و من خطبه له علیه السّلام تعرف بخطبه الأشباح،
و هى من جلائل خطبه، و کان سائل سئله أن یصف اللّه تعالى حتّى کأنّه یراه عیانا فغضب لذلک، و قال الخطبه. روى مسعده بن صدقه عن الصادق جعفر بن محمّد علیهما السّلام أنّه قال: خطب أمیر المؤمنین علیه السّلام هذه الخطبه على منبر الکوفه، و ذلک أنّ رجلا أتاه فقال له: یا أمیر المؤمنین صف لنا ربّنا لنزداد له حبّا و به معرفه فغضب و نادى: الصلاه جامعه. فاجتمع الناس حتّى غصّ المسجد بأهله فصعد المنبر و هو مغضب متغیّر اللون فحمد اللّه و أثنى علیه و صلّى على النّبىّ صلى اللّه علیه و آله و سلّم ثمّ خطبها. و أعلم أنّ فی الخطبه فصولا:
الفصل الأوّل.
قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَا یَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ- وَ لَا یُکْدِیهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ- إِذْ کُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَ کُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ- وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وَ عَوَائِدِ الْمَزِیدِ وَ الْقِسَمِ- عِیَالُهُ الْخَلَائِقُ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ- وَ نَهَجَ سَبِیلَ الرَّاغِبِینَ إِلَیْهِ وَ الطَّالِبِینَ مَا لَدَیْهِ- وَ لَیْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ یُسْأَلْ- الْأَوَّلُ الَّذِی لَمْ یَکُنْ لَهُ قَبْلٌ فَیَکُونَ شَیْءٌ قَبْلَهُ- وَ الْآخِرُ الَّذِی لَیْسَ لهُ بَعْدٌ فَیَکُونَ شَیْءٌ بَعْدَهُ- وَ الرَّادِعُ أَنَاسِیَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِکَهُ- مَا اخْتَلَفَ عَلَیْهِ دَهْرٌ فَیَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ- وَ لَا کَانَ فِی مَکَانٍ فَیَجُوزَ عَلَیْهِ الِانْتِقَالُ وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ- وَ ضَحِکَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَیْنِ وَ الْعِقْیَانِ- وَ نُثَارَهِ الدُّرِّ وَ حَصِیدِ الْمَرْجَانِ مَا أَثَّرَ ذَلِکَ فِی جُودِهِ- وَ لَا أَنْفَدَ سَعَهَ مَا عِنْدَهُ- وَ لَکَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ مَا لَا تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الْأَنَامِ- لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِی لَا یَغِیضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِینَ- وَ لَا یُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّینَ
اللغه
أقول: الأشباح: الأشخاص. و یفره: یزید ماله وفورا و یتمّمه. و یکدیه: ینقص خیره. و تنفّست عنه: انفرجت. و الفلزّ: ما ینقیه الکیر ممّا یذاب من جواهر الأرض. و العقیان: الذهب الخالص. و المرجان: صغار اللؤلؤ. و ألحّ فی سؤاله: إذا أدام علیه.
و قد شرع فی وصف اللّه سبحانه باعتبارات له إلى آثاره:
الأوّل:
أنّه لا یتزیّد بما حرمه و منعه من فضله.
الثانی: و لا ینقصه عطاؤه و جوده.
ثمّ ردّ حکم الوهم علیه سبحانه بدخوله فی عموم المنتقصین بالعطایا بقوله: إذ کلّ معط منتقص سواه، و کذلک قدّسه عن الدخول فی زمره المذمومین بمنعهم ما فی أیدیهم عن طالبه بقوله: و کلّ مانع مذموم ما خلاه فکانت هاتان القضیّتان مؤکّدتین للاولیین، و برهانهما أنّ التزیّد بالمنع و التنقّص بالإعطاء إنّما یطلق فی حقّ من ینتفع و یتضرّر بالزیاده و النقصان و الانتفاع و التضرّر على اللّه محال فالتزیّد و التنقّص علیه محال، و لأنّهما یقضیان علیه بالحاجه و الإمکان، و لأنّ مقدوراته غیر متناهیه، و نبّه بقوله: إذ. على جهه الفرق بینه و بین خلقه، و إنّما انتقص المعطى من خلقه لحاجته إلى ما یعطیه و انتفاعه به، و إنّما استحقّ المانع منهم الذمّ دونه سبحانه لکون ما یصدر عنه من منع و إعطاء مضبوطا [منوطا خ] بنظام الحکمه و العدل دون غیره من المانعین فإنّ غالب منعهم یکون عن شحّ مطاع و هوى متّبع. و اعلم أنّ صدق الکلّیّه فی المنتقصین بالعطاء ظاهر، و أمّا فی المذمومین بالمنع فتحقیقها أنّ کلّ مانع للمال فهو إنّما یمنعه خوف الفقر و نحوه، و ظاهر أنّ الخائف من الفقر فی الدنیا محبّ لها و هو بمعزل عن عباد اللّه المتوکّلین علیه الزاهدین فی متاع الدنیا و قیناتها، و إذا کان العبد مأمورا بأن یکون من هؤلاء و فی زمرتهم فبالحرىّ أن یکون مستحقّا للذمّ على ما یمنعه من ماله فیکون حجابا لوجهه عن النظر إلى وجه اللّه الکریم فصدق الکلّیّه إذن ظاهر. و فی أدعیه زین العابدین علیه السّلام: یا من لا یزیده کثره العطاء إلّا کرما وجودا. و فیه سرّ لطیف فإنّه لمّا کان جوده سبحانه غیر متوقّف إلّا على وجود الاستحقاق، و کانت کلّ نعمه صدرت عنه معدّه لمحلّها و مهیّئه له لقبول نعمه اخرى کانت کثره عطائه مستلزمه لکثره الاعداد المستلزمه لزیاده الجود.
الثالث: أنّه المنّان بفوائد النعم و المنّه تذکیر المنعم للمنعم علیه بنعمته و التطاول علیه بها کقوله تعالى یا بَنِی إِسْرائِیلَ اذْکُرُوا نِعْمَتِیَ الَّتِی أَنْعَمْتُ عَلَیْکُمْ«» فی غیر موضع من کتابه و هى صفه مدح للحقّ سبحانه و إن کانت صفه ذمّ لخلقه، و السبب الفارق کون کلّ منعم سواه فیحتمل أن یتوقّع لنعمته جزاء و یستفید کما لا یعود إلیه ممّا أفاده و أیسره توقّع الذکر و یقبح ممّن یقابل بنعمته و یتوقّع لها جزاء أن یمّن بها لما یستلزمه المنّ من التطاول و الکبر، و توقّع الجزاء و الحاجه إلیه مع التطاول و الکبر ممّا لا یجتمعان فی العرف. إذ التطاول و الکبر إنّما یلیقان بالغنىّ عن ثمره ما تطاول به و لأنّ التطاول ممّا یتأذّى به المنعم علیه فیبطل بذلک استعداد نفس المنعم لقبول رحمه اللّه و جزائه و لذلک ورد النهى عن المنّه فی قوله تعالى یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِکُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى«» فجعلهما سببا لبطلان الصدقه: أى عدم استحقاق ثوابها، و فوائد النعم: ما أفاد منها. و عوائد المزید و القسم: معتادهما.
الرابع: کون الخلائق عیاله
ضمن أرزاقهم و قدّر أقواتهم، و استعار لفظ العیال للخلق بالنسبه إلى ربّهم، و وجه المشابهه أنّ عیال الرجل هو من جمعهم کیفیّتهم و یصلح حالهم کذلک الخلق إنّما خلقهم و جمعهم تحت عنایته لیصلح أحوالهم فی معاشهم و معادهم، و کذلک استعار لفظ الضمان لما وجب فی الحکمه الإلهیّه من وجود ما لا بدّ منه فی تدبیر إصلاح حالهم من الأقوات و الأرزاق، و تقدیر أقواتهم إعطاء کلّ ما کتب له فی اللوح المحفوظ من زائد و ناقص.
الخامس: کونه نهج سبیل الراغبین إلیه و الطالبین ما لدیه
و ذکر أوّلا ما یصلح حالهم فی الدنیا و هو ضمان الأرزاق و تقدیر الأقوات ثمّ أردفه بما هو سبب صلاح حالهم فی الآخره من نهج السبیل و ایضاحه و أشار به إلى ایضاح الشریعه لطریق السالکین الراغبین فی النظر إلى وجهه الکریم و الطالبین لما عنده من النعیم المقیم.
السادس: کونه لیس بما سئل بأجود منه بما لم یسئل
و یستلزم بیان هذا الوصف إشاره لطیفه و هو أنّ فیضان ما صدر عنه سبحانه له اعتباران: أحدهما: بالنظر إلى جوده و هو من تلک الجهه غیر مختلف فی جمیع الموجودات بل نسبتها إلیه على سواء بذلک الاعتبار. فلا یقال: هو بکذا أجود منه بکذا. و إلّا لاستلزم ذلک أن یکون ببعض الأشیاء أبخل أو إلیها أحوج فیلزمه النقصان تعالى اللّه عن ذلک، و الثانی: بالنظر إلى الممکن نفسه و الاختلاف الواقع فی القرب و البعد إلى جوده إنّما هو من تلک الجهه فکلّ ممکن کان أتمّ استعدادا و أقبل للوجود و أقلّ شرطا و معاندا کان أقرب إلى جوده. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ السائل و إن حصل له ما سأل من اللّه تعالى دون ما لم یسئل فلیس منعه ما لم یسئله لعزّته عند اللّه و لیس بینه و بین ما سئل بالنسبه إلى جود اللّه تعالى فرق و تفاوت بل إنّما خصّ بما سئل لوجوب وجوده له عند تمام قبوله له بسؤاله دون ما لم یسئله و لو سئل ما لم یسئله و استحقّ وجوده لما کان فی الجود الإلهىّ بخل به و لا منع فی حقّه و إن عظم خطره و جلّ قدره و لم یکن له أثر نقصان فی خزائن ملکه و عموم جوده. و إلى هذا أشار علىّ بن موسى الرضا علیه السّلام و قد سئل عن الجواد فقال: لسؤالک وجهان إن أردت المخلوق فالّذى یؤدّى ما افترض اللّه علیه و البخیل الّذى یمنع ما افترض اللّه علیه و إن أردت الخالق فهو الجواد إن أعطى و إن منع لأنّه إن أعطى أعطى من له و إن منع منع من لیس له. فقوله: له. و لیس له، إشارتان إلى أنّ الجود الإلهىّ إنما یهب. و یتوقّف فی هبته على وجود المستحقّ. و قد نزّهه علیه السّلام بهذا الوصف عن ضنّه الخلق إذ کان من شأنهم أن یکونوا بما سئلوا أجود منهم بما لم یسألوا لکونه أسهل علیهم و من شأن السائل أن لا یسألهم ما هو أعزّ عندهم و لذلک کانوا بما سئلوا أجود.
السابع:
الأوّل الّذى لم یکن له قبل فیکون شیء قبله.
الثامن: و الآخر الّذى لیس له بعد فیکون شیء بعده
و قد أشرنا إلى هذین الوصفین فیما سلف و نزیدهما بیانا فنقول: الأولیّه و الآخریّه اعتباران إضافیّان تحدثهما العقول لذاته المقدّسه و ذلک أنّک إذا لاحظت ترتیب الوجود فی سلسله الحاجه إلیه سبحانه وجدته تعالى بالإضافه إلیها أوّل إذ کان انتهائها فی سلسله الحاجه إلى غناه المطلق فهو أوّل بالعلیّه و الذات و الشرف، و إذ لیس بذى مکان فالتقدّم بالمکان منفىّ عنه و الزمان متأخّر عنه. إذ هو من لواحق الحرکه المتأخّره عن الجسم المتأخّر عن علّته فلم یلحقه القبلیّه الزمانیّه فضلا أن تسبق علیه فلم یکن شیء قبله مطلقا لا من الزمانیّات و لا من غیرها و إذا اعتبرته بالنظر إلى ترتیب السلوک و لاحظت مراتب السالکین المسافرین فی منازل عرفانه وجدته آخرا إذ هو آخر ما ترتقى إلیه درجات العارفین و معرفته هى الدرجه القصوى و المنزل الآخر، و لأنّ کلّ موجود سواه فهو ممکن العدم فله من ذاته أن لا یستحقّ وجودا فضلا أن یستحقّ الآخریّه و البعدیّه المطلقه، و هو تعالى الواجب لذاته فهو المستحقّ لبعدیّه الوجود و آخریّته لذاته و بالقیاس إلى کلّ موجود. فإذن هو الأوّل المطلق الّذى لا شیء قبله و الآخر المطلق الّذى لا شیء بعده.
التاسع: الرادع اناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدرکه
و قد سبق أنّ القوّه الباصره إنّما تتعلّق بذى وضع و جهه و البارى تعالى منزّه عنهما فیستحیل أن یدرک بحاسّه البصر و ردعه لها قهرها بذلّ النقصان عن قبول إدراکه.
العاشر: کونه لم یختلف علیه دهر فیختلف علیه الحال.
لمّا کان الزمان مبدءا للتغیّرات و اختلاف الأحوال، و کان ذاته سبحانه منزّهه عن لحوق الزمان کانت مبرّءه عن تغیّر الأحوال الجاریه على الزمانیّات و اختلافها.
الحادى عشر: و لا کان فی مکان فیجوز علیه الانتقال.
لمّا کان من شأن ذى المکان جواز أن ینتقل من مکانه، و کان سبحانه منزّها عن المکان و إلّا لزمه النقصان اللازم للإمکان لا جرم لم یجز علیه الانتقال.
الثانی عشر: کونه لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال
و ضحکت عنه أصداف البحار من فلزّ اللجین و العقیان. إلى قوله: مطالب الأنام. إنّما عدّد هذه الأشیاء فی معرض المدح له تعالى لکونها أعظم ما یقتدر علیه الإنسان و یقتنیه و أجلّ ما یتنافس فیه أبناء الدنیا تنبیها على کمال قدرته و عدم تناهى مقدوراته إذ سبق أنّه إنّما یتأثّر بهبه مثل ذلک جود المحتاجین الّذین یتعاقب علیهم الانتفاع و التضرّر، و استعار لفظ الضحک للأصداف، و وجه الشبه انفتاح الصدفتین و إسفارهما عن اللؤلؤ الشبیه فی بدوّه بأسنان الإنسان حال ضحکه و عن لحمه تشبه اللسان فی رقّه طرفه و لطافته. و من صادف الصدفه عند فتحها وجدها کالإنسان یضحک، و کذلک استعار لفظ الحصید لصغار اللؤلؤ ملاحظه لشبهه بما یحصد من الحنطه و غیرها، و اعلم أنّ الصدف و إن کان حیوانا ذو حسّ و حرکه إلّا أنّ له شبها بالنبات و لحوقا به من جهه أنّه ذو عرق فی الأرض یغتذى به. و قد أجمل ما یخرج من معادن البرّ و البحر لتمییز السامعین بینهما، و قوله: لأنّه الجواد الّذى لا یغیضه سؤال السائلین و لا یبخله إلحاح الملحّین. إنّما کان هذا علّه لعدم تأثّر جوده بهبه ما یعظم قدره و نقصان خزائنه بإخراجه منها لأنّ الجواد الّذى شأنه ما ذکر إنّما کان کذلک لکونه لیس من شأنه أن یلحقه النفع و الضرر و النقص بل نعمه غیر متناهیه، و استعار لفظ الغیض لنعمه ملاحظه لشبهها بالماء الّذى له مادّه تامّه لا ینقص بالنزح، و من روى: بغضبه. فلأنّ الغضب من لواحق المزاج، و البارى تعالى منزّه عنه فیتنزّه عن لواحقه، و کذلک البخل رذیله مکتسبه من البدن و المزاج تبعث إلیها الحاجه و النقصان فمن لا یتزیّد و لا یتنقّص فلا یؤثّر فی ملکه أن یهب الدنیا لمن سألها.
