خطبه ۹۹ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام یجرى هذا المجرى.

القسم الأول
وَ ذَلِکَ یَوْمٌ یَجْمَعُ اللَّهُ فِیهِ الْأَوَّلِینَ وَ الْآخِرِینَ- لِنِقَاشِ الْحِسَابِ وَ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ- خُضُوعاً قِیَاماً قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ- وَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ- فَأَحْسَنُهُمْ حَالًا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَیْهِ مَوْضِعاً- وَ لِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً

اللغه
أقول: أشار بالیوم إلى یوم القیامه. و نقاش الحساب: المناقشه و التدقیق فیه.

المعنى
و قد عرفت کیفیّه ذلک الیوم فیما سبق و نحوه قوله تعالى «یَوْمَئِذٍ یَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِیُرَوْا أَعْمالَهُمْ»«» الآیه. و خضوعا کقوله تعالى «خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ»«» و قیاما کقوله تعالى «یَوْمَ یَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِینَ» و هما کنایه عن کمال براءتهم من حولهم و قوّتهم إذن و تیقّنهم أن لا سلطان إلّا سلطانه. و ألجمهم العرق: بلغ منهم مکان اللجام، و هو کنایه عن بلوغهم الغایه من الجهد. إذ کانت غایه التاعب أن یکثر عرقه.

و قوله: و رجفت بهم الأرض.
 کقوله تعالى «یَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ»«» و «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا»«» قال بعضهم: المراد بالأرض الراجفه و المرتجّه أرض القلوب عن نزول خشیه اللّه علیها و شدّه أهوال یوم القیامه، و قال آخرون: إنّ ذلک صرف الکلام عن ظاهره من غیر ضروره فلا یجوز. إذ کلّ ما أخبر الصادق عنه من جزئیّات أحوال القیامه امور ممکنه، و القدره الإلهیّه وافیه بها.

و قوله: فأحسنهم حالًا من وجد لقدمیه موضعا و لنفسه متّسعا.
 قیل المراد من وجدت لقدما عقله موضعا من معرفه اللّه تعالى و عبادته، و من وجد لنفسه متّسعا فی حظائر قدس اللّه وسعه رحمته. و ظاهر أنّ أولئک أحسن الخلق حالا یوم القیامه، و حمله على ظاهره موافقه لظاهر الشریعه ممکن.

القسم الثانی
و منها: فِتَنٌ کَقِطَعِ اللَّیْلِ الْمُظْلِمِ- لَا تَقُومُ لَهَا قَائِمَهٌ وَ لَا تُرَدُّ لَهَا رَایَهٌ- تَأْتِیکُمْ مَزْمُومَهً مَرْحُولَهً- یَحْفِزُهَا قَائِدُهَا وَ یَجْهَدُهَا رَاکِبُهَا- أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِیدٌ کَلَبُهُمْ- قَلِیلٌ سَلَبُهُمْ- یُجَاهِدُهُمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ قَوْمٌ أَذِلَّهٌ عِنْدَ الْمُتَکَبِّرِینَ- فِی الْأَرْضِ مَجْهُولُونَ- وَ فِی السَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ- فَوَیْلٌ لَکِ یَا بَصْرَهُ عِنْدَ ذَلِکِ- مِنْ جَیْشٍ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ- لَا رَهَجَ لَهُ وَ لَا حَسَّ- وَ سَیُبْتَلَى أَهْلُکِ بِالْمَوْتِ الْأَحْمَرِ- وَ الْجُوعِ الْأَغْبَرِ

اللغه
أقول: یحفزها: یدفعها من خلف. و الکلب: الشرّ. و الأذّله: جمع ذلیل. و الرهج: الغبار. و الحسّ: الصوت الخفىّ.

و قد نبّه فی هذا الفصل على ما سیقع بعده من الفتن، و یخصّ منها فتنه صاحب الزنج بالبصره
و شبّه تلک الفتن بقطع اللیل المظلم، و وجه الشبه ظاهر. و لا تقوم لها قائمه: أى لا یمکن مقابلتها بما یقاومها و یدفعها، و إنّما أنّث لکون القائمه فی مقابله الفتنه. و قیل: لا تثبت لها قائمه فرس، و استعار لفظ الزمام و الرحل و الحفز و القائد و الراکب و جهده لها ملاحظه لشبهها بالناقه، و کنّى بالزمام و الرحل عن تمام إعداد الفتنه و تعبیتها کما أنّ کمال الناقه للرکوب أن تکون مزمومه مرحوله، و بقائدها عن أعوانها، و براکبها عن منشئها المتبوع فیها، و بحفزها و جهدها عن سرعتهم فیها، و أهلها إشاره إلى الزنج و ظاهر شدّه کلبهم و قلّه سلبهم. إذ یکونوا أصحاب حرب و عدّه و خیل کما یعرف ذلک من قصّتهم المشهوره کما سنذکر طرفاً منها فیما یستقبل من کلامه فی فصل آخر، و قد وصف مقاتلیهم فی اللّه بکونهم أذلّه عند المتکبّرین، و کونهم مجهولین فی الأرض: أى لیسوا من أبناء الدنیا المشهورین بنعیمها، و کونهم معروفین فی السماء هو إشاره إلى کونهم من أهل العلم و الایمان‏ یعرفهم ربّهم بطاعتهم و تعرفهم ملائکته بعباده ربّهم ثمّ أردف ذلک بأخبار البصره مخاطبا لها و الخطاب لأهلها بما سیقع بها من فتنه الزنج، و ظاهر أنّه لم یکن لهم غبار و لا أصوات. إذ لم یکونوا أهل خیل و لا قعقعه لجم فإذن لا رهج لهم و لا حسّ، و ظاهر کونهم من نقم اللّه للعصاه و إن عمّت الفتنه. إذ قلّما تخصّ العقوبه النازله بقوم بعضهم کما قال تعالى «وَ اتَّقُوا فِتْنَهً لا تُصِیبَنَّ الَّذِینَ ظَلَمُوا مِنْکُمْ خَاصَّهً»«»

و قوله: و سیبتلى أهلک بالموت الأحمر و الجوع الأغبر.
 قیل: فالموت الأحمر إشاره إلى قتلهم بالسیف من قبل الزنج أو من قبل غیرهم، و وصفه بالحمره کنایه عن شدّته و ذلک لأنّ أشدّ الموت ما کان بسفک الدم. و أقول: قد فسّره علیه السّلام بهلاکهم من قبل الغرق کما نحکیه عنه و هو أیضا فی غایه الشدّه لاستلزامه زهوق الروح، و کذلک وصف الأغبر لأنّ أشدّ الجوع ما أغبرّ معه الوجه و غبر السحنه الصافیه لقلّه مادّه الغذاء أو ردائه فذلک سمّى أغبر، و قیل: لأنّه یلصق بالغبراء و هى الأرض، و قد أشار إلى هذه الفتنه فی فصل من خطبته خطب بها عند فراغه من حرب البصره و فتحها و هى خطبه طویله حکینا منها فصولا تتعلّق بالملاحم.

من ذلک فصل یتضمن حال غرق البصره. فعند فراغه علیه السّلام من ذلک الفصل قام إلیه الأحنف بن قیس فقال له: یا أمیر المؤمنین و متى یکون ذلک. قال: یا أبا بحر إنّک لن تدرک ذلک الزمان و إنّ بینک و بینه لقرونا و لکن لیبلغ الشاهد منکم الغائب عنکم لکى یبلغوا إخوانهم إذا هم رأوا البصره قد تحوّلت أخصاصها دورا و آجامها قصورا فالهرب الهرب فإنّه لا بصیره لکم یومئذ ثمّ التفت عن یمینه فقال: کم بینکم و بین الإبلّه. فقال له المنذر بن الجارود: فداک أبى و أمّى أربعه فراسخ. قال له صدّقت فو الّذى بعث محمّدا و أکرمه بالنبوّه و خصّه بالرساله و عجّل بروحه إلى الجنّه لقد سمعت منه کما تسمعون منّى أن قال: یا علىّ هل علمت أن بین الّتى تسمّى البصره و الّتى تسمّى الإبلّه أربعه فراسخ و قد یکون فی الّتى تسمّى الإبلّه موضع أصحاب القشور یقتل فی ذلک الموضع من امّتى سبعون ألفا شهیدهم یومئذ بمنزله شهداء بدر فقال‏ له المنذر: یا أمیر المؤمنین و من یقتلهم فداک أبى و امى قال: یقتلهم إخوان الجنّ و هم اجیل کأنّهم الشیاطین سود ألوانهم منتنه أرواحهم شدید کلبهم قلیل سلبهم طوبى لمن قتلهم و طوبى لمن قتلوه ینفر لجهادهم فی ذلک الزمان قوم هم أذلّه عند المتکبّرین من أهل ذلک الزمان مجهولون فی الأرض معروفون فی السماء تبکى السماء علیهم و سکّانها و الأرض و سکّانها ثمّ هملت عیناه بالبکاء ثمّ قال: ویحک یا بصره ویلک یا بصره من جیش لا رهج له و لا حسّ قال له المنذر یا امیر المؤمنین: و ما الّذی یصیبهم من قبل الغرق ممّا ذکرت، و ما الویح، و ما الویل فقال: هما بابان فالویح باب الزحمه، و الویل باب العذاب یا ابن الجارود نعم ثارات عظیمه منها عصبه یقتل بعضها بعضا، و منها فتنه تکون بها خراب منازل و خراب دیار و انتهاک أموال و قتل رجال و سبى نساء یذبّحن ذبحا یا ویل أمرهن حدیث عجب منها أن یستحلّ بها الدجّال الأکبر الأعور الممسوح العین الیمنى و الأخرى کأنّها ممزوجه بالدم لکأنّها فی الحمره علقه تأتى الحدقه کهیئه حبّه العنب الطافیه على الماء فیتبعه من أهلها عدّه، من قتل بالإبلّه من الشهداء أناجیلهم فی صدورهم یقتل من یقتل و یهرب من یهرب ثمّ رجف ثمّ قذف ثمّ خسف ثمّ مسخ ثمّ الجوع الأغبر ثمّ الموت الأحمر و هو الغرق.

یا منذر إنّ للبصره ثلاثه أسماء سوى البصره فی الزبر الأوّل لا یعلمها إلّا العلماء منها الخریبه، و منها تدمر، و منها المؤتفکه یا منذر و الّذی فلق الحبّه و برى‏ء النسمه لو أشاء لأخبرتکم بخراب العرصات عرصه عرصه و متى تخرب و متى تعمر بعد خرابها إلى یوم القیامه، و إنّ عندى من ذلک علما جمّا و إن تسألونى تجدونى به عالما لا أخطى‏ء منه علما و لا وافیا، و لقد استودعت علم القرون الأولى و ما کائن إلى یوم القیامه. قال: فقام إلیه رجل فقال یا أمیر المؤمنین: أخبرنى من أهل الجماعه و من أهل الفرقه و من أهل السنّه و من أهل البدعه فقال: ویحک إذا سألتنى فافهم عنّى و لا علیک أن لا تسأل أحدا بعدى: أمّا أهل الجماعه فأنا و من اتّبعنى و إن قلّوا و ذلک الحقّ عن أمر اللّه و أمر رسوله، و أمّا أهل الفرقه فالمخالفون لى و لمن اتّبعنى و إن کثروا، و أمّا أهل السنّه فالمتمسّکون بما سنّه اللّه و رسوله لا العاملون برأیهم و أهوائهم و إن کثروا،و قد مضى الفوج الأوّل و بقیت أفواج و على اللّه قصمها و استیصالها عن جدید الأرض. و باللّه التوفیق.

شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۳ ، صفحه‏ى۱۴

بازدیدها: ۲۵

خطبه۹۸ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام یشتمل على ذکر الملاحم.

الْأَوَّلِ قَبْلَ کُلِّ أَوَّلٍ وَ الْآخِرِ بَعْدَ کُلِّ آخِرٍ- وَ بِأَوَّلِیَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ- وَ بِآخِرِیَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا آخِرَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَهً- یُوَافِقُ فِیهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ- وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ- أَیُّهَا النَّاسُ لا یَجْرِمَنَّکُمْ شِقاقِی- وَ لَا یَسْتَهْوِیَنَّکُمْ عِصْیَانِی- وَ لَا تَتَرَامَوْا بِالْأَبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّی- فَوَالَّذِی فَلَقَ الْحَبَّهَ وَ بَرَأَ النَّسَمَهَ- إِنَّ الَّذِی أُنَبِّئُکُمْ بِهِ عَنِ النَّبِیِّ الْأُمِّیِّ ص- وَ اللَّهِ مَا کَذَبَ الْمُبَلِّغُ وَ لَا جَهِلَ السَّامِعُ- لَکَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّیلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَایَاتِهِ فِی ضَوَاحِی کُوفَانَ- فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ- وَ اشْتَدَّتْ شَکِیمَتُهُ- وَ ثَقُلَتْ فِی الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ- عَضَّتِ الْفِتْنَهُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْیَابِهَا- وَ مَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا- وَ بَدَا مِنَ الْأَیَّامِ کُلُوحُهَا- وَ مِنَ اللَّیَالِی کُدُوحُهَا- فَإِذَا أَیْنَعَ زَرْعُهُ وَ قَامَ عَلَى یَنْعِهِ- وَ هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ وَ بَرَقَتْ بَوَارِقُهُ- عُقِدَتْ رَایَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَهِ- وَ أَقْبَلْنَ کَاللَّیْلِ الْمُظْلِمِ وَ الْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ- هَذَا وَ کَمْ یَخْرِقُ الْکُوفَهَ مِنْ قَاصِفٍ- وَ یَمُرُّ عَلَیْهَا مِنْ عَاصِفٍ- وَ عَنْ قَلِیلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ- وَ یُحْصَدُ الْقَائِمُ- وَ یُحْطَمُ الْمَحْصُودُ یشتمل على ذکر الملاحم.

اللغه
أقول: [لا یجرمنّکم: أى لا یحملنّکم خ‏]. یجرمنّکم: یحقّ علیکم. و استهواه: أماله. و الضلیل: الکثیر الضلال. و نعق: صاح. و فحص الطائر الأرض برجله: بحثها. و الضواحى: النواحى البارزه. و کوفان: اسم للکوفه. فغرفوه: انفتح. و فلان شدید الشکیمه: إذا کان قوّى النفس أبیّا و الکلوح: تکثر فی عبوس. و الکدح: فوق الخدش. و أینع الزرع: نضج. و الحطم: الدقّ.

المعنى
و مضمون هذا الفصل بعد توحید اللّه تحذیر السامعین عن عصیانه و عن التغامر بتکذیبه فیما بینهم فیما کان یخبرهم به من الامور المستقبله. فقوله: الأوّل و الآخر قد مضى تفسیرهما.

و قوله: بأولیّته وجب أن لا أوّل له.
 لمّا أراد بأولّیته کونه مبدءا لکلّ شی‏ء، و بآخریّته کونه غایه ینتهى إلیها کلّ شی‏ء فی جمیع أحواله کان بذلک الاعتبار یجب أن لا یکون له أوّل هو مبدئه و لا آخر یقف عنده و ینتهى، و وصف شهادته بأنّها الّتی یوافق السرّ الإعلان و القلب اللسان کنایه عن خلوصها عن شائبه النفاق و الجحود باللّه ثم أبّه بالناس و حذّرهم من شقاقه و عصیانه و تکذیبه فیما یقول و هو تقریع لمن ضعفت عین بصیرته عن إدراک فضله و إمکان الإخبار بما سیکون من مثله ثمّ أسند ما یرید أن یخبر به من ذلک و ما أخبر به إلى النبىّ صلى اللّه علیه و آله و سلم لیکون ذلک شهاده لصدقه، و أکّد ذلک بتنزیهه صلى اللّه علیه و آله و سلم و تنزیه السامع یعنى نفسه من الکذب فیما بلّغ عن ربّه و فیما سمع هو عنه، و قد بیّنّا کیفیّه أخذه لهذه العلوم عنه فی المقدّمات.

و قوله: لکأنّى أنظر إلى ضلیل قد نعق بالشام.
 من جمله إخباراته بما سیکون، و الضلیل: قیل: إنّه اشار به إلى السفیانّى الدجّال. و قیل: إنّه إشاره إلى معاویه فإنّ مبدء ملکه بالشام و دعوته بها و انتهت غاراته إلى نواحى الکوفه و إلى الأنبار فی حیاته علیه السّلام کما عرفت ذلک من قبل، و کنّى بفحصه برایاته عن بلوغه إلى الکوفه و نواحیها کنایه بالمستعار ملاحظه لشبهه بالقطاه المتّخذه مفحصا، و کذلک فغرت فاغرته کنایه عن اقتحامه للناس کنایه بالمستعار أیضا ملاحظه لشبهه بالأسد فی اقتحام فریسته، و اشتداد شکیمته کنایه عن قوّه رأسه و شدّه بأسه. و أصله أنّ الفرس الجموح قوّى الرأس محتاج إلى قوّه الشکیمه و شدّتها، و کذلک ثقل وطأته کنایه عن شدّه بأسه فی الأرض على الناس، و الأشبه أنّه إشاره إلى عبد الملک، و قد عرفت أحواله، و ثقل وطأته فی الأرض‏ فیما سبق، و استعار لفظ العضّ للفتنه و وجه المشابهه ما یستلزمانه من الشدّه و الألم، و رشّح تلک الاستعاره بذکر الأنیاب، و أبناء الفتنه أهلها، و کذلک استعار لفظ الموج للحرب، و کنّى به عن الاختلاط الواقع فیها من القتل و الأهوال. و للأیّام لفظ الکلوح، و کنّى به عن شدّه ما یلقى فیها من الشرّ کما یلقى من المعیس المکثر، و کذلک لفظ الکدوح استعاره لما یلقى فیها من المصائب الشبیهه بها، و لفظ الزرع استعاره لأعماله و لفظ الإیناع کنایه عن بلوغه غایه أفعاله و لفظ الشقاشق و البروق استعاره لحرکاته الهائله و أقواله المخوفه تشبیها بالسحاب ذى الشقاشق و البروق.

و قوله: عقدت رایات الفتن المعضله.
 أى: أنّ هذه الفتنه إذا قامت أثارت فتنا کثیره بعدها یکون فیها الهرج و المرج، و شبّه تلک الفتن فی إقبالها باللیل المظلم، و وجه المشابهه کونها لا یهتدى فیها لحقّ کما لا یهتدى فی ظلمه اللیل لما یراد، و بالبحر الملتطم فی عظمها و خلطها للخلق بعضهم ببعض و انقلاب قوم على قوم بالمحقّ لهم و الهلاک کما یلتطم بعض أمواج البحر ببعض، ثمّ أشار إلى ما یلحق الکوفه بسبب تلک الفتنه بعدها من الوقائع و الفتن، و قد وقع فیها وفق أخباره وقائع جمّه و فتن کثیره کفتنه الحجّاج و المختار بن أبى عبیده و غیرهما، و استعار لفظى القاصف و العاصف من الریح لما یمرّ بها من ذلک و یجرى على أهلها من الشدائد.

و قوله: و عن قلیل تلتفّ القرون بالقرون. إلى آخره.
 أى عن قلیل یلحق قرن من الناس بقرون، و کنّى بالتفاف بعضهم ببعض عن اجتماعهم فی بطن الأرض، و استعار لهم لفظ الحصد و الحطم لمشابهتهم الزرع یحصد قائمه و یحطم محصوده فکنّى بحصدهم عن موتهم أو قتلهم، و بحطم محصودهم عن فنائهم و تفرّق أوصالهم فی التراب. و أعلم أنّه لیس فی اللفظ دلاله واضحه على أنّ المراد بالضلیل المذکور معاویه بل یحتمل أن یرید به شخصا آخر یظهر فیما بعد بالشام کما قیل: إنّه السفیانىّ الدجّال و إن کان الاحتمال الأوّل أغلب على الظنّ. و باللّه التوفیق.

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن‏ میثم بحرانی)، ج ۳ ، صفحه‏ى ۱۰

بازدیدها: ۴

خطبه ۹۷ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

الْحَمْدُ لِلَّهِ النَّاشِرِ فِی الْخَلْقِ فَضْلَهُ- وَ الْبَاسِطِ فِیهِمْ بِالْجُودِ یَدَهُ- نَحْمَدُهُ فِی جَمِیعِ أُمُورِهِ- وَ نَسْتَعِینُهُ عَلَى رِعَایَهِ حُقُوقِهِ- وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَیْرُهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً وَ بِذِکْرِهِ نَاطِقاً- فَأَدَّى أَمِیناً وَ مَضَى رَشِیداً- وَ خَلَّفَ فِینَا رَایَهَ الْحَقِّ- مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ- وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ- وَ مَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ- دَلِیلُهَا مَکِیثُ الْکَلَامِ- بَطِی‏ءُ الْقِیَامِ سَرِیعٌ إِذَا قَامَ- فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَکُمْ- وَ أَشَرْتُمْ إِلَیْهِ بِأَصَابِعِکُمْ- جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ- فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ- حَتَّى یُطْلِعَ اللَّهُ لَکُمْ مَنْ یَجْمَعُکُمْ وَ یَضُمُّ نَشْرَکُمْ- فَلَا تَطْمَعُوا فِی غَیْرِ مُقْبِلٍ- وَ لَا تَیْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ- فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَیْهِ- وَ تَثْبُتَ الْأُخْرَى فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِیعاً- أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ ص کَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ- إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ- فَکَأَنَّکُمْ قَدْ تَکَامَلَتْ مِنَ اللَّهِ فِیکُمُ الصَّنَائِعُ- وَ أَرَاکُمْ مَا کُنْتُمْ تَأْمُلُونَ

اللغه
أقول: مرق: خرج من الدین. و زهق: هلک. و المکیث: البطى‏ء المتأنّى. و خوى النجم: سقط للمغیب. و الصنیعه: النعمه.

المعنى
و هذا الفصل یشتمل على إعلامهم بما یکون بعده من أمر الأئمّه و تعلیمهم ما ینبغی أن یفعل الناس معهم و یمنّیهم بظهور إمام من آل محمّد عقیب آخر، و وعدهم‏ بتکامل صنایع اللّه فیهم بما یأمّلونه من ظهور إمام منتظر.

فقوله: الحمد للّه. إلى قوله: حقوقه.
 شکر له تعالى باعتبار أمرین: أحدهما: نشره لفضله فی خلقه. الثانی: بسطه فیهم بالجود یده، و یده نعمته مجازا لتقدّسه تعالى عن الجارحه، و هو من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب، و ظاهر کون الجود مبدءا للنعمه، و النشر و البسط و إن کانا حقیقه فی الأجسام إلّا أنّهما من الاستعارات الشائعه الّتى قاربت الحقیقه ثمّ أکّد ذلک الحمد بتعمیمه باعتبار کلّ صادر عنه من رخاء و شدّه. إذ الشدائد اللاحقه من نعمه أیضا فإنّها إذا قوبلت بصبر جمیل استلزمت ثوابا جزیلا کما قال تعالى «وَ بَشِّرِ الصَّابِرِینَ» الآیه، و ظاهر أنّ أسباب النعم نعم و لمّا حمده على ما لحق من نعمائه طلب منه المعونه على رعایه واجب حقوقه، و استعار لفظ الصادع للرسول و وجهها أنّه شقّ بأمر اللّه بیضه الشرک و قلوب المشرکین فأخرج ما کان فیها من الکفر و الجهل و نطق بذکره تعالى فأودعها إیّاه فأدّى ما امر به أمینا علیه و قبضه اللّه إلیه مرشدا له إلى حضره قدسه و منازل الأبرار من ملائکته، و صادعا و ناطقا و أمینا و رشیدا أحوال، و أشار برایه الحقّ الّتی خلّفها رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و سلم إلى کتاب اللّه و سنّته، و أشار بتقدّمها و التخلّف عنها إلى طرفى الإفراط و التفریط من فضیله الاستقامه علیها: أى أن من کان تحتها لاحقا بها فهو على حاقّ الوسط من الفضائل، و من تقدّمها کان على طرف الإفراط و قد تعدّى فی طلب الدین و أغلى فیه على جهل فمرق منه کما فعلت الخوارج، و من تخلّف عنها کان على طرف التفریط و التقصیر فهلک فی طریق الضلال و الحیره، و لفظ الرایه مستعار، و وجه المشابهه کون الکتاب و السنّه مقصدین لتابعهما یهتدى بهما فی سبیل اللّه کما أنّ الرایه کذلک، و أشار بدلیلها إلى نفسه استعاره، و وجهها أنّ الإمام مظهر و مبیّن لأحکام الکتاب و السنّه و ما خفى منهما للسالکین إلى اللّه کما یرفع الرایه حاملها لتابعیه لیقتدوا به ثمّ أشار إلى صفات ذلک الدلیل، و کنّى بقوله: مکیث الکلام عن تروّیه و تثبّته فی أقواله و ما یشیر به و یحکم، و بقوله: بطى‏ء القیام عن تأنّیه فی حرکته فی وجوه المصالح إلى حین استثباته‏ الرأى الأصلح و وجه المصلحه، و بقوله: سریع إذا قام. عن مبادرته إلى وجوه المصلحه و انتهاضه (انتهازه خ) الفرص ثمّ أخذ یذکّرهم بموته، و کنّى بقوله: ألنتم له رقابکم. من خضوعهم لطاعته و انقیادهم لأمره، و بقوله: و أشرتم إلیه بالأصابع عن اشتهاره فیهم و تعیّنه و تعظیمهم له، و أشار إلى أنّه إذا تمّ الإسلام به توفّى، و نبّه بقوله: فلبثتم بعده ما شاء اللّه. إلى أنّهم یخلون عن إمام یجمعهم مدّه، و الاشاره إلى مدّه بنى امیّه، و بقوله: حتّى یطلع اللّه لکم. إلى قوله: نشرکم. على أنّه لابدّ لهم بعد تلک المدّه من شخص یجمعهم، و طلوعه ظهوره و تعیّنه للریاسه بعد اختفاء. فقیل: هو الإمام المنتظر. و قیل: هو قائم بنى العبّاس بعد انقضاء دوله بنى أمیّه.

و قوله: فلا تطمعوا فی غیر مقبل.
 أى من لم یقبل على طلب هذا الأمر ممّن هو أهله و متعیّن له و آثر ترکه إلى الخلوه باللّه فلا تطمعوا فیه فإنّ له باللّه شغلا عن کلّ شی‏ء. و قیل: المراد بغیر المقبل من انحرف عن الدین بارتکاب منکر فإنّه لا یجوز الطمع فی أن یکون أمیرا لکم، و روى فلا تطعنوا فی عین مقبل: أى من أقبل علیکم من أهل البیت طالبا لهذا الأمر و هو أهل له فکونوا معه، و کنّى بالطعن فی عینه عن دفعه عمّا یرید.

و قوله: و لا تیأسوا من مدبر. إلى قوله: تثبتا جمیعا.
 أراد أنّ من أدبر عن طلب الخلافه ممّن هو أهل لها فلا ینبغی أن یحصل الإیاس من عوده و إقباله على الطلب فلعلّه إنّما أدبر عن ذلک لاختلال بعض الشرائط الّتی یتعیّن علیه معها القیام، و کنّى عن اختلال بعض أحواله من قلّه ناصر و نحوه بزوال إحدى قائمتیه و بثبات الاخرى من وجود بعض الشرائط کثبات أهلیّته للطلب أو بعض أنصاره معه، و بقوله: فترجعا حتّى تثبتا. عن تکامل شرائط قیامه و لا ینافی النهى عن الیأس هاهنا النهى عن الطمع فی غیر المقبل لجواز أن ینهى عن الطمع فیه حال إعراضه و إدباره عن الطلب لاختلال بعض شرائطه و النهى عن الإیاس منه لجواز حصول شرائط القیام فیه و تکاملها.

و قوله: ألا إنّ مثل آل محمّد. إلى قوله: طلع نجم.
تعیین للأئمّه من آل محمّد. قالت الإمامیّه: هم الاثنى عشر من أهل البیت.
و شبّههم بالنجوم و وجه التشبیه أمران: أحدهما: أنّهم یستضاء بأنوار هداهم فی سبیل اللّه کما یستضی‏ء المسافر بالنجوم فی سفره و یهتدى بها. الثانی: ما أشار إلیه بقوله: کلما خوى نجم طلع نجم و هو کنایه عن کونهم کلّما خلا منهم سیّد قام سیّد، و الإمامیّه یستدلّون بهذا الکلام منه علیه السّلام على أنّه لا یخلو زمان من وجود قائم من أهل البیت یهتدى به فی سبیل اللّه.

و قوله: فکأنّکم. إلى آخر.
 إشاره إلى منّه اللّه علیهم بظهور الإمام المنتظر و إصلاح أحوالهم بوجوده.
و وجدت له علیه السّلام فی أثناء بعض خطبه فی اقتصاص ما یکون بعده فصلا یجرى مجرى الشرح لهذا الوعد، و هو أن قال: یا قوم اعلموا علما یقینا أنّ الّذى یستقبل قائمنا من أمر جاهلیّتکم لیس بدون ما استقبل الرسول من أمر جاهلیّتکم و ذلک أنّ الامّه کلّها یومئذ جاهلیّه إلّا من رحم اللّه فلا تعجلون فیجعل الخرق بکم، و اعلموا أنّ الرفق یمن و فی الإناه بقاء و راحه و الإمام أعلم بما ینکر، و لعمرى لینزعنّ عنکم قضاه السوء و لیقبضنّ عنکم المراضین، و لیعزلنّ عنکم امراء الجور، و لیطهرنّ الأرض من کلّ غاش، و لیعملنّ فیکم بالعدل، و لیقومنّ فیکم بالقسطاس المستقیم، و لیتمنّأنّ أحیائکم لأمواتکم رجعه الکرّه عمّا قلیل فیعیشوا إذن فإنّ ذلک کائن.
للّه أنتم بأحلامکم کفّوا ألسنتکم و کونوا من وراء معایشکم فإنّ الحرمان سیصل إلیکم و إن صبرتم و احتسبتم و ائتلفتم أنّه طالب و ترکم و مدرک لثارکم و آخذ بحقّکم، و أقسم باللّه قسما حقا أنّ اللّه مع الّذین اتّقوا و الّذین هم محسنون.

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن‏ میثم بحرانی)، ج ۳ ، صفحه‏ى ۶

بازدیدها: ۱۷

خطبه۹۶ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا کَانَ- وَ نَسْتَعِینُهُ مِنْ أَمْرِنَا عَلَى مَا یَکُونُ- وَ نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاهَ فِی الْأَدْیَانِ- کَمَا نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاهَ فِی الْأَبْدَانِ- عِبَادَ اللَّهِ أُوصِیکُمْ بِالرَّفْضِ- لِهَذِهِ الدُّنْیَا التَّارِکَهِ لَکُمْ- وَ إِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْکَهَا- وَ الْمُبْلِیَهِ لِأَجْسَامِکُمْ وَ إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِیدَهَا- فَإِنَّمَا مَثَلُکُمْ وَ مَثَلُهَا کَسَفْرٍ- سَلَکُوا سَبِیلًا فَکَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ- وَ أَمُّوا عَلَماً فَکَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ- وَ کَمْ عَسَى الْمُجْرِی إِلَى الْغَایَهِ- أَنْ یَجْرِیَ إِلَیْهَا حَتَّى یَبْلُغَهَا- وَ مَا عَسَى أَنْ یَکُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ یَوْمٌ لَا یَعْدُوهُ- وَ طَالِبٌ حَثِیثٌ یَحْدُوهُ- فِی الدُّنْیَا حَتَّى یُفَارِقَهَا فَلَا تَنَافَسُوا فِی عِزِّ الدُّنْیَا وَ فَخْرِهَا- وَ لَا تَعْجَبُوا بِزِینَتِهَا وَ نَعِیمِهَا- وَ لَا تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَ بُؤْسِهَا- فَإِنَّ عِزَّهَا وَ فَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاعٍ- وَ زِینَتَهَا وَ نَعِیمَهَا إِلَى زَوَالٍ- وَ ضَرَّاءَهَا وَ بُؤْسَهَا إِلَى نَفَادٍ- وَ کُلُّ مُدَّهٍ فِیهَا إِلَى انْتِهَاءٍ- وَ کُلُّ حَیٍّ فِیهَا إِلَى فَنَاءٍ- أَ وَ لَیْسَ لَکُمْ فِی آثَارِ الْأَوَّلِینَ مُزْدَجَرٌ وَ فِی آبَائِکُمُ الْأَوَّلِینَ تَبْصِرَهٌ وَ مُعْتَبَرٌ- إِنْ کُنْتُمْ تَعْقِلُونَ- أَ وَ لَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِینَ مِنْکُمْ لَا یَرْجِعُونَ- وَ إِلَى‏ الْخَلَفِ الْبَاقِینَ لَا یَبْقَوْنَ- أَ وَ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْیَا- یُصْبِحُونَ وَ یُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى- فَمَیِّتٌ یُبْکَى وَ آخَرُ یُعَزَّى- وَ صَرِیعٌ مُبْتَلًى وَ عَائِدٌ یَعُودُ- وَ آخَرُ بِنَفْسِهِ یَجُودُ- وَ طَالِبٌ لِلدُّنْیَا وَ الْمَوْتُ یَطْلُبُهُ- وَ غَافِلٌ وَ لَیْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ- وَ عَلَى أَثَرِ الْمَاضِی مَا یَمْضِی الْبَاقِی- أَلَا فَاذْکُرُوا هَاذِمَ اللَّذَّاتِ- وَ مُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ- وَ قَاطِعَ الْأُمْنِیَاتِ- عِنْدَ الْمُسَاوَرَهِ لِلْأَعْمَالِ الْقَبِیحَهِ- وَ اسْتَعِینُوا اللَّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ- وَ مَا لَا یُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَ إِحْسَانِهِ

اللغه
أقول: الرفض: الترک. و السفر: المسافرون. و أمّوا: قصدوا. و یعدوه: یتعدّاه. و یحدوه: یسوقه. و المساوره: المواثبه.

المعنى

فقوله: نحمده. إلى قوله: فی الأبدان.
 خصّص الحمد بما کان لأنّ الشکر على النعمه مترتّب على وقوعها. و الاستعانه على ما یکون لأنّ طلب العون على أمر هو بصدد أن یفعل. ثمّ سأل العافیه فی الأدیان کما سألها فی الأبدان لأنّ لها سقما هو فی الحقیقه أشدّ، و قیل لأعرابیّ: ما تشتکى قال: ذنوبى. فقیل: ما تشتهى قال: الجنّه. فقیل: أ فلا ندعو لک طبیبا فقال: الطبیب أمرضنی، و سمعت عصره (عنتره خ) العابده البصریّه رجلًا یقول: ما أشدّ العمى على من کان بصیرا فقالت: یا عبد اللّه غفلت عن مرض الذنوب و اهتممت بمرض الأجساد، و عمى القلب عن اللّه أشدّ. و المعافاه فیها بامداد العنایه الإلهیّه ببقائها سلیمه و بتدارکها للمذنبین بجذبهم إلى التوبه.
ثمّ أردف ذلک بالرأى الصالح و الوصیّه الناصحه برفض الدنیا، و نفّر عنها بذکر معایب: أحدها: ترکها لهم على کلّ حال و إن لم یحبّوا ترکها، و من أکبرالمصالح ترک محبوب لا بدّ من مفارقته ترکا باستدراج النفس و استغفالها کى لا یقدحها مفارقته دفعه مع تمکّن محبّته عن جوهرها فیبقى کمن نقل من معشوقه إلى موضع ظلمانىّ شدید الظلمه. الثانی: کونها مبلیه لأجسامهم و إن أحبّوا تجدیدها و إبلائها بالأمراض و الهرم، و من شأن الموذى أن یجتنب لا أن یحبّ إصلاحه. ثمّ أردف ذلک بتمثیلهم فی الکون بها فمثّلهم بالسفر و مثّلها بسبیل هم سالکوه، و من سلک سبیلا فکأنّهم قطعوه فالمشبّه هم باعتبار سرعه سیرهم و قرب الآخره منهم و قطع منازل الأعمار، و المشبّه به قاطع ذلک السبیل: أى من سلک سبیلا أشبه فی سرعه سیره من قطعه ثمّ لمّا کان لا بدّ لکلّ طریق سلک من غایه یقصد فمن سلک سبیلا فکأنّهم بلغوا تلک الغایه: أى أشبهوا فی قرب وصولها من بلغها و هو تخویف بالموت و ما بعده و تحقیر لمدّه البقاء فی الدنیا و المقام فیها، و أکّد ذلک بقوله: و ما عسى المجرى إلى الغایه أن یجرى إلیها حتّى یبلغها: أى إجرائه إلیها بسیر سریع، و فی بعض النسخ: و کم عسى، و التقدیر و کم یرجو الّذی یجرى إلى غایه من إجرائه إلیها حتّى یبلغها، و هو استفهام فی معنى التحقیر لما یرجوه من مدّه الجرى، و هی مدّه الحیاه الدنیا، و مفعول المجرى محذوف و التقدیر المجرى مرکوبه. و لمّا لم یکن الغرض إلّا ذکر الإجراء لا جرم حذف المفعول. و قد یجی‏ء لازما، و کذلک قوله: و ما عسى أن یکون بقاء من له یوم لا یعدوه. إلى قوله: یفارقها: أى و ما یرجى و یؤمل أن یکون من ذلک البقاء، و کان هنا تامّه و هو فی الموضعین استفهام على سبیل التحقیر لما یرجى من البقاء فی الدنیا و الانکار على المؤمّل الراجى له، و عنى بالطالب الحثیث الموت و أسند إلیه الطلب مجازا و استعار له لفظ الحد و، و قد علمت وجه هذه الاستعاره، و کنّى بذلک الحد و عمّا یتوهّم من سوق أسباب الموت للبدن إلیه.

و قوله: و لا تنافسوا. إلى قوله: إلى فناء.
 نهى عن اعتبار شی‏ء من أحوالها: خیرها و شرّها. فمن خیرها عزّها و فخرها و زینتها و نعیمها، و نهى عن المنافسه فیه و الاعجاب به، و أمّا شرّها فضرّائها و شدائدها، و نهى عن الجزع منها و علّل وجوب الانتهاء عمّا نهى عنه بانقطاعه و زواله.
و ما کان من شأنه الزوال و الانقطاع فمن الواجب أن لا یتنافس فیه و لا یعجب به و إن عدّ نافعا، و أن لا یجزع من وجوده و إن عدّ ضارّا.

و قوله: أ و لیس لکم فی آثار الأوّلین. إلى قوله: لا یبقون.
 تذکره لهم بآثار السابقین لهم و الماضین من آبائهم على سبیل استفهامهم عن حصول العبره لهم بهم استفهام إنکار علیهم أن لا یستفیدوا من ذلک عبره على تقدیر أنّهم عقلاء کما یزعمون ذلک ثمّ تنبیه لهم على وجه الاعتبار و الاتّعاظ و هو عدم رجوع الماضى منهم و عدم بقاء الباقى فإنّ ذلک محلّ العبره ثمّ تنبیه لهم على ما یرون من أحوال أهل الدنیا المختلفه لستدلّوا على عدم بقائها باختلاف أحوالها و على أنّها لا تصلح قرارا فأهلها بین میّت یبکى، و آخر یعزّى، و آخر صریع مبتلى بالأمراض و الأسقام، و آخر یعوده مشغول الخاطر به، و آخر فی المعاوقه و الاحتضار، و السالم من تلک الامور طالب للدنیا و الموت من ورائه طالب له غافل عمّا یراد به و لیس اللّه بغافل عنه ثمّ لا بدّ له أن یمضى على أثر من مضى و إن طال بقائه، و ما فی ما یمضى مصدریّه، و إنّما قدّم المیّت فی أقسام أهل الدنیا لأنّ ذکره أشدّ موعظه، و استعار لفظ الجود للمحتضر، و وجه المشابهه أنّه یسمح بنفسه و یسلّمها کما یسلّم الجواد ما یعطیه من مال ثمّ أمرهم بذکر الموت و وصفه بلوازمه المنفّره عنه و هی کونه هادما للّذّات الدنیویّه، و منغّصا لشهواتها و قاطعا للامنیّات فیها، و عیّن لهم وقت ذکره و هو عند وثباتهم إلى الأعمال القبیحه لیکون ذکره زاجرا لهم عنها ثمّ بالرغبه إلى اللّه فی طلب معونته بجواذب عنایته و جمیل لطفه على أداء واجب حقوقه الّتی کلّفنا القیام بها بالمواظبه علیها و أداء واجب ما لا یحصى من نعمه بدوام شکرها و الاعتراف بها ملاحظین لجلال کبریائه باعتبار کلّ جزئىّ منها. و باللّه التوفیق.

شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۳ ، صفحه‏ى ۳

بازدیدها: ۶

خطبه ۹۵ شرح ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام

وَ اللَّهِ لَا یَزَالُونَ- حَتَّى لَا یَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلَّا اسْتَحَلُّوهُ- وَ لَا عَقْداً إِلَّا حَلُّوهُ- وَ حَتَّى لَا یَبْقَى بَیْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ- إِلَّا دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ- وَ نَبَا بِهِ سُوءُ رَعْیِهِمْ وَ حَتَّى یَقُومَ الْبَاکِیَانِ یَبْکِیَانِ- بَاکٍ یَبْکِی لِدِینِهِ- وَ بَاکٍ یَبْکِی لِدُنْیَاهُ- وَ حَتَّى تَکُونَ نُصْرَهُ أَحَدِکُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ- کَنُصْرَهِ الْعَبْدِ مِنْ سَیِّدِهِ- إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ- وَ إِذَا غَابَ اغْتَابَهُ- وَ حَتَّى یَکُونَ أَعْظَمَکُمْ فِیهَا عَنَاءً أَحْسَنُکُمْ بِاللَّهِ ظَنّاً- فَإِنْ أَتَاکُمُ اللَّهُ بِعَافِیَهٍ فَاقْبَلُوا- وَ إِنِ ابْتُلِیتُمْ فَاصْبِرُوا- فَإِنَّ الْعَاقِبَهَ لِلْمُتَّقِینَ

اللغه
أقول: نبابه المنزل: إذا لم یوافقه. و العناء: التعب.

و الإشاره فی هذا الفصل إلى بنى امیّه
فأقسم لا یزالون ظالمین فحذف الخبر للعلم به و ذکر لظلمهم غایات: إحداها: أنّهم لا یدعون محرّما إلّا استحلّوه، و أعظم کبایر المحرّمات الظلم و قتل النفس و حالهم فیهما مشهور فما ظنّک بغیرهما، و معنى قوله: استحلّوه: استعملوه کاستعمال الحلال فی عدم التحرّج و التأثّم به. الثانیه: أن لا یدعوا عقدا إلّا حلّوه: أى من عقود الإسلام الّتى نظم بها أمر العالم من قوانین الشرع و ضوابطه، و حلّه کنایه عن حزم تلک القواعد بمخالفتها. الثالثه: أنّه لا یبقى بیت مدر و لا وبر إلّا دخله ظلمهم، و هو کنایه عن عموم عداوتهم و بغیهم على جمیع الخلق من البدو و الحضر،

و قوله: و نبا به سوء رعیهم: أى أوجب‏ سوء رعیهم لأهله نبوّهم عنه. الرابعه: أن یقوم الباکیان باک یبکى لدینه، و باک یبکى لدنیاه. الخامسه: و حتّى تکون نصره أحدکم من أحدهم کنصره العبد من سیّده، ذکر المشبّه و المشبّه به ثمّ أشار إلى وجه الشبه بقوله: إذا شهد أطاعه و إذا غاب اغتابه. العاشر: و حتّى یکون أعظمکم فیها عناء أحسنکم باللّه ظنّا، و إنّما کان کذلک لأنّ من حسن الظنّ باللّه کان أشدّ الناس بعدا منهم و توکّلا علیه فیکونون علیه أشد کلبا و له أقوى طلبا فکان منهم أکثر تعبا، ثمّ أردف ذلک بأمر من أتته العافیه أن یقبلها، و یشکر اللّه علیها نعمه، و أراد العافیه من الابتلاء بشرورهم لبعض الناس أو بقائم عدل مخلص من بلائهم، و یأمر من ابتلى بهم بالصبر على ما ابتلى به و وعده على ذلک بحسن العافیه لازما للتقوى و الصبر کما قال تعالى فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَهَ لِلْمُتَّقِینَ

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۴۱۰

بازدیدها: ۱۳

خطبه۹۴ شرح ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام

وَ لَئِنْ أَمْهَلَ الظَّالِمَ- فَلَنْ یَفُوتَ أَخْذُهُ- وَ هُوَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِیقِهِ وَ بِمَوْضِعِ الشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِیقِهِ- أَمَا وَ الَّذِی نَفْسِی بِیَدِهِ- لَیَظْهَرَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَیْکُمْ- لَیْسَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْکُمْ- وَ لَکِنْ لِإِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ وَ إِبْطَائِکُمْ عَنْ حَقِّی- وَ لَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا- وَ أَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِیَّتِی- اسْتَنْفَرْتُکُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا- وَ أَسْمَعْتُکُمْ فَلَمْ‏ تَسْمَعُوا- وَ دَعَوْتُکُمْ سِرّاً وَ جَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِیبُوا- وَ نَصَحْتُ لَکُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا- أَ شُهُودٌ کَغُیَّابٍ وَ عَبِیدٌ کَأَرْبَابٍ- أَتْلُو عَلَیْکُمْ الْحِکَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا- وَ أَعِظُکُمْ بِالْمَوْعِظَهِ الْبَالِغَهِ- فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا- وَ أَحُثُّکُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْیِ- فَمَا آتِی عَلَى آخِرِ قَوْلِی- حَتَّى أَرَاکُمْ مُتَفَرِّقِینَ أَیَادِیَ سَبَا تَرْجِعُونَ إِلَى مَجَالِسِکُمْ- وَ تَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِکُمْ- أُقَوِّمُکُمْ غُدْوَهً وَ تَرْجِعُونَ إِلَیَّ عَشِیَّهً- کَظَهْرِ الْحَنِیَّهِ عَجَزَ الْمُقَوِّمُ وَ أَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ- أَیُّهَا الشَّاهِدَهُ أَبْدَانُهُمْ- الْغَائِبَهُ عُقُولُهُمْ- الْمُخْتَلِفَهُ أَهْوَاؤُهُمْ- الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ- صَاحِبُکُمْ یُطِیعُ اللَّهَ وَ أَنْتُمْ تَعْصُونَهُ- وَ صَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ یَعْصِی اللَّهَ- وَ هُمْ یُطِیعُونَهُ- لَوَدِدْتُ وَ اللَّهِ أَنَّ مُعَاوِیَهَ صَارَفَنِی بِکُمْ- صَرْفَ الدِّینَارِ بِالدِّرْهَمِ- فَأَخَذَ مِنِّی عَشَرَهَ مِنْکُمْ- وَ أَعْطَانِی رَجُلًا مِنْهُمْ- یَا أَهْلَ الْکُوفَهِ- مُنِیتُ مِنْکُمْ بِثَلَاثٍ وَ اثْنَتَیْنِ- صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ- وَ بُکْمٌ ذَوُو کَلَامٍ- وَ عُمْیٌ ذَوُو أَبْصَارٍ- لَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ- وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَهٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ- یَا أَشْبَاهَ الْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا- کُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ- وَ اللَّهِ لَکَأَنِّی بِکُمْ فِیمَا إِخَالُکُمْ- أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى وَ حَمِیَ الضِّرَابُ- قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِی طَالِبٍ- انْفِرَاجَ الْمَرْأَهِ عَنْ قُبُلِهَا- وَ إِنِّی لَعَلَى بَیِّنَهٍ مِنْ رَبِّی وَ مِنْهَاجٍ مِنْ نَبِیِّی- وَ إِنِّی لَعَلَى الطَّرِیقِ الْوَاضِحِ- أَلْقُطُهُ لَقْطاً انْظُرُوا أَهْلَ بَیْتِ نَبِیِّکُمْ- فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ- وَ اتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ- فَلَنْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ هُدًى- وَ لَنْ یُعِیدُوکُمْ فِی رَدًى- فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا- وَ إِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا- وَ لَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا- وَ لَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِکُوا- لَقَدْ رَأَیْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ص- فَمَا أَرَى أَحَداً یُشْبِهُهُمْ مِنْکُمْ- لَقَدْ کَانُوا یُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً- وَ قَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَ قِیَاماً- یُرَاوِحُونَ بَیْنَ جِبَاهِهِمْ وَ خُدُودِهِمْ- وَ یَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِکْرِ مَعَادِهِمْ- کَأَنَّ بَیْنَ أَعْیُنِهِمْ رُکَبَ الْمِعْزَى- مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ- إِذَا ذُکِرَ اللَّهُ هَمَلَتْ أَعْیُنُهُمْ- حَتَّى تَبُلَّ جُیُوبَهُمْ- وَ مَادُوا کَمَا یَمِیدُ الشَّجَرُ یَوْمَ الرِّیحِ الْعَاصِفِ- خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ وَ رَجَاءً لِلثَّوَابِ

اللغه
أقول: المرصاد: الطریق یرصد بها، و الرصد الراقب. و الشجى: الغصص بلقمه و غیرها. و الحثّ: السوق الشدید. و أعضل: أشکل. و الحیّهخ: القوس‏ه. و منى: ابتلى. و تربت: أصابت التراب دون الخیر. و أخال: أحسب. و الوغى: الحرب و أصله من الأصوات. و حمس: اشتدّ. و السمت: الطریقه. و لبد الطائر: لصق بالأرض.

المعنى
فقوله: و لئن أمهل اللّه الظالم. إلى قوله: ریقه. فی معرض التهدید لأهل الشام بأخذ اللّه لهم و عدم قوّتهم. و أنّه لهم بالرصد على جمیع حرکاتهم و على مجاز طریقهم الّتى هم سالکوها ضلّالا و على موضع الشجى من مساغ ریقهم و هو الحق، و فی ذکر الشجى و کون اللّه بالرصد تنبیه على أنّ‏ اللّه تعالى فی مظنّه أن یرمى الظالم بعقوباته عند اطّلاعه على ظلمه کما قال تعالى أَوْ یَأْخُذَهُمْ فِی تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِینَ أَوْ یَأْخُذَهُمْ عَلى‏ تَخَوُّفٍ«» ثمّ أردف ذلک بالقسم البارّ لیظهرنّ أصحاب معاویه علیهم تنفیرا لهم إلى مقاومتهم، ثمّ نفى ما عساه یتوهّمه أنّه علّه غلبهم لهم کیلا یتخاذلون بسبب ذلک و هو قوله: لیس لأنّهم أولى بالحقّ منکم، و أردفه بتعیین السبب الحقّ فی ذلک و هو قوله: لکن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم: أى أمره الباطل و إبطائکم عن حقّى إذ کانت النصره باجتماع الکلمه و طاعه الإمام لا باعتقاد حقیّه إمرته مع التخاذل عنه، ثمّ أردف ذلک بتوبیخهم و تنفیرهم عمّا هم علیه من مخالفه أمره بقوله: و لقد أصبحت الامم. إلى قوله: رعیّتى. لأن شأن الرعیّه الخوف من سلطانها فإذا کان حاله مع رعیّته بالعکس کانت اللائمه علیهم بعصیانه دون حجّه لهم علیه، و أمّا التنفیر فیذکر أنّهم فی محلّ ظلم نفسه و لقد أشفق علیه السّلام منهم فی مواطن کثیره کیوم التحکیم إذ قالوا له: إن لم ترض فعلنا بک کما فعلنا بعثمان.

و نحو ذلک، ثمّ أردف وجوه تقصیرهم ببیان ما فعل فی حقّهم من الأیادى الجمیله و الهدایه إلى وجوه المصالح من استنفارهم لجهاد عدوّهم و حفظ بلادهم و إسماعهم الدعوه إلى مصالحهم سرّا و جهرا و نصیحته لهم بالوجوه الصائبه من الرأى و هو کقوله تعالى حکایه عن نوح علیه السّلام قالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوْتُ قَوْمِی لَیْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ یَزِدْهُمْ دُعائِی إِلَّا فِراراً وَ إِنِّی کُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا إلى قوله ثُمَّ«» ثمّ شبّههم بالغیاب مع شهادتهم و بالأرباب مع کونهم عبیدا، و وجه الشبه أنّ الفایده فی شاهد الموعظه دون الغایب عنها هى سماعها و الانتفاع بها فإذا لیسوا کذلک فهم کالغیاب عنها فی عدم الانتفاع بها، و أمّا الثانیه فلأنّهم رعیّه من شأنهم التعبّد لأوامر امرائهم ثم إنّهم لتعزّزهم و شموخهم کبرا و عدم طاعتهم کالأرباب الّذین من شأنهم أن یأمروا و لا یأتمروا ثمّ وبّخهم بنفارهم عمّا یتلو علیهم من الحکم و تفرّقهم عن مواعظه البالغه. و أهل البغى إشاره إلى أهل الشام. و أیادى سبا: مثل یضرب فی شدّه التفرّق و ضربه لتفرّقهم عن مجالس الذکر و هما لفظان جعلا اسما واحدا کمعدى کرب، و سبا قبیله من أولاد سبا ابن‏ یشحب بن یعرب بن قحطان، و أصل المثل أنّ هذه القبیله کانت بمأرب فلمّا آن وقت انفتاح سدّ مأرب و رأت طریقه الکاهنه ذلک الأمر و عرفته ألقته إلى عمرو بن عامر الملقب بمزیقیا فباع أمواله بمأرب و ارتحل إلى مکّه فأصابت هولاء الحمى، و کانوا لا یعرفونها ففزعوا إلى الکاهنه فأخبرتهم بما سیقع، و قالت إنّه مفرّق بیننا فاستشارونها فی أمرهم فقالت:

: من کان منکم ذاهمّ بعید، و حمل شدید، و مراد حدید فلیلحق بقصر عمّان المشید، فکانت أزد عمّان، ثمّ قالت: و من کان منکم ذا جلد و قسر، و صبر على أزمات الدهر فعلیه بالإدراک من بطن نمر.

فکانت خزاعه، ثمّ قالت: و من کان منکم یرید الراسیات فی الوحل المطعمات فی المحل فلیلحق بیثرب ذات النخل فکانت الأوس و الخزرج، ثمّ قالت: و من کان منکم یرید الخمر و الخمیر و الملک و التأمیر و یلبس الدیباج و الحریر فلیلحق ببصرى و غویر، و هما من أرض الشام فکان الّذین یسکنونها آل جفنیه من غسان، ثمّ قالت: و من کان منکم یرید الثیاب الرقاق و الخیل العتاق و کنوز الأرزاق و الدم المهراق فلیلحق بأرض العراق فکانت آل جذیمه الأبرش، و من کان بالحیره و آل محرّق. فضربت العرب بتفرّقهم فی البلاد هذا المثل و سار فیمن یتفرّق بعد اجتماع، ثمّ لمّا کانت المخادعه هى الاستغفال عن المصلحه قال: یتخادعون: أى أنّهم إذا رجعوا من مجلس وعظه أخذ کلّ منهم یستغفل صاحبه عن تذکّر الموعظه و یشغله بغیر ذلک من الأحادیث و إن لم یکن عن قصد خداع بل تقع منهم صور المخادعه، و تقویمه لهم بالغدوه إصلاح أخلاقهم بالحکم و المواعظ و رجوعهم إلیه عشیّه کظهر الحیّه: أى معوّجین کظهر القوس و هو تشبیه للمعقول من اعوجاجهم و انحرافهم عن جمیل الأخلاق بالمحسوس. و قوله: عجز المقوّم. إشاره إلى نفسه و اعتراف بعجزه عن تقویمهم و أعضل المقوّم: أى أشکل أمرهم و أعیته إدواؤهم علاجا، ثمّ عاد إلى ندائهم و تنبیههم بذکر معایبهم لینفر عقولهم عنها فوصفهم بشهاده الأبدان مع غیبه العقول ثمّ باختلاف الأهواء ثمّ بکونهم ممّن ابتلى بهم أمراؤهم ثمّ نبّههم على رذیلتهم من مخالفه أمره مع کونه مطیعا للّه، و ما علیه خصومهم من فضیله طاعه إمامهم مع کونه عاصیا للّه، و جعل ذلک مقایسه بینهم لیظهر الفرق فیدرکهم الغیره ثمّ أردفه بتحقیرهم و تفضیل عدوّهم علیهم فی البأس و النجده و استقامه الحال فأقسم أنّه لیودّ أن یصارفه معاویه بهم صرف الدینار بالدرهم و ذلک قوله: رجلا منهم. ثمّ أردف ذلک ببیان ما ابتلى به منهم، و أشار إلى خمس خصال، و إنّما قال بثلاث و اثنتین لتناسب الثلاث و کون الثنتین من نوع آخر فالثلاث: الصمم مع کونهم ذوى أسماع و البکم مع کونهم ذوى کلام و العمى مع کونهم ذوى أبصار، و جمعه لهذه الثلاث مع أضدادها هو سبب التعجّب منهم و التوبیخ لهم و أراد بها عدم انتفاعهم فی مصالحهم الدینیّه و نظام امور دولتهم بآله السمع و اللسان و العین فإنّ من لم یفده سمعه و بصره عبره و من لم یکن کلامه فیما لا یعنیه کان کفاقد هذه الآلات فی عدم الانتفاع بها بل کان فاقدها أحسن حالا منه لأنّ وجودها إذا لم یفد منفعه أکسب مضرّه قد أمنها عادمها، و أمّا الثنتان فکونهم لا أحرار صدق عند اللقاء: أى أنّهم عند اللقاء لا تصدق حریّتهم و لا تبقى نجدتهم من مخالطه الجبن و التخاذل و الفرار إذا الحرّ هو الخالص من شوب الرذائل و المطاعن، ثمّ کونهم غیر أخوان ثقه عند البلاء: أى لیسوا ممّن یوثق باخوّتهم فی الابتلاء بالنوازل، ثمّ عاد إلى الدعاء علیهم على وجه التضجّر منهم و تشبیههم بالنعم فقوله: تربت أیدیکم دعاء بعدم إصابه الخیر. و قوله: یا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها کلما جمعت من جانب تفرّقت من جانب. ذکر للتشبیه و المشبّه به، و وجه الشبه أردفه بذکر رذیله یظنّها منهم بإماراتها و هى تفرّقهم عنه على تقدیره اشتباک الحرب، و شبّه انفراجهم عنه بانفراج المرأه عن قبلها لیرجعوا إلى الأنفه، و تسلیم المرأه لقبلها و انفراجها عنه إمّا وقت الولاده أو وقت الطعان ثمّ عاد إلى ذکر فضیلته لیستثبت قلوبهم و یتألّفها و البیّنه الّتى هو علیها من ربّه آیات اللّه و براهینه الواضحه على وجوده و الثقه بما هو علیه من سلوک سبیله و هو کقوله تعالى قُلْ إِنِّی عَلى‏ بَیِّنَهٍ مِنْ رَبِّی و المنهاج من نبیّه طریقه و سنّته، و الطریق الواضح الّذى هو علیه سبیل اللّه و شریعه دینه، و التقاطه له لقطا تتّبعه و تمیّزه على طریق الضلال بالسلوک له ثمّ أردف فضیلته بالأمر باعتبار أهل البیت و لزوم سمتهم و اقتفاء أثرهم، و أشاره إلى جهه وجوب اتّباعهم بکونهم یسلکون بهم سبیل الهدى لا یخرجون عنه و لا یردونهم إلى ردى الجاهلیّه و الضلال القدیم، و فیه ایماء إلى أنّ اتّباع غیرهم یرد إلى ذلک و قوله: فإن لبدوا: أى إن سکنوا و أحبّوا لزوم البیوت على طلب أمر الخلافه و القیام فیه فتابعوهم فی ذلک فإنّ سکونهم قد یکون لمصلحه یغیب علمها عن غیرهم و إن نهضوا فی ذلک فانهضوا معهم، ثمّ نهاهم عن أن یسبقوا فیضلّوا: أى إلى أمر لم یتقدّموکم فیه فإنّ متقدّم الدلیل شأنه الضلال عن القصد و أن لا یتأخّروا عنهم فیهلکوا: أى لا یتأخّروا عن متابعتهم فی أوامرهم و أفعالهم بالمخالفه لهم فیکونوا من الهالکین فی تیه الجهل و عذاب الآخره. و الإمامیّه تخصّ ذلک بالاثنى عشر من أهل البیت علیهم السّلام. و قوله: و لقد رأیت أصحاب رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و سلّم. إلى آخره.

مدح لخواصّ الصحابه و ذکر مکانهم من خشیه اللّه و دینه ترغیبا فی مثل تلک الفضایل، و حرّک بقوله: فما أرى أحدا یشبههم. ما عساه یدرک السامعین من الغیره على تلک الفضایل أن یختصّوا بها دونهم و ذکر من ممادحهم أوصافا: أحدها: الشعت و الاغبرار و هو إشاره إلى قشفهم و ترکهم زینه الدنیا و لذّاتها. الثانی: بیاتهم سجّدا و قیاما، و أشار به إلى إحیائهم اللیل بالصلاه و هو کقوله تعالى وَ الَّذِینَ یَبِیتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِیاماً. الثالث: مراوحتهم بین جباههم و خدودهم، و قد کان أحدهم إذا تعبت جبهته من طول السجود راوح بینها و بین خدّیه. الرابع: وقوفهم على مثل الجمر من ذکر معادهم و أشار به قلقهم و وجدهم من ذکر المعاد و أهوال یوم القیامه کما یقلق الواقف على الجمر ممّا یجده من حرارته. الخامس: کأنّ بین أعینهم رکب المعزى من طول سجودهم، و وجه المشابهه أنّ محالّ سجودهم من جباههم کانت قد اسودّت و ماتت جلودها و قست کما أنّ رکب المعزى کذلک. السادس: أنّهم کانوا إذا ذکر اللّه هملت أعینهم حتّى تبلّ جیوبهم، و من روى جباههم فذلک فی حال سجودهم ممکن. و مادوا کما تمید الشجر بالریح العاصف خوفا من عقاب ربّهم و رجاء لثوابه فتاره یکون میدانهم و قلقهم عن خوف اللّه، و تاره یکون عن ارتیاح و اشتیاق إلى ما عنده من عظیم ثوابه و هو کقوله تعالى الَّذِینَ إِذا ذُکِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ

و باللّه التوفیق.

شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۴۰۳

بازدیدها: ۴

خطبه ۹۳ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ فَلَا شَیْ‏ءَ قَبْلَهُ- وَ الْآخِرِ فَلَا شَیْ‏ءَ بَعْدَهُ- وَ الظَّاهِرِ فَلَا شَیْ‏ءَ فَوْقَهُ- وَ الْبَاطِنِ فَلَا شَیْ‏ءَ دُونَهُ

المعنى

أقول: أثنى على اللّه سبحانه باعتبارات أربعه: الأوّلیّه و الآخریّه و الظاهریّه و الباطنیّه، و أکّد کلّ واحد منها بکماله فکمال الأوّلیّه بسلب قبلیّه شی‏ء عنه، و کمال الآخریّه بسلب بعدیّه کلّ شی‏ء له، و الظاهریّه بسلب فوقیّه شی‏ء له، و الباطنیّه بسلب شی‏ء دونه. و المراد بالظاهر هنا العالى فلذلک حسن تأکیده بسلب فوقیّه الغیر له، و بالباطن الّذى بطن خفیّات الامور علما و هو بهذا الاعتبار أقرب الأشیاء إلیها فلذلک حسن تأکیده بسلب ما هو دونه: أى ما هو أقرب إلیها منه و حصلت حینئذ المقابله بین الدانى و العالى، و یحتمل أن یرید بالظاهر البیّن و یکون معنى قوله: فلا شی‏ء فوقه: أى لا شی‏ء یوازى وجوده و یحجبه عن معرفه خلقه به. و بالباطن الخفىّ و معنى فلا شی‏ء دونه: أى فی الخفاء، و قد سبق بیان هذه الاعتبارات الأربعه غیر مرّه. و باللّه التوفیق.


