و من خطبة له عليه السّلام
و فيها فصول:
الأوّل:
قوله: قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ وَ خَبَرَ الضَّمَائِرَ- لَهُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ وَ الْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ- وَ الْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
و هذا الفصل يشتمل على بعض أوصاف الحقّ سبحانه:
الأوّل: كونه عالما بالسرائر و هو كقوله تعالى يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ.
الثاني: كونه خبيرا بالضماير. و هو قريب من المرادف للعالم بالسراير فإنّ الخبير هو الّذى لا يعزب عنه الأخبار الباطنة و لا تضطرب نفس و لا تسكن إلّا و يكون عنده خبرها و ذلك بعينه هو العالم مضافا إلى السرائر و الخفايا الباطنة و إن كان مطلق العلم أعمّ.
الثالث: كونه محيطا بكلّ شيء. و هو إشارة إلى علمه بكلّيّات الأشياء و جزئيّاتها، و عليه اتّفاق جمهور المتكلّمين و الحكماء: أمّا المتكلّمون فظاهر، و أمّا المحقّقون من الحكماء فملخّص كلامهم إجمالا في كيفيّة علمه تعالى أنّه يعلم ذاته بذاته و يتّحد هناك المدرك و المدرك و الإدراك و لا يتعدّد إلّا بحسب الاعتبارات العقليّة الّتى تحدثها العقول البشريّة. و أمّا معلولاته القريبة منه فيكون بأعيان ذواتها و يتّحد هناك المدرك و الإدراك و لا يتعدّدان إلّا باعتبار عقلىّ و يغايرهما المدرك، و أمّا معلولاته البعيدة كالماديّات و المعدومات الّتى من شأنها إمكان أن توجد في وقت أو يتعلّق بموجود فيكون بارتسام صورها المعقولة من المعلولات القريبة الّتى هى المدركات لها أوّلا و بالذات و كذلك إلى أن ينتهى إلى إدراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدركاتها. قالوا: و ذلك لأنّ الموجود في الحاضر حاضر و المدرك للحاضر مدرك لما يحضر معه فإذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات و لا في الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر لكون ذوات معلولاته القريبة مرتسمة بجميع الصور و هى الّتى يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين و تارة باللوح المحفوظ و تسمّى عندهم عقولا فعّالة.
الرابع: كونه تعالى غالبا لكلّ شيء.
الخامس: كونه قويّا على كلّ شيء، و هما إشارتان إلى وصف قدرته تعالى بالتمام على كلّ مقدور فإنّ القوّة عليها و الغلبة لها من تمام القدرة و يفهم من الغالب زيادة على القوىّ و يعود إلى معنى القاهر. و قد سبق بيانه، و أمّا بيان صدق هاتين لقضيّتين فببيان أنّه تعالى مبدء كلّ موجود و أنّ كلّ ممكن مفتقر في سلسلة الحاجة إليه، و قد فرغ من ذلك في الكتب الكلاميّة.