الفصل الثانی:
قوله: فَانْظُرْ أَیُّهَا السَّائِلُ- فَمَا دَلَّکَ الْقُرْآنُ عَلَیْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ- وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَایَتِهِ وَ مَا کَلَّفَکَ الشَّیْطَانُ عِلْمَهُ- مِمَّا لَیْسَ فِی الْکِتَابِ عَلَیْکَ فَرْضُهُ- وَ لَا فِی سُنَّهِ النَّبِیِّ ص وَ أَئِمَّهِ الْهُدَى أَثَرُهُ- فَکِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ- فَإِنَّ ذَلِکَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَیْکَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِینَ فِی الْعِلْمِ هُمُ الَّذِینَ أَغْنَاهُمْ- عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَهِ دُونَ الْغُیُوبِ- الْإِقْرَارُ بِجُمْلَهِ مَا جَهِلُوا تَفْسِیرَهُ مِنَ الْغَیْبِ الْمَحْجُوبِ- فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ یُحِیطُوا بِهِ عِلْماً- وَ سَمَّى تَرْکَهُمُ التَّعَمُّقَ- فِیمَا لَمْ یُکَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ کُنْهِهِ رُسُوخاً- فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِکَ- وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَهَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِکَ- فَتَکُونَ مِنَ الْهَالِکِینَ هُوَ الْقَادِرُ الَّذِی إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ- لِتُدْرِکَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ- وَ حَاوَلَ الْفِکْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ- أَنْ یَقَعَ عَلَیْهِ فِی عَمِیقَاتِ غُیُوبِ مَلَکُوتِهِ- وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَیْهِ لِتَجْرِیَ فِی کَیْفِیَّهِ صِفَاتِهِ- وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِی حَیْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ- لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا- وَ هِیَ تَجُوبُ مَهَاوِیَ سُدَفِ الْغُیُوبِ مُتَخَلِّصَهً إِلَیْهِ سُبْحَانَهُ- فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَهً- بِأَنَّهُ لَا یُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ کُنْهُ مَعْرِفَتِهِ- وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِی الرَّوِیَّاتِ خَاطِرَهٌ مِنْ تَقْدِیرِ جَلَالِ عِزَّتِه الَّذِی ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَیْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ- وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَیْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ کَانَ قَبْلَهُ- وَ أَرَانَا مِنْ مَلَکُوتِ قُدْرَتِهِ- وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِکْمَتِهِ- وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَهِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ یُقِیمَهَا بِمِسَاکِ قُوَّتِهِ- مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِیَامِ الْحُجَّهِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ- فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ- الَّتِی أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ وَ أَعْلَامُ حِکْمَتِهِ- فَصَارَ کُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّهً لَهُ وَ دَلِیلًا عَلَیْهِ- وَ إِنْ کَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِیرِ نَاطِقَهٌ- وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَهٌ فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَکَ بِتَبَایُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِکَ- وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَهِ لِتَدْبِیرِ حِکْمَتِکَ- لَمْ یَعْقِدْ غَیْبَ ضَمِیرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِکَ- وَ لَمْ یُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْیَقِینُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَکَ- وَ کَأَنَّهُ لَمْ یَسْمَعْ ْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِینَ مِنَ الْمَتْبُوعِینَ- إِذْ یَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ کُنَّا لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ- إِذْ نُسَوِّیکُمْ بِرَبِّ الْعالَمِینَ- کَذَبَ الْعَادِلُونَ بِکَ إِذْ شَبَّهُوکَ بِأَصْنَامِهِمْ- وَ نَحَلُوکَ حِلْیَهَ الْمَخْلُوقِینَ بِأَوْهَامِهِمْ- وَ جَزَّءُوکَ تَجْزِئَهَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ- وَ قَدَّرُوکَ عَلَى الْخِلْقَهِ الْمُخْتَلِفَهِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاکَ بِشَیْءٍ مِنْ خَلْقِکَ فَقَدْ عَدَلَ بِکَ- وَ الْعَادِلُ بِکَ کَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْکَمَاتُ آیَاتِکَ- وَ نَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَیِّنَاتِکَ- وَ إِنَّکَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِی لَمْ تَتَنَاهَ فِی الْعُقُولِ- فَتَکُونَ فِی مَهَبِّ فِکْرِهَا مُکَیَّفاً- وَ لَا فِی رَوِیَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَکُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً
اللغه
أقول: الاقتحام: الدخول فی الأمر بشدّه دفعه. و السدد: جمع سدّه و هى الأبواب و الحجب. و جاب البلاد: أى قطعها. و السدف: جمع سدفه و هى الظلمه: و الجبه: الردّ. و احتذى علیه: أى سلک مسلکه. و الحقاق: جمع حقّ و هو أطراف عظام المفاصل، و العادل: الجاعل للّه عدیلا. و القریحه: قوّه الفکر.
المعنى
و صدر هذا الفصل تأدیب الخلق
فی وصفهم للّه سبحانه و تعلیمهم کیفیّه السلوک فی مدحه و الثناء علیه بما هو أهله و إن کان الخطاب للسائل إذ هو السبب فی هذه الخطبه، و ذلک على طریقه قولهم: إیّاک أعنى و اسمعى یا جاره. فأرشده فی ذلک إلى کتاب اللّه، و أمره أن یجعله إماما یقتدى به و یستضیء بأنواره فی سلوک سبیل اللّه و کیفیّه وصفه فإنّ أولى ما وصف به تعالى هو ما وصف به نفسه، و أمره بأن یکل علم ما لم یجده مفروضا علیه علمه فی کتاب اللّه أوفى سنّه رسوله و آثار أئمّه الهدى القائمین مقامه فی إیضاح الدین و حفظه إلى علم اللّه تعالى و هو المراد بالتفویض و ذلک أنّ أئمّه الهدى أعلم بوجوه نسبته تعالى إلى خلقه و بما یناسب تلک الاعتبارات من الألفاظ و یفیدها فیطلق علیه. و نفّر عن طلب ذلک و البحث عنه بإشارته إلى أنّه تکلیف الشیطان و ظاهرأنّ طلب ما وراء حدود الشریعه الّتى نهیت عن تجاوزها إنّما هو بسبب وسوسه الشیطان و حرص الطبع على ما یمنع منه. ثمّ اعلم أنّ ذلک هو منتهى حقّ اللّه علیه و مطلوبه منه، و لمّا کان مطلوب الشارع حین وضع الشریعه و تقریر قواعدها هو جمع قلوب العالم على قانون واحد و اتّحادهم فیه بحیث لا یفترقوا فی اعتقاد أمر ما لئلّا یکون ذلک الافتراق سببا لضعف الدین و عدم تعاونهم على تشییده کما سبق بیانه لا جرم وجب فی الحکمه أن یحرم حینئذ علیهم الخوض فیما وراء ذلک لتثبت قواعد الدین فی قلوبهم و ترسخ و لا یخرج بهم البحث عن ما ورائها إلى إطراحها و فساد اعتقاد کثیر من الخلق لها و لغیرها ممّا وراها. إذ لم یکن فیهم من یستعدّ لقبول ما وراء تلک الظواهر إلّا الفرد النادر و إن کنّا نعلم أنّه کان صلى اللّه علیه و آله و سلّم إذا علم من أحد استعدادا لقبول شیء من أسرار الشریعه و وثق به أن یحمله ألقاه إلیه کعلىّ علیه السّلام دون أبی هریره و أمثاله
ثمّ وصف بعد ذلک الراسخین فی العلم الممدوحین فی القرآن الکریم بقوله تعالى لکِنِ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ«» الآیه و قوله وَ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا«» و فسّر معنى الرسوخ فقال: هم الّذین أغناهم اللّه عن اقتحام السدد المضروبه دون الغیوب الإقرار بجمله ما جهلوا تفسیره من الغیب المحجوب. فمدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم یحیطوا به علما، و سمّى ترکهم التعمّق فیما لم یکلّفهم البحث عن کنهه رسوخا، و ممّا:
إشاره إلى السدد المضروبه و حجب الغیوب.
فلنشر إلى ما کشف عنه بعض العلماء الصوفیّه هاهنا و أشار إلیه الخبر عن سیّد المرسلین صلى اللّه علیه و آله و سلّم: إنّ للّه تعالى سبعین حجابا من نور و ظلمه لو کشفها لأحرقت سبحات وجهه کلّ من أدرک بصره. و لمّا ثبت أن اللّه تعالى متجلّى لذاته بذاته فالحجاب لا بدّ و أن یکون بالنسبه إلى محجوب
فأقسام المحجوبین ثلاثه:
منهم من حجب بمجرّد ظلمه، و منهم من حجب بمجرّد نور، و منهم من حجب بنور مقرون بظلمه، و تحت کلّ قسم من هؤلاء أقسام کثیره لا تحصى فیکفینا الإشاره إلى اصولها فنقول:
القسم الأوّل: المحجوبون بمجرّد الظلمه
و هؤلاء هم الملحده الّذین لا یؤمنون باللّه و هم صنفان: فصنف منهم طلبوا للعالم سببا فأحالوه على الطبع و قد علمت أنّ الطبع صفه جسمانیّه مظلمه خالیه عن المعرفه و الإدراک، و صنف منهم لم یتفرّغوا لذلک و لم یتنبّهو الطلب السبب بل اشتغلوا بأنفسهم و عاشوا عیش البهایم فکانوا محجوبین بکدورات نفوسهم و شهواتهم المظلمه و لا ظلمه أشدّ من الهوى و لذلک قال اللّه تعالى أَ فَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ«» و قال النبىّ صلى اللّه علیه و آله و سلّم: الهوى أبغض إله عبد على وجه الأرض. و تحت هؤلاء فرق کثیره لا حاجه إلى ذکرها.
القسم الثانی: المحجوبون بنور مقرون بظلمه
و هم ثلاثه أصناف:
فصنف منهم منشأ ظلمته الحسّ،
و صنف منهم منشأها الخیال، و صنف منهم منشأها مقایسات عقلیّه فاسده. فالأوّلون أیضا طوائف:
الاولى: عبده الأوثان
فإنّهم علموا على سبیل الجمله أنّ لهم ربّا و أوجبوا إیثاره على أنفسهم و اعتقدوا أنّه أعزّ و أنفس من کلّ شیء، و لکنّهم حجبوا بظلمه الحسّ عن أن یتجاوزوا العالم المحسوس فی إثبات ربّهم فاتّخذوا من أنفس الجواهر کالفضّه و الذهب و الیاقوت أشخاصا مصوّره بأحسن صوره و جعلوها آلهه فهؤلاء محجوبون بنور العزّ و الجلال من صفات اللّه لکنّهم وضعوها فی الأجسام المحسوسه فصارت حجبهم أنوارا مکدّره بظلمه الحسّ إذ الحسّ ظلمه بالإضافه إلى عالم المعقولات.
الثانیه: طائفه ترقّوا عن رتبه الأحجار فکانوا أدخل من عبده الأوثان فی ملاحظه الأنوار
کما یحکى عن قوم من أقاصى الترک لیس لهم ملّه و لکن یعتقدون أنّ لهم ربّا هو أجمل الأشیاء فإذا رأو إنسانا فی غایه الجمال أو فرسا أو شجرا عبدوه، و قالوا: هو ربّنا فهؤلاء محجوبون بنور الجمال مع ظلمه الحسّ أیضا.
الثالثه: طائفه ترقّوا عن هؤلاء و قالوا: ینبغی أن یکون الربّ نورانیّا فی صورته ذا سلطان فی نفسه مهیبا لا یطاق القرب منه، و لم یترقّوا عن درجه المحسوس فعبدوا النار إذ وجدوها بهذه الصفات فهؤلاء محجوبون بنور السلطنه و البهاء و کلّ ذلک من أنوار اللّه مع ظلمات حسّهم.
الرابعه: طائفه ترقّوا عن ذلک فرأوا أنّ النار تطفى و تقهر فلا تصلح للإلهیّه
فقالوا: بل ما یکون بهذه الصفات و لکن نکون نحن تحت تصرّفه و یکون مع ذلک موصوفا بالعلوّ.
و کان المشهور بینهم علم النجوم و إضافه التأثیرات إلیها فعبدوا النجوم فمنهم عبده المشترى و منهم عبده الشعرى و غیرهم فهؤلاء محجوبون مع ظلمه الحسّ بنور الاستعلاء و الإشراف و هى من أنوار اللّه تعالى.
الخامسه: طائفه ترقّوا عن هؤلاء فقالوا: و إن وجب أن یکون الربّ بالصفات المذکوره إلّا أنّه ینبغی أن یکون أکبر الکواکب
فعبدوا الشمس فهؤلاء محجوبون مع ظلمه الحسّ بنور الکبریاء و العظمه مع بقیّه الأنوار.
السادسه: طائفه ترقّوا عن ذلک فقالوا: إنّ الشمس لا تتفرّد بالنور بل لغیرها أنوار
و الإله لا یجوز أن یکون له شریک فی نورانیّته فعبدوا النور المطلق على کلّ نور، و زعموا أنّه إله العالم و الخیرات کلّها منسوبه إلیه ثمّ رأوا فی العالم شرورا فلم یستحسنوا إضافتها إلى ربّهم تنزیها له فجعلوا بینه و بین الظلمه منازعه و أحالوا العالم إلى النور و الظلمه و هؤلاء الثنویّه.