القسم الثانی منها فى ذکر الرسول صلى الله علیه و آله و سلّم

مُسْتَقَرُّهُ خَیْرُ مُسْتَقَرٍّ- وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ- فِی مَعَادِنِ الْکَرَامَهِ- وَ مَمَاهِدِ السَّلَامَهِ- قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَهُ الْأَبْرَارِ- وَ ثُنِیَتْ إِلَیْهِ أَزِمَّهُ الْأَبْصَارِ- دَفَنَ اللَّهُ بِهِ الضَّغَائِنَ- وَ أَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً- وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً- أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّهَ- وَ أَذَلَّ بِهِ الْعِزَّهَ- کَلَامُهُ بَیَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَانٌ

اللغه

أقول: المماهد: جمع ممهد، و المیم زائده. و ثنیت إلیه: أى صرفت. و الضغاین: الأحقاد. و النوائر: جمع نائره، و هى العداوه و المخاصمه: و الأقران: الأخوان المقترنون.

المعنى

و أشار بمستقرّه إلى مکّه و کونها خیر مستقرّ لکونها امّ القرى و مقصد خلق اللّه و محلّ کعبته، و یحتمل أن یرید محلّه من جود اللّه و عنایته و ظاهر کونه خیر مستقرّ، و استعار لفظ المنبت و المعدن، و قد مرّ بیان وجه استعارتهما، و مماهد السلامه محالّ التوطئه لها، و هى کنایه من مکّه و المدینه و ما حولها فإنّها محلّ لعباده اللّه و الخلوه به الّتى هى مهاد السلامه من عذابه، و إنّما کانت کذلک لکونها دار القشف خالیه عن المشتهیات و القینات الدنیویّه، و یحتمل أن یرید بمماهد السلامه ما تقلّب فیه و نشأ علیه من مکارم الأخلاق الممهّده للسلامه من سخط اللّه و فی قوله: و قد صرفت نحوه أفئده الأبرار. تنبیه على أنّ الصارف هو لطف اللّه و عنایته بهم بالفات قلوبهم إلى محبّته و الاستضاءه بأنوار هداه، و لمّا استعار لفظ الأزمّه للأبصار ملاحظه لشبهها بمقاود الإبل رشّح تلک الاستعاره بذکر الثنى و کنّى بذلک عن التفات الخلق إلیه بأبصار بصایرهم و تلقىّ الرحمه الإلهیّه منه ثمّ استعار لفظ الدفن لإخفاء الأحقاد به بعد أن کانت ظاهره مجاهرا بها. و لفظ الإطفاء لإزاله العدوات بین العرب بالتألیف بین قلوبهم کما قال تعالى فی إظهار المنّه على عباده وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ‏ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً«» و الأقران المفرّق لهم هم المتألّفون على الشرک. و قوله: أعزّ به الذلّه. أى ذلّه الإسلام و أهله، و أذلّ به العزّه: أى عزّه الشرک و أهله، و بین کلّ قرینتین من هذه الستّ مقابله و مطابقه فقابل بالتفریق التألیف و بالذلّه الإعزاز و بالعزّه الإذلال.

و قوله: و کلامه بیان. إى لما انغلق من أحکام کتاب اللّه کقوله تعالى لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ.

و قوله: و صمته لسان. استعار لفظ اللسان لسکوته، و وجه المشابهه أنّ سکوته صلى اللّه علیه و آله و سلّم مستلزم للبیان من وجهین: أحدهما: أنّه یسکت عمّا لا ینبغی من القول فیعلّم الناس السکوت عن الخوض فیما لا یعینهم الثانی: أنّ الصحابه کانوا إذا فعلوا فعلا على سابق عادتهم فسکت عنهم و لم ینکره علیهم علموا بذلک أنّه على حکم الاباحه. فکان سکوته عنهم فی ذلک بیانا له و أشبه سکوته عنه باللسان المعرب عن الأحکام. و باللّه التوفیق.


شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۴۰۱

 

بازدیدها: ۳

خطبه ۹۲ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

بَعَثَهُ وَ النَّاسُ ضُلَّالٌ فِی حَیْرَهٍ- وَ حَاطِبُونَ فِی فِتْنَهٍ- قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوَاءُ- وَ اسْتَزَلَّتْهُمُ الْکِبْرِیَاءُ- وَ اسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِیَّهُ الْجَهْلَاءُ- حَیَارَى فِی زَلْزَالٍ مِنَ الْأَمْرِ- وَ بَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ- فَبَالَغَ ص فِی النَّصِیحَهِ- وَ مَضَى عَلَى الطَّرِیقَهِ- وَ دَعَا إِلَى الْحِکْمَهِ وَ الْمَوْعِظَهِ الْحَسَنَهِ

أقول: الفصل لتقریر فضیله الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم
و الواو فی و الناس للحال: أى فی حال ما هم ضالّون عن سبیل اللّه فی حیره من أمرهم ما ذا یتبعون. و خابطون فی فتنه: أى کانت حرکاتهم على غیر نظام فی ضلال البدع، و من روى حاطبون فهو استعاره، و وجهها کونهم یجمعون فی ضلالهم و فتنتهم ما اتّفق من أقوال و أفعال کما یجمع الحاطب، و منه المثل: حاطب لیل. لمن جمع الغثّ و السمین، و الحقّ و الباطل فی أقواله.

و قوله: قد استهوتهم الأهواء.
 أى جذبتهم الآراء الباطله إلى مهاوى الهلاک أو إلى نفسها، و استزلّتهم الکبریاء: أى قادتهم إلى الزلل و الخطل عن طریق العدل و اقتفاء آثار الأنبیاء فی التواضع و نحوه، و استخفّتهم الجاهلیّه الجهلاء فطارت بهم إلى ما لا ینبغی من الغارات و الفساد فی الأرض فکانوا ذوى خفّه و طیش، و لفظ الجهلاء تأکید للأوّل کما یقال: لیل ألیل و وتدواتد.

و قوله: حیارى فی زلزال من الأمر و بلاء من الجهل.
أى لا یهتدون لجهلهم إلى مصالحهم فهو منشأ اضطراب امورهم و بلائهم بالغارات و سبى بعضهم بعضا و قتلهم.

و قوله: فبالغ. إلى آخره.
مضیّه على الطریقه سلوکه لسبیل اللّه من غیر انحراف، و دعوته إلى الحکمه و الموعظه هى دعوته إلى سبیل اللّه بهما إمتثالا لقوله تعالى ادْعُ إِلى‏ سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَهِ وَ الْمَوْعِظَهِ الْحَسَنَهِ«» فالدعوه بالحکمه الدعوه بالبرهان، و بالموعظه الدعوه بالخطابه، و قد سبقت الإشاره إلى ذلک فی المقدّمات. و اللّه ولىّ التوفیق.

شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۴۰۰

 

بازدیدها: ۳

خطبه ۹۱ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

القسم الأول
فَتَبَارَکَ اللَّهُ الَّذِی لَا یَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا یَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ- الْأَوَّلُ الَّذِی لَا غَایَهَ لَهُ فَیَنْتَهِی- وَ لَا آخِرَ لَهُ فَیَنْقَضِیَ

المعنى
أقول: تبارک: قیل: مشتقّ من البروک المستلزم للمقام فی موضع واحد و الثبات فیه، و قیل: من البرکه و هو الزیاده، و بالاعتبار الأوّل یکون إشاره إلى عظمته باعتبار دوام بقائه و استحقاقه قدم الوجود لذاته و بقاء وجوده لا عن استفتاح و لا إلى انقطاع، و بالاعتبار الثانی إشاره إلى فضله و إحسانه و لطفه و هدایته و وجوه الثناء علیه.

و قوله: الّذى لا یبلغه بعد الهمم و لا یناله حدس الفطن.
 کقوله فى صدر الخطبه الاولى لا یدرکه بعد الهمم و لا یناله غوص الفطن إلّا أنّه أبدل الغوص هنا بالحدس: و الحدس فی اللغه الظنّ، و فی اصطلاح العلماء لمّا کان الفکر عباره عن حرکه الذهن منتقلا من المطالب إلى المبادی‏ء ثمّ منها إلى المطالب کان الحدس عباره عن جوده هذه الحرکه إلى اقتناص الحدّ الأوسط من غیر طلب و تجشّم کلفه، و هو مقول بحسب التشکیک، و هو بجمیع اعتباراته و بأعلى رتبته قاصر عن تناول ذات الحقّ تعالى کما سبق.

و قوله: الأوّل. إلى آخره.
و قد مرّ تفسیر أوّلیّته و آخریّته غیر مرّه. و باللّه التوفیق.

القسم الثانی
فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِی أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ- وَ أَقَرَّهُمْ فِی خَیْرِ مُسْتَقَرٍّ- تَنَاسَخَتْهُمْ کَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ- کُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ- قَامَ مِنْهُمْ بِدِینِ اللَّهِ خَلَفٌ- حَتَّى أَفْضَتْ کَرَامَهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ ص- فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً- وَ أَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً- مِنَ الشَّجَرَهِ الَّتِی صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِیَاءَهُ- وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَیْرُ الْعِتَرِ- وَ أُسْرَتُهُ خَیْرُ الْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَیْرُ الشَّجَرِ- نَبَتَتْ فِی حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِی کَرَمٍ- لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرٌ لَا یُنَالُ- فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصِیرَهُ مَنِ اهْتَدَى- سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ- وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِیرَتُهُ الْقَصْدُ- وَ سُنَّتُهُ الرُّشْدُ وَ کَلَامُهُ الْفَصْلُ وَ حُکْمُهُ الْعَدْلُ- أَرْسَلَهُ عَلَى حِینِ فَتْرَهٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ هَفْوَهٍ عَنِ الْعَمَلِ وَ غَبَاوَهٍ مِنَ الْأُمَمِ اعْمَلُوا رَحِمَکُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْلَامٍ بَیِّنَهٍ- فَالطَّرِیقُ نَهْجٌ یَدْعُوا إِلى‏ دارِ السَّلامِ- وَ أَنْتُمْ فِی دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وَ فَرَاغٍ- وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَهٌ- وَ الْأَقْلَامُ جَارِیَهٌ- وَ الْأَبْدَانُ صَحِیحَهٌ- وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَهٌ- وَ التَّوْبَهُ مَسْمُوعَهٌ- وَ الْأَعْمَالُ مَقْبُولَهٌ

اللغه

أقول: النسخ: النقل. و أفضت: انتهت. و الارومه: الأصل. و الصدع: الشقّ. و عتره الرجل: نسله و رهطه الأدنون. و اسرته: قومه: و بسقت: طالت، و الزند: العود الأعلى یقدح به. و نهج: واضح.

المعنى

و قوله، و استودعهم. إلى قوله: خلف.
إشاره إلى الأنبیاء علیهم السّلام القائمین بدین اللّه. و اعلم أنّ دین اللّه واحد بعثت جمیع الأنبیاء لتسلیک الخلق إیّاه و له أصل و فروع فأصله الطریق إلى معرفته، و الاستکمال بها، و جماع مکارم الأخلاق، و نظام أمر الخلق فی معاشهم و معادهم و هذه الامور هى المراه من الشرع و هو أصل لا یخالف فیه نبىّ نبیّا. فأمّا الاختلاف الواقعه فی الشرائع فهى امور جزئیّه بحسب مصالح جزئیّه یتعلّق بوقت الرسول المعیّن و حال الخلق المرسل إلیهم یوقع علیها ذلک الأصل، و تکون کالمشخّصات له و العوارض الّتى یختلف بها الطبیعه الواحده النوعیّه. و أفضل مستودع استودعهم فیه حظائر قدسه و منازل ملائکته و هو خیر مستقرّ أقرّهم فیه و محلّ کرامته فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیکٍ مُقْتَدِرٍ و تناسخ الأصلاب لهم إلى مطهّرات الأرحام نقلهم إلیها نطفا، و کرائم الأصلاب: ما کرم منها و حقّ لأصلاب سمحت بمثلهم أن توصف بالکرم. و مطهّرات الأرحام: ما طهر منها و حقّ لما استعدّ منها الإنتاج مثل هذه الأمزجه و قبولها أن تکون طاهره من کدر الفساد. و الشیعه یطهّرون اصول الأنبیاء من طرف الآباء و الامّهات عن الشرک و نحوه قول الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم: نقلنا من الأصلاب الطاهره إلى الأرحام الزکیّه. و یحتمل أن یرید بأفضل مستودع و خیر مستقرّ فی مبدئهم أصلاب الآباء و أرحام الامّهات و یکون قوله: تناسختهم تفسیرا له و بیانا.

و قوله: کلّما مضى منهم سلف قام بدین اللّه منهم خلف.
إشاره إلى ضروره وجود الأنبیاء عند الحاجه إلیهم على التعاقب، و قد سبقت الإشاره إلیه.

و قوله: حتّى أفضت کرامه اللّه إلى محمّد صلى اللّه علیه و آله و سلّم. إلى قوله: امناءه.
 إشاره إلى غایه سلسله الأنبیاء علیهم السّلام، و کنّى بکرامه اللّه عن النبوّه و استعار لفظ المعدن و المنبت و المغرس لطینه النبوّه و هى مادّته القریبه الّتى استعدّت لقبول مثله، و وجه الاستعاره أنّ تلک المادّه منشأ لمثله کما أنّ الأرض معدن الجواهر و مغرس الشجر الطیّب، و ظاهر أنّ أصلا سمح بمثله أفضل المعادن و أعزّ الاصول، و قیل: أراد بذلک مکّه- شرّفها اللّه تعالى- و قیل: بیته و قبیلته ثمّ میّزه بما هو أخصّ و أشرف فقال: من الشجره الّتى صدع منها أنبیاءه فاستعار لفظ الشجره لصنف الأنبیاء، و کما أنّ الشجره أشرف من طینتها کذلک صنف الأنبیاء أشرف من قوابل صورهم، و وجه الاستعاره هو ما کنّى بالانصداع عنه من تفرّع أشخاص الأنبیاء عن صنفهم کما یتفرّع أغصان الشجره منها. و أمناءه: أى على رسالته.

و قوله: عترته خیر العتر و اسرته خیر الاسر.
 بدء بالعتره لما عرفت أنّها أخصّ و أقرب من الاسره، و مصداق أفضلیّه عترته قوله صلى اللّه علیه و آله و سلّم: ساده أهل المحشر ساده أهل الدنیا أنا و علىّ و حسن و حسین و حمزه و جعفر. و وجه أفضلیّه اسرته قوله صلى اللّه علیه و آله و سلّم: إنّ اللّه اصطفى من العرب معدا، و اصطفى من معد بنى النضر بن کنانه، و اصطفى هاشما من بنى النضر، و اصطفانى من بنى هاشم. و قوله صلى اللّه علیه و آله و سلّم: قال لى جبرئیل: یا محمّد قد طفت الأرض شرقا و غربا فلم أجد فیها أکرم منک و لا بیتا أکرم من بنى هاشم. و قوله صلى اللّه علیه و آله و سلّم: الناس تبع لقریش برّهم لبرّهم و فاجرهم لفاجرهم.

و قوله: و شجرته خیر الشجز.
 قیل: أراد بالشجر فی الموضعین إبراهیم علیه السّلام، و قیل: أراد هاشما و ولده بقرینه قوله: نبتت فی حرم و أراد مکّه، و رشّح تلک الاستعاره بوصف الإنبات و البسق، و کنّى بالکرم الّذى فیه عن زکاء أصله و ما استلزم من الفضل، و کنّى بالفروع عن أهله صلى اللّه علیه و آله و سلّم و ذریّته و سایر النجباء من بنى هاشم، و بوصفهم بالطول عن بلوغهم فی الشرف و الفضل الغایه البعیده، و هو ترشیح للاستعاره. و کذلک الثمر، و کنّى به عن العلوم و الأخلاق المتفرّعه عنه و عن أئمّه امّته، و بکونها لا تنال عن شرفها و غموض أسرارها: أى أنّها لشرفها و علوّها لا یمکن أن یطاول فیها، و أو لغموض أسرارها لا تصل الأذهان إلیها.

و قوله: فهو إمام من اتّقى. إلى قوله: لمعه
استعار لفظ البصیره و السراج و الشهاب و الزند له صلى اللّه علیه و آله و سلّم، و وجه الاستعاره کونه سبب هدایه الخلق کما أنّ هذه الامور الثلاثه کذلک و رشّح استعاره السراج بلمعان الضوء و الشهاب بسطوع النور و الزند ببروق اللمع، و یحتمل أن یکون وجه استعاره الزند هو کونه مثیرا لأنوار العلم و الهدایه.

و قوله: سیرته القصد.

 أى طریقته العدل و الاستواء على الصراط المستقیم و عدم الانحراف إلى أحد طرفى الإفراط و التفریط، و سنّته الرشد: أى سلوک طریق اللّه عن هدایته، و کلامه الفصل: أى الفاصل بین الحقّ و الباطل کقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ و حکمه العدل الواسط بین رذیلتى الظلم و الانظلام.

و قوله: أرسله على حین فتره من الرسل و هفوه من العمل.
 أى زلّه عنه و غباوه من الامم: أى جهل منهم و عدم فطنه لما ینبغی، و قد سبق بیان الفتره.

و قوله: اعملوا رحمکم اللّه على أعلام بیّنه.
 استعار لفظ الأعلام لأئمّه الدین و ما بأیدیهم من مصابیح الهدى، و کنّى بکونها بیّنه عن وجودها و ظهورها بین الخلق.

و قوله: و الطریق نهج یدعو إلى دار السلام.
 فالطریق: الشریعه. و نهجه: وضوحها فی زمانه علیه السّلام و قرب العهد بالرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم و ظاهر کون الشریعه داعیه إلى الجنّه. و إسناد الدعوه إلى الطریق مجاز إذ الداعى قیمّ الطریق و واضعها.

و قوله: و أنتم فی دار مستعتب.
أى دار الدنیا الّتى یمکن أن یستعتبوا فیعتبوا: أى یطلبوا رضا اللّه بطاعته فرضى عنکم، و على مهل: أى إمهال و إنظار و فراغ من عوائق الموت و ما بعده.

و قوله: و الصحف منشوره. إلى آخره.
الواوات السبع للحال، و المراد صحائف الأعمال و أقلام الحفظه على الخلق أعمالهم.
و فایده التذکیر بهذه الامور التنبیه على وجوب العمل معها و تذکّر أضدادها ممّا لا یمکن معه العمل و لا ینفع الندم من الموت و طىّ الصحف و جفاف الأقلام و فساد الأبدان و خرس الألسنه و عدم سماع التوبه کما قال تعالى فَیَوْمَئِذٍ لا یَنْفَعُ الَّذِینَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ یُسْتَعْتَبُونَ«» و باللّه التوفیق.

شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۳۹۴

 

بازدیدها: ۲۱

خطبه ۹۰ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

أَمَّا بَعْدَ أَیُّهَا النَّاسُ- فَأَنَا فَقَأْتُ عَیْنَ الْفِتْنَهِ- وَ لَمْ یَکُنْ لِیَجْتَرِئَ عَلَیْهَا أَحَدٌ غَیْرِی- بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَیْهَبُهَا- وَ اشْتَدَّ کَلَبُهَا- فَاسْأَلُونِی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِی- فَوَ الَّذِی نَفْسِی بِیَدِهِ- لَا تَسْأَلُونِی عَنْ شَیْ‏ءٍ- فِیمَا بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَ السَّاعَهِ- وَ لَا عَنْ فِئَهٍ تَهْدِی مِائَهً وَ تُضِلُّ مِائَهً- إِلَّا أَنْبَأْتُکُمْ بِنَاعِقِهَا- وَ قَائِدِهَا وَ سَائِقِهَا وَ مُنَاخِ رِکَابِهَا- وَ مَحَطِّ رِحَالِهَا- وَ مَنْ یُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا- وَ مَنْ یَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً- وَ لَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِی- وَ نَزَلَتْ بِکُمْ کَرَائِهُ الْأُمُورِ- وَ حَوَازِبُ الْخُطُوبِ- لَأَطْرَقَ‏ کَثِیرٌ مِنَ السَّائِلِینَ- وَ فَشِلَ کَثِیرٌ مِنَ الْمَسْئُولِینَ- وَ ذَلِکَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُکُمْ- وَ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ- وَ ضَاقَتِ الدُّنْیَا عَلَیْکُمْ ضِیقاً- تَسْتَطِیلُونَ مَعَهُ أَیَّامَ الْبَلَاءِ عَلَیْکُمْ- حَتَّى یَفْتَحَ اللَّهُ لِبَقِیَّهِ الْأَبْرَارِ مِنْکُمْ- إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ- وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ- یُنْکَرْنَ مُقْبِلَاتٍ- وَ یُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ- یَحُمْنَ حَوْمَ الرِّیَاحِ یُصِبْنَ بَلَداً- وَ یُخْطِئْنَ بَلَداً- أَلَا وَ إِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِی عَلَیْکُمْ فِتْنَهُ بَنِی أُمَیَّهَ- فَإِنَّهَا فِتْنَهٌ عَمْیَاءُ مُظْلِمَهٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا- وَ خَصَّتْ بَلِیَّتُهَا- وَ أَصَابَ الْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِیهَا- وَ أَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِیَ عَنْهَا- وَ ایْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِی أُمَیَّهَ لَکُمْ- أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِی کَالنَّابِ الضَّرُوسِ- تَعْذِمُ بِفِیهَا وَ تَخْبِطُ بِیَدِهَا- وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا- لَا یَزَالُونَ بِکُمْ حَتَّى لَا یَتْرُکُوا مِنْکُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ- أَوْ غَیْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ- وَ لَا یَزَالُ بَلَاؤُهُمْ عَنْکُمْ- حَتَّى لَا یَکُونَ انْتِصَارُ أَحَدِکُمْ مِنْهُمْ- إِلَّا کَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ- وَ الصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ- تَرِدُ عَلَیْکُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِیَّهً- وَ قِطَعاً جَاهِلِیَّهً- لَیْسَ فِیهَا مَنَارُ هُدًى وَ لَا عَلَمٌ یُرَى- نَحْنُ أَهْلَ الْبَیْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاهٍ وَ لَسْنَا فِیهَا بِدُعَاهٍ- ثُمَّ یُفَرِّجُهَا اللَّهُ عَنْکُمْ کَتَفْرِیجِ الْأَدِیمِ- بِمَنْ یَسُومُهُمْ خَسْفاً وَ یَسُوقُهُمْ عُنْفاً- وَ یَسْقِیهِمْ بِکَأْسٍ مُصَبَّرَهٍ لَا یُعْطِیهِمْ إِلَّا السَّیْفَ- وَ لَا یُحْلِسُهُمْ إِلَّا الْخَوْفَ- فَعِنْدَ ذَلِکَ تَوَدُّ قُرَیْشٌ بِالدُّنْیَا- وَ مَا فِیهَا لَوْ یَرَوْنَنِی مَقَاماً وَاحِداً- وَ لَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ- لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْیَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا یُعْطُونِیهِ

اللغه

أقول: فقات عینه: عیّرتها. و ماج: اضطرب. و الغیهب: الظلمه: و الکلب: الشرّ و الکلب: داء معروف. و الفئه: الطائفه. و ناعقها: الداعى لها. و المناخ بالضمّ: محلّ البروک و حوازب الخطوب: ما حزب منها: أى أصاب. و التقلّص: التقبّض. و شبّهت: اشتبهت و أوقعت الشبهه. و حام الطائر: دار. و الخطّه. الحال و الأمر. و الناب: الناقه المسنّه. و الضروس: الّتى تعصّ حالبها. و العذم: العضّ و هو الکدم أیضا: و الزبن: الدفع. و شوها: جمع شوهاء و هى قبیحه المنظر، و سامه خسفا. أولاه إلّا. و العنف: شدّه السوق. و تحلسهم: أى تلبسهم الحلس و هو الکساء تحت بردعه البعیر. و الجزر: القطع و منه سمیّت الجزور لما ینحر من الإبل.

المعنی

و مقصود هذا الفصل التنبیه على فضیلته و شرف وقته به، و على رذیله بنى امیّه بذکر فتنتهم و ما یکون منهم لیشتدّ النفار عنهم و تقوى الرغبه إلیه من وجهین: أحدهما: بإخباره عمّا سیکون، و الثانی: بذکر الشرور من غیره.

فقوله: فأنا فقأت عین الفتنه
 إشاره إلى فتنه أهل البصره و غیرها، و استعار لها لفظ العین، و إنّما خصّ العین لأنّها أشرف عضو فى الوجه، و بها تصرّف الشخص و حرکته، و رشّح الاستعاره بذکر الفقاء و کنّى به عن زوال فتنتهم بسیفه،

و قوله: و لم یکن لیجترئ علیها أحد غیرى
 أى إنّ الناس کانوا لا یتجاسرون على قتال أهل القبله و یخافون من ذلک الحرج و الإثم و لا یعلمون کیفیّه قتالهم هل یتّبعون مدبرهم و هل یجهزون على جریحهم و هل تسبى ذراریهم و تقسم أموالهم إذا بغوا أم لا حتّى أقدم علیه السّلام على فتنتهم ففقأ عینها فسکنت بعد هیاجها، و مبدء ذلک حرب عایشه، و قد صرّح علیه السّلام بذلک فى ألفاظ اخرى فقال: أمّا بعد فأنا فقأت عین الفتنه شرقیّها و غربیّها و منافقها و مارقها لم یکن لیجترئ علیها غیرى و لو لم أکن لما قوتل أصحاب الجمل و لا صفّین و لا أصحاب النهر، و یحتمل أن یکون المراد فقأت عین أهل الفتنه فحذف المضاف و أقام المضاف إلیه مقامه و یکون فقاؤه لعیونهم کنایه عن قتلهم، و روى أنّ من المتوقّفین عن الحرب الأحنف بن قیس و جماعه معه، و کنىّ بتموّج غیهبها عن انتشار ظلمات الشبهه عن تلک الفتن فى أذهان الناس فجهلوا أنّ خلاف طلحه و خروج عایشه کان حقّا أو باطلافکان ذلک سببا لاضطرابهم و قتالهم و قتلهم، و کذلک کنىّ باشتداد کلبها عن شدّه ما وقع منها من الشرور، و کلب أهلها و حرصهم على القتل و القتال کنایه بالمستعار فى الموضعین.

و قوله: فاسئلونى. إلى قوله: و من یموت منهم موتا.
 تعرّض للأسؤله عمّا سیکون و لم یکن لیجترئ على ذلک أحد غیره من بین سایر الصحابه و التابعین، و لو ادّعى غیر ذلک لکذّبه العیان و فضّحه الامتحان، و روى أنّ قتاده دخل الکوفه فالتفّت علیه الناس فقال: سلونى عمّا شئتم. و کان أبو حنیفه حاضرا و هو إذن غلام حدث السنّ فقال: سلوه عن نمله سلیمان أ کانت ذکرا أم انثى. فسئلوه فانقطع فقال: أبو حنیفه کانت انثى فقیل له: بم عرفت ذلک فقال: من کتاب اللّه، و هو قوله: قالَتْ نَمْلَهٌ و لو کان ذکرا لقال: قال نمله و ذلک أنّ النمله تقع على الذکر و الانثى کالحمامه و الشاه، و إنّما یمیّز بینهما بعلامه التأنیث فانظر إلى هذا المعجب بنفسه کیف انقطع عن سؤال یمکن الفطن أن یجیب عنه بأدنى سعى فکیف به إذا سئل عن الامور المستقبله الّتى لا یتنزّلها من عالم الغیب إلّا من أیّد بقوّه إلهیّه تکشف لنور بصیرته معها حجب الأسرار، و قد بیّنا فیما سبق وجه تمکّنه من الإخبار عمّا سیکون و کیفیّه ذلک، و أراد بالساعه القیامه، و استعار أوصاف الإبل و رعاتها و أصحابها من الناعق و القائد و السائق و المناخ و الرکاب و الرحال للفئه المهدیّه و الضالّه و من یهدیهم و یضلّهم ملاحظه لشبههم بالإبل فى الاجتماع و الانقیاد لقائد و داعى، و الضمیر فى أهلها یعود إلى الفئه.

و قوله: و لو قد فقدتمونى. إلى قوله: المسئولین.
 کرائه الامور ما یکرهون منها و حوازب الخطوب ما یصیبهم من الامور العظیمه المهمّه و أطراق السائلین لحیرتهم فى عواقب تلک الخطوب و ما یکون منها و کیفیّه الخلاص و فشل کثیر من المسئولین: أى جنبوا عن ردّ الجواب لجهلهم بعواقبها و ما یسئلون عنه منها.

و قوله: ذلک.
 إشاره فى أطراق السائلین و فشل المسئولین.

و قوله: إذا قلصت حربکم
و قوله: إذا قلصت حربکم تفسیر لکرائه الامور النازله بهم، و استعار لفظ التقلیص و التشمیر عن ساق الحرب و وجه الاستعاره تشبیهها بالمجدّ فى الأمر الساعى فیه، و کما أنّه إذا أراد أن یتوجّه قلّص ثیابه و شمّرها عن ساقه لئلّا تعوفه و تهیّأ و أجمع علیه کذلک الحرب فى کونها مجتمعه عن النزول بهم و اللحوق لهم، و الواو فی قوله: و ضاقت للعطف على شمّرت، و موضع تستطیلون النصب على الحال.

و قوله: حتّى یفتح اللّه لبقیّه الأبرار منکم.
أى الّذین یسلمون بنى امیّه فى دینهم و أعمارهم و یفتح اللّه لهم بهلاکهم و زوال دولتهم.

و قوله: إنّ الفتن إذا أقبلت تشبّهت [شبّهت خ‏].
 أى یکون فى مبدأها متشبّهه بالحقّ فی أذهان الخلق و إذا أدبرت نبّهت لأذهان الخلق على کونها فتنه بعد وقوع الهرج و المرج بین الناس و اضطراب امورهم بسببها و أکثر ما یکون ذلک عند إدبارها کالفساد فى الدول مثلا الّذی یعرف به عامّه الخلق کونها فتنه و ضلالا عن سبیل اللّه أکثر ما یکون فى آخرها فیکون مؤذنا بزوالها و علامه مبشّره.
و قوله: ینکرن مقبلات و یعرفن مدبرات.

و قوله: ینکرن مقبلات و یعرفن مدبرات. تفسیر له: أى لا یعرف فی مبدء الحال کونها فنه و تشتبه بکونها حقّا و دعاء هدى فاذا استعقبت عرفت أنّها عن الحقّ بمعزل و إنّ دعاتها کانوا دعاه ضلاله.

و قوله: و یحمن حوم [حول خ‏] الریاح.
استعار لها لفظ الحوم ملاحظه لشبهها فی دورانها الموحوم و وقوعها عن قضاء اللّه من دعاه الضلال فی بلد دون بلد بالطائر و الریح، و لذلک شبّهها بحومها و کذلک لفظ الخطاء.

و قوله: ألا إنّ أخوف الفتن عندى إلى آخر.
شروع فى تعیین ما یرید أن یخبر به و هو بعض ما تعرّض للسؤال عنه، و إنّما کانت هذه الفتن أخوف الفتن لشدّتها على الإسلام و أهله و کثره بلوى أهل الدین فیها بالقتل‏ و أنواع الأذى و یکفى فى عظم تلک الفتنه هتکهم حرمه رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و سلّم و قتل الحسین علیه السّلام و ذریّته، و هتک حرمه الإسلام بهدم الکعبه و حرقها، و قتل ابن الزبیر و سبّ علىّ علیه السّلام ثمانین سنه، و ما انتشر من البلاء و عمّ بتولیتهم للحجّاج دماء المسلمین إلى غیر ذلک من منکراتهم المسطوره فی التواریخ و أشار بکونها فتنه عمیاء إلى ذلک، و استعار لفظ العمى لها لجریانها على غیر قانون حقّ کالأعمى المتصرّف فى حرکاته فى غیر جادّه، أو لکونها لا یسلک فیها سبیل الحقّ کما لا یهتدى بالعین العمیاء و کذلک لفظ المظلمه و قوله: عمّت خطّتها لکونها ولایه عامّه، و خصّت بلیّتها: أى بأهل التقوى و شیعه علىّ علیه السّلام و من بقى من الصحابه و التابعین الّذینهم أعیان الإسلام، و قوله: أصاب البلاء من أبصر فیها و أخطأ من عمى عنها: أى من اهتدى لکونها فتنه کان فیها فی بلاء من نفسه و منهم أمّا من نفسه فالحزن الطویل من مشاهده المنکر، و أمّا منهم فلأنّ المتّقى العالم بکونهم أئمّه ضلال منحرف عنهم و غیر داخل فى تصرّفهم الباطل، و کان من شأنهم تتبّع من هذا حاله بالأذى و القتل فکان البلاء به أخصّ، و أمّا من لم یهتد لکونها فتنه بل کان فى عمى الجهل عنها فهو منقاد لدعوتهم الباطله منساق تحت رایات ضلالهم جار على وفق أوامرهم فکان سالما من بلائهم ثمّ أردف ذلک بالقسم البارّ لیجدنّهم الناس أرباب سوء لهم و شبّههم فی أفعالهم المضرّه لهم بالناب الضروس لحالبها، و أشار إلى وجه الشبهه بأوصاف: فکدمها و عضّها و خبطها بیدها و زبها برجلها و منعها درّها إشاره إلى جمیع حرکاتها الموذیه الردیئه و هى تشبه حرکاتهم فی الخلق بالأذى و القتل و منع الوفد و الاستحقاق من بیت المال ثمّ أردف ذلک بذکر غایتین لحرکاتهم الشریّه و بلائهم للناس: إحداهما: أنّهم لا یترکون من الأذى و القتل إلّا أحد رجلین إمّا نافع لهم سالک مسلکهم أو من لا یضرّهم بإنکار منکر علیهم. و لا یخافون على دولتهم من سایر العوامّ و السوقه، الثانیه أنّه لا یکون انتصارهم منهم إلّا مثل انتصار العبد من سیّده و الصاحب ممّن استصحبه: أى کما لا یمکن العبد أن ینتصر من سیّده و التابع المستصحب الّذى من شأنه الضعف و عدم الاستقلال بنفسه ممّن یستصحبه کذلک لا یمکن بقیّه هؤلاء أن ینتصروا من بنى امیّه أصلا، و یحتمل أن یرید هناک ما یشبه الانتصار من الغیبه و نحوها کما قال علیه السّلام فی موضع‏ آخر: و یکون نصره أحدکم کنصره العبد من سیّده إذا شهد أطاعه، و إذا غاب اغتابه. ثمّ أردف ذلک بذکر فتنتهم و أنّها مشتمله على فتن فوق واحده تأتى شآبیب و قطعا کقطع اللیل المظلم، و من روى فتنهم بلفظ الجمع فأراد جزئیّات شرورهم فی دولتهم، و استعار لفظ الشوهاء لقبحها عقلا و شرعا، و وجه المشابهه کونها منفورا عنها کما أنّ قبیحه المنظر کذلک، و کذلک استعار لفظ القطع لورودها علیهم دفعات کقطع الخیل المقبله فی الغاره و الحرب، و أشار بکونها جاهلیّه إلى کونها على غیر قانون عدلىّ کما أنّ حرکات أهل الجاهلیّه کانت کذلک، و لذلک قال: لیس فیها منار هدى و لا علم یرى: أى لیس فیها إمام عدل، و لا قانون حقّ یقتدى به.

و قوله: نحن أهل البیت منها بمنجاه و لسنا فیها بدعاه
أى إنّا ناجون من آثامها و الدخول فیها و الدعوه إلى مثلها، و لیس المراد أنّا سالمون من أذاهم غیر داعین فیها إلى الحقّ بشهاده دعوه الحسین علیه السّلام إلى نفسه و قتله و أولاده و هتک ذریّته، و یحتمل أن یرید أنّا بمنجاه من آثامها و لسنا فیها بدعاه مطلقا و الحسین علیه السّلام لم یکن داعیا منبعثا من نفسه للدعوه، و إنّما کان مدعوّا إلى القیام من أهل الکوفه و مجیبا لهم.

و قوله: ثمّ یفرّجها [یفرج خ‏] اللّه کتفریج الأدیم. إلى قوله: إلّا الخوف.
 إشاره إلى زوال دولتهم بظهور بنى العبّاس علیهم و قلعهم و استیصالهم و تتّبعهم لآثارهم و حصول الفرج منهم لبقیّه الأبرار من عباد اللّه المقصودین بإذاهم کما یفرج الجلد: أى یشقّ عمّا فیه، و لقد أولاهم بنوا العبّاس من الذلّ و الهوان، و أذا قوهم کأس العذاب طعوما مختلفه، و أروهم عیان الموت ألوانا شتّى کما هو مذکور فی کتب التاریخ، و لفظ الکأس و التصبیر و العطیّه مستعار، و کذلک لفظ التحلیس. و وجه المشابهه جعلهم الخوف شعارا لهم کما أنّ حلس البعیر کذلک.

و قوله: حتّى تودّ قریش إلى آخره.
إشاره إلى غایه هذه الفرقه المتقلّبه من قریش على هذا الأمر أى أنّ حالهم فی التراذل و الضعف عن محاربتهم ینتهى إلى أن یحبّوا رؤیته مقاما واحدا مع أنّه أبغض الخلق‏ إلیهم لیقبل منهم حینئذ ما یطلب الیوم بغضه من نصرتهم له و اتّباعهم لأمره و انقیادهم لهداه و یمنعونه إیّاه، و کنّى عن قصر ذلک المقام المتمنّى له بمقدار زمان جزر الجزور، و صدقه علیه السّلام فی هذا الخبر ظاهر فإنّ أرباب السیر نقلوا أنّ مروان بن محمّد آخر ملوک بنى امیّه قال یوم الزاب حین شاهد عبد اللّه بن محمّد بن علىّ بن عبد اللّه بن العبّاس: مارّا به فی صفّ خراسان لوددت أنّ علىّ بن أبى طالب تحت هذه الرایات بدلا من هذا الفتى. و القصّه مشهوره. و باللّه التوفیق.

شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۳۸۸

بازدیدها: ۱۷

خطبه۸۹ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام لما أرید على البیعه بعد قتل عثمان

دَعُونِی وَ الْتَمِسُوا غَیْرِی- فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً- لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ- لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ- وَ لَا تَثْبُتُ عَلَیْهِ الْعُقُولُ- وَ إِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ- وَ الْمَحَجَّهَ قَدْ تَنَکَّرَتْ- . وَ اعْلَمُوا أَنِّی إِنْ أَجَبْتُکُمْ- رَکِبْتُ بِکُمْ مَا أَعْلَمُ- وَ لَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَ عَتْبِ الْعَاتِبِ- وَ إِنْ تَرَکْتُمُونِی فَأَنَا کَأَحَدِکُمْ- وَ لَعَلِّی أَسْمَعُکُمْ وَ أَطْوَعُکُمْ- لِمَنْ وَلَّیْتُمُوهُ أَمْرَکُمْ- وَ أَنَا لَکُمْ وَزِیراً- خَیْرٌ لَکُمْ مِنِّی أَمِیراً

المعنى
أقول: حاصل هذا الفصل أنّه لا بدّ لکلّ مطلوب على أمر من تعزّز فیه و تمنّع.
و الحکمه فی ذلک أنّ الطالب له یکون بذلک أرغب فیما یطلب فإنّ الطبع حریص على ما منع سریع النفره عمّا سورع إلى إجابته فیه فأراد علیه السّلام التمنّع علیهم لتقوى رغبتهم إلیه فإنّه لم یصل إلیه هذا الأمر إلّا بعد اضطراب فی الدین فی قتل عثمان و الجرأه على الدم‏ فاحتاج فی تقویم الخلق و ردّهم إلى قواعد الحقّ إلى أنّ یزدادوا فیه رغبه بهذا الکلام و مثله فقال: دعونى و التمسوا غیرى. ألا ترى أنّه نبّههم بعد هذه التمنّع على أنّ هاهنا امورا صعبه مختلفه یرید أن ینکرها علیهم و یقاوم ببعضهم فیها بعضا و یحملهم على الصلاح، و جعل استقباله لتلک الامور الصعبه علّه لاستقالته من هذا الأمر فقال:

قوله فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب
أى لا تصبر و لا تثبت علیه العقول بل تنکره و تأباه لمخالفته الشریعه و مضادّته لنظام العالم، و ذلک الأمر هو ما کان یعلمه من اختلاف الناس علیه بضروب من التأویلات الفاسده و الشبهات الباطله کتهمه معاویه و أهل البصره له بدم عثمان و کتأویل الخوارج علیه فی الرضا بالتحکیم و نحو ذلک، و هو المکنىّ عنه بالوجوه و الألوان کنایه بالمستعار.
و قوله: و إنّ الآفاق قد أغامت و المحجّه قد تنکّرت.

و قوله: و إنّ الآفاق قد أغامت و المحجّه قد تنکّرت. استعار لفظ الغیم لما غشى آفاق البلاد و أقطار القلوب المتغیّره العازمه على الفساد من ظلمات الظلم و الجهل، و وجه المشابهه ما تستلزمه هذه الظلمات من توقّع نزول الشرور منها کما یتوقّع نزول المطر و الصواعق من الغیم، و أشار بالمحجّه إلى واضح طریق الشریعه، و تنکّرها جهل الناس بها و عدم سلوکهم لها.

و قوله: و اعلموا. إلى قوله: عتب العاتب.
 لمّا تمنّع علیهم و علم صدق رغبتهم فیه شرع فى تقریر ما یرید أن یفعله تقریرا إجمالیّا علیهم مع تمنّع دوین الأوّل فأعلمهم أنّه على تقدیر إجابتهم إلى هذا الأمر لا یرکب بهم إلّا ما یعلم من أمر الشریعه و لا یصغى إلى قول قائل خالف أمر اللّه لمقتضى هواه، و لا عتب عاتب علیه فى أنّه یفضّله أو لم یرضه بما یخالف ما یعلم من الشریعه إذ القائل و العاتب فى ذلک مفتر على اللّه و عاتب علیه و لقد وفى علیه السّلام بما وعدهم به من ذلک کما سنذکره فى قصّه أخیه عقیل لمّا استماحه صاعا من برّ أو شعیر فحمى له حدیده و قرّبها منه فأنّ عقیل فقال له: ثکلتک الثواکل أتإنّ من حدیده حماها إنسان للعبه و لا تأنّ من نار أجّجها جبّار لغضبه. و لفظ الرکوب مستعار لاستوائه على ما یعلم.

و قوله: و إن ترکتمونى إلى آخره.
أى کنت کأحدکم فى الطاعه لأمیرکم بل لعلّى أکون أطوعکم له: أى لقوّه علمه بوجوب طاعته الإمام، و إنّما قال لعلّى لأنّه على تقدیر أن یولّوا أحدا یخالف أمر اللّه لا یکون أطوعهم له بل أعصاهم و احتمال تولیتهم لمن هو کذلک قایم فاحتمال طاعته و عدم طاعته له قائم فحسن إیراد لعلّ، و الواو فى قوله: و أنا. للحال، و وزیرا و أمیرا حالان، و العامل ما تعلّق بهما الجار و المجرور، و أراد الوزیر اللغوىّ و هو المعین و الظهیر الحامل لوزر من یظاهره و ثقله، و ظاهر أنّه علیه السّلام کان وزیرا للمسلمین و عضدا لهم، و الخیریّه هاهنا تعود إلى سهوله الحال علیهم فى أمر الدنیا فإنّه إذا کان أمیرا لهم حملهم على ما تکره طباعهم من المصابره فى الحروب و التسویه فى العطایا و منعهم ما یطلبون ممّا فیه للشریعه أدنى منع، و لا کذلک إذا کان وزیرا لهم فإنّ حظّ الوزیر لیس إلّا الشور و الرأى الصالح و المعاضده فى الحروب و قد یخالف فى رأیه حیث لا یتمکّن من إلزام العمل به و إنّما کان هذا لتمنّع دوین الأوّل لأنّ قوله: إن أجبتکم. فیه إطماع لهم بالاجابه.و باللّه التوفیق.

شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۳۸۶

 

بازدیدها: ۵

خطبه ۸۸ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام تعرف بخطبه الأشباح،

و هى من جلائل خطبه، و کان سائل سئله أن یصف اللّه تعالى حتّى کأنّه یراه عیانا فغضب لذلک، و قال الخطبه. روى مسعده بن صدقه عن الصادق جعفر بن محمّد علیهما السّلام أنّه قال: خطب أمیر المؤمنین علیه السّلام هذه الخطبه على منبر الکوفه، و ذلک أنّ رجلا أتاه فقال له: یا أمیر المؤمنین صف لنا ربّنا لنزداد له حبّا و به معرفه فغضب‏ و نادى: الصلاه جامعه. فاجتمع الناس حتّى غصّ المسجد بأهله فصعد المنبر و هو مغضب متغیّر اللون فحمد اللّه و أثنى علیه و صلّى على النّبىّ صلى اللّه علیه و آله و سلّم ثمّ خطبها. و أعلم أنّ فی الخطبه فصولا:

الفصل الأوّل.
قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَا یَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ- وَ لَا یُکْدِیهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ- إِذْ کُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَ کُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ- وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وَ عَوَائِدِ الْمَزِیدِ وَ الْقِسَمِ- عِیَالُهُ الْخَلَائِقُ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ- وَ نَهَجَ سَبِیلَ الرَّاغِبِینَ إِلَیْهِ وَ الطَّالِبِینَ مَا لَدَیْهِ- وَ لَیْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ یُسْأَلْ- الْأَوَّلُ الَّذِی لَمْ یَکُنْ لَهُ قَبْلٌ فَیَکُونَ شَیْ‏ءٌ قَبْلَهُ- وَ الْآخِرُ الَّذِی لَیْسَ لهُ بَعْدٌ فَیَکُونَ شَیْ‏ءٌ بَعْدَهُ- وَ الرَّادِعُ أَنَاسِیَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِکَهُ- مَا اخْتَلَفَ عَلَیْهِ دَهْرٌ فَیَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ- وَ لَا کَانَ فِی مَکَانٍ فَیَجُوزَ عَلَیْهِ الِانْتِقَالُ وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ- وَ ضَحِکَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَیْنِ وَ الْعِقْیَانِ- وَ نُثَارَهِ الدُّرِّ وَ حَصِیدِ الْمَرْجَانِ مَا أَثَّرَ ذَلِکَ فِی جُودِهِ- وَ لَا أَنْفَدَ سَعَهَ مَا عِنْدَهُ- وَ لَکَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ مَا لَا تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الْأَنَامِ- لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِی لَا یَغِیضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِینَ- وَ لَا یُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّینَ‏

اللغه
أقول: الأشباح: الأشخاص. و یفره: یزید ماله وفورا و یتمّمه. و یکدیه: ینقص خیره. و تنفّست عنه: انفرجت. و الفلزّ: ما ینقیه الکیر ممّا یذاب من جواهر الأرض. و العقیان: الذهب الخالص. و المرجان: صغار اللؤلؤ. و ألحّ فی سؤاله: إذا أدام علیه.

و قد شرع فی وصف اللّه سبحانه باعتبارات له إلى آثاره:
الأوّل:
أنّه لا یتزیّد بما حرمه و منعه من فضله.
الثانی: و لا ینقصه عطاؤه و جوده.
ثمّ ردّ حکم الوهم علیه سبحانه بدخوله فی عموم المنتقصین بالعطایا بقوله: إذ کلّ معط منتقص سواه، و کذلک قدّسه عن الدخول فی زمره المذمومین بمنعهم ما فی أیدیهم عن طالبه بقوله: و کلّ مانع مذموم ما خلاه فکانت هاتان القضیّتان مؤکّدتین للاولیین، و برهانهما أنّ التزیّد بالمنع و التنقّص بالإعطاء إنّما یطلق فی حقّ من ینتفع و یتضرّر بالزیاده و النقصان و الانتفاع و التضرّر على اللّه محال فالتزیّد و التنقّص علیه محال، و لأنّهما یقضیان علیه بالحاجه و الإمکان، و لأنّ مقدوراته غیر متناهیه، و نبّه بقوله: إذ. على جهه الفرق بینه و بین خلقه، و إنّما انتقص المعطى من خلقه لحاجته إلى ما یعطیه و انتفاعه به، و إنّما استحقّ المانع منهم الذمّ دونه سبحانه لکون ما یصدر عنه من منع و إعطاء مضبوطا [منوطا خ‏] بنظام الحکمه و العدل دون غیره من المانعین فإنّ غالب منعهم یکون عن شحّ مطاع و هوى متّبع. و اعلم أنّ صدق الکلّیّه فی المنتقصین بالعطاء ظاهر، و أمّا فی المذمومین بالمنع فتحقیقها أنّ کلّ مانع للمال فهو إنّما یمنعه خوف الفقر و نحوه، و ظاهر أنّ الخائف من الفقر فی الدنیا محبّ لها و هو بمعزل عن عباد اللّه المتوکّلین علیه الزاهدین فی متاع الدنیا و قیناتها، و إذا کان العبد مأمورا بأن یکون من هؤلاء و فی زمرتهم فبالحرىّ أن یکون مستحقّا للذمّ على ما یمنعه من ماله فیکون حجابا لوجهه عن النظر إلى وجه اللّه الکریم فصدق الکلّیّه إذن ظاهر. و فی أدعیه زین العابدین علیه السّلام: یا من لا یزیده کثره العطاء إلّا کرما وجودا. و فیه سرّ لطیف فإنّه لمّا کان جوده سبحانه غیر متوقّف إلّا على وجود الاستحقاق، و کانت کلّ نعمه صدرت عنه معدّه لمحلّها و مهیّئه له لقبول نعمه اخرى کانت کثره عطائه مستلزمه لکثره الاعداد المستلزمه لزیاده الجود.

الثالث: أنّه المنّان بفوائد النعم و المنّه تذکیر المنعم للمنعم علیه بنعمته و التطاول علیه بها کقوله تعالى یا بَنِی إِسْرائِیلَ اذْکُرُوا نِعْمَتِیَ الَّتِی أَنْعَمْتُ عَلَیْکُمْ«» فی غیر موضع من کتابه و هى صفه مدح للحقّ سبحانه و إن کانت صفه ذمّ لخلقه، و السبب الفارق کون کلّ منعم سواه فیحتمل أن یتوقّع لنعمته جزاء و یستفید کما لا یعود إلیه ممّا أفاده و أیسره توقّع الذکر و یقبح ممّن یقابل بنعمته و یتوقّع لها جزاء أن یمّن بها لما یستلزمه المنّ من التطاول و الکبر، و توقّع الجزاء و الحاجه إلیه مع التطاول و الکبر ممّا لا یجتمعان فی العرف. إذ التطاول و الکبر إنّما یلیقان بالغنىّ عن ثمره ما تطاول به و لأنّ التطاول ممّا یتأذّى به المنعم علیه فیبطل بذلک استعداد نفس المنعم لقبول رحمه اللّه و جزائه و لذلک ورد النهى عن المنّه فی قوله تعالى یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِکُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى‏«» فجعلهما سببا لبطلان الصدقه: أى عدم استحقاق ثوابها، و فوائد النعم: ما أفاد منها. و عوائد المزید و القسم: معتادهما.


الرابع: کون الخلائق عیاله
ضمن أرزاقهم و قدّر أقواتهم، و استعار لفظ العیال للخلق بالنسبه إلى ربّهم، و وجه المشابهه أنّ عیال الرجل هو من جمعهم کیفیّتهم و یصلح حالهم کذلک الخلق إنّما خلقهم و جمعهم تحت عنایته لیصلح أحوالهم فی معاشهم و معادهم، و کذلک استعار لفظ الضمان لما وجب فی الحکمه الإلهیّه من وجود ما لا بدّ منه فی تدبیر إصلاح حالهم من الأقوات و الأرزاق، و تقدیر أقواتهم إعطاء کلّ ما کتب له فی اللوح المحفوظ من زائد و ناقص.

الخامس: کونه نهج سبیل الراغبین إلیه و الطالبین ما لدیه
و ذکر أوّلا ما یصلح حالهم فی الدنیا و هو ضمان الأرزاق و تقدیر الأقوات ثمّ أردفه بما هو سبب صلاح حالهم فی الآخره من نهج السبیل و ایضاحه و أشار به إلى ایضاح الشریعه لطریق السالکین الراغبین فی النظر إلى وجهه الکریم و الطالبین لما عنده من النعیم المقیم.

السادس: کونه لیس بما سئل بأجود منه بما لم یسئل
و یستلزم بیان هذا الوصف إشاره لطیفه و هو أنّ فیضان ما صدر عنه سبحانه له اعتباران: أحدهما: بالنظر إلى جوده‏ و هو من تلک الجهه غیر مختلف فی جمیع الموجودات بل نسبتها إلیه على سواء بذلک الاعتبار. فلا یقال: هو بکذا أجود منه بکذا. و إلّا لاستلزم ذلک أن یکون ببعض الأشیاء أبخل أو إلیها أحوج فیلزمه النقصان تعالى اللّه عن ذلک، و الثانی: بالنظر إلى الممکن نفسه و الاختلاف الواقع فی القرب و البعد إلى جوده إنّما هو من تلک الجهه فکلّ ممکن کان أتمّ استعدادا و أقبل للوجود و أقلّ شرطا و معاندا کان أقرب إلى جوده. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ السائل و إن حصل له ما سأل من اللّه تعالى دون ما لم یسئل فلیس منعه ما لم یسئله لعزّته عند اللّه و لیس بینه و بین ما سئل بالنسبه إلى جود اللّه تعالى فرق و تفاوت بل إنّما خصّ بما سئل لوجوب وجوده له عند تمام قبوله له بسؤاله دون ما لم یسئله و لو سئل ما لم یسئله و استحقّ وجوده لما کان فی الجود الإلهىّ بخل به و لا منع فی حقّه و إن عظم خطره و جلّ قدره و لم یکن له أثر نقصان فی خزائن ملکه و عموم جوده. و إلى هذا أشار علىّ بن موسى الرضا علیه السّلام و قد سئل عن الجواد فقال: لسؤالک وجهان إن أردت المخلوق فالّذى یؤدّى ما افترض اللّه علیه و البخیل الّذى یمنع ما افترض اللّه علیه و إن أردت الخالق فهو الجواد إن أعطى و إن منع لأنّه إن أعطى أعطى من له و إن منع منع من لیس له. فقوله: له. و لیس له، إشارتان إلى أنّ الجود الإلهىّ إنما یهب. و یتوقّف فی هبته على وجود المستحقّ. و قد نزّهه علیه السّلام بهذا الوصف عن ضنّه الخلق إذ کان من شأنهم أن یکونوا بما سئلوا أجود منهم بما لم یسألوا لکونه أسهل علیهم و من شأن السائل أن لا یسألهم ما هو أعزّ عندهم و لذلک کانوا بما سئلوا أجود.

السابع:
الأوّل الّذى لم یکن له قبل فیکون شی‏ء قبله.

الثامن: و الآخر الّذى لیس له بعد فیکون شی‏ء بعده
و قد أشرنا إلى هذین الوصفین فیما سلف و نزیدهما بیانا فنقول: الأولیّه و الآخریّه اعتباران إضافیّان تحدثهما العقول لذاته المقدّسه و ذلک أنّک إذا لاحظت ترتیب الوجود فی سلسله الحاجه إلیه سبحانه وجدته تعالى بالإضافه إلیها أوّل إذ کان انتهائها فی سلسله الحاجه إلى غناه المطلق فهو أوّل بالعلیّه و الذات و الشرف، و إذ لیس بذى مکان فالتقدّم بالمکان منفىّ عنه و الزمان متأخّر عنه. إذ هو من لواحق الحرکه المتأخّره عن الجسم المتأخّر عن علّته فلم یلحقه القبلیّه الزمانیّه فضلا أن تسبق علیه فلم یکن شی‏ء قبله مطلقا لا من الزمانیّات و لا من غیرها و إذا اعتبرته بالنظر إلى ترتیب السلوک و لاحظت مراتب السالکین المسافرین فی منازل عرفانه وجدته آخرا إذ هو آخر ما ترتقى إلیه درجات العارفین و معرفته هى الدرجه القصوى و المنزل الآخر، و لأنّ کلّ موجود سواه فهو ممکن العدم فله من ذاته أن لا یستحقّ وجودا فضلا أن یستحقّ الآخریّه و البعدیّه المطلقه، و هو تعالى الواجب لذاته فهو المستحقّ لبعدیّه الوجود و آخریّته لذاته و بالقیاس إلى کلّ موجود. فإذن هو الأوّل المطلق الّذى لا شی‏ء قبله و الآخر المطلق الّذى لا شی‏ء بعده.

التاسع: الرادع اناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدرکه
و قد سبق أنّ القوّه الباصره إنّما تتعلّق بذى وضع و جهه و البارى تعالى منزّه عنهما فیستحیل أن یدرک بحاسّه البصر و ردعه‏ لها قهرها بذلّ النقصان عن قبول إدراکه.

العاشر: کونه لم یختلف علیه دهر فیختلف علیه الحال.
لمّا کان الزمان مبدءا للتغیّرات و اختلاف الأحوال، و کان ذاته سبحانه منزّهه عن لحوق الزمان کانت مبرّءه عن تغیّر الأحوال الجاریه على الزمانیّات و اختلافها.

الحادى عشر: و لا کان فی مکان فیجوز علیه الانتقال.
لمّا کان من شأن ذى المکان جواز أن ینتقل من مکانه، و کان سبحانه منزّها عن المکان و إلّا لزمه النقصان اللازم للإمکان لا جرم لم یجز علیه الانتقال.

الثانی عشر: کونه لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال
و ضحکت عنه أصداف البحار من فلزّ اللجین و العقیان. إلى قوله: مطالب الأنام. إنّما عدّد هذه الأشیاء فی معرض المدح له تعالى لکونها أعظم ما یقتدر علیه الإنسان و یقتنیه و أجلّ ما یتنافس فیه أبناء الدنیا تنبیها على کمال قدرته و عدم تناهى مقدوراته إذ سبق أنّه إنّما یتأثّر بهبه مثل ذلک جود المحتاجین الّذین یتعاقب علیهم الانتفاع و التضرّر، و استعار لفظ الضحک للأصداف، و وجه الشبه انفتاح الصدفتین و إسفارهما عن اللؤلؤ الشبیه فی بدوّه بأسنان الإنسان حال ضحکه و عن لحمه تشبه اللسان فی رقّه طرفه و لطافته. و من صادف الصدفه عند فتحها وجدها کالإنسان یضحک، و کذلک استعار لفظ الحصید لصغار اللؤلؤ ملاحظه لشبهه بما یحصد من الحنطه و غیرها، و اعلم أنّ الصدف و إن کان حیوانا ذو حسّ و حرکه إلّا أنّ له شبها بالنبات و لحوقا به من جهه أنّه ذو عرق فی الأرض یغتذى به. و قد أجمل ما یخرج من معادن البرّ و البحر لتمییز السامعین بینهما، و قوله: لأنّه الجواد الّذى لا یغیضه سؤال السائلین و لا یبخله إلحاح الملحّین. إنّما کان هذا علّه لعدم تأثّر جوده بهبه ما یعظم قدره و نقصان خزائنه بإخراجه منها لأنّ الجواد الّذى شأنه ما ذکر إنّما کان کذلک لکونه لیس من شأنه أن یلحقه النفع و الضرر و النقص بل نعمه غیر متناهیه، و استعار لفظ الغیض لنعمه ملاحظه لشبهها بالماء الّذى له مادّه تامّه لا ینقص بالنزح، و من روى: بغضبه. فلأنّ الغضب من لواحق المزاج، و البارى تعالى منزّه عنه فیتنزّه عن لواحقه، و کذلک البخل رذیله مکتسبه من البدن و المزاج تبعث إلیها الحاجه و النقصان فمن لا یتزیّد و لا یتنقّص فلا یؤثّر فی ملکه أن یهب الدنیا لمن سألها.


الفصل الثانی:

قوله: فَانْظُرْ أَیُّهَا السَّائِلُ- فَمَا دَلَّکَ الْقُرْآنُ عَلَیْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ- وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَایَتِهِ وَ مَا کَلَّفَکَ الشَّیْطَانُ عِلْمَهُ- مِمَّا لَیْسَ فِی الْکِتَابِ عَلَیْکَ فَرْضُهُ- وَ لَا فِی سُنَّهِ النَّبِیِّ ص وَ أَئِمَّهِ الْهُدَى أَثَرُهُ- فَکِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ- فَإِنَّ ذَلِکَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَیْکَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِینَ فِی الْعِلْمِ هُمُ الَّذِینَ أَغْنَاهُمْ- عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَهِ دُونَ الْغُیُوبِ- الْإِقْرَارُ بِجُمْلَهِ مَا جَهِلُوا تَفْسِیرَهُ مِنَ الْغَیْبِ الْمَحْجُوبِ- فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ یُحِیطُوا بِهِ عِلْماً- وَ سَمَّى تَرْکَهُمُ التَّعَمُّقَ- فِیمَا لَمْ یُکَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ کُنْهِهِ رُسُوخاً- فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِکَ- وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَهَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِکَ- فَتَکُونَ مِنَ الْهَالِکِینَ‏ هُوَ الْقَادِرُ الَّذِی إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ- لِتُدْرِکَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ- وَ حَاوَلَ الْفِکْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ- أَنْ یَقَعَ عَلَیْهِ فِی عَمِیقَاتِ غُیُوبِ مَلَکُوتِهِ- وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَیْهِ لِتَجْرِیَ فِی کَیْفِیَّهِ صِفَاتِهِ- وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِی حَیْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ- لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا- وَ هِیَ تَجُوبُ مَهَاوِیَ سُدَفِ الْغُیُوبِ مُتَخَلِّصَهً إِلَیْهِ سُبْحَانَهُ- فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَهً- بِأَنَّهُ لَا یُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ کُنْهُ مَعْرِفَتِهِ- وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِی الرَّوِیَّاتِ خَاطِرَهٌ مِنْ تَقْدِیرِ جَلَالِ عِزَّتِه الَّذِی ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَیْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ- وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَیْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ کَانَ قَبْلَهُ- وَ أَرَانَا مِنْ مَلَکُوتِ قُدْرَتِهِ- وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِکْمَتِهِ- وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَهِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ یُقِیمَهَا بِمِسَاکِ قُوَّتِهِ- مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِیَامِ الْحُجَّهِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ- فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ- الَّتِی أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ وَ أَعْلَامُ حِکْمَتِهِ- فَصَارَ کُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّهً لَهُ وَ دَلِیلًا عَلَیْهِ- وَ إِنْ کَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِیرِ نَاطِقَهٌ- وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَهٌ فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَکَ بِتَبَایُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِکَ- وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَهِ لِتَدْبِیرِ حِکْمَتِکَ- لَمْ یَعْقِدْ غَیْبَ ضَمِیرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِکَ- وَ لَمْ یُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْیَقِینُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَکَ- وَ کَأَنَّهُ لَمْ یَسْمَعْ ْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِینَ مِنَ الْمَتْبُوعِینَ- إِذْ یَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ کُنَّا لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ- إِذْ نُسَوِّیکُمْ بِرَبِّ الْعالَمِینَ- کَذَبَ الْعَادِلُونَ بِکَ إِذْ شَبَّهُوکَ بِأَصْنَامِهِمْ- وَ نَحَلُوکَ حِلْیَهَ الْمَخْلُوقِینَ بِأَوْهَامِهِمْ- وَ جَزَّءُوکَ تَجْزِئَهَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ- وَ قَدَّرُوکَ عَلَى الْخِلْقَهِ الْمُخْتَلِفَهِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاکَ بِشَیْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِکَ فَقَدْ عَدَلَ بِکَ- وَ الْعَادِلُ بِکَ کَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْکَمَاتُ آیَاتِکَ- وَ نَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَیِّنَاتِکَ- وَ إِنَّکَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِی لَمْ تَتَنَاهَ فِی الْعُقُولِ- فَتَکُونَ فِی مَهَبِّ فِکْرِهَا مُکَیَّفاً- وَ لَا فِی رَوِیَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَکُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً

اللغه

أقول: الاقتحام: الدخول فی الأمر بشدّه دفعه. و السدد: جمع سدّه و هى الأبواب و الحجب. و جاب البلاد: أى قطعها. و السدف: جمع سدفه و هى الظلمه: و الجبه: الردّ. و احتذى علیه: أى سلک مسلکه. و الحقاق: جمع حقّ و هو أطراف عظام المفاصل، و العادل: الجاعل للّه عدیلا. و القریحه: قوّه الفکر.

