و من خطبة له عليه السّلام
وَ لَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ص- أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ- وَ لَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ- الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ- وَ تَتَأَخَّرُ فِيهَا الْأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا- وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ص وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي- وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي- وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ ص وَ الْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي- فَضَجَّتِ الدَّارُ وَ الْأَفْنِيَةُ- مَلَأٌ يَهْبِطُ وَ مَلَأٌ يَعْرُجُ- وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ- يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ- فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً- فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ- وَ لْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ- فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ- وَ إِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ- أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَ لَكُمْ
اللغة
أقول: الهيمنة: صوت خفىّ يسمع و لا يفهم.
و حاصل الفصل: التنبيه على فضيلته لغاية قبول قوله فيما يأمرهم به.
فذكر منها: أنّه لم يردّ على اللّه و على رسوله في وقت قطّ
فيما صدر من الأمر عنهما، و استشهد على ذلك بما علمه منه المستحفظون من الصحابة و هم العلماء و أهل الدين الّذين استحفظوا كتاب اللّه و دينه: أى جعلوا حفظة له و اودعوا إيّاه، و قال بعض الشارحين: و فيه ايماء إلى ما كان يفعله بعض الصحابة من التسرّع بالقول و الاعتراض على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مواضع كما نقل عن عمر يوم الحديبيّة عند سطر كتاب الصلح أنّه أنكر ذلك و قال لرسول اللّه: ألسنا على الحقّ قال: بلى. قال: أو ليسوا الكاذبين. قال: بلى. قال: فكيف تعطى الريبة في ديننا. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أنا أعمل بما اومر به. فقام عمر فقال لقوم من الصحابة: ألم يكن قد وعدنا اللّه بدخول مكّة و ها نحن قد صددنا عنها ثمّ ننصرف بعد أن اعطينا الريبة في ديننا و اللّه لو وجدت أعوانا لم اعط الريبة أبدا. فقال له ابو بكر: ويحك الزم غزوه فو اللّه إنّه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أنّ اللّه لا يضيّعه. ثمّ قال له: أقال لك: إنّه سيدخل مكّة هذا العام. فقال: لا. قال: فسيدخلها. فلمّا فتح النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم مكّة و أخذ مفاتيح الكعبة دعاه. فقال: هذا الّذي وعدتم به.
و منها: مواساته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بنفسه و هو ممّا اختصّ به عليه السّلام،
و ذلك في مواطن: فثبت معه يوم احد و فرّ الناس. روى المحدّثون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا ارتثّ يوم احد، و نادى الناس قتل محمّد رأته كتيبة من المشركين و هو صريع بين القتلى إلّا أنّه حيّ فصمدت له. فقال لعلىّ: اكفنى هذه. فحمل عليها فهزمها و قتل رئيسها: ثمّ صمدت له اخرى. فقال يا على: اكفنى هذه فحمل عليها و قتل رئيسها.
ثمّ صمدت له ثالثة فكذلك. فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: قال لى جبرئيل حينئذ: يا محمّد هذه المواساة. فقلت: و ما يمنعه و هو منّى و أنا منه. فقال جبرئيل: و أنا منكما، و روى المحدّثون أيضا أنّ المسلمين سمعوا ذلك اليوم هاتفا من قبل السماء ينادى: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا علىّ. فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم: ألا تسمعون هذا صوت جبرئيل. و كذلك ثبت معه يوم حنين في نفر يسير من بنى هاشم بعد أنّ ولّى المسلمون الأدبار، و حامى عنه، و قتل قوما من هو اذن بين يديه حتّى ثابت إليه الأنصار و انهزمت هو اذن و غنمت أموالها، و أمّا يوم خبير فقصّته مشهورة، و ذلك قوله: و لقد واسيته. إلى قوله: الأقدام. و قوله: نجدة أكرمنى اللّه بها. فالنجدة فضيلة تحت الشجاعة، و قد يعبّر بها عن الشجاعة.