الصنف الثانی: المحجوبون ببعض الأنوار مقرونه بظلمه الخیال
و هم الّذین جاوزوا الحسّ و أثبتوا وراء المحسوس أمرا لکنّهم لم یهتدوا إلى مجاوزه الخیال فعبدوا موجودا قاعدا على العرش و أخسّهم رتبه المجسّمه ثمّ أصناف الکرامیّه و أرفعهم درجه من نفى الجسمیّه و جمیع عوارضها إلّا الجهه فخصّصوه بجهه فوق، و هؤلاء لم یثبتوا موجودا غیر محسوس و لا متخیّل حتّى ینزّهوه عن الجهه.
الصنف الثالث: المحجوبون بأنوار الإلهیّه مقرونه بمقایسات عقلیّه فاسده مظلمه
فعبدوا إلها سمیعا بصیرا متکلّما عالما قادرا منزّها عن الجهات لکن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبه صفاتهم، و ربّما صرّح بعضهم فقال: کلامه صوت مثل کلامنا.
و ربّما ترقّى بعضهم فقال: لا بل هو کحدیث أنفسنا و لا صوت و لا حرف. و لذلک إذا حقّق القول علیهم رجعوا إلى التشبیه فی المعنى و إن أنکروه لفظا إذ لم یدرکوا کیفیّه إطلاق هذه الألفاظ فی حقّ اللّه. فهؤلاء محجوبون بجمل من الأنوار مع ظلمات المقایسات العقلیّه.
القسم الثالث: المحجوبون بمحض الأنوار،
و هم أصناف لا تحصى أیضا لکن نذکر منهم ثلاثه أصناف:
الأوّل: الّذین عرفوا معانى هذه الصفات و فرّقوا بین إطلاق أسمائها على اللّه تعالى و بین إطلاقها على البشر
فتحاشوا من تعریفه بهذه الصفات و عرّفوه بالإضافه إلى المخلوقات فقالوا: ربّنا ربّ السماوات و الأرض لن ندعو من دونه إلها و هو الربّ المنزّه عن هذا المفهوم الظاهر و هو محرّک السماوات و مدبّرها.
الصنف الثانی: الّذین عرفوا أنّ فی السماوات ملائکه کثیره
و أنّ محرّک کلّ سماء منها موجود آخر یسمّى ملکا، و أنّ هذه السماوات فی ضمن فلک یتحرّک الجمیع بحرکته فی الیوم و اللیله مرّه واحده و الربّ تعالى هو المحرّک للفلک الأقصى منها المشتمل علیها.
الصنف الثالث: الّذین ترقّوا عن هؤلاء و قالوا: إنّ تحریک الأجسام الفلکیّه من الملائکه یکون خدمه لربّ العالمین و عباده له
و یکون الربّ تعالى هو المحرّک للکلّ بطریق الأمر. فهؤلاء کلّهم محجوبون بأنوار محضه وقفت بهم عمّا وراءها. و وراء هؤلاء صنف رابع تجلّى لهم أنّ هذا المطاع موصوف بصفه الوحده المطلقه و الکمال البالغ و کشفت عنهم حجب المقایسات و الاعتبارات إلى الغیر و هم الواصلون. فمنهم من أحرق ذلک التجلّى فی تلک الأنوار جمیع ما أدرکه بصره بالکلّیّه و بقى ملاحظا لرتبه الحقّ فیها فانمحقت فیه المبصرات دون المبصر، و منهم من تجاوز هؤلاء و هم خواصّ الخواصّ فأحرقتهم سبحات وجهه و غشیهم سلطان الجلال فانمحقوا و تلاشوا فی أنفسهم فلم یبق لهم إلیها التفات و ملاحظه لفنائهم عن أنفسهم و لم یبق إلّا الواحد الحقّ و هؤلاء هم الواصلون کما سبقت الإشاره إلیه، و ینتهى الکلّ إلى حجاب الإمکان الّذى یهلک فیه کلّ موجود و لا یبقى إلّا وجه اللّه ذى الجلال و الإکرام.
إذا عرفت ذلک فنقول: السدد المضروبه و حجب الغیب الّتى أشار إلیها هى درجات الانتقالات فی مفهومات صفات اللّه تعالى و مراتب عرفانه و معرفه ملائکته و مراتبهم و کمالاتهم و سایر حجب الأنوار الّتى حجب بها أهل القسم الثالث، و الراسخون الّذین أشار إلیهم هم فی ظاهر کلامه الواقفون فی المرتبه الاولى و هم الّذین اقتصروا فی صفات اللّه و ملائکته و عالم غیبه على ما وقفتهم الشریعه علیه على سبیل الجمله کما أوصل إلى أفهامهم الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم و عقلوا فی وصفه تعالى بصفات الکمال و نعوت الجلال أنّه لیس على حدّ وصف البشر بها و رسخ فی أذهانهم ما تصوّروه إجمالا لو فصّل لکان مطابقا. و من أعدّته العنایه الإلهیّه لقبول التفصیل وصل إلیه. و بقى هاهنا بحث لطیف و هو أنّه لمّا کان التکلیف فی نفس الأمر إنّما هو على قدر العقول و تفاوت مراتبها و لذلک قال صلى اللّه علیه و آله و سلّم بعثت لأکلّم الناس على قدر عقولهم. کان کلّ عقل قوى على رفع حجاب من حجب الغیب و قصر عمّا ورائه و اعترف به و بالعجز عنه فذلک تکلیفه و هو من الراسخین فعلى هذا الرسوخ لیس مرتبه واحده هى تقلید ظواهر الشریعه و اعتقاد حقیّتها فقط بل تقلیدها مرتبه اولى من مراتب الرسوخ و ما ورائها مراتب غیر متناهیه بحسب مراتب السلوک و قوّه السالکین على رفع حجب الأنوار الّتى أشرنا إلیها و کلامه علیه السّلام لا ینافی ما قلناه بل یصدق إذا نزّل علیه فإنّ قوله: و سمّى ترک التعمّق فیما لم یکلّفهم البحث عن کنهه رسوخا صادق أیضا على من قطع جمله من منازل السلوک و عجز عمّا ورائها فوقف ذهنه عن التعمّق فیه و البحث إذ لا یکلّف بما لا یفی به قوّته.
و قوله: فاقتصر على ذلک: أى على ما نطق به الکتاب العزیز و دلّت علیه السنّه النبویّه و أرشدت إلیه أئمّه الهدى.
و قوله: و لا تقدّر عظمه اللّه تعالى على قدر عقلک فتکون من الهالکین.
و قوله: و لا تقدّر عظمه اللّه تعالى على قدر عقلک فتکون من الهالکین. فالمقدّر لعظمه اللّه بقدر عقله هو المعتقد أنّ عقله قدّره و أحاط به علما و هو تصغیر لعظمه اللّه بحسب عقله الضعیف و عظمه اللّه تعالى أعظم و أجلّ من أن یضبطها عقل بشرى، و إنّما ینشأ ذلک الحکم لمن حصل له هو الوهم الحاکم بمثلیّه اللّه تعالى لمدرکاته من الأجسام و الجسمانیّات، و ذلک فی الحقیقه کفر لاعتقاد غیر الصانع صانعا و ضلال عن طریق معرفه اللّه و هو مستلزم للهلاک فی تیه الجهل.
و اعلم أنّ فی إحالته علیه السّلام لطالب المعرفه على الکتاب و السنّه و بیان الأئمّه دلاله على أنّ مقصوده لیس أن یقتصر على ظاهر الشریعه فقط بل یتّبع أنوار القرآن و السنّه و آثار أئمّه الهدى، و قد ورد فی القرآن الکریم و السنّه و کلام الأئمّه من الإشارات و التنبیهات على منازل السلوک و وجوب الانتقال فی درجاتها ما لا یحصى کثره و نبّهوا على کلّ مقام أهله و أخفوه من غیر أهله إذ کانوا أطبّاء النفوس و کما أنّ الطبیب یرى أنّ بعض الأدویه لبعض المرضى تریاق و شفاء و ذلک الدواء لشخص آخر سمّ و هلاک کذلک کتاب اللّه و الموضحون لمقاصده من الأنبیاء و الأولیاء یرون أنّ بعض الأسرار الإلهیّه شفاء لبعض الصدور فیلقونها إلیهم و ربّما کانت تلک الأسرار بأعیانها لغیر أهلها سببا لضلالهم و کفرهم إذا القیت إلیهم. فإذن مقصوده علیه السّلام قصر کلّ عقل على ما هو الأولى به و ما یحتمله، و الجمع العظیم المخاطبون هم أصحاب الظاهر الّذین یجب قصرهم علیه. و اللّه أعلم.
و قوله: هو القادر الّذى إذا ارتمت. إلى آخره.
إشاره إلى اعتبارات اخر جملیّه فی وصفه تعالى نبّه على أن غایه استقصاء العقول و تعمّقها و غوص فطنها طالبه لتفصیل صفات کماله و نعوت جلاله أن تقف خاسئه و ترجع حسیره معترفه بالعجز و القصور، فقوله: إذا ارتمت إلى قوله: ردعها شرطیّه متّصله فی قوّه شرطیّات متعدّده المقدّمات و تالیها واحد. فالمقدّم الأوّل قوله: إذا ارتمت الأوهام لتدرک منقطع قدرته و ارتماؤها استرسالها مجدّه فی المطالعه و التفتیش و منقطع قدرته منتهاها، و المقدم الثانی قوله: و حاول الفکر المبرّء من خطرات وساوس الشیطان و شوائب الأوهام أن یقع علیه لیکیّف ذاته و یستثبتها بکلّ ما ینبغی لها من الکمالات فی عمیقات غیوب ملکوته: أى فی أسرار عالم الغیب العمیقه. و المقدّم الثالث قوله: و تولّهت القلوب: أى اشتدّ شوقها إلیه لتجرى فی کیفیّه صفاته. و المقدّم الرابع قوله: و غمضت مداخل العقول: أى وقت مواقع دخولها بحیث لا تبلغه الصفات: أى انتهت العقول إلى حدّ أنّها لا تعتبر مع ملاحظه ذات الحقّ صفه له بل یحذف کلّ خاطر و کلّ اعتبار من صفه و غیرها من ملاحظه قدسه لینال علم ذاته بالکنه، و قوله: ردعها. هو تالى هذه الشرطیّات، و ردعها هو ردّها خاسئه حسیره، و سبب ذلک فی کلّ من هذه المدرکات هو خلقها قاصره عن إدراک ما یطلبه من هذه المطالب العظیمه: فالأوهام لقصورها عن إدراک ما لیس بمحسوس و لا متعلّقا بالمحسوس، و ردع الفکر أن یقع علیه و تولّه القلوب أن تجرى فی کیفیّه صفاته فتحدّها و تحصرها لخلقها قاصره عن الإحاطه بما لا نهایه له إذ کانت صفات الکمال و نعوت الجلال کذلک، و ردع العقول أن یحیط بکنه ذاته لخلقها قاصره عن إدراک کنه ما لیس بذى حدّ و ترکیب. فکان مستند ذلک الردع هو قدرته فلذلک قدّم على الشرطیّه اعتبار کونه قادرا فقال: هو القادر الّذى من شأنه کذا.
و قوله: و هى تجوب مهاوى سدف الغیوب متخلّصه إلیه سبحانه.
الجمله فی موضع الحال و العامل ردعها، و استعار لفظ السدف لظلمات الجهل بکلّ معنى غیبىّ من صفات جلاله و طبقات حجبه: أى ردعها عن تلک المطالب حال ما هى قاطعه لمهاوى تلک الظلمات، و وجه الاستعاره ما یشترکان فیه من عدم الاهتداء فیها.
و متخلّصه حال أیضا و العامل إمّا تجوب أوردعها. و تخلّصها إلیه توجّهها بکلیّتها فی طلب إدراکه.
و قوله: فرجعت إذ جبهت. إلى قوله: عزّته.
معترفه حال و العامل رجعت، و جور الاعتساف شدّه جولانها فی تلک المنازل و ظاهر أنّ جور الاعتساف غیر نافع فی تحصیل ما لا یمکن، و اولو الرویّات أصحاب الفکر: إى رجعت معترفه بأمرین: أحدهما: أنّه لا ینال کنه معرفته، و الثانی: أنّ الفکر لا یقدر جلال عزّته: أى لا یحیط بکماله خبرا. و ظاهر أن صدق هذه الأحکام للنفس موقوف على ارتماء أفکارها فی طلب هذه المعارف و عجزها عنها.
و قوله: الّذى ابتدع الخلق على غیر مثال. إلى قوله: قبله.
إشاره إلى أنّ الصنائع البشریّه إنّما تحصل بعد أن یرتسم فی الخیال صوره المصنوع بل و کلّ فعل لا یصدر إلّا عن تصوّر وضعه و کیفیّته أوّلا، و تلک التصوّرات تاره تحصل عن أمثله للمصنوع بل و مقادیر له خارجیّه یشاهدها الصانع و یحذو حذوها، و تاره تحصل بمحض الإلهام و الاختراع کما یفاض على أذهان کثیر من الأذکیاء صوره شکل لم یسبق إلى تصوّره فیتصوّره و یبرز صورته إلى الخارج، و کیفیّه صنع اللّه للعالم و جزئیّاته منزّهه عن الوقوع على أحد هذین الوجهین: أمّا الأوّل فلأنّا بیّنا أنّه لا قبل له فلا قبل لمصنوعاته فلا مثال امتثله: أى عمل مثله، و لا مقدار احتذى حذوه. و أمّا الثانی و إن سمّى الفاعل على وفقه مخترعا لکن التحقیق یشهد بأنّه إنّما فعل على وفق ما حصل فی ذهنه من الشکل و الهیئه و هما مستفادان من الصانع الأوّل جلّت عظمته فکان فی الحقیقه فاعلا على غیر مثال سابق محتذیا لمقدار غیره، و علم الأوّل سبحانه لیس على النحو المذکور من حصول صوره مساویه للمعلوم فی ذاته کما تحقّقته من قبل فإذن فعله بمحض الإبداع و الاختراع على أبعد ما یکون عن حدّ و مثال.
و قوله: و أرانا من ملکوت قدرته. إلى قوله: معرفته.
ملکوت قدرته ملکها و إنّما نسبه إلى القدره لأنّ اعتبارها مبدء الوجود کلّه فهى مبدء المالکیّه، و آثار حکمته ما صدر عنها من الأفعال و الأحکام و انقیاد کلّ ناقص إلى کماله، و استعار لفظ النطق للسان حال آثاره تعالى المفصحه عن کمال الحکمه المعجبه بتمام النظام و حسن الترتیب، و وجه المشابهه ما اشترک فیه النطق و حال مصنوعاته من ذلک الإفصاح و البیان، و اعتراف عطف على عجائب، و إلى أن متعلّق بالحاجه، و ما فی قوله: و ما دلّنا هى المفعول الثانی لأرانا: أى و أرانا من اعتراف الخلق لحاجتهم إلى أن یقیمهم فی الوجود بمساک قدرته الّتى تمسک السماوات و الأرض أن تزولا ما دلّنا باضطرار قیام الحجّه له على معرفته، و قوله: على معرفته متعلّق بدلّنا: أى ما دلّنا على معرفته فلزمت قیام الحجّه له بالضروره.