المعنى

و صدر هذا الفصل تأدیب الخلق
فی وصفهم للّه سبحانه و تعلیمهم کیفیّه السلوک فی مدحه و الثناء علیه بما هو أهله و إن کان الخطاب للسائل إذ هو السبب فی هذه الخطبه، و ذلک على طریقه قولهم: إیّاک أعنى و اسمعى یا جاره. فأرشده فی ذلک إلى کتاب اللّه، و أمره أن یجعله إماما یقتدى به و یستضی‏ء بأنواره فی سلوک سبیل اللّه و کیفیّه وصفه فإنّ أولى ما وصف به تعالى هو ما وصف به نفسه، و أمره بأن یکل علم ما لم یجده مفروضا علیه علمه فی کتاب اللّه أوفى سنّه رسوله و آثار أئمّه الهدى القائمین مقامه فی إیضاح الدین و حفظه إلى علم اللّه تعالى و هو المراد بالتفویض و ذلک أنّ أئمّه الهدى أعلم بوجوه نسبته تعالى إلى خلقه و بما یناسب تلک الاعتبارات من الألفاظ و یفیدها فیطلق علیه. و نفّر عن طلب ذلک و البحث عنه بإشارته إلى أنّه تکلیف الشیطان و ظاهرأنّ طلب ما وراء حدود الشریعه الّتى نهیت عن تجاوزها إنّما هو بسبب وسوسه الشیطان و حرص الطبع على ما یمنع منه. ثمّ اعلم أنّ ذلک هو منتهى حقّ اللّه علیه و مطلوبه منه، و لمّا کان مطلوب الشارع حین وضع الشریعه و تقریر قواعدها هو جمع قلوب العالم على قانون واحد و اتّحادهم فیه بحیث لا یفترقوا فی اعتقاد أمر ما لئلّا یکون ذلک الافتراق سببا لضعف الدین و عدم تعاونهم على تشییده کما سبق بیانه لا جرم وجب فی الحکمه أن یحرم حینئذ علیهم الخوض فیما وراء ذلک لتثبت قواعد الدین فی قلوبهم و ترسخ و لا یخرج بهم البحث عن ما ورائها إلى إطراحها و فساد اعتقاد کثیر من الخلق لها و لغیرها ممّا وراها. إذ لم یکن فیهم من یستعدّ لقبول ما وراء تلک الظواهر إلّا الفرد النادر و إن کنّا نعلم أنّه کان صلى اللّه علیه و آله و سلّم إذا علم من أحد استعدادا لقبول شی‏ء من أسرار الشریعه و وثق به أن یحمله ألقاه إلیه کعلىّ علیه السّلام دون أبی هریره و أمثاله
ثمّ وصف بعد ذلک الراسخین فی العلم الممدوحین فی القرآن الکریم بقوله تعالى لکِنِ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ«» الآیه و قوله وَ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا«» و فسّر معنى الرسوخ فقال: هم الّذین أغناهم اللّه عن اقتحام السدد المضروبه دون الغیوب الإقرار بجمله ما جهلوا تفسیره من الغیب المحجوب. فمدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم یحیطوا به علما، و سمّى ترکهم التعمّق فیما لم یکلّفهم البحث عن کنهه رسوخا، و ممّا:
إشاره إلى السدد المضروبه و حجب الغیوب.
فلنشر إلى ما کشف عنه بعض العلماء الصوفیّه هاهنا و أشار إلیه الخبر عن سیّد المرسلین صلى اللّه علیه و آله و سلّم: إنّ للّه تعالى سبعین حجابا من نور و ظلمه لو کشفها لأحرقت سبحات وجهه کلّ من أدرک بصره. و لمّا ثبت أن اللّه تعالى متجلّى لذاته بذاته فالحجاب لا بدّ و أن یکون بالنسبه إلى محجوب
فأقسام المحجوبین ثلاثه:
منهم من حجب بمجرّد ظلمه، و منهم من حجب بمجرّد نور، و منهم من حجب بنور مقرون بظلمه، و تحت کلّ قسم من هؤلاء أقسام کثیره لا تحصى فیکفینا الإشاره إلى اصولها فنقول:

القسم الأوّل: المحجوبون بمجرّد الظلمه
و هؤلاء هم الملحده الّذین لا یؤمنون باللّه و هم صنفان: فصنف منهم طلبوا للعالم سببا فأحالوه على الطبع و قد علمت أنّ الطبع صفه جسمانیّه مظلمه خالیه عن المعرفه و الإدراک، و صنف منهم لم یتفرّغوا لذلک و لم یتنبّهو الطلب السبب بل اشتغلوا بأنفسهم و عاشوا عیش البهایم فکانوا محجوبین بکدورات نفوسهم و شهواتهم المظلمه و لا ظلمه أشدّ من الهوى و لذلک قال اللّه تعالى أَ فَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ«» و قال النبىّ صلى اللّه علیه و آله و سلّم: الهوى أبغض إله عبد على وجه الأرض. و تحت هؤلاء فرق کثیره لا حاجه إلى ذکرها.

القسم الثانی: المحجوبون بنور مقرون بظلمه
و هم ثلاثه أصناف:
فصنف منهم منشأ ظلمته الحسّ،
و صنف منهم منشأها الخیال، و صنف منهم منشأها مقایسات عقلیّه فاسده. فالأوّلون أیضا طوائف:
الاولى: عبده الأوثان
فإنّهم علموا على سبیل الجمله أنّ لهم ربّا و أوجبوا إیثاره على أنفسهم و اعتقدوا أنّه أعزّ و أنفس من کلّ شی‏ء، و لکنّهم حجبوا بظلمه الحسّ عن أن یتجاوزوا العالم المحسوس فی إثبات ربّهم فاتّخذوا من أنفس الجواهر کالفضّه و الذهب و الیاقوت أشخاصا مصوّره بأحسن صوره و جعلوها آلهه فهؤلاء محجوبون بنور العزّ و الجلال من صفات اللّه لکنّهم وضعوها فی الأجسام المحسوسه فصارت حجبهم أنوارا مکدّره بظلمه الحسّ إذ الحسّ ظلمه بالإضافه إلى عالم المعقولات.
الثانیه: طائفه ترقّوا عن رتبه الأحجار فکانوا أدخل من عبده الأوثان فی ملاحظه الأنوار
کما یحکى عن قوم من أقاصى الترک لیس لهم ملّه و لکن یعتقدون أنّ لهم ربّا هو أجمل الأشیاء فإذا رأو إنسانا فی غایه الجمال أو فرسا أو شجرا عبدوه، و قالوا: هو ربّنا فهؤلاء محجوبون بنور الجمال مع ظلمه الحسّ أیضا.
الثالثه: طائفه ترقّوا عن هؤلاء و قالوا: ینبغی أن یکون الربّ نورانیّا فی صورته ذا سلطان فی نفسه مهیبا لا یطاق القرب منه، و لم یترقّوا عن درجه المحسوس فعبدوا النار إذ وجدوها بهذه الصفات فهؤلاء محجوبون بنور السلطنه و البهاء و کلّ ذلک‏ من‏ أنوار اللّه مع ظلمات حسّهم.
الرابعه: طائفه ترقّوا عن ذلک فرأوا أنّ النار تطفى و تقهر فلا تصلح للإلهیّه
فقالوا: بل ما یکون بهذه الصفات و لکن نکون نحن تحت تصرّفه و یکون مع ذلک موصوفا بالعلوّ.
و کان المشهور بینهم علم النجوم و إضافه التأثیرات إلیها فعبدوا النجوم فمنهم عبده المشترى و منهم عبده الشعرى و غیرهم فهؤلاء محجوبون مع ظلمه الحسّ بنور الاستعلاء و الإشراف و هى من أنوار اللّه تعالى.
الخامسه: طائفه ترقّوا عن هؤلاء فقالوا: و إن وجب أن یکون الربّ بالصفات المذکوره إلّا أنّه ینبغی أن یکون أکبر الکواکب
فعبدوا الشمس فهؤلاء محجوبون مع ظلمه الحسّ بنور الکبریاء و العظمه مع بقیّه الأنوار.
السادسه: طائفه ترقّوا عن ذلک فقالوا: إنّ الشمس لا تتفرّد بالنور بل لغیرها أنوار
و الإله لا یجوز أن یکون له شریک فی نورانیّته فعبدوا النور المطلق على کلّ نور، و زعموا أنّه إله العالم و الخیرات کلّها منسوبه إلیه ثمّ رأوا فی العالم شرورا فلم یستحسنوا إضافتها إلى ربّهم تنزیها له فجعلوا بینه و بین الظلمه منازعه و أحالوا العالم إلى النور و الظلمه و هؤلاء الثنویّه.

الصنف الثانی: المحجوبون ببعض الأنوار مقرونه بظلمه الخیال
و هم الّذین جاوزوا الحسّ و أثبتوا وراء المحسوس أمرا لکنّهم لم یهتدوا إلى مجاوزه الخیال فعبدوا موجودا قاعدا على العرش و أخسّهم رتبه المجسّمه ثمّ أصناف الکرامیّه و أرفعهم درجه من نفى الجسمیّه و جمیع عوارضها إلّا الجهه فخصّصوه بجهه فوق، و هؤلاء لم یثبتوا موجودا غیر محسوس و لا متخیّل حتّى ینزّهوه عن الجهه.

الصنف الثالث: المحجوبون بأنوار الإلهیّه مقرونه بمقایسات عقلیّه فاسده مظلمه
فعبدوا إلها سمیعا بصیرا متکلّما عالما قادرا منزّها عن الجهات لکن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبه صفاتهم، و ربّما صرّح بعضهم فقال: کلامه صوت مثل کلامنا.
و ربّما ترقّى بعضهم فقال: لا بل هو کحدیث أنفسنا و لا صوت و لا حرف. و لذلک إذا حقّق القول علیهم رجعوا إلى التشبیه فی المعنى و إن أنکروه لفظا إذ لم یدرکوا کیفیّه إطلاق هذه الألفاظ فی حقّ اللّه. فهؤلاء محجوبون بجمل من الأنوار مع ظلمات المقایسات العقلیّه.

القسم الثالث: المحجوبون بمحض الأنوار،
و هم أصناف لا تحصى أیضا لکن نذکر منهم ثلاثه أصناف:
الأوّل: الّذین عرفوا معانى هذه الصفات و فرّقوا بین إطلاق أسمائها على اللّه تعالى و بین إطلاقها على البشر
فتحاشوا من تعریفه بهذه الصفات و عرّفوه بالإضافه إلى المخلوقات فقالوا: ربّنا ربّ السماوات و الأرض لن ندعو من دونه إلها و هو الربّ المنزّه عن هذا المفهوم الظاهر و هو محرّک السماوات و مدبّرها.
الصنف الثانی: الّذین عرفوا أنّ فی السماوات ملائکه کثیره
و أنّ محرّک کلّ سماء منها موجود آخر یسمّى ملکا، و أنّ هذه السماوات فی ضمن فلک یتحرّک الجمیع بحرکته فی الیوم و اللیله مرّه واحده و الربّ تعالى هو المحرّک للفلک الأقصى منها المشتمل علیها.
الصنف الثالث: الّذین ترقّوا عن هؤلاء و قالوا: إنّ تحریک الأجسام الفلکیّه من الملائکه یکون خدمه لربّ العالمین و عباده له
و یکون الربّ تعالى هو المحرّک للکلّ بطریق الأمر. فهؤلاء کلّهم محجوبون بأنوار محضه وقفت بهم عمّا وراءها. و وراء هؤلاء صنف رابع تجلّى لهم أنّ هذا المطاع موصوف بصفه الوحده المطلقه و الکمال البالغ و کشفت عنهم حجب المقایسات و الاعتبارات إلى الغیر و هم الواصلون. فمنهم من أحرق ذلک التجلّى فی تلک الأنوار جمیع ما أدرکه بصره بالکلّیّه و بقى ملاحظا لرتبه الحقّ فیها فانمحقت فیه المبصرات دون المبصر، و منهم من تجاوز هؤلاء و هم خواصّ الخواصّ فأحرقتهم سبحات وجهه و غشیهم سلطان الجلال فانمحقوا و تلاشوا فی أنفسهم فلم یبق لهم إلیها التفات و ملاحظه لفنائهم عن أنفسهم و لم یبق إلّا الواحد الحقّ و هؤلاء هم الواصلون کما سبقت الإشاره إلیه، و ینتهى الکلّ إلى حجاب الإمکان الّذى یهلک فیه کلّ موجود و لا یبقى إلّا وجه اللّه ذى الجلال و الإکرام.

إذا عرفت ذلک فنقول: السدد المضروبه و حجب الغیب الّتى أشار إلیها هى درجات‏ الانتقالات فی مفهومات صفات اللّه تعالى و مراتب عرفانه و معرفه ملائکته و مراتبهم و کمالاتهم و سایر حجب الأنوار الّتى حجب بها أهل القسم الثالث، و الراسخون الّذین أشار إلیهم هم فی ظاهر کلامه الواقفون فی المرتبه الاولى و هم الّذین اقتصروا فی صفات اللّه و ملائکته و عالم غیبه على ما وقفتهم الشریعه علیه على سبیل الجمله کما أوصل إلى أفهامهم الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم و عقلوا فی وصفه تعالى بصفات الکمال و نعوت الجلال أنّه لیس على حدّ وصف البشر بها و رسخ فی أذهانهم ما تصوّروه إجمالا لو فصّل لکان مطابقا. و من أعدّته العنایه الإلهیّه لقبول التفصیل وصل إلیه. و بقى هاهنا بحث لطیف و هو أنّه لمّا کان التکلیف فی نفس الأمر إنّما هو على قدر العقول و تفاوت مراتبها و لذلک قال صلى اللّه علیه و آله و سلّم بعثت لأکلّم الناس على قدر عقولهم. کان کلّ عقل قوى على رفع حجاب من حجب الغیب و قصر عمّا ورائه و اعترف به و بالعجز عنه فذلک تکلیفه و هو من الراسخین فعلى هذا الرسوخ لیس مرتبه واحده هى تقلید ظواهر الشریعه و اعتقاد حقیّتها فقط بل تقلیدها مرتبه اولى من مراتب الرسوخ و ما ورائها مراتب غیر متناهیه بحسب مراتب السلوک و قوّه السالکین على رفع حجب الأنوار الّتى أشرنا إلیها و کلامه علیه السّلام لا ینافی ما قلناه بل یصدق إذا نزّل علیه فإنّ قوله: و سمّى ترک التعمّق فیما لم یکلّفهم البحث عن کنهه رسوخا صادق أیضا على من قطع جمله من منازل السلوک و عجز عمّا ورائها فوقف ذهنه عن التعمّق فیه و البحث إذ لا یکلّف بما لا یفی به قوّته.

و قوله: فاقتصر على ذلک: أى على ما نطق به الکتاب العزیز و دلّت علیه السنّه النبویّه و أرشدت إلیه أئمّه الهدى.
و قوله: و لا تقدّر عظمه اللّه تعالى على قدر عقلک فتکون من الهالکین.
و قوله: و لا تقدّر عظمه اللّه تعالى على قدر عقلک فتکون من الهالکین. فالمقدّر لعظمه اللّه بقدر عقله هو المعتقد أنّ عقله قدّره و أحاط به علما و هو تصغیر لعظمه اللّه بحسب عقله الضعیف و عظمه اللّه تعالى أعظم و أجلّ من أن یضبطها عقل بشرى، و إنّما ینشأ ذلک الحکم لمن حصل له هو الوهم الحاکم بمثلیّه اللّه تعالى لمدرکاته من الأجسام و الجسمانیّات، و ذلک فی الحقیقه کفر لاعتقاد غیر الصانع صانعا و ضلال عن طریق معرفه اللّه و هو مستلزم للهلاک فی تیه الجهل.

و اعلم أنّ فی إحالته علیه السّلام لطالب المعرفه على الکتاب و السنّه و بیان الأئمّه دلاله على أنّ مقصوده لیس أن یقتصر على ظاهر الشریعه فقط بل یتّبع أنوار القرآن و السنّه و آثار أئمّه الهدى، و قد ورد فی القرآن الکریم و السنّه و کلام الأئمّه من الإشارات و التنبیهات على منازل السلوک و وجوب الانتقال فی درجاتها ما لا یحصى کثره و نبّهوا على کلّ مقام أهله و أخفوه من غیر أهله إذ کانوا أطبّاء النفوس و کما أنّ الطبیب یرى أنّ بعض الأدویه لبعض المرضى تریاق و شفاء و ذلک الدواء لشخص آخر سمّ و هلاک کذلک کتاب اللّه و الموضحون لمقاصده من الأنبیاء و الأولیاء یرون أنّ بعض الأسرار الإلهیّه شفاء لبعض الصدور فیلقونها إلیهم و ربّما کانت تلک الأسرار بأعیانها لغیر أهلها سببا لضلالهم و کفرهم إذا القیت إلیهم. فإذن مقصوده علیه السّلام قصر کلّ عقل على ما هو الأولى به و ما یحتمله، و الجمع العظیم المخاطبون هم أصحاب الظاهر الّذین یجب قصرهم علیه. و اللّه أعلم.

و قوله: هو القادر الّذى إذا ارتمت. إلى آخره.
إشاره إلى اعتبارات اخر جملیّه فی وصفه تعالى نبّه على أن غایه استقصاء العقول و تعمّقها و غوص فطنها طالبه لتفصیل صفات کماله و نعوت جلاله أن تقف خاسئه و ترجع حسیره معترفه بالعجز و القصور، فقوله: إذا ارتمت إلى قوله: ردعها شرطیّه متّصله فی قوّه شرطیّات متعدّده المقدّمات و تالیها واحد. فالمقدّم الأوّل قوله: إذا ارتمت الأوهام لتدرک منقطع قدرته و ارتماؤها استرسالها مجدّه فی المطالعه و التفتیش و منقطع قدرته منتهاها، و المقدم الثانی قوله: و حاول الفکر المبرّء من خطرات وساوس الشیطان و شوائب الأوهام أن یقع علیه لیکیّف ذاته و یستثبتها بکلّ ما ینبغی لها من الکمالات فی عمیقات غیوب ملکوته: أى فی أسرار عالم الغیب العمیقه. و المقدّم الثالث قوله: و تولّهت القلوب: أى اشتدّ شوقها إلیه لتجرى فی کیفیّه صفاته. و المقدّم الرابع قوله: و غمضت مداخل العقول: أى وقت مواقع دخولها بحیث لا تبلغه الصفات: أى انتهت العقول إلى حدّ أنّها لا تعتبر مع ملاحظه ذات الحقّ صفه له بل یحذف کلّ خاطر و کلّ اعتبار من صفه و غیرها من ملاحظه قدسه لینال علم ذاته بالکنه، و قوله: ردعها. هو تالى هذه‏ الشرطیّات، و ردعها هو ردّها خاسئه حسیره، و سبب ذلک فی کلّ من هذه المدرکات هو خلقها قاصره عن إدراک ما یطلبه من هذه المطالب العظیمه: فالأوهام لقصورها عن إدراک ما لیس بمحسوس و لا متعلّقا بالمحسوس، و ردع الفکر أن یقع علیه و تولّه القلوب أن تجرى فی کیفیّه صفاته فتحدّها و تحصرها لخلقها قاصره عن الإحاطه بما لا نهایه له إذ کانت صفات الکمال و نعوت الجلال کذلک، و ردع العقول أن یحیط بکنه ذاته لخلقها قاصره عن إدراک کنه ما لیس بذى حدّ و ترکیب. فکان مستند ذلک الردع هو قدرته فلذلک قدّم على الشرطیّه اعتبار کونه قادرا فقال: هو القادر الّذى من شأنه کذا.

و قوله: و هى تجوب مهاوى سدف الغیوب متخلّصه إلیه سبحانه.
الجمله فی موضع الحال و العامل ردعها، و استعار لفظ السدف لظلمات الجهل بکلّ معنى غیبىّ من صفات جلاله و طبقات حجبه: أى ردعها عن تلک المطالب حال ما هى قاطعه لمهاوى تلک الظلمات، و وجه الاستعاره ما یشترکان فیه من عدم الاهتداء فیها.
و متخلّصه حال أیضا و العامل إمّا تجوب أوردعها. و تخلّصها إلیه توجّهها بکلیّتها فی طلب إدراکه.

و قوله: فرجعت إذ جبهت. إلى قوله: عزّته.
  معترفه حال و العامل رجعت، و جور الاعتساف شدّه جولانها فی تلک المنازل و ظاهر أنّ جور الاعتساف غیر نافع فی تحصیل ما لا یمکن، و اولو الرویّات أصحاب الفکر: إى رجعت معترفه بأمرین: أحدهما: أنّه لا ینال کنه معرفته، و الثانی: أنّ الفکر لا یقدر جلال عزّته: أى لا یحیط بکماله خبرا. و ظاهر أن صدق هذه الأحکام للنفس موقوف على ارتماء أفکارها فی طلب هذه المعارف و عجزها عنها.

و قوله: الّذى ابتدع الخلق على غیر مثال. إلى قوله: قبله.

 إشاره إلى أنّ الصنائع البشریّه إنّما تحصل بعد أن یرتسم فی الخیال صوره المصنوع بل و کلّ فعل لا یصدر إلّا عن تصوّر وضعه و کیفیّته أوّلا، و تلک التصوّرات تاره تحصل عن أمثله للمصنوع بل و مقادیر له خارجیّه یشاهدها الصانع و یحذو حذوها، و تاره تحصل بمحض الإلهام و الاختراع کما یفاض على أذهان کثیر من‏ الأذکیاء صوره شکل لم یسبق إلى تصوّره فیتصوّره و یبرز صورته إلى الخارج، و کیفیّه صنع اللّه للعالم و جزئیّاته منزّهه عن الوقوع على أحد هذین الوجهین: أمّا الأوّل فلأنّا بیّنا أنّه لا قبل له فلا قبل لمصنوعاته فلا مثال امتثله: أى عمل مثله، و لا مقدار احتذى حذوه. و أمّا الثانی و إن سمّى الفاعل على وفقه مخترعا لکن التحقیق یشهد بأنّه إنّما فعل على وفق ما حصل فی ذهنه من الشکل و الهیئه و هما مستفادان من الصانع الأوّل جلّت عظمته فکان فی الحقیقه فاعلا على غیر مثال سابق محتذیا لمقدار غیره، و علم الأوّل سبحانه لیس على النحو المذکور من حصول صوره مساویه للمعلوم فی ذاته کما تحقّقته من قبل فإذن فعله بمحض الإبداع و الاختراع على أبعد ما یکون عن حدّ و مثال.

و قوله: و أرانا من ملکوت قدرته. إلى قوله: معرفته.
 ملکوت قدرته ملکها و إنّما نسبه إلى القدره لأنّ اعتبارها مبدء الوجود کلّه فهى مبدء المالکیّه، و آثار حکمته ما صدر عنها من الأفعال و الأحکام و انقیاد کلّ ناقص إلى کماله، و استعار لفظ النطق للسان حال آثاره تعالى المفصحه عن کمال الحکمه المعجبه بتمام النظام و حسن الترتیب، و وجه المشابهه ما اشترک فیه النطق و حال مصنوعاته من ذلک الإفصاح و البیان، و اعتراف عطف على عجائب، و إلى أن متعلّق بالحاجه، و ما فی قوله: و ما دلّنا هى المفعول الثانی لأرانا: أى و أرانا من اعتراف الخلق لحاجتهم إلى أن یقیمهم فی الوجود بمساک قدرته الّتى تمسک السماوات و الأرض أن تزولا ما دلّنا باضطرار قیام الحجّه له على معرفته، و قوله: على معرفته متعلّق بدلّنا: أى ما دلّنا على معرفته فلزمت قیام الحجّه له بالضروره.

و قوله: و ظهرت فی البدائع. إلى قوله: قائمه.
استعار لفظ الأعلام لما یدلّ على حکمه الصانع فی فعله من الإتقان و الإحکام.
و اعلم أنّ کلّ ما ظهرت فیه آثار حکمه اللّه فهو ناطق بربوبیّته و کمال الوهیّته فبعض ناطق. بلسان حاله و مقاله کالإنسان، و بعض بلسان حاله فقط إذ لا عقل له و لا لسان کالجماد و النبات، و الضمیر المضاف إلیه فی قوله: فحجّته یحتمل عوده إلى اللّه، و یحتمل أن یعود إلى الخلق الصامت. و قد علمت أنّ السالکین فی سماع هذا النطق من آثار اللّه و مشاهدته‏ فی مصنوعاته على درجات و منازل متفاوته کما أشرنا إلیه غیر مرّه.

و قوله: و أشهد أنّ من شبّهک. إلى قوله: بربّ العالمین.
 التفات إلى خطاب اللّه تعالى على طریق قوله مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ إِیَّاکَ نَعْبُدُ و المشبّه به فی الحقیقه هو الخلق و إنّما جعل المشبّه به هو تباین أعضائهم و تلاحم حقاق مفاصلهم لأنّه فی معرض ذمّ المشبّهه و التنبیه على وجوه أغلاطهم و تباین الأعضاء و تلاحمها من لوازم المشبّه به و هما مستلزمان للترکیب و اجتماع المفردات المستلزم لظهور الحاجه إلى المرکّب و الجامع و یمتنع على محلّ یظهر حاجته أن یتشبّه به الصانع المطلق البرى‏ء عن الحاجه بوجه ما فقدّمهما لجریانهما مجرى الأوسط فی لزوم الترکیب للمشبّه به فیظهر تنزیه الإله عن التشبّه به و إن کان التقدیر من شبّهک بخلقک فی أعضائهم المتباینه المتلاحمه.
و الّذى یقال من وجه الحکمه فی احتجاب المفاصل هو أنّها لو خلقت ظاهره عریّه عن الأغشیه لیبست رباطاتها و قست فیتعذّر تصرّف الحیوان بها کما هو الآن و أنّها کانت معرضه للآفات المفسده لها و غیر ذلک من خفىّ تدبیره و لطیف حکمته و قد شهد علیه السّلام على المشبّه للّه بخلقه بأمرین: أحدهما: أنّه لم یعرفه، و الثانی: أنّه لم یتیقّن تنزیهه عن المثل. و القرآن و البرهان مصدّقان لشهادته فی الموضعین: أمّا القرآن فما نبّه علیه بقوله: و کأنّه لم یسمع تبرّؤ التابعین المتبوعین إذ یقولون الآیه، و وجه الاستدلال على المطلوب الأوّل أنّ المشبّهه و عبده الأصنام ینکشف لهم فی الآخره أنّهم کانوا ضالّین فى تشبیه أصنامهم بربّ العالمین فیترتّب دلیل هکذا: المشبّهه ضالّون من جهه تشبیههم اللّه بخلقه و کلّ من کان کذلک فلیس بعارف باللّه و المقدّمه الاولى ثابته بمنطوق الآیه، و أمّا الثانیه فلأنّه لو کان المشبّه له عارفا به مع تشبیهه له بخلقه لما کان فی ضلال مبین من تلک الجهه لکنّه فی ضلال مبین من تلک الجهه فإذن هو لیس بعارف له. و أمّا البرهان فلأنّ اللّه سبحانه لمّا تقدّس عن أن یشبه خلقا فی شی‏ء کان المشبّه له بخلقه و المکیّف له بکیفیّه یحویها وهمه غیر عارف به بل متصوّر لأمر آخر هو فی الحقیقه غیر الإله، و أمّا صدقه فی القضیّه الثانیه فلأنّ المشبّه للّه ضالّ من جهه ما هو مشبّه له و کلّ من کان کذلک فلیس بمنزّه له عن الندّ و المثل، و صدق الاولى ظاهر من الآیه، و أمّا الثانیه فلأنّه لو کان منزّها له عن الندّ بکونه مشبّها له لما کان ضالّا من تلک الجهه لکنّه ضالّ منها فلیس بمنزّه له عنه، و أمّا البرهان العقلىّ فلأنّ الندّ و المثل هو الشبیه و کلامنا فی المشبّه و فی الآیه تنفیر عن مذهب التشبیه بذکر تبرّؤ التابعین ممّن اتّبعوه و شبّهوا به خالقهم، و ندامتهم على تفریطهم فی ذلک، و حسرتهم على الرجعى لتدارک الأعمال و الاعتقادات الصالحه، و اعترافهم بأنّهم کانوا بتشبیههم فی ضلال مبین.

و قوله: کذب العادلون. إلى قوله: عقولهم.
 تکذیب للعادلین به و أشار إلى تفصیل جهات کونهم عادلین و إلى سبب ذلک و هو الوهم، و قد علمت أنّ منشأ التشبیه هو الوهم إذ کان حکمه لا یترفّع [یرتفع خ‏] عن المحسوسات و ما یتعلّق بها فإنّ حکمه فی المجرّدات بحکم قدرها محسوسه ذات أحجام و ألحقها أحکام المحسوس و لذلک لم یترفّع المشبّهه للّه عن تشبیهه بالأصنام و أشخاص الأجسام کصوره الإنسان و أعضائه و کذلک غیر عبده الأوثان من سایر فرق المشبّهه حتّى کانت غایه تنزیه من نزّهه منهم أن توهّمه فی جهه فوق و قد علمت أنّ الجهه و الکون من عوارض الأجسام المخلوقه فکانوا عن‏  آخرهم قد تحلّوه حلیه المخلوقین و صفاتهم بأوهامهم الفاسده. فمنهم من أثبت له أعضاء من یدو ساق و عین و وجه و سایر ما ورد فی القرآن الکریم و السنّه النبویّه حملا على ظاهرها، و منهم من تجاسر على وصف هیئته فقال: إنّه مجوّف الأعلى عصمت الأسفل و إنّه قطط الشعر إلى غیر ذلک من هذیاناتهم و کفرهم تعالى اللّه عمّا یقول الظالمون علوّا کبیرا- و تجزیته بخواطرهم تجزیه المجسّمات و هى إثباتهم الأعضاء المذکوره و ذلک عن تقدیرهم له على الخلقه المختلفه القوى بقرائح عقولهم الجامده متابعه لأوهامهم الفاسده و تقلید من سلف من آبائهم فإنّ الأعضاء إنّما تتولّد و تکمل بواسطه قوى طبیعیّه و نباتیّه و حیوانیّه و غیرها و هى قوى مختلفه بحقائقها و متضادّه فی أفعالها محتاجه إلى الجامع و المرکّب مؤذنه بالإمکان الّذى تنزّه قدس الصانع أن یتطرّق إلیه بوجه.

و قوله: و أشهد أنّ من ساواک بشى‏ء من خلقک. إلى قوله: بیّناتک.
 شهاده ثانیه على من شبّهه و جعل له مثلا بالکفر و إشاره إلى برهانها بقیاس من‏ الشکل الأوّل أسند بیان کبراه إلى کتاب اللّه و نصوص آیاته المحکمه، و بیّناته: الأنبیاء.
و شواهد حججهم: هى تلک الآیات: أى حججهم الشاهده هى کقوله تعالى قُلْ أَ إِنَّکُمْ لَتَکْفُرُونَ بِالَّذِی خَلَقَ الْأَرْضَ فِی یَوْمَیْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً«» و قوله قُلْ أَیُّ شَیْ‏ءٍ أَکْبَرُ شَهادَهً قُلِ اللَّهُ شَهِیدٌ بَیْنِی وَ بَیْنَکُمْ وَ أُوحِیَ إِلَیَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَکُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ»«» و الإشراک کفر و نحو ذلک. و أمّا المقدّمه الاولى فلأنّ الشبیه هو المثل و العدیل و قد علمت أنّ البرهان العقلىّ ممّا یشهد بصدق هذه الشهاده فإنّ المشبّه للّه بخلقه مع براءته عن شبهیّه الغیر إذا اعتقد أنّ ذلک الّذى یشیر إلیه بوهمه هو صانع العالم فقد اعتقد غیر الصانع صانعا و ذلک عین الکفر و الضلال.

و قوله: و إنّک أنت اللّه الّذى لم تتناه فی العقول. إلى قوله: مصرّفا.
 شهاده ثالثه هى خلاصه الشهادتین الاولیین بتنزیهه عن تناهیه فی العقول البشریّه و أفکارها: أى إحاطتها بحقیقته و ما له من صفات الکمال و نعوت الجلال بحیث لا یکون وراء ما أدرکته شی‏ء آخر و تنبیه فی هذه الشهاده على ما یلزم ذلک التناهى من کونه ذا کیفیّه تکیّفها له القوى المتخیّله لتستثبته بها العقول، و مهابّ الفکر جهاتها. فیلزم من ذلک کونه محدودا إذ کانت الحقائق إنّما تدرک بکنهها من حدودها.

و قوله: و مصرّفا
 أى محکوما فی ذاته بالتجزیه و التحلیل و الترکیب إذ کان من شأن المحدود ذلک، و لمّا کانت هذه اللوازم باطله لبرائته عن الکیفیّه و الأجزاء و الترکیب کان ملزومها و هو التناهى فی العقول باطلا.


الفصل الثالث:

و منها- قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْکَمَ تَقْدِیرَهُ وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِیرَهُ- وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ یَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ- وَ لَمْ یَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَایَتِهِ- وَ لَمْ یَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِیِّ عَلَى إِرَادَتِهِ- فَکَیْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِیئَتِهِ- الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْیَاءِ بِلَا رَوِیَّهِ فِکْرٍ آلَ إِلَیْهَا- وَ لَا قَرِیحَهِ غَرِیزَهٍ أَضْمَرَ عَلَیْهَا- وَ لَا تَجْرِبَهٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ- وَ لَا شَرِیکٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ- فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ- لَمْ یَعْتَرِضْ دُونَهُ رَیْثُ الْمُبْطِئِ وَ لَا أَنَاهُ الْمُتَلَکِّئِ- فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْیَاءِ أَوَدَهَا وَ نَهَجَ حُدُودَهَا- وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَیْنَ مُتَضَادِّهَا- وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً- مُخْتَلِفَاتٍ فِی الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَیْئَاتِ- بَدَایَا خَلَائِقَ أَحْکَمَ صُنْعَهَا وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا

اللغه

أقول: آل: رجع. و أذعن: خضع و ذلّ. و الریث: البطؤ و کذلک الأناه. و المتلکّى التباطؤ عن الأمر و التوقّف فیه. و الأود: الاعوجاج، و بدایا: جمع بدیه و هى الخلقه العجیبه.

المعنى

فقوله: قدّر ما خلق فأحکم تقدیره.
 إشاره إلى أنّ کلّ مصنوع قدرّه فی الوجود فعلى وفق حکمته بحیث لو زاد على ذلک المقدار أو نقص منه لاختلّت مصلحه ذلک المقدّر و تغیّرت منفعته.

و قوله: و دبّره فألطف تدبیره
 إیجاده على وفق المصلحه و لطفه فی ذلک تصرّفه فی جمیع الذوات و الصفات تصرّفات کلّیّه و جزئیّه من غیر شعور غیره بذلک.

و قوله: و وجّهه لوجهته. إلى قوله: إلى غایته
 أى ألهم کلّا و یسّره لما خلق له و لما کتب له فی اللوح فلم یتجاوز مرسوم تلک المنزله المعلومه له: أى لم یعبرها و لم یقصر دونها و إلّا لزم التغیّر فی علمه سبحانه و إنّه محال.

و قوله: و لم یستعصب إذ امر بالمضىّ على إرادته
 أى لمّا أمر المخلوق بالتوجّه إلى وجهه على وفق إراده اللّه و ساقت الحکمه الإلهیّه کلّا إلى غایته لم یمکن تخلّفه‏ و استصعابه عن ذلک الأمر، و أمره له إشاره إلى توجیه أسبابه بحسب القضاء الإلهىّ علیه بذلک.

و قوله: و کیف و إنّما صدرت الامور عن مشیئته
 أى و کیف یستعصب. ثمّ أشار إلى علّه عدم استصعابه و سرعه طوعه و انقیاده بذکر علّته و هو استناد جمیع الآثار إلى مشیئته. إذ کلّ أثر فهو واجب عن مؤثّره و الکلّ منته فی سلسله الحاجه إلى إرادته واجب عنها و قد علم ذلک فی العلم الإلهىّ.

و قوله: المنشى‏ء أصناف الأشیاء. إلى قوله: عجائب الامور.
 قد سبق فی الخطبه الاولى بیان أنّ الرویّه و الفکر و التجربه ممّا یلحق الإنسان و یخصّه و أنّ البارى سبحانه منزّه عن شی‏ء منها فی کیفیّه إبداعه لخلقه، و أمّا الشریک فمنزّه عنه ببرهان الوحدانیّه کما سبقت الإشاره إلیه أیضا. و قریحه الغریزه قوّه الفکر للعقل.

و قوله: فأتمّ [فتمّ خ‏] خلقه و أذعن لطاعته و أجاب إلى دعوته.
تمام مخلوقاته من جهه جوده بإفادتها ما ینبغی لها فإن عرض لشی‏ء منها فوت کمال فلعدم استعداده و قبوله لذلک و إذعانه ذلّته فی رقّ الحاجه و الإمکان و تصریف القدره و إجابته إلى دعوته کونه فی الوجود عن قوله: لکِنْ.

و قوله: و لم یعترض دونه ریث المبطئ و لا أناه المتلکّى‏ء.
 تنزیه لفعله تعالى و أمره أن یعرض فی طاعه الأشیاء له شی‏ء من هذه الکیفیّات إذ کلّ شی‏ء فی قهره و على غایه من السرعه إلى إجابه أمره و لما کان تعالى إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ، و فی قوله کن هبه ما ینبغی لذلک المأمور و ما یعدّه لإجابه أمره بالکون فی الوجود و یجب عنه فکیف یمکن أن یعرض له فی إجابه الأمر بطوء أو تلکّى‏ء بل یکون کلمح البصر کما قال تعالى وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَهٌ کَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ و یحتمل أن یکون ذلک تنزیها له تعالى أن یعرض له من جهه ما هو فاعل شی‏ء من هذه الکیفیّات فإنّ البطؤ و الأناه و التلکّى‏ء من عوارض الحرکه الّتى هى من عوارض الجسم، و اعتراضها فیمن یفعل بالآله و تشتدّ حرکته و تضعف، و قد علمت تنزیه اللّه تعالى عن‏ جمیع ذلک.

و قوله: فأقام من الأشیاء أودها. إلى قوله: و الهیئات.
 إقامته لأودها رفعه لاعوجاج کلّ شی‏ء بإعداده لما ینبغی له و إفاضه کماله، و نهجه لجددها أو لحدودها على الروایتین هو ایضاحه لکلّ شی‏ء و جهته و غایته الّتى تیسّرها له، و ملائمته بین متضادّها کجمعه العناصر الأربعه على تضادّ کیفیّاتها فی مزاج واحد و قد سبق بیانه، و وصله لأسباب قرائنها إشاره إلى أنّ الموجودات لا تنفکّ عن أشیاء تقترن بها من هیئه أو شکل أو غریزه و نحوها و اقتران الشیئین لا محاله مستلزم لاقتران أسبابهما و اتّصالهما لاستحاله قیام الموجود بدون أسبابه، و ذلک الوصل مستند إلى کمال قدرته إذ هو مسبّب الأسباب. و قال بعض الشارحین: أراد بالقرائن النفوس. و على هذا یحتمل أن یکون معنى وصله لأسبابها هدایتها إلى عبادته و ما هو الأولى بها فی معاشها و معادها و سوقها إلى ذلک إذ المفهوم من قول القائل: وصل الملک أسباب فلان. إذا علّقه علیه و وصله إلى برّه و إنعامه، و الأوّل أظهر.

و قوله. و فرّقها أجناسا مختلفات فی الحدود و الأقدار و الغرائز و الهیئات.

لا یرید بالأجناس و الحدود ما اصطلح علیه قوم فی عرفهم بل ما اختلف بالامور المذکوره کلّها أو بعضها فهو مختلف الجنس لغه، و حدّ الشی‏ء منتهاه و ما یحیط به، و الأقدار المقادیر و الأشکال أیضا، و الغرائز القوى النفسانیّه و الأخلاق و الهیئات و الصفات. و إن حملنا الحدود على ما هو المتعارف کان حسنا فإنّ حکمه الخالق سبحانه اقتضت تمیّز بعض الموجودات عن غیرها بحدودها و حقایقها و بعضها بأشکالها و هیئاتها و مقادیرها و غرائزها و أخلاقها کما یقتضیه نظام الوجود و أحکام الصنع و حکم الإراده الإلهیّه.

و قوله: بدا یا خلایق أحکم صنعها و فطرها على ما أراد و ابتدعها.
أى هى بدایا: أى عجائب مخلوقات أحکم صنعها على وفق إرادته. و باللّه التوفیق.

الفصل الرابع منها فى صفه السماء:

وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِیقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا- وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا وَ وَشَّجَ بَیْنَهَا وَ بَیْنَ أَزْوَاجِهَا- وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِینَ بِأَمْرِهِ- وَ الصَّاعِدِینَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَهَ مِعْرَاجِهَا- وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِیَ دُخَانٌ فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا- وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا- وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا- وَ أَمْسَکَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِی خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَیْدِهِ- وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَهً لِأَمْرِهِ- وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آیَهً مُبْصِرَهً لِنَهَارِهَا- وَ قَمَرَهَا آیَهً مَمْحُوَّهً مِنْ لَیْلِهَا- وَ أَجْرَاهُمَا فِی مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا- وَ قَدَّرَ سَیْرَهُمَا فِی مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا- لِیُمَیِّزَ بَیْنَ اللَّیْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا- وَ لِیُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِینَ وَ الْحِسَابُ بِمَقَادِیرِهِمَا- ثُمَّ عَلَّقَ فِی جَوِّهَا فَلَکَهَا وَ نَاطَ بِهَا زِینَتَهَا- مِنْ خَفِیَّاتِ دَرَارِیِّهَا وَ مَصَابِیحِ کَوَاکِبِهَا- وَ رَمَى مُسْتَرِقِی السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا- وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِیرِهَا مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا- وَ مَسِیرِ سَائِرِهَا وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا

اللغه

أقول: الرهوات: جمع رهوه و هى الفرجه المتّسعه. و أیده: قوّته، و بایده: هالکه. و مار: تتحرّک. و ناط: علق و الصدوع: الشقوق. و وشّج بالتشدید: أی شبّک. و الحزونه: الصعوبه. و الأشراج: جمع شرج بالفتح و هى عرى العیبه الّتى تخاط بها و تنقل و یطلق أیضا على حروفها الّتى تخاط. و الارتتاق: الالتصاق و النقاب: جمع نقب بفتح النون و هو الطریق فی الجبل. و الدرارى: الکواکب المضیئه.

و هذا الفصل یشتمل على کیفیّه خلق السماء

فقوله: و نظم بلا تعلیق. إلى قوله: انفراجها
 انفراجها یقتضى بظاهره أنّ السماء کانت ذات فرج و صدوع، و هذا على رأى المتکلّمین ظاهر فإنّ الأجسام لمّا کانت عندهم مرکّبه من الأجزاء الّتى لا تتجزّى‏ء کانت قبل تألیفها ذات فرج و صدوع، و أمّا على رأى غیرهم فقالوا: یحتمل أمرین: أحدهما: أنّه لمّا کانت السماوات مرکّبه من أجزاء و کانت بین أجزاء کلّ مرکّب مباینه لولا المرکّب و المؤلّف استعار علیه السّلام لفظ الرهوات و الفرج لما یتصوّر من المباینه بین أجزاء السماء عند قطع النظر عن صانعها و مرکّبها سبحانه، و نظامه لرهوات فرجها إفاضته لصورها على قوابلها حتّى تمّت مرکّبا منتظما متلاحم الصدوع و الفرج، و الثانی: یحتمل أن یشیر بالفرج إلى ما بین أطباق السماوات من التباین، و نظمه لرهواتها و ملاحمه صدوعها خلقها اکرا متماسّه لا خلاء بینها، و نبّه على کمال قدره اللّه تعالى بقوله: بلا تعلیق. فإنّ الأوهام حاکمه بأنّ السماء واقفه فی خلاء کما یقف الحجر فی الهواء و ذلک منشأ حیرتها و تعجّبها فحرّکها بذلک القول إلى التعجّب و الاستعظام.

و قوله: و وشّج بینها و بین أزواجها.
 أراد بأزواجها نفوسها الّتى هى الملائکه السماویّه بمعنى قرائنها و کلّ قرین زوج: أى ربط ما بینها و بین نفوسها بقبول کلّ جرم سماوىّ لنفسه الّتى لا یقبلها غیره.

و قوله: و ذلّل للهابطین بأمره. إلى قوله: انفراجها.
 قد سبقت الإشاره إلى أنّ الملائکه لیست أجساما کسایر الحیوان فإذن لیس هبوطها و صعودها الهبوط و الصعود المحسوسین و إلّا لکان البارى- جلّ قدسه عن أوهام المتوهّمین- فی جهه إلیه یصعد و عنه ینزل فإذن هو استعاره لفظ النزول من الجهه المحسوسه إلى أسفل لنزول العقول من سماء الجود الإلهىّ إلى أراضى الموادّ القابله للإفاضات العالیه، و بذلک المعنى یکون هبوط الملائکه عباره عن إیصالها إلى کلّ ما دونها کماله متوسّطه بینه و بین مبدعه و موجده و هم المرسلون من الملائکه بالوحى و غیره و کذلک الصاعدون بأعمال الخلق هم الملائکه أیضا، و أمّا معنى الصعود بها فیعود إلى کونها منقوشه فی ذوات الصاعدین بها، و قد لاح فیما سبق أنّ علمه تعالى بمعلولاته البعیده کالزمانیّات و المعدومات الّتى من شأنها أن توجد فی وقت و تتعلّق بزمان یکون بارتسام صورها المعقوله فی تلک الألواح، و هو أیضا مستعار کلفظ الهبوط للمعنى الّذى ذکرناه من أراضى النفوس إلى الألواح المحفوظه. فأمّا الانفراج الّذى ذلّل حزونته لهم و سهل علیهم سلوکه فیعود إلى عدم حجبها و منعها لنفوذ علوم الملائکه بأعمال الخلایق و ما یحرى فی هذا العالم و کما أنّ الجسم المتصدّع لا یمنع نفوذ جسم آخر فیه من حیث هو متصدّع و الوصول إلى ما رواءه کذلک السماء لا تحجب علوم الملائکه أن تتعلّق بما فی هذا العالم من الموجودات فجرت مجرى المنفرح من الأجسام فاطلق علیه لفظ الانفراج و تذلیله لحزونه ذلک الانفراج لهم هو کونها غیر مانعه بوجه ما لجریان علوم الملائکه المقرّبین فی هذا العالم.

و قوله: و ناداها بعد إذ هى دخان فالتحمت عرى أشراجها و افتتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.
 فیه احتمالان: الأوّل: أنّک قد علمت ممّا سبق ما معنى کون السماء من دخان فأمّا نداؤه لها فإشاره إلى أمره لها بالإتیان و الکون فی قوله تعالى فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِیا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً قالَتا أَتَیْنا طائِعِینَ«» و أمّا التحامها فاعتبار ترکیبها بانضمام جزئها الصورىّ إلى جزئها القابل کما یلتحم طرفا العیبه بتشریج عراها، و افتتاق صوامت أبوابها بعد ذلک الارتتاق هو جعلها أسبابا لنزول رحمته و مدبّرات تنزل بواسطه حرکاتها على هذا العالم أنواع رحمه اللّه فکانت حرکاتها تشبه الأبواب إذ هى أبواب رحمته و مفاتیح جوده. الثانی: أنّ العرب تقول لکلّ ما علاک: فهو سماؤک. فعلى هذا یحتمل أن یکون المراد بالسماء ما هو أعمّ من السماء المعهوده، و یکون قوله: و ناداها إشاره إلى سماء السحاب و کونها دخانا هو کونها بخارا قبل الانعقاد یشبه الدخان فاستعیر له لفظه و التحام عرى أشراجها إشاره إلى التحام تلک الأجزاء البخاریّه و انعقادها سحابا و افتتاق صوامت أبوابها هو إنزال المطر منها کما. قال تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ«».

و قوله: و أقام رصدا من الشهب الثواقب على نقابها.
 له معنیان: أحدهما: أن یکون استعار لفظ النقاب لکونها بحیث لا یمنع تعلّق العلوم بما ورائها من الأجسام و المجرّدات، و قد سبق معنى الشهب و إقامتها رصدا. الثانی: أن‏ یکون استعار لفظ الرصد لهذه الشهب المحسوسه و رشّح بذکر النقاب إذ شأن الرصد و الحرسه حفظ الفرج و الأبواب، و یکون سرّ ذلک و وجه الحکمه فیه أنّ العرب کانت تعتقد أنّ الشیاطین تصعد إلى السماء فتسترق الغیب من الملائکه ثمّ تلقیه إلى الکهنه و السحره و نحوهم فلمّا آن دور الستر و النهى عن التکهّن و نحوه لما بیّنا فیه من فساد أذهان الخلق و صرف قلوبهم عن غرض الشریعه ألقى الوحى إلیهم أنّ هذه الشهب الّتى تنقضّ إنّما جعلت رجوما للشیاطین مسترقى السمع کلّ من استمع منهم رمى بشهاب منها و حجبت السماوات عنهم فلا یصلون إلیها لینغرس فی أذهان الخلق انقطاع مادّه الکهانه و نحوها فنسبوا اعتقادهم فیه فیکون ذلک کسرا لأوهامهم الّتى بیّنا أنّها شیاطین النفوس و قمعا لها. و باللّه التوفیق.

و قوله: و أمسکها من أن تمور فی خرق الهواء بأیده و أمرها أن تقف مستسلمه لأمره.
أى حفظها عن أن تحرّکها الریح المخترعه فیها مجیئا و ذهابا و حکمت الحکمه الإلهیّه علیها بالاستقرار انقیادا لقهره، و الأمر الأوّل إشاره إلى حکم القضاء، و الأمر الثانی إشاره إلى اعتبار القدره.

و قوله: و جعل شمسها آیه مبصره لنهارها و قمرها آیه ممحوّه من لیلها.

کقوله تعالى وَ جَعَلْنَا اللَّیْلَ وَ النَّهارَ آیَتَیْنِ فَمَحَوْنا آیَهَ اللَّیْلِ وَ جَعَلْنا آیَهَ النَّهارِ مُبْصِرَهً«» و کونهما آیتین: أى لدلالتهما على کمال قدرته، و نقل عن أئمّه التفسیر فی إبصار آیه النهار و محو آیه اللیل وجوه: أحدها: أنّ إبصار آیه النهار هو بقاء الشمس بحالها و تمام ضیائها فی کلّ حال، و محو آیه اللیل هو اختلاف أحوال القمر فی إشراقه و محاقه بحیث لا یبقى لیلتین على حاله واحده بل کلّ لیله فی منزل بزیاده أو نقصان. الثانی: ما نقل أن ابن الکوّاء سئل علیّا علیه السّلام عن اللطخه الّتى فی وجه القمر فقال: ذلک محو آیه اللیل. الثالث: عن ابن کثیر: أنّ الآیتین هما ظلمه اللیل و ضیاء النهار، و التقدیر و جعلنا اللیل و النهار ذوى آیتین فقوله: فَمَحَوْنا آیَهَ اللَّیْلِ: أى لم نجعل للقمر نورا من ذاته بل من ضوء الشمس، و إبصار آیه النهار کون الشمس مضیئه بذاتها و من هنا لابتداء الغایه أو لبیان الجنس متعلّق بممحوّه أو بجعل، و قیل: أراد من آیات لیلها.

و قوله: فأجراهما فی مناقل مجراهما و قدّر سیرهما فی مدارج درجهما.
 الّتى قدّر سیرهما فینا هى بروجهما و منازلهما. و لنشر إلى مفهومات الدرج و البروج و المنازل و هو أنّ الناس قسموا دور الفلک الّذى یسیر منه الکواکب باثنى عشر قسما و سمّوا کلّ قسم برجا و قسّموا کلّ برح قسما و سمّوا کلّ قسم درجه و سمّوا تلک البروج أسماء: الحمل الثور الجوزاء السرطان الأسد السنبله المیزان العقرب القوس الجدى الدلو الحوت.
و الشمس تسیر کلّ برج منها فی شهر واحد، و القمر یسیر کلّ برج منها فی أزید من یومین و نقص من ثلاثه أیّام، و أمّا منازل القمر فثمانیه و عشرون و أسماؤها: الشرطین البطین الثریّا الدبران الهقعه الهنعه الذراع النثره الطرفه الجبهه الزبره الصرفه العوا. السماک الغفر الزبانا الاکلیل القلب الشوله النعایم البلده سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبیه الفرغ المقدّم الفرغ المؤخّر الرشاء.
و القمر یکون کلّ یوم فی منزل منها وَ کُلٌّ فِی فَلَکٍ یَسْبَحُونَ… ذلِکَ تَقْدِیرُ الْعَزِیزِ الْعَلِیمِ.

و قوله: لیمیّز بین اللیل و النهار. إلى قوله: بمقادیرهما.
 أى بمقادیر سیرهما، و قد سبق بیانه فی الخطبه الاولى.

و قوله: ثم علّق فی جوّها فلکها.
 لمّا أشار أوّلا إلى ترکیبها أشار إلى إقرارها فی أحیازها و هو المشار إلیه بتعلیق فلکها فی جوّها.
فإن قلت: فقد قال أوّلا: بلا تعلیق ثمّ قال هاهنا: و علّق. فما وجه الجمع.قلت: التعلیق أمر إضافیّ یصدق سلبه و إثباته باعتبارین: فالمراد بالأوّل أنّها غیر معلّقه بجسم آخر فوقها، و بالثانى أنّه علّقها فی جوّها بقدرته. و لا منافاه، و أراد بالفلک اسم الجنس و هو أجسامها المستدیره الّتى یصدق علیها هذا الاسم.

و قوله: و ناط بها زینتها من خفیّات دراریها و مصابیح کواکبها.
 کقوله تعالى وَ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ«» و رمى مسترقى السمع بثواقب شهبها کقوله تعالى فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ و قد تقدّم بیانه، و إنّما أعاد ذکر الشهب لأنّه ذکر أوّلا أنّه أقامها رصدا و ذکر هنا أنّه جعلها رصدا له: أى لرقى مسترقى السمع بها.

و قوله: و أجراها على إذلال تسخیرها.
 کقوله تعالى وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ«» و الذلّه: ذلّه الإمکان و الحاجه إلى الإیجاد و التدبیر. و أمّا الثابت و السائر منها فالسایر: هى الکواکب السبعه: زحل و المشترى و المرّیخ و الشمس و الزهره و عطارد و القمر.
و یسمّى الشمس و القمر بالنیّرین و الخمسه الباقیه بالمتحیّره لأنّ لکلّ واحد منها استقامه ثمّ وقوفا ثمّ رجوعا ثم وقوفا ثانیا ثمّ عودا إلى الاستقامه، و لیس للنیّرین غیر الاستقامه. و باقى الکواکب الّتى على السماء غیر هذه السبعه تسمّى بالثوابت و فلکها الثامن و کلّ واحد من السبعه یتحرّک حرکه مخصوصه یخالف حرکه الآخر. فأمّا صعودها و هبوطها: فصعودها طلبها لشرفها و شرف الشمس فی الدرجه التاسعه عشر من الحمل، و شرف القمر فی الدرجه الثالثه من الثور، و شرف زحل فی الحادیه و العشرین من المیزان، و شرف المشترى فی الخامسه عشر من السرطان، و شرف المرّیخ فی الثامنه و العشرین من الجدى، و شرف الزهره فی السابعه و العشرین من الحوت، و شرف عطارد فی الخامسه و العشرین من السنبله، و شرف الرأس فی الثالثه من الجوزا، و شرف الذنب فی الثالثه من القوس، و برج الشرف کلّه شرف إلّا أنّ تلک الدرجات قویّه فما دام الکواکب متوجّها إلى قوّه الشرف فهو فی الازدیاد و الصعود فإذا جاز صار فی الانتقاص و الهبوط. و هبوط کلّ کوکب یقابل شرفه و صعوده، و أمّا نحوسها و سعودها فقالوا: زحل و المرّیخ نحسان أکبرهما زحل، و المشترى و الزهره سعدان أکبرهما المشترى، و عطارد سعد مع السعود و نحس مع النحوس، و النیّران سعدان من التثلیت و التسدیس نحسان من المقابله و التربیع و المقاربه، و الرأس سعد، و الذنب و الکبد نحسان، و معنى سعودها و نحوسها کون اتّصالاتها أسبابا لصلاح حال شی‏ء من الأشیاء من أحوال هذا العالم. و باللّه التوفیق

الفصل الخامس و منها فى صفه الملائکه:

ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْکَانِ سَمَاوَاتِهِ- وَ عِمَارَهِ الصَّفِیحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَکُوتِهِ- خَلْقاً بَدِیعاً مِنْ مَلَائِکَتِهِ- وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا وَ حَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا- وَ بَیْنَ فَجَوَاتِ تِلْکَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِینَ- مِنْهُمْ فِی حَظَائِرِ الْقُدُسِ- وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ- وَ وَرَاءَ ذَلِکَ الرَّجِیجِ الَّذِی تَسْتَکُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ- سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا- فَتَقِفُ خَاسِئَهً عَلَى حُدُودِهَا- . وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ- أُولِی أَجْنِحَهٍ تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ- لَا یَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِی الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ- وَ لَا یَدَّعُونَ أَنَّهُمْ یَخْلُقُونَ شَیْئاً مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ- بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ- جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِیمَا هُنَالِکَ أَهْلَ الْأَمَانَهِ عَلَى وَحْیِهِ- وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِینَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْیِهِ- وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَیْبِ الشُّبُهَاتِ- فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِیلِ مَرْضَاتِهِ- وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَهِ- وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّکِینَهِ- وَ فَتَحَ لَهُمْ‏ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِیدِهِ- وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَهً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِیدِهِ- لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الْآثَامِ- وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّیَالِی وَ الْأَیَّامِ- وَ لَمْ تَرْمِ الشُّکُوکُ بِنَوَازِعِهَا عَزِیمَهَ إِیمَانِهِمْ- وَ لَمْ تَعْتَرِکِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ یَقِینِهِمْ- وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَهُ الْإِحَنِ فِیمَا بَیْنَهُمْ- وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَیْرَهُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ- وَ مَا سَکَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَیْبَهِ جَلَالَتِهِ فِی أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ- وَ لَمْ تَطْمَعْ فِیهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَیْنِهَا عَلَى فِکْرِهِمْ- وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِی خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ- وَ فِی عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ وَ فِی قَتْرَهِ الظَّلَامِ الْأَیْهَمِ- وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى- فَهِیَ کَرَایَاتٍ بِیضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِی مَخَارِقِ الْهَوَاءِ- وَ تَحْتَهَا رِیحٌ هَفَّافَهٌ- تَحْبِسُهَا عَلَى حَیْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِیَهِ- قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ- وَ وَصَلَتْ حَقَائِقُ الْإِیمَانِ بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَ مَعْرِفَتِهِ- وَ قَطَعَهُمُ الْإِیقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَیْهِ- وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَیْرِهِ- قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَهَ مَعْرِفَتِهِ- وَ شَرِبُوا بِالْکَأْسِ الرَّوِیَّهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ- وَ تَمَکَّنَتْ مِنْ سُوَیْدَاءِ قُلُوبِهِمْ وَشِیجَهُ خِیفَتِهِ- فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَهِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ- وَ لَمْ یُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَهِ إِلَیْهِ مَادَّهَ تَضَرُّعِهِمْ- وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِیمُ الزُّلْفَهِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ- وَ لَمْ یَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَیَسْتَکْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ- وَ لَا تَرَکَتْ‏ لَهُمُ اسْتِکَانَهُ الْإِجْلَالِ- نَصِیباً فِی تَعْظِیمِ حَسَنَاتِهِمْ- وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِیهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ- وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَیُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ- وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاهِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ لَا مَلَکَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَیْهِ أَصْوَاتُهُمْ- وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِی مَقَاوِمِ الطَّاعَهِ مَنَاکِبُهُمْ- وَ لَمْ یَثْنُوا إِلَى رَاحَهِ التَّقْصِیرِ فِی أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ- . وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِیمَهِ جِدِّهِمْ بَلَادَهُ الْغَفَلَاتِ- وَ لَا تَنْتَضِلُ فِی هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ- قَدِ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِیرَهً لِیَوْمِ فَاقَتِهِمْ- وَ یَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِینَ بِرَغْبَتِهِمْ- لَا یَقْطَعُونَ أَمَدَ غَایَهِ عِبَادَتِهِ- وَ لَا یَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ- إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَیْرِ مُنْقَطِعَهٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ- لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَهِ مِنْهُمْ فَیَنُوا فِی جِدِّهِمْ- وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ- فَیُؤْثِرُوا وَشِیکَ السَّعْیِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ- لَمْ یَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ- وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِکَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ- وَ لَمْ یَخْتَلِفُوا فِی رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّیْطَانِ عَلَیْهِمْ- وَ لَمْ یُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِل‏ التَّحَاسُدِ- وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّیَبِ- وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْیَافُ الْهِمَمِ- فَهُمْ أُسَرَاءُ إِیمَانٍ لَمْ یَفُکَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَیْغٌ وَ لَا عُدُولٌ- وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ- وَ لَیْسَ فِی أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ‏ إِلَّا وَ عَلَیْهِ مَلَکٌ سَاجِدٌ- أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ یَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَهِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً- وَ تَزْدَادُ عِزَّهُ رَبِّهِمْ فِی قُلُوبِهِمْ عِظَماً

اللغه

أقول: الصفیح: السطح. و الفجاج: الطریق الواسع. و الجوّ: المکان المتّسع العالى. و الفجوه: الفرجه. و الزجل: الأصوات. و السرادق: الستر الّذى یمدّ فوق البیت. و الرجیج: الزلزله و الاضطراب. و تستکّ الأسماع: تصمّ. و خاسئه: متحیّره و الإخبات: التذلّل و الاستکانه. و ذللا: سهله. و الموصرات: المثقلات. و العقب: جمع عقبه و هى المدّه من التعاقب: و النوازغ بالغین المعجمه: المفسده. و بالمهمله القسىّ. و الإحن: جمع أحنه و هى الحقد. و لاق: التصق. و أثناء: جمع ثنى و هى تضاعیف الشی‏ء. و الرین: الغلبه و التغطیه. و الدلّح: جمع دالحه و هى الثقال. و الشمّخ: العالیه. و قتره الظلام: سواده و الأبهم: الّذی لا یهتدى فیه. و التخوم جمع تخم بفتح التاء و هى منتهى الأرض و حدودها. و الریح الهفّافه: الساکنه الطیّبه و الوشیجه: عروق الشجره. و الربق: جمع ربقه و هى الحلقه من الحبل، و الدؤوب: الجدّ فی العمل. و الأسله: طرف اللسان. و الجؤار: رفع الصوت بالدعاء و نحوه. و الهمس: الخفىّ من الصوت. و الانتضال: الرمى بالسهم. و استهتر بالأمر: أعجبه و تظاهر به. و شیک السعى: مرتبته. و النسخ: الإزاله و الاستحواذ على الشی‏ء: الإحاطه و الغلبه علیه. و أخیاف الهمم. مختلفاتها واحده أخیف و الحفد: السرعه.

