خطبه 192 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

أَيُّهَا النَّاسُ- لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ- فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ- وَ جُوعُهَا طَوِيلٌ- أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَ السُّخْطُ- وَ إِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ- فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا- فَقَالَ سُبْحَانَهُ فَعَقَرُوها
فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ- فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ خَارَتْ أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ- خُوَارَ السِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ فِي الْأَرْضِ الْخَوَّارَةِ- أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ- وَ مَنْ خَالَفَ وَقَعَ فِي التِّيهِ

اللغة

أقول: السكّة: الحديدة تكون في رأس خشبة الفدّان تثار بها الأرض.

و خوارها: صوتها في الأرض.

و الأرض الخوّارة: الضعيفة.

و حاصل الفصل ترغيب أصحابه السالكين لطريق الهدى في البقاء على ما هم عليه

بذكر كونه طريق الهدى، و من العادة أن يستوحش الناس من الوحدة و قلّة الرفيق في الطريق الطويل الصعب فنهى عن الاستيحاش في تلك الطريق، و كنّى به عمّا عساه يعرض لبعضهم من الوسوسة بأنّهم ليسوا على حقّ لقلّتهم و كثرة مخالفيهم لأنّ قلّة العدد في الطريق مظنّة الهلاك و السلامة مع الكثرة و نحو ذلك فنبّههم على أنّهم في طريق الهدى و إن كانوا قليلين. و قوله: فإنّ الناس اجتمعوا. إلى قوله: طويل. تنبيه على علّة قلّة أهل الهدى و هو اجتماع الناس على الدنيا، و استعار لها لفظ المائدة ملاحظة لشبهها بها في كونها مجتمع اللذّات، و كنّى عن قصر مدّتها بقصر شبعها، و عن استعقاب الانهماك فيها للعذاب الطويل في الآخرة بطول جوعها، و لفظ الجوع مستعار للحاجة الطويلة بعد الموت إلى المطاعم الحقيقيّة الباقية من الكمالات النفسانيّة الفانية بسبب الغفلة في الدنيا فلذلك نسب الجوع إليها، و يحتمل أن يكون مستعارا لما تتلهّف عليه النفس و تتأسّف بعد المفارقة من اللذّات الدنيويّة الّتي لا تحصل عليها بعد الموت أبدا فيطول جوعها منها، و راعى المقابلة فالجوع بإزاء الشبع و الطول بإزاء القصر.

و قوله: أيّها الناس. إلى قوله: السخط. أى إنّما يجمع الناس في عذاب اللّه رضاهم بالمنكرات و معاصى اللّه و إن‏ لم يباشرها أكثرهم و سخطهم لمحابّه من الأعمال، و مصداق ذلك قصّة ثمود في عموم العذاب لهم بفعل عاقر الناقة فإنّهم بأسرهم ما فعلوا ذلك مع نسبة الفعل إلى جميعهم كما قال تعالى «فَعَقَرُوها» الآية و عمّتهم العقوبة لمّا عمّوه بالرضى، و الضمير في عمّوه يعود إلى الرجل أو إلى العقر الّذي دلّ عليه قوله: عقر: أى لمّا عمّوا فعله برضاهم به، و إليه الإشارة بقوله تعالى «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»«» و ظاهر أنّ الراضى بفعل شريك فاعله و في قوّته، و كذلك إنّما يجمع اللّه الناس في رحمته باجتماعهم على الرضا بمحابّه و السخط لمكارهه.

فقوله: فما كان إلّا أن خارت أرضهم. إلى قوله: الخوّارة. تفسير للعذاب اللاحق لهم المشار إليه بقوله: فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب، و قد فسّره القرآن الكريم أيضا في قوله «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ»«» فبيّن عليه السّلام كيفيّة ذلك و شبّه صوت أرضهم في خسوفها و ذهابها في الأرض بصوت السكّة المحماة في الأرض عند الحرث بها، و إنّما زادها صفة المحماة تنبيها على قوّة تصويتها و سرعة غوصها لأنّ المحماة يكون لها في الأرض نشيش زائد على ما يقتضيه حركتها و يعينها الحمى على النفوذ. فأمّا قصّة ثمود فالمنقول أنّهم خلف عاد في الأرض بعد هلاكهم عنها فكثروا و عمّروا أعمارا طويلة حتّى كان الرجل يبنى المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتّوا البيوت في الجبال و كانوا في سعة و رخاء من العيش فعتوا عن أمر اللّه و أفسدوا في الأرض و عبدوا الأوثان. فبعث اللّه إليهم صالحا و كانوا قوما عربا و صالح من أوسطهم نسبا فدعاهم إلى اللّه فلم يتّبعه إلّا قليل منهم مستضعفون فحذّرهم و أنذرهم فسألوه آية فقال: أيّة آية تريدون. فقالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم من السنة تدعو إلهك و ندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتّبعناك و إن استجيب لنا اتّبعتنا. فقال: نعم. فخرج معهم و دعوا أربابهم و سألوها فلم تجب.

فقال كبيرهم و أشار إلى صخرة مفردة في ناحية الجبل يسمّونها الكاثبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة جوفاء و براء فإن فعلت صدّقناك و أجبناك. فأخذ عليهم‏ المواثيق بذلك. ثمّ صلّى و دعا ربّه فتمخّضت الصخرة كما تمخّض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء و براء كما يطلبون، و عظماؤهم ينظرون. ثمّ نتجت ولدا مثلها في العظم. فآمن به رئيسهم و نفر من قومه و منع أعقابهم ناس من رؤسائهم أن يؤمنوا. فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر و تشرب الماء و كانت ترد غبّا فإذا كان يوم شربها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتّى تشرب كلّ ماء فيها. ثمّ تفجّج فيحلبون ما شاءوا حتّى تمتلى أوانيهم فيشربون و يدّخرون. فإذا وقع الحرّ تصيّفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه، و إذا وقع البرد تشتّت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشقّ ذلك عليهم، و زيّنت لهم عقرها امرأتان: عنيزة امّ غنم و صدقة بنت المختار كانتا كثيرتى المواشى لمّا أضرّت بمواشيهما.

فعقرها قدار الأحمر و اقتسموا لحمها و طبخوه فانطلق سقبها حتّى رقى جبلا يقال له غارة فرغا ثلاثا و كان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه و انفجّت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: تصبحون غدا و وجوهكم مصفرّة و بعد غد و هي محمّرة و اليوم الثالث و هي مسوّدة.

ثمّ يغشاكم العذاب. فلمّا رأوا العلامات همّوا بقتله فأنجاه اللّه إلى أرض فلسطين. فلمّا كان اليوم الرابع و ارتفع الضحى تحنّطوا بالصبر و تكفّنوا بالأنطاع فأتتهم الصيحة و خسف شديد و زلزال فتقطّعت قلوبهم فهلكوا. و باللّه العصمة و التوفيق هذا آخر المجلّد الثالث من هذا الكتاب تمّ ثالث أجزاء الكتاب من الأجزاء الخمسة على ما جزئه الشارح المحقّق- قدّس سرّه- في أحسن وضع و على أنقى ورق و بأجود طباعة و يليه الجزءان الآخران- إنشاء اللّه تعالى- و لو تدرى نفس ما يتحمّله المقدم من الصعوبة في تهذيب طباعة كتاب لعبت به يد الأيّام و حرّفته أقلام الجهلة لقبل ذلك عذرا فيما يؤخذ على الناشر، أو ليحثّه أن يغفر ما له من الذنب.
و عليه سبحانه التوكّل و به العصمة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 473

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.