و قوله: و ظهرت فی البدائع. إلى قوله: قائمه.
استعار لفظ الأعلام لما یدلّ على حکمه الصانع فی فعله من الإتقان و الإحکام.
و اعلم أنّ کلّ ما ظهرت فیه آثار حکمه اللّه فهو ناطق بربوبیّته و کمال الوهیّته فبعض ناطق. بلسان حاله و مقاله کالإنسان، و بعض بلسان حاله فقط إذ لا عقل له و لا لسان کالجماد و النبات، و الضمیر المضاف إلیه فی قوله: فحجّته یحتمل عوده إلى اللّه، و یحتمل أن یعود إلى الخلق الصامت. و قد علمت أنّ السالکین فی سماع هذا النطق من آثار اللّه و مشاهدته فی مصنوعاته على درجات و منازل متفاوته کما أشرنا إلیه غیر مرّه.
و قوله: و أشهد أنّ من شبّهک. إلى قوله: بربّ العالمین.
التفات إلى خطاب اللّه تعالى على طریق قوله مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ إِیَّاکَ نَعْبُدُ و المشبّه به فی الحقیقه هو الخلق و إنّما جعل المشبّه به هو تباین أعضائهم و تلاحم حقاق مفاصلهم لأنّه فی معرض ذمّ المشبّهه و التنبیه على وجوه أغلاطهم و تباین الأعضاء و تلاحمها من لوازم المشبّه به و هما مستلزمان للترکیب و اجتماع المفردات المستلزم لظهور الحاجه إلى المرکّب و الجامع و یمتنع على محلّ یظهر حاجته أن یتشبّه به الصانع المطلق البرىء عن الحاجه بوجه ما فقدّمهما لجریانهما مجرى الأوسط فی لزوم الترکیب للمشبّه به فیظهر تنزیه الإله عن التشبّه به و إن کان التقدیر من شبّهک بخلقک فی أعضائهم المتباینه المتلاحمه.
و الّذى یقال من وجه الحکمه فی احتجاب المفاصل هو أنّها لو خلقت ظاهره عریّه عن الأغشیه لیبست رباطاتها و قست فیتعذّر تصرّف الحیوان بها کما هو الآن و أنّها کانت معرضه للآفات المفسده لها و غیر ذلک من خفىّ تدبیره و لطیف حکمته و قد شهد علیه السّلام على المشبّه للّه بخلقه بأمرین: أحدهما: أنّه لم یعرفه، و الثانی: أنّه لم یتیقّن تنزیهه عن المثل. و القرآن و البرهان مصدّقان لشهادته فی الموضعین: أمّا القرآن فما نبّه علیه بقوله: و کأنّه لم یسمع تبرّؤ التابعین المتبوعین إذ یقولون الآیه، و وجه الاستدلال على المطلوب الأوّل أنّ المشبّهه و عبده الأصنام ینکشف لهم فی الآخره أنّهم کانوا ضالّین فى تشبیه أصنامهم بربّ العالمین فیترتّب دلیل هکذا: المشبّهه ضالّون من جهه تشبیههم اللّه بخلقه و کلّ من کان کذلک فلیس بعارف باللّه و المقدّمه الاولى ثابته بمنطوق الآیه، و أمّا الثانیه فلأنّه لو کان المشبّه له عارفا به مع تشبیهه له بخلقه لما کان فی ضلال مبین من تلک الجهه لکنّه فی ضلال مبین من تلک الجهه فإذن هو لیس بعارف له. و أمّا البرهان فلأنّ اللّه سبحانه لمّا تقدّس عن أن یشبه خلقا فی شیء کان المشبّه له بخلقه و المکیّف له بکیفیّه یحویها وهمه غیر عارف به بل متصوّر لأمر آخر هو فی الحقیقه غیر الإله، و أمّا صدقه فی القضیّه الثانیه فلأنّ المشبّه للّه ضالّ من جهه ما هو مشبّه له و کلّ من کان کذلک فلیس بمنزّه له عن الندّ و المثل، و صدق الاولى ظاهر من الآیه، و أمّا الثانیه فلأنّه لو کان منزّها له عن الندّ بکونه مشبّها له لما کان ضالّا من تلک الجهه لکنّه ضالّ منها فلیس بمنزّه له عنه، و أمّا البرهان العقلىّ فلأنّ الندّ و المثل هو الشبیه و کلامنا فی المشبّه و فی الآیه تنفیر عن مذهب التشبیه بذکر تبرّؤ التابعین ممّن اتّبعوه و شبّهوا به خالقهم، و ندامتهم على تفریطهم فی ذلک، و حسرتهم على الرجعى لتدارک الأعمال و الاعتقادات الصالحه، و اعترافهم بأنّهم کانوا بتشبیههم فی ضلال مبین.
و قوله: کذب العادلون. إلى قوله: عقولهم.
تکذیب للعادلین به و أشار إلى تفصیل جهات کونهم عادلین و إلى سبب ذلک و هو الوهم، و قد علمت أنّ منشأ التشبیه هو الوهم إذ کان حکمه لا یترفّع [یرتفع خ] عن المحسوسات و ما یتعلّق بها فإنّ حکمه فی المجرّدات بحکم قدرها محسوسه ذات أحجام و ألحقها أحکام المحسوس و لذلک لم یترفّع المشبّهه للّه عن تشبیهه بالأصنام و أشخاص الأجسام کصوره الإنسان و أعضائه و کذلک غیر عبده الأوثان من سایر فرق المشبّهه حتّى کانت غایه تنزیه من نزّهه منهم أن توهّمه فی جهه فوق و قد علمت أنّ الجهه و الکون من عوارض الأجسام المخلوقه فکانوا عن آخرهم قد تحلّوه حلیه المخلوقین و صفاتهم بأوهامهم الفاسده. فمنهم من أثبت له أعضاء من یدو ساق و عین و وجه و سایر ما ورد فی القرآن الکریم و السنّه النبویّه حملا على ظاهرها، و منهم من تجاسر على وصف هیئته فقال: إنّه مجوّف الأعلى عصمت الأسفل و إنّه قطط الشعر إلى غیر ذلک من هذیاناتهم و کفرهم تعالى اللّه عمّا یقول الظالمون علوّا کبیرا- و تجزیته بخواطرهم تجزیه المجسّمات و هى إثباتهم الأعضاء المذکوره و ذلک عن تقدیرهم له على الخلقه المختلفه القوى بقرائح عقولهم الجامده متابعه لأوهامهم الفاسده و تقلید من سلف من آبائهم فإنّ الأعضاء إنّما تتولّد و تکمل بواسطه قوى طبیعیّه و نباتیّه و حیوانیّه و غیرها و هى قوى مختلفه بحقائقها و متضادّه فی أفعالها محتاجه إلى الجامع و المرکّب مؤذنه بالإمکان الّذى تنزّه قدس الصانع أن یتطرّق إلیه بوجه.
و قوله: و أشهد أنّ من ساواک بشىء من خلقک. إلى قوله: بیّناتک.
شهاده ثانیه على من شبّهه و جعل له مثلا بالکفر و إشاره إلى برهانها بقیاس من الشکل الأوّل أسند بیان کبراه إلى کتاب اللّه و نصوص آیاته المحکمه، و بیّناته: الأنبیاء.
و شواهد حججهم: هى تلک الآیات: أى حججهم الشاهده هى کقوله تعالى قُلْ أَ إِنَّکُمْ لَتَکْفُرُونَ بِالَّذِی خَلَقَ الْأَرْضَ فِی یَوْمَیْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً«» و قوله قُلْ أَیُّ شَیْءٍ أَکْبَرُ شَهادَهً قُلِ اللَّهُ شَهِیدٌ بَیْنِی وَ بَیْنَکُمْ وَ أُوحِیَ إِلَیَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَکُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ»«» و الإشراک کفر و نحو ذلک. و أمّا المقدّمه الاولى فلأنّ الشبیه هو المثل و العدیل و قد علمت أنّ البرهان العقلىّ ممّا یشهد بصدق هذه الشهاده فإنّ المشبّه للّه بخلقه مع براءته عن شبهیّه الغیر إذا اعتقد أنّ ذلک الّذى یشیر إلیه بوهمه هو صانع العالم فقد اعتقد غیر الصانع صانعا و ذلک عین الکفر و الضلال.
و قوله: و إنّک أنت اللّه الّذى لم تتناه فی العقول. إلى قوله: مصرّفا.
شهاده ثالثه هى خلاصه الشهادتین الاولیین بتنزیهه عن تناهیه فی العقول البشریّه و أفکارها: أى إحاطتها بحقیقته و ما له من صفات الکمال و نعوت الجلال بحیث لا یکون وراء ما أدرکته شیء آخر و تنبیه فی هذه الشهاده على ما یلزم ذلک التناهى من کونه ذا کیفیّه تکیّفها له القوى المتخیّله لتستثبته بها العقول، و مهابّ الفکر جهاتها. فیلزم من ذلک کونه محدودا إذ کانت الحقائق إنّما تدرک بکنهها من حدودها.
و قوله: و مصرّفا
أى محکوما فی ذاته بالتجزیه و التحلیل و الترکیب إذ کان من شأن المحدود ذلک، و لمّا کانت هذه اللوازم باطله لبرائته عن الکیفیّه و الأجزاء و الترکیب کان ملزومها و هو التناهى فی العقول باطلا.
الفصل الثالث:
و منها- قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْکَمَ تَقْدِیرَهُ وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِیرَهُ- وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ یَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ- وَ لَمْ یَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَایَتِهِ- وَ لَمْ یَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِیِّ عَلَى إِرَادَتِهِ- فَکَیْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِیئَتِهِ- الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْیَاءِ بِلَا رَوِیَّهِ فِکْرٍ آلَ إِلَیْهَا- وَ لَا قَرِیحَهِ غَرِیزَهٍ أَضْمَرَ عَلَیْهَا- وَ لَا تَجْرِبَهٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ- وَ لَا شَرِیکٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ- فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ- لَمْ یَعْتَرِضْ دُونَهُ رَیْثُ الْمُبْطِئِ وَ لَا أَنَاهُ الْمُتَلَکِّئِ- فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْیَاءِ أَوَدَهَا وَ نَهَجَ حُدُودَهَا- وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَیْنَ مُتَضَادِّهَا- وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً- مُخْتَلِفَاتٍ فِی الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَیْئَاتِ- بَدَایَا خَلَائِقَ أَحْکَمَ صُنْعَهَا وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا
اللغه
أقول: آل: رجع. و أذعن: خضع و ذلّ. و الریث: البطؤ و کذلک الأناه. و المتلکّى التباطؤ عن الأمر و التوقّف فیه. و الأود: الاعوجاج، و بدایا: جمع بدیه و هى الخلقه العجیبه.
المعنى
فقوله: قدّر ما خلق فأحکم تقدیره.
إشاره إلى أنّ کلّ مصنوع قدرّه فی الوجود فعلى وفق حکمته بحیث لو زاد على ذلک المقدار أو نقص منه لاختلّت مصلحه ذلک المقدّر و تغیّرت منفعته.
و قوله: و دبّره فألطف تدبیره
إیجاده على وفق المصلحه و لطفه فی ذلک تصرّفه فی جمیع الذوات و الصفات تصرّفات کلّیّه و جزئیّه من غیر شعور غیره بذلک.
و قوله: و وجّهه لوجهته. إلى قوله: إلى غایته
أى ألهم کلّا و یسّره لما خلق له و لما کتب له فی اللوح فلم یتجاوز مرسوم تلک المنزله المعلومه له: أى لم یعبرها و لم یقصر دونها و إلّا لزم التغیّر فی علمه سبحانه و إنّه محال.
و قوله: و لم یستعصب إذ امر بالمضىّ على إرادته
أى لمّا أمر المخلوق بالتوجّه إلى وجهه على وفق إراده اللّه و ساقت الحکمه الإلهیّه کلّا إلى غایته لم یمکن تخلّفه و استصعابه عن ذلک الأمر، و أمره له إشاره إلى توجیه أسبابه بحسب القضاء الإلهىّ علیه بذلک.
و قوله: و کیف و إنّما صدرت الامور عن مشیئته
أى و کیف یستعصب. ثمّ أشار إلى علّه عدم استصعابه و سرعه طوعه و انقیاده بذکر علّته و هو استناد جمیع الآثار إلى مشیئته. إذ کلّ أثر فهو واجب عن مؤثّره و الکلّ منته فی سلسله الحاجه إلى إرادته واجب عنها و قد علم ذلک فی العلم الإلهىّ.
و قوله: المنشىء أصناف الأشیاء. إلى قوله: عجائب الامور.
قد سبق فی الخطبه الاولى بیان أنّ الرویّه و الفکر و التجربه ممّا یلحق الإنسان و یخصّه و أنّ البارى سبحانه منزّه عن شیء منها فی کیفیّه إبداعه لخلقه، و أمّا الشریک فمنزّه عنه ببرهان الوحدانیّه کما سبقت الإشاره إلیه أیضا. و قریحه الغریزه قوّه الفکر للعقل.
و قوله: فأتمّ [فتمّ خ] خلقه و أذعن لطاعته و أجاب إلى دعوته.
تمام مخلوقاته من جهه جوده بإفادتها ما ینبغی لها فإن عرض لشیء منها فوت کمال فلعدم استعداده و قبوله لذلک و إذعانه ذلّته فی رقّ الحاجه و الإمکان و تصریف القدره و إجابته إلى دعوته کونه فی الوجود عن قوله: لکِنْ.
و قوله: و لم یعترض دونه ریث المبطئ و لا أناه المتلکّىء.
تنزیه لفعله تعالى و أمره أن یعرض فی طاعه الأشیاء له شیء من هذه الکیفیّات إذ کلّ شیء فی قهره و على غایه من السرعه إلى إجابه أمره و لما کان تعالى إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ، و فی قوله کن هبه ما ینبغی لذلک المأمور و ما یعدّه لإجابه أمره بالکون فی الوجود و یجب عنه فکیف یمکن أن یعرض له فی إجابه الأمر بطوء أو تلکّىء بل یکون کلمح البصر کما قال تعالى وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَهٌ کَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ و یحتمل أن یکون ذلک تنزیها له تعالى أن یعرض له من جهه ما هو فاعل شیء من هذه الکیفیّات فإنّ البطؤ و الأناه و التلکّىء من عوارض الحرکه الّتى هى من عوارض الجسم، و اعتراضها فیمن یفعل بالآله و تشتدّ حرکته و تضعف، و قد علمت تنزیه اللّه تعالى عن جمیع ذلک.
