خطبه ۲۳۲شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
أَحْمَدُهُ شُكْراً لِإِنْعَامِهِ- وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ- عَزِيزَ الْجُنْدِ عَظِيمَ الْمَجْدِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَلَى‏ دِينِهِ- لَا يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعٌ عَلَى تَكْذِيبِهِ- وَ الْتِمَاسٌ لِإِطْفَاءِ نُورِهِ- فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ- وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ- وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ وَ امْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ- وَ أَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ- وَ كَفَى بِذَلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَ مُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ- وَ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الْأَرْمَاسِ- وَ شِدَّةِ الْإِبْلَاسِ وَ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ- وَ رَوْعَاتِ الْفَزَعِ وَ اخْتِلَافِ الْأَضْلَاعِ- وَ اسْتِكَاكِ الْأَسْمَاعِ وَ ظُلْمَةِ اللَّحْدِ- وَ خِيفَةِ الْوَعْدِ وَ غَمِّ الضَّرِيحِ وَ رَدْمِ الصَّفِيحِ- فَاللَّهَ اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ- فَإِنَّ الدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ- وَ أَنْتُمْ وَ السَّاعَةُ فِي قَرَنٍ- وَ كَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وَ أَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا- وَ وَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وَ كَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلَازِلِهَا- وَ أَنَاخَتْ بِكَلَاكِلِهَا وَ انْصَرَمَتِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا- وَ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا- فَكَانَتْ كَيَوْمٍ مَضَى أَوْ شَهْرٍ انْقَضَى- وَ صَارَ جَدِيدُهَا رَثّاً وَ سَمِينُهَا غَثّاً- فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ الْمَقَامِ وَ أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ- وَ نَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا- سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا- مُتَأَجِّجٍ سَعِيرُهَا بَعِيدٍ خُمُودُهَا- ذَاكٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ وَعِيدُهَا- عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا- حَامِيَةٍ قُدُورُهَا فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا- وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً- قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وَ انْقَطَعَ الْعِتَابُ- وَ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَ اطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ- وَ رَضُوا الْمَثْوَى وَ الْقَرَارَ- الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً- وَ أَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً- وَ كَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اسْتِغْفَارًا- وَ كَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلًا تَوَحُّشاً وَ انْقِطَاعاً- فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً وَ الْجَزَاءَ ثَوَاباً- وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها- فِي مُلْكٍ دَائِمٍ وَ نَعِيمٍ قَائِمٍ- فَارْعَوْا عِبَادَ اللَّهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ- وَ بِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ- وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ- فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ- وَ مَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ- وَ كَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الْمَخُوفُ- فَلَا رَجْعَةً تُنَالُونَ وَ لَا عَثْرَةً تُقَالُونَ- اسْتَعْمَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وَ طَاعَةِ رَسُولِهِ- وَ عَفَا عَنَّا وَ عَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ- الْزَمُوا الْأَرْضَ وَ اصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ- وَ لَا تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَ سُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ- وَ لَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَكُمْ- فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ- وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ- وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً- وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ- وَ اسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ- وَ قَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلَاتِهِ لِسَيْفِهِ- فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُدَّةً وَ أَجَلًا

اللغة

أقول:

الوظيفة: ما يقدّر للإنسان في كلّ يوم من طعام أو رزق أو عمل.

 و يثنيه: يصرفه.

و المعقل: الملجأ.

و ذروته: أعلاه.

و مهّدله: أي اتّخذ له مهادا و هو الفراش.

و الأرماس: جمع رمس و هو القبر.

و الإبلاس: الانكسار و الحزن.

و المطّلع: الاطّلاع من إشراف إلى أسفل.

و هوله: خوفه و فزعه.

و الروعة: الفزعة. و استكاك الأسماع: صممها.

و الصفيح: الحجارة العراض.

و ردمها: سدّ القبر بها.

و السنن: الطريقة.

و القرن: الحبل يقرن به البعيران.

و أشراطها: علاماتها.

