خلا من آبائهم أي من مضى- يقال هذا الأمر من الأمور الخالية- و هذا القرن من القرون الخالية أي الماضية- . و استخلى فلان في حديثه أي حدث عن أمور خالية- و المعنى أنه استعظم ما يوجبه حديثهم- عما خلا و عمن خلا من أسلافهم- و آثار أسلافهم من التذكير- فقال أي مدكر و واعظ في ذلك-

و روي أي مذكر بمعنى المصدر- كالمعتقد بمعنى الاعتقاد و المعتبر بمعنى الاعتبار- . و تناوشوهم من مكان بعيد أي تناولوهم- و المراد ذكروهم و تحدثوا عنهم- فكأنهم تناولوهم- و هذه اللفظة من ألفاظ القرآن العزيز- وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ- و أنى لهم تناول الإيمان حينئذ بعد فوات الأمر:

يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَ حَرَكَاتٍ سَكَنَتْ- وَ لَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً- وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ- أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ- لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ- وَ ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ- وَ لَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ- وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَقَالَتْ- ذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ ضُلَّالًا وَ ذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالًا- تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وَ تَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ- وَ تَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وَ تَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا- وَ إِنَّمَا الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَ نَوَائِحُ عَلَيْكُمْ- أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ- الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ- وَ حَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوكاً وَ سُوَقاً يرتجعون منهم أجسادا أي يذكرون آباءهم- فكأنهم ردوهم إلى الدنيا و ارتجعوهم من القبور- و خوت خلت- . قال و هؤلاء الموتى أحق بأن يكونوا عبرة و عظة- من أن يكونوا فخرا و شرفا- و المفتخرون بهم أولى بالهبوط- إلى جانب الذلة منهم بالقيام مقام العز- . و تقول هذا أحجى من فلان- أي أولى و أجدر و الجناب الفناء- .

ثم قال لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة- أي لم ينظروا النظر المفضي إلى الرؤية- لأن أبصارهم ذات عشوة- و هو مرض في العين ينقص به الأبصار- و في عين فلان عشاء و عشوة بمعنى- و منه قيل لكل أمر ملتبس- يركبه الراكب على غير بيان أمر عشوة- و منه أوطأتني عشوة و يجوز بالضم و الفتح- .

قال و ضربوا بهم في غمرة جهالة- أي و ضربوا من ذكر هؤلاء الموتى في بحر جهل- و الضرب ها هنا استعارة- أو يكون من الضرب بمعنى السير- كقوله تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ- أي خاضوا و سبحوا من ذكرهم في غمرة جهالة- و كل هذا يرجع إلى معنى واحد- و هو تسفيه رأي المفتخرين بالموتى- و القاطعين الوقت بالتكاثر بهم- إعراضا عما يجب إنفاقه من العمر في الطاعة و العبادة- . ثم قال لو سألوا عنهم ديارهم التي خلت منهم- و يمكن أن يريد بالديار و الربوع القبور- لقالت ذهبوا في الأرض ضلالا أي هالكين- و منه قوله تعالى- وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ- . و ذهبتم في أعقابهم أي بعدهم جهالا لغفلتكم و غروركم- . قوله ع تطئون في هامهم- أخذ هذا المعنى أبو العلاء المعري فقال-

خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد

رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد

و دفين على بقايا دفين
من عهود الآباء و الأجداد

صاح هذي قبورنا تملأ الأرض‏
فأين القبور من عهد عاد

سر إن اسطعت في الهواء ر
ويدا لا اختيالا على رفات العباد

قوله و تستنبتون في أجسادهم- أي تزرعون النبات في أجسادهم- و ذلك لأن أديم الأرض الظاهر- إذا كان من أبدان الموتى- فالزرع لا محالة يكون نابتا في الأجزاء الترابية- التي هي أبدان الحيوانات- و روي و تستثبتون بالثاء- أي و تنصبون الأشياء الثابتة كالعمد و الأساطين- للأوطان في أجساد الموتى- .

ثم قال و ترتعون فيما لفظوا- لفظت الشي‏ء بالفتح رميته من فمي ألفظه بالكسر- و يجوز أن يريد بذلك أنكم تأكلون ما خلفوه و تركوه- و يجوز أن يريد أنكم تأكلون الفواكه- التي تنبت في أجزاء ترابية- خالطها الصديد الجاري من أفواههم ثم قال و تسكنون فيما خربوا- أي تسكنون في المساكن التي لم يعمروها- بالذكر و العبادة- فكأنهم أخربوها في المعنى- ثم سكنتم أنتم فيها بعدهم- و يجوز أن يريد أن كل دار عامرة- قد كانت من قبل خربة- و إنما أخربها قوم بادوا و ماتوا- فإذن لا ساكن منا في عمارة- إلا و يصدق عليه أنه ساكن فيما قد كان خرابا من قبل- و الذين أخربوه الآن موتى- و يجوز أن يريد بقوله و تسكنون فيما خربوا- و تسكنون في دور فارقوها و أخلوها- فأطلق على الخلو و الفراغ لفظ الخراب مجازا- . قوله و إنما الأيام بينكم و بينهم- بواك و نوائح عليكم- يريد أن الأيام و الليالي تشيع رائحا إلى المقابر و تبكي- و تنوح على الباقين الذين سيلتحقون به عن قريب- .

قوله أولئكم سلف غايتكم- السلف المتقدمون و الغاية الحد الذي ينتهي إليه- إما حسيا أو معنويا و المراد هاهنا الموت- . و الفرط القوم يسبقون الحي إلى المنهل- . و مقاوم العز دعائمه جمع مقوم- و أصلها الخشبة التي يمسكها الحراث- و حلبات الفخر جمع حلبة و هي الخيل تجمع للسباق- . و السوق بفتح الواو جمع سوقة و هو من دون الملك: سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ- فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ- وَ ضِمَاراً لَا يُوجَدُونَ- لَا يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ- وَ لَا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الْأَحْوَالِ- وَ لَا يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَ لَا يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ- غُيَّباً لَا يُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لَا يَحْضُرُونَ- وَ إِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا وَ أُلَّافاً فَافْتَرَقُوا- وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ- عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِيَارُهُمْ- وَ لَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً- وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً- فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ- جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ- بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ-

وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ- فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَ هُمْ جَمِيعٌ- وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ- لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَ لَا لِنَهَارٍ مَسَاءً- أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَعَلَيْهِمْ سَرْمَداً- شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا- وَ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا- فَكِلَا الْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ- إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَ الرَّجَاءِ- فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا- لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَايَنُوا- وَ لَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ- لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ- وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ- وَ تَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ- فَقَالُوا كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ وَ خَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ- وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى وَ تَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ- وَ تَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ وَ تَهَدَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ- فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا- وَ طَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا- وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً وَ لَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ- أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ- وَ قَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ- وَ اكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ- وَ تَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا-

وَ هَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا- وَ عَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا- وَ سَهَّلَ طُرُقَ الآْفَةِ إِلَيْهَا- مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ وَ لَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ- لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَ أَقْذَاءَ عُيُونٍ- لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ- وَ غَمْرَةٌ لَا تَنْجَلِي- فَكَمْ أَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ وَ أَنِيقِ لَوْنٍ- كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ وَ رَبِيبَ شَرَفٍ- يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ- وَ يَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ- ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ وَ شَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَ لَعِبِهِ فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ- فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ- وَ نَقَضَتِ الْأَيَّامُ قُوَاهُ- وَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ- فَخَالَطَهُ بَثٌّ لَا يَعْرِفُهُ وَ نَجِيُّ هَمٍ‏مَا كَانَ يَجِدُهُ- وَ تَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ- فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الْأَطِبَّاءُ- مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وَ تَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ- فَلَمْ يُطْفِئُ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً- وَ لَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً- وَ لَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ- إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ- حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ- وَ تَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ- وَ خَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلينَ عَنْهُ- وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ- فَقَائِلٌ هُوَ لِمَا بِهِ وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ- وَ مُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ- يُذَكِّرُهُمْ أَسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ- فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا- وَ تَرْكِ الْأَحِبَّةِ- إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ- فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَ يَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ- فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ- وَ دُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ- مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ- وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ- أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا هذا موضع المثل ملعا يا ظليم و إلا فالتخوية- من أراد أن يعظ و يخوف و يقرع صفاة القلب- و يعرف الناس قدر الدنيا و تصرفها بأهلها- فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح- و إلا فليمسك فإن السكوت أستر و العي خير من منطق يفضح صاحبه- و من تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه- و الله ما سن‏الفصاحة لقريش غيره- و ينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس- و تلى عليهم أن يسجدوا له- كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاع-قلم أصاب من الدواة مدادها- . فلما قيل لهم في ذلك- قالوا إنا نعرف مواضع السجود في الشعر- كما تعرفون مواضع السجود في القرآن- .

و إني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام- يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود- و النمور و أمثالهما من السباع الضارية- ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة- بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان- لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحما و لم يريقوا دما- فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني- و عتيبة بن الحارث اليربوعي- و عامر بن الطفيل العامري- و تارة يكون في صورة سقراط الحبر اليوناني- و يوحنا المعمدان الإسرائيلي- و المسيح ابن مريم الإلهي- .

و أقسم بمن تقسم الأمم كلها به- لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة و إلى الآن- أكثر من ألف مرة- ما قرأتها قط إلا و أحدثت عندي روعة و خوفا و عظة- و أثرت في قلبي وجيبا و في أعضائي رعدة- و لا تأملتها إلا و ذكرت الموتى من أهلي و أقاربي- و أرباب ودي- و خيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف ع حاله- و كم قد قال الواعظون و الخطباء و الفصحاء في هذا المعنى- و كم وقفت على ما قالوه و تكرر وقوفي عليه- فلم أجد لشي‏ء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي- فإما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله- أو كانت نية القائل صالحة و يقينه كان ثابتا- و إخلاصه كان محضاخالصا- فكان تأثير قوله في النفوس أعظم- و سريان موعظته في القلوب أبلغ ثم نعود إلى تفسير الفصل- فالبرزخ الحاجز بين الشيئين- و البرزخ ما بين الدنيا و الآخرة من وقت الموت إلى البعث- فيجوز أن يكون البرزخ في هذا الموضع القبر- لأنه حاجز بين الميت و بين أهل الدنيا- كالحائط المبني بين اثنين فإنه برزخ بينهما- و يجوز أن يريد به- الوقت الذي بين حال الموت إلى حال النشور- و الأول أقرب إلى مراده ع- لأنه قال في بطون البرزخ- و لفظة البطون تدل على التفسير الأول- و لفظتا أكلت الأرض من لحومهم- و شربت من دمائهم مستعارتان- .
و الفجوات جمع فجوة و هي الفرجة المتسعة بين الشيئين- قال سبحانه وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ- و قد تفاجى الشي‏ء إذا صارت له فجوة- .

و جمادا لا ينمون- أي خرجوا عن صورة الحيوانية إلى صورة الجماد- الذي لا ينمي و لا يزيد- و يروى لا ينمون بتشديد الميم- من النميمة و هي الهمس و الحركة- و منه قولهم أسكت الله نامته- في قول من شدد و لم يهمز- . و ضمارا يقال لكل ما لا يرجى من الدين و الوعد- و كل ما لا تكون منه على ثقة ضمار- . ثم ذكر أن الأهوال الحادثة في الدنيا لا تفزعهم- و أن تنكر الأحوال بهم و بأهل الدنيا لا يحزنهم- و يروى تحزنهم على أن الماضي رباعي- . و مثله قوله لا يحفلون بالرواجف- أي لا يكترثون بالزلازل- .

قوله و لا يأذنون للقواصف- أي لا يسمعون الأصوات الشديدة أذنت لكذا أي سمعته- . و جمع الغائب غيب و غيب و كلاهما مروي هاهنا- و أراد أنهم شهود في الصورة و غير حاضرين في المعنى- . و ألاف على فعال جمع آلف كالطراق جمع طارق- و السمار جمع سامر و الكفار جمع كافر- . ثم ذكر أنه لم تعم أخبارهم- أي لم تستبهم أخبارهم و تنقطع عن بعد عهد بهم- و لا عن بعد منزل لهم- و إنما سقوا كأس المنون التي أخرستهم بعد النطق- و أصمتهم بعد السمع و أسكنتهم بعد الحركة- .

و قوله و بالسمع صمما أي لم يسمعوا فيها نداء المنادي- و لا نوح النائح أو لم يسمع في قبورهم صوت منهم- . قوله فكأنهم في ارتجال الصفة- أي إذا وصفهم الواصف مرتجلا غير مترو في الصفة- و لا متهيئ للقول- . قال كأنهم صرعى سبات و هو نوم- لأنه لا فرق في الصورة بين الميت حال موته و النائم المسبوت- . ثم وصفهم بأنهم جيران- إلا أنهم لا مؤانسة بينهم كجيران الدنيا- و أنهم أحباء إلا أنهم لا يتزاورون كالأحباب من أهل الدنيا- . و قوله أحباء جمع حبيب- كخليل و أخلاء و صديق و أصدقاء- . ثم ذكر أن عرا التعارف قد بليت منهم- و انقطعت بينهم أسباب الإخاء- و هذه كلها استعارات لطيفة مستحسنة- .

ثم وصفهم بصفة أخرى- فقال كل واحد منهم موصوف بالوحدة- و هم مع ذلك مجتمعون- بخلاف الأحياء الذين إذا انضم بعضهم إلى بعض- انتفى عنه وصف الوحدة- . ثم قال و بجانب الهجر و هم أخلاء- أي و كل منهم في جانب الهجر- و هم مع ذلك أهل خلة و مودة أي كانوا كذلك- و هذا كله من باب الصناعة المعنوية و المجاز الرشيق- . ثم قال إنهم لا يعرفون للنهار ليلا و لا لليل نهارا- و ذلك لأن الواحد من البشر- إذا مات نهارا لم يعرف لذلك النهار ليلا أبدا- و إن مات ليلا لم يعرف لذلك الليل صباحا أبدا- و قال الشاعر-

لا بد من يوم بلا ليلة
أو ليلة تأتي بلا يوم‏

 و ليس المراد بقوله- أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا- أنهم و هم موتى يشعرون بالوقت الذي ماتوا فيه- و لا يشعرون بما يتعقبه من الأوقات- بل المراد أن صورة ذلك الوقت لو بقيت عندهم لبقيت أبدا- من غير أن يزيلها وقت آخر يطرأ عليها- و يجوز أن يفسر على مذهب من قال ببقاء الأنفس- فيقال إن النفس التي تفارق ليلا- تبقى الصورة الليلية و الظلمة حاصلة عندها أبدا- لا تزول بطرآن نهار عليها لأنها قد فارقت الحواس- فلا سبيل لها- إلى أن يرتسم فيها شي‏ء من المحسوسات بعد المفارقة- و إنما حصل ما حصل من غير زيادة عليه- و كذلك الأنفس التي تفارق نهارا
بعض الأشعار و الحكايات في وصف القبور و الموتىو اعلم أن الناس قد قالوا في حال الموتى فأكثروا- فمن ذلك قول الرضي أبي الحسن رحمه الله تعالى-

أعزز علي بأن نزلت بمنزل
متشابه الأمجاد بالأوغاد

في عصبة جنبوا إلى آجالهم‏
و الدهر يعجلهم عن الإرواد

ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم
من غير أطناب و لا أعماد

ركب أناخوا لا يرجى منهم‏
قصد لإتهام و لا إنجاد

كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة
للدهر باركة بكل مفاد

فتهافتوا عن رحل كل مذلل‏
و تطاوحوا عن سرج كل جواد

بادون في صور الجميع
و إنهم متفردون تفرد الآحاد

 قوله بادون في صور الجميع- مأخوذ من قول أمير المؤمنين ع- فكلهم وحيد و هم جميع- . و قال أيضا-

و لقد حفظت له فأين حفاظه
و لقد وفيت له فأين وفاؤه‏

أوعى الدعاء فلم يجبه قطيعة
أم ضل عنه من البعاد دعاؤه‏

هيهات أصبح سمعه و عيانه
في الترب قد حجبتها أقذاؤه‏

يمسي و لين مهاده حصباؤه‏
فيه و مؤنس ليله ظلماؤه‏

قد قلبت أعيانه و تنكرت
أعلامه و تكسفت أضواؤه‏

مغف و ليس للذة إغفاؤه
مغض و ليس لفكرة إغضاؤه‏

وجه كلمع البرق غاض و ميضه‏
قلب كصدر العضب فل مضاؤه‏

حكم البلى فيه فلو تلقى
به أعداءه لرتى له أعداؤه‏

 و قال أبو العلاء-

أستغفر الله ما عندي لكم
خبر و ما خطابي إلا معشرا قبروا

أصبحتم في البلى غبرا ملابسكم‏
من الهباء فأين البرد و القطر

كنتم على كل خطب فادح صبرا
فهل شعرتم و قد جادتكم الصبر

و ما درى يوم أحد بالذين ثووا
فيه و لا يوم بدر أنهم نصروا

 و قال أبو عارم الكلابي-

أ جازعة ردينة أن أتاها
نعيي أم يكون لها اصطبار

إذا ما أهل قبري و دعوني‏
و راحوا و الأكف بها غبار

و غودر أعظمي في لحد
قبر تراوحه الجنائب و القطار

تهب الريح فوق محط قبري‏
و يرعى حوله اللهق النوار

مقيم لا يكلمه صديق
بقبر لا أزور و لا أزار

فذاك النأي لا الهجران حولا
و حولا ثم تجتمع الديار

 مر الإسكندر بمدينة- قد ملكها سبعة أملاك من بيت واحد و بادوا- فسأل هل بقي من نسلهم أحد- قالوا بقي واحد و هو يلزم المقابر- فدعا به فسأله لم تلزم المقابر- قال أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم- فوجدتها سواء- قال هل لك أن تلزمني حتى أنيلك بغيتك- قال لو علمت أنك تقدر على ذلك للزمتك- قال و ما بغيتك‏قال حياة لا موت معها- قال لن أقدر على ذلك- قال فدعني أطلبه ممن يقدر عليه- .قال النبي ص ما رأيت منظرا إلا و القبر أفظع منه
وقال ص القبر أول منزل من منازل الآخرة- فمن نجا منه فما بعده أيسر و من لم ينج فما بعده شر له- .

مر عبد الله بن عمر رضي الله عنه بمقبرة فصلى فيها ركعتين- و قال ذكرت أهل القبور و أنه حيل بينهم و بين هذا- فأحببت أن أتقرب بهما إلى اللهفإن قلت ما معنى قوله ع و بجانب الهجر- و أي فائدة في لفظة جانب في هذا الموضع- . قلت لأنهم يقولون فلان في جانب الهجر و في جانب القطيعة- و لا يقولون في جانب الوصل و في جانب المصافاة- و ذلك أن لفظة جنب في الأصل موضوعة للمباعدة- و منه قولهم الجار الجنب و هو جارك من قوم غرباء- يقال جنبت الرجل و أجنبته و تجنبته و تجانبته- كله بمعنى- و رجل أجنبي و أجنب و جنب و جانب كله بمعنى- .

قوله ع شاهدوا من أخطار دارهم- المعنى أنه شاهد المتقون من آثار الرحمة و أماراتها- و شاهد المجرمون من آثار النقمة و أماراتها عند الموت- و الحصول في القبر أعظم مما كانوا يسمعون و يظنون- أيام كونهم في الدنيا- . ثم قال فكلا الغايتين مدت لهم- المعنى مدت الغايتان غاية الشقي منهم و غاية السعيد- .إلى مباءة أي إلى منزل يعظم حاله عن أن يبلغه خوف خائف- أو رجاء راج- و تلك المباءة هي النار أو الجنة- و تقول قد استباء الرجل أي اتخذ مباءة- و أبأت الإبل رددتها إلى مباءتها و هي معاطنها- . ثم قال فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بتشديد الياء- قال الشاعر-

عيوا بأمرهم كما عيت
ببيضتها الحمامة

جعلت لها عودين من‏
نشم و آخر من ثمامة

و روي لعيوا بالتخفيف كما تقول حيوا- قالوا ذهبت الياء الثانية لالتقاء الساكنين- لأن الواو ساكنة و ضمت الياء الأولى لأجل الواو- قال الشاعر-

و كنا حسبناهم فوارس كهمس
حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا

 قوله لقد رجعت فيهم يقال رجع البصر نفسه- و رجع زيد بصره يتعدى و لا يتعدى- يقول تكلموا معنى لا صورة- فأدركت حالهم بالأبصار و الأسماع العقلية لا الحسية- و كلحت الوجوه كلوحا و كلاحا- و هو تكشر في عبوس- . و النواضر النواعم و النضرة الحسن و الرونق- . و خوت الأجساد النواعم- خلت من دمها و رطوبتها و حشوتها- و يجوز أن يكون خوت أي سقطت- قال تعالى فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها- و الأهدام جمع هدم و هو الثوب البالي- قال أوس-
و ذات هدم عار نواشرها تصمت بالماء تولبا جذعا- .

و تكاءدنا شق علينا و منه عقبة كئود- و يجوز تكأدنا- جاءت هذه الكلمة في أخوات لها تفعل و تفاعل بمعنى- و مثله تعهد الضيعة و تعاهدها- . و يقال قوله و توارثنا الوحشة- كأنه لما مات الأب فاستوحش أهله منه- ثم مات الابن فاستوحش منه أهله أيضا- صار كان الابن ورث تلك الوحشة من أبيه كما تورث الأموال- و هذا من باب الاستعارة- . قوله و تهدمت علينا الربوع- يقال تهدم فلان على فلان غضبا إذا اشتد غضبه- و يجوز أن يكون تهدمت أي تساقطت-

و روي و تهكمت بالكاف- و هو كقولك تهدمت بالتفسيرين جميعا- و يعني بالربوع الصموت القبور- و جعلها صموتا لأنه لا نطق فيها- كما تقول ليل قائم و نهار صائم أي يقام و يصام فيهما- و هذا كله على طريق الهز و التحريك- و إخراج الكلام في معرض غير المعرض المعهود- جعلهم لو كانوا ناطقين مخبرين عن أنفسهم- لأتوا بما وصفه من أحوالهم- و ورد في الحديث أن عمر حضر جنازة رجل- فلما دفن قال لأصحابه قفوا- ثم ضرب فأمعن في القبور- و استبطأه الناس جدا- ثم رجع و قد احمرت عيناه و انتفخت أوداجه- فقيل أبطأت يا أمير المؤمنين فما الذي حبسك-

قال أتيت قبور الأحبة فسلمت فلم يردوا علي السلام- فلما ذهبت أقفي ناداني التراب- فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت باليدين- قلت ما فعلت بهما- قال قطعت الكفين من الرسغين- و قطعت الرسغين من الذراعين- و قطعت الذراعين من المرفقين- و قطعت المرفقين من العضدين- و قطعت العضدين من المنكبين- و قطعت المنكبين من الكتفين- فلما ذهبت أقفي ناداني التراب- فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت بالأبدان و الرجلين- قلت ما فعلت قال قطعت الكتفين من الجنبين- و قطعت الجنبين من الصلب- و قطعت الصلب من الوركين- و قطعت الوركين من الفخذين- و قطعت الفخذين من الركبتين-و قطعت الركبتين من الساقين- و قطعت الساقين من القدمين- فلما ذهبت أقفي ناداني التراب- فقال يا عمر عليك بأكفان لا تبلى- فقلت و ما أكفان لا تبلى-

قال تقوى الله و العمل بطاعته- و هذا من الباب الذي نحن بصدده- نسب الأقوال المذكورة إلى التراب و هو جماد- و لم يكن ذلك- و لكنه اعتبر فانقدحت في نفسه هذه المواعظ الحكمية- فأفرغها في قالب الحكاية- و رتبها على قانون المسألة و الإجابة- و أضافها إلى جماد موات- لأنه أهز لسامعها إلى تدبرها- و لو قال نظرت فاعتبرت في حال الموتى- فوجدت التراب قد قطع كذا من كذا- لم تبلغ عظته المبلغ الذي بلغته- حيث أودعها في الصورة التي اخترعها- . قوله ع- فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك- إلى آخر جواب لو- هذا الكلام أخذه ابن نباته بعينه- فقال فلو كشفتم عنهم أغطية الأجداث- بعد ليلتين أو ثلاث- لوجدتم الأحداق على الخدود سائلة- و الألوان من ضيق اللحود حائلة- و هوام الأرض في نواعم الأبدان جائلة- و الرءوس الموسدة على الأيمان زائلة- ينكرها من كان لها عارفا- و يفر عنها من لم يزل لها آنفا- .

قوله ع ارتسخت أسماعهم- ليس معناه ثبتت كما زعمه الراوندي- لأنها لم تثبت و إنما ثبتت الهوام فيها- بل الصحيح أنه من رسخ الغدير إذا نش ماؤه و نضب- و يقال قد ارتسخت الأرض بالمطر- إذا ابتلعته حتى يلتقي الثريان- . و استكت أي ضاقت و انسدت- قال النابغة-و نبئت خير الناس أنك لمتني و تلك التي تستك منها المسامع‏- .

قوله و اكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت- أي غارت و ذهبت في الرأس- و أخذ المتنبي قوله و اكتحلت أبصارهم بالتراب فقال-

يدفن بعضنا بعضا و يمشي
أواخرنا على هام الأوالي‏

و كم عين مقبلة النواحي‏
كحيل بالجنادل و الرمال‏

و مغض كان لا يغضي لخطب
و بال كان يفكر في الهزال‏

و ذلاقة الألسن حدتها- ذلق اللسان و السنان يذلق ذلقا- أي ذرب فهو ذلق و أذلق- . و همدت بالفتح سكنت و خمدت و عاث أفسد- و قوله جديد بلى من فن البديع- لأن الجدة ضد البلى- و قد أخذ الشاعر هذه اللفظة فقال-يا دار غادرني جديد بلاك رث الجديد فهل رثيث لذاك‏ و سمجها قبح صورتها- و قد سمج الشي‏ء بالضم فهو سمج بالسكون- ثم ضخم فهو ضخم- و يجوز فهو سمج بالكسر مثل خشن فهو خشن- .

قوله و سهل طرق الآفة إليها- و ذلك أنه إذا استولى العنصر الترابي على الأعضاء- قوي استعدادها للاستحالة من صورتها الأولى إلى غيرها- . و مستسلمات أي منقادة طائعة غير عاصية- فليس لها أيد تدفع عنها- و لا لها قلوب تجزع و تحزن لما نزل بها- . و الأشجان جمع شجن و هو الحزن- . و الأقذاء جمع قذى و هو ما يسقط في العين فيؤذيها- .

قوله صفة حال لا تنتقل- أي لا تنتقل إلى حسن و صلاح- و ليس يريد لا تنتقل مطلقا- لأنها تنتقل إلى فساد و اضمحلال- . و رجل عزيز أي حدث- و عزيز الجسد أي طري- و أنيق اللون معجب اللون- و غذي ترف قذ غذي بالترف و هو التنعم المطغي- . و ربيب شرف أي قد ربي في الشرف و العز- و يقال رب فلان ولده يربه ربا- و رباه يربيه تربية- . و يتعلل بالسرور يتلهى به عن غيره- و يفزع إلى السلوة يلتجئ إليها- و ضنا أي بخلا و غضارة العيش نعيمه و لينه- . و شحاحة أي بخلا شححت بالكسر أشح- و شححت أيضا بالفتح- أشح و أشح بالضم و الكسر شحا و شحاحة- و رجل شحيح و شحاح بالفتح- و قوم شحاح و أشحة- .

