خطبه 109 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام ذكر فيها ملك الموت

هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلًا- أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً- بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى‏ الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ- أَ يَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا- أَمْ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا- أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا- كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ- مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ

المعنى
أقول: هذا الفصل من خطبة طويلة ذكره في معرض التوحيد و التنزيه للّه تعالى عن اطّلاع العقول البشريّة على كنه وصفه فقدّم التنبيه بالاستفهام على سبيل الإنكار عن الإحساس به في دخوله منازل المتوفّين و ذلك قوله: هل تحسّ به. إلى قوله: أحدا. و نبّه باستنكار الإحساس به على أنّه ليس بجسم. إذ كان كلّ جسم من شأنه أن يحسّ بإحدى الحواسّ الخمس. ثمّ عن كيفيّة توفّيه للجنين في بطن امّه و هو استفهام من قبيل تجاهل العارف بالنسبة إليه، و ذلك قوله: بل كيف يتوفّى الجنين.

إلى قوله: في أحشاها. و جعل الحقّ من هذه الأقسام في الوسط و هو إجابتها بإذن ربّها ليبقى الجاهل في محلّ الحيرة متردّدا. ثمّ لمّا بيّن أنّ ملك الموت لا يتمكّن الإنسان من وصفه نبّه على عظمة اللّه سبحانه بالنسبة إليه، و أنّه إذا عجز الانسان عن وصف مخلوق مثله فبالأولى أن يعجز عن صفة خالقه و مبدعه الّذي هو أبعد الأشياء عنه مناسبة، و تقدير البيان بذلك التنبيه أنّ العبد عاجز عن صفة مخلوق مثله لما بيّناه من العجز عن صفة ملك الموت و حاله، و كلّ من عجز من صفة مخلوق مثله فهو من صفة خالق ذلك المخلوق و مبدعه أشدّ عجزا. و لنشر إشارة خفيفة إلى حقيقة الموت و إلى ما عساه يلوح من وصف ملك الموت إنشاء اللّه تعالى.

فنقول: أمّا حقيقة الموت: فاعلم أنّ الّذي نطقت به الأخبار و شهد به الاعتبار أنّ الموت ليس إلّا عبارة عن تغيّر حال، و هو مفارقة الروح لهذا البدن الجارى مجرى الآلة لذي الصنعة، و أنّ الروح باقية بعده كما شهدت به البراهين العقليّة في مظانّها، و الآثار النبويّة المتواترة. و معنى مفارقتها له هو انقطاع تصرّفها فيه لخروجه عن حدّ الانتفاع به فما كان من الامور المدركة لها تحتاج في إدراكه إلى آلة فهى متعطّلة عنه بعد مفارقة البدن إلى أن تعاد إليه في القبر أو يوم القيامة، و ما كان مدركا لها لنفسها من غير آلة فهو باق معها يتنعّم به و يفرح أو يحزن من غير حاجة إلى هذه الآلة في بقاء تلك العلوم و الإدراكات الكلّيّة لها هناك. و قد ضرب للمفارقة الّتي سمّيناها بالموت مثلا: فقيل: كما أنّ بعض أعضاء المريض متعطّل بحسب فساد المزاج يقع فيه أو بحسب شدّة تعرّض للأعصاب فتمنع نفوذ الروح فيها فتكون النفس مستعملة لبعض الأعضاء دون ما استقصى عليها منها فكذلك الموت عبارة عن استقصاء جميع الأعضاء كلّها و تعطّلها، و حاصل هذه المفارقة يعود إلى سلب الإنسان عن هذه الأعضاء و الآلات و القينات الدنيويّة من الأهل و المال و الولد و نحوها، و لا فرق بين أن تسلب هذه الأشياء عن الإنسان أو يسلب هو عنها. إذ كان المولم هو الفراق، و قد يحصل ذلك بنهب مال الرجل و سبى ذريّته، و قد يحصل بسلبه و نهبه عن ماله و أهله. فالموت في الحقيقة هو سلب الانسان عن أمواله بإزعاجه إلى عالم آخر فإن كان له في هذا العالم شي‏ء يأنس به و يستريح إليه فبقدر عظم خطره عنده يعظم تحسّره عليه في الآخرة و تصعب شقاوته في مفارقته، و يكون سبب عظم خطره عنده ضعف تصوّره لما اعدّ للأبرار المتّقين في الآخرة ممّا يستحقر في القليل منه أكثر نفائس الدنيا. فأمّا إن كانت عين بصيرته مفتوحة حتّى لم يفرح إلّا بذكر اللّه و لم يأنس إلّا به عظم نعيمه و تمّت سعادته. إذ خلّى بينه و بين محبوبه فقطع علائقه و عوائقه الشاغلة له عنه و وصل إليه و انكشف له هناك ما كان يدركه من السعادة بحسب الوصف انكشاف مشاهدة كما يشاهدالمستيقظة من نومه صورة ما رآه في النوم.

و الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. إذا عرفت ذلك فاعلم أن ملك الموت عبارة عن الروح المتولّى لإفاضة صورة العدم على أعضاء هذا البدن و لحال مفارقة النفس له، و لعلّه هو المتولّى لإفاضة صورة الوجود عليها لكنّه بالاعتبار الأوّل يسمّى ملك الموت. ثمّ لمّا كانت النفوس البشريّة إنّما تدرك المجرّدات ما دامت في هذا العالم و تستثبتها بأن تستصحب القوّة المتخيّلة معها فيتحاكى ما كان محبوبا منها للنفس و مستبشرا بلقائه بصورة بهيّة كتصورّها لجبرئيل في صورة دحية الكلبىّ و غيره من الصور البهيّة الحسنة، و ما كان مستكرها مخوفا منفورا من لقائه بصورة هائلة لاجرم اختلف رؤية الناس لملك الموت فمنهم من يراه على صورة بهيّة و هم المستبشرون بلقاء اللّه الّذين قلّت رغبتهم في الدنيا و رضوا بالموت ليصلوا إلى لقاء محبوبهم و فرحوا به لكونه وسيلة إليه كما روى عن إبراهيم عليه السّلام أنّه لقى ملكا فقال له: من أنت فقال: أنا ملك الموت. فقال له: أ تستطيع أن ترينى الصورة الّتى تقبض فيها روح المؤمن قال: نعم أعرض عنّى فأعرض عنه فإذا هو شابّ فذكر من حسنه و ثيابه (شبابه خ) و طيب ريحه فقال: يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن من البشرى إلّا حسن صورتك لكان حسبه، و منهم من يراه على صورة قبيحة هائلة المنظر و هم الفجّار الّذين أعرضوا عن لقاء اللّه و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنّوا بها كما روى عن إبراهيم عليه السّلام أيضا أنّه قال لملك الموت: فهل تستطيع أن ترينى الصورة الّتى تقبض فيها روح الفاجر فقال: لا تطيق ذلك. فقال: بلى قال: فأعرض عنّى فأعرض عنه. ثمّ التفت إليه فإذا هو رجل أسود قائم الشعر منتن الريح أسود الثياب يخرج من فيه و مناخره النار و الدخان فغشى على إبراهيم عليه السّلام.

ثمّ أفاق، و قد عاد ملك الموت إلى حالته الاولى فقال: يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند موته إلّا هذه الصورة لكفته. و باللّه التوفيق.


شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 90

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.