و اعلم أنّ هذا الفصل یشتمل على وصف الملائکه
الّذین هم أشرف الموجودات الممکنه بکمال العبودیّه للّه إذ کان فی معرض تمجیده و وصف عظمته، و قد سبق ذکر أنواع الملائکه و إسکانهم أطباق السماوات، و بیّنا مقاصده بقدر الإمکان. و لنشر هاهنا إلى ما یختصّ بهذا الموضع من المباحث:
الأوّل: ثمّ خلق سبحانه إلى قوله: من الملائکه
یحتمل أن یشیر بالصفیح الأعلى إلى الفلک التاسع و هو العرش لکونه أعظم الأجرام و أعلاها و سکّانه الملائکه المدبّرون له، و یحتمل أن یرید به محلّ عباده الملائکه من حضرت جلال ربّ العالمین و عالم الملکوت‏ و مقعدهم الصدق من معرفته فإنّ خلقهم إنّما کان لعماره ذلک المحلّ و هو البیت المعمور بجلال اللّه و عبادتهم له، و لمّا کانوا من أشرف الموجودات کانوا هم الخلق البدیع التامّ المعجب.

الثانی: ملأ بهم فروج فجاجها و حشا بهم فتوق أجوائها
استعار لفظ الفروج و الفجاج و الفتوق لما یتصوّر بین أجزاء الفلک من التباین لولا الملائکه الّذین هم أرواح الأفلاک و بهم قام وجودها و بقاء جواهرها محفوظه بهم. و وجه المشابهه ظاهر، و رشّح تلک الاستعاره بذکر المل‏ء و الحشو، و أمّا فجاجها و فروجها فإشاره إلى ما یعقل بین أجزائها و أجوائها المنتظمه على التباین لولا الناظم لها بوجود الملائکه فیکون حشو تلک الفرج بالملائکه کنایه عن نظامها بوجودها و جعلها مدبّره لها.

الثالث: و بین فجوات تلک الفروج. إلى قوله: المجد.
استعار لفظ الزجل لکمال عبادتهم کما أنّ کمال الرجل فی رفع صوته بالتضرّع و التسبیح و التهلیل و کذلک لفظ الحظائر لمنازل الملائکه من عالم الغیب و مقامات عبادتهم، و ظاهر کونها حظایر القدس لطهارتها و براءتها عن نجاسات الجهل و النفس الأمّاره بالسوء، و کذلک استعار لفظ سترات الحجب و السرادقات لما نبّهنا علیه من حجب النور الّتى حجبت بها عن الأذهان أو لتجرّدهم عن الموادّ و الأوضاع المحسوسه، و وجه المشابهه کونهم محتجبین بذلک عن رؤیه الأبصار و الأوهام. و ظاهر کون تلک الحجب سرادقات المجد لکمال ذواتهم و شرفهم بها على من دون تلک الحجب.

الرابع: و وراء ذلک الرجیج الّذى تستکّ. إلى قوله: حدودها.
استعار لفظ الرجیج لعبادات الملائکه کما استعار لفظ الزجل و رشّح استعاره الرجیج بقوله: تستکّ منه الأسماع و کنّى به من کمال عبادتهم، و یحتمل أن یشیر بذلک الزجل و الرجیج إلى ما یسمعه الأنبیاء من أصوات الملائکه کما علمت کیفیّته فی سماع الوحی و بیّناه فی المقدّمه و أشار بسبحات النور الّتى وراء ذلک الرجیج إلى جلال وجه اللّه و عظمته و تنزیهه أن یصل إلیه أبصار البصائر، و نبّه بکون ذلک وراء رجیجهم إلى أنّ معارفهم لا تتعلّق به کما هو، بل وراء علومهم و عباداتهم أطوار اخرى من جلاله تقصر معارفهم عنها و تردع أبصار البصائر عن إدراکها فترجع حسیره متحیّره واقفه عند حدودها و غایاتها من الإدراک.

الخامس: أنشأهم على صور مختلفات. إلى قوله: عزّته.
اختلاف صورهم کنایه عن اختلافهم بالحقایق و تفاوت أقدارهم تفاوت مراتبهم فی الکمال و القرب منه و لفظ الأجنحه مستعار لقواهم الّتى بها حصلوا على المعارف الإلهیّه و تفاوتها بالزیاده و النقصان کما قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ«» کنایه عن تفاوت إدراکهم لجلال اللّه و علومهم بما ینبغی له و لذلک جعل الأجنحه هى الّتى تسبّح جلال عزّته فإنّ علمهم بجلاله منزّه عمّا لا ینبغی لکرم وجهه و لا یناسب جلال عزّته.

السادس: لا ینتحلون إلى قوله: یعملون
أى لا ینسون بعض مصنوعاته إلى قدرهم و إن کانوا وسایط فیها و لا یدّعون أنّهم یقدرون على شی‏ء منها إلّا بإقداره لهم، بل غایتهم أنّهم وسائط فی إفاضه الجود على مستحقّه و ما لم یجعلهم وسائط فیه بل انفرد بذاته فی إبداعه فلا یدّعون القدره علیه أصلا و ذلک لکمال معارفهم بأقدارهم و نسبتهم إلى بارئهم و قد أکرمهم اللّه تعالى بالتقدیس عن النفوس الأمّاره بالسوء الّتى هى مبدء مخالفه أمره و الخروج عن طاعته.

السابع: جعلهم فیما هنا لک. إلى قوله: و نهیه
أى فی مقاماتهم من حضره قدسه.
و قد سبقت الإشاره إلى کلّ ذلک فی الخطبه الاولى.

الثامن: و عصمهم. إلى قوله: مرضاته
منشأ الشکوک و الشبهات و الزیغ عن سبیل اللّه هو معارضه النفس الأمّاره للعقل و جذبها له إلى طرق الباطل و الملائکه مبرّؤون عنها فکانوا معصومین ممنوعین ممّا تقود إلیه و تأمر به من الزیغ و الانحراف عن قصد اللّه.
و إمدادهم بفواید المعونه زیادتهم فی کمالاتهم على غیرهم و دوام ذلک بدوام وجوده.

التاسع: و أشعر قلوبهم تواضع إخبات السکینه
استعار لفظ التواضع و الاستکانه لحالهم من الاعتراف بذلّ الحاجه و الإمکان إلى جوده و الانقهار تحت عظمته: أى جعل ذلک الاعتراف شعارا لازما لذواتهم، أو من الشعور و هو الإدراک.

العاشر: و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجیده
الأبواب الذلل وجوه معارفهم الإلهیّه الّتى بها یمجّدونه حقّ تمجیده و هى أبوابهم و وسائلهم إلى تنزیهه و تعظیمه و ظاهر کونها سهله إذ حصولها لهم لیس اکتسابا عن طرق توعّرت بتراکم الشکوک و الشبهات و منازعات الأوهام و الخیالات کما علیه علومنا.

الحادى عشر: و نصب لهم منارا واضحه على أعلام توحیده
قیل: استعار المنار الواضحه للوسائط من الملائکه المقرّبین بینهم و بین الحقّ سبحانه إذ أخباره عن الملائکه السماویّه، و لفظ الأعلام لصور المعقولات فی ذواتهم المستلزمه لتوحیده و تنزیهه عن الکثره، و وجه المشابهه أنّ المنار و الأعلام کما یکون وسائط فی حصول العلم بالمطلوب کذلک الملائکه المقرّبون و المعارف الحاصله بواسطتهم یکون وسائط فی الوصول إلى المطلوب الأوّل محرّک الکلّ عزّ سلطانه.

الثانی عشر: لم تثقلهم موصرات الآثام.
لمّا لم یکن النفوس الأمّاره بالسوء موجوده لهم استلزم عدمها نفى آثارها عنهم من الآثام و الشرور.

الثالث عشر: و لم ترتحلهم عقب اللیالى و الأیّام
أى لم یستلزم تعاقب الزمان رحیلهم عن الوجود و ذاک لتجرّدهم و براءه المجرّدات عن لحوق الزمان و التغیّرات الحادثه بسببه.

الرابع عشر: و لم ترم الشکوک بنوازغها عزیمه إیمانهم و لم تعترک الظنون على معاقد یقینهم.
عزیمه إیمانهم ما لزم ذواتهم من التصدیق بمبدعهم و ما ینبغی له، و معاقد یقینهم اعتقاداتهم الیقینیّه و اعتراک الشکوک و الظنون منشأه الأوهام و الخیالات و علوم الملائکه المجرّدین مبرّأه عنها، و لفظ الرمى مستعار لانبعاث النفوس الأمّاره بالسوء و إلقائها الخواطر الفاسده إلى النفس المطمئنّه، و من روى النوازع بالعین المهمله فهو ترشیح للاستعاره و کذلک استعار لفظ الاعتراک لاختلاط الظنون و الأوهام على القلوب و جولانها فی النفوس، و وجه المشابهه ظاهره.

الخامس عشر: و لا قدحت قادحه الإحن فیما بینهم
أى لم تثر بینهم الأحقاد شیئا من الشرور کما تثیر النار قادحا لبراءتهم عن قوى الغضب و الشهوه.

السادس عشر: و لا سلبتهم الحیره ما لاق من معرفته بضمائرهم إلى قوله: صدورهم.
لمّا کانت الحیره تردّد العقل فی أىّ الأمرین أولى بالطلب و الاختیار و کان منشأ ذلک هو معارضات الوهم و الخیال للعقل فحیث لا وهم و لا خیال فلا حیره تخالط معارفهم و تزیل هیبه عظمته من صدورهم، و الهیبه کنایه عن استشعار عظمته، و لفظ الصدور مستعار لذواتهم.

السابع عشر: و لم تطمع فیهم الوساوس فتقترع برینها على فکرهم.
و قد مرّ تفسیر الوسوسه، و فاعل الطمع هاهنا إمّا مضمر على تقدیر حذف المضاف و إقامه المضاف إلیه مقامه: أى أهل الوساوس و هم الشیاطین، أو یکون الفاعل هو الوساوس و إسناد الطمع إلیه مجازا کقوله تعالى وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها«» و رینها غلبه الشکوک اللازمه عنها على وجوه عقولهم و أبصار ذواتهم الّتى بها ینظرون إلى وجه ربّهم.
و انتفاؤها عنهم لانتفاء أسبابها و هى النفوس الأمّاره.

الثامن عشر: منهم من هو فی خلق الغمام إلى قوله: الأبهم  هذا التقسیم یعود إلى جنس الملائکه فأمّا الأوصاف السابقه فکانت خاصّه بسکّان السماوات منهم و قد وردت فی الشریعه أنّ فی الغمام ملائکه تسبّح اللّه و تقدّسه و کذلک فی الجبال و الأماکن المظلمه و هم من الملائکه الأرضیّه، و قد علمت ما قیل فیها فی الخطبه الاولى.

التاسع عشر: و منهم من خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى إلى قوله: المتناهیه.
یشبه أن یکون هذا القسم من الملائکه السماویّه أیضا و استعار لفظ الأقدام لعلومهم المحیطه بأقطار الأرض السفلى و نهایاتها، و وجه المشابهه کون العلوم قاطعه للمعلوم و ساریه فیه واصله إلى نهایته کما أنّ الأقدام تقطع الطریق و تصل إلى الغایه منها و شبّهها بالرایات البیض النافذه فی مخارق الهواء من وجهین: أحدهما: فی البیاض فإنّ البیاض لمّا استلزم الصفاء عن الکدر و السواد کذلک علومهم صافیه من کدورات الباطل و ظلمات الشبه. الثانی: فی نفوذها فی أجزاء المعلوم کما تنفذ الرایات فی الهواء، و أشار بالریح‏ الّتى تحبس الأقدام على حیث انتهت من الحدود إلى حکمه اللّه الّتى أعطت کلاما یستحقّه و قصرت کلّ موجود على حدّه، و بهفوفها إلى لطف تصرّفها و جریانها فی المصنوعات.

العشرون: قد استفرغتهم أشغال عبادته إلى قوله: و شیجه خیفته
أى لم یجعل لهم فراغا لغیرها، و قد علمت أنّ تحریک الملائکه السماویّه لأجرام الأفلاک الجاریه لها مجرى الأبدان بحرکه إرادیّه و شوقیّه للتشبّه بالملائکه المتوسّطه بینها و بین الحقّ سبحانه فی کمال عبادتهم له و تلک الحرکات الدائمه الواجبه مستفرغه لهم عن الاشتغال بغیرها کما قال یُسَبِّحُونَ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ لا یَفْتُرُونَ و حقایق الایمان تصدیقهم الحقّ بوجوده عن شاهد وجودهم و ظاهر کونه سببا لإراده معرفته التامّه و الدوام علیها و إبراز ما فی قوّتهم من الکمال بها إلى الفعل فإنّ التصدیق بوجود الشی‏ء الواجب تحصیله أقوى الأسباب الباعثه على طلبه. فصار الإیمان و التصدیق الحقّ الیقین بوجوده وسیله جامعه بینه و بین معرفته و الاستکمال بها و قاطعا لهم إلى الوله إلیه و العشق له و ثبات الرغبات على ما عنده دون غیره، و لمّا استعار لفظ الذوق لتعقّلاتهم و لفظ الشرب بما تمکّن فی ذواتهم فی عشقه و کمال محبّته رشّح الاستعاره الاولى بذکر الحلاوه و کنّى بها عن کمال ما یجدونه من اللذّه بمعرفته کما یلتذّ ذایق الحلاواه بها، و الثانیه بذکر الکأس الرویّه إذ من کمال الشرب أن یکون بکأس رویّه: أى من شأنها أن تروى، و کنّى بها عن کمال معرفتهم بالنسبه إلى غیرهم و کذلک رشّح استعاره لفظ القلوب بذکر سویدائها إذ کان من کمال تمکّن العوارض القلبیّه کالمحبّه و الخوف أن یبلغ إلى سویدائه، و أشار بوشیجه خیفته إلى العلاقه المتمکّنه من ذواتهم لخیفته و هى کمال علمهم بعظمته، و لفظ الخیفه مستعار کما سبق لانقهارهم فی ذلّ الإمکان عند اعتبار عزّه و قهره.

الحادى و العشرون: فحنوا بطول الطاعه اعتدال ظهورهم
تجوّز بانحناء الظهور فی کمال خضوعهم فی عبادتهم و هو إطلاق لاسم المسبّب على السبب.

الثانی و العشرون: و لم ینفذ طول الرغبه إلیه مادّه تضرّعهم
لمّا کان من شأن أحد إذا رغب فی أمر إلى بعض الملوک و فزع فیه إلیه بالتضرّع و الخدمه أن ینقطع تضرّعه‏ بانقطاع مادّته. و مادّته إمّا دواعى نفسه إلى الطلب و میولها و انقطاعها باستیلاء الملال على نفسه و ضعفها عن تحمّل المشقّه، أو مطلوبه و تصوّره لإمکان تناوله و انقطاعه إمّا بإیاسه منه أو بإعطائه إیّاه و کانت مادّه تضرّعهم و عبادتهم له تعالى على التقدیرین بریئه عن القواطع أمّا من ذواتهم فلأنّ الکلال و الملال من عوارض المرکّبات العنصریّه و أمّا مطلوبهم فلأنّه کمال معرفه اللّه بعد تصورّهم لعظمه ذلک المطلوب. و علمت أنّ درجات الوصول إلیه غیر متناهیه لا جرم سلب عنهم فی معرض مدحهم انقطاع مادّه تضرّعهم لیستلزم ذلک سبب انقطاع تضرّعهم و عبادتهم له.

الثالث و العشرون: و لا أطلق عنهم عظیم الزلفه ربق خشوعهم
لمّا کان من قرب من السلطان مثلا من شأنه أن یقوى نفسه و یخفّف هیبته منه و کان ذلک لتناهى ملک ملوک الدنیا و کونه مکتسبا لها و تصوّر المتقرّب إلیهم مثلیّه لهم و إمکان وصوله إلى ما وصلوا إلیه. و کان سلطان اللّه لا یتناهى عظمه و عزّه و عرفانا لم یتصوّر من العارف المتقرّب إلیه أن یخفّف هیبته أو ینقص خشوعه و عبادته بل کلّما ازدادت معرفته به ازدادت عظمته فی نفسه إذ کان یقدّر فی سلوکه عظمه اللّه بقدر عرفانه به فکلّما غیّر منزلا من منازل المعرفه علم عظمه خالقه فکمل عقد یقینه بذلک و علم نقصان ذاته فکمل خشوعه و صدن خضوعه، و استعار لفظ الربق لما حصلوا فیه من الخشوع.

الرابع و العشرون: و لم یتولّهم الإعجاب إلى قوله: حسناتهم
أى لم یستول علیهم، و الإعجاب: هو استعظام الإنسان نفسه عمّا یتصوّر أنّه فضیله له، و منشأ ذلک الحکم هو النفس الأمّاره فیتوهّم الإنسان أنّ تلک الفضیله حصلت له عن استحقاق وجب له بسعیه و کدّه مع قطع النظر عن واهب النعم و مفیضها، و الملائکه السماویّه مبرّؤون عن الأوهام و أحکامها غرقى فی الوله إلیه و دوام مطالعه آلائه و الاستکانه تحت جلال عزّته فلا یستکثرون ما سلف منهم من عباده و لا یستعظمون ما صدر عنهم من خیر.

الخامس و العشرون و لم تجر الفترات فیهم على طول دؤوبهم
قد ثبت أنّ الملائکه السماویّه دائمه التحریک لأجرامها حرکه لا یتخلّلها سکون و لا یکلّها و یفترها إعیاء و تعب، و لبیان ذلک بالبرهان اصول ممهّده فی مواضعها، و أمّا بالقرآن فلقوله تعالى یُسَبِّحُونَ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ لا یَفْتُرُونَ«» و قد سبق.

السادس و العشرون: و لم تغض رغباتهم فیخالفوا عن رجاء ربّهم
المخالفه عن الشی‏ء العدول عنه، و قد سبق أنّ رغبات الملائکه السماویّه و أشواقها إلى کمالاتها دائمه ثابته فکانت لذلک دائمه الرجاء لها من واهبها، و لفظ الغیض مستعار کما سبق.

السابع و العشرون: و لم تجفّ لطول المناجاه أسلات ألسنتهم
طول مناجاتهم یعود إلى توجیه وجوههم دائما إلیه، و استعار لفظ الألسنه و رشّح بذکر الأسلات ملاحظه للتشبیه بأحدنا فی مناجاته، و کنّى بعدم جفاف ألسنتهم عن عدم فتورهم و عدم لحقوق الکلال و الإعیاء لهم و ظاهر أنّه لا ألسنه لحمانیّه لهم فلا جفاف.

الثامن و العشرون: و لا ملکتهم إلى قوله: أصواتهم
أى لم تضعفهم العباده فتنقطع أصواتهم فتضعف فتخفى بالتضرّع إلیه. و هو تنزیه لهم عن الأحوال البشریّه و العوارض البدنیّه من الضعف و الإعیاء و کلال الأعضاء عند کثره الأشغال و قوّتها. و قد مرّ أنّ الملائکه السماویّه لا یجوز علیها شی‏ء من تلک العوارض، و استعار لفظ الأصوات کما استعار لفظ الألسنه.

التاسع و العشرون: و لم یختلف فی مقاوم الطاعه مناکبهم إلى قوله: رقابهم.
استعار لفظ المقاوم من ریش الطائر و هى عشر فی کلّ جناح لما سبق وجوبه من طاعه اللّه و کان أهمّ عباداته کمعرفته فی التوجّه إلیه، و لفظ المناکب و هى أربع ریشات بعد المقاوم فی کلّ جناح لذواتهم، و وجه المشابهه أنّ المناکب تالیه للمقادم و على نظامها و ترتیبها لا یخالف صفّها و نسقها کذلک الملائکه لا تختلف ذواتهم و أجرامهم فی نسق ما أهمّ من عباده ربّهم و معرفته بل صافّون لا یخالف بعضهم بعضا فی استقامه طریقهم إلیه و لا یخرجون عن نظام ترتیبه لهم فی التوجّه إلیه کما أشار إلیه فی الخطبه الاولى: و صافّون لا یتزایلون، و کذلک استعار لفظ الرقاب و لفظ الثنى: أى لم یلتفتوا إلى الراحه من تعب العباده فیقصروا فی أوامره. و المقصود نفى الأحوال البشریّه عنهم من التعب و الراحه لکونهما عن توابع هذه الأبدان.

الثلاثون: و لا تعدو إلى قوله: الشهوات
قد عرفت معنى الغفله فیما سبق. و البلاده هى طرف التفریط من فضیله الذکاء و کلاهما من عوارض هذا البدن و بواسطته. و کذلک الشهوات و الملائکه السماویّه بریئه عنها فلم یجز أن یطرأ على قصودهم لما توجّهوا له غفله و لا بلاده حتّى یکون ذلک سببا لإعراضهم عن التوجّه فیه و لم یجز أن ترمى الشهوات هممهم بسهام خدایعها، و لفظ الانتضال مستعار لنوادر جواذب الشهوه على النفس الناطقه مع کونها مؤدّیه لها و مردیه فی قرار الجحیم.

الحادى و الثلاثون: قد اتّخذوا إلى قوله: برغبتهم.
أشار بیوم فاقتهم إلى حال حاجتهم فی الاستکمال إلى جوده و إن کان ذلک دائما فهو ذخرهم الّذى إلیه یرجعون و و کذلک الإشاره بقوله: عند انقطاع الخلق إلى المخلوقین. إلى حال الحاجه أیضا فإنّه إنّما یکون ذخیره لهم لرجوعهم إلیه فیما یحتاجون و إنّما یتحقّق قصدهم له برغبتهم حال الحاجه إلیه.

الثانی و الثلاثون: لا یقطعون إلى قوله: و مخافته.
لمّا کانت غایه عبادته هو الوصول إلى کمال معرفته و کانت درجات المعارف الإلهیّه غیر متناهیه لم یکن قطعهم لتلک الغایه ممکنا، و لمّا کانوا غرقى فی محبّته عالمین بکمال عظمته و أنّ ما یرجونه من تمام جوده أشرف المطالب و أربح المکاسب، و ما یخشى من انقطاع جوده و نزول حرمانه أعظم المهالک و المعاطب لا جرم دام رجاؤهم له و خضوعهم فی رقّ الحاجه إلیه و الفزع من حرمانه و کان ذلک الرجاء و الخوف هو مادّه استهتارهم بلزوم طاعته الّتى یرجعون إلیها من قلوبهم فلم ینقطع استهتارهم بلزومها.

الثالث و الثلاثون: لم تنقطع أسباب الشفقّه عنهم فیتوانى جدّهم.
الشفقّه: الاسم من الإشفاق: أى لم ینقطع أسباب خوفهم له و أسبابه حاجتهم إلى القیام فی الوجود إلى الاستکمال بجوده فإنّ الحاجه الضروریّه إلى الغیر فی مطلوب یستلزم الخوف منه فی عدم قضائه و یوجب الإقبال على الاستعداد بجوده بلزوم طاعته. و حاجتهم إلیه دائمه فجدّهم فی عبادته دائم فالتوانى فیه مفقود.

الرابع و الثلاثون: و لم یأسرهم إلى قوله: اجتهادهم
سلب لبعض أوصاف البشر عنهم فإنّ کثیرا من العابدین قد یصرفهم عن الاجتهاد فی طاعه اللّه سبب ما یظهر لهم من کمالات الدنیا و زینتها فیؤثرون ما قرب من السعى فی تحصیله على ما یستبعدونه من تحصیل السعاده الاخرویّه الباقیه، و قد عرفت أنّ ذلک من جواذب الشهوات و الغفله عمّا وراء هذه الدار و الملائکه مبرّؤون عن الشهوات و ما یلزمها من أسر الأطماع الکاذبه لهم، و لفظ الأسر استعاره لقود الأطماع إلى ما یطمع فیه.

الخامس و الثلاثون: و لم یستعظموا ما مضى من أعمالهم إلى قوله: رجلهم
معنى هذه الشرطیّه أنّهم لو استعظموا ذلک لکان رجاؤهم لثواب عبادتهم عظیما فکان لقوّته ماحیا لإشفاقهم و خوفهم منه و هذا کما أنّ الإنسان إذا عمل لبعض الملوک عملا یستعظمه فإنّه یرى فی نفسه استحقاق أتمّ جزاء له و یجد التطاول به و الدالّه علیه فیهوّن ذلک ما یجده من خوفه، و کلّما ازداد استعظامه لخدمته ازداد اعتقاده فی قربه من الملک قوّه و بمقدار ذلک ینقص خوفه و یقلّ هیبته لکنّ الملائکه خائفون أبدا کما قال تعالى یَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ… وَ الْمَلائِکَهُ مِنْ خِیفَتِهِ فینتج أنّهم لا یستعظمون سالف عبادتهم.

السادس و الثلاثون: و لم یختلفوا فی ربّهم باستحواذ الشیطان علیهم
أى فی إثباته و استحقاقه کمال العباده و ذلک لعدم سلطان علیهم و هو سلب لبعض أحوال البشر و کذلک قوله: و لم یفرّقهم إلى قوله: أخیاف الهمم. تنزیه لهم عن امور من عوارض البشریّه: أحدها: سوء التقاطع و هو کتقاطع المتعادین و تباینهم الناشى عن الغضب و الشهوه. الثانی: غلّ الحسد، و قد علمت أنّ الحسد رذیله نفسانیّه تنبعث عن البخل و الشره و منبعهما النفس الأمّاره. الثالث: تشعّب مصارف الریب لهم و الریب الشکوک و الشبه و مصارفها هى الامور الباطله الّتى تنصرف أذهانهم إلیها عن الشبه أو تلک الشبهه و الشکوک أنفسها و تشعّبها لهم اقتسامها یحیث یذهب کلّ واحد من شبهه إلى باطل، و قد علمت أنّ منشأ الشکوک و الشبهات هو الوهم و الخیال، و لمّا کانوا مبرّئین عن النفوس الأمّاره وجب تنزیههم عن هذه الامور الثلاثه، الرابع: لمّا کان معبودهم واحدا و هو غایه مطلوبهم‏ کانت هممهم ز فیه واحده فلم یلتفتوا إلى شی‏ء آخر و لم یفترقوا فیها.

السابع و الثلاثون: فهم اسراء الایمان. إلى قوله: و لا فتور
استعار لفظ الأسر و رشّح بذکر الربقه و نزّههم عن أن یجذبهم عن الایمان أحد الامور الأربعه، و قد سبق وجه تنزیههم عنها.

الثامن و الثلاثون: و لیس فی أطباق السماوات إلى قوله: عظما
المراد أنّ السماوات مملوّه بالملائکه فبین ساجد لوجه ربّه و بین ساعى مجدّ فی أمره. و اعلم أنّ فی السماء ملائکه مباشره لتحریکها و ملائکه على رتبه من اولئک هم الآمرون لهم بالتحریک فیشبه أن یکون الإشاره بالساجدین منهم إلى الأمرین، و السجود کنایه عن کمال عبادتهم کنایه بالمستعار و یکون الإشاره بالساعین المسرعین إلى المتولّین للتحریک فأمّا زیادتهم بطول الطاعه علما بربّهم فلمّا ثبت أن حرکاتهم إنّما هو شوقیّه للتشبّه بملائکه أعلى رتبه منهم فی کمالهم بالمعارف الإلهیّه و ظهور ما فی ذواتهم بالقوّه إلى الفعل. و زیاده عزّه ربّهم عندهم عظما بحسب زیادتهم معرفتهم له تابعه لها کما نبّهنا علیه قبل. و باللّه التوفیق.

 


الفصل السادس و منها فى صفه الأرض و دحوها على الماء.

کَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَهٍ- وَ لُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَهٍ تَلْتَطِمُ أَوَاذِیُّ أَمْوَاجِهَا- وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا- وَ تَرْغُو زَبَداً کَالْفُحُولِ عِنْدَ هِیَاجِهَا- فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا- وَ سَکَنَ هَیْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِکَلْکَلِهَا- وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِیاً إِذْ تَمَعَّکَتْ عَلَیْهِ بِکَوَاهِلِهَا- فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ سَاجِیاً مَقْهُوراً- وَ فِی حَکَمَهِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِیراً- وَ سَکَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّهً فِی لُجَّهِ تَیَّارِهِ- وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَهِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ‏ وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ- وَ کَعَمَتْهُ عَلَى کِظَّهِ جَرْیَتِهِ فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ- وَ لَبَدَ بَعْدَ زَیَفَانِ وَثَبَاتِهِ- فَلَمَّا سَکَنَ هَیْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَکْنَافِهَا- وَ حَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَکْتَافِهَا- فَجَّرَ یَنَابِیعَ الْعُیُونِ مِنْ عَرَانِینِ أُنُوفِهَا- وَ فَرَّقَهَا فِی‏ سُهُوبِ بِیدِهَا وَ أَخَادِیدِهَا- وَ عَدَّلَ حَرَکَاتِهَا بِالرَّاسِیَاتِ مِنْ جَلَامِیدِهَا- وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِیبِ الشُّمِّ مِنْ صَیَاخِیدِهَا- فَسَکَنَتْ مِنَ الْمَیَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِی قِطَعِ أَدِیمِهَا- وَ تَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَهً فِی جَوْبَاتِ خَیَاشِیمِهَا- وَ رُکُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِینَ وَ جَرَاثِیمِهَا- وَ فَسَحَ بَیْنَ الْجَوِّ وَ بَیْنَهَا وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاکِنِهَا- وَ أَخْرَجَ إِلَیْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا- ثُمَّ لَمْ یَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ- الَّتِی تَقْصُرُ مِیَاهُ الْعُیُونِ عَنْ رَوَابِیهَا- وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِیعَهً إِلَى بُلُوغِهَا- حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَهَ سَحَابٍ تُحْیِی مَوَاتَهَا- وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا- أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ وَ تَبَایُنِ قَزَعِهِ- حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّهُ الْمُزْنِ فِیهِ وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِی کُفَفِهِ- وَ لَمْ یَنَمْ وَمِیضُهُ فِی کَنَهْوَرِ رَبَابِهِ وَ مُتَرَاکِمِ سَحَابِهِ- أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِکاً قَدْ أَسَفَّ هَیْدَبُهُ- تَمْرِیهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِیبِهِ وَ دُفَعَ شَآبِیبِهِ- . فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْکَ بِوَانَیْهَا- وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْ‏ءِ الْمَحْمُولِ عَلَیْهَا- أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ- وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ فَهِیَ تَبْهَجُ بِزِینَهِ رِیَاضِهَا- وَ تَزْدَهِی بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَیْطِ أَزَاهِیرِهَا- وَ حِلْیَهِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا- وَ جَعَلَ ذَلِکَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ- وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِی آفَاقِهَا- وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِکِینَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ- اخْتَارَ آدَمَ ع خِیرَهً مِنْ خَلْقِهِ- وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَ أَسْکَنَهُ جَنَّتَهُ- وَ أَرْغَدَ فِیهَا أُکُلَهُ- وَ أَوْعَزَ إِلَیْهِ فِیمَا نَهَاهُ عَنْهُ- وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِی الْإِقْدَامِ عَلَیْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِیَتِهِ- وَ الْمُخَاطَرَهَ بِمَنْزِلَتِهِ- فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ مُوَافَاهً لِسَابِقِ عِلْمِهِ- فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَهِ- لِیَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ- وَ لِیُقِیمَ الْحُجَّهَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لَمْ یُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ- مِمَّا یُؤَکِّدُ عَلَیْهِمْ حُجَّهَ رُبُوبِیَّتِهِ- وَ یَصِلُ بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَ مَعْرِفَتِهِ- بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ- عَلَى أَلْسُنِ الْخِیَرَهِ مِنْ أَنْبِیَائِهِ- وَ مُتَحَمِّلِی وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ- قَرْناً فَقَرْناً- حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِیِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ- وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَکَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا- وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّیقِ وَ السَّعَهِ- فَعَدَلَ فِیهَا لِیَبْتَلِیَ- مَنْ أَرَادَ بِمَیْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا- وَ لِیَخْتَبِرَ بِذَلِکَ الشُّکْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِیِّهَا وَ فَقِیرِهَا- ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِیلَ فَاقَتِهَا- وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا- وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا- وَ خَلَقَ الْآجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا- وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا- وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا- وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِینَ- وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِینَ وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ- وَ عُقَدِ عَزِیمَاتِ الْیَقِینِ- وَ مَسَارِقِ إِیمَاضِ الْجُفُونِ- وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَکْنَانُ الْقُلُوبِ- وَ غَیَابَاتُ الْغُیُوبِ- وَ مَا أَصْغَتْ لِاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ- وَ مَصَایِفُ الذَّرِّ وَ مَشَاتِی الْهَوَامِّ- وَ رَجْعِ الْحَنِینِ مِنَ الْمُولَهَاتِ وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ- وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَهِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَکْمَامِ- وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِیرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِیَتِهَا- وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَیْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِیَتِهَا- وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ- وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ- وَ نَاشِئَهِ الْغُیُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا- وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِی مُتَرَاکِمِهَا- وَ مَا تَسْفِی الْأَعَاصِیرُ بِذُیُولِهَا وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُیُولِهَا- وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِی کُثْبَانِ الرِّمَالِ- وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَهِ بِذُرَا شَنَاخِیبِ الْجِبَالِ- وَ تَغْرِیدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِی دَیَاجِیرِ الْأَوْکَارِ- وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ- وَ حَضَنَتْ عَلَیْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ- وَ مَا غَشِیَتْهُ سُدْفَهُ لَیْلٍ أَوْ ذَرَّ عَلَیْهِ شَارِقُ نَهَارٍ- وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَیْهِ أَطْبَاقُ الدَّیَاجِیرِ- وَ سُبُحَاتُ النُّورِ وَ أَثَرِ کُلِّ خَطْوَهٍ- وَ حِسِّ کُلِّ حَرَکَهٍ وَ رَجْعِ کُلِّ کَلِمَهٍ- وَ تَحْرِیکِ کُلِّ شَفَهٍ وَ مُسْتَقَرِّ کُلِّ نَسَمَهٍ- وَ مِثْقَالِ‏ کُلِّ ذَرَّهٍ وَ هَمَاهِمِ کُلِّ نَفْسٍ هَامَّهٍ- وَ مَا عَلَیْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَهٍ أَوْ سَاقِطِ وَرَقَهٍ- أَوْ قَرَارَهِ نُطْفَهٍ أَوْ نُقَاعَهِ دَمٍ وَ مُضْغَهٍ- أَوْ نَاشِئَهِ خَلْقٍ وَ سُلَالَهٍ- لَمْ یَلْحَقْهُ فِی ذَلِکَ کُلْفَهٌ- وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِی حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَهٌ- وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِی تَنْفِیذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِیرِ الْمَخْلُوقِینَ مَلَالَهٌ وَ لَا فَتْرَهٌ- بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ- وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ- مَعَ تَقْصِیرِهِمْ عَنْ کُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِیلِ- وَ التَّعْدَادِ الْکَثِیرِ- إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَیْرُ مَأْمُولٍ وَ إِنْ تُرْجَ فَخَیْرُ مَرْجُوٍّ- اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِی فِیمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَیْرَکَ- وَ لَا أُثْنِی بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاکَ- وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَیْبَهِ وَ مَوَاضِعِ الرِّیبَهِ- وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِی عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِیِّینَ- وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِینَ الْمَخْلُوقِینَ- اللَّهُمَّ وَ لِکُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَیْهِ مَثُوبَهٌ مِنْ جَزَاءٍ- أَوْ عَارِفَهٌ مِنْ عَطَاءٍ- وَ قَدْ رَجَوْتُکَ دَلِیلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَهِ- وَ کُنُوزِ الْمَغْفِرَهِ- اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَکَ بِالتَّوْحِیدِ الَّذِی هُوَ لَکَ- وَ لَمْ یَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَیْرَکَ- وَ بِی فَاقَهٌ إِلَیْکَ لَا یَجْبُرُ مَسْکَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُکَ- وَ لَا یَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّکَ وَ جُودُکَ- فَهَبْ لَنَا فِی هَذَا الْمَقَامِ رِضَاکَ- وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَیْدِی إِلَى سِوَاکَ- إِنَّکَ عَلى‏ کُلِّ شَیْ‏ءٍ قَدِیرٌ

اللغه  

أقول: کبسها: أغاصها فی الماء بقوّه. و المور: التردّد فی الحرکه. و مستفحله: صائله: و التلاطم: الترادّ. و الأواذىّ: جمع آذىّ و هو ما عظم من موج البحر. و الاصطفاق: الترادّ أیضا. و الأثباج: جمع ثبج و هو معظمها و عوالیها. و هیج الفرس: إذا غلب صاحبه و لم یملکه. و الارتماء: التقاذف و الترادّ. و الکلکل: الصدر. و المستخذى: الخاضع. و التمعّک: التمرّغ. و اصطخاب أمواجه: غلبتها و أصواتها. و الساجى: الساکن.
و الحکمه: ما أحاط من اللجام بحنک الدابّه و الدحو: البسط. و التّیار: الموج. و النخوه: الکبر و الترفّع. و البأو: الفخر. و شمخ بأنفه: تکبّر. و الغلواء: تجاوز الحدّ. و کعمته: سددت فاه. و الکظّه: شدّه البطنه. و همد: سکن و خمد. و النزق: الخفّه و الطیش. و لبد: لصق بالأرض ساکنا. و الزیفان: التبختر. و البذّخ: العالیه. و العرنین: أعلى الأنف عند ملتقى الحاجبین. و السهوب: جمع سهب و هو الفلاه الواسعه. و البید: جمع بیداء و هى الفلاه أیضا. و الاخدود: الشقّ فی الأرض. و الجلامید: الصخور.
و الشناخیب: رؤس الجبال و الشمّ: العالیه. و الصیخود: الصخره الصلبه. و أدیمها: سطحها. و تغلغله: دخوله فی أعماقها. و التسرّب: الدخول فی السرب. و الجوبه: الفرجه فی الأرض. و جراثیم الأرض: أعالیها و ما اجتمع منها. و أرض جرز: لا نبات بها لانقطاع الماء عنها. و الروابى: عوالى الأرض. و القزع: قطع السحاب الرقیقه الواحده قزعه.
و الکفّه بالضمّ: ما استطال من السحاب و ما استدار. و بالکسر: الومیض و اللمعان. و الکنهور: العظیم من السحاب. و الرباب: الغمام الأبیض. و السحّ: الصبّ. و أسفّ: دنا من الأرض لثقله. و هیدبه: ما تهدّب منه إلى الأرض أى تدلى. و تمریه: تستخرج ما فیه من الماء و الدرر جمع درّه بالکسر و هى کثره اللبن و سیلانه. و الأهاضیب: جمع هضاب و هو جمع هضب و هو جلبات القطر بعد القطر. و الشآبیب: جمع شؤبوب و هو الرشقه القویّه من المطر. و البرک: الصدر. و البوانى: ما یلی الصدر من الأضلاع. و بعاع السحاب ثقله بالمطر. و العب‏ء: الثقل. و جبله زعراء: لا نبت بها. و تزد هى: تتکبّر. و الریط: جمع ریطه و هى الأزاهیر المنیره. و سمطت: زینت بالسمط و هو العقد، و من روى شمطت بالشین لمعجمه أراد خلطت. و الجبلّه: الخلقه. و أوعز إلیه بکذا: تقدّم إلیه به. و العقابیل:بقایا المرض. و الترح: الحزن. و الفاقه: الفقر. و الخلج: الجذب و الانتزاع. و الأشطان: جمع شطن و هى الحبال. و المرائر: أیضا الحبال اللطیفه الفتل. و التخافت: المسارّه. و الرجم بالظنّ: القول عنه. و الغیابه: ظلمه قعر البئر. و مصائخ الأسماع: خروقها. و الإصاخه: التسمّع. و الولائج: المداخل. و الأکمام: جمع کمّ بالکسر و هو غلاف الطلع. و المنقمع: محلّ الانقماع و هو الارتداع. و لحاء الشجره: قشرها. و الأفنان: الأغصان. و الأمشاج: النطفه المختلطه بالدم، و تعفو: تمحو. و شناخیب الجبال: رؤوسها. و ذراها: أعالیها. و التغرید: تردید صوت الطائر. و الدیاجیر: جمع دیجور و هو الظلام و السدفه: الظلمه. و ذرّ الشارق: طلع. و رجع الکلمه: جوابها. و النقاعه: نقره یجتمع فیها الدم. و اعتورته: أحاطت به. و العارفه: المعروف. و الخلّه. الفقر.
و أنعشه: أنهضه من عثرته.


و اعلم أنّ هذا الفصل یشتمل على فصول:
الفصل الأوّل: فی تمجید اللّه تعالى باعتبار خلقه للأرض فی الماء و جمله من أحوالها و هو. إلى قوله: جواد طرقها، و فیه أبحاث:
البحث الأوّل: فی الاستعارات و التشبیهات و أبحاث لفظیّه.
الأوّل:
استعاره لفظ الکبس لخلقه لها غائصا معظمها فی الماء کما یغوص بعض الزقّ المنفوخ و نحوه بالاعتماد علیه.
الثانی:
استعاره لفظ الاستفحال للموج، و وجه المشابهه ما اشترک فیه الموج و الفحل من الاضطراب و الهیجان و الصوله.
الثالث:
تشبیهه بالفحول أیضا و وجه الشبه ما یظهر على رؤس الموج عند اضطرابه و غلیانه من رغوه الزبد کما یظهر من فم الفحل عند هیاجه.
الرابع:
استعار لفظ الجماح لحرکه الماء على غیر نسق و اضطراب لا یملک معه تصریفه کما یجمح الفرس.
الخامس:
استعار أوصاف الناقه من الکلکل و الکاهل للأرض و رشّح تلک الاستعاره بالوطى و التمعّک. و إنّما خصّ الصدر و الکاهل لقوّتهما و کنّى بالمجموع عن إلحاقها بالناقه.

السادس:
استعار للماء لفظ الاستخذاء و القهر و لفظ الحکمه و الانقیاد و الأسر و کنّى بها عن إلحاقه بحیوان صایل قهر کالفرس و أضاف الحکمه إلى الذلّ إضافه للسبب إلى المسبّب.
السابع:
استعار لفظ النخوه، و البأو، و شموخ الأنف، و الغلواء، و النزق، و الزیفان، و الوثبات للماء فی هیجانه و اضطرابه ملاحظه لشبهه بالإنسان المتجبّر التیّاه فی حرکاته المؤذنه بتکبّره و زهوه.
الثامن:
استعار لفظ الأکتاف للأرض، و وجه المشابهه کون الأرض محلّا لحمل ما یثقل من الجبال کما أنّ کتف الإنسان و غیره محلّ لحمل الأثقال.
التاسع:
استعار لفظ العرنین و الأنف لأعالى رؤس الجبال کنایه عن إلحاقها بالإنسان.
العاشر:
کنّى بالتغلغل و التسرّب عمّا یتوهّم من نفوذ الجبال فی الأرض و غوصها فیها، و استعار لفظ الخیاشیم لتلک الأسراب الموهومه. و لمّا جعل للجبال انوفا جعل تلک الأسراب المتوهّم قیام الجبال فیها خیاشیم.
الحادى عشر:
استعار لفظ الرکوب للجبال و الأعناق للأرض کنایه عن إلحاقهما بالقاهر و المقهور.
الثانی عشر:
استعار لفظ الوجدان و الذریعه للجداول کنایه عن إلحاقها بالإنسان عدیم الوسیله إلى مطلوبه.
الثالث عشر:
الضمیران فی تغلغلها و رکوبها و الضمیر فی خیاشیمها یعود إلى الأرض و باقى الضمائر ظاهر.
الرابع عشر:
تجوّز فی إسناد لفظ الإحیاء و الاستخراج إلى السحاب إذ المخرج هو اللّه تعالى.
الخامس عشر:
کنّى بعدم النوم عن عدم إخفاء و میض البرق فی السحاب کنایه بالمستعار.
السادس عشر:
استعار لفظ الهدب لقطرات المطر المتّصله یتلو بعضها بعضا ملاحظه لشبهها بالخیوط المتدلّیه [المستدلیه خ‏].

السابع عشر:
استعار لفظ الدرر و الأهاضیب و هى الجلباب للغمام کنایه عن إلحاقها بالناقه.
الثامن عشر:
أسند المرى إلى الجنوب مجازا أو لأنّ لها سببیّه ما فی نزول الغیث و إنّما خصّ الجنوب لأنّها فی أکثر البلاد حارّه رطبه أمّا الحراره فلأنّها تأتى من الجهه المتسخّنه بمقاربه الشمس، و أمّا الرطوبه فلأنّ البخار أکثرها جنوبیّه و الشمس تفعل فیها بقوّه و یتبخّر عنها أبخره تخالط الریاح و إذا کان کذلک کان الجنوب أولى بالذکر من وجهین: أحدهما: أنّها أکثر استصحابا للأبخره فلذلک کان السحاب أکثر انعقادا معها و مصاحبه لها الثانی: أنّها لحرارتها تفتح المسامّ، و لرطوبتها ترخى فکان درور المطر عنها أکثر.
التاسع عشر:
استعار لفظ البرک و البوانى للسحاب و أسند إلیه الإلقاء کنایه عن إلحاقه بالجمل الّذى أثقله الحمل فرمى بصدره إلى الأرض.
العشرون:
نسب الابتهاج و الازدهاء و اللبس إلى الأرض ذات الأزاهیر مجازا ملاحظه لشبهها بالمرأه المتبجّحه بما علیها من فاخر الملبوس و جمیل الثیاب.

البحث الثانی: أن مقتضى الکلام أنّ اللّه خلق الماء قبل الأرض ثمّ دحاها فیه و سکن بها مستفحل أمواجه
و هذا ممّا شهد به البرهان العقلىّ فإنّ الماء لمّا کان حاویا لأکثر الأرض کان سطحه الباطن المماسّ لسطحه الظاهر مکانا لها و ظاهر أنّ للمکان تقدّما باعتبار ما على المتمکّن فیه و إن کان اللفظ یعطى تقدّم خلق الماء على خلق الأرض تقدّما زمانیّا کما هو المقبول عند السامعین.

البحث الثالث: أنّه اشیر إلى کونها مدحوّه فی القرآن الکریم أیضا
وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِکَ دَحاها مع أنّ الأرض کره کما ثبت بیانه فی علم الهیئه. فلا بدّ من التأویل و قد نبّهنا إلیه فی قوله: اللهم داحى المدحوّات، و قد ورد فی الخبر: أنّ الأرض دحیت من تحت الکعبه. قال بعض العارفین: الإشاره بالکعبه إلى کعبه وجود واجب الوجود الّتى هى مقصد وجوه المخلصین الّتى جعلت هذه الکعبه فی عالم الشهاده مثالا لها و دحوها من تحتها عباره عن وجودها عن ذلک المبدأ.

البحث الرابع: الإشاره إلى خلق الجبال فیها و کونها سببا لسکونها
و للناس فی تکوین ما تکوّن من الجبال فیها وجوه: أحدها: أنّه قد یکون عن بخار زالت میاهها. الثانی: قد یکون عن زلزله فصلت قطعه على ناحیه فارتفعت. الثالث: قد تکون عن ریاح جمعت بهبوبها ترابا فتراکم و علا. الرابع: قد تکون لعمارات تراکمت فتخرّبت. فأمّا کونها أسبابا لسکون الأرض فقد سبقت الإشاره إلیه فی الخطبه الاولى، و اعلم أنّ البرهان مطابق على الشهاده بسکونها کما اشیر إلیه فی مظانّه.

البحث الخامس: فی تفجیر ینابیع العیون فی الجبال و غیرها
و قد أشار العلماء إلى أسبابه فقالوا: إنّ الأدخنه و الأبخره ما یحتبس منها تحت الأرض و فیه ثقب و فرج فیها هواء تبرّد الأبخره و الهواء فیصیر ماء فما له قوّه و مدد یتفجّر عیونا و یجرى على الولاء لعدم مدخل الهواء بین الخارج و ما یتّصل به و یتبعه، و ما لا مدد له من العیون یرکد، و ما له مدد إلّا أنّ أجزاءه مبدّده و الأرض واهیه لا تحتاج إلى مقاومه یتحصّل منه القنوات، و ماء البئر أیضا من قبیل ماله مدد لکنّه لم یجد سبیلا إلى أحد الجوانب لعدم رخاوه أرضه فخالف القنوات. و إنّما خصّ الجبال بتفجّر العیون منها لأنّ العیون أکثر ما یتفجّر من الجبال و الأماکن المرتفعه و ذلک لشدّه احتقان الأبخره تحتها بالنسبه إلى سایر الأماکن الهابطه الرخوه فإنّ الأرض إذا کانت رخوه نفضت البخار عنها فلا یکاد یجتمع منه قدر ما یعتدّ به و لأنّ هذا التخصیص أدّل على حکمه الصانع و عنایته بالخلق. و هو فی معرض تمجیده و تعدید آلائه.

البحث السادس: أنّه أعدّ الهواء لساکنها
و اعلم أنّه سبحانه کما جعل الهواء عنصرا لأبدان الحیوان و أرواحه البدنیّه کذلک جعله مددا یصل إلى الأرواح و یکون علّه لصلاحها و بقاءها بالتعدیل و ذلک التعدیل یکون بفعلین: أحدهما: التزویح، و الثانی: التفتیه. أمّا التزویح فهو تعدیل مزاج الروح الحارّ إذا أفرط بالاحتقان فی الأکثر فإنّ الهواء الّذى یحیط بنا أبرد بکثیر من ذلک المزاج فإذا وصل إلیه باستنشاق الریه و من مسامّ منافس النبض و صدمه و خالطه منعه عن الاستحاله إلى الناریّه الاحتقانیّه المؤدیّه إلى سوء مزاج یزول به عن الاستعداد لقبول التأثیر النفسانىّ الّذى‏ هو سبب الحیاه، و أمّا التنقیه فهى باستصحابه عند ردّ النّفس لما سلّمته إلیه القوّه الممیّزه من البخار الدخانىّ الّذى نسبته إلى الروح نسبه الخلط الفضلىّ إلى البدن فکما أنّ التعدیل هو بورود الهواء على الروح عند الاستنشاق فالتنقیه بصدوره عنه عند ردّ النفس و ذلک أنّ الهواء المستنشق إنّما یحتاج إلیه فی تعدیله أوّل وروده لکونه باردا بالفعل فإذا استحال إلى کیفیّه الروح بالتسخّن لطول مکثه بطلت فایدته فاستغنى عنه و احتیج إلى هواء جدید یدخل و یقوم مقامه فدعت الضروره إلى إخراجه لإخلاء المکان لمعاقبه و لیندفع معه فضول جوهر الروح. فهذا معنى قوله علیه السّلام: و أعدّ الهواء متنسّما لساکنها. و اعتبار إعداده لمنفعه الحیوان أعمّ ممّا ذکرنا فإنّه أیضا معدّ لسایر الأمزجه المعدنیّه و النباتیّه و الحیوانیّه الّتى یحتاج الإنسان فی بقائه إلیها و کونه عنصرا لها و معتبرا فی بقائها. و عند ملاحظه هذه المنافع عن الهواء یظهر أثر نعمه اللّه به.

البحث السابع: فی إخراجه تعالى أهل الأرض إلیها بعد تمام مرافقها
کما قال تعالى وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَیْنا فِیها رَواسِیَ وَ أَنْبَتْنا فِیها مِنْ کُلِّ شَیْ‏ءٍ مَوْزُونٍ وَ جَعَلْنا لَکُمْ فِیها مَعایِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِینَ«» و الإشاره بأهلها المخرجین إلیها إلى الحیوان مطلقا. و أعلم أنّ أوّل ارتفاقهم بها أن جعلها قرارا لهم صالحا للسکنى علیها کما قال تعالى الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِراشاً و لکونها فراشا شرایط: أحدها: أن تکون ساکنه لیصحّ الاستقرار علیها و التصرّف فیها بحسب الاختیار و موافقه المصلحه دون کونها متحرّکه. الثانی: أن تکون خارجه من الماء و ذلک أنّ الإنسان و غیره من الحیوان البریّه لا یمکنه أن یعیش فی الماء فاقتضت عنایه الحقّ سبحانه بالحیوان أن أبرز بعضها من الماء لیعیش فیه و یتصرّف علیه. الثالث: أن لا یکون فی غایه الصلابه کالحجر و إلّا لکان النوم و المشى علیها مولما، و أیضا لم یکن لینبت فیها أنواع النبات و الأشجار، و أیضا لکانت تسخن فی الصیف‏ کثیرا و تبرد کثیرا فی الشتاء فما کانت تصلح لسکنى الحیوان، و أیضا کان یتعذّر حفرها و ترکیب بعضها ببعض. الرابع: أن لا یکون فی غایه الرخاوه کالماء و غیره من المایعات الّتى یغوص فیه الإنسان. الخامس: أنّه سبحانه لم یخلقها فی غایه الشفّافیّه و اللطافه فإنّها إن کانت مع ذلک جسما سیّالا کالهواء لم یتمکّن من الاستقرار علیه و إن کان جسما ثابتا صیقلا برّاقا احترق الحیوان و ما علیها بسبب انعکاس أشعّه الشمس علیها کما یحترق القطن إذا قرب من المرایا المحاذیه للشمس و البلّور لکنّه خلقها غبراء لیستقرّ النور على وجهها فیحصل فیها نوع من السخونه، و خلقها کثیفه لئلّا تنعکس الأشعّه منها على ما فیها فتحرقه فصارت معتدله فی الحرّ و البرد تصلح أن تکون فراشا و مسکنا للحیوان.

المنفعه الثانیه: خلق الجبال فیها و تفجیرها بالماء کما سبقت الإشاره إلیه.
المنفعه الثالثه: ما یتولّد فیها من المعادن و النبات و الحیوان و فى أنواع کلّ من هذه الموجودات و اختلاف أصنافه و ألوانه و روایحه و طعومه ولینه و صلابته و ملاسته و خشونته ما لا یحصى من المنافع الّتى یحتاج إلیها الإنسان فی بقائه و صلاح حاله.
المنفعه الرابعه: کونها أصلا لبدن الإنسان، و ذلک أنّ الماء لرقّته و رطوبته لا یحفظ الشکل و التصویر فإذا خلط بالتراب حصل له قوام و استمساک و حصل قبول الأشکال و التخطیط کما قال تعالى إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَهِ إِنِّی. المنفعه الخامسه: قبولها للحیاه بعد الموت کما قال تعالى وَ آیَهٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَیْتَهُ أَحْیَیْناها.

البحث الثامن: فی تمجیده تعالى باعتبار إنشائه للسحاب و البرق
و النظر فی وجه الحکمه فیه و فی أصله و فی حیاه الأرض به: أمّا وجه الحکمه فی إنشائه فکونه مادّه لما ینبت فی الأرض الجرز ممّا هو قوام بدن الحیوان و غذاء له کما أشار إلیه علیه السّلام بقوله: ثمّ لم یدع جرز الأرض الّتى تقصر میاه العیون و الأنهار عنها و لا تجد جداول الأرض ذریعه إلى بلوغها إلى قوله: و جعل ذلک بلاغا للأنام و رزقا للأنعام. و نحوه قوله‏ تعالى أَ وَ لَمْ یَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْکُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا یُبْصِرُونَ«»

البحث التاسع: فی تمجیده باعتبار تخریقه للفجاج فی آفاقها
أى الطرق الواسعه فی نواحیها کما قال تعالى وَ جَعَلْنا فِیها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ یَهْتَدُونَ«» ثمّ باعتبار إقامته المنار للسالکین فیها. و الإشاره بالمنار إمّا إلى لنجوم کما قال تعالى وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ أو إلى الجبال.
الفصل الثانی: فی تمجیده تعالى باعتبار خلقه لآدم
و اختیاره له و إتمام نعمته علیه، و مقابلته بالعصیان و مقابله عصیانه بقبول توبته و إهباطه إلى الأرض و إکرام ذریّته بعده ببعثه الأنبیاء منهم و إلیهم و قسمته بینهم معیشتهم و آجالهم بالقلّه و الکثره و ابتلائه لهم بذلک، و هو من قوله: فلمّا مهّد أرضه و أنفذ أمره. إلى قوله: و قاطعا لمرائر أقرانها، و اعلم أنّ الکلام فی قصّه آدم علیه السّلام قد سبق فی الخطبه الاولى مستوفى فلا نعیده غیر أنّ فی هذا الکلام فوائد:
الفائده الاولى: معنى قوله: مهّد أرضه
أى جعلها مهادا کقوله تعالى أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أو جعلها مهدا کقوله تعالى جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ مَهْداً و على التقدیر الأوّل أراد أنّه لمّا خلقها بحیث یسهل على العباد أن یتصرّفوا فیها بالقعود و القیام و الزراعه و سایر جهات المنفعه و أنفذ أمره فی خلق آدم خلقه بعد ذلک، و على التقدیر الثانی یکون لفظ المهد استعاره لها ملاحظه لتشبیهها بمهد الصبىّ فی کونه محلّ الراحه و النوم.
الفائده الثانیه: قوله: و أنفذ أمره
أى فی إیجاد مخلوقاته و تمامها فحکم على العالم بالتمام باختیار نوع الإنسان الّذى هو تمام دائره الوجود فقال له کن فکان.
الفائده الثالثه: قوله: خیره من خلقه
نصب على الحال و یحتمل النصب على المصدر و الشاهد على کونه خیره اللّه من خلقه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ آدَمَ و قوله وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ کَثِیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِیلًا«» و بیان هذا التکریم من وجهین: أحدهما: قال أبو یزید البسطامىّ: إنّ أنواع کرامات اللّه تعالى فی حقّ البشر غیر متناهیه کما قال تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَهَ اللَّهِ لا تُحْصُوها هذا على سبیل الإجمال أمّا التفصیل فمن وجوه: الأوّل: أنّه سبحانه یمطر کلّ ساعه على المتوکّلین مطر الکفایه کما قال تعالى وَ مَنْ یَتَوَکَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. الثانی: أنّه یمطر کلّ ساعه على المطیعین مطر المودّه کما قال تعالى سَیَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا«». الثالث: أنّ یمطر على المجتهدین مطر الهدایه کما قال تعالى وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا«». الرابع: أنّه یمطر على الشاکرین مطر الزیاده کما قال لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ. الخامس: أنّه یمطر على المتذکّرین مطر البصیره کما قال تعالى إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّیْطانِ تَذَکَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ«» الثانی: أنّ التکریم لآدم علیه السّلام و ذریّته إمّا بأحوال داخله فی الإنسان أو خارجه عنه و الداخله فیها إمّا بدنیّه أو غیرها: أمّا البدنیّه الّتى اکرم بها فامور: الأوّل: الصوره الحسنه کما قال تعالى: وَ صَوَّرَکُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَکُمْ. الثانی: حسن القامه و التعدیل کما قال تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِی أَحْسَنِ تَقْوِیمٍ و ذلک أنّ الشی‏ء کلّما کان أکثر علوّا و ارتفاعا کان أشرف فی نوعه فإنّ أحسن الأشجار أعلاها امتدادا. الثالث: أنّه أکرمه بتمکینه من القیام و القعود و الاستلقاء و الانبطاح و الاضطجاع و ذلک أنّه تعالى رکّب الخلق على أصناف أربعه: أحدها: ما یشبه القائمین کالأشجار، و ثانیها: ما یشبه الراکعین کالبهائم، و ثالثها: ما یشبه الساجدین کالحشرات الّتى تدبّ على وجوهها و بطونها، و منها ما یشبه القاعدین کالجبال ثمّ إنّه سبحانه خلق الإنسان‏ قادرا على جمیع هذه الهیئات، و مکنّه من ذکره على جمیع هذه الأحوال کما قال تعالى الَّذِینَ یَذْکُرُونَ اللَّهَ قِیاماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِهِمْ«» و أمّا الأحوال الّتى اکرم بها غیر بدنیّه فامور: أحدها: الروح الّتى هى محلّ العلم بأشرف الموجودات و مبدئها و هو اللّه تعالى کما قال وَ نَفَخَ فِیهِ مِنْ رُوحِهِ و شرّفه بإضافه روحه إلیه، و بهذا التشریف تمیّز عن سایر الموجودات فی هذا العالم.

الثانی: العقل و شرفه من وجوه: الأوّل: روى أنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود علیه السّلام إذا رأیت عاقلا فکن له خادما. الثانی: قول الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم: أوّل ما خلق اللّه العقل فقال له: أقبل فأقبل ثمّ قال له: أدبر فأدبر فقال: و عزّتى و جلالى ما خلقت خلقا أکرم علىّ منک، بک آخذوا بک اعطى و بک اثیب و بک اعاقب. و اعلم أنّ للعقل بدایه و نهایه و کلاهما یسمّیان عقلا: أمّا الأوّل: فهو القوّه المهیّئه للعلوم الکلّیّه الضروریّه کما للطفل و هو المشار إلیه بقول النبىّ صلى اللّه علیه و آله و سلّم، و الثانی: العقل المستفاد و هو المشار الیه بقوله صلى اللّه علیه و آله و سلّم لعلىّ علیه السّلام: إذا تقرّب الناس إلى خالقهم بأبواب البرّ فتقرّب أنت إلیه بعقلک تسبقهم بالدرجات و الزلفى عند الناس فی الدنیا و عند اللّه فی الآخره. الثالث: العلم و الحکمه الّتى هى ثمره العقل کما قال تعالى یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قِیلَ لَکُمْ تَفَسَّحُوا فِی الْمَجالِسِ«» و قال یُؤْتِی الْحِکْمَهَ مَنْ یَشاءُ وَ مَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَهَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً وَ ما یَذَّکَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ«» و سمّاه حیاه و نورا فقال أَ وَ مَنْ کانَ مَیْتاً فَأَحْیَیْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً یَمْشِی بِهِ فِی النَّاسِ«» و أمّا التکرمه الخارجه عنه فامور: أحدها: أنّه خلق ما سواه منفعه له فقال: هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُمْ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً و قال: وَ سَخَّرَ لَکُمْ ما فِی السَّماواتِ وَ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً«» ففرش الأرض و جعل السماء سقفا محفوظا و جعل ما أخرج من الأرض رزقا له و ما أرسله من السحاب من ماء مادّه لذلک کما قال تعالى وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَکُمْ اللَّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ«» و أکرمه بخلق الشمس و القمر و النجوم کما قال وَ سَخَّرَ لَکُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَیْنِ وَ سَخَّرَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ و قوله وَ هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِی ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ و قال: وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِینَ وَ الْحِسابَ«» و أکرمه بخلق الأنعام فجعل منها غذاءه و ملبوسه و راحته و جماله و زینته فقال وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَکُمْ فِیها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْکُلُونَ وَ لَکُمْ فِیها جَمالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَ حِینَ تَسْرَحُونَ إلى قوله وَ الْخَیْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِیرَ لِتَرْکَبُوها وَ زِینَهً وَ یَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ«». الثانی: روى عن أمیر المؤمنین علیه السّلام فی تفسیر قوله تعالى وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ أنّه قال: بالدعوه إلى الجنّه کما قال وَ اللَّهُ یَدْعُوا إِلى‏ دارِ السَّلامِ.

لثالث: أنّه أکرمهم بتخیّر قلوبهم لمعرفته و ألسنتهم لشهادته و أبدانهم لخدمته فشرّفهم بتکلیفه و بعثه الأنبیاء إلیهم من أنفسهم کما قال تعالى لَقَدْ جاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ ما عَنِتُّمْ«» ثمّ جعل آدم و الأنبیاء من ذریّته أکرم عباده لدیه فحباهم بالنبوّه و الرساله کما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِینَ ذُرِّیَّهً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ«» ثمّ فضّل اولى العزم منهم فقال: فَاصْبِرْ کَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ثمّ فضّل بعضهم على بعض و هو الخلیل و الکلیم و الروح و الحبیب فقال تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَیْنا عِیسَى ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّناتِ وَ أَیَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ«» ثمّ فضّل محمّد صلى اللّه علیه و آله و سلّم على الکلّ فقال وَ کانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَیْکَ عَظِیماً«» و جعله غایه طینتهم و خاتمه کمالهم فقال وَ لکِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ«».