و منها حاله عند ما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم
من تولّى أمره و مباشرة ما يختصّ به من الأحوال حالة وفاته من وضع رأسه على صدره، و قيل: أراد بذلك أنّ رأسه حينئذ كان على ركبتيه، و على ذلك يكون في صدره عند إكبابه عليه. و الأشبه أنّه أراد تسنيده حين اشتداد علّة موته. ثمّ سيلان نفسه في كفه و إمرارها على وجهه، و أراد بنفسه دمه يقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قاء وقت موته دما يسيرا، و أنّ عليّا عليه السّلام مسح بذلك الدم وجهه، و لا ينافي ذلك نجاسة الدم لجواز أن يخصّص دم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم كما روى أنّ أبا طيبة الحجّام شرب دمه صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين حجمه. فقال: إذن لا يتّجع بطنك، و كذلك تولّيه لغسله بإعانة الملائكة، و كان هو الّذى يغسّله و الفضل بن عباس يصّب الماء عليه، روى أنّه عصب عينى الفضل حين صبّه الماء، و نقل عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: لا يبصر عورتى غيرك أحد إلّا عمى، و روى أنّه عليه السّلام قال: ما قلّبت عضوا إلّا و انقلب لا أجد له ثقلا كأنّ معى من يساعدني عليه، و ما ذلك إلّا الملائكة. و حيّا و ميّتا منصوبان على الحال من الضمير المجرور في به، و أمّا دفنه فتنازع الصحابة في أنّه يلحد أو يضرح فأرسل العبّاس إلى عبيدة بن الجرّاح و كان يحفر لأهل مكّة و يضرح لهم على عادتهم، و أرسل إلى أبى طلحة الأنصارى و كان يلحد لأهل المدينة على عادتهم فقال: اللهم اختر لنبيّك فجاء أبو طلحة فلحد له، و تنازعوا فيمن يدخل القبر معه فقال على عليه السّلام: لا ينزل معه أحد غيرى و غير العبّاس. ثمّ أذن في نزول الفضل و اسامة بن زيد. ثمّ ضجّت الأنصار و سألوا أن ينزل منهم رجل فأنزلوا أوس بن خولىّ و كان بدريّا، و قد يعبّر بالضريح عن القبر فيكون أعمّ من الشقّ و اللحد.
فأمّا ضجيج الدار و الأفنية بأصوات الملائكة ملأ يهبط منهم و ملأ يصعد بحيث لا يفارق هينمتهم سمعه في حال صلاتهم عليه إلى أن واراه في ضريحه. فقد عرفت كيفيّة سماع البشر لأصوات الملائكة في مقدّمات الكتاب، و كذلك صلاتهم تعود إلى وساطتهم في إفاضة الرحمة من اللّه تعالى على العباد، و كذلك علمت معنى الصعود و الهبوط منهم فيما سبق.
و اعلم أنّ حمل الكلام على ظاهره عند الإمكان أولى من التعسّف في التأويل، و ذكر هذه الفضيلة بهذه المقامات تجرى مجرى صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل استدلّ به على أنّه لا أحقّ منه به. و تقدير كبراه: و كلّ من كان ذلك معه صلّى اللّه عليه و آله و سلم. فهو أحقّ به. و حينئذ يتبيّن أنّه لا أحقّ به منه، و أراد أنّه لا أحقّ بالمنزلة و القرب منه. ففى حياته بالاخوّة و الوزارة، و بعد موته بالوصيّة و الخلافة إذ لا يريد أنّه أحقّ بذاته فبقى أن يريد كونه أحقّ به في المنزلة و ولاية أمره بعده. ثمّ عقّب ذكر فضيلته بأمرهم أن يمضوا في جهاد عدوّهم على بصائرهم: أى عقايدهم أنّهم على الحقّ و أنّ عدوّهم على الباطل، و أكّد تلك العقائد بالقسم البارّ أنّه فيما يأمرهم به على طريق الحقّ، و أنّ خصومه على مزلّة الباطل، و ذكر الجادّه للحقّ جذبا إليه، و المزلّة للباطل تنفيرا عنه، و لأنّ الباطل لا طريق واضحة له بعلم حقّ أو برهان صدق كما عليه الطريق الحقّ، و باقى الكلام خاتمة الخطبة.
و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحهى 440