و أزفت: دنت.

و أفراطها: مقدّماتها.

و منه أفراط الصبح أوائل تباشيره.

و الرثّ: الخلق.

و الغثّ: المهزول.

و الضنك: الضيق.

و الكلب: الشرّ.

و اللجب: الصوت.

و الساطع: المرتفع.

و سعيرها: لهبها.

و تأجّجه: اشتداد حرّه و وقودها بضمّ الواو: ايقادها و هو الحدث.

و ذكاه- مقصورا- : اشتعاله.

و فضاعة الأمر: شدّته و مجاوزته للمقدار.

و الزمر: الجماعات، واحدتها زمرة.

و زحزحوا: بعدوا.

و اطمأنّت: سكنت.

و المثوى: المقام.

و المآب: المرجع.

و المدينون: مجزيّون.

و إصلاته بسيفه. تجرّده به.

المعنى
و اعلم أنّه عليه السّلام أنشأ حمد اللّه على نعمائه. و نصب شكرا على المصدر عن قوله: أحمد. من غير لفظه. إذ المراد بالحمد هنا الشكر بقرينة ذكر الإنعام. ثمّ أردفه بطلب المعونة على ما وظّف عليه من حقوقه: واجباتها و نوافلها كالصلوات و العبادات الّتى ارتضاها منهم شكرا لنعمائه، و إذا اعتبرت كانت نعما تستحقّ الشكر لما يستلزمه المواظبة عليها من السعادة الحقيقيّة الباقية كما سبق بيانه. و قوله عزيز الجند. نصب على الحال و الإضافة غير محضة و العامل أستعينه، و كذلك قوله: عظيم المجد: أى أستعينه على أداء حقوقه حال ما هو بذينك الاعتبارين فإنّه باعتبار ما هو عزيز الجند عظيم المجد يكون مالك الملك قديرا على ما يشاء فكان مبدأ استعانة به على أداء وظايف حقوقه. ثمّ أردفه بشهادته برسالة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذكر أحواله الّتي كانت مبادئ لظهور الدين الحقّ ليقتدى السامعون به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تلك الأحوال.
و هي دعوته إلى الدين و مقاهرته لأعدائه و هم الكفّار على أصنافهم، و نصب جهاداعلى أنّه مصدر سدّ مسدّ الحال، أو نصب المصادر عن قوله: قاهر. من غير لفظه. إذ في قاهر معنى جاهد. و عن دينه متعلّق بجهادا إعمالا للأقرب، و يحتمل التعلّق بقاهر. و قوله: لا يثنيه. أي لا يصرفه عن دعوته و مقاهرته لأعدائه اجتماع الخلق على تكذيبه و التماسهم لإطفاء نوره، و لفظ النور مستعار لما جاء به من الكمالات الهادية إلى سبيل اللّه. ثمّ لمّا نبّههم على تلك الأحوال الّتي مبدؤها تقوى اللّه تعالى أمرهم بالاعتصام بها بقوله: فاعتصموا بتقوى اللّه كما اعتصم نبيّكم بها في إظهار دينه و مواظبته على ذلك، و لا تخافوا من عدوّ مع كثرتكم كما لا يخفّ هو مع وحدته فإنّ للتقوى حبلا وثيقا عروته من تمسّك به و اعتصم لم يضرّه عدوّ، و معقلا منيعا ذروته من لجأ إليه لم يصل إليه سوء. و لفظ الحبل و المعقل