و يضحك إلى الدنيا و تضحك إليه- كناية عن الفرح بالعمر و العيشة- و كذا كل واحد منهما يضحك إلى صاحبه لشدة الصفاء- كأن الدنيا تحبه و هو يحبها- . و عيش غفول قد غفل عن صاحبه- فهو مستغرق في العيش لم ينتبه له الدهر- فيكدر عليه وقته- قال الشاعر-

و كان المرء في غفلات عيش
كأن الدهر عنها في وثاق‏

و قال الآخر-

ألا إن أحلى العيش ما سمحت
به صروف الليالي و الحوادث نوم‏

 قوله إذ وطئ الدهر به حسكة- أي إذ أوطأه الدهر حسكة- و الهاء في حسكة ترجع إلى الدهر- عدي الفعل بحرف الجر- كما تقول قام زيد بعمرو أي أقامه- .و قواه جمع قوة و هي المرة من مرائر الحبل- و هذا الكلام استعارة- . و من كثب من قرب و البث الحزن- و البث أيضا الأمر الباطن الدخيل- . و نجي الهم ما يناجيك و يسارك- و الفترات أوائل المرض- .

و آنس ما كان بصحته منصوب على الحال- و قال الراوندي في الشرح- هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما- ثم ذكر أن العامل في الحال فترات- قال تقديره فترات آنس ما كان- و ما ذكره الراوندي فاسد- فإنه ليس هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما- لأن ذلك حال سد مسد خبر المبتدإ- و ليس هاهنا مبتدأ- و أيضا فليس العامل في الحال فترات و لا فتر- بل العامل تولدت- و القار البارد- .

فإن قلت لم قال تسكين الحار بالقار- و تحريك البارد بالحار- و لأي معنى جعل الأول التسكين و الثاني التحريك- قلت لأن من شأن الحرارة التهييج و التثوير- فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة التسكين- و من شأن البرودة التخدير و التجميد- فاستعمل في قهرها بالحار لفظة التحريك- . قوله و لا اعتدل بممازج لتلك الطبائع- إلا أمد منها كل ذات داء- أي و لا استعمل دواء مفردا معتدل المزاج- أو مركبا كذلك- إلا و أمد كل طبيعة منها ذات مرض بمرض زائد على الأول- . و ينبغي أن يكون قوله و لا اعتدل بممازج- أي و لا رام الاعتدال لممتزج- لأنه لو حصل له الاعتدال لكان قد برئ من مرضه- فسمي محاولة الاعتدال اعتدالا- لأنه بالاستدلال المعتدلات قد تهيأ للاعتدال- فكان قد اعتدل بالقوة- . و ينبغي أيضا أن يكون قد حذف مفعول أمد- و تقديره بمرض كما قدرناه نحن- و حذف المفعولات كثير واسع- .

قوله حتى فتر معلله- لأن معللي المرض في أوائل المرض يكون عندهم نشاط- لأنهم يرجون البرء- فإذا رأوا أمارات الهلاك فترت همتهم- . قوله و ذهل ممرضه ذهل بالفتح و هذا كالأول- لأن الممرض إذا أعيا عليه المرض- و انسدت عليه أبواب التدبير يذهل- . قوله و تعايا أهله بصفة دائه- أي تعاطوا العي و تساكتوا إذا سئلوا عنه- و هذه عادة أهل المريض المثقل يجمجمون إذا سئلوا عن حاله- .

قوله و تنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه- أي تخاصموا في خبر ذي شجى- أي خبر ذي غصة يتنازعونه و هم حول المريض سترا دونه- و هو لا يعلم بنجواهم و بما يفيضون فيه من أمره- . فقائل منهم هو لمآبه أي قد أشفى على الموت- و آخر يمنيهم إياب عافيته أي عودها- آب فلان إلى أهله أي عاد- . و آخر يقول قد رأينا مثل هذا- و من بلغ إلى أعظم من هذا ثم عوفي- فيمني أهله عود عافيته- . و آخر يصبر أهله على فقده- و يذكر فضيلة الصبر و ينهاهم عن الجزع- و يروي لهم أخبار الماضين- . و أسى أهليهم و الأسى جمع أسوة- و هو ما يتأسى به الإنسان- قالت الخنساء-
و ما يبكون مثل أخي و لكن أسلي النفس عنه بالتأسي‏- . قوله على جناح من فراق الدنيا أي سرعان ما يفارقها- لأن من كان على جناح طائر فأوشك به أن يسقط- .

قوله إذ عرض له عارض يعني الموت- و من غصصه جمع غصة- و هو ما يعترض مجرى الأنفاس- و يقال إن كل ميت من الحيوان لا يموت إلا خنقا- و ذلك لأنه من النفس يدخل- فلا يخرج عوضه أو يخرج فلا يدخل عوضه- و يلزم من ذلك الاختناق- لأن الرئة لا تبقى حينئذ مروحة للقلب- و إذا لم تروحه اختنق- . قوله فتحيرت نوافذ فطنته- أي تلك الفطنة النافذة الثاقبة تحيرت عند الموت و تبلدت- .

قوله و يبست رطوبة لسانه- لأن الرطوبة اللعابية التي بها يكون الذوق تنشف حينئذ- و يبطل الإحساس باللسان تبعا لسقوط القوة- . قوله فكم من مهم من جوابه عرفه فعي عن رده- نحو أن يكون له مال مدفون- يسأل عنه حال ما يكون محتضرا- فيحاول أن يعرف أهله به فلا يستطيع- و يعجز عن رد جوابهم- و قد رأينا من عجز عن الكلام فأشار إشارة فهموا معناها- و هي الدواة و الكاغذ- فلما حضر ذلك أخذ القلم و كتب في الكاغذ ما لم يفهم- و يده ترعد ثم مات قوله و دعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه- أظهر الصمم لأنه لا حيلة له- . ثم وصف ذلك الدعاء فقال من كبير كان يعظمه- نحو صراخ الوالد على الولد- و الولد يسمع و لا يستطيع الكلام- و صغير كان يرحمه نحو صراخ الولد على الوالد- و هو يسمع و لا قدرة له على جوابه- .

ثم ذكر غمرات الدنيا فقال- إنها أفظع من أن تحيط الصفات بها و تستغرقها- أي تأتي على كنهها و تعبر عن حقائقها- . قوله أو تعتدل على عقول أهل الدنيا- هذا كلام لطيف فصيح غامض- و معناه‏أن غمرات الموت و أهواله عظيمة جدا- لا تستقيم على العقول و لا تقبلها- إذا شرحت لها و وصفت كما هي على الحقيقة- بل تنبو عنها و لا نصدق بما يقال فيها- فعبر عن عدم استقامتها على العقول بقوله أو يعتدل- كأنه جعلها كالشي‏ء المعوج عند العقل- فهو غير مصدق به
إيراد أشعار و حكايات في وصف الموت و أحوال الموتى و مما يناسب ما ذكر من حال الإنسان قول الشاعر-

بينا الفتى مرح الخطا فرحا
بما يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى‏

إذ قيل بات بليلة ما نامها
إذ قيل أصبح مثقلا ما يرتجى‏

إذ قيل أمسى شاخصا و موجها
إذ قيل فارقهم و حل به الردى‏

 و قال أبو النجم العجلي-

و المرء كالحالم في المنام
يقول إني مدرك أمامي‏

في قابل ما فاتني في العام‏
و المرء يدنيه إلى الحمام‏

مر الليالي السود و الأيام
إن الفتى يصبح للأسقام‏

كالغرض المنصوب للسهام‏
أخطأ رام و أصاب رام‏

 و قال عمران بن حطان-

أ في كل عام مرضة ثم نقهة
و ينعى و لا ينعى متى ذا إلى متى‏

و لا بد من يوم يجي‏ء و ليلة
يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا

 وجاء في الحديث أن رسول الله ص مر بمقبرة فنادى- يا أهل القبور الموحشة و الربوع المعطلة- أ لا أخبركم بما حدث بعدكم- تزوج نساؤكم و تبوئت مساكنكم- و قسمت أموالكم- هل أنتم مخبرون بما عاينتم- ثم قال ألا إنهم لو أذن لهم في الجواب- لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى- . و نظر الحسن إلى رجل يجود بنفسه- فقال إن أمرا هذا آخره- لجدير أن يزهد في أوله- و إن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف آخره- . و قال عبده بن الطبيب- و يعجبني قوله على الحال التي كان عليها- فإنه كان أسود لصا من لصوص بني سعد بن زيد مناه بن تميم- .

و لقد علمت بأن قصري حفرة
غبراء يحملني إليها شرجع‏

فبكى بناتي شجوهن و زوجتي‏
و الأقربون إلي ثم تصدعوا

و تركت في غبراء يكره وردها
تسفي على الريح ثم أودع‏

أن الحوادث يخترمن و إنما
عمر الفتى في أهله مستودع‏

 و نظير هذه الأبيات في رويها و عروضها- قول متمم بن نويرة اليربوعي-

و لقد علمت و لا محالة أنني
للحادثات فهل تريني أجزع‏

أهلكن عادا ثم آل محرق‏
فتركنهم بلدا و ما قد جمعوا

و لهن كان الحارثان كلاهما
و لهن كان أخو المصانع تبع‏

فعددت آبائي إلى عرق الثرى‏
فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا

ذهبوا فلم أدركهم ودعتهم
غول أتوها و الطريق المهيع‏

لا بد من تلف مصيب فانتظر
أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع‏

و ليأتين عليك يوم مرة يبكى
عليك مقنعا لا تسمع‏

 لما فتح خالد بن الوليد عين التمر- سال عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر- فدل عليها فأتاها و كانت عمياء- فسألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس- ما شي‏ء يدب تحت الخورنق إلا تحت أيدينا- ثم غربت و قد رحمنا كل من يدور به- و ما بيت دخلته حبرة إلا دخلته عبرة- ثم قالت-

و بينا نسوس الناس و الأمر
أمرنا إذا نحن فيه سوقة نتنصف‏

فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا و تصرف‏

فقال قائل ممن كان حول خالد- قاتل الله عدي بن زيد لكأنه ينظر إليها حين يقول-

إن للدهر صرعة فاحذرنها
لا تبيتن قد أمنت الدهورا

قد يبيت الفتى معافى فيردى‏
و لقد كان آمنا مسرورا

دخل عبد الله بن العباس على عبد الملك بن مروان يوم قر- و هو على فرش‏يكاد يغيب فيها- فقال يا ابن عباس إني لأحسب اليوم باردا قال أجل- و إن ابن هند عاش في مثل ما ترى عشرين أميرا- و عشرين خليفة- ثم هو ذاك على قبره ثمامة تهتز- . فيقال إن عبد الملك أرسل إلى قبر معاوية- فوجد عليه ثمامة نابتة- . كان محمد بن عبد الله بن طاهر في قصره ببغداد على دجلة- فإذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة على رأسها رقعة- فأمر بها فوجد هذا-

تاه الأعيرج و استولى به البطر
فقل له خير ما استعملته الحذر

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت‏
و لم تخف سوء ما يأتي به القدر

و سالمتك الليالي فاغتررت
بها و عند صفو الليالي يحدث الكدر

فلم ينتفع بنفسه أياما- . عدي بن زيد-

أيها الشامت المعير
بالدهر أ أنت المبرأ الموفور

أم لديك العهد الوثيق من الأيام‏
بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون خلدن أم
من ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كسرى الملوك أنو شروان‏
أم أين قبله سابور

و بنو الأصفر الكرام ملوك الروم
و لم يبق منهم مذكور

و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجلة
تجبى إليه و الخابور

لم يهبه ريب المنون فباد
الملك عنه فبابه مهجور

شاده مرمرا و جلله كلسا
فللطير في ذراه وكور

و تبين رب الخورنق إذ أشرف‏
يوما و للهدى تفكير

سره حاله و كثرة ما يملك
و البحر معرضا و السدير

فارعوى قلبه و قال فما غبطة
حي إلى الممات يصير

ثم بعد الفلاح و الملك
و الأمة وارتهم هناك القبور

ثم أضحوا كأنهم ورق جف‏
فألوت به الصبا و الدبور

قد اتفق الناس على أن هذه الأبيات- أحسن ما قيل من القريض في هذا المعنى- و أن الشعراء كلهم أخذوا منها- و احتذوا في هذا المعنى حذوها- . و قال الرضي أبو الحسن رضي الله عنه-

انظر إلى هذا الأنام بعبرة
لا يعجنك خلقه و رواؤه‏

فتراه كالورق النضير تقصفت‏
أغصانه و تسلبت شجراؤه‏

أني تحاماه المنون و
إنما خلقت مراعي للردى خضراؤه‏

أم كيف تأمل فلتة أجساده‏
من ذا الزمان و حشوها أدواؤه‏

لا تعجبن فما العجيب فناؤه
بيد المنون بل العجيب بقاؤه‏

إنا لنعجب كيف حم حمامه‏
عن صحة و يغيب عنا داؤه‏

من طاح في سبل الردى آباؤه
فليسلكن طريقهم أبناؤه‏

و مؤمر نزلوا به في سوقة
لا شكله فيهم و لا نظراؤه‏

قد كان يفرق ظله أقرانه
و يغض دون جلاله أكفاؤه‏

و محجب ضربت عليه مهابة
يعشي العيون بهاؤه و ضياؤه‏

نادته من خلف الحجاب منية
أمم فكان جوابها حوباؤه‏

شقت إليه سيوفه و رماحه‏
و أميط عنه عبيده و إماؤه‏

لم يغنه من كان ود لو أنه
قبل المنون من المنون فداؤه‏

حرم عليه الذل إلا أنه‏
أبدا ليشهد بالجلال بناؤه‏

متخشع بعد الأنيس جنابه
متضائل بعد القطين فناؤه‏

عريان تطرد كل ريح تربه‏
و يطيع أول أمرها حصباؤه‏

و لقد مررت ببرزخ فسألته
أين الألى ضمتهم أرجاؤه‏

مثل المطي بواركا أجداثه‏
تسفي على جنباتها بوغاؤه‏

ناديته فخفى علي جوابه
بالقول إلا ما زقت أصداؤه‏

من ناظر مطروفه ألحاظه
أو خاطر مظلولة سوداؤه‏

أو واجد مكظومة زفراته‏
أو حاقد منسية شحناؤه‏

و مسندين على الجنوب
كأنهم شرب تخاذل بالطلا أعضاؤه‏

تحت الصعيد لغير إشفاق إلى‏
يوم المعاد يضمهم أحشاؤه‏

أكلتهم الأرض التي ولدتهم
أكل الضروس حلت له أكلاؤه‏

و قال أيضا-

و تفرق البعداء بعد تجمع
صعب فكيف تفرق القرباء

و خلائق الدنيا خلائق مومس‏
للمنع آونة و للإعطاء

طورا تبادلك الصفاء و تارة
تلقاك تنكرها من البغضاء

و تداول الأيام يبلينا كما
يبلي الرشاء تطاوح الأرجاء

و كان طول العمر روحة راكب
قضى اللغوب و جد في الإسراء

لهفي على القوم الأولى غادرتهم‏
و عليهم طبق من البيداء

متوسدين على الخدود كأنما
كرعوا على ظمإ من الصهباء

صور ضننت على العيون بلحظها
أمسيت أوقرها من البوغاء

و نواظر كحل التراب جفونها
قد كنت أحرسها من الأقذاء

قربت ضرائحهم على زوارها
و نأوا عن الطلاب أي تناء

و لبئس ما يلقى بعقر ديارهم
أذن المصيخ بها و عين الرائي‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 215 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(جهاد)

215 و من كلام له ع يحث فيه أصحابه على الجهاد

وَ اللَّهُ مُسْتَأْدِيكُمْ شُكْرَهُ وَ مُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ- وَ مُمْهِلُكُمْ فِي مِضْمَارٍ مَمْدُودٍ لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ- فَشُدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ وَ اطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ- لَا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَ وَلِيمَةٌ- مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ- وَ أَمْحَى الظُّلَمَ لِتَذَاكِيرِ الْهِمَمِ مستأديكم شكره- أي طالب منكم أداء ذلك و القيام به- استأديت ديني عند فلان أي طلبته- .

و قوله و مورثكم أمره- أي سيرجع أمر الدولة إليكم و يزول أمر بني أمية- . ثم شبه الآجال التي ضربت للمكلفين- ليقوموا فيها بالواجبات و يتسابقوا فيها إلى الخيرات- بالمضمار الممدود لخيل تتنازع فيه السبق- . ثم قال فشدوا عقد المآزر- أي شمروا عن ساق الاجتهاد- و يقال لمن يوصى بالجد و التشمير اشدد عقدة إزارك- لأنه إذا شدها كان أبعد عن العثار و أسرع للمشي- . قوله و اطووا فضول الخواصر نهى عن كثرة الأكل- لأن الكثير الأكل لا يطوي فضول خواصره لامتلائها- و القليل الأكل يأكل في بعضها و يطوي بعضها- قال الشاعر-

كلوا في بعض بطنكم و عفوا
فإن زمانكم زمن خميص‏

و قال أعشى باهلة-

طاوي المصير على العزاء منصلت
بالقوم ليلة لا ماء و لا شجر

و قال الشنفري-

و أطوي على الخمص الحوايا كما
انطوت خيوطة ماري تغار و تفتل‏

ثم أتى ع بثلاثة أمثال مخترعة له لم يسبق بها- و إن كان قد سبق بمعناها- و هي قوله لا تجتمع عزيمة و وليمة- و قوله ما أنقض النوم لعزائم اليوم- و قوله و أمحى الظلم لتذاكير الهمم- . فمما جاء للمحدثين من ذلك- ما كتبه بعض الكتاب إلى ولده-

خدمة السلطان والكا
سات في أيدي الملاح‏

ليس يلتامان فاطلب‏
رفعة أو شرب راح‏

و مثله قول آخر لولده-

ما للمطيع هواه
من الملام ملاذ

فاختر لنفسك هذا
مجد و هذا التذاذ

و قال آخر-

و ليس فتى الفتيان من راح و اغتدى
لشرب صبوح أو لشرب غبوق‏

و لكن فتى الفتيان من راح
و اغتدى‏لضر عدو أو لنفع صديق‏

و هذا كثير جدا يناسب قوله لا تجتمع عزيمة و وليمة- و مثل قوله ما أنقض النوم لعزائم اليوم- قول الشاعر-

فتى لا ينام على عزمه
و من صمم العزم لم يرقد

و قوله و أمحى الظلم لتذاكير الهمم- أي الظلم التي ينام فيها لا كل الظلم- أ لا ترى أنه إذا لم ينم في الظلمة- بل كان عنده من شدة العزم- و قوة التصميم ما لا ينام معه- فإن الظلمة لا تمحو تذاكير هممه- و التذاكير جمع تذكار- . و المثلان الأولان أحسن من الثالث- و كان الثالث من تتمة الثاني- و قد قالت العرب في الجاهلية هذا المعنى- و جاء في القرآن العزيز- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ- وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ- مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا- حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ- مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ- . و هذا مثل قوله لا تجتمع عزيمة و وليمة- أي لا يجتمع لكم دخول الجنة و الدعة- و القعود عن مشقة الحرب

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 214 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

214 و من كلام له ع

قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَ أَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ- وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ- فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَ سَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ- وَ تَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلَامَةِ وَ دَارِ الْإِقَامَةِ- وَ ثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَ الرَّاحَةِ- بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَ أَرْضَى رَبَّهُ يصف العارف- يقول قد أحيا قلبه بمعرفة الحق سبحانه- و أمات نفسه بالمجاهدة و رياضة القوة البدنية بالجوع و العطش- و السهر و الصبر على مشاق السفر و السياحة- . حتى دق جليله أي حتى نحل بدنه الكثيف- . و لطف غليظه تلطفت أخلاقه و صفت نفسه- فإن كدر النفس في الأكثر إنما يكون من كدر الجسد- و البطنة كما قيل تذهب الفطنة

فصل في مجاهدة النفوس و ما ورد في ذلك من الآثار

و تقول أرباب هذه الطريقة- من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة- لم يجد من هذه الطريقة شمة- .و قال عثمان المغربي الصوفي- من ظن أنه يفتح عليه شي‏ء من هذه الطريقة- أو يكشف له عن سر من أسرارها من غير لزوم المجاهدة- فهو غالط- . و قال أبو علي الدقاق- من لم يكن في بدايته قومة لم يكن في نهايته جلسة- . و من كلامهم الحركة بركة- حركات الظواهر توجب بركات السرائر- . و من كلامهم- من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة- . و قال الحسن الفرازيني هذا الأمر على ثلاثة أشياء- ألا تأكل إلا عند الفاقة- و لا تنام إلا عند الغلبة و لا تتكلم إلا عند الضرورة- .

و قال إبراهيم بن أدهم- لن ينال الرجل درجة الصالحين- حتى يغلق عن نفسه باب النعمة- و يفتح عليها باب الشدة- . و من كلامهم من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه- . و قال أبو علي الروذباري- إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع- فألزموه السوق و مروه بالكسب- . و قال حبيب بن أوس أبو تمام و هو يقصد غير ما نحن فيه- و لكنه يصلح أن يستعمل فيما نحن فيه-

خذي عبرات عينك عن زماعي
و صوني ما أزلت من القناع‏

أقلي قد أضاق بكاك ذرعي‏
و ما ضاقت بنازله ذراعي‏

أ آلفة النحيب كم افتراق
أظل فكان داعية اجتماع‏

فليست فرحة الأوبات
إلا لموقوف على ترح الوداع‏

تعجب أن رأت جسمي نحيلا
كان المجد يدرك بالصراع‏

أخو النكبات من يأوي
إذا ما أطفن به إلى خلق وساع‏

يثير عجاجة في كل فج‏
يهيم به عدي بن الرقاع‏

أبن مع السباع الماء
حتى لخالته السباع من السباع‏

و قال أيضا-

فاطلب هدوءا بالتقلقل و استثر
بالعيس من تحت السهاد هجودا

ما أن ترى الأحساب بيضا وضحا
إلا بحيث ترى المنايا سودا

وجاء في الحديث أن فاطمة جاءت إلى رسول الله ص بكسرة خبز- فقال ما هذه قالت قرص خبزته- فلم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة- فأكلها- و قال أما إنها لأول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث- . و كان يقال ينابيع الحكمة من الجوع- و كسر عادية النفس بالمجاهدة- .

و قال يحيى بن معاذ- لو أن الجوع يباع في السوق- لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره- . و قال سهل بن عبد الله- لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع المعصية و الجهل- و جعل في الجوع الطاعة و الحكمة- . و قال يحيى بن معاذ- الجوع للمريدين رياضة و للتائبين تجربة- و للزهاد سياسة و للعارفين تكرمة- . و قال أبو سلمان الداراني- مفتاح الدنيا الشبع و مفتاح الآخرة الجوع- . و قال بعضهم- أدب الجوع ألا ينقص من عادتك إلا مثل أذن السنور- هكذا على التدريج حتى تصل إلى ما تريد- .

و يقال إن أبا تراب النخشبي خرج من البصرة إلى مكة- فوصل إليها على أكلتين أكلة بالنباج و أكلة بذات عرق- . قالوا و كان سهل بن عبد الله التستري إذا جاع قوي- و إذا أكل ضعف- . و كان منهم من يأكل كل أربعين يوما أكلة واحدة- و منهم من يأكل كل ثمانين يوما أكلة واحدة- . قالوا و اشتهى أبو الخير العسقلاني السمك سنين كثيرة- ثم تهيأ له أكله من وجه حلال- فلما مد يده ليأكل- أصابت إصبعه شوكة من شوك السمك- فقام و ترك الأكل- و قال يا رب هذا لمن مد يده بشهوة إلى الحلال- فكيف بمن مد يده بشهوة إلى الحرام- . و في الكتاب العزيز- وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏- فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏- فالجملة الأولى هي التقوى و الثانية هي المجاهدة- .

وقال النبي ص أخوف ما أخاف على أمتي اتباع الهوى و طول الأمل- أما اتباع الهوى فيصد عن الحق- و أما طول الأمل فينسي الآخرة
– . و سئل بعض الصوفية عن المجاهدة- فقال ذبح النفس بسيوف المخالفة- . و قال من نجمت طوارق نفسه أفلت شوارق أنسه- . و قال إبراهيم بن شيبان- ما بت تحت سقف و لا في موضع عليه غلق أربعين سنة- و كنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس فلم يتفق- ثم جملت إلي و أنا بالشام غضارة فيها عدسية- فتناولت منها و خرجت- فرأيت قوارير معلقة فيها شبه أنموذجات فظننتها خلا- فقال بعض الناس- أ تنظر إلى هذه و تظنها خلا و إنما هي خمر- و هي أنموذجات هذه الدنان لدنان هناك- فقلت قد لزمني فرض الإنكار- فدخلت حانوت ذلك الخمار لأكسر الدنان و الجرار- فحملت إلى ابن طولون فأمر بضربي مائتي خشبة- و طرحي في السجن فبقيت مدة- حتى دخل أبو عبد الله الوباني المغربي أستاذ ذلك البلد- فعلم أني محبوس فشفع في فأخرجت إليه- فلما وقع بصره علي قال أي شي‏ء فعلت- فقلت شبعة عدس و مائتي خشبة- فقال لقد نجوت مجانا- .

و قال إبراهيم الخواص- كنت في جبل فرأيت رمانا فاشتهيته- فدنوت فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة- فمضيت و تركت الرمان- فرأيت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير- فسلمت عليه فرد علي باسمي- فقلت كيف عرفتني قال من عرف الله لم يخف عليه شي‏ء- فقلت له أرى لك حالا مع الله- فلو سألته أن يحميك و يقيك من أذى هذه الزنابير- فقال و أرى لك حالا مع الله- فلو سألته أن يقيك من شهوة الرمان- فإن لذع الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة- و لذع الزنابيريجد الإنسان ألمه في الدنيا- فتركته و مضيت على وجهي- .

و قال يوسف بن أسباط- لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج- أو شوق مقلق- . و قال الخواص- من ترك شهوة فلم يجد عوضها في قلبه فهو كاذب في تركها- . و قال أبو علي الرباطي صحت عبد الله المروزي- و كان يدخل البادية قبل أن أصحبه بلا زاد- فلما صحبته قال لي أيما أحب إليك- تكون أنت الأمير أم أنا قلت بل أنت- فقال و عليك الطاعة قلت نعم- فأخذ مخلاة و وضع فيها زادا و حملها على ظهره- فكنت إذا قلت له أعطني حتى أحملها- قال الأمير أنا و عليك الطاعة- قال فأخذنا المطر ليلة- فوقف إلى الصباح على رأسي و عليه كساء يمنع عني المطر- فكنت أقول في نفسي يا ليتني مت و لم أقل له أنت الأمير- ثم قال لي إذا صحبت إنسانا فاصحبه كما رأيتني صحبتك- . أبو الطيب المتنبي-

ذريني أنل ما لا ينال من العلا فصعب
العلا في الصعب و السهل في السهل‏

تريدين إدراك المعالي رخيصة
و لا بد دون الشهد من إبر النحل‏

 و له أيضا-

و إذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام‏

و من أمثال العامة- من لم يغل دماغه في الصيف لم تغل قدره في الشتاء- . من لم يركب الأخطار لم ينل الأوطار- .إدراك السول و بلوغ المأمول بالصبر على الجوع- و فقد الهجوع و سيلان الدموع و اعلم أن تقليل المأكول لا ريب في أنه نافع- للنفس و الأخلاق- و التجربة قد دلت عليه- لأنا نرى المكثر من الأكل- يغلبه النوم و الكسل و بلادة الحواس- و تتبخر المأكولات الكثيرة أبخرة كثيرة- فتتصاعد إلى الدماغ فتفسد القوى النفسانية- و أيضا فإن كثرة المأكل تزيل الرقة- و تورث القساوة و السبعية و القياس أيضا يقتضي ذلك- و لأن كثرة المزاولات سبب لحصول الملكات- فالنفس إذا توفرت على تدبير الغذاء و تصريفه- كان ذلك شغلا شاغلا لها- و عائقا عظيما عن انصبابها إلى الجهة الروحانية العالية- و لكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد- يوجب جوعا قليلا- فإن الجوع المفرط- يورث ضعف الأعضاء الرئيسة و اضطرابها- و اختلال قواها- و ذلك يقتضي تشويش النفس و اضطراب الفكر- و اختلال العقل- و لذلك تعرض الأخلاط السوداوية- لمن أفرط عليه الجوع- فإذن لا بد من إصلاح أمر الغذاء- بأن يكون قليل الكمية كثير الكيفية- فتؤثر قلة كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم- عن التوجه إلى الجهة العالية الروحانية- و تؤثر كثرة كيفيته- في تدارك الخلل الحاصل له من قلة الكمية- و يجب أن يكون الغذاء شديد الإمداد للأعضاء الرئيسة- لأنها هي المهمة من أعضاء البدن- و ما دامت باقية على كمال حالها- لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء

فصل في الرياضة النفسية و أقسامها

و اعلم أن الرياضة و الجوع هي أمر يحتاج إليه المريد- الذي هو بعد في طريق السلوك إلى الله- . و ينقسم طالبوا هذا الأمر الجليل الشاق إلى أقسام أربعة-

أحدها الذين مارسوا العلوم الإلهية- و أجهدوا أنفسهم في طلبها و الوصول إلى كنهها- بالنظر الدقيق في الزمان الطويل- فهو لا يحصل لهم شوق شديد- و ميل عظيم إلى الجهة العالية الشريفة- فيحملهم حب الكمال على الرياضة- .