الفصل الثاني
قوله: فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ- وَ فِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ- وَ فِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ- وَ لْيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَ قَدَمِهِ وَ لْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ- فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ- وَ اسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى- وَ لَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهَالَةٍ وَ لَا عَمًى قَدْ سَمَّى آثَارَكُمْ- وَ عَلِمَ أَعْمَالَكُمْ وَ كَتَبَ آجَالَكُمْ- وَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ- وَ عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَ لَكُمْ- فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ- وَ أَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ- وَ نَوَاهِيَهُ وَ أَوَامِرَهُ وَ أَلْقَى إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ- وَ اتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ وَ قَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ- وَ أَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ وَ اصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ- فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ- وَ التَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ وَ لَا تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ- فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الظَّلَمَةِ- وَ لَا تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الْإِدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ- عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ- وَ إِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ- وَ الْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ وَ الْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ- وَ السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ- وَ الشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ- وَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَانِ وَ مَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ- جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ- الصَّادِقُ عَلَى شَرَفِ مَنْجَاةٍ وَ كَرَامَةٍ- وَ الْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَ مَهَانَةٍ- وَ لَا تَحَاسَدُوا- فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ- وَ لَا تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ- وَ يُنْسِي الذِّكْرَ فَأَكْذِبُوا الْأَمَلَ- فَإِنَّهُ غُرُورٌ وَ صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ
المعنى
أقول: الفصل إلى آخره شروع في الموعظة و المشورة، و لمّا قدّم الإشعار بأنّ اللّه تعالى عالم بما في الصدور غالب على كلّ مقدور أمرهم بعده بالعمل و أراد الأعمال الصالحة المطلوبة بالتكاليف الشرعيّة و أن يجعلوها مهادا لثبات أقدامهم على الصراط المستقيم المأمور بسلوكه ثمّ تلطّف بالجذب إلى العمل بتذكيرهم بأنّهم في أيّام مهلة و فراغ و متنفّس خناق يمكنهم فيه العمل و أنّ الّذى يعملونه من الصالحات هو زاد لهم في سفرهم إلى اللّه و إلى دار إقامتهم و أنّ وراء هذه المهلة إدراك أجل بعده شغل بأهوال الآخرة و أخذ بالكظم، و كنّى به عن عدم التمكّن من العمل إذ لم تكن الآخرة دار عمل ثمّ أبّه بالناس و حذّرهم ربّهم أن يخالفوا فيما أمرهم بحفظه و هو كتابه، و عنى بحفظه تدبّر ما فيه و المحافظة على العمل بأوامره و نواهيه و هى حقوقه الّتى استودعهم إيّاها ثمّ علّل ذلك بتنبيههم على أنّ اللّه تعالى لم يخلقهم عبثا خاليا عن وجه الحكمة بل خلقهم ليستكملوا الفضايل النفسانيّة بواسطة الآلات البدنيّة و لم يجعلهم في وجودهم مهملين بل ضبط آثارهم و أعمالهم و كتب آجالهم في كتابه المبين و ألواحه المحفوظة إلى يوم الدين و نظم وجودهم برسول كريم عمّره فيهم و كتاب أوضح لهم فيه السبيل الّتى لسلوكها خلقهم و أكمل لهم و لنبيّه دينهم الّذى ارتضى لهم و ما أهّلهم له من الكمالات المسعدة في الآخرة كما قال تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ«» هو بلّغهم على لسانه ما أحبّ لهم من الخيرات الباقية و كرّهه لهم عن الشرور المشقية في الآخرة كما اشتملت عليه أوامره و نواهيه و أبان لهم فيه الأعذار و أوضح فيه الحجج و شحنه بالوعيد و النذر بين يدي عذاب شديد، و استعار لفظ اليدين للعذاب و كنّى ببين يديه عن الوقت المتقدّم على عذاب الآخرة المشارف له، و وجه المشابهة أنّ الإنذار بالمخوف يكون من ذى سطوة و بأس شديد فكأنّه نزّل العذاب الشديد بمنزلة المعذّب فاستعار له يدين و جعل الإنذار و التخويف منه متقدّما له بين يديه و ذلك من الجواذب اللطيفة، ثمّ عاد إلى أمرهم باستدراك بقيّة أوقاتهم في الدنيا و أن يصبّروا لها أنفسهم: أى يلزموا أنفسهم فيها الصبر على الأعمال الصالحة، و في لفظ الاستدراك إشعار بتقديم تفريط منهم في جنب اللّه و لذلك قال: فإنّها قليل في كثير الأيّام الّتى تكون منكم فيها الغفلة و التشاغل عن الموعظة. و إنّما قال: لها. لأنّ كلّ وقت يستحقّ أن يوقع فيه ما ينبغي من الأفعال فصدق عليها أنّ ذلك الفعل لها.
قوله: و لا ترخّصوا لأنفسكم. إلى قوله: المعصية [المصيبة خ].