مستعاران للتقوى، و قد سبق بيان هذه الاستعارات. ثمّ أكّد ذلك الأمر بالأمر بمبادرة الموت و غمراته و معنى مبادرته مسابقته إلى الاستعداد بالأعمال الصالحة كأنّهم يسابقون الموت و غمراته و ما يلحقهم من العذاب فيه و فيما بعده إلى الاستعداد بالأعمال الصالحة فيحصّلوا بها ملكات صالحة يكون مهادا له قبل حلوله بهم كيلا يقدحهم قدحا، و يجعلونها عدّة لأنفسهم قبل نزوله عليهم يلتقونه بها كيلا يؤثّر في نفوسهم كثير أثر كأنّه يسابقهم إلى أنفسهم لينقطعهم عن ذلك الاستعداد فيكون سببا لوقوع العذاب بهم. و قوله: فإنّ الغاية القيامة. تحذير بذكر الغاية و تذكير بأهوالها الموعودة: أى فإنّ غايتكم القيامة لا بدّ لكم منها.
و لمّا كانت تلك الغاية هي لازم الموت كما قال عليه السّلام: من مات فقد قامت قيامته. كان أمره بالاستعداد للموت أمر بالاستعداد لها، و لذلك أتى بعد الأمر بالاستعداد له بقوله: فإنّ. منبّها على وجوب ذلك الاستعداد بضمير ذكر صغراه، و تقدير الكبرى: و كلّ من كانت غايته القيامة فواجب أن يستعدّ لها. و قوله: و كفى بذلك. أى بذكر الموت و غمراته و القيامة و أحوالها، و خصّص من عقل لكونه‏ المقصود بالخطاب الشرعيّ، و معتبرا: أى محلّا للاعتبار و العلم، و ظاهر كون الموت و نزوله بهذه البنية التامّة الّتي احكم بنيانها و وضعت بالوضع العجيب و الترتيب اللطيف و هدمه لها واعظا بليغا يزجر النفوس عن متابعة هواها و معتبرا تقف منه على أنّ وراء هذا الوجود وجود أعلى و أشرف منه لولاه لما عطّلت هذه البنية المحكمة المتقنة و لكان ذلك بعد إحكامها و إتقانها سفها ينافي الحكمة كما أنّ الإنسان إذا بنى دارا و أحكمها و زيّنها بزينة الألوان المعجبة فلمّا تمّت و حصلت غايتها عمد إليها فهد مها فإنّه يعدّ في العرف سفيها عابثا. أمّا لو كان غرضه من ذلك الوصول إلى غاية يحصل بوجودها وقتا ما ثمّ يستغنى عنها جاز هدمها. فكذلك هذه البنية لمّا كانت الغرض منها استكمال النفوس البشريّة بالكمالات الّتي يستفاد من جهتها و هى العلوم و مكارم الأخلاق ثمّ الانتقال منها إلى عالمها جاز لذلك خرابها و فسادها بعد حصول ذلك الغرض منها. و قوله: قبل بلوغ الغاية ما تعلمون. عطف على قوله: قبل نزوله. و قوله: من ضيق الأرماس. إلى قوله: الصفيح. تفصيل لما يعلمونه من أحوال الموت و أهواله، و ظاهر أنّ القبور ضيّقة بالقياس إلى مواطن الدنيا، و أنّ للنفوس عند مفارقتها غمّا شديدا و حزنا قويّا على ما فارقته و ممّا لاقته من الأهوال التي كانت غافلة عنها، و أنّ لما أشرفت عليه من أحوال الآخرة هولا و فزعا تطير منه الألباب و في المرفوع: و أعوذ بك من هول المطّلع.