الفائده الرابعه: قوله: و جعله أوّل جبلّته
إشاره إلى أنّ آدم أوّل شخص تکوّن فی الوجود من نوع الإنسان، و قوله: و المخاطره بمنزلته: أى عند اللّه و کونه مستحقّا للقرب منه، و قوله: موافاه لسابق علمه إشاره إلى أنّ وقوعه فی الوجود بقدر عن ضابط القلم‏ و القضاء الإلهىّ السابق.

الفائده الخامسه: قوله: فأهبطه بعد التوبه
من قال: إنّ المراد بآدم هو نوع النفوس البشریّه و قد ثبت أنّه حادث أو أنّه هو الشخص الأوّل منها قال: إنّ التوبه قبل الإهباط هى التوبه بالقوّه المعلومه للّه من عصاه أولاد آدم التائبین إلیه قبل إهباط نفوسهم من درجات عرفانه، و إلفات وجوههم إلى عماره الأرض، و الاشتغال بالحرث و النسل، و الأنبیاء علیهم السّلام یرجعون عن المباحات إلى ما هو الأولى و الأهمّ من عباده اللّه و مطالعه أنوار کبریائه و یعدّون ما رجعوا عنه ذنوبا، و رجوعهم عنه توبه کما قال النبىّ صلى اللّه علیه و آله و سلّم: إنّه لیغان على قلبى فأستغفر اللّه فی الیوم سبعین مرّه، و لیس ذلک المستغفر منه إلّا اشتغال ذهنه بتدبیر امور الأرض و عمارتها و اشتغاله بذلک عن الخلوه باللّه و استشراق أنوار قدسه.

الفائده السادسه: قوله: و لیقیم الحجّه به على عباده
الّذین بعث آدم حجّه علیهم أمّا أولاده الموجودون فی زمانه و المنقول أنّه مات عن أربعین ولد، أو من بلغته سنّته منهم بعد وفاته و المنقول أنّ اللّه تعالى أنزل من الأحکام تحریم المیته و الدم و لحم الخنزیر و حروف المعجم فی أحدى و عشرین ورقه و هو أوّل کتاب کان فی الدنیا أجرى اللّه علیه الألسنه کلّها.

الفائده السابعه: قوله: و لم یخلهم بعد أن قبضه ممّا یؤکّد علیهم حجّه ربوبیّته
أى أنّ حجّه ربوبیّته قائمه علیهم فی کیفیّه تخلیقه لهم، و خلق ما یستدلّون علیه به من صنعه کما قال تعالى سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی الْآفاقِ وَ فِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ«» الآیه و غیره من الآیات. و إنّما یکون بعثه الأنبیاء مؤکّده لتلک الحجج مذکّره للغافلین عنها بها و منبّهه على وجودها و موصله بینهم و بین معرفته بما جاءت به من الکتب المنزله و السنن الشرعیّه، و قوله: بلغ المقطع عذره و نذره: أى إعذاره إلى الخلق و إنذاره لهم بلغ الغایه. و مقطع کلّ شی‏ء غایته.

الفائده الثامنه: تقدیر اللّه أرزاقهم تقسیمه لها
و إعطاء کلّ مخلوق ما کتب له فی اللوح المحفوظ منها من قلیل و کثیر و ضیّق و واسع و متیسّر و متعسّر و معاقبه الأضداد علیهم من تنغیض سعه الغنى بلواحق الفقر و الفاقه کما قال: و بینما الإنسان فی ملکه أصبح محتاجا إلى الفلس. و کذلک إلحاقه السلامه فی النعم بطوارق الآفات من غرق أو حرق أو غصب ظالم و غلب غاشم و کذلک وسعه الأرزاق و فرج أفراحها و تکدیرها بغصص أحزانها و أتراحها ثمّ خلقه الآجال متفاوته بالطول و القصر و التقدّم و التأخّر.

الفائده التاسعه: تقدیره للموت متّصلا بأسبابها
و لمّا کان الأجل عباره عن وقت ضروره الموت و کانت أسباب حلول تلک الآفات هى بعض الأمراض أو القتل مثلا لا جرم صدق أنّ الموت الّذى هو عباره عن مفارقه الأرواح لأجسادها متّصلا بتلک الأسباب، و استعار لفظ الخلج و هو الجذب للموت، و رشّح بذکر الأشطان، و وجه المشابهه ما یستلزمه الموت من قرب الأجل کما یستلزمه الجاذب من قرب المجذوب إلیه فقدّر الموت جاذبا للأجل بالحبال کما یجذب بها الإنسان ما یرید، و أمّا کونه قاطعا لمرائر أقرانها فاستعار أیضا لفظ المرائر لأسباب العلاقه بین اقتران الآجال و هم المتقاربون فی الزمان الواحد الّذى یتّصل بهم الأجل و تلک الأسباب کالصداقه و الاخوّه و سایر أسباب العلاقه بین الناس، و ظاهر کون الموت قاطعا لتلک المرائر.

الفائده العاشره: أنّه علیه السّلام جعل قسمه اللّه تعالى للأرزاق و تقدیرها بالکثره و القلّه و الضیق و السعه صوره ابتلاء من اللّه  للشکر من الأغنیاء و الصبر من الفقراء و قد أشرنا فی قوله: ألا إنّ الدنیا دار لا یسلم منها إلّا فیها. إلى أنّ المراد بالإبتلاء من اللّه معاملته تعالى لعباده معامله المبتلین المختبرین لأنّه سبحانه عالم الخفیّات و السرائر فلا یتصوّر فی حقّه الاختبار حقیقه، إلّا أنا نزیده هاهنا بیانا فنقول: إنّ العبد إذا تمکّن فی خاطره أنّ ما یفعله اللّه من إفاضه نعمه علیه أو حرمانه لها ابتلاء لشکره أو صبره فشکر أو صبر حصل من شکره أو صبره على ابتلائه ملکات فاضله فی نفسه یستعدّ بها لمزید الکمال و تمام النعمه کما قال تعالى لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ و قال وَ لَنَبْلُوَنَّکُمْ بِشَیْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِینَ الَّذِینَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِیبَهٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ«» و أمّا التحقیق فی أمثال هذه القسمه من ضیق‏ رزق أوسعه أو طول أجل أو قصره أو معاقبته شدّه لرخاء و حزنا لفرح فهو أنّ لکلّ واحد من هذه الامور أسباب قد تخفى على من تعرّض له و لا بدّ من انتهائها إلى قضاء اللّه فما عدّ منها خیرا فهو داخل فی الإراده الکلّیّه للخیر المطلق بالذات و ما عدّ منها شرّا فداخل فی القصاء الإلهىّ بالعرض کما علم ذلک فی مظانّه، و باللّه التوفیق.

الفصل الثالث: فی تمجیده سبحانه باعتبار کونه عالما بالأشیاء
و عدّ من جزئیّاتها جمله هى من قوله: عالم السرّ من ضمایر المضمرین إلى قوله: أو ناشئه خلق و سلاله. و لنشر إلى ما عساه یشکل من ألفاظه: الأوّل: خواطر رجم الظنون. لمّا کان الخاطر الظنىّ للإنسان یتعلّق بمظنون لا محاله بعد أن لم یکن أشبه تعلّقه به الرجم و هو الرمى بالحجر و نحوه فاستعیر لفظه له و إنّما خصّ الظنّ بذلک دون العلم لما أنّ کثیرا ما یظنّ ما لا یجوز ظنّا غیر مطابق کما یظنّ ببعض الناس ما یقبح منه و یصل إلیه بسببه أذى و إن لم یکن صدقا فکان أشبه الأشیاء برمیه بالحجر المستلزم لأذاه. الثانی: عقد عزیمات الیقین ما انعقد فی النفس من العزم عن یقین. الثالث: و مسارق إیماض الجفون: لمّا أشبه شعاع البصر البرق فی ومیضه و اختفائه عند فتح الجفون و طبقها استعار لفظ الومیض لبروزه و لفظ المسارق لمخارجه. الرابع: استعار لفظ الأکنان للقلوب بالنسبه إلى ما أخفته من الأسرار، و لفظ الغیابات للغیوب، و وجه المشابهه کون القلوب حافظه کالبیوت، و کون الظلمات مانعه من إدراک المبصرات کما تمنع الغیوب إدراک ما فیها. الخامس: مصائف الذرّ و مشاتى الهوامّ: بیوتها و إشرابها الصیفیّه و الشتویّه من بطن الأرض الواقیه لها حرّ الصیف و برد الشتاء. و رجع الحنین من المولهه: تردید صوت الثکلى فی بکائها و حنینها إلى من فقدته. السادس: و لائج غلف الأکمام. إنّما حسنت الإضافه هنا لأنّ کلّ کمّ غلاف و لا ینعکس فجاز تخصیص العامّ بالإضافه إلى بعض جزئیّاته. السابع: محطّ الأمشاج: محلّ نزول النطف من الأصلاب، و مساربها، و هى الأوعیه الّتى یتسرّب فیها المنى و الأخلاط الّتى تتولّد عنها. الثامن: و ما تسقى الأعاصیر بذیولها: أى ما تثیره و تذروه من التراب، و استعار لفظ الذیول لما اخذ الأرض منها. التاسع: استعار لفظ العوم لدخول عروق النبات فی نواحى الأرض لملاحظه شبهها بالماء، و روى: بنات الأرض بتقدیم الباء. و هى الهوامّ الّتى تنشأ فی الرمل و تغوص فیه و تسیر کالحلکه، و هى دویبه کالعظاءه دون الشبر صفراء ملساء تستعملها العرب للسمنه و کنوع من الحیّات و غیرها. العاشر: و تغرید ذوات المنطق استعار لفظ المنطق للطیر، و وجه المشابهه أنّ مدلول تغریدها معلوم للّه فأشبه النطق المفید من الإنسان. الحادى عشر: ما أوعبته الأصداف کاللؤلؤ و المرجان و ما حضنت علیه أمواج البحار من لؤلؤ و حیوان و غیرهما، و لفظ الحضن مستعار للأمواج ملاحظه لشبهها بالحواضن فی انطباقها على البیض و الفراخ. الثانی عشر: سبحات النور ما تنزّه منه عن کدر الظلمه، و لفظ النور مستعار لمعارف جلال اللّه، و الضمیر فی قوله: علیها. یرجع إلى الأرض، و قراره النطفه: مستقرّها من الأرحام، و لفظ النقاعه استعاره لمحلّ دم الحیض، و المضغه الولد فی بعض أطوار خلقته کما عرّفناه قبل، و ناشئه الخلق: ما نشأ من مخلوقاته. الثالث عشر: لم یلحقه فی ذلک کلفه. إلى قوله: و لا فتره. الکلفه: کون الفعل مستلزما لفاعله نوع مشقّه و تلک المشقّه إمّا لضعف قوّه الفاعل أو ضعف آلته أو قصور علمه عن تصوّر ما یفعل، و البارى تعالى منزّه عن هذه الامور لاستلزمها الحاجه، و کذلک العارضه من عوارض موانع العلوم و نفوذها یستلزم وجود المقام و المثل و قد تنزّه قدس الحقّ عنهما و أمّا الملاله فالمفهوم انصراف النفس عن الفعل بسبب تحلّل الأرواح الدماغیّه و ضعفها عن العمل أو لعارض آخر لها، و قد علمت أنّها من لواحق الأجسام و کذلک الفتره. و البارى منزّه عنهما. الرابع عشر: قوله: بل نفذ فیهم علمه. إلى قوله: و غمرهم فصله. أثبت کلّ واحده من‏ هذه القراین الأربع مقابله للأربع الّتى نفاها: فنفاذ علمه فیهم مقابل لما نفاه من لحوق الکلفه فی علمه بهم، و إحصاؤهم بعده مقابل للأعراض العارضه فی حفظ خلقه، و وسع عدله لهم مقابل لنفى اعتوار الملاله فی تنفیذ اموره و تدبیر مخلوقاته إذ کان معنى عدله فیهم وضعه لکلّ موجود فی مرتبته و هبته له ما یستحقّه من زیاده و نقصان مضبوطا بنظام الحکمه و اعتراض الملاله سبب لاختلاف نظام الفعل، و قوله: و غمرهم فضله مقابل لنفى الفتره فإنّ فتور الفاعل عن الفعل مانع له عن تتمّه فعله و تمام وجوده، و قوله: مع تقصیرهم عن کنه ما هو أهله تنبیه على حقاره عبادتهم فی جنب عظمته و استحقاقه لما هو أهله لیدوم شکرهم و ثنائهم و لا یستکبروا شیئا من طاعتهم، و باللّه التوفیق.


الفصل الرابع: فی تمجیده خطابا له و دعاء و طلبا لجزاء ما سبق من ثنائه
و تعدید أوصافه الجمیله و هو رضاه عنه و إغناؤه من غیره.
و فیه إشارات:
الاولى: قوله: أنت أهل الوصف الجمیل و التعداد الکثیر
إشاره إلى أنّه تعالى بحسب استحقاقه الوصف بأشرف طرفی النقیض کان أهل الوصف الجمیل و باعتبار تعدّد ثنائه و حمده بالنظر إلى کلّ جزئىّ من جزئیّات نعمه هو أهل التعداد الکثیر.

الثانیه: و قد بسطت لى فیما لا أمدح به غیرک و لا أثنى به على أحد سواک
إشاره إلى إذنه له فی شکره و الثناء علیه بالأوصاف الجمیله الّتى لا یستحقّها حقیقه إلّا هو و لا ینبغی أن تطلق إلّا له. و معنى هذه الإذن إمّا إلهام حسن شکر المنعم و مدحه و إذ لا منعم فی الحقیقه إلّا هو فلا یستحقّ التمجید المطلق إلّا هو. و مخاطبته له بایجاب الشکر کقوله تعالى وَ اشْکُرُوا لِلَّهِ إِنْ کُنْتُمْ إِیَّاهُ تَعْبُدُونَ و بالتسبیح فی قوله تعالى وَ مِنْ آناءِ اللَّیْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّکَ تَرْضى‏ و قوله: وَ سَبِّحُوهُ بُکْرَهً وَ أَصِیلًا و استعار لفظ المعادن للخلق، و وجه المشابهه أنّ معدن الشی‏ء کما أنّه مظنّه المطلوب منها کذلک الخلق أرباب النعم الفانیه مظانّ خیبه طالبها من أیدیهم و حرمانها، و کذلک مواضع الریبه أى الشکّ فی منعهم و عطائهم لها و لذلک فسّره بقوله: و عدلت بلسانى من مدایح الآدمیّین و الثناء على المربوبین المخلوقین.

الثالثه: قوله: دلیلا  نصب على الحال أو المفعول، و المراد برجائه دلیلا على ذخایر الرحمه رجاؤه أن یسوقه بهدایته إلى وجوه الاستعدادات إلى رحمته و یستر علیه بتهیّئه للالتفات إلیه عن کلّ خاطر سواه فإنّ کلّ خاطر سوى الحقّ سبحانه ذنب فی حقّ مثله علیه السّلام، و لفظ الذخیره و الکنوز مستعاران لجوده.

الرابعه: قوله: هذا مقام من أفردک بالتوحید
إشاره إلى مقامه بین یدیه بهذا الذکر و التوحید فی خطبته، و هو توطئه لذکر مطلوبه و استنزال رحمه اللّه ثمّ قال: و لى فاقه إلیک فذکر وجه استحقاقه لجوده أوّلا و قصر سدّ تلک الفاقه على فضله إذ لم تکن فاقه فى أمر دنیوىّ یمکن المخلوقین الإتیان به ثمّ أردفه بذکر مطلوبه و هو رضا اللّه و إغناؤه عمّن سواه و ظاهر أنّ حصولها مستلزم لما رجاه اللّه دلیلا علیه من ذخایر رحمته و کنوز مغفرته. و باللّه العصمه و التوفیق.


شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۳۲۳

بازدیدها: ۵۸

خطبه ۸۷ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَیْرِ رُؤْیَهٍ وَ الْخَالِقِ مِنْ غَیْرِ رَوِیَّهٍ- الَّذِی لَمْ یَزَلْ قَائِماً دَائِماً إِذْ لَا سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ- وَ لَا حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ وَ لَا لَیْلٌ دَاجٍ وَ لَا بَحْرٌ سَاجٍ- وَ لَا جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ وَ لَا فَجٌّ ذُو اعْوِجَاجٍ- وَ لَا أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ وَ لَا خَلْقٌ ذُو اعْتِمَادٍ- ذَلِکَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ وَ وَارِثُهُ وَ إِلَهُ الْخَلْقِ وَ رَازِقُهُ- وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ دَائِبَانِ فِی مَرْضَاتِهِ- یُبْلِیَانِ کُلَّ جَدِیدٍ وَ یُقَرِّبَانِ کُلَّ بَعِیدٍ قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ وَ أَحْصَى آثَارَهُمْ وَ أَعْمَالَهُمْ- وَ عَدَدَ أَنْفُسِهِمْ وَ خَائِنَهَ أَعْیُنِهِمْ- وَ مَا تُخْفِی صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِیرِ- وَ مُسْتَقَرَّهُمْ وَ مُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ‏ الْأَرْحَامِ وَ الظُّهُورِ- إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَایَاتُ هُوَ الَّذِی اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِی سَعَهِ رَحْمَتِهِ- وَ اتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لِأَوْلِیَائِهِ فِی شِدَّهِ نِقْمَتِهِ- قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ وَ مُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ وَ مُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ- وَ غَالِبُ مَنْ عَادَاهُ مَنْ تَوَکَّلَ عَلَیْهِ کَفَاهُ وَ مَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ- وَ مَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ وَ مَنْ شَکَرَهُ جَزَاهُ- عِبَادَ اللَّهِ زِنُوا أَنْفُسَکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا- وَ حَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا- وَ تَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِیقِ الْخِنَاقِ وَ انْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّیَاقِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ یُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ- حَتَّى یَکُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَ زَاجِرٌ- لَمْ یَکُنْ لَهُ مِنْ غَیْرِهَا لَا زَاجِرٌ وَ لَا وَاعِظٌ

اللغه
أقول: الأرتاج: الأغلاق. و الساجى: الساکن. و الفجاج: الاتّساع. و الفجّ: الواسع. و دائبان: مجدّان فی سیرهما. و عازّه: غالبه. و المناواه: المعاداه.

المعنى
و قد صدر هذا الفصل باعتبارات إضافیّه للحقّ سبحانه فی معرض تمجیده:
فالأوّل: کونه تعالى معروفا من غیر رؤیه
و قد سبق معنى معرفته تعالى و مراتبها و بیان کونه منزّها عن الرؤیه بحاسّه البصر.
الثانی: کونه تعالى خالقا من غیر رویّه
و قد سبق أیضا بیانه فی قوله فی الخطبه الاولى: بلا رویّه أجالها.
الثالث: کونه لم یزل دائما
و ذلک لکون وجوب وجوده مستلزما لاستحاله عدمه أزلا و أبدا.
الرابع: کونه قائما.
یجوز أن یرید به معنى الدائم الباقى، و یجوز أن یرید به القائم بامور العالم، و للمفسّرین فیه على هذا الوجه أقوال: الأوّل: عن ابن عبّاس- رضى اللّه عنه- کونه عالما بالخلق أینما کانوا و ضابطا لأحوالهم.

الثانی: قیامه توکیله الحفظه علیهم و هو المشار إلیه بقوله تعالى أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ کُلِّ نَفْسٍ بِما کَسَبَتْ.

الثالث: القائم على الشی‏ء هو الحافظ له و المدبّر لأمره.

الرابع: هو المجازى بالأعمال.

الخامس: هوالقاهرلعباده المقتدر علیهم

و قوله: إذ لا سماء. إلى قوله: ذو اعتماد إشاره إلى جهه اعتبار أزلیّه قیامه بذاته و سبقه لکلّ ممکن و دوامه تقریرا لقول الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم: کان اللّه و لا شی‏ء. فأمّا الحجب ذات الأرتاج فیحتمل أن یرید بها السماوات على ظاهر الشریعه و أنّه تعالى فی السماء فأشبهت الحجب له فأطاق له لفظها علیها، و کونها ذات أرتاج کنایه عن عدم التمکّن من فتحها و الدخول فیها کنایه بالمستعار، و قال بعض الفضلاء: أراد بها الهیئات البدنیّه و محبّه الدنیا و الظلمات الحاصله للنفس الحاجبه لها عن مشاهده أنوار جلال اللّه حتّى کأنّها أقفال علیها کما قال تعالى أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها و قوله: و لا خلق ذو اعتماد: أى ذو قوّه و بطش.

السادس: کونه مبتدع الخلق
أی مخترعه على غیر مثال سبق.

السابع: کونه وارثه:
أى کما أنّه مبدأه فهو مآله و مرجعه، و ذلک إشاره إلى کونه دائما قائما لم یزل و لا یزال.

الثامن: کونه إله الخلق
و هو اعتبار یلحقه بالقیاس إلى ایجاده لهم و استعباده إیّاهم.

التاسع: کونه رازقهم
و هو اعتبار له بالقیاس إلى إفاضه سایر نعمه علیهم.
أحدها: کون الشمس و القمر دائبین فی مرضاته: أی على وفق إرادته للخیر المطلق و النظام الکلّى، و ذکرهما فی معرض تمجیده لکونهما من أعظم آیات ملکه، و قوله: یبلیان کلّ جدید. نسب الإبلاء إلیهما لکون حرکاتهما من الأسباب لحدوث الحوادث فی هذا العالم و تغیّراته، و کذلک قوله: و یقرّبان کلّ بعید، و فیه جذب إلى ذکر المعاد و العمل له فکونهما یبلیان کلّ جدید منبّه على عدم الثقه و الاعتماد على ما یروق و یعجب من حسن الأبدان وجدتها، و کذلک ما یحدث و یتجدّد من قینات الدنیا و لذّاتها لوجوب دخولها فیما یبلى و کونهما یقرّبان البعید تنبیه مع ذلک على الحذر ممّا یستبعده أهل الغفله من الموت و الفناء فی صحّه أبدانهم و سلامتهم فی حیاتهم الدنیا.

العاشر: کونه تعالى قسم أرزاقهم
کقوله نَحْنُ قَسَمْنا بَیْنَهُمْ مَعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیاهِ الدُّنْیا«» أی وهب لکلّ من الخلق ما کتب له فی اللوح المحفوظ.

الحادی عشر: کونه أحصى آثارهم.
إلى قوله: من الأرحام و الظهور: أى أحصى کلّ ذلک منهم بقلم القضاء الإلهى فی الألواح المحفوظه و إلیه الإشاره بقوله تعالى وَ اللَّهُ یَعْلَمُ أَعْمالَکُمْ و قوله وَ ما مِنْ غائِبَهٍ فِی السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِی کِتابٍ مُبِینٍ«» و قوله یَعْلَمُ خائِنَهَ الْأَعْیُنِ وَ ما تُخْفِی الصُّدُورُ«» و قوله وَ ما مِنْ دَابَّهٍ فِی الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ یَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها کُلٌّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ«» و قوله: إلى أن تتناهى بهم الغایات: أى یعلم کلّ أحوالهم من حین ابتدائهم إلى أن یقف کلّ عند غایته المکتوبه له من خیر أو شرّ.

الثانی عشر: هو الّذی اشتدّت نقمته على أعدائه فی سعه رحمته و اتّسعت رحمته لأولیائه فی شدّه نقمته
و أشار بذلک إلى کمال ذاته بالنسبه إلى ملوک الدنیا مثلا فإنّ أحدهم فی حاله غضبه على عدوّه لا یتّسع لرحمته و لا رحمه غیره، و کذلک فی حال رحمته لأولیائه لا یجتمع معها غضبه علیهم، و لمّا ثبت أنّه تعالى هو الغنیّ المطلق المنزّه عن صفات المخلوقین و أنّه المعطى لکلّ قابل ما یستحقّه من غیر توقّف فی وجوده على أمر من ذاته و کان أعداء اللّه مستعدّون ببعدهم عنه لقبول سخطه و شدّه نقمته فی الآخره لا جرم أولاهم ذلک و إن کانوا فی الدنیا فی سعه رحمته و شمول نعمته، و کذلک أولیاؤه لمّا استعدّوا لقبول رحمته و شمول نعمته أفاضها علیهم فهم فی حضره قدسه على غایه من البهجه و السعاده و ضروب الکرامه و إن کانوا بأجسادهم فی ضروب من العذاب و شقاوه الفقر و الضنک فی الدنیا، و ذلک لا یملکه إلّا حلیم لا یشغله غضب عن رحمته، عدل حکیم لا تمنعه رحمته عن إنزال عقوبته سبحانه لیس إلّا هو.

الثالث عشر: قاهر من عازّه.
إنّه تعالى قاهر باعتبار أنّه قاصم ظهور الجبابره من أعدائه فیقهرهم بالموت و الإذلال کفرعون إذ قال: فَقالَ أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلى‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَکالَ الْآخِرَهِ وَ. و هو الّذی یلحق هذا الاعتبار مطلقا إذ کلّ موجود فهو مسخّر تحت قدرته و قهره عاجز فی قبضته.

الرابع عشر: و مدمّر من شاقّه.
الخامس عشر: و مذّل من ناوأه.
السادس عشر: و غالب من عاداه.
فمشاقّه اللّه اتّباع غیر سبیله من بعده ما یتبیّن للمنحرف الهدى، و مناوأته الإعراض عن أوامره و اتّباع الشهوات و إذلاله تعالى حینئذ هو إفاضته لصوره الحاجه إلى غیره.
السابع عشر: کافى من توکّل علیه.
الثامن عشر: و معطى من سأله.
التاسع عشر: و قاضى من أقرضه.

العشرون:
و مجازی من شکره. و هذه الاعتبارات تعود إلى حرف واحد و هو أنّ العبد إذا استعدّ بحسن التوکّل و السؤال و الصدقه و الشکر لنعم اللّه وجب فی جود اللّه و حکمته إفاضه کفایته فیما توکّل علیه فیه فکفایته من الکمالات إفاضه تمامها علیه، و من رفع النقصانات دفعها عنه ثمّ إعطاؤه ما سأل إذا استعدّ لقبوله ثمّ أداؤه عن قرضه أضعافه ثمّ جزاؤه على شکر زیاده إنعامه، و أطلق لفظ القرض لما یعطى الفقیر مجازا کما قال تعالى مَنْ ذَا الَّذِی یُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً«» أى بریئا من جهات الریاء و السمعه خالصا لوجه اللّه فیضاعفه له أضعافا کثیره، و وجه المناسبه کون الفقراء أهل اللّه و عیاله فکان المعطى هو اللّه تعالى.

و قوله: عباد اللّه. إلى آخره.
شروع فی الشصور و الموعظه فقوله: زنوا أنفسکم من قبل أن توزنوا. زنه النفوس فی الدنیا اعتبار أعمالها و ضبطها بمیزان العدل: أى مراعاه استقامتها على حاقّ الوسط من طرفى‏ الإفراط و التفریط اللذین هما ککفّتى المیزان مهما رجحت إحداهما فالنقصان لازم و الخسران قایم، و أمّا المیزان الاخروى فأمّا على رأى المتکلّمین و ظاهر الشریعه فظاهر و أمّا على رأى محقّقى السالکین من الصوفیّه فما أشار إلیه الإمام الغزّالیّ- رضى اللّه عنه- کاف فی بیانه قال: إنّ تعلّق النفس بالجسد کالحجاب لها عن حقایق الامور و بالموت ینکشف الغطاء کما قال تعالى فَکَشَفْنا عَنْکَ غِطاءَکَ فَبَصَرُکَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ«» و ممّا ینکشف له تأثیر أعماله فیما یقرّبه إلى اللّه تعالى و یبعّده عنه، و مقادیر تلک الآثار و أنّ بعضها أشدّ تأثیرا من بعض، و فی قدره اللّه تعالى أن یجرى شیئا یعرف الخلق به فی لحظه واحده مقادیر الأعمال بالإضافه إلى تأثیراتها فی التقریب و الإبعاد فحدّ المیزان ما به یتمیّز الزیاده و النقصان و إن اختلف مثاله فی العالم المحسوس فمنه المیزان المعروف و منه القبّان و الاصطرلاب لحرکات الفلک، و المسطره لمقادیر الخطوط، و العروض لمقادیر حرکات الأصوات فهذه کلّها أمثله للمیزان الحقیقىّ، و هو ما یعرف به الزیاده و النقصان و هو موجود فیها بأسرها، و صورته تکون للحسّ عند التشکیک و للخیال بالتمثیل.

و قوله: و حاسبوه قبل أن تحاسبوا.
 محاسبه النفس ضبط الإنسان على نفسه أعمالها الخیریّه و الشریّه لیزکّیها بما ینبغی لها و یعاقبها على فعل ما لا ینبغی، و هى باب عظیم من أبواب المرابطه فی سبیل اللّه فإنّ للعارفین فی سلوک سبیل اللّه و مرابطتهم مع أنفسهم مقامات خمسه:
الاولى: المشارطه ثمّ المراقبه ثمّ المحاسبه ثمّ المعاتبه ثمّ المجاهده و المعاقبه.
و ضربوا لذلک مثالا فقالوا: ینبغی أن یکون حال الإنسان مع نفسه کحاله مع شریکه إذا سلّم إلیه ما لا لیتّجر به فالعقل هو التاجر فی طریق الآخره، و مطلبه و ربحه تزکیه النفس إذ بذلک فلاحها کما قال تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَکَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها«» و إنّما علاجها بالأعمال الصالحه فالعقل یستعین بالنفس فی هذه التجاره إذا یستسخرها فیما یزکّیها کما یستعین التاجر بشریکه، و کما أنّ الشریک یصیر خصما منازعا یجاذبه فی الربح فیحتاج أن یشارطه أوّلا، و یراقبه ثانیا، و یحاسبه ثالثا، و یعاتبه أو یعاقبه‏ رابعا فکذلک العقل یحتاج إلى مشارطه النفس أوّلا فیوظّف علیها الوظایف، و یأمرها بسلوک طریق الحقّ، و یرشدها إلیها، و یحرّم علیها سلوک غیرها کما یشترط التاجر على شریکه.

الثانیه: أن لا یغفل عن مراقبتها لحظه فلحظه
عند خوضها فی الأعمال و یلاحظها بالعین الکالئه و إلى مقام المراقبه الإشاره بقوله تعالى وَ الَّذِینَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ وَ الَّذِینَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ«» و قوله صلى اللّه علیه و آله و سلّم: اعبد اللّه کأنّک تراه، و قد سبق بیان حقیقه المراقبه، و لا بدّ منها فإنّ الإنسان لو غفل عن نفسه و أهملها لم یر منها إلّا الخیانه و تضییع رأس المال کالعبد الخائن إذا انفرد بمال سیّده.

الثالثه: ثمّ بعد الفراغ من العمل ینبغی أن یحاسبها و یطالبها بالوفاء بما شرط
فإنّ هذه تجاره ربحها الفردوس الأعلى فتدقیق الحساب فی هذا أهمّ من التدقیق فی أرباح الدنیا لحقارتها بالنسبه إلى نعیم الآخره فلا ینبغی أن یهمل من مناقشتها فی ذرّه من حرکاتها و سکناتها و خطراتها و لحظاتها فإنّ کلّ نفس من أنفاس العمر جوهره نفیسه لا عوض لها یمکن أن یشترى بما کنزه من کنوز الآخره لا یتناهى. قالوا: و ینبغی للإنسان أن یخلو عقیب فریضه کلّ صبح مع نفسه بالوصیّه و یقول: أى نفس لیس لى بضاعه إلّا العمر و مهما فنى فقد فنى رأس مالى، و وقع الیأس من التجاره و طلب الربح، و هذا یوم جدید قد أمهلنى اللّه فیه و هو صاحب البضاعه و ربّها و لو توفّانى لقلت: ربّ ارجعون لعلّى أعمل صالحا فیما ترکت: فاحسبى إنّک رددت فإیّاک و تضییع هذا الیوم و الغفله فیه. و اعلمى أنّ الیوم و اللیله أربع و عشرون ساعه، و قد ورد فی الخبر أنّه یفتح للعبد فی کلّ یوم و لیله أربع و عشرون خزانه مصفوفه فیفتح لها فیها خزانه فیراها مملوّه نورا من حسناته الّتى عملها فی تلک الساعه فینال من الفرح و الاستبشار بمشاهده تلک الأنوار ما لو قسّم على أهل النار لأغناهم عن الإحساس بآلامها، و یفتح له خزانه اخرى فیراها سوداء مظلمه یفوح نتنها و یغشاهم ظلامها و هى الساعه الّتى عصا اللّه تعالى فیها فینا له من الهول و الفزع ما لو قسمّ على أهل الجنّه لتغصّ علیهم نعیمها، و یفتح له خزانه اخرى فارغه لیس فیها ما یسرّه و ما یسوءه و هى الساعه الّتى نام فیها أو غفل فی شی‏ء من مباحات الدنیا فیتحسّر على خلوّها و یناله من الغبن الفاحش ما ینال من قدر على ربح کثیر ثمّ ضیّعه، و إلیه الإشاره بقوله تعالى یَوْمَ یَجْمَعُکُمْ لِیَوْمِ الْجَمْعِ ذلِکَ یَوْمُ التَّغابُنِ«» و قال بعضهم: هب أنّ المسیئ قد عفى عنه ألیس فاته ثواب المحسنین. و هو إشاره إلى الغبن و الحسره یومئذ، ثمّ یستأنف وصیّته لأعضائه السبعه: و هى العین و الاذن و اللسان و البطن و الفرج و الید و الرجل، و یسلّمها إلیها فإنّها رعایا خادمه لها فی التجاره و بها یتمّ أعمال هذه التجاره، و أنّ لجهنّم سبعه أبواب لکلّ باب منهم جزء مقسوم، و إنّما یتعیّن تلک الأبواب لمن عصى اللّه تعالى بهذه الأعضاء، و یوصى کلّ عضو بما ینبغی له و ینهاه عمّا لا ینبغی له، و یرجعه فی تفصی تلک الأوامر و النواهى إلى مراسم الشریعه ثمّ یشترط علیها إن خالفت ذلک عاقبها بالمنع من شهواتها، و هذه الوصیّه قد تکون بعد العمل و قد تکون قبله للتحذیر کما قال تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ یَعْلَمُ ما فِی أَنْفُسِکُمْ فَاحْذَرُوهُ«».

الرابعه: المجاهده و المعاقبه،
و هو بعد المحاسبه إذا رأى نفسه قد تاقت معصیه فینبغى أن یعاقبها بالصبر عن أمثالها و یضیّق علیها فی مواردها و ما یقود إلیها من الامور المباحه و إن رآها توانت و کسلت عن شی‏ء من الفضایل و ورد من الأوراد فینبغى أن یؤدّ بها بتثقیل الأوراد علیها و یلزمها فنونا من الطاعات جبرا لما فات. روى: أنّ ابن عمر أخّر صلاه المغرب حتّى طلع کوکبان فأعتق رقبتین.

الخامسه: توبیخ النفس و معاتبتها،
و قد علمت أنّ لک نفسا أمّاره بالسوء میّاله إلى الشرّ، و قد امرت بتقویمها و قودها [عودها ج‏] بسلاسل القهر إلى عباده ربّها و خالقها و بمنعها عن شهواتها و لذّاتها المألوفه فإن أهملتها شردت و جمحت و لم تظفر بها بعد ذلک، و إن لازمتها بالتوبیخ و المعاتبه و اللائمه کانت نفسک هى النفس اللوّامه، و سبیل المعاتبه أن تذکّر النفس عیوبها و ما هى علیه من الجهل و الحمق و ما بین یدیها من مغافصه الموت و ما تؤول إلیه من الجنّه و النار و ما علیه اتّفاق کلمه أولیاء اللّه الّذین هم بتسلیمها سادات‏ الخلق و رؤساء العالم من وجوب سلوک سبیل اللّه و مفارقه معاصیه، و تذکیرها بآیات اللّه و أحوال الصالحین من عباده. فهذه محاسبات النفس و مرابطاتها، و أمّا حسابها الاخروىّ فقد سبقت الاشاره إلیه.

و قوله و تنفّسوا من قبل ضیق الخناق.
 استعار لفظ النفس لتحصیل الراحه و البهجه فی الجنّه بالأعمال الصالحه فی الدنیا المستلزمه لها کما یستلزم النفس راحه القلب من الکرب، و استعار لفظ الخناق من الحبل المخصوص للموت، و وجه المشابهه ما یستلزمه ضیق الخناق و الموت من عدم التمکّن و التصرّف و العمل: أى انتهزوا الفرصه للعمل قبل تعذّره بزوال وقته و ضیقه.

و قوله: و انقادوا قبل عنف السیاق.
أى انقادوا لأوامر اللّه إلى طاعته قبل السوق العنیف و هو سوق ملک الموت بالجذبه المکربه کما سبق.

و قوله: و اعلموا أنّه من لم یعن على نفسه. إلى آخره.
أى من لم یعنه اللّه على نفسه. و إعانته له هو إعداد العنایه الإلهیّه لنفسه الناطقه أن تقبل السوانح الخیریّه، و تأییدها بها على النفس الأمّاره بالسوء لتقوى بتلک السوانح على قهرها و على الانزجار عن متابعتها و الانجذاب إلى ما تدعوها إلیه من الشهوات فإنّه متى لم یکن لها ذلک الاستعداد و القبول لم ینفعها وعظ غیرها و لم یقبله إذ لا قبول بدون استعداد للمقبول. و فی ذلک تنبیه على وجوب الاستعانه باللّه فی أحوال النفس و دفع الشیطان عنها. و باللّه التوفیق.


شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۳۱۵

 

بازدیدها: ۴۵

خطبه۸۶ شرح ابن میثم یحرانی

و من خطبه له علیه السّلام
أَرْسَلَهُ عَلَى حِینِ فَتْرَهٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ طُولِ هَجْعَهٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ اعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ- وَ انْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ وَ تَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ- وَ الدُّنْیَا کَاسِفَهُ النُّورِ ظَاهِرَهُ الْغُرُورِ- عَلَى حِینِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا- وَ إِیَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَ اغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا- قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى وَ ظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى- فَهِیَ مُتَجَهِّمَهٌ لِأَهْلِهَا عَابِسَهٌ فِی وَجْهِ طَالِبِهَا ثَمَرُهَا الْفِتْنَهُ- وَ طَعَامُهَا الْجِیفَهُ وَ شِعَارُهَا الْخَوْفُ وَ دِثَارُهَا السَّیْفُ- . فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ- وَ اذْکُرُوا تِیکَ الَّتِی آبَاؤُکُمْ وَ إِخْوَانُکُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ- وَ عَلَیْهَا مُحَاسَبُونَ- وَ لَعَمْرِی مَا تَقَادَمَتْ بِکُمْ وَ لَا بِهِمُ الْعُهُودُ- وَ لَا خَلَتْ فِیمَا بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَهُمُ الْأَحْقَابُ وَ الْقُرُونُ- وَ مَا أَنْتُمُ الْیَوْمَ مِنْ یَوْمَ کُنْتُمْ فِی أَصْلَابِهِمْ بِبَعِیدٍ- . وَ اللَّهِ مَا أَسْمَعَکُمُ الرَّسُولُ شَیْئاً-إِلَّا وَ هَا أَنَا ذَا مُسْمِعُکُمُوهُ- وَ مَا أَسْمَاعُکُمُ الْیَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِکُمْ بِالْأَمْسِ- وَ لَا شُقَّتْ لَهُمُ الْأَبْصَارُ- وَ لَا جُعِلَتْ لَهُمُ الْأَفْئِدَهُ فِی ذَلِکَ الزَّمَانِ- إِلَّا وَ قَدْ أُعْطِیتُمْ مِثْلَهَا فِی هَذَا الزَّمَانِ- وَ وَ اللَّهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَیْئاً جَهِلُوهُ- وَ لَا أُصْفِیتُمْ بِهِ وَ حُرِمُوهُ- وَ لَقَدْ نَزَلَتْ بِکُمُ الْبَلِیَّهُ جَائِلًا خِطَامُهَا رِخْواً بِطَانُهَا- فَلَا یَغُرَّنَّکُمْ مَا أَصْبَحَ فِیهِ أَهْلُ الْغُرُورِ- فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ

اللغه

أقول: الفتره: ما بین زمانى الرساله. و الهجعه: النومه. و الاعتزام: العزم، و روى: اعترام الفتن بالراء المهمله: أى کثرتها، و روى: اعتراض من اعترض الفرس الطریق إذا مشى عرضا من غیر قصد. و تلظّت الحرب: تلهبّت. و التجهّم: العبوس. و الأحقاب: جمع حقب بضمّ الحاء و القاف و هو الدهر. و البطان: حزام البعیر للقتب.

المعنى

و صوره هذا الفصل تذکیرهم بنعمه اللّه تعالى الّتى نفت ما کانوا فیه من بؤس و هى بعثه الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم و ما استلزمته من الخیرات لیعتبروا فیشکروا و یخلصوا التوجّه إلى اللّه تعالى فأشار أوّلا إلى النعمه المذکوره ثمّ أردفها بالأحوال المذمومه الّتى تبدلّت بتلک النعمه الجسیمه، و عدّ منها امورا: أحدها: الفتره من الرسل و ظاهر أنّ خلوّ الزمان عن رسول فیه یستلزم وجود الشرور و وقوع الهرج و المرج، و تلک أحوال مذمومه یلحق ذلک الزمان بها من الذمّ بمقدار ما یلحق زمان وجود الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم من المدح. الثانی: طول الهجعه من الأمم، و کنّى بالهجعه عن الغفله فی أمر المعاد و سایر المصالح الّتى ینبغی. الثالث: الاعتزام من الفتن أمّا على الروایه الاولى فنسبه العزم إلى الفتن مجاز کنّى به عن وقوعها بین الخلق المشبه لقصدها إیّاهم، و على الروایه الثانیه: أى على‏ کثره من الفتن، و على الروایه الثالثه فالمعنى أنّ الفتن لمّا کانت غیر واقعه على قانون شرعىّ و لا نظام مصلحىّ و لذلک سمیّت فتنه لا جرم أشبهت المعترض فی الطریق من الحیوان الماشى على غیر استقامه، و لذلک استعیر لها لفظ الاعتراض. الرابع: و على انتشار من الامور: أى تفرّق امور الخلق و أحوالهم و جریان أفعالهم على غیر قانون عدلىّ.

الخامس: التلظّى من الحروب. و قد سبق تشبیه الحرب بالنار فلذلک أسند إلیها التلظّى على سبیل الاستعاره، و کنّى بها عن هیجانها و وجودها بینهم زمان الفتره. السادس: و الدنیا کاسفه، و الواو للحال: أى کاسف نورها، و نور الدنیا کنایه عن وجود الأنبیاء و ما یأتون به من الشرائع و ما ینتج عنهم من الأولیاء و العلماء کنایه بالمستعار، و وجه المشابهه ما یستلزم النور و وجود الأنبیاء و الشرائع من الاهتداء بهما، و رشّح تلک الاستعاره بذکر الکسوف، و عبّر به عن عدم ذلک النور منها ملاحظه لشبهها بالشمس.
السابع: ظاهره الغرور: أى کلّ قد اغترّ بها و انهمک فی مشتهیاتها و خدعته بخوادعها. الثامن: کونه أرسل على حین اصفرارهن ورقها و إیاس من ثمرها و اغورار من ماءها. استعار لفظ الثمره و الورق لمتاعها و زینتها، و لفظ الاصفرار لتغیّر تلک الزینه عن العرب فی ذلک الوقت و عدم طلاوه عیشهم إذن و خشونه مطاعمهم کما یذهب حسن الشجره باصفرار ورقها فلا یتلذّذ بالنظر إلیها و عنى بالإیاس من ثمرها انقطاع آمال العرب إذن من الملک و الدوله و ما یستلزمه من الحصول على طیّبات الدنیا، و کذلک استعار لفظ الماء لموادّ متاع الدنیا و طرق لذّاتها و لفظ الاغورار لعدم تلک الموادّ من ضعف التجارات و المکاسب و عدم التملیک للأمصار و کلّ ذلک لعدم النظام العدلىّ بینهم و کلّها استعارات بالکنایه و وجه الاستعاره الاولى أنّ الورق کما أنّه زینه للشجره و به کما له کذلک لذّات الدنیا و حیاه الدنیا و زینتها، و وجه الثانیه أنّ الثمر کما أنّه مقصود الشجره غالبا و غایتها کذلک متاع الدنیا و الانتفاع به هو مقصودها المطلوب منها لأکثر الخلق، و وجه الثالثه أنّ الماء کما أنّه مادّه الشجر و به حیاتها و قیامها فی الوجود کذلک مولود تلک اللذّات هى المکاسب و التجارات و الصناعات، و قد کانت العرب خالیه من ذلک، و وجوه باقى الاستعارات ظاهره.

التاسع: دروس أعلام الهدى. وکنّى بأعلام الهدى عن أئمّه الدین، و کتبه الّتى بها یهتدى لسلوک سبیل اللّه و بدروسها عن موت اولئک و عدمهم کنایه بالمستعار کما سبق. العاشر: ظهور أعلام الردى. و هم أئمّه الضلال الداعین إلى النار. الحادى عشر: کون الدنیا متجهّمه لأهلها عابسه فی وجوه طلّابها، و کنّى بذلک عن عدم صفائها فإنّ طیب العیس فی الدنیا إنّما یکون مع وجود نظام العدل و التصفیه بین أهلها و عدم التظالم و ذلک فی زمان الفتره مفقود بین العرب، و هو کنایه بالمستعار، و وجه المشابهه ما یلزمه المستعار عنه و له من عدم تحصیل المطلوب معهما.

 الثانی عشر: کون ثمرها الفتنه: أى غایه سعیهم فیها على خبط فی ظلمات جهلهم إنّما هو الفتنه: أى الضلال عن سبیل اللّه و التیه فی ظلمات الباطل. و غایه کلّ شی‏ء هو مقصوده فتشبه الثمره الّتى هى مقصود الشجره فلذلک استعیر لها لفظها.

الثالث عشر: و طعامها الجیفه. یحتمل أن یکون لفظ الجیفه هنا مستعارا لطعام الدنیا و لذّاتها، و وجه المشابهه أنّه لمّا کانت الجیفه عباره عمّا أنتن و تغیّرت رائحته من جثّه حیوان و نحوها فخبث مأکله و نفر الطبع عنه کذلک طعام الدنیا و لذّاتها فی زمان الفتره أکثر ما یکون من النهب و الغاره و السرقه و نحوهما ممّا یخبث تناوله شرعا و ینفر العقل منه و تأباه کرائم الأخلاق فأشبه ما یحصل من متاعها إذن الجیفه فی خبثها و سوء مطعمها و إن کان أحد الخبیثین عقلیّا و الآخر حسّیا فاستعیر لفظها له، و یحتمل أن یکنّى بالجیفه عمّا کانوا یأکلون فی الجاهلیّه من الحیوان غیر مذکّى و هو ما حرّمه القرآن الکریم من ذلک فی قوله: حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَهُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِیرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَیْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَهُ وَ الْمَوْقُوذَهُ:«» أى المضروبه بالخشب حتّى تموت و یبقى الدم فیها فیکون أطیب کما زعم المجوس، و المتردیّه: أى الّتى تردّت من علوّ فماتت. فإنّ کلّ ذلک إذا مات فکثیرا ما یتعفّن و یؤکل فیصدق أن طعامهم کان الجیفه.

الرابع عشر: کون شعارها الخوف. الخامس عشر: کون دثارها السیف. استعار لفظ الشعار للخوف و الدثار للسیف، و وجه الاستعاره الاولى أنّ الخوف و إن کان من العوارض القلبیّه إلّا أنّه کثیرا ما یستتبع اضطراب البدن و انفعاله بالرعده فیکون شاملا له شمول ما یتّخذه الإنسان شعارا، و وجه الثانیه أنّ الدثار و السیف یشترکان فی مباشره المدّثر و المضروب من فوقهما.

و قوله: فاعتبروا عباد اللّه شروع فی المقصود. فقوله: و اذکروا تلک. إشاره إلى وجه العبره من قبایح الأعمال: أى تلک الأعمال الّتى کانت علیها آباؤکم و إخوانکم زمان الفتره و زمان دعوه الرسول لکم، و قوله: فهم بها مرتهنون: أى محبوسون فی سلاسل الهیئات البدنیّه و أغلال ما اکتسبوا منها، و محاسبون علیها. و قوله: و لعمرى. إلى قوله: ببعید. إلحاق بهم بآبائهم فی تشبیه زمانهم بزمانهم و تقارب ما بین الزمانین و تشبیه أحوالهم بحالهم فی امور:

أحدها: أنّ اولئک کانوا آبائکم و لیس زمان الابن و حاله ببعید من حال أبیه فیما یأتی و یذر.

الثانی: أنّ الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم لم یسمعهم شیئا إلّا و أسمعتکم إیّاه فلا فرق بینکم و بینهم من هذه الجهه. الثالث: أنّه لا تفاوت بین إسماعکم و إسماعهم.

الرابع: أنّ سایر الآلات البدنیّه الّتى کانت لاولئک فاکتسبوا بها کما لا و لم تکتسبوا حاصله لکم أیضا. الخامس: أنّکم لم تعلموا شیئا کان آباؤکم جهلوه حتّى یکون ذلک سببا للفرق بینکم و بینهم.

السادس: و لا اصفیتم من الدنیا بشى‏ء لم یکن لآبائکم مثله، و غرضه من إلحاقهم بآبائهم فی هذه الأحوال أمران: أحدهما: التنفیر عن حال من سبق من العاصین بمخالفه أو امر اللّه تعالى. الثانی: الجذب و الترغیب فی حال من سبق ممّن أطاع اللّه و الرسول فإنّه إذا حصلت المشابهه بینهم و بین السابقین و المتشابهان یتّحدان فی اللوازم کان من تشبّه بسابق فی عصیانه لزمه ما لزمه من ألیم العقاب، و من تشبّه به فی طاعته و انقیاده للّه لزمه ما لزمه من الوصول إلى جزیل الثواب.

و قوله: و لقد نزلت بکم البلیّه. یشبه أن یکون إنذارا بابتلاء الخلق بدوله بنى امیّه و ملوکها، و قوله: جائلا خطامها. کنایه بالمستعار عن خطرها و صعوبه حال من یرکن إلیها فإنّها لمّا کانت دوله خارجه عن نظام الشریعه جاریه على وفق الأوهام کان الراکن إلیهم على خطر فی دینه و نفسه کما أنّ من رکن إلى الناقه الّتى جال خطامها، أى لم یثبت فی وجهها و ارتخى حزامها فرکبها کان على خطر أن تصرعه فیهلک، ثمّ أردف ذلک بالنهى عن الاغترار بما أصبح فیه أهل الغفله من متاع الدنیا و طیّباتها و نفّر عنه باستعاره لفظ الظلّ له، و وجه المشابهه ما یشترکان فیه من کونه ممدودا ینتهى عند أجل و یزول به. و باللّه التوفیق.


شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۳۱۰

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بازدیدها: ۶

خطبه ۸۵ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ یَقْصِمْ جَبَّارِی دَهْرٍ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ تَمْهِیلٍ وَ رَخَاءٍ- وَ لَمْ یَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلَاءٍ- وَ فِی دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ- وَ مَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ- وَ مَا کُلُّ ذِی قَلْبٍ بِلَبِیبٍ وَ لَا کُلُّ ذِی سَمْعٍ بِسَمِیعٍ- وَ لَا کُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِیرٍ- فَیَا عَجَباً وَ مَا لِیَ لَا أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هَذِهِ الْفِرَقِ- عَلَى اخْتِلَافِ حُجَجِهَا فِی دِینِهَا- لَا یَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِیٍّ وَ لَا یَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِیٍّ- وَ لَا یُؤْمِنُونَ بِغَیْبٍ وَ لَا یَعِفُّونَ عَنْ عَیْبٍ- یَعْمَلُونَ فِی الشُّبُهَاتِ وَ یَسِیرُونَ فِی الشَّهَوَاتِ- الْمَعْرُوفُ فِیهِمْ مَا عَرَفُوا وَ الْمُنْکَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْکَرُوا- مَفْزَعُهُمْ فِی الْمُعْضِلَاتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ تَعْوِیلُهُمْ فِی الْمُهِمَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ- کَأَنَّ کُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ- قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِیمَا یَرَى بِعُرًى ثِقَاتٍ وَ أَسْبَابٍ مُحْکَمَاتٍ

اللغه

أقول: القصم بالقاف: الکسر. و الأزل بفتح الهمزه: الضیق و الشدّه. و اقتصّ أثره: تبعه.

المعنى

و مقصود هذا الفصل توبیخ الامّه على اختلاف آرائهم فی الدین و استبداد کلّ منهم بمذهب بحسب رأیه فی المسایل الفقهیّه و نحوها مع وجوده علیه السّلام بینهم، و إعراضهم عن مراجعته مع علمهم بقیامه بذلک.
فقوله: أمّا بعد. إلى قوله: ببصیر.
 صدر الخطبه و کأنّه علیه السّلام فهم ممّن خرجت هذه الخطبه بسببه أنّهم إنّما یستبدّون بآرائهم من دون مراجعه عن کبر منهم على التعلّم و الاستفاده و محبّه الراحه من تحمّل کلفه التحرّى فی الدین و التحرّز من الغلط فیه و مشقّه الطلب فلذلک خوّفهم من حال الجبابره و أن تصیبهم بترک قواعد الدین إلى آرائهم المتفرّقه فیستعدّوا للهلاک بقوله: إنّه لم یقصم جبّارى دهر إلّا بعد إمهالهم و رخائهم فإنّهم إذا امهلوا و انغمسوا فیما هم فیه من الرخاء و الترف أعرضوا عن الآخره و نسوا ذکر اللّه تعالى فاستعدّوا بترکهم لقوِانین الدین الّتى بها نظام العالم للهلاک و نحوه قوله تعالى وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِکَ قَرْیَهً أَمَرْنا مُتْرَفِیها فَفَسَقُوا فِیها فَحَقَّ عَلَیْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِیراً«» و کذلک قوله: و لم یجبر عظم أحد من الامم إلّا بعد أزل و بلاء. کنّى بجبران العظم عن قوّتهم بعد الضعف کنایه بالمستعار، و صدق هذه القضیّه ظاهر فإنّ أحدا من الامم المتّبعین لأنبیائهم أو لملوکهم فی إظهار دین أو طلب ملک لن یصلوا إلى مطلوبهم إلّا بعد قوّتهم و تضاعفهم و تظاهر بعضهم ببعض و معاناه بلاء أثر بلاء بحیث یستعدّون بذلک للفزع إلى اللّه تعالى فیهیّى‏ء قلوبهم لقبول الالفه و یعدّها باجتماع عزائمها لقبول صوره النصر، و فیه تنبیه على وجوب الاتّحاد فی الدین و عدم تشتّت الآراء فیه فإنّ ذلک یدعو إلى التحزّب و التفرّق و یدخل علیهم الوهن و الضعف و کلّ ذلک ضدّ مطلوب الشارع کما سبق، و یحتمل أن یکنّى بقوله: لم یقصم جبّارى دهر. عن جبّارى وقته کمعاویه و أصحابه، و بقوله: لم یجبر عظم أحد من الامم إلّا بعد أزل و بلاء. عن أصحابه فنبّههم بالکلمه الاولى على أنّ اولئک الجبّارین و إن طالت مدّتهم و قویت شوکتهم فإنّما ذلک إملاء من اللّه لهم لیستعدّوا به للهلاک، و بالکلمه الثانیه على أنّکم و إن ضعفتم و ابتلیتم فذاک عاده اللّه فیمن یرید أن ینصره ثمّ عقّب ذلک بتوبیخهم على الاختلاف و تشعّب الآراء و المذاهب فی الدین لما أنّ ذلک یؤدّى إلى طول محنتهم و ضعفهم عن مقاومه عدوّهم.

و قوله: و فی دون ما استقبلتم من عتب
أى من عتابى لکم و استدبرتم من خطب:
أى من الأهوال الّتى کنتم ترونها من المشرکین فی مبدء الإسلام حیث کنتم قلیلین و امرتم أن یثبت الواحد منکم لعشره منهم ثمّ أیّدکم اللّه بنصره بالتألیف بین قلوبکم و جبر عظمکم بمن أسلم و دخل فی دینکم و ذلک أىّ معتبر و فیه أىّ اعتبار فإنّکم لو لم تتّحدوا فی الدین و تقاسوا مراره ذلک النصیر و اختلفت آراؤکم فی ذلک الوقت کاختلافها الآن، و کنتم إذن على غایه من الکثره لم تغن عنکم کثرتکم شیئا فکأنّه قال: فیجب من ذلک الاعتبار أن لا تفترقوا فی الرأى و أن تتّحدوا فی الدین و تراجعوا أعلمکم باصوله و فروعه.

و قوله: فما کلّ ذى قلب بلبیب. إلى قوله: ببصیر.
 أراد بذى القلب الإنسان، و ظاهر أنّ الإنسان قد یخلو عن اللبّ و أراد باللبّ العقل و الذکاء و استعماله فیما ینبغی على الوجه الّذى ینبغی، و بالجمله فاللبیب من ینتفع بعقله فیما خلق لأجله و کذلک السمیع و البصیر هما اللذان یستعملان سمعهما و بصرهما فی استفاده العبره و إصلاح أمر المعاد و نحوه قوله تعالى أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ یَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَیْدٍ یَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْیُنٌ یُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ یَسْمَعُونَ بِها«» و قوله أَ فَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَتَکُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ یَعْقِلُونَ بِها أَوْ«» و فائده هذه الکلمات تحریک النفوس إلى الاعتبار کیلا یعدّ التارک له غیر لبیب و لا سمیع و لا بصیر.

و قوله: یا عجبا. إلى آخره.
أردف تعجّبه بما یصلح جواب سؤال مقدّر عمّا یتعجّب منه فکأنّه فهم من تقدیر ذلک السؤال تعجّب السائل من تعجّبه المستلزم لتبرّمه و تضجّره حتّى کأنّ السائل قال: و ممّ تتعجّب و علام هذا التبرّم و الأسف فقال: ما لى لا أعجب من خطأ هذه الفرق. ثمّ شرع فی تفصیل الخطایا و المذامّ الّتى کان اجتماعها فیهم سببا لتعجّبه منهم فأشار إلى ترکهم لما ینبغی و قدّم على الکلّ ذکر اختلاف حججهم فی دینهم و ذلک هو الأصل الّذى نشأت عنه أکثر هذه الرذائل فأمّا ترکهم لما ینبغی ففى صور: أحدها: ترکهم لاقتصاص أثر نبیّهم فإنّهم لو اقتصّوا أثره لما اختلفوا إذ لا اختلاف فیما جاء به کما سبق بیانه لکنّهم اختلفوا فلم یقتصّوا أثر نبیّهم.
الثانیه: ترکهم الاقتداء بعمل الوصىّ و هو إشاره إلى نفسه و هذه أقطع لإعذارهم فإنّ الاختلاف فی الدین قد یعرض عن ضروره و هى عدم إصابه الکلّ للحقّ مع عدم الشارع الّذى یرجع إلیه فی التوقیف على أسرار الشریعه فأمّا إذا کان الموقف موجودا بینهم کمثله علیه السّلام امتنع أن یقعوا فی تلک الضروره فیعتذروا بها فی الاختلاف. الثالثه: ترکهم الإیمان بالغیب: أى التصدیق به و الطمأنینه فی اعتقاده.

و للمفسّرین فی تفسیر الغیب أقوال: أحدها: عن ابن عبّاس: هو ما جاء به من عند اللّه. الثانی: عن عطاء: هو اللّه سبحانه. الثالث: عن الحسن: هو الدار الآخره و الثواب و العقاب و الحساب.
الرابع: قیل: یؤمنون بظهر الغیب کقوله تعالى یَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَیْبِ فالمعنى قوله علیه السّلام: أى لا یحفظون شرایط الإیمان فی عقیب بعضهم على بعض. الخامس: عن ابن عیسى: الغیب ما غاب عن الحواسّ ممّا یعلم بالدلیل. السادس: عن الأخفش یؤمنون بما غاب عن أفهامهم من متشابهات القرآن. الرابعه: ترکهم العفّه عن عیب و هو إشاره إلى الغیبه و ظاهر أنّها فجور و عبور إلى طرف الإفراط من فضیله العفّه. و أمّا فعلهم لما لا ینبغی فامور:

أحدها: أنّهم یعملون فی الشبهات: أى لا یتوقّفون فیما أشبه علیهم أمره و لا یبحثون عن وجه الحقّ فیه بل یعملون فیه بما قادهم إلیه الهوى.

الثانی: کونهم یسیرون فی الشهوات لمّا لحظ مشابهه میل قلوبهم إلى شهواتها الدنیویّه و انهماکها فیها قاطعه مراحل الأوقات بالتلذّذ لسلوک السائر فی الطریق و نحوها استعار لذلک السلوک لفظ السیر.

الثالث: کون المعروف فیهم ما عرفوا و المنکر ما أنکروا: أى أنّ المعروف و المنکر تابعان لإرادتهم و میولهم الطبیعیّه فما أنکرته طباعهم کان هو المنکر بینهم و إن کان معروفا فی الشریعه و ما اقتضته طباعهم و مالت إلیه کان هو المعروف بینهم و إن کان منکرا فی الدین، و الواجب أن یکون إرادتهم و میولهم تابعه لرواسم الشریعه فی اتّباع ما کان فیها معروفا و إنکار ما کان فیها منکرا.

الرابع: کون مفزعهم فی المعضلات إلى أنفسهم و تعویلهم فی المبهمات إلى آرائهم و هو کنایه عن کون أحکامهم فی کلّ ما یرد علیهم من مشکلات الدین و یستبهم من أحکامه تابعه لأهوائهم لا یجرونها على قانون شرعىّ یعرف حتّى أشیهت نفوسهم الأمّاره بالسوء الّتى هى منبع الأهواء المخالفه للشریعه الأئمّه الّتى یرجع إلیهم فی استفاده الأحکام فکلّ منهم یأخذ عن نفسه: أى یتمسّک فیما یراه و یحکم به بآراء کأنّها عنده عرى وثیقه: أى لا یضلّ من تمسّک بها و أسباب محکمات: أى نصوص جلیّه و ظواهر واضحه لا اشتباه فیها، و قد عرفت معنى الحکم، و لفظ العرى مستعار، و قد سبق وجه الاستعاره.
و باللّه العصمه و التوفیق.


شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن‏ میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۳۰۶

بازدیدها: ۱۳

خطبه۸۴ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام
و فیها فصول.

الفصل الأوّل: فی صفات المتّقین
و هو قوله: عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَیْهِ عَبْداً- أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ- وَ تَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِی قَلْبِهِ- وَ أَعَدَّ الْقِرَى لِیَوْمِهِ‏ النَّازِلِ بِهِ- فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِیدَ وَ هَوَّنَ الشَّدِیدَ- نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَ ذَکَرَ فَاسْتَکْثَرَ- وَ ارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ- فَشَرِبَ نَهَلًا وَ سَلَکَ سَبِیلًا جَدَداً- قَدْ خَلَعَ سَرَابِیلَ الشَّهَوَاتِ وَ تَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ- إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ صِفَهِ الْعَمَى- وَ مُشَارَکَهِ أَهْلِ الْهَوَى وَ صَارَ مِنْ مَفَاتِیحِ أَبْوَابِ الْهُدَى- وَ مَغَالِیقِ أَبْوَابِ الرَّدَى- قَدْ أَبْصَرَ طَرِیقَهُ وَ سَلَکَ سَبِیلَهُ وَ عَرَفَ مَنَارَهُ- وَ قَطَعَ غِمَارَهُ وَ اسْتَمْسَکَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا- وَ مِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا فَهُوَ مِنَ الْیَقِینِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ- قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِی أَرْفَعِ الْأُمُورِ- مِنْ إِصْدَارِ کُلِّ وَارِدٍ عَلَیْهِ وَ تَصْیِیرِ کُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ- مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ کَشَّافُ عَشَوَاتٍ مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ- دَفَّاعُ مُعْضِلَاتٍ دَلِیلُ فَلَوَاتٍ یَقُولُ فَیُفْهِمُ وَ یَسْکُتُ فَیَسْلَمُ- قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ- فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِینِهِ وَ أَوْتَادِ أَرْضِهِ- قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَکَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْیُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ- یَصِفُ الْحَقَّ وَ یَعْمَلُ بِهِ لَا یَدَعُ لِلْخَیْرِ غَایَهً إِلَّا أَمَّهَا- وَ لَا مَظِنَّهً إِلَّا قَصَدَهَا قَدْ أَمْکَنَ الْکِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ- فَهُوَ قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ یَحُلُّ حَیْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ- وَ یَنْزِلُ حَیْثُ کَانَ مَنْزِلُهُ

اللغه

أقول: القرى: الضیافه: و الفرات: صادق العذوبه.