أقول: ليس المقصود بالرخصة هنا الرخصة الشرعيّة بل ما يتساهل الإنسان فيه مع نفسه من تنويع المآكل و المشارب و المناكح و الخروج فيها إلى ما لا ينبغي في نفس الأمر و يتأوّل له تأويلا و حيلة يخيّل أنّها جايزة في الشريعة و يروّج بها اتّباعه لهواه، و نحوه الاجتماع في السماع لغير أهله، و حضور مجالس الفسّاق، و معاشرة الظالمين. و الضابط الكلّى في هذا الباب هو توسّع الإنسان في الامور المباحة و استيفاؤه حدّه فإنّه من فعل ذلك شارف المكروه ثمّ ربما لحظ أنّه لا عقاب في فعله فقادته شهوته إلى فعله فاستوفى حدّه فشارف المحظور، و ذلك أنّ العقل إذا أطاع النفس الأمّارة بالسوء فيما تأمر به مرّة و مرّة لم يبق له نفار عمّا تقوده إليه لوقوع الانس به. و ظاهر أنّ ارتكاب بعض مأموراتها يجرّ إلى ارتكاب بعض فيؤدّى ذلك إلى تجاوز الحدود الشرعيّة و عبورها إلى الوقوع في حبائل الشيطان و التهوّر في المحظورات الّتى هى مهاوى الهلاك، و لذلك ما ورد في الخبر: من رتع حول الحمى أو شك أن يقع فيه و قد شبّه العارفون القلب بالحصن و الشيطان بعدّ و يريد أن يدخله و لم يمكن دفع ذلك العدوّ و التحفّظ منه إلّا بضبط أبواب ذلك الحصن الّتى منها الدخول إليه و حراستها و هى أبواب كثيرة كساير المحرّمات و مساهلة النفس في التوسّع في المباحات و الدخول في الامور المشتبهة من أعظم تلك الأبواب و دخول الشيطان منه أسهل و هو عليه أقدر و لذلك قال عليه السّلام: فتذهب بكم الرخص فيها مذاهب الظلمة، و لا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية [المصيبة خ]. و مذاهب الظلمة مسالكها و طرقها العادلة من العدول، و روى: أنّ إبليس ظهر ليحيى بن ذكريّا عليه السّلام فرأى عليه معاليق كلّ شيء فقال له: يا إبليس ما هذه المعاليق قال: هذه هى الشهوات الّتى اصيب بهنّ قلوب بنى آدم فقال: هل بى فيها شيء قال: نعم ربّما شبعت فشغلناك عن الصلاة و عن الذكر قال: هل غير ذلك قال: لا قال: للّه علىّ أن لا أملأ بطنى من طعام أبدا فقال إبليس: للّه علىّ أن لا أنصح مسلما أبدا. و لا تداهنوا: أى لا تسالموا الظلمة و تساهلوا معهم في السكوت عما ترونه من منكراتهم فيهجم بكم الإدهان على المعصية: أى إذا آنستم بمشاهدة المعاصى و ألفتم تكرارها كنتم بذلك عصاة و ربّما ساقكم ذلك إلى فعل المنكر و مشاركتهم فيه.
و قوله: عباد اللّه. إلى آخره إخبارات في معنى الأوامر و النواهى
و قوله: عباد اللّه. إلى آخره إخبارات في معنى الأوامر و النواهى و أوامر و نواهى صريحة مشتملة على جواذب إلى طاعة اللّه و لزوم دينه.
فالأوّل: قوله: إنّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربّه
و بيانه أنّه لمّا كان غرض الناصح إنّما هو جلب الخير و المنفعة إلى المنصوح، و كان أجّل خير و منفعة هو السعادة الباقية الأبديّة و مشاهدة الحضرة الربوبيّة، و كانت تلك السعادة إنّما تنال بطاعة اللّه تعالى فكلّ من كانت طاعته للّه أتمّ فكان هوأنصح الناس لنفسه بمبالغته في طاعته.