و قوله: فأقام من الأشیاء أودها. إلى قوله: و الهیئات.
إقامته لأودها رفعه لاعوجاج کلّ شیء بإعداده لما ینبغی له و إفاضه کماله، و نهجه لجددها أو لحدودها على الروایتین هو ایضاحه لکلّ شیء و جهته و غایته الّتى تیسّرها له، و ملائمته بین متضادّها کجمعه العناصر الأربعه على تضادّ کیفیّاتها فی مزاج واحد و قد سبق بیانه، و وصله لأسباب قرائنها إشاره إلى أنّ الموجودات لا تنفکّ عن أشیاء تقترن بها من هیئه أو شکل أو غریزه و نحوها و اقتران الشیئین لا محاله مستلزم لاقتران أسبابهما و اتّصالهما لاستحاله قیام الموجود بدون أسبابه، و ذلک الوصل مستند إلى کمال قدرته إذ هو مسبّب الأسباب. و قال بعض الشارحین: أراد بالقرائن النفوس. و على هذا یحتمل أن یکون معنى وصله لأسبابها هدایتها إلى عبادته و ما هو الأولى بها فی معاشها و معادها و سوقها إلى ذلک إذ المفهوم من قول القائل: وصل الملک أسباب فلان. إذا علّقه علیه و وصله إلى برّه و إنعامه، و الأوّل أظهر.
و قوله. و فرّقها أجناسا مختلفات فی الحدود و الأقدار و الغرائز و الهیئات.
لا یرید بالأجناس و الحدود ما اصطلح علیه قوم فی عرفهم بل ما اختلف بالامور المذکوره کلّها أو بعضها فهو مختلف الجنس لغه، و حدّ الشیء منتهاه و ما یحیط به، و الأقدار المقادیر و الأشکال أیضا، و الغرائز القوى النفسانیّه و الأخلاق و الهیئات و الصفات. و إن حملنا الحدود على ما هو المتعارف کان حسنا فإنّ حکمه الخالق سبحانه اقتضت تمیّز بعض الموجودات عن غیرها بحدودها و حقایقها و بعضها بأشکالها و هیئاتها و مقادیرها و غرائزها و أخلاقها کما یقتضیه نظام الوجود و أحکام الصنع و حکم الإراده الإلهیّه.
و قوله: بدا یا خلایق أحکم صنعها و فطرها على ما أراد و ابتدعها.
أى هى بدایا: أى عجائب مخلوقات أحکم صنعها على وفق إرادته. و باللّه التوفیق.
الفصل الرابع منها فى صفه السماء:
وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِیقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا- وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا وَ وَشَّجَ بَیْنَهَا وَ بَیْنَ أَزْوَاجِهَا- وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِینَ بِأَمْرِهِ- وَ الصَّاعِدِینَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَهَ مِعْرَاجِهَا- وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِیَ دُخَانٌ فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا- وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا- وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا- وَ أَمْسَکَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِی خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَیْدِهِ- وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَهً لِأَمْرِهِ- وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آیَهً مُبْصِرَهً لِنَهَارِهَا- وَ قَمَرَهَا آیَهً مَمْحُوَّهً مِنْ لَیْلِهَا- وَ أَجْرَاهُمَا فِی مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا- وَ قَدَّرَ سَیْرَهُمَا فِی مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا- لِیُمَیِّزَ بَیْنَ اللَّیْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا- وَ لِیُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِینَ وَ الْحِسَابُ بِمَقَادِیرِهِمَا- ثُمَّ عَلَّقَ فِی جَوِّهَا فَلَکَهَا وَ نَاطَ بِهَا زِینَتَهَا- مِنْ خَفِیَّاتِ دَرَارِیِّهَا وَ مَصَابِیحِ کَوَاکِبِهَا- وَ رَمَى مُسْتَرِقِی السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا- وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِیرِهَا مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا- وَ مَسِیرِ سَائِرِهَا وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا
اللغه
أقول: الرهوات: جمع رهوه و هى الفرجه المتّسعه. و أیده: قوّته، و بایده: هالکه. و مار: تتحرّک. و ناط: علق و الصدوع: الشقوق. و وشّج بالتشدید: أی شبّک. و الحزونه: الصعوبه. و الأشراج: جمع شرج بالفتح و هى عرى العیبه الّتى تخاط بها و تنقل و یطلق أیضا على حروفها الّتى تخاط. و الارتتاق: الالتصاق و النقاب: جمع نقب بفتح النون و هو الطریق فی الجبل. و الدرارى: الکواکب المضیئه.
و هذا الفصل یشتمل على کیفیّه خلق السماء
فقوله: و نظم بلا تعلیق. إلى قوله: انفراجها
انفراجها یقتضى بظاهره أنّ السماء کانت ذات فرج و صدوع، و هذا على رأى المتکلّمین ظاهر فإنّ الأجسام لمّا کانت عندهم مرکّبه من الأجزاء الّتى لا تتجزّىء کانت قبل تألیفها ذات فرج و صدوع، و أمّا على رأى غیرهم فقالوا: یحتمل أمرین: أحدهما: أنّه لمّا کانت السماوات مرکّبه من أجزاء و کانت بین أجزاء کلّ مرکّب مباینه لولا المرکّب و المؤلّف استعار علیه السّلام لفظ الرهوات و الفرج لما یتصوّر من المباینه بین أجزاء السماء عند قطع النظر عن صانعها و مرکّبها سبحانه، و نظامه لرهوات فرجها إفاضته لصورها على قوابلها حتّى تمّت مرکّبا منتظما متلاحم الصدوع و الفرج، و الثانی: یحتمل أن یشیر بالفرج إلى ما بین أطباق السماوات من التباین، و نظمه لرهواتها و ملاحمه صدوعها خلقها اکرا متماسّه لا خلاء بینها، و نبّه على کمال قدره اللّه تعالى بقوله: بلا تعلیق. فإنّ الأوهام حاکمه بأنّ السماء واقفه فی خلاء کما یقف الحجر فی الهواء و ذلک منشأ حیرتها و تعجّبها فحرّکها بذلک القول إلى التعجّب و الاستعظام.
و قوله: و وشّج بینها و بین أزواجها.
أراد بأزواجها نفوسها الّتى هى الملائکه السماویّه بمعنى قرائنها و کلّ قرین زوج: أى ربط ما بینها و بین نفوسها بقبول کلّ جرم سماوىّ لنفسه الّتى لا یقبلها غیره.
و قوله: و ذلّل للهابطین بأمره. إلى قوله: انفراجها.
قد سبقت الإشاره إلى أنّ الملائکه لیست أجساما کسایر الحیوان فإذن لیس هبوطها و صعودها الهبوط و الصعود المحسوسین و إلّا لکان البارى- جلّ قدسه عن أوهام المتوهّمین- فی جهه إلیه یصعد و عنه ینزل فإذن هو استعاره لفظ النزول من الجهه المحسوسه إلى أسفل لنزول العقول من سماء الجود الإلهىّ إلى أراضى الموادّ القابله للإفاضات العالیه، و بذلک المعنى یکون هبوط الملائکه عباره عن إیصالها إلى کلّ ما دونها کماله متوسّطه بینه و بین مبدعه و موجده و هم المرسلون من الملائکه بالوحى و غیره و کذلک الصاعدون بأعمال الخلق هم الملائکه أیضا، و أمّا معنى الصعود بها فیعود إلى کونها منقوشه فی ذوات الصاعدین بها، و قد لاح فیما سبق أنّ علمه تعالى بمعلولاته البعیده کالزمانیّات و المعدومات الّتى من شأنها أن توجد فی وقت و تتعلّق بزمان یکون بارتسام صورها المعقوله فی تلک الألواح، و هو أیضا مستعار کلفظ الهبوط للمعنى الّذى ذکرناه من أراضى النفوس إلى الألواح المحفوظه. فأمّا الانفراج الّذى ذلّل حزونته لهم و سهل علیهم سلوکه فیعود إلى عدم حجبها و منعها لنفوذ علوم الملائکه بأعمال الخلایق و ما یحرى فی هذا العالم و کما أنّ الجسم المتصدّع لا یمنع نفوذ جسم آخر فیه من حیث هو متصدّع و الوصول إلى ما رواءه کذلک السماء لا تحجب علوم الملائکه أن تتعلّق بما فی هذا العالم من الموجودات فجرت مجرى المنفرح من الأجسام فاطلق علیه لفظ الانفراج و تذلیله لحزونه ذلک الانفراج لهم هو کونها غیر مانعه بوجه ما لجریان علوم الملائکه المقرّبین فی هذا العالم.
و قوله: و ناداها بعد إذ هى دخان فالتحمت عرى أشراجها و افتتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.
فیه احتمالان: الأوّل: أنّک قد علمت ممّا سبق ما معنى کون السماء من دخان فأمّا نداؤه لها فإشاره إلى أمره لها بالإتیان و الکون فی قوله تعالى فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِیا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً قالَتا أَتَیْنا طائِعِینَ«» و أمّا التحامها فاعتبار ترکیبها بانضمام جزئها الصورىّ إلى جزئها القابل کما یلتحم طرفا العیبه بتشریج عراها، و افتتاق صوامت أبوابها بعد ذلک الارتتاق هو جعلها أسبابا لنزول رحمته و مدبّرات تنزل بواسطه حرکاتها على هذا العالم أنواع رحمه اللّه فکانت حرکاتها تشبه الأبواب إذ هى أبواب رحمته و مفاتیح جوده. الثانی: أنّ العرب تقول لکلّ ما علاک: فهو سماؤک. فعلى هذا یحتمل أن یکون المراد بالسماء ما هو أعمّ من السماء المعهوده، و یکون قوله: و ناداها إشاره إلى سماء السحاب و کونها دخانا هو کونها بخارا قبل الانعقاد یشبه الدخان فاستعیر له لفظه و التحام عرى أشراجها إشاره إلى التحام تلک الأجزاء البخاریّه و انعقادها سحابا و افتتاق صوامت أبوابها هو إنزال المطر منها کما. قال تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ«».
و قوله: و أقام رصدا من الشهب الثواقب على نقابها.
له معنیان: أحدهما: أن یکون استعار لفظ النقاب لکونها بحیث لا یمنع تعلّق العلوم بما ورائها من الأجسام و المجرّدات، و قد سبق معنى الشهب و إقامتها رصدا. الثانی: أن یکون استعار لفظ الرصد لهذه الشهب المحسوسه و رشّح بذکر النقاب إذ شأن الرصد و الحرسه حفظ الفرج و الأبواب، و یکون سرّ ذلک و وجه الحکمه فیه أنّ العرب کانت تعتقد أنّ الشیاطین تصعد إلى السماء فتسترق الغیب من الملائکه ثمّ تلقیه إلى الکهنه و السحره و نحوهم فلمّا آن دور الستر و النهى عن التکهّن و نحوه لما بیّنا فیه من فساد أذهان الخلق و صرف قلوبهم عن غرض الشریعه ألقى الوحى إلیهم أنّ هذه الشهب الّتى تنقضّ إنّما جعلت رجوما للشیاطین مسترقى السمع کلّ من استمع منهم رمى بشهاب منها و حجبت السماوات عنهم فلا یصلون إلیها لینغرس فی أذهان الخلق انقطاع مادّه الکهانه و نحوها فنسبوا اعتقادهم فیه فیکون ذلک کسرا لأوهامهم الّتى بیّنا أنّها شیاطین النفوس و قمعا لها. و باللّه التوفیق.
و قوله: و أمسکها من أن تمور فی خرق الهواء بأیده و أمرها أن تقف مستسلمه لأمره.
أى حفظها عن أن تحرّکها الریح المخترعه فیها مجیئا و ذهابا و حکمت الحکمه الإلهیّه علیها بالاستقرار انقیادا لقهره، و الأمر الأوّل إشاره إلى حکم القضاء، و الأمر الثانی إشاره إلى اعتبار القدره.
و قوله: و جعل شمسها آیه مبصره لنهارها و قمرها آیه ممحوّه من لیلها.
کقوله تعالى وَ جَعَلْنَا اللَّیْلَ وَ النَّهارَ آیَتَیْنِ فَمَحَوْنا آیَهَ اللَّیْلِ وَ جَعَلْنا آیَهَ النَّهارِ مُبْصِرَهً«» و کونهما آیتین: أى لدلالتهما على کمال قدرته، و نقل عن أئمّه التفسیر فی إبصار آیه النهار و محو آیه اللیل وجوه: أحدها: أنّ إبصار آیه النهار هو بقاء الشمس بحالها و تمام ضیائها فی کلّ حال، و محو آیه اللیل هو اختلاف أحوال القمر فی إشراقه و محاقه بحیث لا یبقى لیلتین على حاله واحده بل کلّ لیله فی منزل بزیاده أو نقصان. الثانی: ما نقل أن ابن الکوّاء سئل علیّا علیه السّلام عن اللطخه الّتى فی وجه القمر فقال: ذلک محو آیه اللیل. الثالث: عن ابن کثیر: أنّ الآیتین هما ظلمه اللیل و ضیاء النهار، و التقدیر و جعلنا اللیل و النهار ذوى آیتین فقوله: فَمَحَوْنا آیَهَ اللَّیْلِ: أى لم نجعل للقمر نورا من ذاته بل من ضوء الشمس، و إبصار آیه النهار کون الشمس مضیئه بذاتها و من هنا لابتداء الغایه أو لبیان الجنس متعلّق بممحوّه أو بجعل، و قیل: أراد من آیات لیلها.
و قوله: فأجراهما فی مناقل مجراهما و قدّر سیرهما فی مدارج درجهما.
الّتى قدّر سیرهما فینا هى بروجهما و منازلهما. و لنشر إلى مفهومات الدرج و البروج و المنازل و هو أنّ الناس قسموا دور الفلک الّذى یسیر منه الکواکب باثنى عشر قسما و سمّوا کلّ قسم برجا و قسّموا کلّ برح قسما و سمّوا کلّ قسم درجه و سمّوا تلک البروج أسماء: الحمل الثور الجوزاء السرطان الأسد السنبله المیزان العقرب القوس الجدى الدلو الحوت.
و الشمس تسیر کلّ برج منها فی شهر واحد، و القمر یسیر کلّ برج منها فی أزید من یومین و نقص من ثلاثه أیّام، و أمّا منازل القمر فثمانیه و عشرون و أسماؤها: الشرطین البطین الثریّا الدبران الهقعه الهنعه الذراع النثره الطرفه الجبهه الزبره الصرفه العوا. السماک الغفر الزبانا الاکلیل القلب الشوله النعایم البلده سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبیه الفرغ المقدّم الفرغ المؤخّر الرشاء.
و القمر یکون کلّ یوم فی منزل منها وَ کُلٌّ فِی فَلَکٍ یَسْبَحُونَ… ذلِکَ تَقْدِیرُ الْعَزِیزِ الْعَلِیمِ.