و ثانيها الأنفس التي هي بأصل الفطرة و الجوهر- مائلة إلى الروحانية من غير ممارسة علم- و لا دربة بنظر و بحث- و قد رأينا مثلهم كثيرا- و شاهدنا قوما من العامة متى سنح لهم سانح مشوق- مثل صوت مطرب أو إنشاد بيت يقع في النفس- أو سماع كلمة توافق أمرا في بواطنهم- فإنه يستولي عليهم الوجد و يشتد الحنين- و تغشاهم غواش لطيفة روحانية- يغيبون بها عن المحسوسات و الجسمانيات- .

و ثالثها نفوس حصل لها الأمران معا- الاستعداد الأصلي و الاشتغال بالعلوم النظرية الإلهية- .

و رابعها النفوس التي لا استعداد لها في الأصل- و لا ارتاضت بالعلوم الإلهية- و لكنهم قوم سمعوا كمال هذه الطريقة- و أن السعادة الإنسانية  ليست إلا بالوصول إليها- فمالت نحوها و حصل لها اعتقاد فيها- . فهذه أقسام المريدين- و الرياضة التي تليق بكل واحد من هذه الأقسام- غير الرياضة اللائقة بالقسم الآخر- .

و نحتاج قبل الخوض في ذلك إلى تقديم أمرين- أحدهما أن النفحات الإلهية دائمة مستمرة- و أنه كل من توصل إليها وصل- قال سبحانه و تعالى- وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقال النبي ص إن لربكم في أيام عصركم نفحات- ألا فتعرضوا لنفحاته- . و ثانيهما أن النفوس البشرية في الأكثر مختلفة بالنوع- فقد تكون بعض النفوس مستعدة- غاية الاستعداد لهذا المطلب- و ربما لم تكن البتة مستعدة له- و بين هذين الطرفين أوساط مختلفة بالضعف و القوة- . و إذا تقرر ذلك فاعلم أن القسمين الأولين- لما اختلفا فيما ذكرناه لا جرم- اختلفا في الكسب و المكتسب- .

أما الكسب فإن صاحب العلم الأولى به في الأكثر- العزلة و الانقطاع عن الخلق- لأنه قد حصلت له الهداية و الرشاد- فلا حاجة له إلى مخالطة أحد- يستعين به على حصول ما هو حاصل- و أما صاحب الفطرة الأصلية من غير علم- فإنه لا يليق به العزلة لأنه يحتاج إلى المعلم و المرشد- فإنه ليس يكفي الفطرة الأصلية- في الوصول إلى المعالم الإلهية و الحقائق الربانية- و لا بد من موقف و مرشد في مبدإ الحال- هذا هو القول في الكسب بالنظر إليها- .

و أما المكتسب فإن صاحب العلم إذا اشتغل بالرياضة- كانت مشاهداته و مكاشفاته أكثر كمية- و أقل كيفية مما لصاحب الفطرة المجردة- أما كثرة الكمية فلأن قوته النظرية تعينه على ذلك- و أما قلة الكيفية- فلأن القوة النفسانية تتوزع على تلك الكثرة- و كلما كانت الكثرة أكثر- كان توزع القوة إلى أقسام أكثر- و كان كل واحد منهاأضعف مما لو كانت الأقسام أقل عددا- و إذا عرفت ذلك- عرفت أن الأمر في جانب صاحب الفطرة الأصلية- بالعكس من ذلك- و هو أن مشاهداته و مكاشفاته- تكون أقل كمية و أكثر كيفية- .

و أما الاستعداد الثالث- و هو النفس التي قد جمعت الفطرة الأصلية- و العلوم الإلهية النظرية بالنظر- فهي النفس الشريفة الجليلة الكاملة- . و هذه الأقسام الثلاثة مشتركة- في أن رياضتها القلبية يجب أن تكون زائدة- في الكم و الكيف على رياضتها البدنية- لأن الغرض الأصلي هو رياضة القلب و طهارة النفس- و إنما شرعت الرياضات البدنية و العبادات الجسمانية- لتكون طريقا إلى تلك الرياضة الباطنة- فإذا حصلت كان الاشتغال بالرياضة البدنية عبثا- لأن الوسيلة بعد حصول المتوسل إليه فضلة- مستغنى عنها- بل ربما كانت عائقة عن المقصود- نعم لا بد من المحافظة على الفرائض خاصة- لئلا تعتاد النفس الكسل- و ربما أفضى ذلك إلى خلل في الرياضة النفسانية- و لهذا حكي عن كثير من كبراء القوم- قلة الاشتغال بنوافل العبادات- .

و أما القسم الرابع- و هو النفس التي خلت عن الوصفين معا- فهذه النفس يجب ألا تكون رياضتها في مبدإ الحال- إلا بتهذيب الأخلاق بما هو مذكور في كتب الحكمة الخلقية- فإذا لانت و مرنت و استعدت للنفحات الإلهية- حصل لها ذوق ما- فأوجب ذلك الذوق شوقا فأقبلت بكليتها على مطلوبها

فصل في أن الجوع يؤثر في صفاء النفس

و اعلم أن السبب الطبيعي- في كون الجوع مؤثرا في صفاء النفس- أن البلغم الغالب على مزاج البدن- يوجب بطبعه البلادة- و إبطاء الفهم لكثرة الأرضية فيه- و ثقل جوهرة- و كثرة ما يتولد عنه من البخارات التي تسد المجاري- و تمنع نفوذ الأرواح- و لا ريب أن الجوع يقتضي تقليل البلغم- لأن القوة الهاضمة إذا لم تجد غذاء تهضمه- عملت في الرطوبة الغريبة الكائنة في الجسد- فكلما انقطع الغذاء- استمر عملها في البلغم الموجود في البدن- فلا تزال تعمل فيه و تذيبه الحرارة الكائنة في البدن- حتى يفنى كل ما في البدن من الرطوبات الغريبة- و لا يبقى إلا الرطوبات الأصلية- فإن استمر انقطاع الغذاء- أخذت الحرارة و القوة الهاضمة- في تنقيص الرطوبات الأصلية من جوهر البدن- فإن كان ذلك يسيرا و إلى حد ليس بمفرط- لم يضر ذلك بالبدن كل الإضرار- و كان ذلك هو غاية الرياضة- التي أشار أمير المؤمنين ع إليها- بقوله حتى دق جليله و لطف غليظه- و إن أفرط وقع الحيف و الإجحاف على الرطوبة الأصلية- و عطب البدن و وقع صاحبه في الدق و الذبول- و ذلك منهي عنه لأنه قتل للنفس- فهو كمن يقتل نفسه بالسيف أو بالسكين

كلام للفلاسفة و الحكماء في المكاشفات الناشئة عن الرياضة

و اعلم أن قوله ع و برق له لامع كثير البرق- هو حقيقة مذهب الحكماء- و حقيقة قول الصوفية أصحاب الطريقة و الحقيقة- و قد صرح به الرئيس أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات- فقال في ذكر السالك إلى مرتبة العرفان- ثم إنه‏إذا بلغت به الإرادة و الرياضة حدا ما- عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إليه- لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه- و هي التي تسمى عندهم أوقاتا- و كل وقت يكتنفه وجد إليه و وجد عليه- ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض- ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض- فكلما لمح شيئا عاج منه إلى جانب القدس- فتذكر من أمره أمرا فغشيه غاش- فيكاد يرى الحق في كل شي‏ء- و لعله إلى هذا الحد تستولي عليه غواشيه- و يزول هو عن سكينته- و يتنبه جليسه لاستنفاره عن قراره- فإذا طالت عليه الرياضة لم تستنفره غاشية- و هدي للتأنس بما هو فيه- ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغا- ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوب مألوفا- و الوميض شهابا بينا- و يحصل له معارف مستقرة كأنها صحبة مستمرة- و يستمتع فيها ببهجته فإذا انقلب عنها انقلب حيران آسفا- . فهذه ألفاظ الحكيم أبي علي بن سينا في الإشارات- و هي كما نراها مصرح فيها بذكر البروق اللامعة للعارف- .

و قال القشيري في الرسالة- لما ذكر الحال و الأمور الواردة على العارفين- قال هي بروق تلمع ثم تخمد- و أنوار تبدو ثم تخفى- ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها- ثم تمثل بقول البحتري-خطرت في النوم منها خطرة خطرة البرق بدا ثم اضمحل‏أي زور لك لو قصدا سرى‏و ملم بك لو حقا فعل‏- . فهو كما تراه- يذكر البروق اللامعة حسبما ذكره الحكيم- و كلاهما يتبع ألفاظ أمير المؤمنين ع لأنه حكيم الحكماء- و عارف العارفين و معلم الصوفية- و لو لا أخلاقه‏ و كلامه و تعليمه للناس هذا الفن- تارة بقوله و تارة بفعله- لما اهتدى أحد من هذه الطائفة- و لا علم كيف يورد و لا كيف يصدر- .

و قال القشيري أيضا في الرسالة- المحاضرة قبل المكاشفة- فإذا حصلت المكاشفة فبعدها المشاهدة- . و قال و هي أرفع الدرجات- قال فالمحاضرة حضور القلب- و قد تكون بتواتر البرهان- و الإنسان بعد وراء الستر- و إن كان حاضرا باستيلاء سلطان الذكر- . و أما المكاشفة فهي حضور البين- غير مفتقر إلى تأمل الدليل- و تطلب السبيل ثم المشاهدة و هي وجود الحق من غير بقاء تهمة- . و أحسن ما ذكر في المشاهد قول الجنيد- هي وجود الحق مع فقدانك- . و قال عمرو بن عثمان المكي- المشاهدة أن تتوالى أنوار التجلي على القلب- من غير أن يتخللها ستر و لا انقطاع- كما لو قدر اتصال البروق في الليلة المظلمة- فكما أنها تصير من ذلك بضوء النهار- فكذلك القلب إذا دام له التجلي مع النهار فلا ليل- . و أنشدوا شعرا-

ليلي بوجهك مشرق
و ظلامه في الناس سار

فالناس في سدف الظلام‏
و نحن في ضوء النهار

 و قال الثوري لا تصح للعبد المشاهدة و قد بقي له عرق قائم- . و قالوا إذا طلع الصباح استغني عن المصباح- . و أنشدوا أيضا-

فلما استنار الصبح طوح ضوءه
بأنواره أنوار ضوء الكواكب‏

فجرعهم كأسا لو ابتليت لظى
بتجريعه طارت كأسرع ذاهب‏

كأس و أي كأس تصطلمهم عنهم- و تفنيهم و تخطفهم منهم و لا تبقيهم- كأس لا تبقى و لا تذر تمحو بالكلية- و لا تبقى شظية من آثار البشرية- كما قال قائلهم-ساروا فلم يبق لا عين و لا أثر- . و قال القشيري أيضا هي ثلاث مراتب- اللوائح ثم اللوامع ثم الطوالع فاللوائح كالبروق- ما ظهرت حتى استترت كما قال القائل-فافترقنا حولا فلما التقينا كان تسليمه علي وداعا- . و أنشدوا-

يا ذا الذي زار و ما زارا
كأنه مقتبس نارا

مر بباب الدار مستعجلا
ما ضره لو دخل الدارا

ثم اللوامع و هي أظهر من اللوائح- و ليس زوالها بتلك السرعة- فقد تبقى وقتين و ثلاثة- و لكن كما قيل-

العين باكية لم تشبع النظرا

أو كما قالوا-

و بلائي من مشهد و مغيب
و حبيب مني بعيد قريب‏

لم ترد ماء وجهه العين حتى‏
شرقت قبل ريها برقيب‏

فأصحاب هذا المقام بين روح و فوح- لأنهم بين كشف و ستر يلمع ثم يقطع- لا يستقر لهم نور النهار حتى تكر عليه عساكر الليل- فهم كما قيل-و الليل يشملنا بفاضل برده و الصبح يلحفنا رداء مذهبا- . ثم الطوالع و هي أبقى وقتا و أقوى سلطانا- و أدوم مكثا و أذهب للظلمة و أنفي للمهمة- .أ فلا ترى كلام القوم كله مشحون بالبروق و اللمعان- . و كان مما نقم حامد بن العباس وزير المقتدر- و علي بن عيسى الجراح وزيره أيضا على الحلاج- أنهما وجدا في كتبه لفظ النور الشعشعاني- و ذلك لجهالتهما مراد القوم و اصطلاحهم و من جهل أمرا عاداه- .

ثم قال ع- و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة و دار الإقامة- أي لم يزل ينتقل من مقام من مقامات القوم- إلى مقام فوقه حتى وصل- و تلك المقامات معروفة عند أهلها- و من له أنس بها و سنذكرها فيما بعد- . ثم قال و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه- في قرار الأمن و الراحة بما استعمل قلبه و أرضى ربه- أي كانت الراحة الكلية و السعادة الأبدية- مستثمره من ذلك التعب الذي تحمله لما استعمل قلبه- و راض جوارحه و نفسه حتى وصل- كما قيل-عند الصباح يحمد القوم السرى و تنجلي عنا غيابات الكرى‏

و قال الشاعر-

تقول سليمى لو أقمت بأرضنا
و لم تدر أني للمقام أطوف‏

 و قال آخر-

ما ابيض وجه المرء في طلب
العلا حتى يسود وجهه في البيد

و قال-

فاطلب هدوءا بالتقلقل و استثر
بالعيس من تحت السهاد هجودا

ما إن ترى الأحساب بيضا وضحا
إلا بحيث ترى المنايا سودا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 213 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

213 و من كلام له ع- لما مر بطلحة بن عبيد الله و عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد- و هما قتيلان يوم الجمل

لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْمَكَانِ غَرِيباً- أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ قَتْلَى- تَحْتَ بُطُونِ الْكَوَاكِبِ- أَدْرَكْتُ وَتْرِي مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ- وَ أَفْلَتَنِي أَعْيَارُ بَنِي جُمَحٍ- لَقَدْ أَتْلَعُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَى أَمْرٍ- لَمْ يَكُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا دُونَهُ

عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد

– هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد- بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ليس بصحابي و لكنه من التابعين- و أبوه عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس- من مسلمة الفتح- و لما خرج رسول الله ص من مكة إلى حنين- استعمله عليها- فلم يزل أميرها حتى قبض رسول الله ص- و بقي على حاله خلافة أبي بكر الصديق- و مات هو و أبو بكر في يوم واحد- لم يعلم أحدهما بموت الآخر- و عبد الرحمن هذا هو الذي قال أمير المؤمنين فيه- و قد مر به قتيلا يوم الجمل لهفي عليك يعسوب قريش- هذا فتى الفتيان هذا اللباب المحض من بني عبد مناف- شفيت نفسي و قتلت معشري- إلى الله أشكو عجري و بجري- فقال له قائل- لشد ما أطريت‏ الفتى يا أمير المؤمنين منذ اليوم- قال إنه قام عني و عنه نسوة لم يقمن عنك- و عبد الرحمن هذا هو الذي احتملت العقاب كفه يوم الجمل- و فيها خاتمه فألقتها باليمامة فعرفت بخاتمه- و علم أهل اليمامة بالوقعة- .

و رأيت في شرح نهج البلاغة للقطب الراوندي- في هذا الفصل عجائب و طرائف- فأحببت أن أوردها هاهنا- منها أنه قال في تفسير قوله ع- أدركت و ترى من بني عبد مناف- قال يعني طلحة و الزبير كانا من بني عبد مناف- و هذا غلط قبيح- لأن طلحة من تيم بن مرة- و الزبير من أسد بن عبد العزى بن قصي- و ليس أحد منهما من بني عبد مناف- و ولد عبد مناف أربعة- هاشم و عبد شمس و نوفل و عبد المطلب- فكل من لم يكن من ولد هؤلاء الأربعة- فليس من ولد عبد مناف- .

و منها أنه قال إن مروان بن الحكم من بني جمح- و لقد كان هذا الفقيه رحمه الله بعيدا عن معرفة الأنساب- مروان من بني أمية بن عبد شمس- و بنو جمح من بني هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب- و اسم جمح تيم بن عمرو بن هصيص- و أخوه سهم بن عمرو بن هصيص- رهط عمرو بن العاص- فأين هؤلاء و أين مروان بن الحكم- . و منها أنه قال- و أفلتتني أغيار بني جمح بالغين المعجمة- قال هو جمع غير الذي بمعنى سوى- و هذا لم يرو و لا مثله مما يتكلم به أمير المؤمنين- لركته و بعده عن طريقته- فإنه يكون قد عدل عن أن يقول- و لم يفلتني إلا بنو جمح إلى مثل هذه العبارة الركيكة المتعسفة بنو جمح

و اعلم أنه ع أخرج هذا الكلام- مخرج الذم لمن حضر الجمل مع عائشة زوجة النبي ص- من بني جمح- فقال و أفلتتني أعيار بني جمح- جمع عير و هو الحمار- و قد كان معها منهم يوم الجمل جماعة هربوا- و لم يقتل منهم إلا اثنان فممن هرب و نجا بنفسه- عبد الله الطويل بن صفوان بن أمية- بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح- و كان شريفا و ابن شريف- و عاش حتى قتل مع ابن الزبير بمكة- . و منهم يحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية بن خلف- عاش حتى استعمله عمرو بن سعيد الأشدق على مكة- لما جمع له بين مكة و المدينة- فأقام عمرو بالمدينة و يحيى بمكة- .

و منهم عامر بن مسعود بن أمية بن خلف- كان يسمى دحروجة الجعل لقصره و سواده- و عاش حتى ولاه زياد صدقات بكر بن وائل- و ولاه عبد الله بن الزبير بن العوام الكوفة- . و منهم أيوب بن حبيب بن علقمة- بن ربيعة بن الأعور بن أهيب بن حذافة بن جمح- عاش حتى قتل بقديد قتلته الخوارج- . فهؤلاء الذين أعرف حضورهم الجمل مع عائشة من بني جمح- و قتل من بني جمح مع عائشة عبد الرحمن بن وهب بن أسيد- بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح- و عبد الله بن ربيعة بن دراج العنبس- بن وهبان بن وهب بن حذافة بن جمح- لا أعرف أنه قتل من بني جمح ذلك اليوم غيرهما- فإن صحت الرواية و أفلتني أعيان بني جمح بالنون- فالمراد رؤساؤهم و ساداتهم- .

و أتلعوا أعناقهم رفعوها- و رجل أتلع بين التلع أي طويل العنق- و جيد تليع أي طويل- قال الأعشى-يوم تبدي لنا قتيله عن جيد تليع تزينه الأطواق‏و وقص الرجل إذا اندقت عنقه فهو موقوص- و وقصت عنق الرجل أقصها وقصا أي كسرتها- و لا يجوز وقصت العنق نفسها- . و الضمير في قوله ع لقد أتلعوا- يرجع إلى قريش أي راموا الخلافة فقتلوا دونها- .

فإن قلت- أ تقول إن طلحة و الزبير لم يكونا من أهل الخلافة- إن قلت ذلك تركت مذهب أصحابك- و إن لم تقله خالفت قول أمير المؤمنين لم يكونوا أهله- . قلت هما أهل للخلافة ما لم يطلبها أمير المؤمنين- فإذا طلبها لم يكونا أهلا لها لا هما و لا غيرهما- و لو لا طاعته لمن تقدم- و ما ظهر من رضاه به لم نحكم بصحة خلافته

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 212 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

212 و من كلام له ع- في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه ع

فَقَدِمُوا عَلَى عُمَّالِي وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي فِي يَدَيَّ- وَ عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ كُلُّهُمْ فِي طَاعَتِي وَ عَلَى بَيْعَتِي- فَشَتَّتُوا كَلِمَتَهُمْ وَ أَفْسَدُوا عَلَيَّ جَمَاعَتَهُمْ- وَ وَثَبُوا عَلَى شِيعَتِي فَقَتَلُوا طَاِئفَةً منْهُمْ غَدْراً- وَ طَاِئفَةً عَضُّوا عَلَى أَسْيَافِهِمْ- فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا اللَّهَ صَادِقِينَ عضوا على أسيافهم- كناية عن الصبر في الحرب و ترك الاستسلام- و هي كناية فصيحة- شبه قبضهم على السيوف بالعض- و قد قدمنا ذكر ما جرى- و أن عسكر الجمل قتلوا طائفة من شيعة أمير المؤمنين ع بالبصرة- بعد أن أمنوهم غدرا- و أن بعض الشيعة صبر في الحرب و لم يستسلم- و قاتل حتى قتل مثل حكيم بن جبلة العبدي و غيره-

و روي و طائفة عضوا على أسيافهم بالرفع- تقديره و منهم طائفة- . قرأت في كتاب غريب الحديث- لأبي محمد عبد الله بن قتيبة- في حديث حذيفة بن اليمان أنه ذكر خروج عائشة- فقال تقاتل معها مضر مضرها الله في النار-و أزد عمان سلت الله أقدامها- و أن قيسا لن تنفك تبغي دين الله شرا- حتى يركبها الله بالملائكة- فلا يمنعوا ذنب تلعة- .

قلت هذا الحديث من أعلام نبوة سيدنا محمد ص- لأنه إخبار عن غيب- تلقاه حذيفة عن النبي ص- و حذيفة أجمع أهل السيرة على أنه مات- في الأيام التي قتل عثمان فيها- أتاه نعيه و هو مريض- فمات و علي ع لم يتكامل بيعة الناس- و لم يدرك الجمل- . و هذا الحديث يؤكد مذهب أصحابنا- في فسق أصحاب الجمل- إلا من ثبتت توبته منهم و هم الثلاثة

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 211 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

211 و من كلام له ع

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ- فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ أَكْفَئُوا إِنَائِي- وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي- وَ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ- وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تَمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً- فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَ لَا ذَابٌّ وَ لَا مُسَاعِدٌ- إِلَّا أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ- فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وَ جَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا- وَ صَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ- وَ آلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ قال الرضي رحمه الله- و قد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة- إلا أني ذكرته هاهنا لاختلاف الروايتين العدوى طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك- أي ينتقم لك منه- يقال استعديت الأمير على فلان فأعداني- أي استعنت به عليه فأعانني- .

و قطعوا رحمي و قطعوا قرابتي- أي أجروني مجرى الأجانب- و يجوز أن يريد أنهم عدوني- كالأجنبي من رسول الله ص- و يجوز أن يريد أنهم جعلوني كالأجنبي‏منهم- لا ينصرونه و لا يقومون بأمره- . و أكفئوا إنائي قلبوه و كبوه- و حذف الهمزة من أول الكلمة أفصح و أكثر- و قد روي كذلك- و يقال لمن قد أضيعت حقوقه- قد أكفأ إناءه تشبيها بإضاعة اللبن من الإناء- .

و قد اختلفت الرواية في قوله- إلا أن في الحق أن تأخذه- فرواها قوم بالنون و قوم بالتاء- و قال الراوندي إنها في خط الرضي بالتاء- و معنى ذلك أنك إن وليت أنت- كانت ولايتك حقا- و إن ولي غيرك كانت ولايته حقا- على مذهب أهل الاجتهاد- و من رواها بالنون فالمعنى ظاهر- . و الرافد المعين و الذاب الناصر- .

و ضننت بهم بخلت بهم- و أغضيت على كذا صبرت- . و جرعت بالكسر و الشجا ما يعترض في الحلق- . و الوخز الطعن الخفيف- و روي من خز الشفار و الخز القطع- و الشفار جمع شفرة و هي حد السيف و السكين و اعلم أن هذا الكلام- قد نقل عن أمير المؤمنين ع ما يناسبه و يجري مجراه- و لم يؤرخ الوقت الذي قاله فيه- و لا الحال التي عناها به- و أصحابنا يحملون ذلك على أنه ع- قاله عقيب الشورى و بيعة عثمان- فإنه ليس يرتاب أحد من أصحابنا على أنه تظلم و تألم حينئذ- .

و يكره أكثر أصحابنا- حمل أمثال هذا الكلام على التألم من يوم السقيفة- . و لقائل أن يقول لهم- أ تقولون إن بيعة عثمان لم تكن صحيحة- فيقولون لا فيقال‏لهم فعلى ما ذا تحملون كلامه ع- مع تعظيمكم له و تصديقكم لأقواله- فيقولون نحمل ذلك على تألمه و تظلمه منهم- إذا تركوا الأولى و الأفضل- فيقال لهم فلا تكرهوا قول من يقول من الشيعة و غيرهم- إن هذا الكلام و أمثاله صدر عنه عقيب السقيفة- و حملوه على أنه تألم و تظلم- من كونهم تركوا الأولى و الأفضل- فإنكم لستم تنكرون أنه كان الأفضل و الأحق بالأمر- بل تعترفون بذلك و تقولون ساغت إمامة غيره- و صحت لمانع كان فيه ع- و هو ما غلب على ظنون العاقدين للأمر- من أن العرب لا تطيعه- فإنه يخاف من فتنة عظيمة تحدث- إن ولي الخلافة لأسباب يذكرونها و يعدونها- و قد روى كثير من المحدثين- أنه عقيب يوم السقيفة تألم و تظلم- و استنجد و استصرخ- حيث ساموه الحضور و البيعة- و أنه قال و هو يشير إلى القبر- يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي- و أنه قال وا جعفراه و لا جعفر لي اليوم- وا حمزتاه و لا حمزة لي اليوم- .

و قد ذكرنا من هذا المعنى جملة صالحة فيما تقدم- و كل ذلك محمول عندنا- على أنه طلب الأمر من جهة الفضل و القرابة- و ليس بدال عندنا على وجود النص- لأنه لو كان هناك نص- لكان أقل كلفة و أسهل طريقا- و أيسر لما يريد تناولا أن يقول- يا هؤلاء إن العهد لم يطل- و إن رسول الله ص أمركم بطاعتي- و استخلفني عليكم بعده- و لم يقع منه ع بعد ما علمتموه و نص ينسخ ذلك- و لا يرفعه فما الموجب لتركي و العدول عني- .

فإن قالت الإمامية- كان يخاف القتل لو ذكر ذلك- فقيل لهم فهلا يخاف القتل- و هو يعتل و يدفع ليبايع- و هو يمتنع و يستصرخ تارة بقبر رسول الله ص-و تارة بعمه حمزة و أخيه جعفر و هما ميتان- و تارة بالأنصار و تارة ببني عبد مناف- و يجمع الجموع في داره- و يبث الرسل و الدعاة ليلا و نهارا إلى الناس- يذكرهم فضله و قرابته- و يقول للمهاجرين- خصمتم الأنصار بكونكم أقرب إلى رسول الله ص- و أنا أخصمكم بما خصمتم به الأنصار- لأن القرابة إن كانت هي المعتبرة- فأنا أقرب منكم- .