الثاني: قوله: و إنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه
و هو ظاهر ممّا قرّرناه فإنّه لمّا كانت غاية الغشّ إنّما هو جلب الشرّ و المضرّة إلى المغشوش، و كان أعظم شرّ و ضرر يلحق العبد هو الشقاوة الأبديّة في قرار الجحيم، و كانت تلك إنّما يحصل الإنسان عليها بمعصية اللّه تعالى فكلّ من كانت معصيته أتمّ كانت شقاوته أتمّ فكانت هو أغشّ الناس لنفسه بمبالغته في معصيته. و حاصل القضيّة الاولى الأمر بالطاعة أتمّ ما يمكن و الثانية النهى عن المعصية أتمّ ما يمكن. و رغّب في الطاعات بذكر نصيحة النفس لما أنّ النصيحة محبوبة و نفّر عن المعصية بذكر غشها.
الثالث: قوله: و المغبون من غبن نفسه
و المراد من غبنها بالمعصية المستلزمة لدخول النار فكأنّ الإنسان بمتابعة شيطانه خادع لنفسه، و قد بخسها ما تستحقّه من ثواب اللّه، و لمّا كانت السعادة الاخرويّة أعظم ما يتنافس فيه لا جرم كان أعظم مغبون من لم يفز بها فلذلك حصر المغبون فيه على طريق المبالغة و هو خبر في معنى النهى عن المعصية، و نفّر عنها بذكر غبن النفس.
الرابع: قوله: و المغبوط من سلم له دينه
و الغبطة أن يتمنّى الإنسان مثل ما لغيره من حال أو مال مع قطع النظر عن تمنّى زوال تلك الحال عمّن هى له، و بهذا القيد يتميّز عن الحسد، و القضيّة ظاهرة ممّا قبلها فإنّه لمّا كان من سلم دينه فائزا بالسعادة الكبرى الباقية مع كونها أجلّ ما يغبط به و يتنافس فيه لا جرم كان هو أعظم مغبوط و لذلك حصر المغبوط فيه مبالغة، و رغّب في المحافظة على الدين بكون من سلم له مغبوطا.
الخامس: قوله: و السعيد من وعظ بغيره
و قد صارت هذه القضيّة في معنى المثل: أى السعيد في الآخرة من اعتبر حال غيره فشاهد بعين بصيرته مصير الظالمين فخاف عاقبتهم فعدل عن طريقهم و تذكّر حال المتّقين فمال إلى جادّتهم و سلك مسالكهم و رغّب في الاتّعاظ بالغير بذكر استلزامه للسعادة.
السادس: و كذلك الشقىّ في الآخرة
من انخدع لهواه و غروره و نفّر عن اتّباع الهوى بذكر الخداع و الغرور.
السابع: التنبيه على أنّ يسير الرياء شرك
و قد سبق منّا بيان أنّ الرياء في العبادة و إن قلّ التفات مع اللّه إلى غيره و إدخال له بالقصد بالعمل و الطاعة و ذلك في الحقيقة شرك خفىّ اتّفقت عليه أرباب القلوب.
الثامن: قوله: و مجالسة أهل الهوى منساة للايمان و محضرة للشيطان
أراد بأهل الهوى الفسّاق المنقادين لدواعى الشيطان إلى الشهوات الخارجة عن حدود اللّه، و نفّر عن مجالستهم بأنّها محلّ للأمرين: أحدهما: نسيان الإيمان و هو ظاهر فإنّ أهل الهوى أبدا مشغولون بذكر ما هم فيه من لعب و لهو خائضون في أصناف الباطل و. أنواعه فمجالستهم عن رغبة مظنّة الغفلة عن ذكر اللّه و الانجذاب إلى ما هم عليه عن الأعمال الصالحة و تلك أركان الإيمان و قواعده، و قد علمت أنّ كثرة الغفلات عن الشيء تؤول إلى نسيانه و انمحائه عن لوح الخيال و الذكر، و ربّما يتجوّز في مطلق الغفلة عن أوقات العبادة والذكر بالنسيان تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. الثاني: كونها محلّا لحضور الشيطان، و قد علمت معنى الشيطان و أنّ كلّ محلّ عصى اللّه فيه فهو محضر للشيطان و موطن له.