و قوله: لیمیّز بین اللیل و النهار. إلى قوله: بمقادیرهما.
أى بمقادیر سیرهما، و قد سبق بیانه فی الخطبه الاولى.
و قوله: ثم علّق فی جوّها فلکها.
لمّا أشار أوّلا إلى ترکیبها أشار إلى إقرارها فی أحیازها و هو المشار إلیه بتعلیق فلکها فی جوّها.
فإن قلت: فقد قال أوّلا: بلا تعلیق ثمّ قال هاهنا: و علّق. فما وجه الجمع.قلت: التعلیق أمر إضافیّ یصدق سلبه و إثباته باعتبارین: فالمراد بالأوّل أنّها غیر معلّقه بجسم آخر فوقها، و بالثانى أنّه علّقها فی جوّها بقدرته. و لا منافاه، و أراد بالفلک اسم الجنس و هو أجسامها المستدیره الّتى یصدق علیها هذا الاسم.
و قوله: و ناط بها زینتها من خفیّات دراریها و مصابیح کواکبها.
کقوله تعالى وَ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ«» و رمى مسترقى السمع بثواقب شهبها کقوله تعالى فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ و قد تقدّم بیانه، و إنّما أعاد ذکر الشهب لأنّه ذکر أوّلا أنّه أقامها رصدا و ذکر هنا أنّه جعلها رصدا له: أى لرقى مسترقى السمع بها.
و قوله: و أجراها على إذلال تسخیرها.
کقوله تعالى وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ«» و الذلّه: ذلّه الإمکان و الحاجه إلى الإیجاد و التدبیر. و أمّا الثابت و السائر منها فالسایر: هى الکواکب السبعه: زحل و المشترى و المرّیخ و الشمس و الزهره و عطارد و القمر.
و یسمّى الشمس و القمر بالنیّرین و الخمسه الباقیه بالمتحیّره لأنّ لکلّ واحد منها استقامه ثمّ وقوفا ثمّ رجوعا ثم وقوفا ثانیا ثمّ عودا إلى الاستقامه، و لیس للنیّرین غیر الاستقامه. و باقى الکواکب الّتى على السماء غیر هذه السبعه تسمّى بالثوابت و فلکها الثامن و کلّ واحد من السبعه یتحرّک حرکه مخصوصه یخالف حرکه الآخر. فأمّا صعودها و هبوطها: فصعودها طلبها لشرفها و شرف الشمس فی الدرجه التاسعه عشر من الحمل، و شرف القمر فی الدرجه الثالثه من الثور، و شرف زحل فی الحادیه و العشرین من المیزان، و شرف المشترى فی الخامسه عشر من السرطان، و شرف المرّیخ فی الثامنه و العشرین من الجدى، و شرف الزهره فی السابعه و العشرین من الحوت، و شرف عطارد فی الخامسه و العشرین من السنبله، و شرف الرأس فی الثالثه من الجوزا، و شرف الذنب فی الثالثه من القوس، و برج الشرف کلّه شرف إلّا أنّ تلک الدرجات قویّه فما دام الکواکب متوجّها إلى قوّه الشرف فهو فی الازدیاد و الصعود فإذا جاز صار فی الانتقاص و الهبوط. و هبوط کلّ کوکب یقابل شرفه و صعوده، و أمّا نحوسها و سعودها فقالوا: زحل و المرّیخ نحسان أکبرهما زحل، و المشترى و الزهره سعدان أکبرهما المشترى، و عطارد سعد مع السعود و نحس مع النحوس، و النیّران سعدان من التثلیت و التسدیس نحسان من المقابله و التربیع و المقاربه، و الرأس سعد، و الذنب و الکبد نحسان، و معنى سعودها و نحوسها کون اتّصالاتها أسبابا لصلاح حال شیء من الأشیاء من أحوال هذا العالم. و باللّه التوفیق
الفصل الخامس و منها فى صفه الملائکه:
ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْکَانِ سَمَاوَاتِهِ- وَ عِمَارَهِ الصَّفِیحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَکُوتِهِ- خَلْقاً بَدِیعاً مِنْ مَلَائِکَتِهِ- وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا وَ حَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا- وَ بَیْنَ فَجَوَاتِ تِلْکَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِینَ- مِنْهُمْ فِی حَظَائِرِ الْقُدُسِ- وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ- وَ وَرَاءَ ذَلِکَ الرَّجِیجِ الَّذِی تَسْتَکُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ- سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا- فَتَقِفُ خَاسِئَهً عَلَى حُدُودِهَا- . وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ- أُولِی أَجْنِحَهٍ تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ- لَا یَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِی الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ- وَ لَا یَدَّعُونَ أَنَّهُمْ یَخْلُقُونَ شَیْئاً مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ- بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ- جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِیمَا هُنَالِکَ أَهْلَ الْأَمَانَهِ عَلَى وَحْیِهِ- وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِینَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْیِهِ- وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَیْبِ الشُّبُهَاتِ- فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِیلِ مَرْضَاتِهِ- وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَهِ- وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّکِینَهِ- وَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِیدِهِ- وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَهً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِیدِهِ- لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الْآثَامِ- وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّیَالِی وَ الْأَیَّامِ- وَ لَمْ تَرْمِ الشُّکُوکُ بِنَوَازِعِهَا عَزِیمَهَ إِیمَانِهِمْ- وَ لَمْ تَعْتَرِکِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ یَقِینِهِمْ- وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَهُ الْإِحَنِ فِیمَا بَیْنَهُمْ- وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَیْرَهُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ- وَ مَا سَکَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَیْبَهِ جَلَالَتِهِ فِی أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ- وَ لَمْ تَطْمَعْ فِیهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَیْنِهَا عَلَى فِکْرِهِمْ- وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِی خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ- وَ فِی عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ وَ فِی قَتْرَهِ الظَّلَامِ الْأَیْهَمِ- وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى- فَهِیَ کَرَایَاتٍ بِیضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِی مَخَارِقِ الْهَوَاءِ- وَ تَحْتَهَا رِیحٌ هَفَّافَهٌ- تَحْبِسُهَا عَلَى حَیْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِیَهِ- قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ- وَ وَصَلَتْ حَقَائِقُ الْإِیمَانِ بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَ مَعْرِفَتِهِ- وَ قَطَعَهُمُ الْإِیقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَیْهِ- وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَیْرِهِ- قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَهَ مَعْرِفَتِهِ- وَ شَرِبُوا بِالْکَأْسِ الرَّوِیَّهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ- وَ تَمَکَّنَتْ مِنْ سُوَیْدَاءِ قُلُوبِهِمْ وَشِیجَهُ خِیفَتِهِ- فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَهِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ- وَ لَمْ یُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَهِ إِلَیْهِ مَادَّهَ تَضَرُّعِهِمْ- وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِیمُ الزُّلْفَهِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ- وَ لَمْ یَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَیَسْتَکْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ- وَ لَا تَرَکَتْ لَهُمُ اسْتِکَانَهُ الْإِجْلَالِ- نَصِیباً فِی تَعْظِیمِ حَسَنَاتِهِمْ- وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِیهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ- وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَیُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ- وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاهِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ لَا مَلَکَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَیْهِ أَصْوَاتُهُمْ- وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِی مَقَاوِمِ الطَّاعَهِ مَنَاکِبُهُمْ- وَ لَمْ یَثْنُوا إِلَى رَاحَهِ التَّقْصِیرِ فِی أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ- . وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِیمَهِ جِدِّهِمْ بَلَادَهُ الْغَفَلَاتِ- وَ لَا تَنْتَضِلُ فِی هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ- قَدِ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِیرَهً لِیَوْمِ فَاقَتِهِمْ- وَ یَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِینَ بِرَغْبَتِهِمْ- لَا یَقْطَعُونَ أَمَدَ غَایَهِ عِبَادَتِهِ- وَ لَا یَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ- إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَیْرِ مُنْقَطِعَهٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ- لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَهِ مِنْهُمْ فَیَنُوا فِی جِدِّهِمْ- وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ- فَیُؤْثِرُوا وَشِیکَ السَّعْیِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ- لَمْ یَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ- وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِکَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ- وَ لَمْ یَخْتَلِفُوا فِی رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّیْطَانِ عَلَیْهِمْ- وَ لَمْ یُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِل التَّحَاسُدِ- وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّیَبِ- وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْیَافُ الْهِمَمِ- فَهُمْ أُسَرَاءُ إِیمَانٍ لَمْ یَفُکَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَیْغٌ وَ لَا عُدُولٌ- وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ- وَ لَیْسَ فِی أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَ عَلَیْهِ مَلَکٌ سَاجِدٌ- أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ یَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَهِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً- وَ تَزْدَادُ عِزَّهُ رَبِّهِمْ فِی قُلُوبِهِمْ عِظَماً
اللغه
أقول: الصفیح: السطح. و الفجاج: الطریق الواسع. و الجوّ: المکان المتّسع العالى. و الفجوه: الفرجه. و الزجل: الأصوات. و السرادق: الستر الّذى یمدّ فوق البیت. و الرجیج: الزلزله و الاضطراب. و تستکّ الأسماع: تصمّ. و خاسئه: متحیّره و الإخبات: التذلّل و الاستکانه. و ذللا: سهله. و الموصرات: المثقلات. و العقب: جمع عقبه و هى المدّه من التعاقب: و النوازغ بالغین المعجمه: المفسده. و بالمهمله القسىّ. و الإحن: جمع أحنه و هى الحقد. و لاق: التصق. و أثناء: جمع ثنى و هى تضاعیف الشیء. و الرین: الغلبه و التغطیه. و الدلّح: جمع دالحه و هى الثقال. و الشمّخ: العالیه. و قتره الظلام: سواده و الأبهم: الّذی لا یهتدى فیه. و التخوم جمع تخم بفتح التاء و هى منتهى الأرض و حدودها. و الریح الهفّافه: الساکنه الطیّبه و الوشیجه: عروق الشجره. و الربق: جمع ربقه و هى الحلقه من الحبل، و الدؤوب: الجدّ فی العمل. و الأسله: طرف اللسان. و الجؤار: رفع الصوت بالدعاء و نحوه. و الهمس: الخفىّ من الصوت. و الانتضال: الرمى بالسهم. و استهتر بالأمر: أعجبه و تظاهر به. و شیک السعى: مرتبته. و النسخ: الإزاله و الاستحواذ على الشیء: الإحاطه و الغلبه علیه. و أخیاف الهمم. مختلفاتها واحده أخیف و الحفد: السرعه.
و اعلم أنّ هذا الفصل یشتمل على وصف الملائکه
الّذین هم أشرف الموجودات الممکنه بکمال العبودیّه للّه إذ کان فی معرض تمجیده و وصف عظمته، و قد سبق ذکر أنواع الملائکه و إسکانهم أطباق السماوات، و بیّنا مقاصده بقدر الإمکان. و لنشر هاهنا إلى ما یختصّ بهذا الموضع من المباحث:
الأوّل: ثمّ خلق سبحانه إلى قوله: من الملائکه
یحتمل أن یشیر بالصفیح الأعلى إلى الفلک التاسع و هو العرش لکونه أعظم الأجرام و أعلاها و سکّانه الملائکه المدبّرون له، و یحتمل أن یرید به محلّ عباده الملائکه من حضرت جلال ربّ العالمین و عالم الملکوت و مقعدهم الصدق من معرفته فإنّ خلقهم إنّما کان لعماره ذلک المحلّ و هو البیت المعمور بجلال اللّه و عبادتهم له، و لمّا کانوا من أشرف الموجودات کانوا هم الخلق البدیع التامّ المعجب.
الثانی: ملأ بهم فروج فجاجها و حشا بهم فتوق أجوائها
استعار لفظ الفروج و الفجاج و الفتوق لما یتصوّر بین أجزاء الفلک من التباین لولا الملائکه الّذین هم أرواح الأفلاک و بهم قام وجودها و بقاء جواهرها محفوظه بهم. و وجه المشابهه ظاهر، و رشّح تلک الاستعاره بذکر الملء و الحشو، و أمّا فجاجها و فروجها فإشاره إلى ما یعقل بین أجزائها و أجوائها المنتظمه على التباین لولا الناظم لها بوجود الملائکه فیکون حشو تلک الفرج بالملائکه کنایه عن نظامها بوجودها و جعلها مدبّره لها.
الثالث: و بین فجوات تلک الفروج. إلى قوله: المجد.
استعار لفظ الزجل لکمال عبادتهم کما أنّ کمال الرجل فی رفع صوته بالتضرّع و التسبیح و التهلیل و کذلک لفظ الحظائر لمنازل الملائکه من عالم الغیب و مقامات عبادتهم، و ظاهر کونها حظایر القدس لطهارتها و براءتها عن نجاسات الجهل و النفس الأمّاره بالسوء، و کذلک استعار لفظ سترات الحجب و السرادقات لما نبّهنا علیه من حجب النور الّتى حجبت بها عن الأذهان أو لتجرّدهم عن الموادّ و الأوضاع المحسوسه، و وجه المشابهه کونهم محتجبین بذلک عن رؤیه الأبصار و الأوهام. و ظاهر کون تلک الحجب سرادقات المجد لکمال ذواتهم و شرفهم بها على من دون تلک الحجب.
الرابع: و وراء ذلک الرجیج الّذى تستکّ. إلى قوله: حدودها.
استعار لفظ الرجیج لعبادات الملائکه کما استعار لفظ الزجل و رشّح استعاره الرجیج بقوله: تستکّ منه الأسماع و کنّى به من کمال عبادتهم، و یحتمل أن یشیر بذلک الزجل و الرجیج إلى ما یسمعه الأنبیاء من أصوات الملائکه کما علمت کیفیّته فی سماع الوحی و بیّناه فی المقدّمه و أشار بسبحات النور الّتى وراء ذلک الرجیج إلى جلال وجه اللّه و عظمته و تنزیهه أن یصل إلیه أبصار البصائر، و نبّه بکون ذلک وراء رجیجهم إلى أنّ معارفهم لا تتعلّق به کما هو، بل وراء علومهم و عباداتهم أطوار اخرى من جلاله تقصر معارفهم عنها و تردع أبصار البصائر عن إدراکها فترجع حسیره متحیّره واقفه عند حدودها و غایاتها من الإدراک.
الخامس: أنشأهم على صور مختلفات. إلى قوله: عزّته.
اختلاف صورهم کنایه عن اختلافهم بالحقایق و تفاوت أقدارهم تفاوت مراتبهم فی الکمال و القرب منه و لفظ الأجنحه مستعار لقواهم الّتى بها حصلوا على المعارف الإلهیّه و تفاوتها بالزیاده و النقصان کما قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ«» کنایه عن تفاوت إدراکهم لجلال اللّه و علومهم بما ینبغی له و لذلک جعل الأجنحه هى الّتى تسبّح جلال عزّته فإنّ علمهم بجلاله منزّه عمّا لا ینبغی لکرم وجهه و لا یناسب جلال عزّته.