و هلا خاف من هذا الامتناع- و من هذا الاحتجاج و من الخلوة في داره بأصحابه- و من تنفير الناس عن البيعة- التي عقدت حينئذ لمن عقدت له- . و كل هذا إذا تأمله المنصف- علم أن الشيعة أصابت في أمر و أخطأت في أمر- أما الأمر الذي أصابت فيه فقولها- إنه امتنع و تلكأ و أراد الأمر لنفسه- و أما الأمر الذي أخطأت فيه- فقولها إنه كان منصوصا عليه نصا جليا بالخلافة- تعلمه الصحابة كلها أو أكثرها- و أن ذلك النص خولف طلبا للرئاسة الدنيوية- و إيثارا للعاجلة- و أن حال المخالفين للنص لا تعدو أحد أمرين- إما الكفر أو الفسق- فإن قرائن الأحوال و أماراتها لا تدل على ذلك- و إنما تدل و تشهد بخلافه- و هذا يقتضي أن أمير المؤمنين ع- كان في مبدإ الأمر يظن أن العقد لغيره- كان عن غير نظر في المصلحة- و أنه لم يقصد به إلا صرف الأمر عنه- و الاستئثار عليه- فظهر منه ما ظهر من الامتناع و العقود في بيته- إلى أن صح عنده و ثبت في نفسه- أنهم أصابوا فيما فعلوه و أنهم لم يميلوا إلى هوى- و لا أرادوا الدنيا و إنما فعلوا الأصلح في ظنونهم- لأنه رأى من بغض الناس له و انحرافهم عنه- و ميلهم عليه و ثوران الأحقاد التي كانت في أنفسهم- و احتدام النيران التي كانت في قلوبهم- و تذكروا التراث التي وتراهم فيما قبل بها- و الدماء التي سفكها منهم و أراقها- .

و تعلل طائفة أخرى منهم للعدول عنه بصغر سنه- و استهجانهم تقديم الشباب على الكهول و الشيوخ- . و تعلل طائفة أخرى منهم- بكراهية الجمع بين النبوة و الخلافة في بيت واحد- فيجفخون على الناس كما قاله من قاله- و استصعاب قوم منهم شكيمته و خوفهم تعديه و شدته- و علمهم بأنه لا يداجي و لا يحابي- و لا يراقب و لا يجامل في الدين- و أن الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه- و يعمل بموجب استصلاحه- و انحراف قوم آخرين عنه- للحسد الذي كان عندهم له في حياة رسول الله ص- لشدة اختصاصه له و تعظيمه إياه- و ما قال فيه فأكثر من النصوص الدالة على رفعة شأنه- و علو مكانه و ما اختص به من مصاهرته و أخوته- و نحو ذلك من أحواله معه- و تنكر قوم آخرين له- لنسبتهم إليه العجب و التيه كما زعموا- و احتقاره العرب و استصغاره الناس كما عددوه عليه- و إن كانوا عندنا كاذبين- و لكنه قول قيل و أمر ذكر و حال نسبت إليه- و أعانهم عليها ما كان يصدر عنه من أقوال توهم مثل هذا- نحو قوله فإنا صنائع ربنا و الناس بعد صنائع لنا- و ما صح به عنده- أن الأمر لم يكن ليستقيم له يوما واحدا- و لا ينتظم و لا يستمر- و أنه لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقا- يكون فيه استئصال شأفة الإسلام و هدم أركانه- فأذعن بالبيعة- و جنح إلى الطاعة و أمسك عن طلب الإمرة- و إن كان على مضض و رمض- . و قد روي عنه ع- أن فاطمة ع حرضته يوما على النهوض و الوثوب- فسمع صوت المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله- فقال لها أ يسرك زوال هذا النداء من الأرض- قالت لا قال فإنه ما أقول لك- .

و هذا المذهب هو أقصد المذاهب و أصحها- و إليه يذهب أصحابنا المتأخرون من البغداديين و به يقول- . و اعلم أن حال علي ع في هذا المعنى- أشهر من أن يحتاج في الدلالة عليها- إلى الإسهاب و الإطناب- فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها- حين بويع بالخلافة بعد وفاة رسول الله ص- بخمس و عشرين سنة- و في دون هذه المدة تنسى الأحقاد- و تموت التراث و تبرد الأكباد الحامية- و تسلو القلوب الواجدة- و يعدم قرن من الناس و يوجد قرن- و لا يبقى من أرباب تلك الشحناء و البغضاء إلا الأقل- فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش- كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه ص- من إظهار ما في النفوس و هيجان ما في القلوب- حتى أن الأخلاف من قريش- و الأحداث و الفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه- و فتكاته في أسلافهم و آبائهم- فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله- و تقاعست عن بلوغ شأوه- فكيف كانت تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة- و سيفه بعد يقطر دما من مهج العرب- لا سيما قريش الذين بهم كان ينبغي لو دهمه خطب أن يعتضد- و عليهم كان يجب أن يعتمد- إذن كانت تدرس أعلام الملة و تنعفي رسوم الشريعة- و تعود الجاهلية الجهلاء على حالها- و يفسد ما أصلحه رسول الله ص- في ثلاث و عشرين سنة في شهر واحد- فكان من عناية الله تعالى بهذا الدين- أن ألهم الصحابة ما فعلوه- و الله متم نوره و لو كره المشركون‏

فصل في أن جعفرا و حمزة لو كان حيين لبايعا عليا

و سألت النقيب أبا جعفر- يحيى بن محمد بن أبي يزيد رحمه الله- قلت له أ تقول إن حمزة و جعفرا لو كانا حيين- يوم مات رسول الله ص أ كانا يبايعانه بالخلافة- فقال نعم- كانا أسرع إلى بيعة من النار في يبس العرفج- فقلت له أظن أن جعفرا كان يبايعه و يتابعه- و ما أظن حمزة كذلك- و أراه جبارا قوي النفس شديد الشكيمة- ذاهبا بنفسه شجاعا بهمه- و هو العم و الأعلى سنا و آثاره في الجهاد معروفة- و أظنه كان يطلب الخلافة لنفسه- . فقال الأمر في أخلاقه و سجاياه كما ذكرت- و لكنه كان صاحب دين متين- و تصديق خالص لرسول الله ص- و لو عاش لرأى من أحوال علي ع- مع رسول الله ص ما يوجب أن يكسر له نخوته- و أن يقيم له صعره و أن يقدمه على نفسه- و أن يتوخى رضا الله و رضا رسوله فيه- و إن كان بخلاف إيثاره- .

ثم قال أين خلق حمزة السبعي- من خلق علي الروحاني اللطيف- الذي جمع بينه و بين خلق حمزة- فاتصفت بهما نفس واحدة- و أين هيولانية نفس حمزة- و خلوها من العلوم من نفس علي القدسية- التي أدركت بالفطرة لا بالقوة التعليمية- ما لم تدركه نفوس مدققي الفلاسفة الإلهيين- لو أن حمزة حيي حتى رأى من علي ما رآه غيره- لكان أتبع له من ظله- و أطوع له من أبي ذر و المقداد أما قولك هو و العم و الأعلى سنا- فقد كان العباس العم و الأعلى سنا- و قد عرفت ما بذله له و ندبه إليه- و كان أبو سفيان كالعم و كان أعلى سنا- و قد عرفت ما عرضه عليه- ثم قال ما زالت الأعمام تخدم أبناء الإخوة- و تكون أتباعا لهم- أ لست ترى داود بن‏علي و عبد الله بن علي- و صالح بن علي و سليمان بن علي- و عيسى بن علي و إسماعيل ابن علي- و عبد الصمد بن علي خدموا ابن أخيهم- و هو عبد الله السفاح بن محمد بن علي- و بايعوه و تابعوه- و كانوا أمراء جيوشه و أنصاره و أعوانه- أ لست ترى حمزة و العباس اتبعا ابن أخيهما صلوات الله عليه- و أطاعاه و رضيا برياسته و صدقا دعوته- أ لست تعلم أن أبا طالب- كان رئيس بني هاشم و شيخهم و المطاع فيهم- و كان محمد رسول الله ص يتيمه و مكفوله- و جاريا مجرى أحد أولاده عنده- ثم خضع له و اعترف بصدقه و دان لأمره- حتى مدحه بالشعر كما يمدح الأدنى الأعلى فقال فيه-

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل‏

يطيف به الهلاك من آل هاشم‏
فهم عنده في نعمة و فواضل‏

و إن سرا اختص به محمد ص- حتى أقام أبا طالب و حاله معه حاله مقام المادح له- لسر عظيم و خاصية شريفة- و إن في هذا لمعتبر عبرة- أن يكون هذا الإنسان الفقير- الذي لا أنصار له و لا أعوان معه- و لا يستطيع الدفاع عن نفسه- فضلا عن أن يقهر غيره- تعمل دعوته و أقواله في الأنفس- ما تعمله الخمر في الأبدان المعتدلة المزاج- حتى تطيعه أعمامه و يعظمه مربيه و كافله- و من هو إلى آخر عمره القيم بنفقته- و غذاء بدنه و كسوة جسده- حتى يمدحه بالشعر كما يمدح الشعراء الملوك و الرؤساء- و هذا في باب المعجزات عند المنصف- أعظم من انشقاق القمر و انقلاب العصا- و من أبناء القوم بما يأكلون و ما يدخرون في بيوتهم- .

ثم قال رحمه الله- كيف قلت أظن أن جعفرا كان يبايعه و يتابعه- و لا أظن في حمزة ذلك- إن كنت قلت ذلك لأنه أخوه- فإنه أعلى منه سنا هو أكبر من علي بعشرسنين- و قد كانت له خصائص و مناقب كثيرة- و قال فيه النبي ص قولا شريفا- اتفق عليه المحدثون- قال له لما افتخر هو و علي و زيد بن حارثة- و تحاكموا إلى رسول الله ص أشبهت خلقي و خلقي- فخجل فرحا ثم قال لزيد- أنت مولانا و صاحبنا فخجل أيضا- ثم قال لعلي أنت أخي و خالصتي- قالوا فلم يخجل- قالوا كان ترادف التعظيم له و تكرره عليه- لم يجعل عنده للقول ذلك الموضع- و كان غيره إذا عظم عظم نادرا- فيحسن موقعه عنده- و اختلف الناس في أي المدحتين أعظم- .

فقلت له- قد وقفت لأبي حيان التوحيدي في كتاب البصائر- على فصل عجيب يمازج ما نحن فيه- قال في الجزء الخامس من هذا الكتاب- سمعت قاضي القضاة أبا سعد بشر بن الحسين- و ما رأيت رجلا أقوى منه في الجدل- في مناظرة جرت بينه و بين أبي عبد الله الطبري- و قد جرى حديث جعفر بن أبي طالب و حديث إسلامه- و التفاضل بينه و بين أخيه علي- فقال القاضي أبو سعد- إذا أنعم النظر علم أن إسلام جعفر كان بعد بلوغ- و إسلام البالغ لا يكون إلا بعد استبصار و تبين- و معرفة بقبح ما يخرج منه و حسن ما يدخل فيه- و أن إسلام علي مختلف في حاله- و ذلك أنه قد ظن أنه كان عن تلقين- لا تبيين إلى حين بلوغه و أوان تعقبه و نظره- و قد علم أيضا أنهما قتلا- و أن قتلة جعفر شهادة بالإجمال- و قتلة علي فيها أشد الاختلاف- ثم خص الله جعفرا- بأن قبضه إلى الجنة قبل ظهور التباين- و اضطراب الحبل و كثرة الهرج- و على أنه لو انعقد الإجماع- و تظاهر جميع الناس على أن القتلتين شهادة- لكانت الحال في الذي رفع إليها جعفر أغلظ و أعظم- و ذلك أنه قتل مقبلا غير مدبر- و أما علي فإنه اغتيل اغتيالا و قصد من حيث لا يعلم- و شتان ما بين من فوجئ بالموت و بين من عاين مخايل الموت-و تلقاه بالنحر و الصدر- و عجل إلى الله بالإيمان و الصدق- أ لا تعلم أن جعفرا قطعت يمناه فأمسك اللواء بيسراه- و قطعت يسراه فضم اللواء إلى حشاه- ثم قاتله ظاهر الشرك بالله و قاتل علي ممن صلى إلى القبلة- و شهد الشهادة و أقدم عليه بتأويل- و قاتل جعفر كافر بالنص الذي لا خلاف فيه- أ ما تعلم أن جعفرا ذو الجناحين- و ذو الهجرتين إلى الحبشة و المدينة- .

قال النقيب رحمه الله اعلم فداك شيخك- أن أبا حيان رجل ملحد زنديق- يحب التلاعب بالدين- و يخرج ما في نفسه فيعزوه إلى قوم لم يقولوه- و أقسم بالله إن القاضي أبا سعد- لم يقل من هذا الكلام لفظة واحدة- و لكنها من موضوعات أبي حيان و أكاذيبه و ترهاته- كما يسند إلى القاضي أبي حامد المروروذي كل منكر- و يروى عنه كل فاقرة- .

ثم قال يا أبا حيان مقصودك أن تجعلها مسألة خلاف- تثير بها فتنة بين الطالبيين- لتجعل بأسهم بينهم- و كيف تقلبت الأحوال فالفخر لهم لم يخرج عنهم- . ثم ضحك رحمه الله حتى استلقى و مد رجليه- و قال هذا كلام يستغنى عن الإطالة في إبطاله بإجماع المسلمين- فإنه لا خلاف بين المسلمين في أن عليا أفضل من جعفر- و إنما سرق أبو حيان هذا المعنى الذي أشار إليه- من رسالة المنصور أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله النفس الزكية- قال له و كانت بنو أمية يلعنون أباك في أدبار الصلوات المكتوبات- كما تلعن الكفرة فعنفناهم و كفرناهم- و بينا فضله و أشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة- و ظننت أنه لما ذكرناه من فضله- أنا قدمناه على حمزة و العباس و جعفر- أولئك مضوا سالمين مسلمين منهم و ابتلي أبوك بالدماء- .

فقلت له رحمه الله و إذا لا إجماع في المسألة- لأن المنصور لم يقل بتفضيله عليهم-و أنت ادعيت الإجماع- فقال إن الإجماع قد سبق هذا القائل- و كل قول قد سبقه الإجماع لا يعتد به- . فلما خرجت من عند النقيب أبي جعفر- بحثت في ذلك اليوم في هذا الموضوع- مع أحمد بن جعفر الواسطي رحمه الله- و كان ذا فضل و عقل و كان إمامي المذهب- فقال لي صدق النقيب فيما قال- أ لست تعلم أن أصحابكم المعتزلة على قولين- أحدهما أن أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر- و الآخر أن أكثرهم ثوابا علي- و أصحابنا يقولون إن أكثر المسلمين ثوابا علي- و كذلك الزيدية- و أما الأشعرية و الكرامية و أهل الحديث- فيقولون أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر- فقد خلص من مجموع هذه الأقوال- أن ثواب حمزة و جعفر دون ثواب علي ع- أما على قول الإمامية و الزيدية و البغداديين كافة- و كثير من البصريين من المعتزلة فالأمر ظاهر- و أما الباقون فعندهم أن أكثر المسلمين ثوابا- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي- و لم يذهب ذاهب إلى أن ثواب حمزة و جعفر- أكثر من ثواب علي من جميع الفرق- فقد ثبت الإجماع الذي ذكره النقيب- إذا فسرنا الأفضلية بالأكثرية ثوابا- و هو التفسير الذي يقع الحجاج و الجدال- في إثباته لأحد الرجلين- و أما إذا فسرنا الأفضلية بزيادة المناقب و الخصائص- و كثرة النصوص الدالة على التعظيم- فمعلوم أن أحدا من الناس- لا يقارب عليا ع في ذلك- لا جعفر و لا حمزة و لا غيرهما- .

ثم وقع بيدي بعد ذلك كتاب- لشيخنا أبي جعفر الإسكافي- ذكر فيه أن مذهب بشر بن المعتمر و أبي موسى- و جعفر بن مبشر و سائر قدماء البغداديين- أن أفضل المسلمين علي بن أبي طالب- ثم ابنه الحسن ثم ابنه الحسين- ثم حمزة بن عبد المطلب ثم جعفر بن أبي طالب- ثم أبو بكر بن أبي قحافة ثم عمر بن الخطاب- ثم عثمان بن عفان-قال و المراد بالأفضل أكرمهم عند الله- أكثرهم ثوابا و أرفعهم في دار الجزاء منزلة- . ثم وقفت بعد ذلك على كتاب- لشيخنا أبي عبد الله البصري- يذكر فيه هذه المقالة- و ينسبها إلى البغداديين- و قال إن الشيخ أبا القاسم البلخي كان يقول بها- و قبله الشيخ أبو الحسين الخياط- و هو شيخ المتأخرين من البغداديين- قالوا كلهم بها فأجبني هذا المذهب- و سررت بأن ذهب الكثير من شيوخنا إليه- و نظمته في الأرجوزة- التي شرحت فيها عقيدة المعتزلة فقلت-

و خير خلق الله بعد المصطفى
أعظمهم يوم الفخار شرفا

السيد المعظم الوصي‏
بعل البتول المرتضى علي‏

و ابناه ثم حمزة و جعفر
ثم عتيق بعدهم لا ينكر

المخلص الصديق ثم عمر
فاروق دين الله ذاك القسور

و بعده عثمان ذو النورين
هذا هو الحق بغير مين‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 210 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

210: فَأَجَابَهُ ع رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يَكْثُرُ فِيهِ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ- وَ يَذْكُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ ع- إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ- وَ جَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ- أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ- وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَ لَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ- إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ عِظَماً- وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الْوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ- أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ- وَ يُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ- وَ قَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ- وَ اسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ- وَ لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ- لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَ الْكِبْرِيَاءِ- وَ رُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ- فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ- لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ الْبَقِيَّةِ- فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا- فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ- وَ لَا تَتَحَفَّظُوا بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ- وَ لَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي- وَ لَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي- فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ- أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ-فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ- فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ- وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي- إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي- فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ- يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا- وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ- فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى هذا الفصل و إن لم يكن فيه ألفاظ غريبة سبيلها أن تشرح- ففيه معان مختلفة سبيلها أن تذكر و توضح- و تذكر نظائرها و ما يناسبها- .

فمنها قوله ع- إن من حق من عظمت نعمة الله عليه- أن تعظم عليه حقوق الله تعالى- و أن يعظم جلال الله تعالى في نفسه- و من حق من كان كذلك أن يصغر عنده كل ما سوى الله- . و هذا مقام جليل من مقامات العارفين- و هو استحقار كل ما سوى الله تعالى- و ذلك أن من عرف الله تعالى- فقد عرف ما هو أعظم من كل عظيم- بل لا نسبة لشي‏ء من الأشياء أصلا إليه سبحانه- فلا يظهر عند العارف عظمة غيره البتة- كما أن من شاهد الشمس المنيرة يستحقر ضوء القمر- و السراج الموضوع في ضوء الشمس حال مشاهدته جرم الشمس- بل لا تظهر له في تلك الحال صنوبرة السراج- و لا تنطبع صورتها في بصره- . و منها قوله ع- من أسخف حالات الولاة أن يظن بهم حب الفخر- و يوضع‏ أمرهم على الكبر-قال النبي ص لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبروقال ص لو لا ثلاث مهلكات لصلح الناس- شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه- .

و كان يقال ليس لمعجب رأي و لا لمتكبر صديق- . و كان أبو مسلم صاحب الدولة يقول- ما تاه إلا وضيع و لا فاخر إلا لقيط- و لا تعصب إلا دخيل- . و قال عمر لبعض ولده التمس الرفعة بالتواضع- و الشرف بالدين و العفو من الله بالعفو عن الناس- و إياك و الخيلاء فتضع من نفسك- و لا تحقرن أحدا لأنك لا تدري- لعل من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك- . و منها قوله ع- قد كرهت أن تظنوا بي حب الإطراء و استماع الثناء- قدروي عن النبي ص أنه قال احثوا في وجوه المداحين التراب- و قال عمر المدح هو الذبح- . و كان يقال- إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك- فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك- .

و يقال إن في بعض الكتب المنزلة القديمة- عجبا لمن قيل فيه الخير و ليس فيه كيف يفرح- و لمن قيل فيه الشر و ليس فيه كيف يغضب- و أعجب من ذلك من أحب نفسه على اليقين- و أبغض الناس على الظن- . و كان يقال- لا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك- . و قال رجل لعبد الملك- إني أريد أن أسر إليك يا أمير المؤمنين شيئا- فقال لمن حوله‏إذا شئتم فانهضوا- فتقدم الرجل يريد الكلام- فقال له عبد الملك قف لا تمدحني- فإني أعلم بنفسي منك- و لا تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب- و لا تغتب عندي أحدا فإني أكره الغيبة- قال أ فيأذن أمير المؤمنين في الانصراف قال إذا شئت- .

و ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني- في مسألة كلامية- فجعل النوشجاني يخضع في الكلام و يستخذي له- فقال يا محمد أراك تنقاد إلى ما أقوله- قبل وجوب الحجة لي عليك- و قد ساءني منك ذلك- و لو شئت أن أفسر الأمور بعزة الخلافة و هيبة الرئاسة- لصدقت و إن كنت كاذبا و عدلت و إن كنت جائرا- و صوبت و إن كنت مخطئا- و لكني لا أقنع إلا بإقامة الحجة و إزالة الشبهة- و إن أنقص الملوك عقلا- و أسخفهم رأيا من رضي بقولهم صدق الأمير- .

و قال عبد الله بن المقفع في اليتيمة- إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح و التزكية- و أن يعرف الناس ذلك منك- فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها- و بابا يفتتحونك منه و غيبة يغتابونك بها- و يسخرون منك لها- و اعلم أن قابل المدح كمادح نفسه- و أن المرء جدير أن يكون حبه المدح- هو الذي يحمله على رده- فإن الراد له ممدوح و القابل له معيب- . و قال معاوية لرجل من سيد قومك- قال أنا قال لو كنت كذلك لم تقله- . و قال الحسن- ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر- . كان يقال من أظهر عيب نفسه فقد زكاها- . و منها قوله ع- لو كنت كذلك لتركته انحطاطا لله تعالى- عن تناول ما هو أحق به من الكبرياء-في الحديث المرفوع من تواضع لله رفعه الله- و من تكبر خفضه الله- .

و فيه أيضا العظمة إزاري- و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته- . و منها قوله ع- فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة- و لا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة- . أحسن ما سمعته في سلطان لا تخاف الرعية بادرته- و لا يتلجلج المتحاكمون عنده- مع سطوته و قوته لإيثاره العدل- قول أبي تمام في محمد بن عبد الملك-

وزير حق و والي شرطة و رحى
ديوان ملك و شيعي و محتسب‏

كالأرحبي المذكي سيره المرطى‏
و الوخد و الملع و التقريب و الخبب‏

عود تساجله أيامه فبها
من مسه و به من مسها جلب‏

ثبت الخطاب إذا اصطكت بمظلمة
في رحله ألسن الأقوام و الركب‏
لا المنطق اللغو يزكو في مقاومه
يوما و لا حجة الملهوف تستلب‏

كأنما هو في نادي قبيلته‏
لا القلب يهفو و لا الأحشاء تضطرب‏

و من هذا المعنى قول أبي الجهم العدوي في معاوية-

نقلبه لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرما و لينا

نميل على جوانبه كأنا
إذا ملنا نميل على أبينا

و منها قوله ع- لا تظنوا بي استثقال رفع الحق إلي- فإنه من استثقل الحق أن يقال له- كان العمل به عليه أثقل- . هذا معنى لطيف و لم أسمع منه شيئا منثورا و لا منظوما- . و منها قوله ع- و لا تكفوا عن قول بحق أو مشورة بعدل- . قد ورد في المشورة شي‏ء كثير- قال الله تعالى وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ- . و كان يقال إذا استشرت إنسانا صار عقله لك- .

و قال أعرابي ما غبنت قط حتى يغبن قومي- قيل و كيف ذاك قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم- . و كان يقال- من أعطي الاستشارة لم يمنع الصواب- و من أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة- و من أعطي التوبة لم يمنع القبول- و من أعطي الشكر لم يمنع المزيد- . و في آداب ابن المقفع لا يقذفن في روعك- أنك إذا استشرت الرجال ظهر منك للناس حاجتك- إلى رأي غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة- فإنك لا تريد الرأي للفخرو لكن للانتفاع به- و لو أنك أردته للذكر لكان أحسن الذكر عند العقلاء- أن يقال إنه لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي من إخوانه- .

و منها أن يقال ما معنى قوله ع- و ربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء- إلى قوله لا بد من إمضائها- فنقول إن معناه أن بعض من يكره الإطراء و الثناء- قد يحب ذلك بعد البلاء و الاختبار- كما قال مرداس بن أدية لزياد إنما الثناء بعد البلاء- و إنما نثني بعد أن نبتلي- فقال لو فرضنا أن ذلك سائغ و جائز و غير قبيح- لم يجز لكم أن تثنوا علي في وجهي- و لا جاز لي أن أسمعه منكم- لأنه قد بقيت علي بقية لم أفرغ من أدائها- و فرائض لم أمضها بعد و لا بد لي من إمضائها- و إذا لم يتم البلاء الذي قد فرضنا- أن الثناء يحسن بعده لم يحسن الثناء-.

و معنى قوله لإخراجي نفسي إلى الله و إليكم- أي لاعترافي بين يدي الله و بمحضر منكم- أن علي حقوقا في إيالتكم و رئاستي عليكم- لم أقم بها بعد و أرجو من الله القيام بها- . و منها أن يقال ما معنى قوله فلا تخالطوني بالمصانعة- فنقول إن معناه لا تصانعوني- بالمدح و الإطراء عن عمل الحق- كما يصانع به كثير من الولاة الذين يستفزهم المدح- و يستخفهم الإطراء و الثناء- فيغمضون عن اعتماد كثير من الحق- مكافأة لما صونعوا به من التقريظ و التزكية و النفاق- . و منها قوله ع فإني لست بفوق أن أخطئ- هذا اعتراف منه ع بعدم العصمة- فإما أن يكون الكلام على ظاهره- أو يكون قاله على سبيل هضم‏النفس-كما قال رسول الله ص و لا أنا إلا أن يتداركني الله برحمته- .

و منها قوله ع- أخرجنا مما كنا فيه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى- و أعطانا البصيرة بعد العمى- ليس هذا إشارة إلى خاص نفسه ع- لأنه لم يكن كافرا فأسلم- و لكنه كلام يقوله و يشير به إلى القوم- الذين يخاطبهم من أفناء الناس- فيأتي بصيغة الجمع الداخلة فيها نفسه توسعا- و يجوز أن يكون معناه- لو لا ألطاف الله تعالى ببعثة محمد ص- لكنت أنا و غيري على أصل مذهب الأسلاف من عبادة الأصنام- كما قال تعالى لنبيه وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى‏- ليس معناه أنه كان كافرا- بل معناه لو لا اصطفاه الله تعالى لك- لكنت كواحد من قومك- و معنى وَ وَجَدَكَ ضَالًّا- أي و وجدك بعرضة للضلال- فكأنه ضال بالقوة لا بالفعل

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 209 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

209 و من خطبة له ع خطبها بصفين

أَمَّا بَعْدُ- فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ- وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ- وَ الْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ- وَ أَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ- لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ- وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ- وَ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ- لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ- لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ- وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ- تَفَضُّلًا مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ الذي له عليهم من الحق هو وجوب طاعته- و الذي لهم عليه من الحق هو وجوب معدلته فيهم- و الحق أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف- معناه أن كل أحد يصف الحق و العدل- و يذكر حسنه و وجوبه- و يقول لو وليت لعدلت- فهو بالوصف باللسان وسيع و بالفعل ضيق- لأن ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه- و يعدون أن لو ولوا باعتماده و فعله- لا تجد في الألف منهم واحدا لو ولي لعدل- و لكنه قول بغير عمل- .