و النهل: الشرب فی أوّل الورد.

و الجدد: الأرض المستویه.

و السرابیل: القمصان.

و المنار: الأعلام.

و الغمار:جمع غمره و هى الزحمه من کثره الناس و الماء و نحوه.

و العشوات: جمع عشوه و هى رکوب الأمر على جهل به.

و الغشوه بالغین المعجمه: هى الغطاء.

و المبهمه: الأمر الملتبس.

و المعضلات: الشدائد.

و ذکر من صفاتهم الّتى هى سبب محبّه اللّه لهم أربعین وصفا و قد علمت أنّ محبّه اللّه تعالى تعود إلى إفاضه الکمالات النفسانیّه على نفس العبد بحسب قربه بالاستعداد لها إلى جوده فمن کان استعداده أتمّ کان استحقاقه أوفى فکانت محبّه اللّه له أکمل.

فالأوّل من تلک الأوصاف: کونه أعانه اللّه على نفسه    أى أفاضه قوّه على استعداد یقوّى به عقله على قهر نفسه الأمّاره بالسوء.

الثانی: أن یستشعر الحزن    أى یتّخذه شعارا له. و أراد الحزن على ما فرّط فی جنب اللّه و اکتسب من الإثم فإنّه من جمله ما أعدّته المعونه الإلهیّه لاستشعاره لیستعدّ به لکمال أعلى.

الثالث: أن یتجلبب الخوف
و هو اتّخاذه جلبابا. استعار لفظ الجلباب و هو الملحفه للخوف من اللّه و الخشیه من عقابه، و وجه المشابهه ما یشترکان فیه من کون کلّ منهما متلبّسابه، و هو أیضا معونه من اللّه للعبد على تحصیل السعاده.

الرابع: زهره مصباح الهدى فی قلبه
و هو إشاره إلى شروق نور المعارف الإلهیّه على مرآه سرّه، و هو ثمره الاستعداد بالحزن و الخوف و لذلک عطفه بالفاء، و استعار لفظ المصباح لنور المعرفه لما یشترکان فیه من کون کلّ منهما سببا للهدى و هو استعاره لفظ المحسوس للمعقول.

الخامس: کونه أعدّ القرى لیومه النازل به
استعار لفظ القرى للأعمال الصالحه و أراد بالیوم النازل به یوم القیامه و استلزمت الاستعاره تشبیهه لذلک الیوم بالضیف أو بیوم القرى للضیف المتوقّع نزوله، و وجه المشابهه أنّ القرى کما یبیّض به وجه القارى عند ضیفه و یخلص به من ذمّه و یکسبه المحمده و الثناء منه کذلک الأعمال الصالحه فی ذلک الیوم تکون سببا لخلاص العبد من أهواله و تکسبه رضاء الحقّ سبحانه و الثواب الجزیل منه.

السادس: و قرّب على نفسه البعید.
یحتمل وجهین: احدهما: أن یشیر بالبعید إلى رحمه اللّه فإنّها بعیده من غیر مستحقّها و المستحقّ لقبولها قریبه ممّن حسن عمله و کمل قبوله فالعبد إذا راض بالأعمال الصالحه نفسه و أعدّها قرى یومه کانت رحمه اللّه على غایه من القرب منه کما قال تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِیبٌ مِنَ الْمُحْسِنِینَ، الثانی: یحتمل أن یرید بالبعید أمله الطویل فی الدنیا و بتقریبه له على نفسه تقصیره له بذکر الموت دون بلوغه کما سبق.

السابع: کونه قد هوّن الشدید.
و یحتمل أیضا معنیین: أحدهما: أن یرید بالشدید أمر الآخره و عذاب الجحیم و تهوینه لها بالأعمال الصالحه و استشراف أنوار الحقّ و ظاهر کونها مهوّنه لشدید عذاب اللّه، الثانی: أن یرید بالشدائد شدائد الدنیا من الفقر و الاهتمام بالمصائب الّتی تنزل به من الظلم و فقد الأحبّه و الأقرباء و نحو ذلک و تهوینه لذلک تسهیله على خاطره و استحقاره فی جنب ما یتصوّره من الفرحه بلقاء اللّه و ما أعدّ له من الثواب الجزیل فی الآخره کما قال تعالى وَ لَنَبْلُوَنَّکُمْ بِشَیْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ ووَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِینَ الَّذِینَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِیبَهٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ«»

الثامن: کونه نظر:
أى تفکّر فی ملکوت السماوات و الأرض و ما خلق اللّه من شی‏ء فأبصر: أی فشاهد الحقّ سبحانه فی عجائب مصنوعاته بعین بصیرته.

التاسع: و ذکر فاستکثر
أی ذکر ربّه و معاده فاستکثر من ذکره حتّى صار الذکر ملکه له و یجلّى المذکور فی أطوار ذکره لمرآه سرّه. و الاستکثار من الذکر باب عظیم من أبواب الجنّه.

العاشر: کونه ارتوى من عذب فرات.
شبّه العلوم و الکمالات النفسانیّه الّتی تفاض على العارف بالماء الزلال فاستعار له لفظ العذوبه، و رشّح تلک الاستعاره بذکر الارتواء، و قد سبق وجه هذه الاستعاره مرارا.
(یا) کونه سهلت له موارده.
الفایزون لقصب السبق فی طرائق اللّه لا ینفکّون عن تأیید إلهىّ بخاصیّه مزاجیّه لهم بها سرعه الاستعداد لقبول الکمالات الموصله إلیه.

إذا عرفت ذلک فنقول: موارد تلک الکمالات من العلوم و الأخلاق هی معادنها و مواطنها المنتزعه منها و هی النفوس الکامله الّتی یهتدى بها و تؤخذ عنها أنوار اللّه کالأنبیاء، و تصدق تلک الموارد أیضا على بدایع صنع اللّه الّذی یردّها ذهن العبد و تکسب بها الملکات الفاضله و سهوله تلک الموارد لهم هو سرعه قبولهم لأخذ الکمالات عنها بسهوله بأذهان صافیه هیّأتها العنایه الإلهیّه لقبولها و یسرّ بها لذلک.
(یب) فشرب نهلا:
ای أخذ تلک الکمالات سابقا إلیها کثیرا من أبناء نوعه و متقدّما فیها لسهوله موردها علیه، و هی ألفاظ مستعاره لأخذه لها و سبقه إلیها ملاحظه لشبهه بشرب السوابق من الأبل إلى الماء.
(یج) کونه قد سلک سبیلا جددا:
أی سبیل اللّه الواضح المستقیم العدل بین طرفى التفریط و الإفراط.
(ید) کونه قد خلع سرابیل الشهوات.
أکثر الأوصاف السابقه أشار فیها إلى تحصیل العلم و الاستعداد له، و أشار بهذا الوصف إلى طرف الزهد، و استعار لفظ السرابیل للشهوات، و وجه المشابهه تلبّس صاحبها بها کما یتلبّس بالقمیص، و رشّح بلفظ الخلع، و کنّى به عن طرحه لاتّباع الشهوه و التفاته عنها فیما یخرج به عن حدّ العدل.
(یه) و تخلّى من الهموم إلّا همّا واحدا
أى من هموم الدنیا و علائق أحوالها و طرح کلّ مقصود عن قصده إلّا همّا واحدا انفرد به، و هو الوصول إلى مراحل عزّه اللّه و توجیه سرّه إلى مطالعه أنوار کبریائه و استشراقها و هو تمام الزهد الحقیقىّ و ظاهر کونه منفردا عن غیره من أبناء نوعه.
(یو) فخرج عن صفه العمى:
أى عمى الجهل بما حصل علیه من فضیله العلم و الحکمه و عن مشارکه أهل الهوى فی إفراطهم و فجورهم إذ هو على حاقّ الوسط من فضیله العفّه.
(یز) فصار من مفاتیح أبواب الهدى.
فأبواب الهدى هو طرقه و سبله المعدّه لقبول من واهبه و قد وقف علیها العارفون و دخلوا منها إلى حضره جلال اللّه فوقفوا على مراحلها و منازلها و مخاوفها فصاروا مفاتیح لما انغلق منها على أذهان الناقصین، و مصابیح فیها لنفوس‏ الجاهلین، و لفظ المفتاح مستعار للعارف، و وجه المشابهه ظاهر.
(یح) و مغالیق أبواب الردى.
فأبواب الردى هى أطراف التفریط و الإفراط و المسالک الّتی یخرج فیها عن حدود اللّه المردى سلوکها فی قرار الجحیم. و العارف لمّا سدّ أبواب المنکرات الّتی یسلکها الجاهلون و لزم طریق العدل لا جرم أشبه المغلاق الّذی یکون سببا لسدّ الطریق أن یسلک فاستعیر لفظه له، و فی القرینتین مطابقه فالمغالیق بإزاء المفاتیح و الردى بإزاء الهدى.
(یط) قد أبصر
أى بنور بصیرته طریقه: أى المأمور بسلوکها و المجذوب بالعنایه الإلهیّه إلیها و هى صراط اللّه المستقیم.
(ک) و سلک سبیله
أى لمّا أبصر السبیل سلکها إذ کان السلوک هو المقصود الأوّل.
(کا) و قد عرف مناره.
لمّا کان السالک إلى اللّه قد لا یستقیم به طریق الحقّ إتّفاقا و ذلک کسلوک من لم تستکمل قوّته النظریّه بالعلوم و قد یکون سلوکه بعد استکماله بها. فالسالک کذلک قد عرف بالبرهان مناره: أى أعلامه المقصوده فی طریقه الّتی هی سبب هدایته و هى القوانین الکلّیّه العملیّه، و یحتمل أن یرید بالمنار ما یقصده بسلوکه و هو حضره جلال اللّه و ملائکته‏  المقرّبون.
(کب) قد قطع غماره
و أشار بالغمار إلى ما کان مغمورا فیه من مشاقّ الدنیا و همومها و التألّم بسبب فقدها و مجاذبه أهلها لها فإنّ العارف بمعزل عن ذلک و التألّم بسببه.
(کج) و استمسک من العرى بأوثقها و من الحبال بأمتنها.
أراد بأوثق العرى و أمتن الحبال سبیل اللّه و أوامره استعاره و وجه المشابهه أنّ العروه کما تکون سببا لنجاه من تمسّک بها و کذلک الحبل، و کان أجودها ما ثبت و تمتن و لم ینفصم کذلک طریق اللّه المؤدّى إلیه یکون لزومه و التمسّک بأوامره سببا للنجاه من أهوال الآخره و هى عروه لا انفصام لها و أوامرها حبال لا انقطاع لها، و إلیها الإشاره بقوله تعالى فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ یُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَکَ بِالْعُرْوَهِ الْوُثْقى‏ لَا انْفِصامَ لَها«».
(کد) فهو من الیقین على مثل ضوء الشمس
أى فکان بتمسّکه بأوامر اللّه و نواهیه‏ و مجاهدته فی سبیله قد استشرق أتمّ أنوار الیقین فصار شاهدا بعین بصیرته عالم الملکوت رائیا بها الجنّه و النار عین الیقین کما یرى بصره الظاهر نور الشمس فی الوضوح و الجلاء
(که) قد نصب نفسه للّه سبحانه فی أرفع الامور من إصدار کلّ وارد علیه و تصییر کلّ فرع إلى أصله
أى لمّا کمل فی ذاته نصب نفسه لأرفع الامور من هدایه الخلق و إفادتهم لقوانین طریق اللّه فصار کالمصباح یقتبس منه أنوار العلم فهو لکونه متلبّسا بها [ملیّا بها خ‏] قایم بإصدار الأجوبه عن کلّ ما ورد علیه من الأسئله الّتى استبهم أمرها على الأذهان، واف بردّ کلّ فرع من فروع العلم إلى أصله المنشعب عنه.
(کو) کونه مصباح ظلمات:
أى یهتدى به التائهون فی ظلمات الجهل إلى الحقّ.
و لفظ المصباح مستعار له کما سبق.
(کز) کونه کشّاف عشوات:
أى موضح لما اشکل أمره و رکّب فیه الجهل من الأحکام الملتبسه ممیّز وجه الحقّ منها، و من روى بالغین المعجمه فالمراد کشّاف أغطیه الجهالات عن إبصار البصائر.
(کح) و کذلک کونه مفتاح مبهمات:
أى فاتح لما انغلق على أذهان الخلق و استبهم وجه الحقّ فیه من الأحکام.
(کط) کونه دفّاع معضلات:
أى یدفع کلّ حیره فی معضله من معضلات الشرع صعب على الطالبین تمیّز وجه الحقّ فیه و یجیبهم ببیانه عن التردّى فی مهاوى الجهل.
(ل) و کذلک کونه دلیل فلوات.
و استعار لفظ الفلوات لموارد السلوک و هى الامور المعقوله، و وجه المشابهه أنّ الفلوات کما لا یهتدى لسالکها إلّا الأدلّاء الّذین اعتادوا سلوکها و ضبطوا مراحلها و منازلها حتّى کان من لا قاید له منهم لا بدّ و أن یتیه فیها و یکون جهله بطرقها سببا لهلاکه کذلک الامور المتصوّره المعقوله لا یهتدى لطریق الحقّ فیها إلّا من أخذت العنایه الإلهیّه بضبعیه فألقت بزمام عقله إلى استاد مرشد یهدیه سبیل الحقّ منها و من لم یکن کذلک حتّى حاد عن طریق الحقّ فیها خبط فی ظلمات الجهل خبط عشواء، و سلکت به شیاطینه أبواب جهنّم، و العارفون هم أدلّاء هذا الطریق و الواقفون على أخطارها و منازل السلامه فیها بعیون بصایرهم.

(لا) کونه یقول فیفهم
و ذلک لمشاهدته عین الحقّ من غیر شبهه تعتریه فیما یقول و لا اختلاف عباره عن جهل بالمقول.
(لب) کونه یسکت فیسلم
أى من خطر القول. و لمّا کانت فایده القول الإفهام و الإفاده، و فایده السکوت السلامه من آفات اللسان و کان کلامه فی معرض المدح لا جرم ذکرهما مع فائدتهما. و المقصود أنّ العارف یستعمل کلّا من القول و السکوت فی موضعه عند الحاجه إلیه فقط.
(لج) کونه قد أخلص للّه فاستخلصه
و قد عرفت أنّ الإخلاص للّه هو النظر إلیه مع حذف کلّ خاطر سواه عن درجه الاعتبار، و استخلاص الحقّ للعبد هو اختصاصه من بین أبناء نوعه بالرضى عنه و إفاضه أنواع الکمال علیه و إدنائه إلى حضره قدسه و انفراده بمناجاته. و ظاهر أنّ إخلاصه سبب استخلاصه کما قال تعالى وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ مُوسى‏ إِنَّهُ کانَ مُخْلَصاً وَ کانَ رَسُولًا نَبِیًّا وَ نادَیْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَیْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِیًّا«».
(لد) فهو من معادن دینه.
استعار لفظ المعدن له، و وجه المشابهه اشتراکهما فی کون کلّ منهما أصلا تنتزع منه الجواهر: من المعادن أنواع الجوهر المحسوسه، و من نفس العارف جواهر العلوم و الأخلاق و سائر ما اشتمل علیه دین اللّه
(له) کونه من أوتاد أرضه
استعار له لفظ الوتد، و وجه المشابهه کون کلّ منهما سببا لحفظ ما یحفظ به فبالوتد یحفظ الموتود، و بالعارف یحفظ نظام الأرض و استقامه امور هذا العالم، و قد سبق مثله فی الخطبه الاولى: و وتّد بالصخور میدان أرضه.
(لو) کونه لزم نفسه العدل
فکان أول عدله نفى الهوى عن نفسه. لمّا کان العدل ملکه تنشأ من الملکات الثلاث: و هى الحکمه و العفّه و الشجاعه، و کان العارفون قد راضوا أنفسهم بالعباده و غیرها حتّى حصلوا على هذه الملکات الخلقیّه لا جرم کان بسعیه فی حصولها قد ألزم نفسه العدل، و لمّا کان العدل فی القوّه الشهویّه و هو أن یصیر عفیفا لا خامد الشهوه و لا فاجرا أصعب من العدل على سایر القوى لکثره موارد الشهوه و میلها بالإنسان إلى طرف الإفراط و لذلک کان أکثر المناهى الوارده فی الشریعه هى موارد الشهوه لا جرم کان مقتضى المدح أن یبدء بذکر نفى الهوى عن نفسه، و لأنّ السالک أوّل ما یبدء فی تکمیل القوّه العلمیّه بإصلاح القوّه الشهویّه فیقف عند حدود اللّه و لا یتجاوزها فی مأکول أو منکوح أو کسب و نحوه.
(لز) کونه یصف الحقّ و یعمل به
أی یتبع قول الحقّ بعمله فإنّ الخلف فی القول عند الخلق قبیح و مع اللّه أقبح و لذلک عاتب اللّه المؤمنین یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ«» و کانوا قالوا: لنفعلنّ فی سبیل اللّه ما فیه رضاه. فلمّا کان یوم احد لم یثبتوا. و أکّد عتابه بشدّه مقته لخلفهم و عدم مطابقه أقوالهم لأفعالهم.
(لح) کونه لا یدع للخیر غایه إلّا أمّها
لمّا فرغ من جزئیّات أوصاف العارف شرع فیها إجمالا فذکر أنّه طالب لکلّ غایه خیریّه: أى لا یقنع ببعض الحقّ و یقف عنده بل یتناهى فیه و یستقصى غایاته.
(لط) و کذلک هو قاصد لکلّ مظنّه له
و مظنّته کلّ محلّ أمکنه أن ینتزعه منه و یستفیده کالأولیاء و مجالس الذکر و غیرها.
(م) کونه قد أمکن الکتاب من زمامه فهو قائده. إلى آخره
فتمکینه الکتاب کنایه عن انقیاده لما اشتمل علیه من الأوامر و النواهى، و استعار لفظ الزمام لعقله و وجه المشابهه ما یشترکان فیه کون کلّ منهما آله للانقیاد، و هى استعاره لفظ المحسوس للمعقول، و کذلک استعار لفظ القائد للکتاب لکونه جاذبا بزمام عقله إلى جهه واحده مانعا عن الانحراف عنها و کذلک لفظ الإمام لکونه مقتدیا به، و قوله: یحلّ حیث حلّ ثقله و ینزل. استعار وصفى الحلول و النزول الّذین هما من صفات المسافر، و کنّى بحلوله حیث حلّ عن لزوم أثره و العمل بمقتضاه و متابعته له فی طریق سفره إلى اللّه بحیث لا ینفکّ عنه وجودا و عدما، و باللّه التوفیق.

الفصل الثانی:

قوله: وَ آخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَ لَیْسَ بِهِ- فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَ أَضَالِیلَ مِنْ ضُلَّالٍ- وَ نَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاکاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وَ قَوْلِ زُورٍ- قَدْ حَمَلَ الْکِتَابَ عَلَى آرَائِهِ- وَ عَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ- یُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ وَ یُهَوِّنُ کَبِیرَ الْجَرَائِمِ- یَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَ فِیهَا وَقَعَ- وَ یَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَ بَیْنَهَا اضْطَجَعَ- فَالصُّورَهُ صُورَهُ إِنْسَانٍ وَ الْقَلْبُ قَلْبُ حَیَوَانٍ- لَا یَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَیَتَّبِعَهُ- وَ لَا بَابَ الْعَمَى فَیَصُدَّ عَنْهُ وَ ذَلِکَ مَیِّتُ الْأَحْیَاءِ
أقول: و هذا الفصل من صفات بعض الفسّاق فی مقابله الموصوف السابق  و خصّص من تسمّى عالما و لیس بعالم بالذکر فی معرض الذمّ لأنّه أشدّ فتنه و أقوى فسادا للدین لتعدّى فتنته من نفسه إلى غیره. و ذکر له أوصافا:

الأوّل: کونه قد تسمّى عالما و لیس بعالم.
طلبا للریاسه و تحصیل الدنیا و هذا الصنف من الناس کثیر و العلماء فیهم مغمورون.
الثانی: کونه قد اقتبس جهائل من جهّال
و أضالیل من ضلّال. و الجهایل: جمع جهاله، و أراد الجهل المرکّب، و هو الاعتقاد الغیر المطابق لما فی نفس الأمر، و هذا الوصف أحد أسباب الأوّل. و نسبه الاقتباس إلى الجهل نسبه مجازیّه لما أنّ الجهل یشبه العلم فی کونه مستفادا على وجه التعلّم و التعلیم، و الأضالیل من لوازم الجهالات و هو الانحراف عن سواء السبیل، و إنّما قال من جهّال و ضلّال لیکون إثبات الجهل و الضلال له آکد فإنّ تلقّفهما عن الجهّال الضلّال و اعتقادهما أثبت و أرسخ فی النفس من سایر الجهالات.
الثالث: کونه نصب للناس أشراکا من حبال غرور و قول زور.
استعار لفظ الأشراک و الحبال لما یغرّ علماء السوء به الناس من الأقوال الباطله و الأفعال المزخرفه، و وجه المشابهه ما یشترک فیه الشرک من الحبال و غیره و سایر ما یجذب به الخلق من‏ أقوالهم و أفعالهم فی کونها محصّله للغرض فالشرک للصید و غرور هؤلاء لقلوب الخلق، و رشّح تلک الاستعاره بذکر النصب.
الرابع: قد حمل الکتاب على آرائه
للجاهل فی تفسیر کتاب اللّه تعالى مذاهب عجیبه و یکفیک منها ما تعتقده المجسّمه من ظواهره المشعره بتجسیم الصانع جلّت قدرته و تفسیرهم للکتاب على ما اعتقدوه من باطلهم.
الخامس: و عطف الحقّ على أهوائه
من فسّر ألفاظ القرآن على حسب عقیدته الفاسده و رأیه الباطل فقد عطف الحقّ على هواه: أى جعل کلّ هوى له حقّا یتّبع بتأویل ما وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِیهِنَّ.
السادس: کونه یؤمّن من العظائم و یهوّن کبیر الجرائم
أى یسهّل على الناس أمر الآخره فی موضع یحتاجون فیه إلى ذکر و عید اللّه و تذکیر هم بألیم عقابه کما یخطى الجاهلون و یعرضون عن أوامر اللّه تعالى و نواهیه فإذا حضروا مجالس جهّال الواعظین و الزهّاد توسّلوا إلى استجلاب قلوبهم و تشیید مناصبهم باجتماعهم علیهم بأن ذکروا لهم مواعید اللّه کقوله إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً و نحوه فیهوّن علیهم بذلک عظیم الوعید و أهوال الآخره و تصغّر عندهم جرائمهم الّتى ارتکبوها فی جنب ما تصوّروه من الوعد الکریم و یساعدهم میل طباعهم إلى المشتهیات الخارجه عن حدود اللّه فیعاودوا ما اقترفوه و لا کذلک العالم إذ من شأنه أن یستعمل کلّا من آیات الوعد و الوعید فی موضعها لیبقى السامعون بین خوف و رجاء فلا ینهمکوا فی اللذّات الفانیه اتّکالا على الوعد و لا یقنطوا من رحمه اللّه نظرا إلى الوعید.
السابع: یقول: أقف عند الشبهات
أى إذا انتهیت إلى أمر فیه شبهه لا أقدم علیه و فیها وقع و ذلک لجهله بمواقع الشبهه و غیرها.
الثامن: یقول أعتزل البدع:
أى ما یبتدع من الامور المخالفه لقوانین الشریعه و بینها اضطجع کنّى باضطجاعه بین البدع عن تورّطه فیها کنایه بالمستعار، و ذلک أیضا لجهله باصول الشریعه و کیفیّه تفریعها.
التاسع: فالصوره صوره الإنسان و القلب قلب حیوان
أراد بالحیوان غیر الإنسان‏ کما هو مختصّ فی العرف. و أطلق قلبه أنّه قلب حیوان کالحمار و نحوه لما بینهما من المناسبه و هو عدم صلاحیّتهما لقبول المعارف و العلوم مع میلهما إلى الشهوات.
العاشر: کونه لا یعرف باب الهدى فیتّبعه و لا باب الردى فیصدّ عنه
أى لا یعرف بجهله قانون الهدایه إلى طرق الحقّ فیسلکه و لا وجه دخوله فی الباطل فیعرض عنه، و ذلک أنّ الجاهل الجهل‏ عرض عنه، و ذلک أنّ الجاهل الجهل المرکّب لمّا حاد عن سبیل اللّه و جزم بما اعتقده من الباطل امتنع مع ذلک الجزم أن یعرف باب الهدى و مبدء الدخول إلیه فامتنع منه اتّباعه و لمّا اعتقد أنّ ما جزم به من الباطل هو الحقّ امتنع أن یعرف مبدء دخوله فی الجهل و هو باب العمى فامتنع منه أن یصدّ عنه ثمّ حکم علیه السّلام عن تلک الأوصاف أنّه میّت الأحیاء أمّا کونه میّتا فلأنّ الحیاه الحقیقیّه الّتى تطلب لکلّ عاقل و الّتى وردت الشرائع و الکتب الالهیّه بالأمر بتحصیلها هى حیاه النفس باستکمال الفضائل الّتى هى سبب السعاده الباقیه، و قد علمت أنّ الجهل المرکّب هو الموت المضادّ لتلک الحیاه فالجاهل بالحقیقه میّت. و أمّا أنّه میّت الأحیاء فلأنّه فی صوره الحىّ

الفصل الثالث:
القسم الأول
قوله: فَأَیْنَ تَذْهَبُونَ وَ أَنَّى تُؤْفَکُونَ- وَ الْأَعْلَامُ قَائِمَهٌ وَ الْآیَاتُ وَاضِحَهٌ وَ الْمَنَارُ مَنْصُوبَهٌ- فَأَیْنَ یُتَاهُ بِکُمْ وَ کَیْفَ تَعْمَهُونَ وَ بَیْنَکُمْ عِتْرَهُ نَبِیِّکُمْ- وَ هُمْ أَزِمَّهُ الْحَقِّ وَ أَعْلَامُ الدِّینِ وَ أَلْسِنَهُ الصِّدْقِ- فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ- وَ رِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِیمِ الْعِطَاشِ- أَیُّهَا النَّاسُ خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِیِّینَ ص- إِنَّهُ یَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَ لَیْسَ بِمَیِّتٍ- وَ یَبْلَى مَنْ بَلِیَ مِنَّا وَ لَیْسَ بِبَالٍ- فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ- فَإِنَّ أَکْثَرَ الْحَقِّ فِیمَا تُنْکِرُونَ- وَ اعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّهَ لَکُمْ عَلَیْهِ وَ هُوَ أَنَا- أَ لَمْ أَعْمَلْ فِیکُمْ بِالثَّقَلِ الْأَکْبَرِ- وَ أَتْرُکْ فِیکُمُ الثَّقَلَ الْأَصْغَرَ- قَدْ رَکَزْتُ فِیکُمْ رَایَهَ الْإِیمَانِ- وَ وَقَفْتُکُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلَالِ وَ الْحَرَامِ- وَ أَلْبَسْتُکُمُ الْعَافِیَهَ مِنْ عَدْلِی- وَ فَرَشْتُکُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِی وَ فِعْلِی- وَ أَرَیْتُکُمْ کَرَائِمَ الْأَخْلَاقِ مِنْ نَفْسِی- فَلَا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْیَ فِیمَا لَا یُدْرِکُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ- وَ لَا تَتَغَلْغَلُ إِلَیْهِ الْفِکَرُ

اللغه

أقول: تؤفکون: تصرفون.

و التیه: الضلال.

و العمه: الحیره و التردّد.

و عتره الرجل: أقاربه من ولده و ولد ولده و أدانى بنى عمّه.

و الهیم: الإبل العطاش.


المعنى

و أعلم أنّه لمّا قدّم المتّقین بصفاتهم و الفاسقین بصفاتهم کان فی ذکرهما تنبیه على وصفى طریقى الحقّ و الباطل و لوازمهما فلذلک أعقبهما بالتنبیه على کونهم فی صلال و تیه و عمى عن الحقّ ثمّ بالتخویف و التبکیت و التذکیر بکتاب اللّه و عتره رسوله لیلزموا سمتهم و یسلکوا بهم طریق أهل التقوى و یفیئوا عن ضلالهم إلى اقتباس أنوار الحقّ من أهله.
فقوله: فأین تذهبون. إلى قوله: منصوبه.
 سؤال عمّا یذهبون إلیه و عن وقت صرفهم عن ذلک الغىّ سؤالا على سبیل الإنکار لما هم علیه من الطریق الجائره، و الواو فی قوله: و الأعلام. للحال. و أشاره بالأعلام إلى أئمّه الدین، و وضوحها ظهورها بینهم. و کذلک المنار، و نصبها قیام الأئمّه بینهم و وجودهم فیهم، ثمّ أردف ما أنکره من ذهابهم و تعجّب منه بتفسیره فقال: فأین یتاه بکم و کیف تعمهون، و نبّه به إلى أنّ الذهاب الّذى سئلهم عنه هو تیه فی الضلال و حیره الجهل و التردّد فی الغىّ، و تبیّن منه أنّ قوله: و أنّى تؤفکون: أى متى تصرفون عن تیهکم و ذهابکم فی الضلاله. ۳۰۱ و قوله: و بینکم عتره نبیّکم. الواو للحال أیضا فالعامل تعمهون، أویتاه بکم، و کذلک الواو فی قوله: و هم أزمّه الحقّ: و المعنى کیف یجوز أن تتیهوا فی ظلمات الجهل مع أنّ فیکم عتره نبیّکم، و أراد بعترته أهل بیته علیهم السّلام و إلیه الإشاره بقول الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم: و خلّفت فیکم ما إن تمسّکتم به لن تضلّوا کتاب اللّه و عترتى أهل بیتى لن یفترقا حتّى یردا علىّ الحوض. و استعار لهم لفظ الأزمّه، و وجه المشابهه کونهم قاده للخلق إلى طریق الحقّ کما یقود الزمام الناقه إلى الطریق، و کذلک استعار لهم لفظ الألسنه، و وجه المشابهه کونهم تراجمه الوحى الصادق کما أنّ اللسان ترجمان النفس، و یحتمل أن یرید بکونهم ألسنه الصدق أنّهم لا یقولون إلّا صدقا.

و قوله: فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن.
 فاعلم أنّ للقرآن منازل: الاولى القلب. و هو فیه بمنزلتین: إحداهما منزله الإکرام و التعظیم، و الثانیه منزله التصوّر فقط من دون تعظیم. الثالثه: منزلته فی الوجود اللسانىّ بالتلاوه. الرابعه: منزلته فی الدفاتر و الکتب، و أحسن منازله هى الاولی. فالمراد إذن الوصیّه بإکرامهم و محبّتهم و تعظیمهم کما یکرم القرآن بالمحبّه و التعظیم.

و قوله: وردوهم ورود الهیم العطاش.
 إرشاد لهم إلى اقتباس العلوم و الأخلاق منهم إذ کانوا معادنها. و لمّا کانت العلماء و الأئمّه تشبه بالینابیع، و العلم یشبه بالماء العذب، و عادمه بالعطشان حسن منه أن یأمرهم بورودهم و أن یشبه الورود المطلوب منهم بورود الإبل العطاش.

و قوله: أیّها الناس. إلى قوله: ببال
لمّا کان علیه السّلام فی معرض ذکر الفائده فکأنّها قد تقدّم ذکرها فلذلک أحسن إبراز الضمیر فی قوله: خذوها. و إن لم یسبق لها ذکر، و إشاره النبىّ بهذه الکلمه تقریر لقوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ‏
فَرِحِینَ«» و لما اتّفقت علیه کلمه العلماء، و نطقت به البراهین العقلیّه أنّ أولیاء اللّه لا یموتون و لا یبلون و إن بلیت أجسادهم.
قال بعض الخائضین فیما لا یعنیه قوله: و یبلى من بلى منّا نصّ جلىّ على أنّ أجساد الأولیاء ت لى و ذلک یخالف ما یعتقده الناس من أنّ أجسادهم باقیه إلى یوم القیامه بحالها.
قلت الاعتقاد المذکور لبعض الناس إنّما نشأ من قول الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم فی قتلى بدر زمّلوهم بکلومهم و دمائهم فإنّهم یحشرون یوم القیامه و أوداجهم تشخب دما و قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ الآیه و لیس و لا واحد منهما بدالّ على أنّ الأجساد لا تموت و لا تبلى أمّا الخبر فلیس مقتضاه أنّها تبقى صحیحه تشخب دما إلى یوم القیامه بل ذلک ممّا یشهد ببطلانه الحسّ بل یحمل على أنّها کما تعاد یوم القیامه تعاد مجروحه تشخب جراحها دما کهیئتها یوم موتها، و أمّا الآیه فالّذى أجمع علیه علماء المفسّرین أنّ الحیاه المذکوره فیها هى حیاه النفوس و هو ظاهر فی سبب نزولها عن ابن عباس- رضوان اللّه علیه- قال: قال رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و سلّم: لمّا اصیب إخوانکم باحد جعل اللّه أرواحهم فی أجواف طیور خضر ترد أنهار الجنّه و تأکل من ثمارها و تأوى إلى قنادیل من ذهب معلّقه فی ظلّ العرش فلمّا وجدوا طیب مأکلهم و مشربهم و مقیلهم قالوا: من یبلغ إخواننا عنّا أنّا فی الجنّه نرزق لئلّا یزهد فی الجهاد و لا ینکلوا عند الحرب فقال اللّه عزّ و جلّ أنا أبلغهم عنکم فنزلت وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا الآیه فإذن لا منافاه بین کلامه علیه السّلام و ما ورد فی القرآن و الخبر و مقصوده بهذه الکلمه تقریر فضیلتهم و أنّهم أولیاء باقون عند ربّهم فی ظلّ کرامته.

و قوله: فلا تقولوا بما لا تعرفون.
 تنبیه على الرجوع إلى العتره العارفین بما ینبغی أن یقال و قوله: فإنّ أکثر الحقّ فیما تنکرون تأکید للأمر بالتثبّت فی الأقوال و النهى عن التسرّع إلیها، و الجاهل قد ینکر الحقّ إذا خالف طبعه أو نبا عنه فهمه أو سبق اعتقاد ضدّه إلیه بشبهه أو تقلید فنبّه على أنّ أکثر الحقّ فیما ینکرونه لئلّا یتسرّعوا إلى القول من غیر علم،و لذلک ذکر هذه القضیّه مرتّبه بفاء التعلیل.

و قوله: و أعذروا من لا حجّه لکم علیه و هو أنا.
 طلب علیه السّلام العذر منهم فیما یلحقهم من عذاب اللّه بسبب تقصیرهم فإنّ الضرر اللاحق لهم قد انذروا به و توعّدوا فلو قصّرهو علیه السّلام فی تذکیرهم بتلک الوعیدات أو الإنذارات مع کون ذلک مأخوذا علیه من اللّه تعالى فکانت حجّتهم علیه قائمه و لمّا کان له عذر لکنّه بلّغ و حذّر و قد أعذر من أنذر و إنّما ذکّرهم بسلب الحجّه عنهم فی ذلک لیتذکّروا خطأهم و لعلّهم یرجعون.

و قوله: أ لم أعمل فیکم إلى قوله: من نفسى.
 تفصیل لما جاءهم به من الجواذب إلى اللّه فأعذر إلیهم بها و أتى بلفظ الاستفهام على سبیل التقریع و التبکیت و الثقل الأکبر کتاب اللّه، و أشار بکونه أکبر إلى أنّه الأصل المتّبع المقتدى به، و الثقل الأصغر الأئمّه من ولده علیهم السّلام، و کنّى برایه الإیمان عن سنّه المتّبعه و طریقه الواضحه فی العمل بکتاب اللّه و سنّه رسوله کنایه بالمستعار، و وجه المشابهه کونه طریقه یهتدى بها إلى سلوک سبیل اللّه کما یهتدى بالأعلام و الرایات أمام الجیش و غیره، و لفظ الرکز ترشیح للاستعاره کنّى به عن إیضاحها لهم و توقیفه على حدود الحلال و الحرام تعریفهم إیّاها و أراد بالعافیه السلامه عن الأذى الحاصل من أیدی الظالمین، و استعار لفظ اللباس لها، و وجه الاستعاره أنّ العافیه تشمل المعافى کالقمیص، و کذلک استعار لفظ الفرش للمعروف لکونه إذا وطیت قواعده یستراح به کالفراش.

و قوله: و أریتکم کرایم الأخلاق من نفسى
و قوله: و أریتکم کرایم الأخلاق من نفسى: أى أوضحتها لکم و شاهدتموها منّى متکرّره.

و قوله: فلا تستعملوا الرأى إلى آخره.
نهى لهم عن الاشتغال بالخوض فی صفات اللّه و البحث عن ذاته على غیر قانون و استاد مرشد بل بحسب الرأی و التخمین فإنّ تلک الدقایق لمّا کانت لا ساحل لها و لا غایه یقف الفکر عندها و إن تغلغل فی أعماقها و کانت مع ذلک فی غایه العسر و الدقه و کثره الاشتباه‏ کان تداولهم للاشتغال بها مؤدّیا إلى الخبط و افتراق المذاهب و تشتّت الکلمه و الاشتغال بذلک عن الانتظام فی سلک الدین و الاتّحاد فیه کما علیه من ینتسب إلى العلم بعده و کلّ ذلک منه مطلوب الشارع فإنّ الالفه و الاتّحاد فی الدین من أعظم مطلوباته و یحتمل أن یرید مطلق دقایق العلم و تفریع الفقه على غیر قانون من إمام هدى بل الرأى عن أدنى وهم.


القسم الثانی
منها: حَتَّى یَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْیَا مَعْقُولَهٌ عَلَى بَنِی أُمَیَّهَ- تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا وَ تُورِدُهُمْ صَفْوَهَا- وَ لَا یُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّهِ سَوْطُهَا وَ لَا سَیْفُهَا وَ کَذَبَ الظَّانُّ لِذَلِکَ- بَلْ هِیَ مَجَّهٌ مِنْ لَذِیذِ الْعَیْشِ یَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَهً- ثُمَّ یَلْفِظُونَهَا جُمْلَهً

اللغه

أقول: معقوله: محبوسه. و المجّه: الفعله من مجّ الشراب إذا قذفه من فیه. و البرهه: المدّه من الزمان فیها طول. و لفظ کذا: ألقاه من فیه.

المعنى

و هذا الکلام من فصل یذکر فیه حال بنى امیّه و طول مدّتهم و بلاء الخلق بهم فقوله: یظنّ الظانّ. إلى قوله: سیفها. غایه من غایات طول عناء الناس معهم و استعار للدنیا أوصافا: أحدها: کونها معقوله، و وجه الاستعاره ملاحظه شبهها بالناقه فی کونها محبوسه فی أیدیهم کما تحبس الناقه بالعقال. الثانی: کونها ذات درّ نمنحهم إیّاه، و وجه الاستعاره أیضا تشبیهها بالناقه فی کون ما فیها من فوائدها و خیرها مهیّئه لهم و مصبوبه علیهم کما تبذل الناقه درّها حالبها. الثالث: کونها توردهم صفوها، و نسبه الایراد إلیها مجاز، و تجوّز بالسوط و السیف فیما فیه الامّه معهم من العذاب و القتل و نحوه استعمالا للفظ السبب فی المسبّب و قوله: و کذب الظانّ لذلک. إلى آخره ردّ لما عساه یظنّ من ذلک بتحقیر ما حصلوا علیه من الأمر و لذّتهم به و تحقیر مدّته، و استعار لذلک لفظ المجّه، و کنّى بکونها مطعومه لهم عن تلذّذهم ها مده إمرتهم، و بکونها ملفوظه عن زوال الآخره عنهم، و أکّد ذلک الزوال بقوله: جمله: أى بکلّیّتها و هی کنایه بالمستعار تشبیها لها باللقمه الّتى لا یمکن إساغتها، و باللّه التوفیق.

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی ج ۲ ، صفحه‏ى ۳۰۵

 

بازدیدها: ۵۹

خطبه ۸۳ ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

و فیها فصول:

الأوّل:

قوله: قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ وَ خَبَرَ الضَّمَائِرَ- لَهُ الْإِحَاطَهُ بِکُلِّ شَیْ‏ءٍ وَ الْغَلَبَهُ لِکُلِّ شَیْ‏ءٍ- وَ الْقُوَّهُ عَلَى کُلِّ شَیْ‏ءٍ
و هذا الفصل یشتمل على بعض أوصاف الحقّ سبحانه:
الأوّل: کونه عالما بالسرائر و هو کقوله تعالى یَعْلَمُ سِرَّکُمْ وَ جَهْرَکُمْ.

الثانی: کونه خبیرا بالضمایر. و هو قریب من المرادف للعالم بالسرایر فإنّ الخبیر هو الّذى لا یعزب عنه الأخبار الباطنه و لا تضطرب نفس و لا تسکن إلّا و یکون عنده خبرها و ذلک بعینه هو العالم مضافا إلى السرائر و الخفایا الباطنه و إن کان مطلق العلم أعمّ.

الثالث: کونه محیطا بکلّ شی‏ء. و هو إشاره إلى علمه بکلّیّات الأشیاء و جزئیّاتها، و علیه اتّفاق جمهور المتکلّمین و الحکماء: أمّا المتکلّمون فظاهر، و أمّا المحقّقون من الحکماء فملخّص کلامهم إجمالا فی کیفیّه علمه تعالى أنّه یعلم ذاته بذاته و یتّحد هناک المدرک و المدرک و الإدراک و لا یتعدّد إلّا بحسب الاعتبارات العقلیّه الّتى تحدثها العقول البشریّه. و أمّا معلولاته القریبه منه فیکون بأعیان ذواتها و یتّحد هناک المدرک و الإدراک و لا یتعدّدان إلّا باعتبار عقلىّ و یغایرهما المدرک، و أمّا معلولاته البعیده کالمادیّات و المعدومات الّتى من شأنها إمکان أن توجد فی وقت أو یتعلّق بموجود فیکون بارتسام صورها المعقوله من المعلولات القریبه الّتى هى المدرکات لها أوّلا و بالذات و کذلک إلى أن ینتهى إلى إدراک المحسوسات بارتسامها فی آلات مدرکاتها. قالوا: و ذلک لأنّ الموجود فی الحاضر حاضر و المدرک للحاضر مدرک لما یحضر معه فإذن لا یعزب عن علمه مثقال ذرّه فی السماوات و لا فی الأرض و لا أصغر من ذلک و لا أکبر لکون ذوات معلولاته القریبه مرتسمه بجمیع الصور و هى الّتى یعبّر عنها تاره بالکتاب المبین و تاره باللوح المحفوظ و تسمّى عندهم عقولا فعّاله.

الرابع: کونه تعالى غالبا لکلّ شی‏ء.

الخامس: کونه قویّا على کلّ شی‏ء، و هما إشارتان إلى وصف قدرته تعالى بالتمام على کلّ مقدور فإنّ القوّه علیها و الغلبه لها من تمام القدره و یفهم من الغالب زیاده على القوىّ و یعود إلى معنى القاهر. و قد سبق بیانه، و أمّا بیان صدق هاتین لقضیّتین فببیان أنّه تعالى مبدء کلّ موجود و أنّ کلّ ممکن مفتقر فی سلسله الحاجه إلیه، و قد فرغ من ذلک فی الکتب الکلامیّه.

الفصل الثانی
قوله: فَلْیَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْکُمْ فِی أَیَّامِ مَهَلِهِ قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ- وَ فِی فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ- وَ فِی مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ یُؤْخَذَ بِکَظَمِهِ- وَ لْیُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَ قَدَمِهِ وَ لْیَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ- فَاللَّهَ اللَّهَ أَیُّهَا النَّاسُ فِیمَا اسْتَحْفَظَکُمْ مِنْ کِتَابِهِ- وَ اسْتَوْدَعَکُمْ مِنْ حُقُوقِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یَخْلُقْکُمْ عَبَثاً وَ لَمْ یَتْرُکْکُمْ سُدًى- وَ لَمْ یَدَعْکُمْ فِی جَهَالَهٍ وَ لَا عَمًى قَدْ سَمَّى آثَارَکُمْ- وَ عَلِمَ أَعْمَالَکُمْ وَ کَتَبَ آجَالَکُمْ- وَ أَنْزَلَ عَلَیْکُمُ الْکِتَابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ‏ءٍ- وَ عَمَّرَ فِیکُمْ نَبِیَّهُ أَزْمَاناً حَتَّى أَکْمَلَ لَهُ وَ لَکُمْ- فِیمَا أَنْزَلَ مِنْ کِتَابِهِ دِینَهُ الَّذِی رَضِیَ لِنَفْسِهِ- وَ أَنْهَى إِلَیْکُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَکَارِهَهُ- وَ نَوَاهِیَهُ وَ أَوَامِرَهُ وَ أَلْقَى إِلَیْکُمُ الْمَعْذِرَهَ- وَ اتَّخَذَ عَلَیْکُمُ الْحُجَّهَ وَ قَدَّمَ إِلَیْکُمْ بِالْوَعِیدِ- وَ أَنْذَرَکُمْ بَیْنَ یَدَیْ عَذابٍ شَدِیدٍ فَاسْتَدْرِکُوا بَقِیَّهَ أَیَّامِکُمْ وَ اصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَکُمْ- فَإِنَّهَا قَلِیلٌ فِی کَثِیرِ الْأَیَّامِ الَّتِی تَکُونُ مِنْکُمْ فِیهَا الْغَفْلَهُ- وَ التَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَهِ وَ لَا تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِکُمْ- فَتَذْهَبَ بِکُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الظَّلَمَهِ- وَ لَا تُدَاهِنُوا فَیَهْجُمَ بِکُمُ الْإِدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِیَهِ- عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ- وَ إِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ- وَ الْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ وَ الْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِینُهُ- وَ السَّعِیدُ مَنْ وُعِظَ بِغَیْرِهِ- وَ الشَّقِیُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ یَسِیرَ الرِّیَاءِ شِرْکٌ- وَ مُجَالَسَهَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاهٌ لِلْإِیمَانِ وَ مَحْضَرَهٌ لِلشَّیْطَانِ- جَانِبُوا الْکَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِیمَانِ- الصَّادِقُ عَلَى شَرَفِ مَنْجَاهٍ وَ کَرَامَهٍ- وَ الْکَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاهٍ وَ مَهَانَهٍ- وَ لَا تَحَاسَدُوا- فَإِنَّ الْحَسَدَ یَأْکُلُ الْإِیمَانَ کَمَا تَأْکُلُ النَّارُ الْحَطَبَ- وَ لَا تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَهُ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ یُسْهِی الْعَقْلَ- وَ یُنْسِی الذِّکْرَ فَأَکْذِبُوا الْأَمَلَ- فَإِنَّهُ غُرُورٌ وَ صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ

المعنى

أقول: الفصل إلى آخره شروع فی الموعظه و المشوره، و لمّا قدّم الإشعار بأنّ اللّه تعالى عالم بما فی الصدور غالب على کلّ مقدور أمرهم بعده بالعمل و أراد الأعمال الصالحه المطلوبه بالتکالیف الشرعیّه و أن یجعلوها مهادا لثبات أقدامهم على الصراط المستقیم المأمور بسلوکه ثمّ تلطّف بالجذب إلى العمل بتذکیرهم بأنّهم فی أیّام مهله و فراغ و متنفّس خناق یمکنهم فیه العمل و أنّ الّذى یعملونه من الصالحات هو زاد لهم فی سفرهم إلى اللّه و إلى دار إقامتهم و أنّ وراء هذه المهله إدراک أجل بعده شغل بأهوال الآخره و أخذ بالکظم، و کنّى به عن عدم التمکّن من العمل إذ لم تکن الآخره دار عمل ثمّ أبّه بالناس و حذّرهم ربّهم أن یخالفوا فیما أمرهم بحفظه و هو کتابه، و عنى بحفظه تدبّر ما فیه و المحافظه على العمل بأوامره و نواهیه و هى حقوقه الّتى استودعهم إیّاها ثمّ علّل ذلک بتنبیههم على أنّ اللّه تعالى لم یخلقهم عبثا خالیا عن وجه الحکمه بل خلقهم لیستکملوا الفضایل النفسانیّه بواسطه الآلات البدنیّه و لم یجعلهم فی وجودهم مهملین بل ضبط آثارهم و أعمالهم و کتب آجالهم فی کتابه المبین و ألواحه المحفوظه إلى یوم الدین و نظم وجودهم برسول کریم عمّره فیهم و کتاب أوضح لهم فیه السبیل الّتى لسلوکها خلقهم و أکمل لهم و لنبیّه دینهم الّذى ارتضى لهم و ما أهّلهم له من الکمالات المسعده فی الآخره کما قال تعالى حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَهُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِیرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَیْرِ اللَّهِ«» هو بلّغهم على لسانه ما أحبّ لهم من الخیرات الباقیه و کرّهه لهم عن الشرور المشقیه فی الآخره کما اشتملت علیه أوامره و نواهیه و أبان لهم فیه الأعذار و أوضح فیه الحجج و شحنه بالوعید و النذر بین یدی عذاب شدید، و استعار لفظ الیدین للعذاب و کنّى ببین یدیه عن‏ الوقت المتقدّم على عذاب الآخره المشارف له، و وجه المشابهه أنّ الإنذار بالمخوف یکون من ذى سطوه و بأس شدید فکأنّه نزّل العذاب الشدید بمنزله المعذّب فاستعار له یدین و جعل الإنذار و التخویف منه متقدّما له بین یدیه و ذلک من الجواذب اللطیفه، ثمّ عاد إلى أمرهم باستدراک بقیّه أوقاتهم فی الدنیا و أن یصبّروا لها أنفسهم: أى یلزموا أنفسهم فیها الصبر على الأعمال الصالحه، و فی لفظ الاستدراک إشعار بتقدیم تفریط منهم فی جنب اللّه و لذلک قال: فإنّها قلیل فی کثیر الأیّام الّتى تکون منکم فیها الغفله و التشاغل عن الموعظه. و إنّما قال: لها. لأنّ کلّ وقت یستحقّ أن یوقع فیه ما ینبغی من الأفعال فصدق علیها أنّ ذلک الفعل لها.

قوله: و لا ترخّصوا لأنفسکم. إلى قوله: المعصیه [المصیبه خ‏].
 أقول: لیس المقصود بالرخصه هنا الرخصه الشرعیّه بل ما یتساهل الإنسان فیه مع نفسه من تنویع المآکل و المشارب و المناکح و الخروج فیها إلى ما لا ینبغی فی نفس الأمر و یتأوّل له تأویلا و حیله یخیّل أنّها جایزه فی الشریعه و یروّج بها اتّباعه لهواه، و نحوه الاجتماع فی السماع لغیر أهله، و حضور مجالس الفسّاق، و معاشره الظالمین. و الضابط الکلّى فی هذا الباب هو توسّع الإنسان فی الامور المباحه و استیفاؤه حدّه فإنّه من فعل ذلک شارف المکروه ثمّ ربما لحظ أنّه لا عقاب فی فعله فقادته شهوته إلى فعله فاستوفى حدّه فشارف المحظور، و ذلک أنّ العقل إذا أطاع النفس الأمّاره بالسوء فیما تأمر به مرّه و مرّه لم یبق له نفار عمّا تقوده إلیه لوقوع الانس به. و ظاهر أنّ ارتکاب بعض مأموراتها یجرّ إلى ارتکاب بعض فیؤدّى ذلک إلى تجاوز الحدود الشرعیّه و عبورها إلى الوقوع فی حبائل الشیطان و التهوّر فی المحظورات الّتى هى مهاوى الهلاک، و لذلک ما ورد فی الخبر: من رتع حول الحمى أو شک أن یقع فیه و قد شبّه العارفون القلب بالحصن و الشیطان بعدّ و یرید أن یدخله و لم یمکن دفع ذلک العدوّ و التحفّظ منه إلّا بضبط أبواب ذلک الحصن الّتى منها الدخول إلیه و حراستها و هى أبواب کثیره کسایر المحرّمات و مساهله النفس فی التوسّع فی المباحات و الدخول فی الامور المشتبهه من أعظم تلک الأبواب و دخول الشیطان منه أسهل و هو علیه أقدر و لذلک قال علیه السّلام: فتذهب بکم الرخص فیها مذاهب‏ الظلمه، و لا تداهنوا فیهجم بکم الإدهان على المعصیه [المصیبه خ‏]. و مذاهب الظلمه مسالکها و طرقها العادله من العدول، و روى: أنّ إبلیس ظهر لیحیى بن ذکریّا علیه السّلام فرأى علیه معالیق کلّ شی‏ء فقال له: یا إبلیس ما هذه المعالیق قال: هذه هى الشهوات الّتى اصیب بهنّ قلوب بنى آدم فقال: هل بى فیها شی‏ء قال: نعم ربّما شبعت فشغلناک عن الصلاه و عن الذکر قال: هل غیر ذلک قال: لا قال: للّه علىّ أن لا أملأ بطنى من طعام أبدا فقال إبلیس: للّه علىّ أن لا أنصح مسلما أبدا. و لا تداهنوا: أى لا تسالموا الظلمه و تساهلوا معهم فی السکوت عما ترونه من منکراتهم فیهجم بکم الإدهان على المعصیه: أى إذا آنستم بمشاهده المعاصى و ألفتم تکرارها کنتم بذلک عصاه و ربّما ساقکم ذلک إلى فعل المنکر و مشارکتهم فیه.

و قوله: عباد اللّه. إلى آخره إخبارات فی معنى الأوامر و النواهى
و قوله: عباد اللّه. إلى آخره إخبارات فی معنى الأوامر و النواهى و أوامر و نواهى صریحه مشتمله على جواذب إلى طاعه اللّه و لزوم دینه.
فالأوّل: قوله: إنّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربّه
و بیانه أنّه لمّا کان غرض الناصح إنّما هو جلب الخیر و المنفعه إلى المنصوح، و کان أجّل خیر و منفعه هو السعاده الباقیه الأبدیّه و مشاهده الحضره الربوبیّه، و کانت تلک السعاده إنّما تنال بطاعه اللّه تعالى فکلّ من کانت طاعته للّه أتمّ فکان هوأنصح الناس لنفسه بمبالغته فی طاعته.

الثانی: قوله: و إنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه
و هو ظاهر ممّا قرّرناه فإنّه لمّا کانت غایه الغشّ إنّما هو جلب الشرّ و المضرّه إلى المغشوش، و کان أعظم شرّ و ضرر یلحق العبد هو الشقاوه الأبدیّه فی قرار الجحیم، و کانت تلک إنّما یحصل الإنسان علیها بمعصیه اللّه تعالى فکلّ من کانت معصیته أتمّ کانت شقاوته أتمّ فکانت هو أغشّ الناس لنفسه بمبالغته فی معصیته. و حاصل القضیّه الاولى الأمر بالطاعه أتمّ ما یمکن و الثانیه النهى عن المعصیه أتمّ ما یمکن. و رغّب فی الطاعات بذکر نصیحه النفس لما أنّ النصیحه محبوبه و نفّر عن المعصیه بذکر غشها.

الثالث: قوله: و المغبون من غبن نفسه
و المراد من غبنها بالمعصیه المستلزمه لدخول النار فکأنّ الإنسان بمتابعه شیطانه خادع لنفسه، و قد بخسها ما تستحقّه من ثواب اللّه، و لمّا کانت السعاده الاخرویّه أعظم ما یتنافس فیه لا جرم کان أعظم مغبون من لم یفز بها فلذلک حصر المغبون فیه على طریق المبالغه و هو خبر فی معنى النهى عن المعصیه، و نفّر عنها بذکر غبن النفس.

الرابع: قوله: و المغبوط من سلم له دینه
و الغبطه أن یتمنّى الإنسان مثل ما لغیره من حال أو مال مع قطع النظر عن تمنّى زوال تلک الحال عمّن هى له، و بهذا القید یتمیّز عن الحسد، و القضیّه ظاهره ممّا قبلها فإنّه لمّا کان من سلم دینه فائزا بالسعاده الکبرى الباقیه مع کونها أجلّ ما یغبط به و یتنافس فیه لا جرم کان هو أعظم مغبوط و لذلک حصر المغبوط فیه مبالغه، و رغّب فی المحافظه على الدین بکون من سلم له مغبوطا.

الخامس: قوله: و السعید من وعظ بغیره
و قد صارت هذه القضیّه فی معنى المثل: أى السعید فی الآخره من اعتبر حال غیره فشاهد بعین بصیرته مصیر الظالمین فخاف عاقبتهم فعدل عن طریقهم و تذکّر حال المتّقین فمال إلى جادّتهم و سلک مسالکهم و رغّب فی الاتّعاظ بالغیر بذکر استلزامه للسعاده.

السادس: و کذلک الشقىّ فی الآخره
من انخدع لهواه و غروره و نفّر عن اتّباع الهوى بذکر الخداع و الغرور.

السابع: التنبیه على أنّ یسیر الریاء شرک
و قد سبق منّا بیان أنّ الریاء فی العباده و إن قلّ التفات مع اللّه إلى غیره و إدخال له بالقصد بالعمل و الطاعه و ذلک فی الحقیقه شرک خفىّ اتّفقت علیه أرباب القلوب.

الثامن: قوله: و مجالسه أهل الهوى منساه للایمان و محضره للشیطان
أراد بأهل الهوى الفسّاق المنقادین لدواعى الشیطان إلى الشهوات الخارجه عن حدود اللّه، و نفّر عن مجالستهم بأنّها محلّ للأمرین: أحدهما: نسیان الإیمان و هو ظاهر فإنّ أهل الهوى أبدا مشغولون بذکر ما هم فیه من لعب و لهو خائضون فی أصناف الباطل و. أنواعه فمجالستهم عن رغبه مظنّه الغفله عن ذکر اللّه و الانجذاب إلى ما هم علیه عن الأعمال الصالحه و تلک أرکان الإیمان و قواعده، و قد علمت أنّ کثره الغفلات عن الشی‏ء تؤول إلى نسیانه و انمحائه عن لوح الخیال و الذکر، و ربّما یتجوّز فی مطلق الغفله عن أوقات العباده والذکر بالنسیان تسمیه للشی‏ء باسم ما یؤول إلیه. الثانی: کونها محلّا لحضور الشیطان، و قد علمت معنى الشیطان و أنّ کلّ محلّ عصى اللّه فیه فهو محضر للشیطان و موطن له.

التاسع: الأمر بمجانبه الکذب
و نفّر عنه بقوله: فإنّه مجانب للإیمان، و هو حدیث نبویّ، و معنى المجانبه کون کلّ منهما فی جانب فإن کانت الأعمال الصالحه داخله فی مسمّى الایمان فالصدق من جملتها و مضادّ الصدق مضادّ للایمان و أحد الضدین مجانب للآخر فالکذب مجانب للایمان، و إن لم یکن کذلک قلنا: إنّ الکذب أعظم الرذائل الموبقه، و الایمان أعظم الفضایل المنقذه، و بین الفضایل و الرذائل منافاه ذاتیّه فالکذب مناف للایمان و مجانب له، و یحتمل أن یکون معنى مجانبته له کونه غیر لایق أن یجامعه فی محلّ واحد و غیر مناسب له. و بالجمله کونه لیس منه فی شی‏ء، و قد بیّنا ما یشتمل علیه الکذب من المضارّ المهلکه، ثمّ أردف ذلک بالترغیب فی الصدق بکون الصادق على شرف منجاه: أى مشارف لنجاه و کرامه أو لمحلّهما و هو الجنّه إذ الصدق باب من أبوابها ثمّ بالتنفیر عن الکذب بکون الکاذب على شرف مهواه و مهانه: أى هوى و هوان أو محلّهما و هو حضیض الجحیم الّذى هو محلّ الهوان إذ الکذب باب من أبوابها، و من انتهى إلى الباب فقد شارف الدخول، و عن الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم: إیّاکم و الکذب فإنّه یهدى إلى الفجور، و إنّ الفجور یهدى إلى النار، و إنّ الرجل لیکذب حتّى یکتب عند اللّه کذّابا، و علیکم بالصدق فإنّ الصدق یهدى إلى البرّ و إنّ البرّ یهدى إلى الجنّه و إنّ الرجل لیتحرّى الصدق حتّى یکتب عند اللّه مصداقا، و قال صلى اللّه علیه و آله و سلّم: الکذب رأس النفاق. و هو ظاهر فإنّ مدار النفاق على المصانعه بالقول الغیر المطابق لما فی نفس الأمر و هو حقیقه الکذب.

العاشر: النهى عن الحسد
و قد اتّفق أرباب القلوب على أنّه من أعظم أبواب الشیطان الّتى یدخل بها على القلب و هو أحد العوارض الردیئه للنفس و یتولّد من اجتماع البخل و الشریّه فی النفس، و أعنى بالشریر من تلتذّ طباعها بمضارّ تقع بالناس و یکره ما یوافقهم و إن کانوا ممّن لا یرونه و لم یسیئوا إلیه، و قد علمت أنّ من هذه صفته مستحقّ للمقت من اللّه عزّ و جلّ و ذلک أنّه مضادّ لإرادته‏ إذ هو تعالى المتفضّل على المزید للخیرالمطلق للکلّ. و قد رسّم الحسد بأنّه اغتمام الإنسان بخیر یناله غیره من حیث لا مضرّه منه علیه، و قد یوجد الحسد ممّن له نفع ما من المحسود، و یسمّى الحسد البالغ. و أمّا تعلیله وجوب ترکه بأنّه یأکل الحسنات کما تأکل النار الحطب: فاعلم أنّ العلماء قد اتّفقوا على أنّ الحسد مضرّ بالنفس و الجسد: أمّا بالنفس فلأنّه یذهلها و یغرق فکرها بالاهتمام بأمر المحسود حتّى لا یفرغ للتصرّف فیما یعود نفعه علیها بل و ینسى ما حصلت علیه من الملکات الخیریّه الّتى هى الحسنات المنقوشه فی جوهرها و یضمحلّ على طول تعوّد الحسد و اشتغال الفکر فیه و طول الحزن و الهمّ لأنّ نعم اللّه على عباده أکثر من أن تحصى فإذا کان الحسد بها دام فانقطع وقت الحاسد به عن تحصیل الحسنات، و أمّا بالجسد فلأنّه یعرض له عند حدوث هذه الأعراض للنفس طول السهر و سوء الاغتذاء و یعقّب ذلک رداءه اللون و سوء السجیّه و فساد المزاج.
إذا عرفت ذلک فنقول: إنّه قد استعار هاهنا لفظ الأکل لکون الحسد ماحیا لما فی النفس من الخواطر الخیریّه الّتى هى الحسنات و مانعا من صیرورتها ملکات و ذلک بسبب استغراقها فی حال المحسود و اشتغالها به، و شبّه ذلک بأکل النار الحطب. و وجه الشبه ما یشترک فیه الحسد و النار من إفناء الحسنات و الحطب و استهلاکهما.