التاسع: الأمر بمجانبة الكذب
و نفّر عنه بقوله: فإنّه مجانب للإيمان، و هو حديث نبويّ، و معنى المجانبة كون كلّ منهما في جانب فإن كانت الأعمال الصالحة داخلة في مسمّى الايمان فالصدق من جملتها و مضادّ الصدق مضادّ للايمان و أحد الضدين مجانب للآخر فالكذب مجانب للايمان، و إن لم يكن كذلك قلنا: إنّ الكذب أعظم الرذائل الموبقة، و الايمان أعظم الفضايل المنقذة، و بين الفضايل و الرذائل منافاة ذاتيّة فالكذب مناف للايمان و مجانب له، و يحتمل أن يكون معنى مجانبته له كونه غير لايق أن يجامعه في محلّ واحد و غير مناسب له. و بالجملة كونه ليس منه في شيء، و قد بيّنا ما يشتمل عليه الكذب من المضارّ المهلكة، ثمّ أردف ذلك بالترغيب في الصدق بكون الصادق على شرف منجاة: أى مشارف لنجاة و كرامة أو لمحلّهما و هو الجنّة إذ الصدق باب من أبوابها ثمّ بالتنفير عن الكذب بكون الكاذب على شرف مهواة و مهانة: أى هوى و هوان أو محلّهما و هو حضيض الجحيم الّذى هو محلّ الهوان إذ الكذب باب من أبوابها، و من انتهى إلى الباب فقد شارف الدخول، و عن الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إيّاكم و الكذب فإنّه يهدى إلى الفجور، و إنّ الفجور يهدى إلى النار، و إنّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابا، و عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدى إلى البرّ و إنّ البرّ يهدى إلى الجنّة و إنّ الرجل ليتحرّى الصدق حتّى يكتب عند اللّه مصداقا، و قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الكذب رأس النفاق. و هو ظاهر فإنّ مدار النفاق على المصانعة بالقول الغير المطابق لما في نفس الأمر و هو حقيقة الكذب.
العاشر: النهى عن الحسد
و قد اتّفق أرباب القلوب على أنّه من أعظم أبواب الشيطان الّتى يدخل بها على القلب و هو أحد العوارض الرديئة للنفس و يتولّد من اجتماع البخل و الشريّة في النفس، و أعنى بالشرير من تلتذّ طباعها بمضارّ تقع بالناس و يكره ما يوافقهم و إن كانوا ممّن لا يرونه و لم يسيئوا إليه، و قد علمت أنّ من هذه صفته مستحقّ للمقت من اللّه عزّ و جلّ و ذلك أنّه مضادّ لإرادته إذ هو تعالى المتفضّل على المزيد للخيرالمطلق للكلّ. و قد رسّم الحسد بأنّه اغتمام الإنسان بخير يناله غيره من حيث لا مضرّة منه عليه، و قد يوجد الحسد ممّن له نفع ما من المحسود، و يسمّى الحسد البالغ. و أمّا تعليله وجوب تركه بأنّه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب: فاعلم أنّ العلماء قد اتّفقوا على أنّ الحسد مضرّ بالنفس و الجسد: أمّا بالنفس فلأنّه يذهلها و يغرق فكرها بالاهتمام بأمر المحسود حتّى لا يفرغ للتصرّف فيما يعود نفعه عليها بل و ينسى ما حصلت عليه من الملكات الخيريّة الّتى هى الحسنات المنقوشة في جوهرها و يضمحلّ على طول تعوّد الحسد و اشتغال الفكر فيه و طول الحزن و الهمّ لأنّ نعم اللّه على عباده أكثر من أن تحصى فإذا كان الحسد بها دام فانقطع وقت الحاسد به عن تحصيل الحسنات، و أمّا بالجسد فلأنّه يعرض له عند حدوث هذه الأعراض للنفس طول السهر و سوء الاغتذاء و يعقّب ذلك رداءة اللون و سوء السجيّة و فساد المزاج.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه قد استعار هاهنا لفظ الأكل لكون الحسد ماحيا لما في النفس من الخواطر الخيريّة الّتى هى الحسنات و مانعا من صيرورتها ملكات و ذلك بسبب استغراقها في حال المحسود و اشتغالها به، و شبّه ذلك بأكل النار الحطب. و وجه الشبه ما يشترك فيه الحسد و النار من إفناء الحسنات و الحطب و استهلاكهما.