ثم عاد إلى تقرير الكلام الأول- و هو وجوب الحق له و عليه- فقال إنه لا يجري لأحد إلا و جرى عليه- و كذلك لا يجري عليه إلا و جرى له- أي ليس و لا واحد من الموجودين- بمرتفع عن أن يجري الحق عليه- و لو كان أحد من الموجودين كذلك- لكان أحقهم بذلك البارئ سبحانه- لأنه غاية الشرف- بل هو فوق الشرف و فوق الكمال و التمام- و هو مالك الكل و سيد الكل- فلو كان لجواز هذه القضية وجه- و لصحتها مساغ لكان البارئ تعالى أولى بها- و هي ألا يستحق عليه شي‏ء- و تقدير الكلام لكنه يستحق عليه أمور- فهو في هذا الباب كالواحد منا يستحق و يستحق عليه- و لكنه ع حذف هذا الكلام المقدر- أدبا و إجلالا لله تعالى أن يقول إنه يستحق عليه شي‏ء- .

فإن قلت فما بال المتكلمين لا يتأدبون بأدبه ع- و كيف يطلقون عليه تعالى الوجوب و الاستحقاق- . قلت ليست وظيفة المتكلمين- وظيفة أمير المؤمنين ع في عباراتهم- هؤلاء أرباب صناعة- و علم يحتاج إلى ألفاظ و اصطلاح لا بد لهم من استعماله- للإفهام و الجدل بينهم- و أمير المؤمنين إمام يخطب على منبره- يخاطب عربا و رعية ليسوا من أهل النظر- و لا مخاطبته لهم لتعليم هذا العلم- بل لاستنفارهم إلى حرب عدوه- فوجب عليه بمقتضى الأدب- أن يتوقى كل لفظة توهم ما يستهجنه السامع- في الأمور الإلهية و في غيرها- . فإن قلت فما هذه الأمور التي زعمت- أنها تستحق على البارئ سبحانه- و أن أمير المؤمنين ع حذفها من اللفظ و اللفظ يقتضيها- . قلت الثواب و العوض و قبول التوبة- و اللطف و الوفاء بالوعد و الوعيد- و غير ذلك مما يذكره أهل العدل- .

فإن قلت فما معنى قوله- لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه- لقدرته على عباده- و لعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه- و هب أن تعليل عدم استحقاق شي‏ء- على الله تعالى بقدرته على عباده صحيح- كيف يصح تعليل ذلك بعدله- في كل ما جرت عليه صروف قضائه- أ لا ترى أنه ليس بمستقيم- أن تقول لا يستحق على البارئ شي‏ء لأنه عادل- و إنما المستقيم أن تقول لا يستحق عليه شي‏ء لأنه مالك- و لذلك عللت الأشعرية هذا الحكم بأنه مالك الكل- و الاستحقاق إنما يكون على من دونه- .

قلت التعليل صحيح- و هو أيضا مما عللت به الأشعرية مذهبها- و ذلك لأنه إنما يتصور الاستحقاق على الفاعل المختار- إذا كان ممن يتوقع منه أو يصح منه أن يظلم- فيمكن حينئذ أن يقال قد وجب عليه كذا- و استحق عليه كذا- فأما من لا يمكن أن يظلم و لا يتصور وقوع الظلم منه- و لا الكذب و لا خلف الوعد و الوعيد- فلا معنى لإطلاق الوجوب و الاستحقاق عليه- كما لا يقال كذا الداعي الخالص- يستحق عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي- و يجب عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي- مثل الهارب من الأسد- و الشديد العطش إذا وجد الماء و نحو ذلك- .

فإن قلت أ ليس يشعر قوله ع- و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه- بمذهب البغداديين من أصحابكم- و هو قولهم إن الثواب تفضل من الله سبحانه- و ليس بواجب- . قلت لا و ذلك لأنه جعل المتفضل به- هو مضاعفة الثواب لا أصل الثواب- و ليس ذلك بمستنكر عندنا- . فإن قلت- أ يجوز عندكم أن يستحق المكلف عشرة أجزاء من الثواب- فيعطى عشرين جزءا منه- أ ليس من مذهبكم أن التعظيم و التبجيل- لا يجوز من البارئ سبحانه أن يفعلهمافي الجنة- إلا على قدر الاستحقاق- و الثواب عندكم هو النفع المقارن للتعظيم و التبجيل- فيكف قلت إن مضاعفة الثواب عندنا جائزة- .

قلت مراده ع بمضاعفة الثواب هنا- زيادة غير مستحقة من النعيم و اللذة الجسمانية- خاصة في الجنة- فسمى تلك اللذة الجسمانية ثوابا لأنها جزء من الثواب- فأما اللذة العقلية فلا يجوز مضاعفتها- . قوله ع بما هو من المزيد أهله- أي بما هو أهله من المزيد- فقدم الجار و المجرور و موضعه نصب على الحال- و فيه دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه- كما قال الشاعر-

لئن كان برد الماء حران صاديا
إلي حبيبا إنها لحبيب‏

ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً- افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ- فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا- وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً- وَ لَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ- . وَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ- حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَ حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي- فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ- فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ- فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ- وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ- فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ- وَ أَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا- عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ- وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ- فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ- وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ- .

وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا- أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ- اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ- وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ كَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ- وَ تَرَكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى- وَ عُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ- فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ- وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ- فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ- وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ- . فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ- فَلَيْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ- وَ طَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ- وَ لَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ- النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ- وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ- وَ لَيْسَ امْرُؤٌ وَ إِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ- وَ تَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ مِنْ حَقِّهِ- وَ لَا امْرُؤٌ وَ إِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ- وَ اقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ- بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ تتكافأ في وجوهها تتساوى- و هي حق الوالي على الرعية و حق الرعية على الوالي- . و فريضة قد روي بالنصب و بالرفع- فمن رفع فخبر مبتدإ محذوف- و من نصب فبإضمار فعل أو على الحال- . و جرت على أذلالها السنن- بفتح الهمزة أي على مجاريها و طرقها- . و أجحف الوالي برعيته ظلمهم- . و الإدغال في الدين الفساد- .

و محاج السنن جمع محجة و هي جادة الطريق- . قوله و كثرت علل النفوس أي تعللها بالباطل- و من كلام الحجاج إياكم و علل النفوس- فإنها أدوى لكم من علل الأجساد- . و اقتحمته العيون احتقرته و ازدرته- قال ابن دريد-و منه ما تقتحم العين فإن ذقت جناه ساغ عذبا في اللها- . و مثل قوله ع- و ليس امرؤ و إن عظمت في الحق منزلته- قول زيد بن علي ع لهشام بن عبد الملك- إنه ليس أحد و إن عظمت منزلته بفوق أن يذكر بالله- و يحذر من سطوته- و ليس أحد و إن صغر بدون أن يذكر بالله- و يخوف من نقمته- . و مثل قوله ع و إذا غلبت الرعية واليها- قول الحكماء إذا علا صوت بعض الرعية على الملك- فالملك مخلوع- فإن قال نعم فقال أحد من الرعية لا- فالملك مقتول

فصل فيما ورد من الآثار فيما يصلح الملك

و قد جاء في وجوب الطاعة لأولي الأمر الكثير الواسع- قال الله سبحانه- أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وروى عبد الله بن عمر عن رسول الله ص السمع و الطاعة على المرءالمسلم فيما أحب و كره- ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بها فلا سمع و لا طاعة
وعنه ص إن أمر عليكم عبد أسود مجدع فاسمعوا له و أطيعواومن كلام علي ع إن الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة
– .

بعث سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي- من العراق إلى عمر بن الخطاب بالمدينة- فقال له عمر كيف تركت الناس- قال تركتهم كقداح الجعبة منها الأعصل الطائش- و منها القائم الرائش قال فكيف سعد لهم- قال هو ثقافها الذي يقيم أودها و يغمز عصلها- قال فكيف طاعتهم قال يصلون الصلاة لأوقاتها- و يؤدون الطاعة إلى ولاتها- قال الله أكبر إذا أقيمت الصلاة أديت الزكاة- و إذا كانت الطاعة كانت الجماعة- . و من كلام أبرويز الملك- أطع من فوقك يطعك من دونك- .

و من كلام الحكماء قلوب الرعية خزائن واليها- فما أودعه فيها وجده- . و كان يقال صنفان متباغضان متنافيان- السلطان و الرعية و هما مع ذلك متلازمان- إن أصلح أحدهما صلح الآخر و إن فسد فسد الآخر- . و كان يقال- محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد- و محل الرعية منه محل الجسد من الروح- فالروح تألم بألم كل عضو من أعضاء البدن- و ليس كل واحد من الأعضاء يألم بألم غيره- و فساد الروح فساد جميع البدن- و قد يفسد بعض البدن و غيره من سائر البدن صحيح- .

و كان يقال ظلم الرعية استجلاب البلية- . و كان يقال العجب ممن استفسد رعيته- و هو يعلم أن عزه بطاعتهم- . و كان يقال موت الملك الجائر خصب شامل- . و كان يقال لا قحط أشد من جور السلطان- . و كان يقال قد تعامل الرعية المشمئزة بالرفق- فتزول أحقادها و يذل قيادها- و قد تعامل بالخرق فتكاشف بما غيبت- و تقدم على ما عيبت حتى يعود نفاقها شقاقا- و رذاذها سيلا بعاقا- ثم إن غلبت و قهرت فهو الدمار- و إن غلبت و قهرت لم يكن يغلبها افتخار- و لم يدرك بقهرها ثأر و كان يقال الرعية و إن كانت ثمارا مجتناه- و ذخائر مقتناه و سيوفا منتضاه- و أحراسا مرتضاه- فإن لها نفارا كنفار الوحوش- و طغيانا كطغيان السيول- و متى قدرت أن تقول قدرت على أن تصول- .

و كان يقال أيدي الرعية تبع ألسنتها- فلن يملك الملك ألسنتها حتى يملك جسومها- و لن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه- و لن تحبه حتى يعدل عليها في أحكامه عدلا- يتساوى فيه الخاصة و العامة- و حتى يخفف عنها المؤن و الكلف- و حتى يعفيها من رفع أوضاعها و أراذلها- عليها- و هذه الثالثة تحقد على الملك العلية من الرعية- و تطمع السفلة في الرتب السنية- .

و كان يقال الرعية ثلاثة أصناف- صنف فضلاء مرتاضون بحكم الرئاسة و السياسة- يعلمون فضيلة الملك و عظيم غنائه- و يرثون له من ثقل أعبائه- فهؤلاء يحصل الملك موداتهم بالبشر عند اللقاء- و يلقى أحاديثهم بحسن الإصغاء- و صنف فيهم خير و شر ظاهران- فصلاحهم يكتسب من معاملتهم بالترغيب و الترهيب- و صنف من السفلة الرعاع أتباع‏لكل داع- لا يمتحنون في أقوالهم و أعمالهم بنقد- و لا يرجعون في الموالاة إلى عقد- .

و كان يقال ترك المعاقبة للسفلة على صغار الجرائم- تدعوهم إلى ارتكاب الكبائر العظائم- أ لا ترى أول نشور المرأة كلمة سومحت بها- و أول حران الدابة حيدة سوعدت عليها- . و يقال إن عثمان قال يوما لجلسائه- و هو محصور في الفتنة- وددت أن رجلا صدوقا أخبرني عن نفسي و عن هؤلاء- فقام إليه فتى فقال إني أخبرك- تطأطأت لهم فركبوك- و ما جراهم على ظلمك إلا إفراط حلمك- قال صدقت فهل تعلم ما يشب نيران الفتن- قال نعم سألت عن ذلك شيخا من تنوخ كان باقعة- قد نقب في الأرض و علم علما جما- فقال الفتنة يثيرها أمران- أثرة تضغن على الملك الخاصة- و حلم يجزئ عليه العامة- قال فهل سألته عما يخمدها- قال نعم زعم أن الذي يخمدها في ابتدائها- استقالة العثرة و تعميم الخاصة بالأثرة- فإذا استحكمت الفتنة أخمدها الصبر- قال عثمان صدقت- و إني لصابر حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين- و يقال إن يزدجرد بن بهرام سأل حكيما- ما صلاح الملك قال الرفق بالرعية- و أخذ الحق منها بغير عنف- و التودد إليها بالعدل- و أمن السبل و إنصاف المظلوم- قال فما صلاح الملك قال وزراؤه إذا صلحوا صلح- قال فما الذي يثير الفتن قال ضغائن يظهرها جرأة عامه- و استخفاف خاصة و انبساط الألسن بضمائر القلوب- و إشفاق موسر و أمن معسر- و غفلة مرزوق و يقظة محروم- قال و ما يسكنها قال أخذ العدة لما يخاف- و إيثار الجد حين يلتذ الهزل- و العمل بالحزم و ادراع الصبر و الرضا بالقضاء- . و كان يقال خير الملوك من أشرب قلوب رعيته محبته- كما أشعرها هيبته- و لن ينال ذلك منها حتى تظفر منه بخمسه أشياء- إكرام شريفها و رحمة ضعيفها- و إغاثة لهيفهاو كف عدوان عدوها- و تأمين سبل رواحها و غدوها- فمتى أعدمها شيئا من ذلك- فقد أحقدها بقدر ما أفقدها- . و كان يقال الأسباب التي تجر الهلك إلى الملك ثلاثة- أحدها من جهة الملك- و هو أن تتأمر شهواته على عقله- فتستهويه نشوات الشهوات- فلا تسنح له لذة إلا اقتنصها- و لا راحة إلا افترصها- . و الثاني من جهة الوزراء- و هو تحاسدهم المقتضي تعارض الآراء- فلا يسبق أحدهم إلى حق- إلا كويد و عورض و عوند- . و الثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك و الدين- و توهين المعاندين و هو نكولهم عن الجلاد- و تضجيعهم في المناصحة و الجهاد- و هم صنفان صنف وسع الملك عليهم فأبطرهم الإتراف- و ضنوا بنفوسهم عن التعريض للإتلاف- و صنف قدر عليهم الأرزاق- فاضطغنوا الأحقاد و استشعروا النفاق

الآثار الواردة في العدل و الإنصاف

قوله ع أو أجحف الوالي برعيته- قد جاء من نظائره الكثير جدا- و قد ذكرنا فيما تقدم نكتا حسنة في مدح العدل و الإنصاف- و ذم الظلم و الإجحاف- وقال النبي ص زين الله السماء بثلاثة الشمس و القمر و الكواكب- و زين الأرض بثلاثة العلماء و المطر و السلطان العادل
– . و كان يقال إذا لم يعمر الملك ملكه بإنصاف الرعية- خرب ملكه بعصيان الرعية- . و قيل لأنوشروان أي الجنن أوقى- قال الدين قيل فأي العدد أقوى قال العدل- .

وقع جعفر بن يحيى إلى عامل من عماله- كثر شاكوك و قل حامدوك- فإما عدلت و إما اعتزلت- . وجد في خزانة بعض الأكاسرة سفط- ففتح فوجد فيه حب الرمان- كل حبة كالنواة الكبيرة من نوى المشمش- و في السفط رقعة فيها- هذا حب رمان عملنا في خراجه بالعدل- . جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلما- فقال يا أمير المؤمنين هذا مكان العائذ بك- قال له عذت بمعاذ ما شأنك- قال سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته- فجعل يعنفني بسوطه و يقول أنا ابن الأكرمين- و بلغ أباه ذلك فحبسني خشية أن أقدم عليك- فكتب إلى عمرو- إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت و ابنك- فلما قدم عمرو و ابنه دفع الدرة إلى المصري- و قال اضربه كما ضربك فجعل يضربه و عمر يقول- اضرب ابن الأمير اضرب ابن الأمير يرددها- حتى قال يا أمير المؤمنين قد استقدت منه- فقال و أشار إلى عمرو ضعها على صلعته- فقال المصري يا أمير المؤمنين إنما أضرب من ضربني- فقال إنما ضربك بقوة أبيه و سلطانه- فاضربه إن شئت فو الله لو فعلت لما منعك أحد منه- حتى تكون أنت الذي تتبرع بالكف عنه- ثم قال يا ابن العاص- متى تعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرار- .

خطب الإسكندر جنده- فقال لهم بالرومية كلاما تفسيره- يا عباد الله إنما إلهكم الله الذي في السماء- الذي نصرنا بعد حين- الذي يسقيكم الغيث عند الحاجة- و إليه مفزعكم عند الكرب- و الله لا يبلغني إن الله أحب شيئا إلا أحببته- و عملت به إلى يوم أجلي- و لا يبلغني أنه أبغض شيئا إلا أبغضته- و هجرته إلى يوم أجلي- و قد أنبئت أن الله يحب العدل في عباده- و يبغض الجور- فويل للظالم من سوطي و سيفي- و من ظهر منهالعدل من عمالي فليتكئ في مجلسي كيف شاء- و ليتمن على ما شاء- فلن تخطئه أمنيته و الله المجازي كلا بعمله- . قال رجل لسليمان بن عبد الملك و هو جالس للمظالم- يا أمير المؤمنين أ لم تسمع قول الله تعالى- فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ- قال ما خطبك قال وكيلك اغتصبني ضيعتي- و ضمها إلى ضيعتك الفلانية- قال فإن ضيعتي لك و ضيعتك مردودة إليك- ثم كتب إلى الوكيل بذلك و بصرفه عن عمله- .

و رقى إلى كسرى قباذ- أن في بطانة الملك قوما قد فسدت نياتهم- و خبثت ضمائرهم- لأن أحكام الملك جرت على بعضهم لبعضهم- فوقع في الجواب أنا أملك الأجساد لا النيات- و أحكم بالعدل لا بالهوى- و أفحص عن الأعمال لا عن السرائر- . و تظلم أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم- فقال ما علمت في عمالي أعدل و لا أقوم بأمر الرعية- و لا أعود بالرفق منه- فقال له منهم واحد- فلا أحد أولى منك يا أمير المؤمنين بالعدل و الإنصاف- و إذا كان بهذه الصفة- فمن عدل أمير المؤمنين أن يوليه بلدا بلدا- حتى يلحق أهل كل بلد من عدله- مثل ما لحقنا منه- و يأخذوا بقسطهم منه كما أخذ منه سواهم- و إذا فعل أمير المؤمنين ذلك- لم يصب الكوفة منه أكثر من ثلاث سنين- فضحك و عزله- . كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز- أما بعد فإن قبلنا قوما لا يؤدون الخراج- إلا أن يمسهم نصب من العذاب- فاكتب إلى أمير المؤمنين برأيك- فكتب أما بعد فالعجب لك كل العجب- تكتب إلي تستأذنني في عذاب البشر- كأن إذني لك جنة من عذاب الله- أو كان رضاي ينجيك من سخط الله- فمن أعطاك ما عليه عفوافخذ منه- و من أبى فاستحلفه و كله إلى الله- فلأن يلقوا الله بجرائمهم- أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم- .

فضيل بن عياض- ما ينبغي أن تتكلم بفيك كله- أ تدري من كان يتكلم بفيه كله- عمر بن الخطاب كان يعدل في رعيته و يجور على نفسه- و يطعمهم الطيب و يأكل الغليظ- و يكسوهم اللين و يلبس الخشن- و يعطيهم الحق و يزيدهم و يمنع ولده و أهله- أعطى رجلا عطاءه أربعة آلاف درهم ثم زاده ألفا- فقيل له أ لا تزيد ابنك عبد الله كما تزيد هذا- فقال إن هذا ثبت أبوه يوم أحد- و إن عبد الله فر أبوه و لم يثبت- . و كان يقال لا يكون العمران- إلا حيث يعدل السلطان- . و كان يقال العدل حصن وثيق في رأس نيق- لا يحطمه سيل و لا يهدمه منجنيق- . وقع المأمون إلى عامل كثر التظلم منه- أنصف من وليت أمرهم- و إلا أنصفهم منك من ولي أمرك- . بعض السلف العدل ميزان الله و الجور مكيال الشيطان

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 208 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

208 و من دعاء كان يدعو به ع كثيرا

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَ لَا سَقِيماً- وَ لَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ- وَ لَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِي وَ لَا مَقْطُوعاً دَابِرِي- وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي وَ لَا مُنْكِراً لِرَبِّي- وَ لَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَ لَا مُلْتَبِساً عَقْلِي- وَ لَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي- أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي- لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَ لَا حُجَّةَ لِي- وَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَيْتَنِي- وَ لَا أَتَّقِيَ إِلَّا مَا وَقَيْتَنِي- اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ- أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ- أَوْ أُضْطَهَدَ وَ الْأَمْرُ لَكَ- اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي- وَ أَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي- اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ- أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ- أَوْ تَتَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ‏

قوله كثيرا منصوب بأنه صفة مصدر محذوف- أي دعاء كثيرا- و ميتا منصوب على الحال- أي لم يفلق الصباح على ميتا- و لا يجوز أن تكون يصبح ناقصة- و يكون ميتا خبرها كما قال الراوندي- لأن خبر كان و أخواتها- يجب أن يكون هو الاسم- أ لا ترى أنهما مبتدأ و خبر في الأصل- و اسم يصبح ضمير الله تعالى- و ميتا ليس هو الله سبحانه- .

قوله و لا مضروبا على عروقي بسوء- أي و لا أبرص- و العرب تكني عن البرص بالسوء- و من أمثالهم ما أنكرك من سوء- أي ليس إنكاري لك عن برص- حدث بك فغير صورتك- . و أراد بعروقه أعضاءه- و يجوز أن يريد و لا مطعونا في نسبي- و التفسير الأول أظهر- . و لا مأخوذا بأسوإ عملي- أي و لا معاقبا بأفحش ذنوبي- . و لا مقطوعا دابري أي عقبي و نسلي- و الدابر في الأصل التابع لأنه يأتي دبرا- و يقال للهالك قد قطع الله دابره- كأنه يراد أنه عفا أثره و محا اسمه- قال سبحانه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ- . و لا مستوحشا أي و لا شاكا في الإيمان- لأن من شك في عقيدة استوحش منها- . و لا متلبسا عقلي أي و لا مختلطا عقلي- لبست عليهم الأمر بالفتح أي خلطته- و عذاب الأمم من قبل المسخ و الزلزلة و الظلمة و نحو ذلك- .

قوله لك الحجة علي و لا حجة لي- لأن الله سبحانه قد كلفه بعد تمكينه و إقداره- و إعلامه قبح القبيح و وجوب الواجب- و ترديد دواعيه إلى الفعل و تركه- و هذه حجة الله تعالى على عباده- و لا حجة للعباد عليه لأنه ما كلفهم إلا بما يطيقونه- و لا كان لهم لطف في أمر إلا و فعله- . قوله لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني- و لا أتقي إلا ما وقيتني- أي لا أستطيع أن أرزق نفسي أمرا- و لكنك الرزاق- و لا أدفع عن نفسي محذورا من المرض و الموت- إلا ما دفعته أنت عني- . و قال الشاعر-

لعمرك ما يدرى الفتى كيف
يتقي نوائب هذا الدهر أم كيف يحذر

يرى الشي‏ء مما يتقى فيخافه‏
و ما لا يرى مما يقي الله أكثر

و قال عبد الله بن سليمان بن وهب-

كفاية الله أجدى من توقينا
و عادة الله في الأعداء تكفينا

كاد الأعادي فما أبقوا و لا تركوا
عيبا و طعنا و تقبيحا و تهجينا

و لم نزد نحن في سر و
في علن على مقالتنا الله يكفينا

و كان ذاك و رد الله حاسدنا
بغيظه لم ينل مأموله فينا

قوله ع أن أفتقر في غناك- موضع الجار و المجرور نصب على الحال- و في متعلقة بمحذوف- و المعنى أن أفتقر و أنت الموصوف بالغنى- الفائض على الخلق- . و كذلك قوله أو أضل في هداك- معناه أو أضل و أنت ذو الهداية العامة للبشر كافة- و كذلك أو أضام في سلطانك- كما يقول المستغيث إلى السلطان كيف أظلم في عدلك- .

و كذلك قوله أو أضطهد و الأمر لك- أي و أنت الحاكم صاحب الأمر- و الطاء في أضطهد هي تاء الافتعال- و أصل الفعل ضهدت فلانا فهو مضهود أي قهرته- و فلان ضهده لكل أحد- أي كل من شاء أن يقهره فعل- . قوله اللهم اجعل نفسي- هذه الدعوة مثل دعوة رسول الله ص- و هيقوله اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا- و اجعله الوارث منا- أي لا تجعل موتنا متأخرا عن ذهاب حواسنا- وكان علي بن الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ علي سمعي و بصري إلى انتهاء أجلي- .

و فسروا قوله ع و اجعله الوارث منا- فقالوا الضمير في و اجعله يرجع إلى الإمتاع- . فإن قلت كيف يتقى الإمتاع بالسمع و البصر- بعد خروج الروح- . قلت هذا توسع في الكلام- و المراد لا تبلنا بالعمى و لا الصمم- فنكون أحياء في الصورة و لسنا بأحياء في المعنى- لأن من فقدهما لا خير له في الحياة- فحملته المبالغة على أن طلب بقاءهما بعد ذهاب النفس- إيذانا و إشعارا بحبه ألا يبلى بفقدهما- .

و نفتتن على ما لم يسم فاعله- نصاب بفتنة تضلنا عن الدين- و روي نفتتن بفتح حرف المضارعة على نفتعل- افتتن الرجل أي فتن- و لا يجوز أن يكون الافتتان متعديا كما ذكره الراوندي- و لكنه قرأ في الصحاح للجوهري- و الفتون الافتتان يتعدى و لا يتعدى- فظن أن ذلك للافتتان و ليس كما ظن- و إنما ذلك راجع إلى الفتون- . و التتابع التهافت في اللجاج و الشر- و لا يكون إلا في مثل ذلك- و روي أو تتابع بطرح إحدى التاءات

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 207 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

207 و من خطبة له ع

وَ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ وَ حَكَمٌ فَصَلَ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ سَيِّدُ عِبَادِهِ- كُلَّمَا نَسَخَ اللَّهُ الْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا- لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ وَ لَا ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ- أَلَا وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلًا- وَ لِلْحَقِّ دَعَائِمَ وَ لِلطَّاعَةِ- عِصَماً- وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَةٍ عَوْناً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- يَقُولُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَ يُثَبِّتُ بِهِ الْأَفْئِدَةَ- فِيهِ كِفَاءٌ لِمُكْتَفٍ وَ شِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ- يَصُونُونَ مَصُونَهُ وَ يُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ- يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلَايَةِ- وَ يَتَلَاقَوْنَ بِالْمَحَبَّةِ وَ يَتَسَاقَوْنَ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ- وَ يَصْدُرُونَ بِرِيَّةٍ لَا تَشُوبُهُمُ الرِّيبَةُ- وَ لَا تُسْرِعُ فِيهِمُ الْغِيبَةُ- عَلَى ذَلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَ أَخْلَاقَهُمْ- فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ وَ بِهِ يَتَوَاصَلُونَ- فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ يُنْتَقَى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَ يُلْقَى- قَدْ مَيَّزَهُ التَّخْلِيصُ وَ هَذَّبَهُ التَّمْحِيصُ- فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا- وَ لْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا- وَ لْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ وَ قَلِيلِ مُقَامِهِ فِي مَنْزِلٍ- حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلًا- فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ وَ مَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ- فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ- أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ وَ تَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ- وَ أَصَابَ سَبِيلَ السَّلَامَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ- وَ طَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ وَ بَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ-وَ تُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَ اسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ وَ أَمَاطَ الْحَوْبَةَ- فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ وَ هُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ الضمير في أنه يرجع إلى القضاء و القدر- المذكور في صدر هذه الخطبة- و لم يذكره الرضي رحمه الله- يقول أشهد أن قضاءه تعالى عدل عدل و حكم بالحق- فإنه حكم فصل بين العباد بالإنصاف- و نسب العدل و الفصل إلى القضاء على طريق المجاز- و هو بالحقيقة منسوب إلى ذي القضاء- و القاضي به هو الله تعالى- .