الحادى عشر: النهى عن التباغض
و تعلیله ذلک بأنّها الحالقه، و اعلم أنّه لمّا کان أمر العالم لا ینتظم إلّا بالتعاون و التضافر، و کان التعاون إنّما یتمّ بالالفه و کان أقوى أسباب الالفه هو المودّه و المؤاخاه بین الخلق کانت المودّه من المطالب المهمّه للشارع، و لذلک آخا رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و سلّم، بین أصحابه لتخلص محبّتهم و تصفو الفتهم و یصدق بینهم التعاون و التضافر و الاتّحاد فی الدین، و قال صلى اللّه علیه و آله و سلّم: المرء کبیر بأخیه و لا خیر فى صحبه من لا یرى لک من الحقّ مثل ما ترى له. فلذلک کان التباغض بینهم منهیّا عنه مکروها فی الشریعه لما یستلزمه من التقاطع بینهم و عدم تعاونهم و تضافرهم، و بسبب ذلک تتخطّف کلّا منهم أیدى حاسدیه و تتحکّم فیه أهواء أعادیه فلم تسلم له نعمه و لا تصفو له مدّه بل یکون بذلک بواره و اضمحلال النوع و هلاکه، و لذلک قال علیه السّلام: فإنّها الحالقه. و أصل هذا اللفظ مستعار ممّا یحلق الشعر کالموسى و نحوها للدواهى وأسباب الشرّ ثمّ صار مثلا و قد وقع هاهنا موقعه من الاستعاره، و وجه المشابهه أنّ الموسى مثلا کما أنّها سبب لحلق الشعر و استیصاله کذلک التباغض سبب لاستیصال الخلق بعضهم بعضا.

الثانی عشر: التنبیه على مضارّ الأمل للدنیا
تنفیرا عنه و الأمر بتکذیبه المستلزم للنهى عنه. فأمّا مضارّه: فأحدها: أنّه یوجب سهو العقل: أى عمّا هو الأولى بالإنسان فی معاشه و معاده و هو ظاهر فإنّ الآمل أبدا مشغول الفکر بما یأمله و یرجوه و فی کیفیّه تحصیله و کیفیّه العمل به بعد حصوله و شغله بذلک یستلزم إعراضه عن غیره إذ ما جعل اللّه لرجل من قلبین فی جوفه. الثانیه: أنّه ینسى الذکر: أى ذکر اللّه تعالى بعد الموت من أحوال الآخره، و ذلک باستغراقه فیما یأمله من أحوال الدنیا کما مرّ. الثالثه: أنّه غرور و صاحبه مغرور، و روى بفتح الغین من غرور و ضمّها، و وجه الفتح أنّ الأمل لیس هو نفس الغفله عن الذکر و غیره بل مستلزم لها فلذلک صدقت نسبه الغرور إلیه، و وجه الضمّ أنّه مجاز من باب إطلاق اسم اللازم على ملزومه، و أمّا تکذیبه فبذکر الموت و دوام إخطاره بالبال و ملاحظه المرجع و المعاد، و إنّما سمىّ ردّ الأمل تکذیبا له لأنّ النفس حال توقّعها للمأمول تکون حاکمه حکما و همیّا ببلوغه و نیله فإذا رجعت إلى صرف العقل و ملاحظه الموت و جواز الانقطاع به عن بلوغ مارجته کان تجویزها ذلک مکذّبا لما جزم به الوهم من الأحکام و رادّا له. و باللّه التوفیق.

 شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ،ج ۲ صفحه‏ى ۲۸۰

بازدیدها: ۱۷

خطبه ۸۲ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام

القسم الأول

وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِیکَ لَهُ- الْأَوَّلُ لَا شَیْ‏ءَ قَبْلَهُ وَ الْآخِرُلَا غَایَهَ لَهُ- لَا تَقَعُ الْأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَهٍ- وَ لَا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى کَیْفِیَّهٍ- وَ لَا تَنَالُهُ التَّجْزِئَهُ وَ التَّبْعِیضُ- وَ لَا تُحِیطُ بِهِ الْأَبْصَارُ وَ الْقُلُوبُ

أقول: هذا الفصل یشتمل على إثبات ثمانی صفات من صفات الجلال:
الاولى الوحدانیّه مؤکّده بنفى الشرکاء و ذلک قوله: لا شریک له. و قد أشرنا إلى معقد البرهان العقلىّ على الوحدانیّه، و لمّا لم تکن هذه المسأله ممّا یتوقّف إثبات النبوّه علیها جاز الاستدلال فیها بالسمع کقوله تعالى لَوْ کانَ فِیهِما آلِهَهٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا«» و قوله وَ إِلهُکُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
الثانیه: إثبات کونه أوّلا غیر مسبوق بالغیر.
الثالثه: إثبات کونه آخرا غیر منته وجوده إلى غایه یقف عندها.
و قد سبق البحث عنهما مستقصى و نفى قبلیّه شی‏ء له و الغایه عنه تأکیدان.
الرابعه: من السلوب أنّه لا تلحقه الأوهام فیقع منه على صفه.
و قد علمت فیما سبق أنّ الأوهام لا یصدق حکمها إلّا فیما کان محسوسا أو متعلّقا بمحسوس فأمّا الامور المجرّده من علایق المادّه و الوضع فالوهم ینکر وجودها أصلا فضلا أن یصدّق فی إثبات صفه لها و إنّما الحاکم بإثبات صفه له العقل الصرف، و قد علمت أنّ ما یثبته منها لیست حقیقه خارجیّه بل امورا اعتباریّه محدثها عقولنا عند مقایسته إلى الغیر، و لا یفهم من هذا أنّه أثبت له صفه بل معناه أنّ الأوهام لا یصدق حکمها فی وصفه تعالى.
الخامسه: کونه تعالى لا یعقل له کیفیّه یکون علیها
و بیان ذلک ببیان معنى الکیفیّه فنقول: إنّها عباره عن هیئه قارّه فی المحلّ لا یوجب اعتبار وجودها قسمه و لا نسبه، و لمّا بیّنا أنّه تعالى لیس له صفه تزید على ذاته و هى محلّ لها استحال أن یعقد القلوب منه على کیفیّه.
السادسه: کونه تعالى لا تناله التجزیه و التبعیض
و هو إشاره إلى نفى الکمیّه عنه إذ کانت التجزیه و التبعیض من لواحقها و قد علمت أنّ الکمّ من لواحق الجسم‏ و البارى تعالى لیس بجسم و لیس بکمّ فلیس بقابل للتبعیض و التجزیه و لأنّ کلّ قابل لهما منفعل من غیره و المنفعل عن الغیر ممکن على ما مرّ.
السابعه: کونه تعالى لا تحیط به الأبصار
و هو کقوله تعالى لا تُدْرِکُهُ الْأَبْصارُ و هذه المسأله ممّا اختلف فیها علماء الإسلام و قد سبق فیها الکلام. و خلاصته: أنّ المدرک بحاسّه البصر بالذّات إنّما هو الألوان و الأضواء و بالعرض المتلوّن و المضی‏ء و لمّا کان اللون و الضوء من خواصّ الجسم و کان تعالى منزّها عن الجسمیّه و لواحقها وجب کونه منزّها عن الإدراک بحاسّه البصر.
الثامنه: کونه تعالى لا یحیط به القلوب
و المراد أنّ العقول البشریّه قاصره عن الإحاطه بکنه ذاته المقدّسه و قد سبق تقریر ذلک. و باللّه التوفیق.

القسم الثانی

و منها فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللَّهِ بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ- وَ اعْتَبِرُوا بِالْآیِ السَّوَاطِعِ- وَ ازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ- وَ انْتَفِعُوا بِالذِّکْرِ وَ الْمَوَاعِظِ- فَکَأَنْ قَدْ عَلِقَتْکُمْ مَخَالِبُ الْمَنِیَّهِ- وَ انْقَطَعَتْ مِنْکُمْ عَلَائِقُ الْأُمْنِیَّهِ- وَ دَهِمَتْکُمْ مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ وَ السِّیَاقَهُ إِلَى الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ- فَ کُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِیدٌ- سَائِقٌ یَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا وَ شَاهِدٌ یَشْهَدُ عَلَیْهَا بِعَمَلِهَا

اللغه

أقول: الآى: جمع آیه.

و الساطع: المرتفع.

و النذر: جمع نذیر.

و مفظعات الامور: شدایدها.

و الورد: المورد.

و فی هذا الفصل فوائد:
الاولى: الأمر بالأتّعاظ بالعبر النوافع
و اسم العبره حقیقه فی الاعتبار، و قد یطلق مجازا فیما یعتبر به، و یحتمل أن یراد هاهنا إطلاقا لاسم الحال على المحلّ و للاتّعاظ سبب و حقیقه و ثمره أمّا سببه فالنظر فی آثار الماضین و تدبّر قصصهم و تصریف قضاء اللّه و قدرته لأحوالهم و هو الاعتبار، و أمّا حقیقته فالخوف الحاصل فی نفس المعتبر من اعتباره و تأثّره عن أن یلحقه ما لحقهم إذ هو مثلهم و أولى بما لحقهم، و أمّا ثمرته‏ فالانزجار عن مناهى اللّه و إجابه داعیه و الانقیاد لسلوک سبیله.

الثانیه: الأمر بالاعتبار بالآى السواطع
و هو إرداف للأمر بالاتّعاظ بالأمر بسببه و أراد بالآى آیات آثار اللّه و عجایب مصنوعاته أو آیات القرآن المعذره و المنذره، و استعار لها لفظ السطوع، و وجه المشابهه ظهور إشراق أنوار الحقّ منها على مرایا قلوب عباد اللّه کإشراق نور الصبح و سطوعه و هو استعاره لفظ المحسوس للمعقول و اعتباره بها انتقال ذهنه فیها فی مقام النظر والاستدلال کما سلف بیانه.

الثالثه: الأمر بالازدجار بالنذر البوالغ
و هو أمر بفایده الاتّعاظ و النذر هى زواجر اللّه و وعیداته البالغه حدّ الکمال فی التخویف و الزجر عند اعتبارها.

الرابعه: الأمر بالانتفاع بالذکر و المواعظ
و هو أمر بتحصیل ثمره الذکر و الموعظه عنهما، و ختم هذه الأمر بذکر الانتفاع ترغیبا و جذبا للنفوس إلى الذکر و قبول المواعظ.

الخامسه: التخویف و التذکیر بالموت و ما یتبعه
لیبادروا إلى امتثال أوامره السابقه فقوله. فکأن قد علقتکم مخالب المنیّه. استعار لفظ المخالب للمنیّه استعاره بالکنایه و رشّح بذکر العلوق ملاحظا فی ذلک تشبیه المنیّه بالسبع الّذى یهجم و یتوقّع إفراسه و کأن مخفّفه من کأنّ و اسمها ضمیر الشأن، و یحتمل أن یکون أن الناصبه للفعل دخلت علیها کاف التشبیه.

المعنى

و قوله: و انقطعت عنکم علایق الامنیّه.
 إشاره إلى ما ینقطع عن المیّت بانقطاع أمله من مال و جاه و سایر ما کان یتعلّق به آماله من علایق الدنیا و متاعها.
و قوله: و دهمتکم مفظعات الامور.
 إشاره إلى ما یهجم على المیّت من سکرات الموت و ما یتبعها من عذاب القبر و أهوال الآخره.
و قوله: و السیاقه إلى الورد المورود.
فالسیاقه هى السوقه المتعبه الّتى سلف ذکرها، و الورد المورود هو المحشر.

و قوله: و کلّ نفس معها سائق و شهید.
اقتباس للآیه وَ جاءَتْ کُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِیدٌ فالسائق الّذى یسوقها إلى المحشر هو حکم القضاء الإلهى و أسباب الموت القریبه الحاکمه على النفس برجوعها إلى معادها فإن کانت من أهل الشقاوه فیا لها من سوقه متعبه و جزیه مزعجه وَ سِیقَ الَّذِینَ کَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ یَأْتِکُمْ رُسُلٌ مِنْکُمْ الآیات، و إن کانت من أهل السعاده ساقها سایق رؤوف سوقا لطیفا وَ نُودُوا أَنْ تِلْکُمُ الْجَنَّهُ أُورِثْتُمُوها بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَ سِیقَ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّهِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَیْکُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِینَ و أمّا الشاهد علیها [بعملها] فقد سبقت الإشاره إلیه. و باللّه التوفیق.


القسم الثالث و منها فى صفه الجنه:
دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلَاتٌ وَ مَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ- لَا یَنْقَطِعُ نَعِیمُهَا وَ لَا یَظْعَنُ مُقِیمُهَا- وَ لَا یَهْرَمُ خَالِدُهَا وَ لَا یَبْأَسُ سَاکِنُهَا

المعنى

أقول: اعلم أنّ ألذّ ثمار الجنّه هى المعارف الإلهیّه بالنظر إلى وجه اللّه ذى الجلال و الإکرام. و السعداء فی الوصول إلى نیل هذه الثمره على مراتب متفاوته و درجات متفاضله. فالاولى: مرتبه من اوتى الکمال فی حدس القوّه النظریّه حتّى استغنى عن معلّم بشرىّ رأسا و اوتى مع ذلک ثبات قوّته المتفکّره و استقامه وهمه منقادا تحت قلم العقل فلا یلتفت إلى العالم المحسوس بما فیه حتّى یشاهد العالم المعقول بما فیه من الأحوال و یستثبتها فی الیقظه فیصیر العالم و ما یجرى فیه متمثّلا فی نفسه فیکون لقوّته النفسانیّه أن یؤثّر فی عالم الطبیعه حتّى ینتهى إلى درجه النفوس السماویّه، و تلک هى النفوس القدسیّه اولات المعارج و هم وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِکَ، و هم أفضل النوع البشرىّ و أحقّه بأعلى درجات السعاده فی الجنّه.

المرتبه الثانیه مرتبه من له الأمر ان الأوّلان دون الثالث أعنى التأثیر فی عالم الطبیعه، و هذه مرتبه أصحاب الیمین و تحتها مراتب.
فأحدها: مرتبه من له استعداد طبیعىّ لاستکمال قوّته النظریّه دون العملیّه الثانیه: من اکتسب ذلک الاستکمال فی قوّته النظریّه اکتسابا تکلیفیّا دون تهیّؤ طبیعىّ و لا حصّه له فی أمر القوّه العملیّه. الثالثه: مرتبه من لیس له تهیّؤ طبیعىّ و لا اکتساب تکلیفى فی قوّته النظریّه و له ذلک التهیّؤ فی القوّه العملیّه. الرابعه: مرتبه من له تکلّف فی إصلاح الأخلاق و اکتساب الملکات الفاضله دون تهیّؤ طبیعىّ لذلک. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ للمقرّبین البالغین فی الملکات الشریفه لذّات عظیمه فی الجنّه قد فازوا بنعیم الأبد و السرور الدائم فی حضره جلال ربّ العالمین فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیکٍ مُقْتَدِرٍ غیر مخرجین عن لذّاتهم لهم فِیها ما تَشْتَهِیهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْیُنُ و هم فیها خالدون کما قال علیه السّلام: لا یظعن مقیمها. جرد عن عوارض الأبدان و شوائب الموادّ مرد عن مزاحمه القوى المتغالبه المتجاذبه المؤّدیه إلى الهرم و الموت مکحّلین بالأنوار الساطعه ینظرون إلى ربّهم بوجوههم المفارقه، وَ أَمَّا إِنْ کانَ مِنْ أَصْحابِ الْیَمِینِ فَسَلامٌ لَکَ مِنْ أَصْحابِ الْیَمِینِ و لهم لذّات دون الوصول إلى مرتبه السابقین، و قد یخالط لذّات هؤلاء شوب من لذّات المقرّبین کما اشیر إلیه فی التنزیل الإلهىّ فی وصف شراب الأبرار «و مزاجه من تسنیم عینا یشرب بها المقرّبون و لکلّ من المراتب کمال یخصّه و درجات من السعاده فی الجنّه تخصّه کما قال «لهم درجات عند اللّه» و قال «یرفع اللّه الّذین آمنوا منکم و الّذین اوتوا العلم درجات» و قال «لهم غرف مبنیّه من فوقها غرف تجرى من تحتها الأنهار». و إذا عرفت ذلک فلنرجع إلى المتن فنقول: أمّا قوله: لا ینقطع نعیمها فلقوله تعالى وَ أَمَّا الَّذِینَ سُعِدُوا فَفِی الْجَنَّهِ خالِدِینَ فِیها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّکَ عَطاءً غَیْرَ مَجْذُوذٍ و قوله إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ و لأنّ الکمال الّذى حصل للإنسان فاستحقّ به سعاده فی الجنّه ملکات ثابته فی جوهره لا تزول‏ و لا تتغیرّ و مهما دام الاستحقاق القابل لجود اللّه و نعمته وجب دوام ذلک الجود و فیض تلک النعمه إذ هو الجواد المطلق الّذى لا بخل من جهته و لا منع.

و أمّا قوله: و لا یظعن مقیمها فلقوله تعالى لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِیمِ… خالِدِینَ فِیها أَبَداً و قوله إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ کانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِینَ فِیها لا یَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا و لأنّ النعیم الأبدىّ مطلوب بالذات غیر ممنوع منه فلا یکون مهروبا عنه بالذات.

و أمّا قوله: و لا یهرم خالدها و لا ییأس ساکنها: أى لا یصیبه بؤس فلأنّ الهرم مستلزم للتعب و النصب و کذلک البؤس عن الضعف، و هذه اللوازم منفیّه عن أهل الجنّه لقوله تعالى وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَکُورٌ الَّذِی أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَهِ مِنْ فَضْلِهِ لا یَمَسُّنا فِیها نَصَبٌ وَ لا یَمَسُّنا فِیها لُغُوبٌ و بانتفاء هذه اللوازم ینتفی عنهم ملزومها و هو الهرم. و باللّه التوفیق.

شرح ‏نهج البلاغه(ابن‏ میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ى ۲۷۴

بازدیدها: ۱۴

خطبه ۸۱ شرح ابن میثم بحرانی

و من کلام له علیه السّلام فى ذکر عمرو بن العاص

عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَهِ یَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِیَّ دُعَابَهً- وَ أَنِّی امْرُؤٌ تِلْعَابَهٌ  أُعَافِسُ وَ أُمَارِسُ- لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا وَ نَطَقَ آثِماً- أَمَا وَ شَرُّ الْقَوْلِ الْکَذِبُ إِنَّهُ لَیَقُولُ فَیَکْذِبُ وَ یَعِدُ فَیُخْلِفُ- وَ یَسْأَلُ فَیُلْحِفُ وَ یُسْأَلُ فَیَبْخَلُ وَ یَخُونُ الْعَهْدَ وَ یَقْطَعُ الْإِلَّ- فَإِذَا کَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَیُّ زَاجِرٍ وَ آمِرٍ هُوَ- مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّیُوفُ مَآخِذَهَا- فَإِذَا کَانَ ذَلِکَ کَانَ أَکْبَرُ مَکِیدَتِهِ أَنْ یَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَهُ- أَمَا وَ اللَّهِ إِنِّی لَیَمْنَعُنِی مِنَ اللَّعِبِ ذِکْرُ الْمَوْتِ- وَ إِنَّهُ لَیَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْیَانُ الْآخِرَهِ- إِنَّهُ لَمْ یُبَایِعْ مُعَاوِیَهَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ یُؤْتِیَهُ أَتِیَّهً- وَ یَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْکِ الدِّینِ رَضِیخَهً

اللغه

نبغ الشی‏ء: ظهر و سمیّت امّ عمرو النابغه لشهرتها بالفجور و تظاهرها به.

و الدعابه: المزاح.

و التلعابه: کثیرا للعب و التاء للمبالغه.

و المعافسه: المداعبه.

و الممارسه: المعالجه بالمصارعه و القرص و نحوه.

و الإلّ: القرابه.

و سبّته: سوءته.

و الأتیّه: العطیّه و الوزن واحد و کذلک الرضیخه.

و اعلم أنّ فی هذا الفصل ثلاثه فصول:

الأوّل ذکر دعوى عمرو فی حقّه علیه السّلام
من کونه لعّابا مزّاحا یکثر المعالجه بالمصارعه و ذکر هذه الدعوى مصدّره بالتعجّب من صدورها فی حقّه مختومه بالکذب لمدّعیها و الردّ لمقاله و ذلک قوله: عجبا إلى قوله: و نطق آثما و باطلا وصف للمصدر، و آثما حال و إنّما کنّى عنه بامّه لأنّ من عاده العرب النسبه إلى الامّ إذا کانت مشهوره بشرف أو خسّه و نحوها.
و اعلم أنّه علیه السّلام قد کان یصدر عنه المزاح بالقدر المعتدل الّذى لا یخرج به إلى حدّ رذیله الإفراط فیه فمن ذلک ما روى أنّه کان جالسا یوما على رباوه من الأرض و کان أبو هریره جالسا معه و أخذ منه لفته و حذفه بنواه فالتفت إلیه أبو هریره فتبسّم علیه السّلام‏ 

فقال أبو هریره: هذا الّذى أخّرک عن الناس، و قد علمت أنّ ذلک من توابع حسن الخلق و لین الجانب فهو إذن فضیله و لیس برذیله و المدّعى لعمرو إنّما هو عبوره فی ذلک إلى حدّ الإفراط الّذى یصدق علیه أنّه لعب و هزل، و روى أنّه کان یقول لأهل الشام: إنّا إنّما أخّرنا علیّا لأنّ فیه هزلا لا جدّ معه و نحوه ما کان یقوله أبوه العاص لرسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و سلّم إنّه لساحر و من أشبه أباه فما ظلم و تکذیبه علیه السّلام لعمرو إنّما هو فیما ادّعاه من الخروج إلى اللعب و أمّا أصل المزاح فلم ینکره و کیف و قد کان یصدر عن رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و سلّم کما صروی أنّه قال یوما لعجوز: إنّ العجایز لا یدخلن الجنّه فبکت فتبسّم و قال إنّ اللّه یجعلهنّ شوابّ ثمّ یدخلهنّ الجنّه و أهل الجنّه شباب جرد مرد و إنّ الحسن و الحسین علیهما السّلام سیّدى شباب أهل الجنّه. و کان یقول: أمزح و لا أقول إلّا حقّا.

 

الثانی: قوله: أمّا و شرّ القول إلى قوله سبّته
و یشتمل على ذکر ما اجتمع فی هذا المدّعى من الرذائل الّتی توجب فسقه و سقوط دعواه لقوله تعالى یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا«» الآیه و ذکر من تلک الرذائل خمسا.
الاولى: الکذب و ظاهر کونه شرّ القول و أنّه مفسده مطلقه فی الدین و الدنیا أمّا الدین فللمنقول و المعقول أمّا المنقول فقول الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم الکذب رأس النفاق، و أمّا المعقول فلأنّ الوجدان شاهد بأنّ الکذب ممّا یسوّد لوح النفس و یمنعه أن ینتقش بصور الحقّ و الصدق و یفسد المنامات و الإلهامات، و أمّا الدنیا فلأنّه سبب عظیم لخراب البلاد و قتل النفوس و سفک الدماء و أنواع الظلم و لذلک اتّفق أهل العالم من أرباب الملل و غیرهم على تحریمه و ادّعى المعتزله قبحه بالضروره و هو رذیله مقابله للصدق داخله تحت رذیله الفجور.

الثانیه: الخلف فی الوعد.

الثالثه: الغدر فی العهد و خیانته و هما رذیلتان مقابلتان للوفاء داخلتان تحت رذیله الفجور أیضا و الغدر یستلزم رذیله الخبث و هر طرف الإفراط من فضیله الذکاء و هما یستلزمان الکذب أیضا.

الرابعه: قطع الرحم و هى رذیله الإفراط من فضیله صله الرحم و حقیقتها عدم مشارکه ذوى اللحمه فی الخیرات الدنیویّه و هى رذیله تحت الظلم مستلزمه للبخل.

الخامسه: رذیله الجبن و هى طرف التفریط من فضیله الشجاعه و نبّه علیها بقوله: فإذا کان عند الحرب فأیّ زاجر و آمر هو إلى قوله: سبّته، و فیه تنبیه على دناءه همّته و مهانه نفسه إذ کان علىّ الهمّه شهم النفس لا یفرّ من قراع الأقران إلى التخلّص من الموت بأقبح فعل یکون من کشف سوءته و بقاء ذلک سبّه فی عقبه على مرور الدهور. و الدناء و المهانه رذیلتان تحت الجبن.

و قوله: فأیّ زاجر و آمر. هو استفهام على سبیل التعجّب و المبالغه فی أمره و نهیه و ذکره فی معرض الذمّ هنا و إن کان من الممادح لغرض أن یردفه برذیلته لیکون ذلک خارجا مخرج الاستهزاء فیکون أبلغ وقعا فی النفوس و أشدّ عارا علیه إذ کان الأمر و النهى فی الحرب إنّما یحسن ممّن یشتهر بالشجاعه و الإقدام لا ممّن یأمر و ینهى فإذا اشتدّ القتال فرّ فرار الحمار من السبع و اجتهد فی البقاء و لو بأقبح مذمّه فإنّ عدم الأمر و النهى و الخمول بمثل هذا ألیق و أولى من وجودها و کأنّ أبا الطیّب حکى صوره حاله إذ قال.

و إذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده و النزالا و أمّا صوره هذه الرذیله منه فروى أنّ علیّا علیه السّلام حمل علیه فی بعض أیّام صفّین فلمّا تصوّر أنّه قاتله ألقى نفسه عن فرسه و کشف سوءته مواجها له علیه السّلام فلمّا رأى ذلک منه غضّ بصره عنه و انصرف عمرو مکشوف العوره و نجا بذلک فصار مثلا لمن یدفع عن نفسه مکروها بارتکاب المذلّه و العار، و فیه یقول أبو فراس.

و لا خیر فی دفع الأذى بمذلّه کما ردّها یوما بسوءته عمروو روى مثل ذلک لبسر بن أرطاه معه فإنّه علیه السّلام حمل على بسر فسقط بسر على قفاه و رفع رجلیه فانکشفت عورته فصرف علیه السّلام وجهه عنه فلمّا قام سقطت البیضه عن رأسه فصاح أصحابه یا أمیر المؤمنین إنّه بسر بن أرطاه فقال: ذروه- لعنه اللّه- فلقد کان معاویه.
أولى بذلک منه. فضحک معاویه و قال: لا علیک یا بسر ارفع طرفک و لا تستحى فلک بعمرواسوه، و قد أراک اللّه منه و أراه منک. فصاح فتى من أهل الکوفه: ویلکم یا أهل الشام أما تستحیون لقد علّمکم عمرو کشف الأستار ثمّ أنشد:
أ فی کلّ یوم فارس ذو کریهه له عوره وسط العجاجه بادیه یکفّ لها عنه علىّ سنانه و یضحک منها فی الخلاء معاویه
بدت أمس من عمرو فقنّع رأسه‏                              و عوره بسر مثلها حذو حاذبه
فقولا لعمرو و ابن أرطاه ابصرا نشدتکما لا تلقیا اللیث تالیه
و لا تحمدا إلّا الحیا و خصا کما                            هما کانتا و اللّه للنفس واقیه
و لو لا هما لم تنجوا من سنانه تلک بما فیها عن العود ناهیه و کان بسر ممّن یضحک من عمرو فصار ضحکه له

الثالث: بیان وجه فساد مدّعى عمرو فی حقّه
و هو مستند المنع و ذکر وجهین:

أحدهما: یرجع إلیه و هو أنّه علیه السّلام دائم الذکر للموت و التفکّر فی أحوال المعاد و الوجدان شاهد بأنّ المستکثر من إخطار الموت علیه یکون أبدا قصیر الأمل و جلا من اللّه مترصّدا لهجوم الموت علیه مشغولا بذلک عن الالتفات إلى حظّ الشهوات من اللعب و نحوه فکیف یتصوّر اللعب ممّن هذه حاله.

الثانی: یرجع إلى حال عمرو و هو أنّه ممّن نسى الآخره، و ظاهر أنّ نسیانها مستلزم للکذب و سایر وجوه خداع أبناء الدنیا من المکر و الحیله و ما لا ینبغی من مناهى اللّه، و من کانت هذه حاله کیف یوثق بقوله، ثمّ نبّه بقوله: و لم یبایع معاویه. إلى آخره على بعض لوازم نسیان الآخره، و هو أخذه لبیعته و قتاله مع الإمام الحقّ الّذی یخرج به عن ربقه الدین عوضا و ثمنا. و تلک العطیّه هى مصر کما سبقت الإشاره الیه. و باللّه العصمه و التوفیق.


شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحه‏ ى ۲۷۴

 

بازدیدها: ۴

خطبه ۸۰ شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبه له علیه السّلام و هى من الخطب العجیبه و تسمّى الغرّاء.
اعلم أنّ فی هذه الخطبه فصولا:

الفصل الأوّل قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی عَلَا بِحَوْلِهِ…
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی عَلَا بِحَوْلِهِ وَ دَنَا بِطَوْلِهِ- مَانِحِ کُلِّ غَنِیمَهٍ وَ فَضْلٍ وَ کَاشِفِ کُلِّ عَظِیمَهٍ وَ أَزْلٍ- أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ کَرَمِهِ وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ- وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلًا بَادِیاً وَ أَسْتَهْدِیهِ قَرِیباً هَادِیاً- وَ أَسْتَعِینُهُ قَاهِراً قَادِراً وَ أَتَوَکَّلُ عَلَیْهِ کَافِیاً نَاصِراً- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً ص عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَ تَقْدِیمِ نُذُرِهِ


اللغه

الحول: القوّه.

الطول: الفضل.

و المنحه: العطیّه.

و الأزل: الشدّه.

و النذر: النذاره.

المعنى

و قد أثنى على اللّه تعالى فی هذا الفصل باعتبارات أربعه من نعوت جلاله:

الأوّل: کونه علیّا، و إذ لیس المراد به العلوّ المکانىّ لتقدّسه تعالى عن الجسمیّه کما سبق فالمراد العلوّ المعقول له باعتبار کونه مبدء کلّ موجود و مرجعه فهو العلىّ المطلق الّذی لا أعلى منه فی وجود و کمال رتبه و شرف کما سبق بیانه، و لمّا عرفت أنّ معنى الدنوّ إلى کلّ موجود صدر عن قدرته و قوّته لا جرم جعل للحوقه له مبدءا هو حوله.

الثانی: کونه دانیا بطوله. و لمّا عرفت أنّ معنى الدنوّ و القرب فی حقّه تعالى لیس مکانیّا أیضا کان اعتبارا تحدثه عقولنا له من قرب إفاضه نعمه على قوابلها و قربه من أبصار البصائر فی صوره نعمه نعمه منها و لذلک جعل طوله مبدءا لدنوّه.

الثالث: کونه مانح کلّ غنیمه و فضل. الرابع: کونه کاشف کلّ عظیمه و أزل. هما إشاره إلى کلّ نعمه صدرت عنه على قابلها فمبدءها جوده و رحمته سواء کانت وجودیّه کالصحّه و المال و العقل و غیرها أو عدمیّه کدفع البأساء و الضرّاء، و إلیه الإشاره بقوله وَ ما بِکُمْ مِنْ نِعْمَهٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّکُمُ الضُّرُّ فَإِلَیْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا کَشَفَ الضُّرَّ عَنْکُمْ«» الآیه، و قوله أَمَّنْ یُجِیبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ یَکْشِفُ السُّوءَ وَ یَجْعَلُکُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ«».
و قوله: أحمده. إلى قوله: نعمه.
و قوله: أحمده. إلى قوله: نعمه. تنبیه للسامعین على مبدء استحقاقه لاعتبار الحمد، و هو کرمه. قال بعض الفضلاء: الکریم هو الّذی إذا قدر عفا، و إذا وعد وفا، و إذا أعطى زاد على منتهى الرجاء و لم یبال کم أعطى و لا لمن أعطى، و إن رفع إلى غیره حاجه لا یرضى، و إذا جفى عاتب و ما استقصى، و لا یضیع من لاذبه و التجا و یغنیه عن الوسائل و الشفعاء. فمن اجتمعت له هذه الاعتبارات حقیقه من غیر تکلّف فهو الکریم المطلق. و لیس ذلک إلّا اللّه تعالى. قلت: و الأجمع الأمنع فی رسم هذا الاعتبار یعود إلى فیضان الخیر عنه من غیر بخل و منع و تعویق على کلّ من یقدر أن یقبله بقدر ما یقبله. و عواطف کرمه هى نعمه و آثاره الخیریّه الّتى تعود على عباده مرّه بعد اخرى، و سوابغ نعمه السابغه الّتى لا قصور فیها عن قبول قابلها.

و قوله: و أومن به أوّلا بادیا.
و قوله: و أومن به أوّلا بادیا. نصب أوّلا بادیا على الحال، و أشار بهذین الوصفین إلى الجهه الّتى هى مبدء الإیمان إذ کان منه باعتبار کونه أوّلا هو مبدءا لجمیع الموجودات، و کونه بادیا هو کونه ظاهرا فی العقل فی جمیع آثاره. فباعتبار ظهوره مع کونه مبدءا لکلّ موجود و أوّلا له یجب الایمان به و التصدیق بإلهیّته.


و قوله: و أستهدیه قریبا هادیا.
و قوله: و أستهدیه قریبا هادیا. فاستهداؤه طلب الهدایه منه، و قربه هو دنوّه بجوده من قابل فضله، و هدایته هبته الشعور لکلّ ذى إدراک بما هو ألیق به لیطلبه دون ما لیس ألیق به. و ظاهر أنّه باعتبار هذین الوصفین مبدء لطلب الهدایه منه.

و قوله: و أستعینه قاهرا قادرا.
و قوله: و أستعینه قاهرا قادرا. استعانته طلب المئونه منه على ما ینبغی من طاعته و سلوک سبیله، و القاهر هو الّذی لا یجرى فی ملکه بخلاف حکمه نفس، بل کل موجود مسخّر تحت حکمه و قدرته و حقیر فی قبضته، و القادر هو الّذی إذا شاء فعل و إذا لم یشأ لم یفعل و إن لم یلزم أنّه لا یشأ فلا یفعل کما سبق بیانه. و ظاهر أنّه باعتبار هذین الوصفین مبدء للاستعانه.

و قوله: و أتوکّل علیه کافیا ناصرا.
و قوله: و أتوکّل علیه کافیا ناصرا. التوکّل کما علمت یعود إلى اعتماد الإنسان فیما یرجو أو یخاف على غیره، و الکافی اعتبار کونه معطیا لکلّ قابل من خلقه ما یکفى استحقاقه من منفعه و دفع مضرّه، و الناصر هو اعتبار إعطائه النصر لعباده على أعدائهم بإفاضه هدایته و قوّته. و ظاهر أنّه تعالى باعتبار هذین الوصفین مبدء لتوکّل عباده علیه و إلقاء مقالید امورهم إلیه.

و قوله: و أشهد. إلى آخره.
تقریر للرساله و تعیین لأغراضها و ذکر منها ثلاثه:

أحدها: إنفاذ أمره. و الضمائر الثلاثه للّه. و إنفاذ أمره إجراؤه لأحکامه على قلوب الخلق لیقرّوا بالعبودّیه له.

الثانی: إنهاء عذره فی أقواله و أفعاله. و قد سبق بیان وجه استعاره العذر. الثالث: تقدیم نذره و هو التخویفات الوارده على ألسنه الرسل علیهم السّلام إلى الخلق قبل لقائه الجاذبه لهم إلى لزوم طاعته. و ظاهر کون الثلاثه أعراضا للبعثه.

الفصل الثانی: قوله: أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ

أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِی ضَرَبَ الْأَمْثَالَ- وَ وَقَّتَ لَکُمُ الْآجَالَ وَ أَلْبَسَکُمُ الرِّیَاشَ وَ أَرْفَغَ لَکُمُ الْمَعَاشَ- وَ أَحَاطَ بِکُمُ الْإِحْصَاءَ وَ أَرْصَدَ لَکُمُ الْجَزَاءَ- وَ آثَرَکُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ وَ الرِّفَدِ الرَّوَافِغِ- وَ أَنْذَرَکُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ فَأَحْصَاکُمْ عَدَداً- وَ وَظَّفَ لَکُمْ مُدَداً فِی قَرَارِ خِبْرَهٍ وَ دَارِ عِبْرَهٍ- أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِیهَا وَ مُحَاسَبُونَ عَلَیْهَا

المعنى

الریاش: اللباس الفاخر.

و قیل: الغنى بالمال.

و أرصد: أعدّ.

و الرفد: جمع رفده و هى العطیّه.

و الروافع: الواسعه الطیّبه

و هذا الفصل مشتمل على الوصیّه بتقوى اللّه و خشیته و الانجذاب إلیه باعتبار امور:

الأول: ضرب الأمثال
و الأمثال الّتى ضربها اللّه لعباده فی القرآن کثیره منها: قوله تعالى کَمَثَلِ الَّذِی، اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إلى قوله یَرْجِعُونَ«» و الإشاره بهذا المثل إلى من کان قد طلب إظهار المعجزات من الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم فلمّا ظهرت لهم لم یقبلوها و رجعو إلى ظلمه جهلهم فهم صمّ عن سماع دواعى اللّه بآذان قلوبهم، بکم عن مناجات اللّه بأسرارهم، عمى عن مشاهده أنوار اللّه بإبصار بصائرهم فهم لا یرجعون عن تمادیهم فی غیّهم و کفرهم. و منها: قوله أَوْ کَصَیِّبٍ مِنَ السَّماءِ إلى قوله قامُوا و هو مثل شبّه فیه القرآن بالمطر نزل من السماء، و شبّه ما فى القرآن من الوعد و الوعید بما فی المطر من الرعد و البرق، و شبّه تباعد المنافقین عن الإصغاء إلى‏ القرآن و تغافلهم عن سماع الوعظ بمن یجعل أصابعه فی آذانه خوف الصواعق، و قوله: یَکادُ الْبَرْقُ. إلى آخره. إشاره إلى من کان یرقّ قلبه بسماع الوعظ البالغ إذا قرعه و یمیل إلى التوبه و یتجلّى عن قلبه بعض الظلمه فإذا رجعوا إلى قرنائهم أشاروا علیهم بالعود إلى دنیاهم و بذلوا لهم الجهد فی النصیحه و خوّفوهم بالعجز فتضعف قصودهم، و تظلم علیهم شبهات الباطل فتغطّى ما کان ظهر لهم من نور الحقّ. و کذلک باقى أمثال اللّه فی کتابه الکریم.

الثانی: قوله: و وقّت لکم الآجال:
أى کتبها بقلم القضاء الإلهىّ فی اللوح المحفوظ کلّ إلى إجل مسمّى ثمّ یرجع إلیه فیحاسبه بإعلانه و إسراره. فبالحرّى أن یقتّته و یعمل للقائه.

الثالث: کونه قد ألبسهم الریاش.
و هو إظهار للمنّه علیهم کما قال یا بَنِی آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَیْکُمْ لِباساً یُوارِی سَوْآتِکُمْ وَ رِیشاً وَ لِباسُ التَّقْوى‏«» الآیه. لیذکّروا أنواع نعمه فیستحیوا من مجاهرته بالمعصیه.

الرابع: کونه قد أرفع لهم المعاش
أى أطاب معایشهم فی الدنیا کما قال تعالى وَ رَزَقَکُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ، و هو کالثالث.

الخامس: إحاطته بهم إحصاء
کقوله تعالى لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا أى أحاط بهم علمه. و إحصاء منصوب على المصدر من غیر لفظ فعله، أو على التمییز. و ظاهر أنّ علم العصاه بأنّه لا یشذّ أحد منهم عن إحاطه علمه جاذب لهم إلى تقواه.

السادس: کونه قد أرصد لهم الجزاء.
کقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَهِ فَلَهُ خَیْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ یَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَ مَنْ جاءَ بِالسَّیِّئَهِ فَکُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِی النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ«».

السابع: ایثارهم بالنعم السوابغ
و الرفد الروافع. کقوله تعالى وَ أَسْبَغَ عَلَیْکُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَهً وَ باطِنَهً«».

الثامن: إنذارهم بالحجج البوالغ
و هى رسله و مواعظه و سایر ما جذب به عباده إلى‏ سلوک سبیله، و هو حجّه على عصاه أمره أن یقولوا یوم القیامه إنّا کنّا عن هذا غافلین.

التاسع: إحصاؤه لعددهم
کقوله تعالى وَ أَحْصى‏ کُلَّ شَیْ‏ءٍ عَدَداً.

العاشر: توظیفه لهم المدد،
و هو کتوقیته لهم الآجال، و إنّما کرّر وصف الإحصاء و العدّ و هذین الوصفین أیضا لأنّ الوهم کثیرا ما ینکر إحاطته تعالى بالجزئیّات مع عدم تناهیها فیکون ذلک مشبّها على النفس توقیت الآجال لکلّ شخص شخص و یقدح فی أمر المعاد العقوبات اللازمه لکلّ آحاد الخلق بحسب کلّ ذرّه من الأعمال الطالحه فکرّرهما طردا للوهم و کسرا لحکمه، و لأنّ ذکر توقیت الآجال من أشدّ الجواذب عن الدنیا إلى اللّه. و قوله: فی قرار خبره و دار عبره: أى محلّ اختبار اللّه خلقه و محلّ عبرتهم: أى انتقال أذهانهم فیما تجرى فیها من آیات العبره و آثار القدره.
و الاستدلال بها على وحدانیّه مبدعها کما سبقت الإشاره إلى معنى الاختبار و الاعتبار و کذلک قوله: فأنتم فیها مختبرون و علیها محاسبون قد سبقت الإشاره إلیه فی قوله: ألا و إنّ الدنیا دار لا یسلم منها إلّا فیها. و فی هذین القرینتین مع السجع المتوازى نوع من التجنیس بین خبره و عبره. و الاختلاف بالحرف الأوّل.


الفصل الثالث قوله: فَإِنَّ الدُّنْیَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا…

فَإِنَّ الدُّنْیَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا- یُونِقُ مَنْظَرُهَا وَ یُوبِقُ مَخْبَرُهَا- غُرُورٌ حَائِلٌ وَ ضَوْءٌ آفِلٌ وَ ظِلٌّ زَائِلٌ وَ سِنَادٌ مَائِلٌ- حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا وَ اطْمَأَنَّ نَاکِرُهَا- قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا- وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وَ أَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِیَّهِ- قَائِدَهً لَهُ إِلَى ضَنْکِ الْمَضْجَعِ وَ وَحْشَهِ الْمَرْجِعِ- وَ مُعَایَنَهِ الْمَحَلِّ وَ ثَوَابِ الْعَمَلِ- . وَ کَذَلِکَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ- لَا تُقْلِعُ‏ الْمَنِیَّهُ اخْتِرَاماً- وَ لَا یَرْعَوِی الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً یَحْتَذُونَ مِثَالًا- وَ یَمْضُونَ أَرْسَالًا إِلَى غَایَهِ الِانْتِهَاءِ وَ صَیُّورِ الْفَنَاءِ

اللغه

الرنق: الکدر.

و الردغ: الوحل و التراب المختلط بالماء.

و یونق: یعجب.

و یوبق: یهلک.

و غرور: خدعه مستغفله للأذهان.

و الحائل: المنتقله المحتوله.

و قمصت الدابّه: رفعت یدیها و طرحتهما و عجنت برجلیها.

و قنصت: صادت. و أقصدت: أصابت القصد.

و الأوهاق: جمع وهق بالفتح و هو الحبل.

و الضنک: الضیق.

و أقلع عن الشی‏ء: امتنع منه.

و الاخترام: الموت دون المدّه الطبیعیّه.

و ارعوى: کفّ و رجع و حذاحذ و فلان: فعل فعله.

و أرسال: جمع رسل بالفتح و هو القطیع من الغنم یتبع القطیع.

و صیّور الأمر: ما یرجع إلیه منه.

المعنى

و مدار هذا الفصل على التنفیر عن الدنیا بذکر معایبها و ما یؤول إلیه، و ذکر لها أوصافا:

الأوّل: کونها رنق مشربها.
و هو کنایه عن کدر لذّاتها بشوائب المصائب من الهموم و الأحزان و الأعراض و الأمراض.

الثانی: کونها ردغ مشرعها.
و مشرعها محلّ الشروع فی تناولها و الورود فی استعمالها، و کونه ردغا وصف للطریق المحسوس استعیر له. و وجه المشابهه کون طریق الإنسان فی استعمال الدنیا و التصرّف فیها ذات مزالق و مزالّ أقدام تهوى به إلى جهنّم لا یثبت فیها إلّا قدم عقل قد هجّر فی ضبط قواه و قهر سطوه شیاطینه کما أنّ الطریق ذات الوحل کذلک. و هو من لطائف إشاراته علیه السّلام.

الثالث: کونها یونق منظرها، و یوبق مخبرها.
و هو إشاره إلى إعجابها لذوى الغفله بزینتها الحاضره مع هلاکهم باختبارها و ذوقهم لحلاوتها و غرض الالتذاذ بها.

الرابع: کونها غرورا حائلا.
یروى بفتح الغین و ضمّها. و معنى الأوّل ذات غرور: أى تغرّ الخلق بزخارفها فیتوهّمون بقاءها ثمّ تنتقل عنهم و تحوّل، و من روى بالضمّ جعلها نفسها غرورا: و الغرور یطلق على ما یغترّ به حقیقه عرفیّه.

لخامس: کونها ضوء آفلا
استعار لفظ الضوء لما یظهر منها من الحسن فی عیون الغافلین یقال على فلان ضوء: أى له منظر حسن، أو لما ظهر لهم من وجوه مسالکها فاهتدوا به إلى تحصیلها و مداخلها و مخارجها. و على التقدیرین فهو ضوء آفل لا یدوم.
و لفظ الافول أیضا مستعار.

السادس: و ظلّ زائل.
استعار لفظ الظلّ لما یأوى إلیه الإنسان من نعیمها فیستظلّ به من حراره بؤسها. و ظاهر کونه زائلا.

السابع: کونه سنادا مایلا.
استعاره أیضا للفظ اسناد فیما یعتمد الغافلون علیه من قیناتها و خیراتها الّتى لا أصل لها و لا ثبات بل هى کشجره خبیثه اجتثّت من فوق الارض مالها من قرار، و ذکر المیل ترشیح للاستعاره.

الثامن: کونها تغرّ الناس بضوئها
و ظلّها و بهجه منظرها إلى غایه أن یستأنس بها من کان بعقله نافرا عنها و یطمئنّ إلیها من کان بمقتضى فطرته منکرا لها حتّى إذا کان ذلک منه طوعا لها فعلت به أفعال العدوّ الخدوع، و نسب إلیها من الأفعال امورا: أحدها: قمصها بالأرجل. و استعار لفظ القمص لامتناعها على الإنسان حین حضور أجله کأنّها تدفعه برجلیها مولّیه عنه کما تفعل الدابّه، و رشّح بذکر الأجل. و إنّما جمع لاعتبار الیدین مع الرجلین، و ذکره بلفظ الرجلین لأنّ القمص إلیها أنسب. الثانی: قنصها له بأحبلها. و هو کنایه عن تمکّن حبائل محبّتها. و الهیئات الردیئه المکتسبه منها فی عنق نفسه کنایه بالمستعار. الثالث: کونها أقصدت له بأسهمها. و استعار لفظ الأسهم للأمراض و أسباب الموت، و إقصادها کنایه عن إصابتها بالمستعار لأوصاف الرامى تنزیلا للدنیا منزلته. الرابع: کونها أعلقته حبال المنیّه. و حبالها استعاره لما تجذب به إلى الموت من سایر أسبابه أیضا، و کذلک لفظ القائد استعاره کنّى بها عن انسیاق المریض فی حبال مرضه الحاصل فیها إلى الامور المذکور من ضنک المضطجع و هو القبر و وحشه المرجع، و هو إشاره إلى ما تجده النفوس الجاهله عند رجوعها من وحشه فراق ما کان محبوبا لها فی الدنیا و ما کانت الفتنه من مال و أهل و ولد. و هى استعارات لأوصاف الصاید تنزیلا للدنیا منزلته. و معاینه المحلّ: أى مشاهده الآخره الّتى هى محلّ الجزاء. و ثواب العمل: أى جزاءه من خیر أو شرّ.

و قوله: و کذلک الخلف. إلى آخره.
أى على الأحوال المذکوره للدنیا مضى الخلق یتبع خلفهم من سلف منهم لا المنیّه تقصر عن اخترام نفوسهم و لا الباقون منهم یرجعون عمّا هم علیه من ارتکاب الجرائم فیها و الغرور بها بل یقتدون بأمثالهم الماضین فی ذلک و یمضون علیه اتّباعا إلى غایه مسیرهم بمطایا الأبدان و مصیر أمرهم و هو الفناء و العرض على الملک الدیّان. و قد راعى أیضا مع السجع التجنیس فی قوله: یونق و یوبق، و نافرها و ناکرها، و قمصت و قنصت، و الاختلاف بحرف الوسط. و باللّه التوفیق.

الفصل الرابع: فی الإشاره إلى ما یلحق الناس بعد الموت من أحوال القیامه تذکیرا لهم.

قوله: حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ- وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ وَ أَزِفَ النُّشُورُ- أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ وَ أَوْکَارِ الطُّیُورِ- وَ أَوْجِرَهِ السِّبَاعِ وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِکِ سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ- مُهْطِعِینَ إِلَى مَعَادِهِ رَعِیلًا صُمُوتاً قِیَاماً صُفُوفاً- یَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَ یُسْمِعُهُمُ الدَّاعِی- عَلَیْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِکَانَهِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّهِ- قَدْ ضَلَّتِ الْحِیَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَهُ کَاظِمَهً- وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَیْنِمَهً- وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ وَ عَظُمَ الشَّفَقُ وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ- لِزَبْرَهِ الدَّاعِی إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ وَ مُقَایَضَهِ الْجَزَاءِ- وَ نَکَالِ الْعِقَابِ وَ نَوَالِ الثَّوَابِ

اللغه

تصرّمت: تقضّت.

و أزف: دنا.

و الضرائح: جمع ضریح. و هو الشقّ فی‏ وسط القبر.

و أوکار الطیور: أعشاشها.

و أوجره: جمع و جار و هو بیت السبع.

مهطعین: مقبلین.

و رعیلا: مجتمعین.

اللبوس: ما یلبس.

و الضرع: الخضوع و الانکسار.

و کاظمه: ساکنه.

و الهینمه: صوت خفىّ.

و ألجم العرق: بلغ الفم فصار کاللجام.

و الشفق: الإشفاق و هو الخوف.

و الزبره: الانتهار.

و المقایضه: المعاوضه.

و النکال: تنویع العقوبه.

المعنى

و اعلم أنّه قد تطابقت ألسنه الأنبیاء و الرسل علیهم السّلام على القول بالمعاد الجسمانىّ، و نطق به الکتاب العزیز کقوله تعالى یَوْمَ یَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً کَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ یُوفِضُونَ خاشِعَهً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّهٌ«» الایه و نحوه، و اتّفق المسلمون على القول به، و أمّا الحکماء فالمشهور من مذهبهم منع المعاد الجسمانىّ بناء على أنّ المعدوم لایعاد بعینه لامتناع عود أسبابه بأعیانها من الوقت و الدوره الفلکیّه المعینّه و غیرهما. و ربّما قال بعض حکماء الإسلام بجواز عود المثل و ربّما قلّد بعضهم ظاهر الشریعه فی أمر المعاد الجسمانىّ و إثبات السعاده و الشقاوه البدنیّه مع الروحانیّه، و قال الرئیس أبو علىّ بن سینا فی کتاب الشفاء ما هذه حکایه ألفاظه: «یجب أن یعلم أنّ المعاد منه ما هو المقبول من الشرع و لا سبیل إلى إثباته إلّا من طریق الشریعه و تصدیق خبر النبوّه و هو الّذی للبدن عند البعث و خیرات البدن و شروره معلومه لا تحتاج أن تعلم. و قد بسطت الشریعه الحقه الّتى أتانا بها سیّدنا و مولانا محمّد صلى اللّه علیه و آله و سلّم حال السعاده و الشقاوه اللتین بحسب البدن، و منه ما هو مدرک بالعقل و القیاس البرهانىّ، و قد صدّقه النبوّه و هو السعاده و الشقاوه البالغتان الثابتتان بالمقاییس اللتان للأنفس و إن کانت الأوهام منّا یقصر عن تصوّرها الآن لما توضح من العلل، و الحکماء الالهیّون رغبتهم فی إصابه هذه السعاده أعظم من رغبتهم فی إصابه السعاده البدنیّه بل کأنّهم لا یلتفتون إلى تلک و إن اعطوها و لا یستعظمونها فی جنبه هذه السعاده الّتى هى مقاربه الحقّ الأوّل» و اعلم أنّ الّذی ذکره علیه السّلام هنا صریح فی إثبات المعاد الجسمانىّ و لواحقه.

فقوله: أخرجهم من ضرایح القبور و أوکار الطیور و أوجره السباع و مطارح المهالک.
إشاره إلى جمعه لأجزاء أبدان الناس بعد تشذّ بها و تفرّقها فیخرج من کان قبرمن ضریح قبره و من کان اکیل طیر أو سبع أو مقتولا فی مطرح الهلاک من معرکه الحرب أو غیرها أخرجه من ذلک المکان و جمع أجزاءه و ألّف بینها.
فإن قلت: إذا أکل إنسان إنسانا و اغتذى به فصارت أجزاء بدنه أجزاء بدن آکله فکیف یمکن إعادتهما لأنّ تلک الأجزاء فی أیّ بدن منهما اعیدت لزم نقصان الآخر و بطلانه.
قلت: مذهب محقّقى المتکلّمین أنّ فی کلّ بدن واحد أجزاء أصلیّه باقیه من أوّل العمر إلى آخره لا تتغیّر و لا تتبدّل، و أجزاء فضیله فإذا اعیدا یوم القیامه فما کان أصلیّا من الأجزاء لبدن المأکول فهو فضلىّ لبدن الآکل فیردّ إلیه من غیر أن ینقص من الأجزاء الأصلیّه للآکل شی‏ء و لا عبره بالفاضله. و باقى الفصل غنىّ عن البیان، و قال بعض الفضلاء: إنّه ربّما احتملت هذه الألفاظ أن یسلّط علیها من التأویل ما یناسب مذهب القائلین بالمعاد الروحانىّ.

فقوله: حتّى إذا تصرّمت الامور.
أى أحوال کلّ واحد من الخلق فی الدنیا.
و قوله: و تقضّت الدهور.
. أى انقضت مدّه کلّ شخص منهم.
و قوله: و أزف النشور.
أى دنا انتشار کلّ واحد فی عالم الآخره من قبور الأبدان.
و قوله: أخرجهم من ضرائح القبور.
استعار لفظه القبور للأبدان و ضرایحها تشریح للاستعاره. و وجه المشابهه أنّ النفس تکون منغمسه فی ظلمه البدن و کدر الحواسّ متوحّشه عن عالمها کما أنّ المقبور متوهّم لظلمه القبر و وحشه، منقطع عن الأهل و المال. و ضمیر المخرج یعود إلى اللّه فی صدر الخطبه.
و قوله: و أوکار الطیور.
فاعلم أنّ العارفین و أهل الحکمه کثیرا ما یستعیرون لفظ الطیر و أوصافه للنفس‏ الناطقه و للملائکه کما أشار إلیه سیّد المرسلین صلى اللّه علیه و آله و سلّم فی قوله: حتّى إذا حمل المیّت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش، و یقول: یا أهلى و یا ولدی لا تلعبنّ بکم الدنیا کما لعبت بى. و الرفرقه إنّما یکون لذی الجناح من الطیر، و کما جاء فی التنزیل الإلهىّ فی وصف الملائکه الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ و کما أشار إلیه أبو على فی قصیده أوّلها ألقى:
هبطت إلیک من المکان الأرفع و رقاء ذات تعزّز و تمنّع‏ و أشار بالورقاء إلى النفس الناطقه، و کما أشار الیه فی رسالته المسمّاه برساله الطیر بقوله: برزت طائفه تقنص فنصبوا الحبال و رتّبوا الشرک و هیّأوا الطعم، و تواروا فی الحشیش و أنا فى سربه طیر. و نحوه. و وجه المشابهه فی هذه الاستعاره ما تشترک فیه النفس و الطیر من سرعه التصرّف و الانتقال فالنفس بانتقال عقلىّ، و الطیر بانتقال حسّى و إذا استعیر لفظ الطیر للنفس فبالحرىّ أن یستعار لفظ الوکر للبدن لما بینهما من المشارکه و هو کونهما مسکنا لا تسهل مفارقته.

و قوله و أوجره السباع.
استعاره للأبدان أیضا. و السباع إشاره إلى النفوس المطیعه لقواها الغضبیّه الّتی شأنها محبّه الغلبه و الانتقام کما أنّ السبع کذلک.
و قوله: و مطارح المهالک.
إشاره إلى الأبدان أیضا فإنّها مطارح مهالک الغافلین الّذین اتّبعو الشهوات أعنى أبدانهم.
و قوله: سراعا إلى أمره.
نصب على الحال بقوله: أخرجهم، و کذلک ما بعده من المنصوبات. و أمره هو حکم قضائه الأزلىّ علیهم بالرجوع إلیه و عودهم إلى مبدئهم و سرعتهم إلیه إشاره إلى قرب وصولهم و هو فی آن انقطاع علاقه النفس مع البدن و هو على غایه من السرعه.
و قوله: مهطعین إلى معاده.
إشاره إلى إقبال النفوس بوجوهها على محلّ عودها و ما أعدّ لها فیه من خیر و شرّ.

و قوله: رعیلا.
إشاره إلى اجتماعهم فی حکم اللّه و قبضته و محلّ الاستحقاق لثوابه و عقابه.
و قوله: صموتا
و قوله: صموتا إذ لا ألسنه لهم إذن ینطقون بها، و یحتمل أن یکون الصمت کنایه عن خضوعهم و انقیادهم فی ذلّ الحاجه و هیبه الجلال.
و قوله: قیاما صفوفا.
فقیامهم استعاره لاستشعار النفوس هیبه اللّه لعظمته، و قیامها بتصوّر کماله على مساق العبودیّه و ذلّ الإمکان، و صفوفا استعاره لانتظامهم إذن فی سلک علمه تعالى إذ الکلّ بالنسبه إلى علمه على سواء کما یستوی الصفّ المحسوس، و یحتمل أن یکون الصفّ استعاره لترتّبهم فی القرب إلى اللّه تعالى متنازلین متصاعدین.
و قوله: ینفذهم البصر.
إشاره إلى علمه تعالى بهم.
و قوله: و یسمعهم الداعى.
فالداعى هو حکم القضاء علیهم بالعود، و إسماعهم: عموم ذلک الحکم لهم بحیث لا یمکن أن یخرج عنه منهم أحد.
و قوله: علیهم لبوس الاستکانه و ضرع الاستسلام و الذلّه.
إشاره إلى حالهم الّتى یخرجون من الأجداث علیها من ذلّ الإمکان و رقّ الحاجه و الخوف فی قبضه اللّه و هو کقوله تعالى یَوْمَ یَدْعُ الدَّاعِ إِلى‏ شَیْ‏ءٍ نُکُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ یَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ«».
و قوله: قد ضلّت الحیل.
أى حیل الدنیا. فلا حیله لهم فی الخلاص ممّا هم فیه کما کانوا یخلصون بحیل الدنیا من بعض شرورها، و انقطع الأمل: أى أملهم فیها لامتناع عودهم إلیها و انقطاع طمعهم فی ذلک.

و قوله: و هوت الافئده کاظمه.
أى سقطت النفوس فی حضیض الذلّ و الفاقه إلى رضا اللّه و عفوه، و لفظ الکظم مستعار کما سبق.
و قوله: و خشعت الأصوات
هو کقول اللّه وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً و هو إشاره إلى سؤالهم بلسان حالهم عفو اللّه و رحمته على وجه الذلّه و الضعف و رقّ العبودیّه فی ملاحظه جلال اللّه.
و قوله: و ألجم العرق و عظم الشفق.
استعار لفظ العرق و کنّى به عن غایه ما تجده النفس من کرب ألم الفراق و هیبه اللّه و عدم الانس بعد الموت إذ غایه الخائف التاعب أن یعرق و یشفق من نزول العقاب به.و نسبه الإلجام إلى العرق نسبه مجازیّه.
و قوله: و ارعدت الأسماع لزبره الداعى.
إشاره إلى ما تجده النفس عند تیقّنها المفارقه. و استعار لفظ الزبره لقهر حکم القضاء للأنفس على مرادها قهرا لا یتمکّن معه من الجواب بالامتناع، و فصل الخطاب هو إمضاء أحکام اللّه على نفوس عباده. عند الرجوع إلیه بتوفیه مالها، و استیفاء ما علیها. و مقایضه الجزاء: معاوضتها بما أتت به إمّا من الملکات الردیئه فبنکال العقاب‏ ، و إمّا من الملکات الفاضله فبنوال الثواب، و هبه کلّ بقدر استعداده و قبوله. و اعلم أنّ العدول إلى المجازات و الاستعارات عن حقایق الألفاظ، و إلى التأویل عن الظواهر إنّما یجوز خصوصا فی کلام اللّه و کلام رسوله و أولیاءه إذا عضده دلیل عقلىّ یمنع من إجراء الکلام على ظاهره. و لمّا اعترف القوم بجواز المعاد الجسمانىّ تقلیدا للشریعه و لم یقم دلیل عقلىّ یمنع منه لم یمکننا الجزم إذن بصحّه هذه التأویلات و أمثالها. و باللّه التوفیق و العصمه.


الفصل الخامس: فی تنبیه الخلق على أوصاف حالهم المنافیه لما هم علیه من التجبّر و الإعراض عمّا خلقوا لأجله لعلّهم یتذکّرون

بقوله: عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً- وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً وَ مُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً وَ کَائِنُونَ رُفَاتاً- وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً وَ مَدِینُونَ جَزَاءً وَ مُمَیَّزُونَ حِسَاباً- قَدْ أُمْهِلُوا فِی طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِیلَ الْمَنْهَجِ- وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ وَ کُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّیَبِ- وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِیَادِ وَ رَوِیَّهِ الِارْتِیَادِ- وَ أَنَاهِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِی مُدَّهِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ

اللغه

القسر: القهر و الجبر.

و الأجداث: القبور واحده جدث.

و الرفات: القنات من العظم و نحوه.

و مدینون: مجزیّون.

و المستعتب: المسترضى.

و السدف: جمع سدفه و هى ظلمه اللیل.

و الریب: الشبه و الشکوک.

و الارتیاد: الطلب.