و إنّما حسن إضافة روعات إلى الفزع و إن كان الروع هو الفزع باعتبار تعدّدها و هى من حيث هى آحاد مجموع أفراد مهيّة الفزع فجازت إضافتها إليها. و اختلاف الأضلاع كناية عن ضغطة القبر. إذ يحصل بسببها تداخل الأضلاع و اختلافها، و استكاك الأسماع ذهابها بشدّة الأصوات الهايلة و يحتمل أن يريد ذهابها بالموت. و إنّما قال: خيفة الوعد، لأنّ الوعد قد يستعمل في الشرّ و الخير عند ذكرهما قال: و لا تعداني، الخير و الشرّ مقبل. فإذا أسقطوا ذكرهما قالوا في الخير: العدة و الوعد، و في الشرّ الإيعاد و الوعيد. و هاهنا و إن سقط ذكرهما إلّا أنّ قوله: خيفة. تدلّ على وجود الشرّ فكان كالقرينة، و غمّ الضريح: الغمّ الحاصل و الوحشة المتوهّمة فيه. إذ كان للنفوس من الهيئات المتوهّمة كونها مقصورة مضيّقا عليها بعد فسح المنازل الدنيويّة و ساير ما ذكره عليه السّلام من الأهوال، و إنّما عدّد هذه الأهوال لكون الكلام في معرض الوعظ و التخويف و كون هذه الامور مخوفة منفورا عنها طبعا. ثمّ أكّد ذلك التخويف بالتحذير من اللّه و علّل ذلك التحذير بكون الدنيا ماضية على سنن: أى على طريقة واحدة لا يختلف حكمها فكما كان من شأنها أن أهلكت القرون الماضية و فعلت بهم و بآثارهم ما فعلت و صيّرتهم إلى الأحوال الّتى عدّدناها فكذلك فعلها بكم. و قوله: و أنتم و الساعة في قرن. كناية عن قربها القريب منهم حتّى كأنّهم معها في قرن واحد. و قوله: و كأنّها قد جاءت بأشراطها. تشبيه لها في سرعة مجيئها بالّتي جاءت و حضرت. و أكّد ذلك التشبيه بقد المفيدة لتحقيق المجي‏ء.
و علاماتها كظهور الدجّال، و دابّة الأرض، و ظهور المهدىّ و عيسى عليهما السّلام إلى غير ذلك. و كذلك قوله: و أزفت بأفراطها و وقفت بكم على صراطها. إلى قوله: و سمينها غثّا: أى و تحقّق وقوفها بكم على صراطها و هو الصراط المعهود فيها. و قوله: و كأنّها قد أشرفت بزلازلها. أى أشبهت فيما يتوقّع منها من هذه الأحوال في حقّكم حالها في إيقاعها بكم و تحقيقها فيكم، و استعار لفظ الكلاكل لأهوالها الثقيلة. و وصف الإناخة لهجومها بتلك الأهوال عليهم ملاحظا في ذلك تشبّهها بالناقة. و إنّما حسن تعديد الكلاكل لها باعتبار تعدّد أهوالها الثقيلة النازلة بهم. و لمّا كانت الأفعال من قوله: و أناخت.إلى قوله: فصار سمينها غثّا. معطوفا بعضها على بعض دخلت في حكم الشبه: أى و كانت الدنيا قد انصرفت بأهلها و كأنّكم قد أخرجتم من حصنها إلى آخر الأفعال.