قوله و سيد عباده هذا كالمجمع عليه بين المسلمين- و إن كان قد خالف فيه شذوذ منهم- و احتج الجمهوربقوله أنا سيد ولد آدم و لا فخروبقوله ادعوا لي سيد العرب عليا- فقالت عائشة أ لست سيد العرب- فقال أنا سيد البشر و علي سيد العربوبقوله آدم و من دونه تحت لوائيو احتج المخالفبقوله ع لا تفضلوني على أخي يونس بن متى- .

و أجاب الأولون تارة بالطعن في إسناد الخبر- و تارة بأنه حكاية كلام حكاه ص- عن عيسى ابن مريم- و تارة بأن النهي إنما كان عن الغلو فيه- كما غلت الأمم في أنبيائها- فهو كما ينهى الطبيب المريض- فيقول لا تأكل من الخبز و لا درهما- و ليس مراده تحريم أكل الدرهم و الدرهمين- بل تحريم ما يستضر بأكله منه- . قوله ع- كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما- النسخ النقل و منه نسخ الكتاب- و منه نسخت الريح آثار القوم و نسخت الشمس الظل- يقول‏ كلما قسم الله تعالى الأب الواحد إلى ابنين- جعل خيرهما و أفضلهما لولادة محمد ع- و سمى ذلك نسخا لأن البطن الأول يزول- و يخلفه البطن الثاني- و منه مسائل المناسخات في الفرائض- .

و هذا المعنى قد ورد مرفوعا في عدة أحاديث نحوقوله ص ما افترقت فرقتان منذ نسل آدم ولده- إلا كنت في خيرهماو نحوقوله إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل- و اصطفى من ولد إسماعيل مضر- و اصطفى من مضر كنانة و اصطفى من كنانة قريشا- و اصطفى من قريش هاشما- و اصطفاني من بني هاشمقوله لم يسهم فيه عاهر و لا ضرب فيه فاجر- لم يسهم لم يضرب فيه عاهر بسهم أي بنصيب و جمعه سهمان- و العاهر ذو العهر بالتحريك و هو الفجور و الزناء- و يجوز تسكين الهاء مثل نهر و نهر- و هذا هو المصدر و الماضي عهر بالفتح- و الاسم العهر بكسر العين و سكون الهاء- و المرأة عاهرة و معاهرة و عيهرة- و تعيهر الرجل إذا زنى- و الفاجر كالعاهر هاهنا- و أصل الفجور الميل قال لبيد-فإن تتقدم تغش منها مقدما غليظا و إن أخرت فالكفل فاجريقول مقعد الرديف مائلذكر بعض المطاعن في النسب و كلام للجاحظ في ذلكو في الكلام رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن- كما يقال إن آل سعد بن أبي وقاص- ليسوا من بني زهرة بن كلاب- و إنهم من بني عذرة من قحطان-و كما قالوا إن آل الزبير بن العوام- من أرض مصر من القبط- و ليسوا من بني أسد بن عبد العزى- قال الهيثم بن عدي في كتاب مثالب العرب- إن خويلد بن أسد بن عبد العزى كان أتى مصر- ثم انصرف منها بالعوام فتبناه- فقال حسان بن ثابت يهجو آل العوام بن خويلد-

بني أسد ما بال آل خويلد
يحنون شوقا كل يوم إلى القبط

متى يذكروا قهقى يحنوا لذكرها
و للرمث المقرون و السمك الرقط

عيون كأمثال الزجاج وضيعة
تخالف كعبا في لحى كثة ثط

يرى ذاك في الشبان و الشيب منهم‏
مبينا و في الأطفال و الجلة الشمط

لعمر أبي العوام إن خويلدا
غداة تبناه ليوثق في الشرط

و كما يقال في قوم آخرين- نرفع هذا الكتاب عن ذكر ما يطعن به في أنسابهم- كي لا يظن بنا أنا نحب المقالة في الناس- . قال شيخنا أبو عثمان في كتاب مفاخرات قريش- لا خير في ذكر العيوب إلا من ضرورة- و لا نجد كتاب مثالب قط إلا لدعي أو شعوبي- و لست واجده لصحيح النسب و لا لقليل الحسد- و ربما كانت حكاية الفحش أفحش من الفحش- و نقل الكذب أقبح من الكذب- وقال النبي ص اعف عن ذي قبروقال لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات- و قيل في المثل يكفيك من شر سماعه- و قالوا أسمعك من أبلغك- و قالوا من طلب عيبا وجده- و قال النابغة-و لست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب‏- .

قال أبو عثمان- و بلغ عمر بن الخطاب أن أناسا من رواة الأشعار- و حملة الآثار يعيبون الناس- و يثلبونهم في أسلافهم- فقام على المنبر و قال إياكم و ذكر العيوب- و البحث عن الأصول- فلو قلت لا يخرج اليوم من هذا الأبواب- إلا من لا وصمة فيه- لم يخرج منكم أحد- فقام رجل من قريش نكره أن نذكره- فقال إذا كنت أنا و أنت يا أمير المؤمنين نخرج- فقال كذبت بل كان يقال لك يا قين بن قين اقعد- .

قلت الرجل الذي قام- هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي- كان عمر يبغضه لبغضه أباه خالدا- و لأن المهاجر كان علوي الرأي جدا- و كان أخوه عبد الرحمن بخلافه- شهد المهاجر صفين مع علي ع- و شهدها عبد الرحمن مع معاوية- و كان المهاجر مع علي ع في يوم الجمل- و فقئت ذلك اليوم عينه- و لأن الكلام الذي بلغ عمر بلغه عن المهاجر- و كان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش- و كونه يسمى ريحانة قريش و يسمى العدل- و يسمى الوحيد حداد يصنع الدروع و غيرها بيده- ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في كتاب المعارف- .

و روى أبو الحسن المدائني هذا الخبر- في كتاب أمهات الخلفاء- و قال إنه روى عند جعفر بن محمد ع بالمدينة- فقال لا تلمه يا ابن أخي- إنه أشفق أن يحدج بقضية نفيل بن عبد العزى و صهاك أمة الزبير بن عبد المطلب- ثم قال رحم الله عمر فإنه لم يعد السنة و تلا- إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا- لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- . أما قول ابن جرير الآملي الطبرستاني في كتاب المسترشد- إن عثمان والدأبي بكر الصديق- كان ناكحا أم الخير ابنة أخته فليس بصحيح- و لكنها ابنة عمه لأنها ابنة صخر بن عامر- و عثمان هو ابن عمرو بن عامر- و العجب لمن اتبعه من فضلاء الإمامية على هذه المقالة- من غير تحقيق لها من كتب الأنساب- و كيف تتصور هذه الواقعة في قريش- و لم يكن أحد منهم مجوسيا و لا يهوديا- و لا كان من مذهبهم حل نكاح بنات الأخ و لا بنات الأخت- .

ثم نعود لإتمام حكاية كلام شيخنا أبي عثمان- قال و متى يقدر الناس حفظك الله- على رجل مسلم من كل ابنة و مبرأ من كل آفة- في جميع آبائه و أمهاته و أسلافه و أصهاره- حتى تسلم له أخواله و أعمامه و خالاته و عماته- و أخواته و بناته و أمهات نسائه- و جميع من يناسبه من قبل جداته و أجداده- و أصهاره و أختانه- و لو كان ذلك موجودا- لما كان لنسب رسول الله ص فضيلة في النقاء و التهذيب- و في التصفية و التنقيح-قال رسول الله ص ما مسني عرق سفاح قط- و ما زلت أنقل من الأصلاب السليمة من الوصوم- و الأرحام البريئة من العيوبفلسنا نقضي لأحد بالنقاء من جميع الوجوه- إلا لنسب من صدقه القرآن و اختاره الله على جميع الأنام- و إلا فلا بد من شي‏ء يكون في نفس الرجل أو في طرفيه- أو في بعض أسلافه أو في بعض أصهاره- و لكنه يكون مغطى بالصلاح- و محجوبا بالفضائل و مغمورا بالمناقب- .

و لو تأملت أحوال الناس- لوجدت أكثرهم عيوبا أشدهم تعييبا- قال الزبرقان من بدر ما استب رجلان إلا غلب ألأمهما- و قال خصلتان كثيرتان في امرئ السوء-كثرة اللطام و شدة السباب- و لو كان ما يقوله أصحاب المثالب حقا- لما كان على ظهرها عربي- كما قال عبد الملك بن صالح الهاشمي- إن كان ما يقول بعض في بعض حقا فما فيهم صحيح- و إن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقا- فما فيهم مسلم- .

قوله ع ألا و إن الله قد جعل للخير أهلا- و للحق دعائم و للطاعة عصما- الدعائم ما يدعم بها البيت لئلا يسقط- و العصم جمع عصمة و هو ما يحفظ به الشي‏ء و يمنع- فأهل الخير هم المتقون- و دعائم الحق الأدلة الموصلة إليه المثبتة له في القلوب- و عصم الطاعة هي الإدمان على فعلها- و التمرن على الإتيان بها- لأن المرون على الفعل يكسب الفاعل ملكة- تقتضي سهولته عليه- و العون هاهنا هو اللطف المقرب من الطاعة- المبعد من القبيح- .

ثم قال ع- إنه يقول على الألسنة و يثبت الأفئدة- و هذا من باب التوسع و المجاز- لأنه لما كان مستهلا للقول- أطلق عليه إنه يقول على الألسنة- و لما كان الله تعالى هو الذي يثبت الأفئدة- كما قال يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ- نسب التثبيت إلى اللطف لأنه من فعل الله تعالى- كما ينسب الإنبات إلى المطر- و إنما المنبت للزرع هو الله تعالى و المطر فعله- . ثم قال ع فيه كفاء لمكتف و شفاء لمشتف- و الوجه فيه كفاية- فإن الهمز لا وجه له هاهنا لأنه من باب آخر- و لكنه أتى بالهمزة للازدواج بين كفاءو شفاء- كما قالوا الغدايا و العشايا- و كما قال ع مأزورات غير مأجورات- فأتى بالهمز و الوجه الواو للازدواج

ذكر بعض أحوال العارفين و الأولياء

ثم ذكر العارفين فقال- و اعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه- إلى قوله و هذبه التمحيص- . و اعلم أن الكلام في العرفان- لم يأخذه أهل الملة الإسلامية إلا عن هذا الرجل- و لعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات و أبعد النهايات- و العارفون هم القوم الذين اصطفاهم الله تعالى- و انتخبهم لنفسه و اختصهم بأنسه- أحبوه فأحبهم و قربوا منه فقرب منهم- قد تكلم أرباب هذا الشأن في المعرفة و العرفان- فكل نطق بما وقع له- و أشار إلى ما وجده في وقته- . و كان أبو علي الدقاق يقول- من أمارات المعرفة حصول الهيبة من الله- فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته- .

و كان يقول المعرفة توجب السكينة في القلب- كما أن العلم يوجب السكون- فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته- . و سئل الشبلي عن علامات العارف- فقال ليس لعارف علامة و لا لمحب سكون و لا لخائف قرار- . و سئل مرة أخرى عن المعرفة- فقال أولها الله و آخرها ما لا نهاية له- . و قال أبو حفص الحداد- منذ عرفت الله ما دخل قلبي حق و لا باطل- و قد أشكل هذا الكلام على أرباب هذا الشأن- و تأوله بعضهم فقال- عند القوم إن المعرفة توجب‏غيبة العبد عن نفسه- لاستيلاء ذكر الحق عليه- فلا يشهد غير الله و لا يرجع إلا إليه- و كما إن العاقل يرجع إلى قلبه- و تفكره و تذكره فيما يسنح له من أمر- أو يستقبله من حال- فالعارف رجوعه إلى ربه لا إلى قلبه- و كيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له- .

و سئل أبو يزيد البسطامي عن العرفان- فقال إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها- وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً- و هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص الحداد- . و قال أبو يزيد أيضا للخلق أحوال و لا حال للعارف- لأنه محيت رسومه و فنى هو- و صارت هويته هوية غيره- و غيبت آثاره في آثار غيره- . قلت و هذا هو القول بالاتحاد الذي يبحث فيه أهل النظر- . و قال الواسطي- لا تصح المعرفة و في العبد استغناء بالله- أو افتقار إليه- و فسر بعضهم هذا الكلام- فقال إن الافتقار و الاستغناء- من أمارات صحو العبد و بقاء رسومه- على ما كانت عليه- و العارف لا يصح ذلك عليه- لأنه لاستهلاكه في وجوده- أو لاستغراقه في شهوده- إن لم يبلغ درجة الاستهلاك في الوجود- مختطف عن إحساسه بالغنى و الفقر و غيرهما من الصفات- و لهذا قال الواسطي- من عرف الله انقطع و خرس و انقمع-قال ص لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك- .

و قال الحسين بن منصور الحلاج- علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا و الآخرة- . و قال سهل بن عبد الله التستري- غاية العرفان شيئان الدهش و الحيرة- . و قال ذو النون- أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه- . و قيل لأبي يزيد بما ذا وصلت إلى المعرفة- قال ببدن عار و بطن جائع- .

و قيل لأبي يعقوب السوسي- هل يتأسف العارف على شي‏ء غير الله- فقال و هل يرى شيئا غيره ليتأسف عليه- . و قال أبو يزيد العارف طيار و الزاهد سيار- . و قال الجنيد لا يكون العارف عارفا- حتى يكون كالأرض يطؤها البر و الفاجر- و كالسحاب يظل كل شي‏ء- و كالمطر يسقى ما ينبت و ما لا ينبت- . و قال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا- و لا يقضى وطره من شيئين- بكائه على نفسه و حبه لربه- . و كان ابن عطاء يقول- أركان المعرفة ثلاثة الهيبة و الحياء و الأنس و قال بعضهم العارف أنس بالله فأوحشه من خلقه- و افتقر إلى الله فأغناه عن خلقه- و ذل لله فأعزه في خلقه- . و قال بعضهم العارف فوق ما يقول- و العالم دون ما يقول- .

و قال أبو سليمان الداراني- إن الله يفتح للعارف على فراشه- ما لا يفتح للعابد و هو قائم يصلي- . و كان رويم يقول- رياء العارفين أفضل من إخلاص العابدين- . و سئل أبو تراب النخشبي عن العارف- فقال هو الذي لا يكدره شي‏ء- و يصفو به كل شي‏ء- . و قال بعضهم المعرفة أمواج ترفع و تحط- . و سئل يحيى بن معاذ عن العارف فقال الكائن البائن- . و قيل ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة- فكيف عند أبناء الدنيا- .

و قال محمد بن الفضل المعرفة حياة القلب مع الله- . و سئل أبو سعيد الخراز- هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء- قال‏نعم إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله- فإذا صاروا إلى حقائق القرب- و ذاقوا طعم الوصول زال عنهم ذلك- . و اعلم أن إطلاق أمير المؤمنين ع عليهم لفظة الولاية- في قوله يتواصلون بالولاية و يتلاقون بالمحبة- يستدعي الخوض في مقامين جليلين من مقامات العارفين- المقام الأول الولاية و هو مقام جليل- قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ- لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ- وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وجاء في الخبر الصحيح عن النبي ص يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد استحل محارمي- و ما تقرب إلي العبد بمثل أداء ما فرضت عليه- و لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه- و لا ترددت في شي‏ء أنا فاعله- كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن- يكره الموت و أكره مساءته و لا بد له منه- .

و اعلم أن الولي له معنيان- أحدهما فعيل بمعنى مفعول كقتيل و جريح- و هو من يتولى الله أمره كما قال الله تعالى- إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ- وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ- فلا يكله إلى نفسه لحظة عين بل يتولى رعايته- . و ثانيهما فعيل بمعنى فاعل كنذير و عليم- و هو الذي يتولى طاعة الله و عبادته فلا يعصيه- . و من شرط كون الولي وليا ألا يعصي مولاه و سيده- كما أن من شرط كون النبي‏نبيا العصمة- فمن ظن فيه أنه من الأولياء- و يصدر عنه ما للشرع فيه اعتراض- فليس بولي عند أصحاب هذا العلم بل هو مغرور مخادع- . و يقال إن أبا يزيد البسطامي قصد بعض من يوصف بالولاية- فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه- فخرج الرجل و تنخم في المسجد- فانصرف أبو يزيد و لم يسلم عليه- و قال هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة- كيف يكون أمينا على أسرار الحق- .

و قال إبراهيم بن أدهم لرجل- أ تحب أن تكون لله وليا قال نعم- قال لا ترغب في شي‏ء من الدنيا و لا من الآخرة- و فرغ نفسك لله- و أقبل بوجهك عليه ليقبل عليك و يواليك- . و قال يحيى بن معاذ في صفة الأولياء- هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة- و ادرعوا بالروح بعد المجاهدة- بوصولهم إلى مقام الولاية- . و كان أبو يزيد يقول أولياء الله عرائس الله- و لا يرى العرائس إلا المحارم- فهم مخدرون عنده في حجاب الأنس- لا يراهم أحد في الدنيا و لا في الآخرة- .

و قال أبو بكر الصيدلاني- كنت أصلح لقبر أبي بكر الطمستاني لوحا أنقر فيه اسمه- فيسرق ذلك اللوح- فأنقر له لوحا آخر و أنصبه على قبره فيسرق- و تكرر ذلك كثيرا دون غيره من ألواح القبور- فكنت أتعجب منه فسألت أبا علي الدقاق عن ذلك- فقال إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا- و أنت تريد أن تشهره باللوح الذي تنصبه على قبره- فالله سبحانه يأبى إلا إخفاء قبره كما هو ستر نفسه- . و قال بعضهم- إنما سمي الولي وليا لأنه توالت أفعاله على الموافقة- .

و قال يحيى بن معاذ الولي لا يرائي و لا ينافق- و ما أقل صديق من يكون هذا خلقه- . المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه- مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ- فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ- و المحبة عند أرباب هذا الشأن حالة شريفة- . قال أبو يزيد البسطامي- المحبة استقلال الكثير من نفسك- و استكثار القليل من حبيبك- . و قال أبو عبد الله القرشي- المحبة أن تهب كلك لمن أحببت- فلا يبقى لك منك شي‏ء- و أكثرهم على نفي صفة العشق- لأن العشق مجاوزة الحد في المحبة- و البارئ سبحانه أجل من أن يوصف- بأنه قد تجاوز أحد الحد في محبته- .

سئل الشبلي عن المحبة- فقال هي أن تغار على المحبوب- أن يحبه أحد غيرك- . و قال سمنون ذهب المحبون بشرف الدنيا و الآخرة-لأن النبي ص قال المرء مع من أحب- فهم مع الله تعالى- . و قال يحيى بن معاذ- حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء و لا يزيد بالبر- . و قال ليس بصادق من ادعى محبته و لم يحفظ حدوده- . و قال الجنيد إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب- . و أنشد في معناه-إذا صفت المودة بين قوم و دام ودادهم سمج الثناءو كان أبو علي الدقاق يقول- أ لست ترى الأب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب- و الناس يتكلفون في مخاطبته- و الأب يقول له يا فلان باسمه- .

و قال أبو يعقوب السوسي- حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله- و ينسى حوائجه إليه- . قيل للنصرآباذي يقولون إنه ليس لك من المحبة شي‏ء- قال صدقوا و لكن لي حسراتهم فهو ذو احتراق فيه- . و قال النصرآباذي أيضا- المحبة مجانبة السلو على كل حال ثم أنشد-

و من كان في طول الهوى ذاق
سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق‏

و أكثر شي‏ء نلته في وصالها
أماني لم تصدق كلمحة بارق‏

و كان يقال الحب أوله خبل و آخره قتل- . و قال أبو علي الدقاق في معنىقول النبي ص حبك الشي‏ء يعمي و يصم- قال يعمي و يصم عن الغير إعراضا- و عن المحبوب هيبة ثم أنشد-

إذا ما بدا لي تعاظمته
فأصدر في حال من لم يره‏

 و قال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول- المحبة إقبالك على المحبوب بكليتك- ثم إيثارك له على نفسك و مالك و ولدك- ثم موافقتك له في جميع الأمور سرا و جهرا- ثم اعتقادك بعد ذلك أنك مقصر في محبته- . و قال الجنيد سمعت السري يقول- لا تصلح المحبة بين اثنين- حتى يقول الواحد للآخر يا أنا- . و قال الشبلي المحب إذا سكت هلك- و العارف إذا لم يسكت هلك- . و قيل المحبة نار في القلب تحرق ما سوى ود المحبوب- . و قيل المحبة بذل الجهد و الحبيب يفعل ما يشاء- . و قال الثوري المحبة هتك الأستار و كشف الأسرار- .

حبس الشبلي في المارستان بين المجانين- فدخل عليه جماعة فقال من أنتم- قالوا محبوك أيها الشيخ- فأقبل يرميهم بالحجارة ففروا- فقال إذا ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي- . كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد البسطامي- قد سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته- فكتب إليه أبو يزيد- غيرك شرب بحور السموات و الأرض و ما روي بعد- و لسانه خارج و يقول هل من مزيد- . و من شعرهم في هذا المعنى-عجبت لمن يقول ذكرت ربي و هل أنسى فأذكر ما نسيت‏

شربت الحب كأسا بعد كأس‏
فما نفد الشراب و لا رويت‏

ويقال إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبياء- إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا و الآخرة- ملأته من حبيوقال أبو علي الدقاق إن في بعض الكتب المنزلة عبدي أنا و حقك لك محب- فبحقي عليك كن لي محبا- . و قال عبد الله بن المبارك- من أعطي قسطا من المحبة- و لم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع- . و قيل المحبة ما تمحو أثرك و تسلبك عن وجودك- . و قيل المحبة سكر لا يصحوا صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه- ثم إن السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف- و أنشد

فأكسر القوم دور كأس
و كان سكرى من المدير

و كان أبو علي الدقاق ينشد كثيرا-

لي سكرتان و للندمان واحدة شي‏ء
خصصت به من بينهم وحدي‏

و كان يحيى بن معاذ يقول- مثقال خردلة من الحب- أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب- . و قال بعضهم من أراد أن يكون محبا- فليكن كما حكي عن بعض الهند- أنه أحب جارية فرحلت عن ذلك البلد- فخرج الفتى في وداعها فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى- فغمض التي لم تدمع أربعا و ثمانين سنة و لم يفتحها- عقوبة لأنها لم تبك على فراق حبيبته- . و أنشدوا في هذا المعنى-

بكت عيني غداة البين دمعا
و أخرى بالبكاء بخلت علينا

فعاقبت التي بخلت علينا
بأن غمضتها يوم التقيا

وقيل إن الله تعالى أوحى إلى داود ع- إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي و حب غيري- . و قيل المحبة إيثار المحبوب على النفس- كامرأة العزيز لما أفرط بها الحب قالت- أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ- و في الابتداء قالت- ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ- فوركت الذنب في الابتداء عليه- و نادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة و قال أبو سعيد الخراز رأيت النبي ص في المنام- فقلت يا رسول الله اعذرني- فإن محبة الله شغلتني عن حبك- فقال يا مبارك من أحب الله فقد أحبني- .

ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل- قوله ع يصونون مصونه- أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه ما يجب أن يكتم- و يفجرون عيونه يظهرون منه ما ينبغي إظهاره- و ذلك أنه ليس ينبغي إظهار كل ما استودع- العارف من الأسرار- و أهل هذا الفن يزعمون- أن قوما منهم عجزوا عن أن يحملوا بما حملوه- فباحوا به فهلكوا منهم الحسين بن منصور الحلاج- و لأبي الفتوح الجارودي المتأخر- أتباع يعتقدون فيه مثل ذلك- .

و الولاية بفتح الواو المحبة و النصرة- و معنى يتواصلون بالولاية يتواصلون و هم أولياء- و مثله و يتلاقون بالمحبة- كما تقول خرجت بسلاحي أي خرجت و أنا متسلح- فيكون موضع الجار و المجرور نصبا بالحال- أو يكون المعنى أدق و ألطف من هذا- و هو أن يتواصلوا بالولاية أي بالقلوب لا بالأجسام- كما تقول أنا أراك بقلبي- و أزورك بخاطري و أواصلك بضميري- . قوله و يتساقون بكأس روية- أي بكأس المعرفة و الأنس بالله- يأخذ بعضهم عن بعض العلوم و الأسرار- فكأنهم شرب يتساقون بكأس من الخمر- .

قال و يصدرون برية- يقال من أين ريتكم مفتوحة الراء- أي من أين ترتوون الماء- . قال لا تشوبهم الريبة أي لا تخالطهم الظنة و التهمة- و لا تسرع فيهم الغيبة- لأن أسرارهم مشغولة بالحق عن الخلق- . قال على ذلك عقد خلقهم و أخلاقهم- الضمير في عقد يرجع إلى الله تعالى- أي على هذه الصفات و الطبائع عقد الخالق تعالى- خلقتهم و خلقهم أي هم متهيئون لما صاروا إليه-كما قال ع إذا أرادك لأمر هيأك لهو
قال ع كل ميسر لما خلق له- . قال فعليه يتحابون و به يتواصلون- أي ليس حبهم بعضهم بعضا إلا في الله- و ليست مواصلتهم بعضهم بعضا إلا لله- لا للهوى و لا لغرض من أغراض الدنيا- أنشد منشد عند عمر قول طرفة-

فلو لا ثلاث هن من عيشة الفتى
و جدك لم أحفل متى قام عودي‏

فمنهن سبقي العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد

و كري إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا نبهته المتورد

و تقصير يوم الدجن و الدجن معجب‏
ببهكنة تحت الطراف المعمد

فقال عمر و أنا لو لا ثلاث هن من عيشة الفتى- لم أحفل متى قام عودي- حبي في الله و بغضي في الله و جهادي في سبيل الله- . قوله ع فكانوا كتفاضل البذر- أي مثلهم مثل الحب الذي ينتفي للبذر- يستصلح بعضه و يسقط بعضه- . قد ميزه التخليص قد فرق الانتقاء بين جيدة و رديئة- و هذبه التمحيصقال النبي ص إن المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب- أي كما تخلص النار الذهب مما يشوبه- . ثم أمر ع المكلفين بقبول كرامة الله و نصحه- و وعظه و تذكيره و بالحذرمن نزول القارعة بهم- و هي هاهنا الموت- و سميت الداهية قارعة لأنها تقرع أي تصيب بشدة- .

قوله فليصنع لمتحوله- أي فليعد ما يجب إعداده للموضع الذي يتحول إليه- تقول اصنع لنفسك أي اعمل لها- . قوله و معارف منتقله- معارف الدار ما يعرفها المتوسم بها واحدها معرف- مثل معاهد الدار و معالم الدار- و منه معارف المرأة و هو ما يظهر منها كالوجه و اليدين- و المنتقل بالفتح موضع الانتقال- . قوله فطوبى هي فعلى من الطيب- قلبوا الياء واوا للضمة قبلها- و يقال طوبى لك و طوباك بالإضافة- . و قول العامة طوبيك بالياء غير جائز- . قوله لذي قلب سليم- هو من ألفاظ الكتاب العزيز- أي سليم من الغل و الشك- .

قوله أطاع من يهديه- أي قبل مشورة الناصح الآمر له بالمعروف- و الناهي له عن المنكر- . و تجنب من يرديه- أي يهلكه بإغوائه و تحسين القبيح له- . و الباء في قوله ببصر من بصره متعلقة بأصاب- . قوله قبل أن تغلق أبوابه- أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته- . و الحوبة الإثم و إماطته إزالته- و يجوز أمطت الأذى عنه- و مطت الأذى عنه أي نحيته- و منع الأصمعي منه إلا بالهمزة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 206 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

206 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ- الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ- الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرِينَ- وَ الْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ- الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ وَ لَا ازْدِيَادٍ- وَ لَا عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ- الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ وَ لَا ضَمِيرٍ- الَّذِي لَا تَغْشَاهُ الظُّلَمُ وَ لَا يَسْتَضِي‏ءُ بِالْأَنْوَارِ- وَ لَا يَرْهَقُهُ لَيْلٌ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ- لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالْإِبْصَارِ وَ لَا عِلْمُهُ بِالْإِخْبَارِ يجوز شبه و شبه و الرواية هاهنا بالفتح- و تعاليه سبحانه عن شبه المخلوقين- كونه قديما واجب الوجود- و كل مخلوق محدث ممكن الوجود- .