و ذکر من تلک الأوصاف ثلاثه عشر وصفا:
الأوّل
: کونهم مخلوقون اقتدارا
أى خلقهم لیس لذواتهم بل بقدره قادر مستقلّه عن مشارکه الغیر و ذلک مناف لعصیانهم له.
الثانی: کونهم مربوبون اقتسارا:
أى لیس ملک مالکهم لهم عن اختیار منهم حتّى یکون لهم الخیره فی معصیته و طاعته.
الثالث: کونهم مقبوضون احتضارا:
أى مستحضرون بالموت مقبوضون به إلى حضره جلال اللّه.
الرابع:
کونهم من شأنهم أن یضمّنوا الأجداث.
الخامس:
من شأنهم أن یصیرو ارفاتا.
السادس:
من شأنهم أن یبعثوا أفرادا کما قال تعالى وَ کُلُّهُمْ آتِیهِ یَوْمَ الْقِیامَهِ
فَرْداً«» إى مجرّدا عن استصحاب غیره معه من أهل و مال.
السابع: أنّهم مدینون أجزاء
و من شأنهم ذلک. و الجزاء مصدر نصب بغیر فعله.
الثامن: أنّ من شأنهم أن یمیّزوا حسابا:
أى یحصون عددا کقوله تعالى لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا«» و حسابا أیضا مصدر نصب عن غیر فعله.
التاسع: کونهم قد امهلوا فی طلب المخرج:
أى إنّما امهلوا فی الدنیا لطلب خلاصهم و خروجهم من ظلمات الجهل و ورطات المعاصى إلى نور الحقّ و متّسع الجود.
العاشر: کونهم قد هدوا سبیل المنهج:
أى الهموا بأصل فطرتهم، و دلّوا بالأعلام الواضحه من الأنبیاء و الشرائع على الطریق إلى حضره قدس اللّه و الجنّه.
الحاد عشر: کونهم قد عمّروا مهل المستعتب.
لمّا کان من یطلب استعتابه و یقصد رجوعه عن غیّه یمهل و یدارى طویلا کانت مهله اللّه سبحانه لخلقه مدّه أعمارهم لیرجعوا إلى طاعته و یعملوا صالحا تشبه ذلک فنزّلت منزلته. و مهل نصب على المصدر لأنّ التعمیر إمهال.
الثانی عشر: کونهم قد کشفت عنهم سدف الریب:
أى أزال عن أبصار بصائرهم ظلم الشکوک و الشبهات و الجهالات بما وهبه لهم من العقول و أیّدهم من بعثه الرسل.
الثالث عشر: کونهم قد خلّوا لمضمار الجیاد
أى ترکوا فی الدنیا لیضمروا أنفسهم بأزواد التقوى، و لمّا استعار لفظ المضمار رشّح بذکر الجیاد. إذ شرف المضمار أن تحلّ به جیاد الخیل. و فیه تنبیه لهم على أن یکونوا من جیاد مضمارهم. و قد سبق وجه الاستعاره، و معنى التضمیر فی قوله: ألا و إنّ الیوم المضمار و غدا السباق. و کذلک خلّوا لرویّه الارتیاد: أى لیتفکّروا فی طلب ما یتخلّصون به إلى اللّه تعالى من سایر طاعاته، و کذلک لیتأنّوا أناه المقتبس للأنوار الإلهیّه الطالب للاستناره بها فی مدّه آجالهم و محلّ اضطرابهم فی مهلتهم و تحصیلهم لما ینبغی لهم من الکمالات. و من ملک من عبیده هذه الحالات و أفاض علیهم ضروب هذه الإنعامات فکیف یلیق بأحدهم أن‏ یجاهره بالعصیان أو یتجاسر أن یقابله بالکفران إنّ الإنسان لکفور مبین.


الفصل السادس: فی التنبیه على فضل موعظته و تذکیره و مدحها بالبلاغه و التعریض بعدم القلوب الحامله لها، ثمّ الحثّ على التقوى


بقوله.
فَیَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَهً وَ مَوَاعِظَ شَافِیَهً- لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاکِیَهً وَ أَسْمَاعاً وَاعِیَهً- وَ آرَاءً عَازِمَهً وَ أَلْبَاباً حَازِمَهً- فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِیَّهَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ وَ اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ- وَ وَجِلَ فَعَمِلَ وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ وَ أَیْقَنَ فَأَحْسَنَ وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ- وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ وَ أَجَابَ فَأَنَابَ وَ رَاجَعَ فَتَابَ- وَ اقْتَدَى فَاحْتَذَى وَ أُرِیَ فَرَأَى فَأَسْرَعَ طَالِباً وَ نَجَا هَارِباً- فَأَفَادَ ذَخِیرَهً وَ أَطَابَ سَرِیرَهً وَ عَمَّرَ مَعَاداً- وَ اسْتَظْهَرَ زَاداً لِیَوْمِ رَحِیلِهِ وَ وَجْهِ سَبِیلِهِ وَ حَالِ حَاجَتِهِ- وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ جِهَهَ مَا خَلَقَکُمْ لَهُ- وَ احْذَرُوا مِنْهُ کُنْهَ مَا حَذَّرَکُمْ مِنْ نَفْسِهِ- وَ اسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَکُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِیعَادِهِ- وَ الْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ

المعنى

فقوله: فیا لها أمثالا صایبه و مواعظ شافیه
أمثالا و مواعظ نصب على التمییز. و صواب الأمثله: مطابقتها للممّثل به. و شفاء الموعظه: تأثیرها فی القلوب إزاله مرض الجهل و الرذائل الخلقیه و رجوع المتعّظ بها منیبا إلى ربّه.
و قوله: لو صادفت قلوبا زاکیه و أسماعا واعیه و آراء عازمه و ألبابا حازمه
فزکاء القلوب: استعدادها لقبول الهدایه و قربها من ذلک. و وعى الأسماع: فهم القلوب عنها، و إنّما وصفها بالوعى لأنّها أیضا قابله لقشور المعانی مؤدیّه لها إلى قوّه الحسّ ثمّ الخیال، و عزم الآراء: توجیه الهمّه إلى ما ینبغی و الثبات على ذلک. و حزامه الألباب: جوده رأى العقول فیما یختاره. و ظاهر أن هذه الثلاثه هى أسباب نفع الموعظه.

و قوله: فاتّقوا اللّه. إلى قوله: مقامه
أمر بتقوى اللّه تقیّه کتقوى من استجمع جمیع هذه الأوصاف.
أحدهما: تقیّه من سمع فخشع: أى تقیّه من استعدّ قلبه لسماع الموعظه فخشع عنها للّه.

الثانی: تقیّه من اقترف فاعترف: أى اکتسب الذنوب فاعترف بها و أناب إلى اللّه.

الثالث: تقیّه من وجل: أى خاف ربّه. فأقلقه خوفه فعمل: أى فالتجأ إلى الأعمال الصالحه لینجوا بها.

الرابع: تقیّه من حاذر: أى عقاب ربّه. فبادر إلى إطاعته.

الخامس: تقیّه من أیقن: أى بالموت و لقاء ربّه. فأحسن: أى فأحسن عمله و أخلص له.

السادس: تقیّه من عبّر: أى رمى بالعبر و ذکّر بها. فاعتبر: أى فجعلها سلّما یعبر فیها ذهنه إلى العلم بما ینبغی له.

السابع: و حذرّ: أى من سخط اللّه و عقابه. فازدجر: أى فرجع عن معصیته.

الثامن: تقیّه من أجاب: أى أجاب داعى اللّه. فأناب: أى رجع إلیه بسرّه و امتثل أمره.

التاسع: تقیّه من راجع فکره و عقله فتاب: أى فاستعان به على شیاطینه و قهر نفسه الأمّاره بالسوء. فتاب من متابعتها.

العاشر: تقیّه من اقتدى: أى بأنبیاء اللّه و أولیائه و هدیهم الّذى أتوابه: فاحتذى: أى حذاحذوهم فى جمیع أحوالهم فطلب قصدهم و فعل فعلهم.

الحادى عشر: تقیّه من ارى: أى ارى الخلق فأظهرت بعین بصیرته طریق اللّه و سبیله. فرأى: أى فعرفها و أسرع طالبا لما یسلک له و ینتهى إلیه و نجا فیها هاربا من ظلمات جهله و ثمراته فأفاد ذخیره: أى فاستفاد سلوکه لها و طاعته لربّه فی ذلک ذخیره لمعاده، و أطاب بسلوکها سریرته عن نجاسات الدنیا و عمّر بما یکتسبه فی سلوکها من الکمالات المستعدّه معاده.

و استظهر به زادا لیوم رحیله من دنیاه و استعدّ به لوجه سبیله الّتى هو سالکها و مسافر فیها و لحال حاجته و لموطن فاقته. فإنّ کلّ مرتبه من الکمالات حصلت للإنسان فهى تعدّه لرتبه أعلى منها لو لم یحصّلها لظهرت له حاجته فی الآخره إلى أقل منها حیث لا یجد إلیها سبیلا. و کذلک قوله: قدّم: أى ما استظهر به زادا أمامه: أى تلقاء وجهه الّتى هو مستقبلها و منته إلیها لدار مقامه: أى الآخره.

و قوله: فاتّقو اللّه عباد اللّه جهه ما خلقکم له.
أى باعتبار ما خلقکم له. و لمّا کان ما خلقهم له إنّما هو عرفانه و الوصول إلیه کان المعنى: اجعلوا تقواکم اللّه نظرا إلى تلک الجهه و الاعتبار لا للریاء و السمعه. و جهه منصوب على الظرف، و یحتمل أن یکون مفعولا به لفعل مقدّر: أى و اقصدوا بتقویکم جهه ما خلقکم.

و قوله: و احذروا منه کنه ما حذّرکم من نفسه.
أى اسلکوا فی حذرکم منه حقیقه تحذیره لکم من نفسه بما توعّد به. و ذلک الحذر إنّما یحصل بالبحث عن حقیقه المحذور منه. و السالکون إلى اللّه فی تصوّر ذلک على مراتب متفاوته.

و قوله: و استحقّوا منه ما أعدّ لکم بالتنجّز لصدق میعاده.

استحقاق ما وعد به اللّه تعالى من جزیل الثواب إنّما یحصل بالاستعداد له فهو أمر بالاستعداد له و الاستعداد یحتاج إلى أسباب فذکرها علیه السّلام فی أمرین: أحدهما: التنجّز لصدق میعاده. و التنجّز طلب إنجاز الوعد و قضائه و ذلک إنّما هو بالإقبال على طاعته کما قال تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ«» الآیه، و نحوها. و الثانی: الحذر من أهوال معاده‏ز. و ذلک باجتناب مناهیه و الارتداع بزواجره و نواهیه منها.


الفصل السابع قوله: جعل لکم أسماعا…

قوله: جعل لکم أسماعا. اعلم أنّ فی هذا الفصل فصلین:

الفصل الأوّل:

فی تذکیر عباد اللّه بضروب نعمته علیهم، و التنبیه على الغایه منها،ثمّ التذکّر بحال الماضین من الخلق و التنبیه على الاعتبار بهم. و هو فی معرض الامتنان و ذلک قوله علیه السّلام: جَعَلَ لَکُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِیَ مَا عَنَاهَا- وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا وَ أَشْلَاءً جَامِعَهً لِأَعْضَائِهَا- مُلَائِمَهً لِأَحْنَائِهَا فِی تَرْکِیبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا- بِأَبْدَانٍ قَائِمَهٍ بِأَرْفَاقِهَا وَ قُلُوبٍ رَائِدَهٍ لِأَرْزَاقِهَا- فِی مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ وَ حَوَاجِزِ عَافِیَتِهِ- وَ قَدَّرَ لَکُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْکُمْ- وَ خَلَّفَ لَکُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِینَ قَبْلَکُمْ- مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ- أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَایَا دُونَ الْآمَالِ وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الْآجَالِ- لَمْ یَمْهَدُوا فِی سَلَامَهِ الْأَبْدَانِ- وَ لَمْ یَعْتَبِرُوا فِی أُنُفِ الْأَوَانِ فَهَلْ یَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَهِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِیَ الْهَرَمِ- وَ أَهْلُ غَضَارَهِ الصِّحَّهِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ- وَ أَهْلُ مُدَّهِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَهَ الْفَنَاءِ مَعَ قُرْبِ الزِّیَالِ- وَ أُزُوفِ الِانْتِقَالِ وَ عَلَزِ الْقَلَقِ وَ أَلَمِ الْمَضَضِ وَ غُصَصِ الْجَرَضِ- وَ تَلَفُّتِ الِاسْتِغَاثَهِ بِنُصْرَهِ الْحَفَدَهِ وَ الْأَقْرِبَاءِ- وَ الْأَعِزَّهِ وَ الْقُرَنَاءِ فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ- أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ وَ قَدْ غُودِرَ فِی مَحَلَّهِ الْأَمْوَاتِ رَهِیناً- وَ فِی ضِیقِ الْمَضْجَعِ وَحِیداً قَدْ هَتَکَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ-وَ أَبْلَتِ النَّوَاهِکُ جِدَّتَهُ وَ عَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ- وَ مَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ وَ صَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَهً بَعْدَ بَضَّتِهَا- وَ الْعِظَامُ نَخِرَهً بَعْدَ قُوَّتِهَا- وَ الْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَهً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا- مُوقِنَهً بِغَیْبِ أَنْبَائِهَا لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا- وَ لَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَیِّئِ زَلَلِهَا أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَ الْآبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ الْأَقْرِبَاءَ- تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ وَ تَرْکَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ- فَالْقُلُوبُ قَاسِیَهٌ عَنْ حَظِّهَا لَاهِیَهٌ عَنْ رُشْدِهَا- سَالِکَهٌ فِی غَیْرِ مِضْمَارِهَا کَأَنَّ الْمَعْنِیَّ سِوَاهَا- وَ کَأَنَّ الرُّشْدَ فِی إِحْرَازِ دُنْیَاهَا

اللغه

عناها: أهمّها:

و العشى: ظلمه تعرض للعین باللیل.

و الأشلاء: جمع شلو و هو العضو و هو أیضا القطعه من اللحم، و کنّى به عن الجسد.

و الحنو: الجانب.

و الأرفاق: المنافع، و یروى بأرماقها.

و الرمق: بقیّه الروح: و الخلاق: النصیب.

الخناق: بالکسر حبل یخنق به.

و الإرهاق: الإعجال.

و التشذّب: التفرّق.

و مهد الأمر. مخفّفا و مشدّدا: أى هیّأه.

و انف الأوان: أوّله.

و البضاضه: امتلاء البدن و قوّته.

و الهرم: الکبر.

و غضاره العیش: طیبه.

و آونه: جمع أوان کأزمنه جمع زمان و الزیال: المزایله.

و أزف: قرب.

و العلزه: کالرعده یأخذ المریض.

و الجرض: أن یتبلع ریقه على همّ و حزن.

و الحفده: الأعوان.

و غودر: ترک.

و أنهکه: أخلقه و أبلاه.

و المعالم: الآثار.

و الشحب: البعیر الهالک الناحل.

و النخره: البالیه.

و الأعباء: الأثقال.

و القدّه بکسر القاف و الدال المهمله: الطریقه، و روى بضمّ القاف و الذال المعجمه، و الأوّل أصحّ.
و لنرجع إلى معنى.

فقوله: جعل لکم. إلى قوله: بأرفاتها.

تذکیر بنعمه اللّه تعالى بخلق الأبدان، و ما تشتمل علیه من المنافع. ففائده الأسماع أن تعى ما خلقت لأجله، و فایده الأبصار أن یدرک بها الإنسان عجایب مصنوعات اللّه تعالى فیحصل له منها عبره. و لفظ العشا یحتمل أن یکون مستعارا لظلمه الجهل العارض لإبصار القلوب حتّى یکون التقدیر لتجلو عشا قلوبها، و حینئذ فإدراک البصر المحصّل عبره یحصل للقلب به جلاء لذلک العشا فصحّ إذن إسناد الجلاء إلى الأبصار، و یحتمل أن یکون مستعارا لعدم إدراکها ما تحصل منه العبره إذ کانت فایدتها ذلک فإذا لم یحصل منها ذلک الإدراک کانت کمبصر أصابه العشا، و وجه المشابهه عدم الفائده. و نسبه الجلاء إلیها بوجود الإدراک المفید عبره عنها و هو استعاره أیضا. و عن لیست بزایده لأنّ الجلاء یستدعى مجلوّا و مجلوّا عنه فذکر علیه السّلام المجلوّ و أقامه مقام المجلوّ عنه فکأنّه قال: لتجلو عن قواها عشاها. و أمّا فایده البدن و أعضائه فقد أشرنا إلیه قبل مفصّلا، و قوله: قائمه بأرفاقها: أى أنّ کلّ بدن قائم فی الوجود بحسب ما عنى له من ضروب المنافع.

و قوله: و قلوب رائده. إلى قوله: سترها عنکم.
إظهار لمنّه اللّه تعالى على عباده بخلقه لهم و هدایته لنفوسهم لارتیاد أرزاقهم الّتى بها قوام حیاتها الدنیا و تمکّنها من إصلاح معادها ثمّ باعتبار کونهم فی مجلّلات نعمه و سوابغها. فمنها: ستره علیهم قبائح أعمالهم أن تظهر، و هو اجس خواطرهم بعضهم لبعض بحیث لو اطّلع کلّ على ماله فی ضمیر صاحبه من الغلّ و الحسد و تمنّى زوال نعمته لأفنى بعضهم بعضا و خرب نظام وجودهم. و موجبات مننه: نعمه الّتی یستوجب أن یمنّ بها. و من روى بفتح الجیم فالمراد بالمنن إذن النعم و موجبات ما سقط منها و افیض على العباد. و حواجز عافیته: ما منع منها عوامل الأمراض و المضارّ المندفعه بها، و إنّما ذکر ستر کمیّه الأعمار فی معرض المنّه لأنّه من النعم العظیمه على العبد إذ کان اطّلاع الإنسان على کمیّه عمره ممّا یوجب اشتغال خاطره بخوفه من الموت من عماره الأرض و یبطل بسببه نظام هذا العالم.

و قوله: و خلّف لکم عبرا.
وجه من منن اللّه تعالى على عباده فإنّ إبقائه أحوال الماضین و ما خلّفوه عبره لللاحقین سبب عظیم لجذبهم عن دار الغرور و مهاوى الهلاک إلى سعاده الأبد. و مستمتع خلاقهم: ما استمتعوا به ممّا کان نصیبا لکلّ منهم فی مدّه بقائه من متاع الدنیا. و مستفسح خناقهم: محلّ الفسحه لأعناقهم من ضیق حبائل الموت و أغلال الجحیم، و ذلک المستفسح هو مدّه حیاتهم أیضا ثمّ أردف ذلک بوصف حال الماضین فی غرورهم، و ذکر إعجال الموت لهم عن بلوغ آمالهم و تشذیبه لهم باخترامهم عنها و نبّه به علی وجوب تقصیر الأمل و الاستعداد للموت و کذلک نبّهم بقوله: لم یمهدوا. إلى قوله: الاوان. على تقصیر الماضین فی إصلاح معادهم حیث أمکنهم ذلک فی سلامه أبدانهم و أوّل زمانهم لیحصل لهم بذلک التذکّر نفره عن حال السابقین و انزعاج عن الغرور إلى الاستعداد بالتقوى و الأعمال الصالحه، ثمّ استفهمهم عمّا ینتظر الشباب بشبابهم غیر حوانى الهرم، و أهل الصحّه بصحّتهم غیر الأسقام و المعمّرون بطول أعمارهم غیر الفناء استفهاما على سبیل الإنکار لما ینتظرونه غیر هذه الامور و تقریعا على ذلک الانتظار و تنفیرا عنه بذکر غایاته الّتی حصره فیها.
و أعلم أنّ ذلک لیس انتظارا حقیقیّا لکن لمّا کان المنتظر لأمر و المترقّب له تارکا فی أحواله لما یعنیه من الاشتغال إلى غایه أن یصل إلیه ما ینتظره، و کانت غایه الشباب أن یحنى ظهورهم الهرم. و غایه الصحیح أن یسقم، و غایه المعمّر أن یفنى أشبه ترکهم للعمل و عباده اللّه إلى غایاتهم المذکوره لانتظار لها. فاستعیر له لفظ الانتظار. ثمّ کنّى عن شدّه حال المفارق فی سکرات الموت بأوصاف تعرض له حینئذ کالرعده و الغلق و الغمّ و الخوف و الغصص بالریق و التلفّت للاستغاثه بالأعوان و الأقرباء و الأعزّه. ثمّ نبّه بقوله: فهل دفعت الأقارب أو نفعت النواحب: أى البواکى. على أنّ ما یقع عند نزول الموت من تلک الأحوال لا ینفع فی دفعه قریب و لا حبیب على طریق الاستفهام و الإنکار.

و قوله: قد غودر.
الجمله فی محل النصب على الحال و العامل نفعت: أى لم ینفعه البکاء حال ما غودر فی محلّ الأموات بالأوصاف الکریهه تنفیرا عن أحواله و جذبا إلى الخلاص من أهوالها بالعمل للّه و الإخلاص له. و رهینا: إى مقیما أو مرتهنا بذنوبه و موثوقا بها. مو نصبه على الحال، و کذلک وحیدا، و موضع قوله: قد هتکت، و باقى الأفعال المعطوفه علیه. و الهوام: الدیدان المتولّده من جیفه أو غیرها.

و قوله: و الأرواح مرتهنه بثقل أعبائها.
إشاره إلى اشتغال النفوس و انحطاطها إلى الجنبه السافله بثقل ما حملته من الأوزار و اکتسبته من الهیئات الردیئه. و ما یتحقّق غیبه من الأنباء هناک هو الأخبار عن الأحوال اللاحقه بها بعد الموت من خیر و شرّ فإنّها یتیقّن غیبتها عن أهل الدنیا، أو أنباء ما خلّفته من اللواحق الدنیویّه فإنّها یتیّقن بعد الموت غیبتها و انقطاعها عنها. و الاوّل أولى.
و قوله: لا تستزاد من صالح عملها و لا تستعتب من سىّ‏ء زللها.

و قوله: لا تستزاد من صالح عملها و لا تستعتب من سىّ‏ء زللها. أى لا یطلب منها زیاده من العمل الصالح و لا یقال من سىّ‏ء زللها و یرضى عنها کقوله تعالى وَ إِنْ یَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِینَ«» و ذلک لعدم آله العمل و امتناع الرجوع إلیه و عدم تمکّنها من نزع ما صار فی عنقها من أطواق الهیئات البدنیّه کما قال تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّی أَعْمَلُ صالِحاً فِیما تَرَکْتُ کَلَّا إِنَّها کَلِمَهٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ«».

و قوله: أو لستم آباء القوم و الأبناء و إخوانهم و الأقرباء.
أى أو لیس فیکم من هو أب لأحد اولئک أو ابن له أو أخوه أو قریبه، و هو تنبیه للسامعین على وجه العبره فإنّه لمّا شرح حال الماضین فی الموت و ما بعده نبّههم على أنّهم أمثالهم فی کلّ تلک الأحوال لیرجعوا إلى تقوى اللّه الّذى هو سبب النجاه من تلک الأهوال.
و قوله: تحتذون أمثلتهم.
أى تقتدون بهم فی أفعالهم و تسلکون مسالکهم فی غرورهم و نحوه کما قال تعالى حکایه وَ کَذلِکَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ فِی قَرْیَهٍ مِنْ نَذِیرٍ«».
و قوله: فالقلوب قاسیه عن حظّها.
أى لا استعداد لها تقبل به حظّها الّذى ینبغی لها طلبه لاهیه عن رشدها غافله عن طلب هدایتها سالکه فی غیر مضمارها. المضمار هاهنا: هو الشریعه و أوامر اللّه، و سلوکها لغیره: ارتکابها لمناهى اللّه، و ریاضتها: هى الأعمال الصالحه الّتى هى طریق الجحیم.
و قوله: کأنّ المعنىّ سواها و کأنّ الرشد فی إحراز دنیاها.
مبالغه فی ذکر إعراض القلوب و غفلتها عن المواعظ و إنّهما کها فی تحصیل الدنیا إلى غایه أن اشبهت من لم یکن معیّنا بالخطاب بها، أو أنّ الرشد الّذى جذبت إلیه إنّما هو تحصیل الدنیا و جمعها الّذى جذبت عنه و حذّرت منه.


الفصل الثانی:

فی التذکیر بأمر الصراط و التحذیر من أهواله، و الحثّ على التقوى
و ذلک قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَکُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ- وَ أَهَاوِیلِ زَلَلِهِ وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ- تَقِیَّهَ ذِی لُبٍّ شَغَلَ التَّفَکُّرُ قَلْبَهُ- وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ- وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ یَوْمِهِ وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ- وَ أَوْجَفَ الذِّکْرُ بِلِسَانِهِ وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ- وَ تَنَکَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِیلِ- وَ سَلَکَ أَقْصَدَ الْمَسَالِکِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ- وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ- وَ لَمْ تَعْمَ عَلَیْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ- ظَافِراً بِفَرْحَهِ الْبُشْرَى وَ رَاحَهِ النُّعْمَى- فِی أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَ آمَنِ یَوْمِهِ- وَ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَهِ حَمِیداً وَ قَدَّمَ زَادَ الْآجِلَهِ سَعِیداً- وَ بَادَرَ مِنْ وَجَلٍ وَ أَکْمَشَ فِی مَهَلٍ وَ رَغِبَ فِی طَلَبٍ- وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ وَ رَاقَبَ فِی یَوْمِهِ غَدَهُ- وَ نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ- فَکَفَى بِالْجَنَّهِ ثَوَاباً وَ نَوَالًا وَ کَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا- وَ کَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِیراً- وَ کَفَى بِالْکِتَابِ حَجِیجاً وَ خَصِیماً أُوصِیکُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِی أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَوَ احْتَجَّ بِمَا نَهَجَ- وَ حَذَّرَکُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِی الصُّدُورِ خَفِیّاً- وَ نَفَثَ فِی الْآذَانِ نَجِیّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى وَ وَعَدَ فَمَنَّى- وَ زَیَّنَ سَیِّئَاتِ الْجَرَائِمِ وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ- حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِینَتَهُ وَ اسْتَغْلَقَ رَهِینَتَهُ- أَنْکَرَ مَا زَیَّنَ وَ اسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ

اللغه

أقول: المزلق: الموضع الّذى لا تثبت علیه قدم.

و الدحض: الزلق.

و التهجدّ: العباده باللیل.

و الغرار: النوم القلیل،

و أرجف: أسرع‏ه.

و المخالج: الامور المشغله الجاذبه،

و أکمش: أمضى عزمه و مضى قدما لم یعرج.

المعنى

و اعلم أنّ الصراط الموعود به فی القرآن الکریم حقّ یجب الإیمان به و إن اختلف الناس فی حقیقته، و ظاهر الشریعه و الّذى علیه جمهور المسلمین و من أثبت المعاد الجسمانىّ یقتضى أنّه جسم فی غایه الدقّه و الحدّه ممدود على جهنّم و هو طریق إلى الجنّه یجوزه من أخلص للّه. و من عصاه سلک عن جنبتیه أحد أبواب جهنّم، و أمّا الحکماء فقالوا بحقیّته. و ما یقال فی حقّه: إنّه کالشعر فی الدقّه فهو ظلم بل نسبه الشعره إلیه کنسبتها إلى الخطّ الهندسى الفاصل بین الظلّ و الشمس الّذى لیس من أحدهما فهو کذلک الخط الّذى لا عرض له أصلا، و حقیقته هو الوسط الحقیقىّ بین الأخلاق المتضادّه کالسخاوه بین التبذیر و البخل، و الشجاعه بین التهوّر و الجبن، و الاقتصاد بین الإسراف و التقتیر، و التواضع بین التکبّر و المهانه، و العفّه بین الشهوه و الخمود، و العداله بین الظلم و الانظلام. فالأوساط بین هذه الأطراف المتضادّه هى الأخلاق المحموده، و لکلّ واحد منها طرفا تفریط و إفراط هما مذمومان، و کلّ واحد منها هو غایه البعد بین طرفیه و لیس من طرف الزیاده و لا من طرف النقصان. قالوا: و تحقیق ذلک أنّ کمال الإنسان فی التشبّه. بالملائکه و هم منفکّون عن هذه الأوصاف المتضادّه و لیس فی إمکان الإنسان الانفکاک عنها بالکلّیه فغایته التباعد عنها إلى الوسط تباعدا یشبه‏ الانفکاک عنها. فالسخّى کأنّه لا بخیل و لا مبذّر. فالصراط المستقیم هو الوسط الحقّ الّذى لا میل له إلى أحد الجانبین و لا عرض له و هو أدقّ من الشعر. و لذلک قال تعالى وَ لَنْ تَسْتَطِیعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَیْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِیلُوا کُلَّ الْمَیْلِ«» و روى عن الصادق علیه السّلام و قد سئل عن قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ قال: یقول: أرشدنا للزوم الطریق المؤدّى إلى محبّتک و المبلّغ دینک و المانع من أن نتّبع أهوائنا فنعطب أو نأخذ بآرائنا فنهلک. و عن الحسن العسکرى علیه السّلام: الصراط صراطان: صراط فی الدنیا، و صراط فی الآخره. فأمّا الصراط المستقیم فی الدنیا فهو ما قصر عن الغلوّ و ارتفع عن التقصیر و استقام فلم یعدل إلى شی‏ء من الباطل، و الصراط الآخر هو طریق المؤمنین إلى الجنّه لا یعدلون عن الجنّه إلى النار و لا إلى غیر النار سوى الجنّه. و الناس فی ذلک متفاوتون فمن استقام على هذا الصراط و تعوّد سلوکه مرّ على صراط الآخره مستویا و دخل الجنّه آمنا. إذا عرفت ذلک فنقول: مزالق الصراط کنایه عن المواضع الّتى هى مظانّ انحراف الإنسان عن الوسط بین الأطراف المذمومه، و تلک المواضع هى مظانّ الشهوات و المیول الطبیعیّه، و أهاویل زلله هى ما یستلزمه العبور إلى أحد طرفى الإفراط و التفریط من العذاب العظیم فی الآخره. و تارات أهواله تکرار ذلک تاره بعد اخرى.

و قوله: فاتّقو اللّه
عود إلى الأمر بتقوى اللّه تقیّه من استجمع أوصاف الایمان: أحدها: تقیّه من شغل التفکّر قلبه: أى فی أمر معاده عن محبّه الدنیا و باطلها. الثانی: و أنصب الخوف بدنه: أى أتعبه و أنحله خوف اللّه تعالى و ما أعدّ للعصاه من الأهوال. الثالث: و أسهرت العباده غرار نومه: أى لم تترک له نوما. الرابع: و اظمأ الرجاء هو اجر یومه: أى اظمأه رجاء ما أعدّ اللّه لأولیائه الأبرار عوضا من طیّبات هذه الدار. و ظمأه فی جواهر یومه کنایه عن کثره صیامه فی أشدّ أوقاته‏ حراره، و إنّما جعل الهواجر مفعولا إقامه للظرف مقام المظروف، و هو من وجوه المجاز. الخامس: و ظلف الزهد شهواته. استعار لفظ الإطفاء للزهد و هو من أوصاف الماء و نسبته إلى النار نسبه الزهد إلى الشهوات فلاحظ الشبه بین الشهوات و النار فی تأثیرهما المؤذى، و بین الزهد و الماء لما یستلزمانه من کون الإعراض عن الدنیا یستتبع قهر الشهوات و دفع مضارّها کما یفعله الماء بالنار. السادس: و أسرع [أرجف خ‏] الذکر إلى لسانه: أى لتعوّده إیّاه و إدمانه فیه. السابع: و قدّم الخوف لأمانه [لإبّانه خ‏]: أى خوف ربه. فعمل مخلصا له لیأمن عذابه. الثامن: و تنکّب المخالج: أى عدل عن الامور المشغله إلى واضح سبیل اللّه. التاسع: و سلک أقصد المسالک: أى أولاها بالقصد إلى النهج الواضح و الطریق المطلوب للّه من خلقه، و هو سبیله المستقیم فإنّ للناس فی سلوک سبیل اللّه مذاهب کثیره و لکن أحبّها إلیه أولاها بالقصد إلى طریقه‏ الموصل إلیه. العاشر: و لم تفتله فاتلات الغرور: أى لم تهلکه غفلاته فی لذّات الدنیا عن ربّه إذ لم یغفل عن طاعته. الحادى عشر: و لم تعم علیه مشتبهات الامور: أى لم تظلم فی وجهه شبهه على حقّ فیسدّ علیه وجه تخلیصه. الثانی عشر: ظافرا بفرحه البشرى: أى بشرى الملائکه یومئذ: بشریکم الیوم جنّات تجرى من تحتها الأنهار. الثالث عشر: و راحه النعمى، و الراحه فی مشاقّ الدنیا و متاعبها بنعمى الآخره.
و نعیم اللّه فی الآخره الجنّه. الرابع عشر: فی أنعم نومه: أى فی أطیب راحته، و أطلق لفظ النوم على الراحه فی الجنّه مجازا إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه. الخامس عشر: و آمن یومه: أى آمن أوقاته، و أطلق لفظ الیوم على مطلق الوقت مجازا إطلاقا لاسم الجزء على الکلّ. السادس عشر: قد عبر معبر العاجله: أى الدنیا. حمیدا: أى محمود الطریقه. ۲۵۸ السابع عشر: و قدم ذات الآجله سعیدا: أى عمله للآخره فحصل على السعاده الأبدیّه، و حمیدا و سعیدا حالان. الثامن عشر: و بادر من وجل: أى إلى الأعمال الصالحه من وجل خوف اللّه. التاسع عشر: و أسرع فی مهل. أى إلى طاعه ربّه أیّام مهلته، و هى حیاته الدنیا. العشرون: و رغب فی طلب: أى کان طلبه للّه عن رغبته له. الحادى و العشرون: و ذهب عن هرب: أى کان ذهابه عمّا یبعّد عن اللّه عن هرب من خوف اللّه. و فی کلّ قرینتین من هذه العشره السجع المتوازى. الثانی و العشرون: و راقب فی یومه غده: أى توقّع فی أیّام حیاته هجوم آخرته. الثالث و العشرون: و نظر قدما أمامه: أى لم یلتفت فی نظره عن قصد اللّه إلى غیره. ثمّ نبّه بقوله: فکفى بالجنّه ثوابا و نوالا. على وجوب السعى لها دون غیرها، ثمّ تکون النار و بالا و عقابا على وجوب الهرب منها دون غیرها، و کفى باللّه منتقما و نصیرا على وجوب الاقتصار على خشیته و الاستعانه به، و بقوله: و کفى بالکتاب حجیجا: أى محتجّا و خصیما على وجوب الانفعال عنه و ملاحظه شهادته فی الآخره على من لم یتّبعه. و نسب الاحتجاج و الخصام إلى الکتاب مجازا، و المنصوبات بکفى على التمییز.

و قوله: اوصیکم بتقوى اللّه.
عود إلى الحثّ على تقوى اللّه باعتبار امور ثلاثه: أحدها: إعذاره إلى الخلق بما أنذرهم به من العقوبات. الثانی: احتجاجه علیهم بما أوضحه بالدلائل و البیّنات. الثالث: تحذیره لهم إبلیس و عداوته، و قد سبق معناه فی الخطبه الاولى. و ذکر له أوصافا هى کونه نفذ فی الصدور خفیّا. و الإشاره به إلى النفس الأمّاره بالسوء، و تجوّز بلفظ الصدور فی القلوب إطلاقا لاسم المکان على المتمکّن، و کونه نفث فی الآذان نجیّا. و هو إشاره إلى ما تلقیه شیاطین الإنس بعضهم إلى بعض من زخرف القول و غروره. و قد سبق ذلک فی الخطبه الاولى، و کونه أضلّ: أى جذب عن طریق الحقّ و أردى: أى فأرادهم فی قرار الجحیم، و وعد و منّى: أى ببلوغ الآمال الکاذبه، و زیّن سیّئات الجرائم: أى‏ قبایح المعاصى، و هوّن موبقات العظائم: أى ما یهلک من عظیم الذنوب. و تهوینه لها بمثل تمنّیه التوبه و مساعده العقل له بقوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ و بمثل الاقتداء بالغیر الّذی هو أولى بالعفّه مثلا أو أکثر قدرا فی الدنیا، و سایر أوصاف الوساوس کما عرفت حقیقتها.

و قوله: حتّى إذا استدرج قرینته و استغلق رهینته
و قوله: حتّى إذا استدرج قرینته و استغلق رهینته فقرینته هى النفس الناطقه باعتبار موافقته و هى رهینته باعتبار إحاطه الذنوب بها من قبله کما یستغلق الرهن بما علیه من المال و لفظ الرهینه مستعار. و استدراجه لها تزیینه حالا بعد حال و تعویدها بطاعته.

و قوله: أنکر ما زیّن. إلى آخره.
إشاره إلى غایته من وسوسته و عود من النفس الأمّاره بالسوء إلى موافقتها لحکم العقل فی قبح ما کانت أمرت به، و استعظام خطره و مساعدتها على التحذیر منه بالامتناع من تحسینه بعد أن کانت تحثّ علیه و تزیّنه و تؤمن منه. و ذلک إمّا عند التوبه و قهر العقل لها أو عند معاینه المکروهات الجزئیّه من العقوبات و الآلام إمّا فی الدنیا أو بعد المفارقه و الحصول فی عذاب الجحیم بسبب الانهماک فیما کانت زیّنته من الباطل، و ذلک أنّ النفس إذا فارقت البدن حملت معها القوّه المتوهّمه فتدرک ما یلحقها من جزئیّات العقوبات کعذاب القبر و ما یتنوّع منه کما سبقت الإشاره إلیه، و قد یتصوّر ذلک من شیاطین الإنس فی تزیینهم الجرائم، و أمّا من الشیطان الظاهر فظاهر.


الفصل الثامن و منها فی صفه خلق الإنسان،
و فی هذا الفصل فصلان.

الفصل الأوّل
قوله: أَمْ هَذَا الَّذِی أَنْشَأَهُ فِی ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَ شُغُفِ الْأَسْتَارِ- نُطْفَهً دِهَاقاً وَ عَلَقَهً مِحَاقاً- وَ جَنِیناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِیداً وَ یَافِعاً- ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً وَ لِسَاناً لَافِظاً وَ بَصَراً لَاحِظاً- لِیَفْهَمَ مُعْتَبِراً وَ یُقَصِّرَ مُزْدَجِراً- حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ وَ اسْتَوَى‏ مِثَالُهُ- نَفَرَ مُسْتَکْبِراً وَ خَبَطَ سَادِراً مَاتِحاً فِی غَرْبِ هَوَاهُ- کَادِحاً سَعْیاً لِدُنْیَاهُ فِی لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ- ثُمَّ لَا یَحْتَسِبُ رَزِیَّهً وَ لَا یَخْشَعُ تَقِیَّهً- فَمَاتَ فِی فِتْنَتِهِ غَرِیراً وَ عَاشَ فِی هَفْوَتِهِ یَسِیراً- لَمْ یُفِدْ عِوَضاً وَ لَمْ یَقْضِ مُفْتَرَضاً- دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِیَّهِ فِی غُبَّرِ جِمَاحِهِ وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ- فَظَلَّ سَادِراً وَ بَاتَ سَاهِراً فِی غَمَرَاتِ الْآلَامِ- وَ طَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَ الْأَسْقَامِ بَیْنَ أَخٍ شَقِیقٍ وَ وَالِدٍ شَفِیقٍ- وَ دَاعِیَهٍ بِالْوَیْلِ جَزَعاً وَ لَادِمَهٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً- وَ الْمَرْءُ فِی سَکْرَهٍ مُلْهِثَهٍ وَ غَمْرَهٍ کَارِثَهٍ- وَ أَنَّهٍ مُوجِعَهٍ وَ جَذْبَهٍ مُکْرِبَهٍ وَ سَوْقَهٍ مُتْعِبَهٍ- ثُمَّ أُدْرِجَ فِی أَکْفَانِهِ مُبْلِساً وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً- ثُمَّ أُلْقِیَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِیعَ وَصَبٍ وَ نِضْوَ سَقَمٍ- تَحْمِلُهُ حَفَدَهُ الْوِلْدَانِ وَ حَشَدَهُ الْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ- وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ- حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَیِّعُ وَ رَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ- أُقْعِدَ فِی حُفْرَتِهِ نَجِیّاً لِبَهْتَهِ السُّؤَالِ وَ عَثْرَهِ الِامْتِحَانِ- وَ أَعْظَمُ مَا هُنَالِکَ بَلِیَّهً نُزُولُ الْحَمِیمِ- وَ تَصْلِیَهُ الْجَحِیمِ وَ فَوْرَاتُ السَّعِیرِ- وَ سَوْرَاتُ الزَّفِیرِ لَا فَتْرَهٌ مُرِیحَهٌ- وَ لَا دَعَهٌ مُزِیحَهٌ وَ لَا قُوَّهٌ حَاجِزَهٌ وَ لَا مَوْتَهٌ نَاجِزَهٌ وَ لَا سِنَهٌ مُسَلِّیَهٌ- بَیْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ وَ عَذَابِ السَّاعَاتِ- إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ‏

أقول: اعلم أنّ مدار هذا الفصل على وصف حال الإنسان من مبدء عمره بالنقصان و بیان نعم اللّه بتردیده فی أطوار الخلقه، و تبکیته بمقابله نعمه بالکفر و الغفله فی متابعه الشیطان، و تذکیره بما یکون غایته من حیاه الدنیا و هو الموت و ما یتبعه من أحوال المیّت بین أهله و أقاربه، و حالهم معه و ما یکون بعد الموت من العذاب فی القبر و السؤال و الحساب و سائر ما ینّفر طبعه منه، و یوجب له الالتفات إلى إصلاح معاده و تذکیر مبدئه لعلّه یتذکّر أو یخشى.

اللغه

و الشغف بالغین المعجمه: جمع شغاف بالفتح و هو غلاف القلب.

و الدفاق: المفرغه.

و المحاق: الناقصه.

و الیافع: الغلام المرتفع.

و السادر: اللاهى الّذی لا یهتمّ بشی‏ء و الماتح: الجاذب للدلو من البئر.

و البدوات: الخطرات الّتى تبدو: أى تظهر للخاطر.

و دهمه بالکسر: أى غشیه.

و غبر شی‏ء: بقیّته و جماحه: سعیه فی رکوب هواه.

و السادر ثانیا: المتحیّر.

و اللدم: ضرب الصدر. و کارثه: موجبه لشدّه الغمّ.

و الإبلاس: الیأس.

و الرجیع: من الإبل المردّد فی الأسفار.

و النضو: الّذی قد هزلته. و حفده الولدان: أعوانهم.

و الحشده بفتح الحاء و الشین: المجتمون.

و التفجّع: التوجّع.

و فی تفصیل هذا الفصل نکت:

الاولى:
أم للاستفهام. و هو استفهام فی معرض التقریع للإنسان و أمره باعتبار حال نفسه، و دلاله خلقته على جزئیّات نعم اللّه علیه مع کفرانه لها. و کان أم معادله لهمزه الاستفهام قبلها، و التقدیر ألیس فیما أظهره اللّه لکم من عجائب مصنوعاته عبره أم هذا الإنسان و تقلّبه فی أطوار خلقته و حالاته إلى یوم نشوره کقوله تعالى وَ فِی أَنْفُسِکُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ و فی بعض النسخ: أو هذا. و المعنى واحد.
اعلم أنّ فی ملاحظه خلقه الإنسان و ما جمع فیها من لطائف الأسرار عبره تامّه حتّى کان عالما مختصرا کما أو مأنا إلیه قبل، و سیأتى.
الثانیه:
قیل أوّل أحوال تکوّن الإنسان زبدیّه المنىّ و انتفاخ یظهر فیه فینمو به، و أوّل ما یتکوّن فیه وعاء الروح بفعل الملک المصوّر ثمّ تحدث ریح من قبل الطبیعه فتثقب ثقبا أمام فوهات العروق بحیث إذا تخلّقت محسوسه صارت عروقا ثمّ یبسط النطفه فی أقطارها و تحدث فی الغشاء ثقبا موازیه لثقب العروق الّتى فی الرحم ینفتح عند الحیض، و یحصل لجمیعها مجارى فی الغشاء المذکور یؤدّى إلى مجرى واحد نافذ إلى عمق النطفه مؤدّیا إلى باطنه الدم فی عرقین أو عرق و النفس فی عرقین فإذا تخلّقت هذه المجارى امتصّت النطفه حینئذ الغذاء من فوهات تلک العروق، و نفذ فی الصفاق دم یستحیل عن قریب إلى جوهر المنىّ و حدث لها خطوط لها مبادئ دمویّه، و نقطه اولى هى القلب ثمّ لا تزال الدمویّه تزداد فی النطفه حتّى تصیر علقه و تکون مثل الرغوه فی الأکثر لسته أیّام، و ابتداء الخطوط الحمر و النقطه بعد ثلاثه أیّام اخرى ثمّ بعد ستّه أیّام و هو الخامس عشر من حین العلوق تنفذ الدمویّه فی الجمیع فتصیر علقه، و بعد ذلک باثنى عشر یوما تصیر لحما و تتمیّز قطعه لحم المضغه و تمیّز الأعضاء الرئیسه، و تمتدّ رطوبه النخاع ثمّ بعد تسعه أیّام ینفصل الرأس عن المنکبین و الأطراف عن الضلوع و البطن تمیّزا یحسّ به فی بعضهم و یخفى فی بعض حتّى یحسّ به بعد أربعه أیّام اخرى تمام الأربعین فیصیر جنینا، و قد یتمّ ذلک فی ثلاثین یوما و قد یتمّ فی خمس و أربعین یوما، و قیل: العدل فی ذلک خمسه و ثلاثون یوما فیتحرّک فی سبعین یوما، و یولد فی مائتین و عشره أیّام و ذلک سبعه أشهر، و إذا کان الأکثر لخمسه و أربعین یوما فتحرّک فی تسعین یوما، و یولد فی مائتین و سبعین یوما، و ذلک تسعه أشهر. فهذه إشاره إلى تنقّله فی ظلمات الرحم بتدبیر الملک المقتدر و واسطه الملک المصوّر، و لو کشف الغطاء لرأینا هذه التخطیط و التصویر یظهر علیه شیئا فشیئا مع أنّا لا نرى المصوّر و لا آلته. فسبحان المقتدر على ما یشاء.

الثالثه:
إنّما وصف العلقه بالمحاق لأنّها لم تفض علیها بعد صوره شخص الإنسان فهى بعد منمحقه.
الرابعه:
الولد ما دام یرضع فهو رضیع، و بعده ولید، فإذا ارتفع قیل: یافع. فإذا طرّشا ربه فهو غلام، فإذا أدرک فهو رجل، و للرجولیّه ثلاثه حدود: الشباب و هو إلى تمام النموّ، و بعده الکهوله، و بعدها الشیخوخه.
الخامسه:
ذکر الحفظ للقلب و اللفظ للسان و اللحظ للبصر بیان لفوایدها، ثمّ ذکرغایه تلک الفواید و مقصودها، و هو أن یفهم الإنسان معتبرا أى یستنبط من شواهد آلاء اللّه دلایل وحدانیّته و سایر نعوت جلاله و یعبر فیها إلى استکمال الفضایل النفسانیّه و یقصر مزدجرا: أى یکفّ عمّا لا ینبغی من موبقات الأیّام و عن الخوض فیما لا یعنیه مزدجرا عنها.
السادسه:
قوله حتّى إذا قام اعتداله و استوى مثاله نفر مستکبرا إلى آخر الأوصاف. ربّما یعترض فیقال: إنّ کثیرا من الناس لا یکون بهذه الصفه و حینئذ لا تصدق علیهم هذه الأحکام. فجوابه: أنّ إشارته علیه السّلام إلى الإنسان المطلق الّذی هو فی قوّه البعض لا الإنسان العامّ، و ذلک أنّ الأوصاف المذکوره إذا صدقت على المطلق فقد صدقت على بعض الناس، و ذلک البعض هم العصاه المرادون بهذه الأوصاف، و التوبیخ بها لهم، و فیه تنبیه للباقین على وجوب دوام شکر اللّه و البقاء على امتثال أوامره و نواهیه.
السابعه:
ماتحا فی غرب هواه. لمّا استعار لفظ الغرب لهواه الّذى یملأ به صحایف أعماله من المآثم کما یملأ ذو الغرب غربه من الماء رشّح تلک الاستعاره بذکر المتح.
الثامنه:
المنصوبات العشرون: نطفه و علقه و جنینا و راضعا و ولیدا و یافعا و معتبرا و مزدجرا و مستکبرا و سادرا و ماتحا و کادحا و غریرا و مبلسا و منقادا و سلسا و رجیع و صب و نضو سقم و نجیّا. کلّها أحوال، و العامل فی کلّ حال ما یلیه من الأفعال. و سعیا إمّا مفعول به و العامل کادحا أو مصدر استغنى عن ذکر فعله، و یسیرا صفه ظرف محذوف اقیمت مقامه: أى زمانا یسیرا، و روى أسیرا فعلى هذا یکون حالا، و جزعا و قلقا و تقیّه مفعول به، و استعار أسیرا للعاصى على الروایه الثانیه، و وجه المشابهه أن صاحب الزلّه یقوده هواه إلى هوانه کما یقاد الأسیر إلى ما یکره.
التاسعه:
لم یفد عوضا: أى لم یستفد فی الدنیا عوضا ممّا یفوته منها فی الآخره، و العوض الّذى ضیّعه هو الکمالات الّتی خلق لیستفیدها و فرضت علیه من الطاعات و لم یقضها من العلوم و الأخلاق.
العاشره:
الواو فى المر ء للحال و العامل لادمه. و الأنّه الموجعه أى لقلوب الواجدین علیه و الجذبه المکربه: أى جذب الملائکه للروح کما قال تعالى وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِی غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِکَهُ باسِطُوا أَیْدِیهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ«» الآیه، و روى عن رسول اللّه‏ صلى اللّه علیه و آله و سلّم قال: إنّ المؤمن إذا احتضر أتته الملائکه بحریره فیها مسک و ضبائر الریحان فینسلّ روحه کما تسلّ الشعره من العجین و یقال: أیّتها النفس المطمئنّه ارجعى إلى ربّک راضیه مرضیّه إلى روح اللّه و کرامته فإذا خرجت روحه وضعت على ذلک المسک و الریحان و طویت علیه الحریره و بعث بها إلى علّیین، و إنّ الکافر إذا احتضر أمر اللّه الملائکه بمسح فیه جمره فنزع روحه انتزاعا شدیدا و یقال: ایّتها النفس الخبیثه ارجعى ساخطه مسخوطا علیک إلى هوان اللّه و عذابه فإذا خرجت روحه وضعت على تلک الجمره و کان لها نشیش، و یطوى علیها ذلک المسح، و یذهب بها إلى سجّین. و اعلم أنّ تلک الجذبه تعود إلى ما یجده المیّت حال النزع و هو عباره عن ألم ینزل بنفس الروح یستغرق جمیع أجزائه المنتشره فی أعماق البدن و لیس هو کسائر ما یجده الروح المختصّ ببعض الأعضاء کعضو شاکته شوکه و نحوه لاختصاص ذلک بموضع واحد فألم النزع یهجم على نفس الروح و یستغرق جمیع أجزائه و هو المجذوب من کلّ عرق و عصب و جزء من الأجزاء و من أصل کلّ شعره و بشره. و لا تسئلنّ عن بدن یجذب منه کلّ عرق من عروقه، و قد یمثّل ذلک بشجره شوک کانت داخل البدن ثمّ جذبت منه فهى الجذبه المکربه، و لمّا کان موت کلّ عضو من البدن عقیب الأمراض الّتی ربّما طالت تدریجا فتلک هى السوقه المتعبه.
الحادى عشر:
قوله: رجیع و صب و نضو سقم. استعار له وصفى الجمل فالرجیع باعتبار کونه قد ردّد فی أطوار المرض و تواتر علیه کما یردّد الجمل فی السفر مرّه بعد اخرى، و لفظ النضو باعتبار نحو له من الأسقام کما ینحل الأسفار الجمل.
الثانیه عشر:
قوله: اقعد فی حفرته نجیّا لبهته السؤال. إلى آخره. أقول: القول بعذاب القبر و سؤال منکر و نکیر حقّ روى عن رسول اللّه صلى اللّه علیه و آله و سلّم أنّه قال لعمر: یابن الخطّاب کیف بک إذا أنت متّ فانطلق بک قومک فقاسوا لک ثلاثه أذرع فی ذراع و شبر ثمّ رجعوا إلیک فغسّلوک و کفنّوک ثمّ احتملوک حتّى یضعوک فیه ثمّ یهیلوا علیک التراب فیدفنوک فإذا انصرفوا عنک أتاک فتّانا القبر منکرا و نکیرا أصواتهما کالرعد القاصف و أبصارهما کالبرق الخاطف یجرّان أشعارهما و یحیثان‏ القبر بانیا بهما فیبلبلانک و یزلزلانک فیقولان لک: من ربّک و من نبیّک و ما دینک کیف بک عند ذاک یا عمر. فقال عمر: فیکون معى عقلى الآن قال صلى اللّه علیه و آله و سلّم: نعم قال: فإذن أکفیهما. و فی وصفهما عنه صلى اللّه علیه و آله و سلّم أنّهما ملکان أسودان أرزقان أحدهما منکر و الآخر نکیر. و اعلم أنّ الإیمان بما جاء من ذلک على ثلاث مراتب: أحدها: و هو الأظهر الأسلم أن یصدّق بأنّها موجوده و أنّ هناک ملکین على الصوره المحکیّه، و حیّات و عقارب تلدغ المیّت، و إن کنّا لا نشاهدها إذ لا تصلح هذه العین لمشاهده الامور الملکوتیّه، و کلّ ما یتعلّق بالآخره فهو من عالم الملکوت کما کانت الصحابه یؤمنون بنزول جبرئیل، و کان النبىّ صلى اللّه علیه و آله و سلّم یشاهده و إن لم یکونوا یشاهدونه، و کما أنّ جبرئیل لا یشبه الناس فکذلک منکر و نکیر و فعلهما و الحیّات و العقارب فی القبر لیس من جنس حیّات عالمنا. فتدرک بمعنى آخر. المقام الثانی: أن یتذکّر ما قد یراه النایم من صوره شخص هایل یضربه أو یقتله أو حیّه تلدغه و قد یتألّم بذلک حتّى تراه فی نومه یصیح و یعرق جبینه و ینزعج من مکانه کلّ ذلک یدرک من نفسه و یشاهده و یتأذّی به کما یتأذّى الیقظان و أنت ترى ظاهره ساکنا و لا ترى حوله شخصا و لا حیّه، و الحیّه موجوده فی حقّه متخیّله له و لا فرق بین أن یتخیّل عدوّا أوحیّه أو یشاهده. المقام الثالث: أن تعلم أنّ منکرا و نکیرا و سایر أحوال القبر غایته الایلام و المولم فی حقّه لیس هو الشخص المشاهد و لا الحیّه بل ما حصل فیه من العذاب فالنفس العاصیه إذا فارقت البدن حملت القوّه المتخیّله معها و لم یتجرّد عن البدن منزّهه عن الهیئات البدنیّه و الأخلاق الردیئه المهلکه من الکبر و الریاء و الحسد و الحقد و الحرص و غیرها، و هى عند الموت عالمه بمفارقه البدن متوهّمه لنفسها الإنسان الّذى مات و على صورته کما کان فی الرؤیا یتخیّل و یتوهّم بدنها مقبوره و یتخیّل الآلام الواصله إلیها عن کلّ خلق ردی‏ء على سبیل العقوبه الحسّیّه لها کما قرّرته الشریعه الصادقه، و انغرس فی الأذهان عنها على صوره شخص منکر هائل الصوره یعنفه فی السؤال و یبهته بسوء منظره و هول أصواته و یمتحنه فیتلجلج لسانه فیضربه و یعذّبه، و على مثال تنیّن یلدغه، و إن کانت النفس سعیده تخیّلت اللذّات الحاصله لها من کلّ خلق حسن و عمل صالح قدّمته فی صوره ملائمه فوق ما کانت یعتقده ممّا کان وصف لها من صور أشخاص بهیّه یدخل علیهم و یتلقّاهم بالبشاره کمبشّر و بشیر و سایر الملائکه الّذین یدخلون علیهم من کلّ باب سلام علیکم و من فسحه القبر و الروح و الریحان و سایر ما وعد فیه. فهذا عذاب القبر و ثوابه و إلیه الإشاره ب قول الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم: القبر روضه من ریاض الجنّه أو حفره من حفر النار. فإن قلت: لم جعل أوّل داخل على الإنسان فی قبره سواء کان سعیدا أو شقیّا ملکین و لم یکن ثلاثه أو واحد مثلا.
قلت: قال بعض العلماء: إنّه لمّا کانت السعاده و الشقاوه الحاصلتین للنفس إنّما یحصل من جهه قوّتین نظریّه و عملیّه بهما جعل ما یکتسب عن کلّ واحده منهما ملکا.
فإن کان المکتسب جهلا مرکّبا و رذائل أخلاق فمنکر و نکیر و إن کان علما و مکارم فمبشّر و بشیر. و اللّه أعلم بأسرار شریعته.
و اعلم أنّک متى تصوّرت معنى ثواب القبر و عذابه فی المقامات تصوّرت معنى ثواب الجنّه و عذاب النار.
الثالث عشر:
قوله لا فتره مزیحه و لا قوّه حاجزه. یجرى مجرى آیات الوعید الناطقه بالتخلید، و هى مخصوصه بالکفّار الّذین لا مسکه لنفوسهم بعالم الملکوت و نحوه قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِینَ فِی عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا یُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِیهِ مُبْلِسُونَ«» و أمّا أنّه لیس لهم قوّه حاجزه فلأنّ القوّه الحاجزه بینهم و بین العذاب مفقوده فی حقّهم و هى المسکه باللّه تعالى و محبّه الالتفات إلى عالم الغیب و الملأ الأعلى، و أمّا عدم الموته الناجزه فلأنّ الإنسان غیر قابل للفناء مرّه اخرى کما علم ذلک فی موضعه و أمّا سلب السنه عنهم إشاره إلى شدّه آلامهم و ما یلقونه من ألیم العذاب لما أنّ الألم الشدید یستلزم عدم النوم فلا سلوه إذن بین حالات سکرات العذاب، و إطلاق لفظ الموتات مجازفی شدّه العذاب إطلاقا فذى الغایه على ما یصلح غایه له و قد لاحظ فی أکثر هذا الفصل السجع المتوازى و باللّه التوفیق.

الفصل الثانی
قوله: عِبَادَ اللَّهِ أَیْنَ الَّذِینَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا- وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا- أُمْهِلُوا طَوِیلًا وَ مُنِحُوا جَمِیلًا- وَ حُذِّرُوا أَلِیماً وَ وُعِدُوا جَسِیماً- احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَهَ وَ الْعُیُوبَ الْمُسْخِطَهَ- أُولِی الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ وَ الْعَافِیَهِ وَ الْمَتَاعِ- هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ- أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ أَمْ لَا- فَأَنَّى تُؤْفَکُونَ أَمْ أَیْنَ تُصْرَفُونَ أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ- وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِکُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ- قِیدُ قَدِّهِ مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ- الْآنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ- فِی فَیْنَهِ الْإِرْشَادِ وَ رَاحَهِ الْأَجْسَادِ وَ بَاحَهِ الِاحْتِشَادِ- وَ مَهَلِ الْبَقِیَّهِ وَ أُنُفِ الْمَشِیَّهِ وَ إِنْظَارِ التَّوْبَهِ- وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَهِ قَبْلَ الضَّنْکِ وَ الْمَضِیقِ- وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ- وَ إِخْذَهِ الْعَزِیزِ الْمُقْتَدِرِ

اللغه
أقول: و رّطته فی الأمر: خلّصته فیه.

و المناص: الملجأ.

و المحار: المرجع.

و أفک: صرف.

و قید: قدّه مقدار قامته.

و المعفر: المترب.

و العفر: التراب.

و الفینه:الجبن.

و أنف الشی‏ء: أوّله.

و الحوبه: الحاجه و المسکنه.

و الضنک: الضیق.

و فی هذا الفصل فوائد:
الاولى
: التنبیه و التقریع على کفران جمله من نعم اللّه، فمنها أن عمّرهم فنعموا، و علّمهم ففهموا، و أنظرهم و سلّمهم من الآفات و أمهلهم طویلا، و منحهم الجمیل، و حذّرهم ألیم العذاب، و وعدهم وعدا حسنا. و من کفرانهم لتلک النعمه أن اشتغلوا بلذّات الدنیا عن أوامره و لهوا عن الالتفات إلیه و نسوا ما ذکّرهم به و دعاهم إلیه.
الثانیه: التحذیر من الذنوب المورّطه فی موارد الهلکه و أنواع العذاب ثمّ من العیوب المسخطه للّه و هى اکتساب رذائل الأخلاق.
الثالثه:
تنبیه اولى الأبصار و الأسماع و العافیه و المتاع فی الدنیا على أنّه لا مناص: أى من أمر اللّه، و لا خلاص: أى من عذابه لمن حصل فیه، و کذلک لا معاذ و لا ملاذ منه لمن استعدّ له. و لا فرار: أى من حکمه، و لا مرجع: أى بعد الموت. و إنّما خصّ اولى الأبصار و الأسماع و العافیه لکونهم أهل التکالیف التامّه، و العقول داخله فی إشارته إمّا بالإبصار و الإسماع مجازا أو فی العافیه، و إنّما خصّ اولى المتاع لأنّ أهل الاستمتاع بالدنیا هم المجذوبون عنها من جهه اشتغالهم بمتاعها عن سلوک سبیل اللّه، و هل استفهام عن الامور المذکوره على سبیل الإنکار لها ثمّ استفهمهم عن وقت صرفهم، و عن مکان ذلک على سبیل التقریع لهم، ثمّ عمّا یعتذرون به بعد لقاء اللّه فی ترک أو امره على سبیل الإنکار للأعذار أیضا. و أم معادله لهل الاستفهامیّه.
الرابعه: التذکیر بأمر القبر و تعفیر الخدّ فیه ممّا هو منفور عنه طبعا و فیه تنبیه على وجوب الانتهاء عن الاستکثار من قینات الدنیا و جناتها لوجوب مفارقتها و أنّه لا نصیب للمجدّ فی تحصیلها منها إلّا مقدار قامته و هو کنایه عن قبره.
الخامسه: التنبیه على وقت العمل و الأحوال:
الّتی یمکنهم فیها. و کنّى ب الآن عن زمان الحیاه الدنیا، و ب الخناق عمّا تؤخذ به أعناق النفوس إلى بارئها و هو الموت کنایه بالمستعار، و وجه المشابهه کون کلّ واحد منهما مکروها یقاد به إلى مکروه و رشّح الاستعاره بذکر الإهمال، و کنّى به عن مدّه الإمهال فی الحیاه الدنیا و کذلک‏ أراد بإرسال الروح إهمالها، و یکون ذلک الإرسال فی فینه الارتیاد: أى فی زمان ارتیاد النفوس و طلبها لما تستعدّ به من الکمال للقاء اللّه، و روى الإرشاد: أى إرشاد النفوس إلى سبیل اللّه و جهه السعاده الأبدیّه و کذلک مهل البقیّه: أى بقیّه الأعمار.
السادسه قوله: و انف المشیّه:
أى أوّل الإرادات للنفوس، و ذلک أنّه ینبغی أن یکون أوّل زمان الإنسان و أوائل میول قلبه إلى طاعه اللّه و الانقیاد لأوامره لیکون ما یرد على لوح نفسه من الکمالات المسعده فی الآخره واردا على لوح صاف عن کدر الباطل و أنّه متى عکس ذلک فجعل أوائل میوله و إرادته لمعاصى اللّه تسوّد وجه نفسه بملکات السوء فلم یکد یقبل بعد ذلک الاستضاءه بنور الحقّ فکان من الأخسرین أعمالا.
السابعه: إنظار التوبه
إمهال اللّه العصاه لأجلها و لمّا کان غرض العنایه الإلهیّه سوق کلّ ناقص إلى کماله حسن أن یعبّر عن بقاء العاصى بأنّه إنظار للتوبه.
الثامنه: و انفساح الحوبه
اتّساع زمان العمل للحاجه فی الآخره. و الإضافه یکفى فیها أدنى ملابسه و ذلک أنّ کلّ حاجه فرضها الإنسان فی الدنیا فقد لا یکون فی محلّ الضروره، و الضیق الکلّى منها و إن کانت فی محلّ الضروره لکنّها فی مظنّه أن یرجى زوالها بخلاف الحاجه و الضروره فی الآخره إلى صالح الأعمال فإنّها لا یمکن زوالها بعد المفارقه و لا متّسع للعمل إلّا فی الدنیا و کان أهلها منها فی أشدّ ضروره و أضیق حال و أقبح صوره، و أشار بالضنک و الضیق إلى انحصار الإنسان فی أغلال الهیئات البدنیّه و سجن جهنّم، و بالروع و الزهوق إلى الفزع الأکبر من أهوال الموت و ما بعده.
التاسعه: الغائب المنتظر
کنایه عن الموت، و قدومه: هجومه، و لمّا استعار له لفظ الغائب مراعاه لشبهه بمسافر ینتظر رشّح تلک الاستعاره بلفظ القدوم.
العاشر: أخذه العزیز المقتدر
جذب الأرواح بحکم قدره اللّه العزیز الّذى لا یلحقه إذلال قاهر، المقتدر الّذى لا امتناع له لقدره قادر. و باللّه التوفیق.

                     شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن ‏میثم بحرانی )، ج ۲    ، صفحه‏ى ۲۳۱

بازدیدها: ۳۸