الحادى عشر: النهى عن التباغض
و تعليله ذلك بأنّها الحالقة، و اعلم أنّه لمّا كان أمر العالم لا ينتظم إلّا بالتعاون و التضافر، و كان التعاون إنّما يتمّ بالالفة و كان أقوى أسباب الالفة هو المودّة و المؤاخاة بين الخلق كانت المودّة من المطالب المهمّة للشارع، و لذلك آخا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، بين أصحابه لتخلص محبّتهم و تصفو الفتهم و يصدق بينهم التعاون و التضافر و الاتّحاد في الدين، و قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: المرء كبير بأخيه و لا خير فى صحبة من لا يرى لك من الحقّ مثل ما ترى له. فلذلك كان التباغض بينهم منهيّا عنه مكروها في الشريعة لما يستلزمه من التقاطع بينهم و عدم تعاونهم و تضافرهم، و بسبب ذلك تتخطّف كلّا منهم أيدى حاسديه و تتحكّم فيه أهواء أعاديه فلم تسلم له نعمة و لا تصفو له مدّة بل يكون بذلك بواره و اضمحلال النوع و هلاكه، و لذلك قال عليه السّلام: فإنّها الحالقة. و أصل هذا اللفظ مستعار ممّا يحلق الشعر كالموسى و نحوها للدواهى وأسباب الشرّ ثمّ صار مثلا و قد وقع هاهنا موقعه من الاستعارة، و وجه المشابهة أنّ الموسى مثلا كما أنّها سبب لحلق الشعر و استيصاله كذلك التباغض سبب لاستيصال الخلق بعضهم بعضا.
الثاني عشر: التنبيه على مضارّ الأمل للدنيا
تنفيرا عنه و الأمر بتكذيبه المستلزم للنهى عنه. فأمّا مضارّه: فأحدها: أنّه يوجب سهو العقل: أى عمّا هو الأولى بالإنسان في معاشه و معاده و هو ظاهر فإنّ الآمل أبدا مشغول الفكر بما يأمله و يرجوه و في كيفيّة تحصيله و كيفيّة العمل به بعد حصوله و شغله بذلك يستلزم إعراضه عن غيره إذ ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه. الثانية: أنّه ينسى الذكر: أى ذكر اللّه تعالى بعد الموت من أحوال الآخرة، و ذلك باستغراقه فيما يأمله من أحوال الدنيا كما مرّ. الثالثة: أنّه غرور و صاحبه مغرور، و روى بفتح الغين من غرور و ضمّها، و وجه الفتح أنّ الأمل ليس هو نفس الغفلة عن الذكر و غيره بل مستلزم لها فلذلك صدقت نسبة الغرور إليه، و وجه الضمّ أنّه مجاز من باب إطلاق اسم اللازم على ملزومه، و أمّا تكذيبه فبذكر الموت و دوام إخطاره بالبال و ملاحظة المرجع و المعاد، و إنّما سمىّ ردّ الأمل تكذيبا له لأنّ النفس حال توقّعها للمأمول تكون حاكمة حكما و هميّا ببلوغه و نيله فإذا رجعت إلى صرف العقل و ملاحظة الموت و جواز الانقطاع به عن بلوغ مارجته كان تجويزها ذلك مكذّبا لما جزم به الوهم من الأحكام و رادّا له. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ،ج 2 صفحهى 280