و المشبّه الأوّل: هو الدنيا باعتبار حالها الحاضرة و المشبّه به انصرافها بأهلها و زوالهم و وجه الشبه سرعة المضىّ. أى كأنّها من سرعة أحوالها الحاضرة كالّتي وقع انصرافها. و كذلك الوجه في باقى التشبيهات. و استعار لفظ الحضن لها ملاحظة لشبهها بالآم الّتي تحضن ولدها فينتزع من حضنها. و السمين و الغثّ تحتمل أن يريد بهما الحقيقة و يحتمل أن يكنّى به عن ما كثر من لذّاتها و خيراتها و تغيّر ذلك بالموت و زواله. و قوله: في موقف. يتعلّق بصار و الموقف هو موقف القيامة. و ظاهر أنّ كلّ جديد للدنيا يومئذ رثّ. و كلّ سمين كان بها غثّ. و ضيق الموقف إمّا لكثرة الخلق يومئذ و ازدحامهم أو لصعوبة الوقوف به و طولهم مع ما يتوقّع الظالمون لأنفسهم من إنزال المكروه بهم و الامور المشتبهة العظام أهوال الآخرة. و اشتباهها كونها ملبسة يتحيّر في وجه الخلاص منها. و الاعتبار يحكم بكونها عظيمة. و ظاهر كون النار شديدة الشرّ و قد نطق القرآن الكريم بأكثر ممّا وصفها عليه السّلام به ههينا من علوّ أصواتها، و سطوح لهبها، و تغيّظ زفيرها كقوله تعالى إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ«» و قوله سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً«» و لفظ التغيّظ مستعار للنار باعتبار حركتها بشدّة و عنف كالغضبان أو باعتبار استلزام حركتها ظاهر للأذى و الشرّ. و قوله: عم قرارها. أسند العمى إلى قرارها مجازا باعتبار أنّه لا يهتدى فيه لظلمته أو لأنّ عمقها لا يوقف عليه لبعده، و لمّا استعار لفظ الحمى رشّح بذكر القدور، و ظاهر فظاعة تلك الامور و شدّتها.
و كلّ تلك الامور عدّدها في معرض التخويف لكونها مخوفة تنفيرا لما يلزم عنه من ترك التقوى و اتّباع الهوى ثمّ ساق الآية اقتباسا و نسق بعدها أحوال المتقيّن في الآخرة اللازمة عن تقويهم و هى أمنهم من العذاب و انقطاع‏ العقاب عنهم و إبعادهم عن النار و اطمينان الدار الّتي هي الجنّة بهم و رضاهم بها مثوى و قرارا ترغيبا في التقوى بذكر لوازمها. ثمّ أردف ذلك بصفات المتقيّن أيضا عمّا عساه لا يعرفها فقال: هم الّذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية: أى طاهرة من الرياء و الشرك الخفيّ، و أعينهم باكية: أى من خشية اللّه و خوف عقابه و حرمانه، و كان ليلهم في دنياهم نهارا في كونه محلّ حركاتهم في عبادة ربّهم و تخشّعهم له و استغفارهم إيّاه فأشبه النهار الّذي هو محلّ حركات الخلق. و لهذا الشبه استعار لفظ النهار للّيل و كذلك استعار لفظ الليل للنهار، و وجه الاستعارة كون النهار محلا لتوحّشهم من الخلق و انقطاعهم عنه و اعتزالهم إيّاهم كالليل الّذي هو محلّ انقطاع الناس بعضهم عن بعض و افتراقهم، و في نسخه الرضىّ- رحمه اللّه- بخطّه: كأنّ. للتشبيه رفع نهارا في القرينة الاولى، و رفع ليلا في الثانية. و وجه التشبيه هو ما ذكرناه. و كأنّه يقول: فلمّا استعدّوا بتلك الصفات للحصول على الفضائل و الكمالات و استوجبوا رضى اللّه تعالى عنهم جعل اللّه لهم الجنّة مرجعا و مآبا أعدّ فيها من جزاء النعيم ثوابا و كانوا أحقّ بها و أهلها. و هو اقتباس. و قوله: في ملك. إلى قوله: قائم. أى مقيم، تفسير للجزاء. ثمّ أكّد الأمر بالتقوى برعايتها في عبارة اخرى نبّه فيها على بعض لوازمها، و ذلك أنّ فوز الفايزين إنّما يكون بالتقوى و لزوم الأعمال الصالحات، و المبطلون هم الّذين لا حقّ معهم فهم الخارجون عن التقوى الحقّة.