السادس: لا ینتحلون إلى قوله: یعملون
أى لا ینسون بعض مصنوعاته إلى قدرهم و إن کانوا وسایط فیها و لا یدّعون أنّهم یقدرون على شیء منها إلّا بإقداره لهم، بل غایتهم أنّهم وسائط فی إفاضه الجود على مستحقّه و ما لم یجعلهم وسائط فیه بل انفرد بذاته فی إبداعه فلا یدّعون القدره علیه أصلا و ذلک لکمال معارفهم بأقدارهم و نسبتهم إلى بارئهم و قد أکرمهم اللّه تعالى بالتقدیس عن النفوس الأمّاره بالسوء الّتى هى مبدء مخالفه أمره و الخروج عن طاعته.
السابع: جعلهم فیما هنا لک. إلى قوله: و نهیه
أى فی مقاماتهم من حضره قدسه.
و قد سبقت الإشاره إلى کلّ ذلک فی الخطبه الاولى.
الثامن: و عصمهم. إلى قوله: مرضاته
منشأ الشکوک و الشبهات و الزیغ عن سبیل اللّه هو معارضه النفس الأمّاره للعقل و جذبها له إلى طرق الباطل و الملائکه مبرّؤون عنها فکانوا معصومین ممنوعین ممّا تقود إلیه و تأمر به من الزیغ و الانحراف عن قصد اللّه.
و إمدادهم بفواید المعونه زیادتهم فی کمالاتهم على غیرهم و دوام ذلک بدوام وجوده.
التاسع: و أشعر قلوبهم تواضع إخبات السکینه
استعار لفظ التواضع و الاستکانه لحالهم من الاعتراف بذلّ الحاجه و الإمکان إلى جوده و الانقهار تحت عظمته: أى جعل ذلک الاعتراف شعارا لازما لذواتهم، أو من الشعور و هو الإدراک.
العاشر: و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجیده
الأبواب الذلل وجوه معارفهم الإلهیّه الّتى بها یمجّدونه حقّ تمجیده و هى أبوابهم و وسائلهم إلى تنزیهه و تعظیمه و ظاهر کونها سهله إذ حصولها لهم لیس اکتسابا عن طرق توعّرت بتراکم الشکوک و الشبهات و منازعات الأوهام و الخیالات کما علیه علومنا.
الحادى عشر: و نصب لهم منارا واضحه على أعلام توحیده
قیل: استعار المنار الواضحه للوسائط من الملائکه المقرّبین بینهم و بین الحقّ سبحانه إذ أخباره عن الملائکه السماویّه، و لفظ الأعلام لصور المعقولات فی ذواتهم المستلزمه لتوحیده و تنزیهه عن الکثره، و وجه المشابهه أنّ المنار و الأعلام کما یکون وسائط فی حصول العلم بالمطلوب کذلک الملائکه المقرّبون و المعارف الحاصله بواسطتهم یکون وسائط فی الوصول إلى المطلوب الأوّل محرّک الکلّ عزّ سلطانه.
الثانی عشر: لم تثقلهم موصرات الآثام.
لمّا لم یکن النفوس الأمّاره بالسوء موجوده لهم استلزم عدمها نفى آثارها عنهم من الآثام و الشرور.
الثالث عشر: و لم ترتحلهم عقب اللیالى و الأیّام
أى لم یستلزم تعاقب الزمان رحیلهم عن الوجود و ذاک لتجرّدهم و براءه المجرّدات عن لحوق الزمان و التغیّرات الحادثه بسببه.
الرابع عشر: و لم ترم الشکوک بنوازغها عزیمه إیمانهم و لم تعترک الظنون على معاقد یقینهم.
عزیمه إیمانهم ما لزم ذواتهم من التصدیق بمبدعهم و ما ینبغی له، و معاقد یقینهم اعتقاداتهم الیقینیّه و اعتراک الشکوک و الظنون منشأه الأوهام و الخیالات و علوم الملائکه المجرّدین مبرّأه عنها، و لفظ الرمى مستعار لانبعاث النفوس الأمّاره بالسوء و إلقائها الخواطر الفاسده إلى النفس المطمئنّه، و من روى النوازع بالعین المهمله فهو ترشیح للاستعاره و کذلک استعار لفظ الاعتراک لاختلاط الظنون و الأوهام على القلوب و جولانها فی النفوس، و وجه المشابهه ظاهره.
الخامس عشر: و لا قدحت قادحه الإحن فیما بینهم
أى لم تثر بینهم الأحقاد شیئا من الشرور کما تثیر النار قادحا لبراءتهم عن قوى الغضب و الشهوه.
السادس عشر: و لا سلبتهم الحیره ما لاق من معرفته بضمائرهم إلى قوله: صدورهم.
لمّا کانت الحیره تردّد العقل فی أىّ الأمرین أولى بالطلب و الاختیار و کان منشأ ذلک هو معارضات الوهم و الخیال للعقل فحیث لا وهم و لا خیال فلا حیره تخالط معارفهم و تزیل هیبه عظمته من صدورهم، و الهیبه کنایه عن استشعار عظمته، و لفظ الصدور مستعار لذواتهم.
السابع عشر: و لم تطمع فیهم الوساوس فتقترع برینها على فکرهم.
و قد مرّ تفسیر الوسوسه، و فاعل الطمع هاهنا إمّا مضمر على تقدیر حذف المضاف و إقامه المضاف إلیه مقامه: أى أهل الوساوس و هم الشیاطین، أو یکون الفاعل هو الوساوس و إسناد الطمع إلیه مجازا کقوله تعالى وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها«» و رینها غلبه الشکوک اللازمه عنها على وجوه عقولهم و أبصار ذواتهم الّتى بها ینظرون إلى وجه ربّهم.
و انتفاؤها عنهم لانتفاء أسبابها و هى النفوس الأمّاره.
الثامن عشر: منهم من هو فی خلق الغمام إلى قوله: الأبهم هذا التقسیم یعود إلى جنس الملائکه فأمّا الأوصاف السابقه فکانت خاصّه بسکّان السماوات منهم و قد وردت فی الشریعه أنّ فی الغمام ملائکه تسبّح اللّه و تقدّسه و کذلک فی الجبال و الأماکن المظلمه و هم من الملائکه الأرضیّه، و قد علمت ما قیل فیها فی الخطبه الاولى.
التاسع عشر: و منهم من خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى إلى قوله: المتناهیه.
یشبه أن یکون هذا القسم من الملائکه السماویّه أیضا و استعار لفظ الأقدام لعلومهم المحیطه بأقطار الأرض السفلى و نهایاتها، و وجه المشابهه کون العلوم قاطعه للمعلوم و ساریه فیه واصله إلى نهایته کما أنّ الأقدام تقطع الطریق و تصل إلى الغایه منها و شبّهها بالرایات البیض النافذه فی مخارق الهواء من وجهین: أحدهما: فی البیاض فإنّ البیاض لمّا استلزم الصفاء عن الکدر و السواد کذلک علومهم صافیه من کدورات الباطل و ظلمات الشبه. الثانی: فی نفوذها فی أجزاء المعلوم کما تنفذ الرایات فی الهواء، و أشار بالریح الّتى تحبس الأقدام على حیث انتهت من الحدود إلى حکمه اللّه الّتى أعطت کلاما یستحقّه و قصرت کلّ موجود على حدّه، و بهفوفها إلى لطف تصرّفها و جریانها فی المصنوعات.
العشرون: قد استفرغتهم أشغال عبادته إلى قوله: و شیجه خیفته
أى لم یجعل لهم فراغا لغیرها، و قد علمت أنّ تحریک الملائکه السماویّه لأجرام الأفلاک الجاریه لها مجرى الأبدان بحرکه إرادیّه و شوقیّه للتشبّه بالملائکه المتوسّطه بینها و بین الحقّ سبحانه فی کمال عبادتهم له و تلک الحرکات الدائمه الواجبه مستفرغه لهم عن الاشتغال بغیرها کما قال یُسَبِّحُونَ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ لا یَفْتُرُونَ و حقایق الایمان تصدیقهم الحقّ بوجوده عن شاهد وجودهم و ظاهر کونه سببا لإراده معرفته التامّه و الدوام علیها و إبراز ما فی قوّتهم من الکمال بها إلى الفعل فإنّ التصدیق بوجود الشیء الواجب تحصیله أقوى الأسباب الباعثه على طلبه. فصار الإیمان و التصدیق الحقّ الیقین بوجوده وسیله جامعه بینه و بین معرفته و الاستکمال بها و قاطعا لهم إلى الوله إلیه و العشق له و ثبات الرغبات على ما عنده دون غیره، و لمّا استعار لفظ الذوق لتعقّلاتهم و لفظ الشرب بما تمکّن فی ذواتهم فی عشقه و کمال محبّته رشّح الاستعاره الاولى بذکر الحلاوه و کنّى بها عن کمال ما یجدونه من اللذّه بمعرفته کما یلتذّ ذایق الحلاواه بها، و الثانیه بذکر الکأس الرویّه إذ من کمال الشرب أن یکون بکأس رویّه: أى من شأنها أن تروى، و کنّى بها عن کمال معرفتهم بالنسبه إلى غیرهم و کذلک رشّح استعاره لفظ القلوب بذکر سویدائها إذ کان من کمال تمکّن العوارض القلبیّه کالمحبّه و الخوف أن یبلغ إلى سویدائه، و أشار بوشیجه خیفته إلى العلاقه المتمکّنه من ذواتهم لخیفته و هى کمال علمهم بعظمته، و لفظ الخیفه مستعار کما سبق لانقهارهم فی ذلّ الإمکان عند اعتبار عزّه و قهره.
الحادى و العشرون: فحنوا بطول الطاعه اعتدال ظهورهم
تجوّز بانحناء الظهور فی کمال خضوعهم فی عبادتهم و هو إطلاق لاسم المسبّب على السبب.
الثانی و العشرون: و لم ینفذ طول الرغبه إلیه مادّه تضرّعهم
لمّا کان من شأن أحد إذا رغب فی أمر إلى بعض الملوک و فزع فیه إلیه بالتضرّع و الخدمه أن ینقطع تضرّعه بانقطاع مادّته. و مادّته إمّا دواعى نفسه إلى الطلب و میولها و انقطاعها باستیلاء الملال على نفسه و ضعفها عن تحمّل المشقّه، أو مطلوبه و تصوّره لإمکان تناوله و انقطاعه إمّا بإیاسه منه أو بإعطائه إیّاه و کانت مادّه تضرّعهم و عبادتهم له تعالى على التقدیرین بریئه عن القواطع أمّا من ذواتهم فلأنّ الکلال و الملال من عوارض المرکّبات العنصریّه و أمّا مطلوبهم فلأنّه کمال معرفه اللّه بعد تصورّهم لعظمه ذلک المطلوب. و علمت أنّ درجات الوصول إلیه غیر متناهیه لا جرم سلب عنهم فی معرض مدحهم انقطاع مادّه تضرّعهم لیستلزم ذلک سبب انقطاع تضرّعهم و عبادتهم له.
الثالث و العشرون: و لا أطلق عنهم عظیم الزلفه ربق خشوعهم
لمّا کان من قرب من السلطان مثلا من شأنه أن یقوى نفسه و یخفّف هیبته منه و کان ذلک لتناهى ملک ملوک الدنیا و کونه مکتسبا لها و تصوّر المتقرّب إلیهم مثلیّه لهم و إمکان وصوله إلى ما وصلوا إلیه. و کان سلطان اللّه لا یتناهى عظمه و عزّه و عرفانا لم یتصوّر من العارف المتقرّب إلیه أن یخفّف هیبته أو ینقص خشوعه و عبادته بل کلّما ازدادت معرفته به ازدادت عظمته فی نفسه إذ کان یقدّر فی سلوکه عظمه اللّه بقدر عرفانه به فکلّما غیّر منزلا من منازل المعرفه علم عظمه خالقه فکمل عقد یقینه بذلک و علم نقصان ذاته فکمل خشوعه و صدن خضوعه، و استعار لفظ الربق لما حصلوا فیه من الخشوع.
الرابع و العشرون: و لم یتولّهم الإعجاب إلى قوله: حسناتهم
أى لم یستول علیهم، و الإعجاب: هو استعظام الإنسان نفسه عمّا یتصوّر أنّه فضیله له، و منشأ ذلک الحکم هو النفس الأمّاره فیتوهّم الإنسان أنّ تلک الفضیله حصلت له عن استحقاق وجب له بسعیه و کدّه مع قطع النظر عن واهب النعم و مفیضها، و الملائکه السماویّه مبرّؤون عن الأوهام و أحکامها غرقى فی الوله إلیه و دوام مطالعه آلائه و الاستکانه تحت جلال عزّته فلا یستکثرون ما سلف منهم من عباده و لا یستعظمون ما صدر عنهم من خیر.
الخامس و العشرون و لم تجر الفترات فیهم على طول دؤوبهم
قد ثبت أنّ الملائکه السماویّه دائمه التحریک لأجرامها حرکه لا یتخلّلها سکون و لا یکلّها و یفترها إعیاء و تعب، و لبیان ذلک بالبرهان اصول ممهّده فی مواضعها، و أمّا بالقرآن فلقوله تعالى یُسَبِّحُونَ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ لا یَفْتُرُونَ«» و قد سبق.
السادس و العشرون: و لم تغض رغباتهم فیخالفوا عن رجاء ربّهم
المخالفه عن الشیء العدول عنه، و قد سبق أنّ رغبات الملائکه السماویّه و أشواقها إلى کمالاتها دائمه ثابته فکانت لذلک دائمه الرجاء لها من واهبها، و لفظ الغیض مستعار کما سبق.
السابع و العشرون: و لم تجفّ لطول المناجاه أسلات ألسنتهم
طول مناجاتهم یعود إلى توجیه وجوههم دائما إلیه، و استعار لفظ الألسنه و رشّح بذکر الأسلات ملاحظه للتشبیه بأحدنا فی مناجاته، و کنّى بعدم جفاف ألسنتهم عن عدم فتورهم و عدم لحقوق الکلال و الإعیاء لهم و ظاهر أنّه لا ألسنه لحمانیّه لهم فلا جفاف.
الثامن و العشرون: و لا ملکتهم إلى قوله: أصواتهم
أى لم تضعفهم العباده فتنقطع أصواتهم فتضعف فتخفى بالتضرّع إلیه. و هو تنزیه لهم عن الأحوال البشریّه و العوارض البدنیّه من الضعف و الإعیاء و کلال الأعضاء عند کثره الأشغال و قوّتها. و قد مرّ أنّ الملائکه السماویّه لا یجوز علیها شیء من تلک العوارض، و استعار لفظ الأصوات کما استعار لفظ الألسنه.