قوله الغالب لمقال الواصفين- أي إن كنه جلاله و عظمته لا يستطيع الواصفون وصفه- و إن أطنبوا و أسهبوا- فهو كالغالب لأقوالهم لعجزها عن إيضاحه و بلوغ منتهاه- و الظاهر بأفعاله و الباطن بذاته- لأنه إنما يعلم منه أفعاله و أما ذاته فغير معلومة- . ثم وصف علمه تعالى فقال- إنه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا علومه- بالاستدلال و النظر- و لا هو علم يزداد إلى علومه الأولى- كما تزيد علوم الواحد منا و معارفه- و تكثر لكثرة الطرق التي يتطرق بها إليها- .

ثم قال و لا علم مستفاد- أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث مجدد- كما يذهب إليه جهم و أتباعه- و هشام بن الحكم و من قال بقوله- . ثم ذكر أنه تعالى قدر الأمور كلها بغير روية- أي بغير فكر و لا ضمير- و هو ما يطويه الإنسان من الرأي و الاعتقاد- و العزم في قلبه- . ثم وصفه تعالى بأنه لا يغشاه ظلام- لأنه ليس بجسم و لا يستضي‏ء بالأنوار- كالأجسام ذوات البصر- و لا يرهقه ليل أي لا يغشاه- و لا يجري عليه نهار لأنه ليس بزماني- و لا قابل للحركة- ليس إدراكه بالأبصار لأن ذلك يستدعي المقابلة- و لا علمه بالإخبار مصدر أخبر أي ليس علمه مقصورا- على أن تخبره الملائكة بأحوال المكلفين- بل هو يعلم كل شي‏ء- لأن ذاته ذات واجب- لها أن تعلم كل شي‏ء لمجرد ذاتها المخصوصة- من غير زيادة أمر على ذاتها: مِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص- أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ وَ قَدَّمَهُ فِي الِاصْطِفَاءِ- فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ وَ سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ- وَ ذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ وَ سَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ- حَتَّى سَرَّحَ الضَّلَالَ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ أرسله بالضياء أي بالحق- و سمى الحق ضياء لأنه يهتدى به- أو أرسله بالضياء أي بالقرآن- .

و قدمه في الاصطفاء- أي قدمه في الاصطفاء على غيره من العرب و العجم- قالت قريش لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ- أي على رجل من رجلين من القريتين عَظِيمٌ- أي إما على الوليد بن المغيرة من مكة- أو على عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. ثم قال تعالى أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ- أي هو سبحانه العالم بالمصلحة في إرسال الرسل- و تقديم من يرى في الاصطفاء على غيره- . فرتق به المفاتق أي أصلح به المفاسد- و الرتق ضد الفتق- و المفاتق جمع مفتق و هو مصدر كالمضرب و المقتل- .

و ساور به المغالب ساورت زيدا أي واثبته- و رجل سوار أي وثاب و سورة الخمر وثوبها في الرأس- . و الحزونة ضد السهولة- و الحزن ما غلظ من الأرض- و السهل ما لان منها- و استعير لغير الأرض كالأخلاق و نحوها- . قوله حتى سرح الضلال- أي طرده و أسرع به ذهابا- . عن يمين و شمال- من قولهم ناقة سرح و منسرحة أي سريعة- و منه تسريح المرأة أي تطليقها

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

 

خطبه 205 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

205 و من خطبة له ع

اللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ- سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَيْرَ الْجَائِرَةِ- وَ الْمُصْلِحَةَ فِي الدِّينِ وَ الدُّنْيَا غَيْرَ الْمُفْسِدَةِ- فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ- وَ الْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ- فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً- وَ نَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَ سمَاوَاتِكَ- ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهُ الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ- وَ الآْخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ ما في أيما زائدة مؤكدة- و معنى الفصل وعيد من استنصره فقعد عن نصره- . و وصف المقالة بأنها عادلة إما تأكيد- كما قالوا شعر شاعر و إما ذات عدل- كما قالوا رجل تأمر و لابن أي ذو تمر و لبن- و يجوز أيضا أن يريد بالعادلة المستقيمة- التي ليست كاذبة و لا محرفة عن جهتها- و الجائرة نقيضها و هي المنحرفة- جار فلان عن الطريق أي انحرف و عدل- .

و النكوص التأخر- . قوله ع نستشهدك عليه أي نسألك أن تشهد عليه- و وصفه تعالى‏بأنه أكبر الشاهدين شهادة- لقوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ- يقول اللهم إنا نستشهدك على خذلان من استنصرناه- و استنفرناه إلى نصرتك- و الجهاد عن دينك فأبى النهوض- و نكث عن القيام بواجب الجهاد- و نستشهد عبادك من البشر في أرضك- و عبادك من الملائكة في سمواتك عليه أيضا- ثم أنت بعد ذلك المغني لنا عن نصرته و نهضته- بما تتيحه لنا من النصر- و تؤيدنا به من الإعزاز و القوة- و الأخذ له بذنبه في القعود و التخلف- . و هذا قريب من قوله تعالى- وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ- ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 204 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

204 و من خطبة له ع

وَ كَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ- وَ بَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ- أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ- الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً- ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً- فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ- وَ قَامَتْ عَلَى حَدِّهِ يَحْمِلُهَا الْأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ- وَ الْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ- قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ- وَ وَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ- وَ جَبَلَ جَلَامِيدَهَا وَ نُشُوزَ مُتُونِهَا وَ أَطْوَادَهَا- فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا- وَ أَلْزَمَهَا قَرَارَتَهَا- فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ- وَ رَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ- فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا- وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا- فَأَشْهَقَ قِلَالَهَا وَ أَطَالَ أَنْشَازَهَا- وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً وَ أَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً- فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا- فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا- وَ أَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا- فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً- وَ بَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً- فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لَا يَجْرِي وَ قَائِمٍ لَا يَسْرِي- تُكَرْكِرُهُ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ- وَ تَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ- إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى‏

أراد أن يقول و كان من اقتداره- فقال و كان من اقتدار جبروته تعظيما و تفخيما- كما يقال للملك أمرت الحضرة الشريفة بكذا- و البحر الزاخر الذي قد امتد جدا و ارتفع- و المتراكم المجتمع بعضه على بعض- و المتقاصف الشديد الصوت- قصف الرعد و غيره قصيفا- . و اليبس بالتحريك- المكان يكون رطبا ثم ييبس- و منه قوله تعالى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً- و اليبس بالسكون اليابس خلقة حطب يبس- هكذا يقوله أهل اللغة و فيه كلام- لأن الحطب ليس يابسا خلقة بل كان رطبا من قبل- فالأصوب أن يقال- لا تكون هذه اللفظة محركة إلا في المكان خاصة- و فطر خلق و المضارع يفطر بالضم فطرا- .

و الأطباق جمع طبق- و هو أجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس- أو غير ذلك من حيوان أو جماد- يقول خلق منه أجساما مجتمعة مرتتقة- ثم فتقها سبع سموات- و روي ثم فطر منه طباقا- أي أجساما منفصلة في الحقيقة- متصلة في الصورة بعضها فوق بعض- و هي من ألفاظ القرآن المجيد- و الضمير في منه يرجع إلى ماء البحر في أظهر النظر- و قد يمكن أن يرجع إلى اليبس- .

و اعلم أنه قد تكرر في كلام أمير المؤمنين- ما يماثل هذا القول و يناسبه- و هو مذهب‏كثير من الحكماء الذين قالوا بحدوث السماء- منهم ثاليس الملطي قالوا أصل الأجسام الماء- و خلقت الأرض من زبده و السماء من بخاره- و قد جاء القرآن العزيز بنحو هذا قال سبحانه- الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ- وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ- . قال شيخنا أبو علي و أبو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما- هذه الآية دالة على أن الماء و العرش- كانا قبل خلق السموات و الأرض- قالا و كان الماء على الهواء- قالا و هذا يدل أيضا علي أن الملائكة- كانوا موجودين قبل خلق السموات و الأرض- لأن الحكيم سبحانه لا يجوز أن يقدم خلق الجماد- على خلق المكلفين لأنه يكون عبثا- .

و قال علي بن عيسى الرماني من مشايخنا- أنه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل الحيوان- إذا علم أن في إخبار المكلفين بذلك لطفا لهم- و لا يصح أن يخبرهم إلا و هو صادق فيما أخبر به- و إنما يكون صادقا إذا كان المخبر خبره على ما أخبر عنه- و في ذلك حسن تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان- و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه كان يذهب- إلى أن الأرض موضوعة على ماء البحر- و أن البحر حامل لها بقدرة الله تعالى- و هو معنى قوله يحملها الأخضر المثعنجر و القمقام المسخر- و أن البحر الحامل لها قد كان جاريا فوقف تحتها- و أنه تعالى خلق الجبال في الأرض- فجعل أصولها راسخة في ماء البحر- الحامل للأرض و أعاليها شامخة في الهواء- و أنه سبحانه جعل هذه الجبال عمادا للأرض- و أوتادا تمنعها من الحركة و الاضطراب- و لولاها لماجت و اضطربت- و أن هذا البحر الحامل للأرض- تصعد فيه الرياح الشديدة فتحركه حركة عنيفة- و تموج السحب التي تغترف الماء منه لتمطر الأرض به- و هذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز- و السنة النبوية و النظر الحكمي- أ لا ترى إلى قوله تعالى- أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ-كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- و هذا هو صريح قوله ع- ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها- و إلى قوله تعالى- وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ- و إلى ما ورد في الخبر- من أن الأرض مدحوة على الماء- و أن الرياح تسوق السحب إلى الماء نازلة- ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها ثم تمطر- .

و أما النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل- و حمله على المحمل العقلي- و ذلك لأن الأرض هي آخر طبقات العناصر- و قبلها عنصر الماء و هو محيط بالأرض كلها- إلا ما برز منها و هو مقدار الربع من كرة الأرض- على ما ذكره علماء هذا الفن و برهنوا عليه- فهذا تفسير قوله ع يحملها الأخضر المثعنجر- .

و أما قوله و وقف الجاري منه لخشيته- فلا يدل دلالة قاطعة على أنه كان جاريا و وقف- و لكن ذلك كلام خرج مخرج التعظيم و التبجيل- و معناه أن الماء طبعه الجريان و السيلان- فهو جار بالقوة و إن لم يكن جاريا بالفعل- و إنما وقف و لم يجر بالفعل بقدرة الله تعالى- المانعة له من السيلان- و ليس قوله و رست أصولها في الماء- مما ينافي النظر العقلي- لأنه لم يقل و رست أصولها في ماء البحر- و لكنه قال في الماء- و لا شبهة في أن أصول الجبال راسية في الماء- المتخلخل بين أجزاء الأرض- فإن الأرض كلها يتخلخل الماء بين أجزائها- على طريق استحالة البخار من الصورة الهوائية- إلى الصورة المائية- .

و ليس ذكره للجبال- و كونها مانعة للأرض من الحركة- بمناف أيضا للنظر الحكمي- لأن الجبال في الحقيقة قد تمنع من الزلزلة- إذا وجدت أسبابها الفاعلة- فيكون ثقلها مانعا من الهدة و الرجفة- .

ليس قوله تكركره الرياح- منافيا للنظر الحكمي أيضا- لأن كرة الهواء محيطة بكرة- و قد تعصف الرياح في كرة الهواء- للأسباب المذكورة في موضعها من هذا العلم- فيتموج كثير من الكرة المائية لعصف الرياح- . و ليس قوله ع و تمخضه الغمام الذوارف- صريحا في أن السحب تنزل في البحر فتغترف منه- كما قد يعتقد في المشهور العامي نحو قول الشاعر-كالبحر تمطره السحاب و ما لها فضل عليه لأنها من مائه‏- .

بل يجوز أن تكون الغمام الذراف تمخضه- و تحركه بما ترسل عليه من الأمطار السائلة منها- فقد ثبت أن كلام أمير المؤمنين ع موجه- إن شئت فسرته بما يقوله أهل الظاهر- و إن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء- . فإن قلت فكيف قال الله تعالى- أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ- كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- و هل كان الذين كفروا راءين لذلك- حتى يقول لهم أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا- . قلت هذا في قوله- اعلموا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما- كما يقول الإنسان لصاحبه- أ لم تعلم أن الأمير صرف حاجبه الليلة عن بابه- أي اعلم ذلك إن كنت غير عالم- و الرؤية هنا بمعنى العلم- .

و اعلم أنه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء- و يقال أنه مذهب سقراط- إلى تفسير القيامة و جهنم- بما يبتني على وضع الأرض على الماء- فقالوا الأرض موضوعة على الماء- و الماء على الهواء و الهواء على النار- و النار في حشو الأفلاك- و لما كان العنصران الخفيفان و هما الهواء و النار- يقتضيان صعود ما يحيطان به- و العنصران الثقيلان اللذان في وسطهما و هماالماء و الأرض- يقتضيان النزول و الهبوط- وقعت الممانعة و المدافعة- فلزم من ذلك وقوف الماء و الأرض في الوسط- .

قالوا- ثم إن النار لا تزال يتزايد تأثيرها في إسخان الماء- و ينضاف إلى ذلك حر الشمس و الكواكب- إلى أن تبلغ البحار و العنصر المائي غايتهما- في الغليان و الفوران- فيتصاعد بخار عظيم إلى الأفلاك شديد السخونة- و ينضاف إلى ذلك حر فلك الأثير الملاصق للأفلاك- فتذوب الأفلاك كما يذوب الرصاص- و تتهافت و تتساقط و تصير كالمهل الشديد الحرارة- و نفوس البشر على قسمين- أحدهما ما تجوهر و صار مجردا بطريق العلوم و المعارف- و قطع العلائق الجسمانية حيث كان مدبرا للبدن- و الآخر ما بقي على جسمانيته- بطريق خلوه من العلوم و المعارف- و انغماسه في اللذات و الشهوات الجسمانية- فأما الأول فإنه يلتحق بالنفس الكلية المجردة- و يخلص من دائرة هذا العالم بالكلية- و أما الثاني فإنه تنصب عليه تلك الأجسام الفلكية الذائبة- فيحترق بالكلية و يتعذب و يلقي آلاما شديدة- .

قالوا هذا هو باطن ما وردت به الرواية- من العذاب عليها- و خراب العالم و الأفلاك و انهدامها- . ثم نعود إلى شرح الألفاظ- قوله ع فاستمسكت أي وقفت و ثبتت- . و الهاء في حده تعود إلى أمره- أي قامت على حد ما أمرت به- أي لم تتجاوزه و لا تعدته- . و الأخضر البحر- و يسمى أيضا خضارة معرفة غير مصروف- و العرب تسميه بذلك- إما لأنه يصف لون السماء فيرى أخضر- أو لأنه يرى أسود لصفائه فيطلقون عليه لفظالأخضر- كما سموا الأخضر أسود نحو قوله مُدْهامَّتانِ- و نحو تسميتهم قرى العراق سوادا- لخضرتها و كثرة شجرها- و نحو قولهم للديزج من الدواب أخضر- . المثعنجر السائل- ثعجرت الدم و غيره فاثعنجر أي صببته فانصب- و تصغير المثعنجر مثيعج و مثيعيج- . و القمقام بالفتح من أسماء البحر- و يقال لمن وقع في أمر عظيم- وقع في قمقام من الأمر تشبيها بالبحر- . قوله ع و جبل جلاميدها- أي و خلق صخورها جمع جلمود- .

و النشوز جمع نشز- و هو المرتفع من الأرض و يجوز فتح الشين- . و متونها جوانبها و أطوادها جبالها- و يروى و أطوادها بالجر عطفا على متونها- . فأرساها في مراسيها أثبتها في مواضعها- رسا الشي‏ء يرسو ثبت- و رست أقدامهم في الحرب ثبتت- و رست السفينة ترسو رسوا و رسوا- أي وقفت في البحر- و قوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها- بالضم من أجريت و أرسيت- و من قرأ بالفتح فهو من رست هي و جرت هي- . و ألزمها قرارتها أمسكها حيث استقرت- . قوله فأنهد جبالها أي أعلاها- نهد ثدي الجارية ينهد بالضم- إذا أشرف و كعب فهي ناهد و ناهدة- .

و سهولها ما تطامن منها عن الجبال- . و أساخ قواعدها- أي غيب قواعد الجبال في جوانب أقطار الأرض- ساخت قوائم‏الفرس في الأرض تسوخ و تسيخ- أي دخلت فيها و غابت مثل ثاخت- و أسختها أنا مثل أثختها و الأنصاب الأجسام المنصوبة- الواحد نصب بضم النون و الصاد- و منه سميت الأصنام نصبا في قوله تعالى- وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ- لأنها نصبت فعبدت من دون الله- قال الأعشى-و ذا المنصوب لا تنسكنه لعاقبة و الله ربك فاعبدا- .

أي و أساخ قواعد الجبال في متون أقطار الأرض- و في المواضع الصالحة لأن تكون فيها الأنصاب المماثلة- و هي الجبال أنفسها- – . قوله فأشهق قلالها- جمع قلة و هي ما علا من رأس الجبل- أشهقها جعلها شاهقة أي عالية- . و أرزها أثبتها فيها رزت الجرادة ترز رزا- و هو أن تدخل ذنبها في الأرض فتلقى بيضها- و أرزها الله أثبت ذلك منها في الأرض- و يجوز أرزت لازما غير متعد- مثل رزت و ارتز السهم في القرطاس ثبت فيه- و روي و آرزها بالمد من قولهم شجرة آرزة- أي ثابتة في الأرض- أرزت بالفتح تأرز بالكسر أي ثبتت- و آرزها بالمد غيرها أي أثبتها- . و تميد تتحرك و تسيخ تنزل و تهوي- .

فإن قلت ما الفرق بين الثلاثة تميد بأهلها- أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها- . قلت لأنها لو تحركت لكانت- إما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها-و الأول هو المراد بقوله تميد بأهلها- و الثاني تنقسم إلى أن تنزل إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت- فالنزول إلى تحت هو المراد بقوله أو تسيخ بحملها- و القسم الثاني هو المراد بقوله أو تزول عن مواضعها- . فإن قلت ما المراد ب على في قوله- فسكنت على حركتها- . قلت هي لهيئة الحال- كما تقول عفوت عنه على سوء أدبه- و دخلت إليه على شربه أي سكنت- على أن من شأنها الحركة لأنها محمولة على سائل متموج- . قوله موجان مياهها بناء فعلان- لما فيه اضطراب و حركة كالغليان و النزوان و الخفقان و نحو ذلك- . و أجمدها أي أجعلها جامدة- و أكنافها جوانبها و المهاد الفراش- .

فوق بحر لجي كثير الماء منسوب إلى اللجة- و هي معظم البحر- . قوله يكركره الرياح- الكركرة تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق- و أصله يكرر من التكرير فأعادوا الكاف- كركرت الفارس عني أي دفعته و رددته- . و الرياح العواصف الشديدة الهبوب- و تمخضه يجوز فتح الخاء و ضمها و كسرها- و الفتح أفصح لمكان حرف الحلق- من مخضت اللبن إذا حركته لتأخذ زبده- . و الغمام جمع و الواحدة غمامة- و لذلك قال الذوارف- لأن فواعل أكثر ما يكون لجمع المؤنث- ذرفت عينه أي دمعت أي السحب المواطر- و المضارع من ذرفت عينه تذرف بالكسر ذرفا و ذرفا- و المذارف المدامع

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج11

خطبه 203 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

203 و من كلام له ع- و قد سأله سائل عن أحاديث البدع- و عما في أيدي الناس من اختلاف الخبر

– فقال ع- : إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلًا- وَ صِدْقاً وَ كَذِباً وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً- وَ عَامّاً وَ خَاصّاً- وَ مُحْكَماً وَ مُتَشَابِهاً وَ حِفْظاً وَ وَهَماً- وَ قَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص عَلَى عَهْدِهِ- حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ- مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ- وَ إِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ- رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ- لَا يَتَأَثَّمُ وَ لَا يَتَحَرَّجُ- يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص مُتَعَمِّداً- فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ- وَ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ- وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ص- رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ- وَ قَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ- وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ- فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ- وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَ الْبُهْتَانِ- فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ- فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا وَ إِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَ الدُّنْيَا- إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ- وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ- فَوَهِمَ فِيهِ وَ لَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً فَهُوَ فِي يَدَيْهِ- وَ يَرْوِيهِ وَ يَعْمَلُ بِهِ-

وَ يَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ- وَ لَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ- وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص شَيْئاً- يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ- أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ- فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ وَ لَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ- فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ- وَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ- وَ آخَرُ رَابِعٌ- لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ- مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَ تَعْظِيماً لِرَسُولِ اللَّهِ ص- وَ لَمْ يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ- فَجَاءَ بِهِ عَلَى سَمْعِهِ- لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ- فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ- وَ حَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ- وَ عَرَفَ الْخَاصَّ وَ الْعَامَّ وَ الْمُحْكَمَ وَ الْمُتَشَابِهَ- فَوَضَعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ مَوْضِعَهُ- وَ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص الْكَلَامُ- لَهُ وَجْهَانِ فَكَلَامٌ خَاصٌّ وَ كَلَامٌ عَامٌّ- فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ- وَ لَا مَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ ص- فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ وَ يُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ- وَ مَا قَصَدَ بِهِ وَ مَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ- وَ لَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَ يَسْتَفْهِمُهُ- حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِي‏ءَ الْأَعْرَابِيُّ وَ الطَّارِئُ- فَيَسْأَلَهُ ع حَتَّى يَسْمَعُوا- وَ كَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْ‏ءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَ حَفِظْتُهُ- فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَ عِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ‏

الكلام في تفسير الألفاظ الأصولية- و هي العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ- و الصدق و الكذب و المحكم و المتشابه- موكول إلى فن أصول الفقه- و قد ذكرناه فيما أمليناه من الكتب الأصولية- و الإطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجنة- . قوله ع و حفظا و وهما الهاء مفتوحة- و هي مصدر وهمت بالكسر- أوهم أي غلطت و سهوت- و قد روي وهما بالتسكين و هو مصدر وهمت بالفتح- أوهم إذا ذهب وهمك إلى شي‏ء- و أنت تريد غيره و المعنى متقارب- .

وقول النبي ص فليتبوأ مقعده من النار- كلام صيغته الأمر و معناه الخبر- كقوله تعالى- قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا- و تبوأت المنزل نزلته و بوأته منزلا أنزلته فيه- . و التأثم الكف عن موجب الإثم- و التحرج مثله و أصله الضيق كأنه يضيق على نفسه- . و لقف عنه تناول عنه- . و جنب عنه أخذ عنه جانبا- . و إن في قوله حتى إن كانوا ليحبون- مخففة من الثقيلة و لذلك جاءت اللام في الخبر- . و الطارئ بالهمز الطالع عليهم طرأ أي طلع- و قد روي عللهم بالرفع عطفا على وجوه- و روي بالجر عطفا على اختلافهم‏

ذكر بعض أحوال المنافقين بعد وفاة محمد ع

و اعلم أن هذا التقسيم صحيح- و قد كان في أيام الرسول ص منافقون- و بقوا بعده- و ليس يمكن أن يقال إن النفاق مات بموته- و السبب في استتار حالهم بعده- أنه ص كان لا يزال بذكرهم بما ينزل عليه من القرآن- فإنه مشحون بذكرهم- أ لا ترى أن أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن- مملوء بذكر المنافقين- فكان السبب في انتشار ذكرهم- و أحوالهم و حركاتهم هو القرآن- فلما انقطع الوحي بموته ص- لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم و يوبخهم على أعمالهم- و يأمر بالحذر منهم و يجاهرهم تارة و يجاملهم تارة- و صار المتولي للأمر بعده- يحمل الناس كلهم على كاهل المجاملة- و يعاملهم بالظاهر- و هو الواجب في حكم الشرع و السياسة الدنيوية- بخلاف حال الرسول ص- فإنه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف- أ لا ترى أنه قيل له- وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً- فهذا يدل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم- و إلا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق- و الوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم- فليس مخاطبا بما خوطب به ص في أمرهم- و لسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم- فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه- و يعامل المسلمين بظاهره و يعاملونه بحسب ذلك- ثم فتحت عليهم البلاد و كثرت الغنائم- فاشتغلوا بها عن الحركات- التي كانوا يعتمدونها أيام رسول الله- و بعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس و الروم- فألهتهم الدنيا عن الأمور- التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله ص- و منهم من استقام اعتقاده و خلصت نيته- لما رأوا الفتوح و إلقاء الدنيا- أفلاذ كبدها من الأموال العظيمة- و الكنوز الجليلة إليهم- فقالوا لو لم يكن هذا الدين حقا- لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه- و بالجملة لما تركوا تركوا- و حيث سكت عنهم سكتوا عن الإسلام و أهله- إلا في دسيسة خفية يعملونها نحو الكذب- الذي أشار إليه أمير المؤمنين ع- فإنه خالط الحديث كذب كثير- صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة- قصدوا به الإضلال و تخبيط القلوب و العقائد- و قصد به بعضهم التنويه بذكر قوم- كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي- و قد قيل إنه افتعل في أيام معاوية خاصة- حديث كثير على هذا الوجه- و لم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا- بل ذكروا كثيرا من هذه الأحاديث الموضوعة- و بينوا وضعها و أن رواتها غير موثوق بهم- إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة- و لا يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة- لأن عليه لفظ الصحبة- على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة و غيره- .

فإن قلت من هم أئمة الضلالة- الذين يتقرب إليهم المنافقون- الذين رأوا رسول الله ص و صحبوه للزور و البهتان- و هل هذا إلا تصريح بما تذكره الإمامية و تعتقده- . قلت ليس الأمر كما ظننت و ظنوا- و إنما يعني معاوية و عمرو بن العاص- و من شايعهما على الضلال- كالخبر الذي رواه من في حق معاوية- اللهم قه العذاب و الحساب و علمه الكتاب- و كرواية عمرو بن العاص تقربا إلى قلب معاوية- إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء- إنما وليي الله و صالح المؤمنين- و كرواية قوم في أيام معاوية- أخبارا كثيرة من فضائل عثمان- تقربا إلى معاوية بها- و لسنا نجحد فضل عثمان و سابقته- و لكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع- كخبر عمرو بن مرة فيه و هو مشهور- و عمر بن مرة ممن له صحبة و هو شامي

ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى و الاضطهاد

و ليس يجب من قولنا- إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة- أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل- فإنا مع اعتقادنا أن عليا أفضل الناس- نعتقد أن بعض الأخبار الواردة في فضائله مفتعل و مختلق- . و قد رويأن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع قال لبعض أصحابه يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا و تظاهرهم علينا- و ما لقي شيعتنا و محبونا من الناس- إن رسول الله ص قبض- و قد أخبر أنا أولى الناس بالناس- فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه- و احتجت على الأنصار بحقنا و حجتنا- ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا- فنكثت بيعتنا و نصبت الحرب لنا- و لم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل- فبويع الحسن ابنه و عوهد ثم غدر به و أسلم- و وثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه- و نهبت عسكره و عولجت خلاليل أمهات أولاده- فوادع معاوية و حقن دمه و دماء أهل بيته- و هم قليل حق قليل-

ثم بايع الحسين ع من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به- و خرجوا عليه و بيعته في أعناقهم و قتلوه- ثم لم نزل أهل البيت نستذل و نستضام و نقصى و نمتهن- و نحرم و نقتل و نخاف- و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا- و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا- يتقربون به إلى أوليائهم- و قضاة السوء و عمال السوء في كل بلدة- فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة- و رووا عنا ما لم نقله و ما لم نفعله- ليبغضونا إلى الناس- و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن ع- فقتلت شيعتنا بكل بلدة- و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة- و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله- أو هدمت داره- ثم لم يزل البلاء يشتد و يزداد-إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ع- ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة- و أخذهم بكل ظنة و تهمة- حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر- أحب إليه من أن يقال شيعة علي- و حتى صار الرجل الذي يذكر بالخير- و لعله يكون ورعا صدوقا- يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة- من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة- و لم يخلق الله تعالى شيئا منها- و لا كانت و لا وقعت و هو يحسب أنها حق- لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب و لا بقلة ورع- .

و روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني- في كتاب الأحداث- قال كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة- أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب و أهل بيته- فقامت الخطباء في كل كورة و على كل منبر- يلعنون عليا و يبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته- و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة- لكثرة من بها من شيعة علي ع- فاستعمل عليهم زياد بن سمية و ضم إليه البصرة- فكان يتتبع الشيعة و هو بهم عارف- لأنه كان منهم أيام علي ع- فقتلهم تحت كل حجر و مدر و أخافهم- و قطع الأيدي و الأرجل و سمل العيون- و صلبهم على جذوع النخل- و طرفهم و شردهم عن العراق- فلم يبق بها معروف منهم- و كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق- ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة- و كتب إليهم- أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و أهل ولايته- و الذين يروون فضائله و مناقبه- فادنوا مجالسهم و قربوهم و أكرموهم- و اكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم- و اسمه و اسم أبيه و عشيرته- .

ففعلوا ذلك- حتى أكثروا في فضائل عثمان و مناقبه- لما كان يبعثه إليهم معاوية- من الصلات و الكساء و الحباء و القطائع- و يفيضه في العرب منهم و الموالي- فكثر ذلك في كل مصر- و تنافسوا في المنازل و الدنيا- فليس يجي‏ء أحد مردود من الناس عاملا من‏عمال معاوية- فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة- إلا كتب اسمه و قربه و شفعه فلبثوا بذلك حينا- .

ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر- و فشا في كل مصر و في كل وجه و ناحية- فإذا جاءكم كتابي هذا- فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة- و الخلفاء الأولين- و لا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب- إلا و تأتوني بمناقض له في الصحابة- فإن هذا أحب إلى و أقر لعيني- و أدحض لحجة أبي تراب و شيعته- و أشد عليهم من مناقب عثمان و فضله- . فقرئت كتبه على الناس- فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة- لا حقيقة لها- وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى- حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر- و ألقي إلى معلمي الكتاتيب- فعلموا صبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع- حتى رووه و تعلموه كما يتعلمون القرآن- و حتى علموه بناتهم و نساءهم و خدمهم و حشمهم- فلبثوا بذلك ما شاء الله- .

ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان- انظروا من قامت عليه البينة- أنه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان- و أسقطوا عطاءه و رزقه- و شفع ذلك بنسخة أخرى- من اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم- فنكلوا به و أهدموا داره- فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق- و لا سيما بالكوفة- حتى أن الرجل من شيعة علي ع ليأتيه من يثق به- فيدخل بيته فيلقي إليه سره- و يخاف من خادمه و مملوكه- و لا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه- فظهر حديث كثير موضوع و بهتان منتشر- و مضى على ذلك الفقهاء و القضاة و الولاة- و كان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون- و المستضعفون الذين يظهرون الخشوع و النسك- فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم- و يقربوا مجالسهم- و يصيبوا به الأموال و الضياع‏و المنازل- حتى انتقلت تلك الأخبار و الأحاديث- إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب و البهتان- فقبلوها و رووها و هم يظنون أنها حق- و لو علموا أنها باطلة لما رووها و لا تدينوا بها- . فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ع- فازداد البلاء و الفتنة- فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا و هو خائف على دمه- أو طريد في الأرض- .

ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ع- و ولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة- و ولى عليهم الحجاج بن يوسف- فتقرب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين- ببغض علي و موالاة أعدائه- و موالاة من يدعي من الناس أنهم أيضا أعداؤه- فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم- و أكثروا من الغض من علي ع و عيبه- و الطعن فيه و الشنئان له- حتى أن إنسانا وقف للحجاج- و يقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب فصاح به- أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا و إني فقير بائس- و أنا إلى صلة الأمير محتاج- فتضاحك له الحجاج- و قال للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا- . و قد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه- و هو من أكابر المحدثين و أعلامهم في تاريخه- ما يناسب هذا الخبر- و قال إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة- افتعلت في أيام بني أمية- تقربا إليهم بما يظنون- أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم- .

قلت- و لا يلزم من هذا أن يكون علي ع يسوءه أن يذكر الصحابة- و المتقدمون عليه بالخير و الفضل- إلا أن معاوية و بني أمية- كانوا يبنون الأمر من هذا- على ما يظنونه في علي ع من أنه عدو من تقدم عليه- و لم يكن الأمر في الحقيقة كمايظنونه- و لكنه كان يرى أنه أفضل منهم- و أنهم استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم- و لا براءة منهم- .

فأما قوله ع و رجل سمع من رسول الله شيئا- و لم يحفظه على وجهه فوهم فيه فقد وقع ذلك- و قال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد الله بن عمر- أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه- إن ابن عباس لما روي له هذا الخبر- قال ذهل ابن عمر- إنما مر رسول الله ص على قبر يهودي- فقال إن أهله ليبكون عليه و إنه ليعذب- . و قالوا أيضا إن عائشة أنكرت ذلك- و قالت ذهل أبو عبد الرحمن كما ذهل في خبر قليب بدر-إنما قال ع إنهم ليبكون عليه- و إنه ليعذب بجرمه- .

قالوا و موضع غلطه في خبر القليب- أنهروى أن النبي ص وقف على قليب بدر- فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا- ثم قال إنهم يسمعون ما أقول لهم- فأنكرت عائشة ذلك- و قالت إنما-قال إنهم يعلمون أن الذي كنت أقوله لهم هو الحق- و استشهد بقوله تعالى- إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏- . فأما الرجل الثالث- و هو الذي يسمع المنسوخ و لم يسمع الناسخ فقد وقع كثيرا- و كتب الحديث و الفقه مشحونة بذلك- كالذين أباحوا لحوم الحمر الأهلية لخبر رووه في ذلك- و لم يرووا الخبر الناسخ- .

و أما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم- . و أما قوله ع- و قد كان يكون من رسول الله ص الكلام له‏ وجهان- فهذا داخل في القسم الثاني و غير خارج عنه- و لكنه كالنوع من الجنس- لأن الوهم و الغلط جنس تحته أنواع- . و اعلم- أن أمير المؤمنين ع كان مخصوصا من دون الصحابة- رضوان الله عليهم- بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله ص- لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما- و كان كثير السؤال للنبي ص عن معاني القرآن- و عن معاني كلامه ص- و إذا لم يسأل ابتدأه النبي ص بالتعليم و التثقيف- و لم يكن أحد من أصحاب النبي ص كذلك بل كانوا أقساما- فمنهم من يهابه أن يسأله- و هم الذين يحبون أن يجي‏ء الأعرابي أو الطارئ- فيسأله و هم يسمعون- و منهم من كان بليدا بعيد الفهم- قليل الهمة في النظر و البحث- و منهم من كان مشغولا عن طلب العلم و فهم المعاني- إما بعبادة أو دنيا- و منهم المقلد يرى أن فرضه السكوت و ترك السؤال- و منهم المبغض الشانئ- الذي ليس للدين عنده من الموقع- ما يضيع وقته و زمانه بالسؤال عن دقائقه و غوامضه- و انضاف إلى الأمر الخاص بعلي ع ذكاؤه و فطنته- و طهارة طينته و إشراق نفسه و ضوءها- و إذا كان المحل قابلا متهيئا- كان الفاعل المؤثر موجودا و الموانع مرتفعة- حصل الأثر على أتم ما يمكن- فلذلك كان علي ع- كما قال الحسن البصري رباني هذه الأمة و ذا فضلها- و لذا تسميه الفلاسفة إمام الأئمة و حكيم العرب

فصل فيما وضع الشيعة و البكرية من الأحاديث

و اعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل- كان من جهة الشيعة- فإنهم وضعوافي مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم- حملهم على وضعها عداوة خصومهم- نحو حديث السطل و حديث الرمانة- و حديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين- و تعرف كما زعموا بذات العلم- و حديث غسل سلمان الفارسي و طي الأرض- و حديث الجمجمة و نحو ذلك- فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة- وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث- نحو لو كنت متخذا خليلا- فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء و نحو سد الأبواب- فإنه كان لعلي ع فقلبته البكرية إلى أبي بكر- و نحو ايتوني بدواة و بياض- أكتب فيه لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان- ثم قال يأبى الله تعالى و المسلمون إلا أبا بكر- فإنهم وضعوه في مقابلةالحديث المروي عنه في مرضه ايتوني بدواة و بياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبدا- فاختلفوا عنده-

و قال قوم منهم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله- و نحو حديث أنا راض عنك فهل أنت عني راض و نحو ذلك- فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية- أوسعوا في وضع الأحاديث- فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا- أنه فتله في عنق خالد- و حديث اللوح الذي زعموا- أنه كان في غدائر الحنفية أم محمد- و حديث لا يفعلن خالد ما آمر به- و حديث الصحيفة التي علقت عام الفتح بالكعبة- و حديث الشيخ الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر- فسبق الناس إلى بيعته- و أحاديث مكذوبة كثيرة- تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة- و التابعين الأولين و كفرهم- و علي أدون الطبقات فيهم- فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي و في ولديه- و نسبوه تارة إلى ضعف العقل- و تارة إلى ضعف السياسة- و تارة إلى حب الدنيا و الحرص عليها- و لقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه و اجترحاه- و لقد كان في فضائل علي ع الثابتة الصحيحة- و فضائل أبي بكر المحققةالمعلومة- ما يغني عن تكلف العصبية لهما- فإن العصبية لهما- أخرجت الفريقين من ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل- و من تعديد المحاسن إلى تعديد المساوئ و المقابح- و نسأل الله تعالى- أن يعصمنا من الميل إلى الهوى و حب العصبية- و أن يجرينا على ما عودنا من حب الحق أين وجد و حيث كان- سخط ذلك من سخط و رضي به من رضي بمنه و لطفه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 202 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

202 و من كلام له ع بالبصرة- و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي

– و هو من أصحابه يعوده- فلما رأى سعة داره قال- : مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا- أَمَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآْخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ- وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَةَ- تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ- وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا- فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَةَ- فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ- يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ- قَالَ وَ مَا لَهُ- قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَ وَ تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا- قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ- يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ- أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ- أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا- أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ- قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ- قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ- أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ- كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ‏

كنت هاهنا زائدة مثل قوله تعالى- كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا- . و قوله و بلى إن شئت بلغت بها الآخرة لفظ فصيح- كأنه استدرك و قال- و بلى على أنك قد تحتاج إليها في الدنيا- لتجعلها وصلة إلى نبل الآخرة- بأن تقري فيها الضيف- و الضيف لفظ يقع على الواحد و الجمع- و قد يجمع فيقال ضيوف و أضياف- و الرحم القرابة- . و تطلع منها الحقوق مطالعها- توقعها في مظان استحقاقها- . و العباء جمع عباءة و هي الكساء و قد تلين- كما قالوا عظاءة و عظاية و صلاءة و صلاية- .

و تقول علي بفلان أي أحضره- و الأصل أعجل به علي- فحذف فعل الأمر و دل الباقي عليه- . و يا عدي نفسه تصغير عدو- و قد يمكن أن يراد به التحقير المحض هاهنا- . و يمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لها- و يمكن أن يخرج مخرج التحنن و الشفقة كقولك يا بني- . و استهام بك الخبيث يعني الشيطان- أي جعلك هائما ضالا و الباء زائدة- . فإن قيل ما معنى قوله ع- أنت أهون على الله من ذلك- . قلت لأن في المشاهد قد يحل الواحد منا- لصاحبه فعلا مخصوصا محاباة و مراقبة له-و هو يكره أن يفعله- و البشر أهون على الله تعالى من أن يحل لهم أمرا- مجاملة و استصلاحا للحال معهم- و هو يكره منهم فعله- . و قوله هذا أنت أي فما بالنا نراك خشن الملبس- و التقدير فها أنت تفعل كذا فكيف تنهى عنه- .

و طعام جشب أي غليظ و كذلك مجشوب- و قيل إنه الذي لا أدم معه- . قوله ع- أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس- أي يشبهوا و يمثلوا- . و تبيغ الدم بصاحبه و تبوغ به أي هاج به- وفي الحديث عليكم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله- و قيل أصل يتبيغ يتبغى فقلب جذب و جبذ- أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه- في لباسه و طعامه بضعفة الناس جمع ضعيف- لكيلا يهلك الفقراء من الناس- فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة و بذلك المطعم- كان أدعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا- و الصبر عن شهوات النفوس

ذكر بعض مقامات العارفين و الزهاد

و روي أن قوما من المتصوفة- دخلوا خراسان على علي بن موسى الرضا- فقالوا له إن أمير المؤمنين فكر فيما ولاه الله من الأمور- فرآكم أهل البيت أولى الناس أن تؤموا الناس- و نظر فيك من أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس- فرأى أن يرد هذا الأمر إليك- و الإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب- و يلبس الخشن و يركب الحمار و يعود المريض- فقال لهم إن يوسف كان نبيا- يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب- و يجلس على متكآت آل فرعون ويحكم- إنما يراد من الإمام قسطه و عدله- إذا قال صدق‏و إذا حكم عدل و إذا وعد أنجز- إن الله لم يحرم لبوسا و لا مطعما- ثم قرأ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ- الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ الآية- .

و هذا القول مخالف للقانون الذي أشار أمير المؤمنين إليه- و للفلاسفة في هذا الباب كلام لا بأس به- و قد أشار إليه أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات- و عليه يتخرج قولا أمير المؤمنين- و علي بن موسى الرضا ع- قال أبو علي في مقامات العارفين العارفون قد يختلفون في الهمم- بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر- على حسب ما يختلف عندهم من دواعي العبر- فربما استوى عند العارف القشف و الترف- بل ربما آثر القشف- و كذلك ربما سوى عنده التفل و العطر- بل ربما آثر التفل- و ذلك عند ما يكون الهاجس بباله- استحقار ما عدا الحق- و ربما صغا إلى الزينة و أحب من كل شي‏ء عقيلته- و كره الخداج و السقط- و ذلك عند ما يعتبر عادته من صحبته الأحوال الظاهرة- فهو يرتاد إليها في كل شي‏ء- لأنه مزية خطوة من العناية الأولى- و أقرب أن يكون من قبيل ما عكف عليه بهواه- و قد يختلف هذا في عارفين- و قد يختلف في عارف بحسب وقتين- .

و اعلم أن الذي رويته عن الشيوخ- و رأيته بخط عبد الله بن أحمد بن الخشاب- رحمه الله- أن الربيع بن زياد الحارثي- أصابته نشابة في جبينه- فكانت تنتقض عليه في كل عام- فأتاه علي ع عائدا- فقال كيف تجدك أبا عبد الرحمن- قال أجدني يا أمير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بي- إلا بذهاب بصري لتمنيت ذهابه- قال و ما قيمة بصرك عندك- قال لو كانت لي الدنيا لفديته بها- قال لا جرم ليعطينك الله على قدر ذلك- إن الله تعالى يعطي على قدر الألم و المصيبة- و عنده تضعيف كثير- قال الربيع‏يا أمير المؤمنين- أ لا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي- قال ما له قال لبس العباء و ترك الملاء- و غم أهله و حزن ولده فقال علي ادعوا لي عاصما- فلما أتاه عبس في وجهه-

و قال ويحك يا عاصم أ ترى الله أباح لك اللذات- و هو يكره ما أخذت منها- لأنت أهون على الله من ذلك- أ و ما سمعته يقول مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ- ثم يقول يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ- و قال وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا- وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها- أما و الله إن ابتذال نعم الله بالفعال- أحب إليه من ابتذالها بالمقال- و قد سمعتم الله يقول وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ- و قوله مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ- وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ- إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين- فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ- و قال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ- وَ اعْمَلُوا صالِحاً وقال رسول الله ص لبعض نسائه ما لي أراك شعثاء مرهاء سلتاء- .

قال عاصم فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن- و أكل الجشب- قال إن الله تعالى افترض على أئمة العدل- أن يقدروا لأنفسهم بالقوام- كيلا يتبيغ بالفقير فقره- فما قام علي ع حتى نزع عاصم العباء و لبس ملاءة- . و الربيع بن زياد هو الذي افتتح بعض خراسان- و فيه قال عمر دلوني على رجل- إذا كان‏ في القوم أميرا فكأنه ليس بأمير- و إذا كان في القوم ليس بأمير فكأنه الأمير بعينه- و كان خيرا متواضعا- و هو صاحب الوقعة مع عمر- لما أحضر العمال فتوحش له الربيع- و تقشف و أكل معه الجشب من الطعام- فأقره على عمله و صرف الباقين- و قد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم- .

و كتب زياد بن أبيه إلى الربيع بن زياد- و هو على قطعة من خراسان- أن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي- يأمرك أن تحرز الصفراء و البيضاء و تقسم الخرثي- و ما أشبهه على أهل الحرب- فقال له الربيع- إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين- ثم نادى في الناس أن اغدوا علي غنائمكم- فأخذ الخمس و قسم الباقي على المسلمين- ثم دعا الله أن يميته فما جمع حتى مات- . و هو الربيع بن زياد بن أنس بن ديان بن قطر بن زياد- بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن مالك- بن كعب بن الحارث بن عمرو بن وعلة- بن خالد بن مالك بن أدد- . و أما العلاء بن زياد الذي ذكره الرضي رحمه الله فلا أعرفه- لعل غيري يعرفه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 201 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

201 و من كلام له ع- قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْرِي مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ- حَتَّى نَهِكَتْكُمُ الْحَرْبُ- وَ قَدْ وَ اللَّهِ أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَ تَرَكَتْ- وَ هِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ- . لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً- وَ كُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً- وَ قَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ وَ لَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ نهكتكم بكسر الهاء أدنفتكم و أذابتكم- و يجوز فتح الهاء و قد نهك الرجل أي دنف و ضني فهو منهوك- و عليه نهكه المرض أي أثرة الحرب مؤنثة- . و قد أخذت منكم و تركت أي لم تستأصلكم- بل فيكم بعد بقية و هي لعدوكم أنهك- لأن القتل في أهل الشام كان أشد استحرارا- و الوهن فيهم أظهر- و لو لا فساد أهل العراق برفع المصاحف لاستؤصل الشام- و خلص الأشتر إلى معاوية فأخذه بعنقه- و لم يكن قد بقي من قوة الشام- إلا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يمينا و شمالا- و لكن الأمور السماوية لا تغالب- .

فأما قوله كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا- فقد قدمنا شرح حالهم من قبل- و أن أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص و من معه المصاحف- على وجه المكيدةحين أحس بالعطب- و علو كلمة أهل الحق- ألزموا أمير المؤمنين ع بوضع أوزار الحرب- و كف الأيدي عن القتال و كانوا في ذلك على أقسام- فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف- و غلب على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة و حيلة- بل حقا و دعاء إلى الدين و موجب الكتاب- فرأى أن الاستسلام للحجة أولى من الإصرار على الحرب- .

و منهم من كان قد مل الحرب و آثر السلم- فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلق بها- في رفض المحاربة و حب العافية أخلد إليهم- . و منهم من كان يبغض عليا ع بباطنه- و يطيعه بظاهره- كما يطيع كثير من الناس السلطان- في الظاهر و يبغضه بقلبه- فلما وجدوا طريقا إلى خذلانه و ترك نصرته- أسرعوا نحوها- فاجتمع جمهور عسكره عليه- و طالبوه بالكف و ترك القتال- فامتنع امتناع عالم بالمكيدة- و قال لهم إنها حيلة و خديعة- و إني أعرف بالقوم منكم- إنهم ليسوا بأصحاب قرآن و لا دين- قد صحبتهم و عرفتهم صغيرا و كبيرا- فعرفت منهم الإعراض عن الدين و الركون إلى الدنيا- فلا تراعوا برفع المصاحف و صمموا على الحرب- و قد ملكتموهم فلم يبق منهم إلا حشاشة ضعيفة- و ذماء قليل- فأبوا عليه و ألحوا و أصروا على القعود و الخذلان- و أمروه بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه- و عليهم الأشتر أن يأمرهم بالرجوع- و تهددوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية- فأرسل إلى الأشتر يأمره بالرجوع و ترك الحرب- فأبى عليه فقال كيف أرجع و قد لاحت أمارات الظفر- فقولوا له ليمهلني ساعة واحدة- و لم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت- فلما عاد إليه الرسول بذلك- غضبوا و نفروا و شغبوا- و قالوا أنفذت إلى الأشتر سرا و باطنا- تأمره بالتصميم و تنهاه عن الكف- و إن لم تعده الساعة و إلا قتلناك كما قتلنا عثمان- فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له- أ تحب أن تظفر بمكانك و أمير المؤمنين قد سل عليه‏خمسون ألف سيف- فقال ما الخبر قال إن الجيش بأسره قد أحدق به- و هو قاعد بينهم على الأرض- تحته نطع و هو مطرق و البارقة تلمع على رأسه- يقولون لئن لم تعد الأشتر قتلناك- قال ويحكم فما سبب ذلك قالوا رفع المصاحف- قال و الله لقد ظننت حين رأيتها رفعت- أنها ستوقع فرقة و فتنة- .

ثم كر راجعا على عقبيه- فوجد أمير المؤمنين ع تحت الخطر- قد ردده أصحابه بين أمرين- إما أن يسلموه إلى معاوية أو يقتلوه- و لا ناصر له منهم إلا ولداه و ابن عمه- و نفر قليل لا يبلغون عشرة- فلما رآهم الأشتر سبهم و شتمهم- و قال ويحكم أ بعد الظفر و النصر- صب عليكم الخذلان و الفرقة- يا ضعاف الأحلام يا أشباه النساء- يا سفهاء العقول فشتموه و سبوه و قهروه- و قالوا المصاحف المصاحف و الرجوع إليها- لا نرى غير ذلك- فأجاب أمير المؤمنين ع إلى التحكيم- دفعا للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور الأضعف- فلذلك قال كنت أميرا فأصبحت مأمورا- و كنت ناهيا فصرت منهيا- و قد سبق من شرح حال التحكيم- و ما جرى فيه ما يغني عن إعادته

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11

خطبه 200 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

200 و من كلام له ع في بعض أيام صفين- و قد رأى الحسن ابنه ع يتسرع إلى الحرب

امْلِكُوا عَنِّي هَذَا الْغُلَامَ لَا يَهُدَّنِي- فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ يَعْنِي الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ ع- عَلَى الْمَوْتِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ ص- قال الرضي أبو الحسن رحمه الله- قوله ع املكوا عني هذا الغلام- من أعلى الكلام و أفصحه الألف في املكوا ألف وصل- لأن الماضي ثلاثي من ملكت الفرس و العبد و الدار- أملك بالكسر أي احجروا عليه كما يحجر المالك على مملوكه- . و عن متعلقة بمحذوف تقديره استولوا عليه و أبعدوه عني- و لما كان الملك سبب الحجر على المملوك- عبر بالسبب عن المسبب كما عبر بالنكاح عن العقد- و هو في الحقيقة اسم الوطء- لما كان العقد طريقا إلى الوطء و سببا له- .

و وجه علو هذا الكلام و فصاحته- أنه لما كان في املكوا معنى البعد أعقبه‏بعن- و ذلك أنهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين ع- إلا و قد أبعدوه عنه- أ لا ترى أنك إذا حجرت على زيد دون عمرو- فقد باعدت زيدا عن عمرو- فلذلك قال املكوا عني هذا الغلام- و استفصح الشارحون قول أبي الطيب-

إذا كان شم الروح أدنى إليكم
فلا برحتني روضة و قبول‏

قالوا و لما كان في فلا برحتني معنى فارقتني- عدي اللفظة و إن كانت لازمة- نظرا إلى المعنى- . قوله لا يهدني أي لئلا يهدني- فحذف كما حذف طرفه في قوله-

ألا أي هذا الزاجري أحضر الوغى‏

أي لأن أحضر- . و أنفس أبخل نفست عليه بكذا بالكسر- . فإن قلت أ يجوز أن يقال للحسن و الحسين و ولدهما- أبناء رسول الله و ولد رسول الله- و ذرية رسول الله و نسل رسول الله- . قلت نعم لأن الله تعالى سماهم أبناءه في قوله تعالى- نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ- و إنما عنى الحسن و الحسين- و لو أوصى لولد فلان بمال دخل فيه أولاد البنات- و سمى الله تعالى عيسى ذرية إبراهيم في قوله- وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ- إلى أن قال وَ يَحْيى‏ وَ عِيسى‏- و لم يختلف أهل اللغة في أن ولد البنات من نسل الرجل- .

فإن قلت فما تصنع بقوله تعالى- ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ- قلت أسألك عن أبوته لإبراهيم بن مارية- فكما تجيب به عن ذلك فهو جوابي عن الحسن و الحسين ع- . و الجواب الشامل للجميع أنه عنى زيد بن حارثة- لأن العرب كانت تقول زيد بن محمد- على عادتهم في تبني العبيد- فأبطل الله تعالى ذلك و نهى عن سنة الجاهلية- و قال إن محمدا ع ليس أبا لواحد من الرجال- البالغين المعروفين بينكم ليعتزي إليه بالنبوة- و ذلك لا ينفي كونه أبا لأطفال- لم تطلق عليهم لفظة الرجال- كإبراهيم و حسن و حسين ع- . فإن قلت أ تقول إن ابن البنت ابن- على الحقيقة الأصلية أم على سبيل المجاز- .

قلت لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة أصلية- لأن أصل الإطلاق الحقيقة- و قد يكون اللفظ مشتركا بين مفهومين- و هو في أحدهما أشهر- و لا يلزم من كونه أشهر في أحدهما- ألا يكون حقيقة في الآخر- . و لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة عرفية- و هي التي كثر استعمالها و هي في الأكثر مجاز- حتى صارت حقيقة في العرف- كالراوية للمزادة و السماء للمطر- . و لذاهب أن يذهب إلى كونه مجازا قد استعمله الشارع- فجاز إطلاقه في كل حال- و استعماله كسائر المجازات المستعملة- . و مما يدل على اختصاص ولد فاطمة- دون بني هاشم كافة بالنبي ع أنه ما كان يحل له ع- أن ينكح بنات الحسن و الحسين ع- و لا بنات ذريتهما- و إن بعدن و طال الزمان- و يحل له نكاح بنات غيرهم من بني هاشم- من الطالبيين و غيرهم- و هذا يدل على مزيد الأقربية و هي كونهم أولاده- لأنه ليس هناك من القربى غيرهذا الوجه- لأنهم ليسوا أولاد أخيه و لا أولاد أخته- و لا هناك وجه يقتضي حرمتهم عليه- إلا كونه والدا لهم و كونهم أولادا له- فإن قلت قد قال الشاعر-

بنونا بنو أبنائنا و بناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد

و قال حكيم العرب أكثم بن صيفي في البنات يذمهن- إنهن يلدن الأعداء و يورثن البعداء- . قلت إنما قال الشاعر ما قاله على المفهوم الأشهر- و ليس في قول أكثم ما يدل على نفي بنوتهم- و إنما ذكر أنهن يلدن الأعداء- و قد يكون ولد الرجل لصلبه عدوا قال الله تعالى- إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ- و لا ينفي كونه عدوا كونه ابنا- . قيل لمحمد بن الحنفية ع- لم يغرر بك أبوك في الحرب- و لم لا يغرر بالحسن و الحسين- فقال لأنهما عيناه و أنا يمينه- فهو يذب عن عينيه بيمينه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 11