و إنّما يلحقهم الخسران بالخروج عنها. و قوله: بادروا آجالكم بأعمالكم. كقوله: بادروا الموت: أى و سابقوا آجالكم بالأعمال الصالحات إلى الاستعداد بها قبل أن يسبقكم إلى أنفسكم فيقطعكم عن الاستعداد بتحصيل الأزواد ليوم المعاد، و نبّههم بقوله: فإنّكم. إلى قوله: قدّمتم. على ارتهانهم بذنوبهم السالفة و الجزاء عليها في القيامة ليسارعوا إلى فكاكها بالأعمال الصالحة و السلامة من الجزاء عليها، و لفظ المرتهن مستعار للنفوس الآثمة باعتبار تقيّدها بالسيّئة و إطلاقها بالحسنة كتقيّد الرهن المتعارف بما عليه من المال و افتكاكه بأدائه و إطلاق لفظ الجزاء على العقاب مجاز إطلاقا لاسم أحد الضدّين على الآخر. و قوله: و كأن قد نزل. هى المخفّفة من كأنّ للتشبيه، و اسمها ضمير الشأن، و المقصود تشبيه حالهم و شأنهم الحاضر بحال نزول المخوف و هو الموت بهم و تحقّقه في حقّهم الّذي يلزمه و يترتّب عليه عدم نيلهم للرجعة و إقالتهم للعثرة. ثمّ عقّب بالدعاء لنفسه و لهم باستعمال اللّه إيّاهم في طاعته و طاعة رسوله، و ذلك الاستعمال بتوفيقهم لأسباب الطاعة و إعدادهم لها و إفاضة صورة الطاعة على قواهم العقليّة و البدنيّة و جوارحهم الّتي بسببها تكون السعادة القصوى، ثمّ بما يلزم ذلك الاستعمال من العفو عن جرائمهم. و إنّما نسبها إلى فضل رحمته لكونه مبدءا للعفو و المسامحة من جهة ما هو رحيم و ذلك من الاعتبارات الّتي تحدثها عقولنا الضعيفة و تجعلها من صفات كماله كما سبق بيانه في الخطبة الاولى. ثمّ عقّب وعظهم و تحذيرهم و الدعاء لهم بأمرهم أن يلزموا الأرض و يصبروا على ما يلحقهم من بلاء أعدائهم و مخالفيهم في العقيدة كالخوارج و البغاة على الإمام بعده من ولده و الخطاب خاصّ بمن يكون بعده بدلالة سياق الكلام و لزوم الأرض كناية عن الصبر في مواطنهم و قعودهم عن النهوض لجهاد الظالمين في زمن عدم قيام الإمام الحقّ بعده عليه السّلام. و قوله: و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم في هوى ألسنتكم. نهى عن الجهاد من غير أمر أحد من الأئمّة من ولده بعده، و ذلك عند عدم قيام من يقوم منهم لطلب الأمر فإنّه لا يجوز إجراء هذه الحركات إلّا بإشارة من إمام الوقت. و هوى ألسنتهم ميلها إلى السبّ و الشتم موافقة لهوى النفوس. و الباء في بأيديكم زائدة. و يحتمل أن يكون مفعول تحرّكوا محذوفا تقديره شيئا: اى و لا تتحرّكوا لهوى ألسنتكم و لا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم من ذلك الجهاد. و قوله: فإنّه من مات منكم. إلى قوله: لسيفه. بيان لحكمهم في زمن عدم قيام الإمام الحقّ بعده لطلب الأمر و تنبيه لهم‏ على ثمرة الصبر، و هو أنّ من مات منهم على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته و الاعتراف بكونهم أئمّة الحقّ و الاقتداء بهم لحق بدرجة الشهداء و وقع أجره على اللّه بذلك و استحقّ الثواب منه على ما أتى به من الأعمال و الصبر على المكاره من الأعداء، و قامت نيّته أنّه من أنصار الإمام لو قام لطلب الأمر و أنّه معينه مقام تجرّده بسيفه معه في استحقاق الأجر. وقوله: فإنّ لكلّ شي‏ء مدّة و أجلا. تنبيه على أنّ لكلّ من دولة العدوّ الباطلة و دولة الحقّ العادلة مدّة تنقضى بانقضائها و أجل تنتهى به فإذا حضرت مدّة دولة عدوّ فليس ذلك وقت قيامكم في دفعها فلا تستعجلوا به. هذا هو المتبادر إلى الفهم من هذا الكلام. و الخطبة من فصيح خطبه عليه السّلام و قد أخذ ابن نبانة الخطيب كثيرا من ألفاظها في خطبته كقوله: شديد كلبها عال لجبها ساطعا لهبها متغيّظ زفيرها متأجّج سعيرها. إلى قوله: فظيعة امورها، و كقوله: هول المطّلع، و روعات الفزع. إلى قوله: وردم الصفيح.
فانّه أخذ كلّ هذه الألفاظ و رصّع بها كلامه. و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 202

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.