التاسع و العشرون: و لم یختلف فی مقاوم الطاعه مناکبهم إلى قوله: رقابهم.
استعار لفظ المقاوم من ریش الطائر و هى عشر فی کلّ جناح لما سبق وجوبه من طاعه اللّه و کان أهمّ عباداته کمعرفته فی التوجّه إلیه، و لفظ المناکب و هى أربع ریشات بعد المقاوم فی کلّ جناح لذواتهم، و وجه المشابهه أنّ المناکب تالیه للمقادم و على نظامها و ترتیبها لا یخالف صفّها و نسقها کذلک الملائکه لا تختلف ذواتهم و أجرامهم فی نسق ما أهمّ من عباده ربّهم و معرفته بل صافّون لا یخالف بعضهم بعضا فی استقامه طریقهم إلیه و لا یخرجون عن نظام ترتیبه لهم فی التوجّه إلیه کما أشار إلیه فی الخطبه الاولى: و صافّون لا یتزایلون، و کذلک استعار لفظ الرقاب و لفظ الثنى: أى لم یلتفتوا إلى الراحه من تعب العباده فیقصروا فی أوامره. و المقصود نفى الأحوال البشریّه عنهم من التعب و الراحه لکونهما عن توابع هذه الأبدان.
الثلاثون: و لا تعدو إلى قوله: الشهوات
قد عرفت معنى الغفله فیما سبق. و البلاده هى طرف التفریط من فضیله الذکاء و کلاهما من عوارض هذا البدن و بواسطته. و کذلک الشهوات و الملائکه السماویّه بریئه عنها فلم یجز أن یطرأ على قصودهم لما توجّهوا له غفله و لا بلاده حتّى یکون ذلک سببا لإعراضهم عن التوجّه فیه و لم یجز أن ترمى الشهوات هممهم بسهام خدایعها، و لفظ الانتضال مستعار لنوادر جواذب الشهوه على النفس الناطقه مع کونها مؤدّیه لها و مردیه فی قرار الجحیم.
الحادى و الثلاثون: قد اتّخذوا إلى قوله: برغبتهم.
أشار بیوم فاقتهم إلى حال حاجتهم فی الاستکمال إلى جوده و إن کان ذلک دائما فهو ذخرهم الّذى إلیه یرجعون و و کذلک الإشاره بقوله: عند انقطاع الخلق إلى المخلوقین. إلى حال الحاجه أیضا فإنّه إنّما یکون ذخیره لهم لرجوعهم إلیه فیما یحتاجون و إنّما یتحقّق قصدهم له برغبتهم حال الحاجه إلیه.
الثانی و الثلاثون: لا یقطعون إلى قوله: و مخافته.
لمّا کانت غایه عبادته هو الوصول إلى کمال معرفته و کانت درجات المعارف الإلهیّه غیر متناهیه لم یکن قطعهم لتلک الغایه ممکنا، و لمّا کانوا غرقى فی محبّته عالمین بکمال عظمته و أنّ ما یرجونه من تمام جوده أشرف المطالب و أربح المکاسب، و ما یخشى من انقطاع جوده و نزول حرمانه أعظم المهالک و المعاطب لا جرم دام رجاؤهم له و خضوعهم فی رقّ الحاجه إلیه و الفزع من حرمانه و کان ذلک الرجاء و الخوف هو مادّه استهتارهم بلزوم طاعته الّتى یرجعون إلیها من قلوبهم فلم ینقطع استهتارهم بلزومها.
الثالث و الثلاثون: لم تنقطع أسباب الشفقّه عنهم فیتوانى جدّهم.
الشفقّه: الاسم من الإشفاق: أى لم ینقطع أسباب خوفهم له و أسبابه حاجتهم إلى القیام فی الوجود إلى الاستکمال بجوده فإنّ الحاجه الضروریّه إلى الغیر فی مطلوب یستلزم الخوف منه فی عدم قضائه و یوجب الإقبال على الاستعداد بجوده بلزوم طاعته. و حاجتهم إلیه دائمه فجدّهم فی عبادته دائم فالتوانى فیه مفقود.
الرابع و الثلاثون: و لم یأسرهم إلى قوله: اجتهادهم
سلب لبعض أوصاف البشر عنهم فإنّ کثیرا من العابدین قد یصرفهم عن الاجتهاد فی طاعه اللّه سبب ما یظهر لهم من کمالات الدنیا و زینتها فیؤثرون ما قرب من السعى فی تحصیله على ما یستبعدونه من تحصیل السعاده الاخرویّه الباقیه، و قد عرفت أنّ ذلک من جواذب الشهوات و الغفله عمّا وراء هذه الدار و الملائکه مبرّؤون عن الشهوات و ما یلزمها من أسر الأطماع الکاذبه لهم، و لفظ الأسر استعاره لقود الأطماع إلى ما یطمع فیه.
الخامس و الثلاثون: و لم یستعظموا ما مضى من أعمالهم إلى قوله: رجلهم
معنى هذه الشرطیّه أنّهم لو استعظموا ذلک لکان رجاؤهم لثواب عبادتهم عظیما فکان لقوّته ماحیا لإشفاقهم و خوفهم منه و هذا کما أنّ الإنسان إذا عمل لبعض الملوک عملا یستعظمه فإنّه یرى فی نفسه استحقاق أتمّ جزاء له و یجد التطاول به و الدالّه علیه فیهوّن ذلک ما یجده من خوفه، و کلّما ازداد استعظامه لخدمته ازداد اعتقاده فی قربه من الملک قوّه و بمقدار ذلک ینقص خوفه و یقلّ هیبته لکنّ الملائکه خائفون أبدا کما قال تعالى یَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ… وَ الْمَلائِکَهُ مِنْ خِیفَتِهِ فینتج أنّهم لا یستعظمون سالف عبادتهم.
السادس و الثلاثون: و لم یختلفوا فی ربّهم باستحواذ الشیطان علیهم
أى فی إثباته و استحقاقه کمال العباده و ذلک لعدم سلطان علیهم و هو سلب لبعض أحوال البشر و کذلک قوله: و لم یفرّقهم إلى قوله: أخیاف الهمم. تنزیه لهم عن امور من عوارض البشریّه: أحدها: سوء التقاطع و هو کتقاطع المتعادین و تباینهم الناشى عن الغضب و الشهوه. الثانی: غلّ الحسد، و قد علمت أنّ الحسد رذیله نفسانیّه تنبعث عن البخل و الشره و منبعهما النفس الأمّاره. الثالث: تشعّب مصارف الریب لهم و الریب الشکوک و الشبه و مصارفها هى الامور الباطله الّتى تنصرف أذهانهم إلیها عن الشبه أو تلک الشبهه و الشکوک أنفسها و تشعّبها لهم اقتسامها یحیث یذهب کلّ واحد من شبهه إلى باطل، و قد علمت أنّ منشأ الشکوک و الشبهات هو الوهم و الخیال، و لمّا کانوا مبرّئین عن النفوس الأمّاره وجب تنزیههم عن هذه الامور الثلاثه، الرابع: لمّا کان معبودهم واحدا و هو غایه مطلوبهم کانت هممهم ز فیه واحده فلم یلتفتوا إلى شیء آخر و لم یفترقوا فیها.
السابع و الثلاثون: فهم اسراء الایمان. إلى قوله: و لا فتور
استعار لفظ الأسر و رشّح بذکر الربقه و نزّههم عن أن یجذبهم عن الایمان أحد الامور الأربعه، و قد سبق وجه تنزیههم عنها.
الثامن و الثلاثون: و لیس فی أطباق السماوات إلى قوله: عظما
المراد أنّ السماوات مملوّه بالملائکه فبین ساجد لوجه ربّه و بین ساعى مجدّ فی أمره. و اعلم أنّ فی السماء ملائکه مباشره لتحریکها و ملائکه على رتبه من اولئک هم الآمرون لهم بالتحریک فیشبه أن یکون الإشاره بالساجدین منهم إلى الأمرین، و السجود کنایه عن کمال عبادتهم کنایه بالمستعار و یکون الإشاره بالساعین المسرعین إلى المتولّین للتحریک فأمّا زیادتهم بطول الطاعه علما بربّهم فلمّا ثبت أن حرکاتهم إنّما هو شوقیّه للتشبّه بملائکه أعلى رتبه منهم فی کمالهم بالمعارف الإلهیّه و ظهور ما فی ذواتهم بالقوّه إلى الفعل. و زیاده عزّه ربّهم عندهم عظما بحسب زیادتهم معرفتهم له تابعه لها کما نبّهنا علیه قبل. و باللّه التوفیق.
الفصل السادس و منها فى صفه الأرض و دحوها على الماء.
کَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَهٍ- وَ لُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَهٍ تَلْتَطِمُ أَوَاذِیُّ أَمْوَاجِهَا- وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا- وَ تَرْغُو زَبَداً کَالْفُحُولِ عِنْدَ هِیَاجِهَا- فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا- وَ سَکَنَ هَیْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِکَلْکَلِهَا- وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِیاً إِذْ تَمَعَّکَتْ عَلَیْهِ بِکَوَاهِلِهَا- فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ سَاجِیاً مَقْهُوراً- وَ فِی حَکَمَهِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِیراً- وَ سَکَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّهً فِی لُجَّهِ تَیَّارِهِ- وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَهِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ- وَ کَعَمَتْهُ عَلَى کِظَّهِ جَرْیَتِهِ فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ- وَ لَبَدَ بَعْدَ زَیَفَانِ وَثَبَاتِهِ- فَلَمَّا سَکَنَ هَیْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَکْنَافِهَا- وَ حَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَکْتَافِهَا- فَجَّرَ یَنَابِیعَ الْعُیُونِ مِنْ عَرَانِینِ أُنُوفِهَا- وَ فَرَّقَهَا فِی سُهُوبِ بِیدِهَا وَ أَخَادِیدِهَا- وَ عَدَّلَ حَرَکَاتِهَا بِالرَّاسِیَاتِ مِنْ جَلَامِیدِهَا- وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِیبِ الشُّمِّ مِنْ صَیَاخِیدِهَا- فَسَکَنَتْ مِنَ الْمَیَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِی قِطَعِ أَدِیمِهَا- وَ تَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَهً فِی جَوْبَاتِ خَیَاشِیمِهَا- وَ رُکُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِینَ وَ جَرَاثِیمِهَا- وَ فَسَحَ بَیْنَ الْجَوِّ وَ بَیْنَهَا وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاکِنِهَا- وَ أَخْرَجَ إِلَیْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا- ثُمَّ لَمْ یَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ- الَّتِی تَقْصُرُ مِیَاهُ الْعُیُونِ عَنْ رَوَابِیهَا- وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِیعَهً إِلَى بُلُوغِهَا- حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَهَ سَحَابٍ تُحْیِی مَوَاتَهَا- وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا- أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ وَ تَبَایُنِ قَزَعِهِ- حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّهُ الْمُزْنِ فِیهِ وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِی کُفَفِهِ- وَ لَمْ یَنَمْ وَمِیضُهُ فِی کَنَهْوَرِ رَبَابِهِ وَ مُتَرَاکِمِ سَحَابِهِ- أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِکاً قَدْ أَسَفَّ هَیْدَبُهُ- تَمْرِیهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِیبِهِ وَ دُفَعَ شَآبِیبِهِ- . فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْکَ بِوَانَیْهَا- وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الْمَحْمُولِ عَلَیْهَا- أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ- وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ فَهِیَ تَبْهَجُ بِزِینَهِ رِیَاضِهَا- وَ تَزْدَهِی بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَیْطِ أَزَاهِیرِهَا- وَ حِلْیَهِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا- وَ جَعَلَ ذَلِکَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ- وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِی آفَاقِهَا- وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِکِینَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ- اخْتَارَ آدَمَ ع خِیرَهً مِنْ خَلْقِهِ- وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَ أَسْکَنَهُ جَنَّتَهُ- وَ أَرْغَدَ فِیهَا أُکُلَهُ- وَ أَوْعَزَ إِلَیْهِ فِیمَا نَهَاهُ عَنْهُ- وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِی الْإِقْدَامِ عَلَیْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِیَتِهِ- وَ الْمُخَاطَرَهَ بِمَنْزِلَتِهِ- فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ مُوَافَاهً لِسَابِقِ عِلْمِهِ- فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَهِ- لِیَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ- وَ لِیُقِیمَ الْحُجَّهَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لَمْ یُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ- مِمَّا یُؤَکِّدُ عَلَیْهِمْ حُجَّهَ رُبُوبِیَّتِهِ- وَ یَصِلُ بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَ مَعْرِفَتِهِ- بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ- عَلَى أَلْسُنِ الْخِیَرَهِ مِنْ أَنْبِیَائِهِ- وَ مُتَحَمِّلِی وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ- قَرْناً فَقَرْناً- حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِیِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ- وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَکَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا- وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّیقِ وَ السَّعَهِ- فَعَدَلَ فِیهَا لِیَبْتَلِیَ- مَنْ أَرَادَ بِمَیْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا- وَ لِیَخْتَبِرَ بِذَلِکَ الشُّکْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِیِّهَا وَ فَقِیرِهَا- ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِیلَ فَاقَتِهَا- وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا- وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا- وَ خَلَقَ الْآجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا- وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا- وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا- وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِینَ- وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِینَ وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ- وَ عُقَدِ عَزِیمَاتِ الْیَقِینِ- وَ مَسَارِقِ إِیمَاضِ الْجُفُونِ- وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَکْنَانُ الْقُلُوبِ- وَ غَیَابَاتُ الْغُیُوبِ- وَ مَا أَصْغَتْ لِاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ- وَ مَصَایِفُ الذَّرِّ وَ مَشَاتِی الْهَوَامِّ- وَ رَجْعِ الْحَنِینِ مِنَ الْمُولَهَاتِ وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ- وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَهِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَکْمَامِ- وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِیرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِیَتِهَا- وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَیْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِیَتِهَا- وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ- وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ- وَ نَاشِئَهِ الْغُیُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا- وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِی مُتَرَاکِمِهَا- وَ مَا تَسْفِی الْأَعَاصِیرُ بِذُیُولِهَا وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُیُولِهَا- وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِی کُثْبَانِ الرِّمَالِ- وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَهِ بِذُرَا شَنَاخِیبِ الْجِبَالِ- وَ تَغْرِیدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِی دَیَاجِیرِ الْأَوْکَارِ- وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ- وَ حَضَنَتْ عَلَیْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ- وَ مَا غَشِیَتْهُ سُدْفَهُ لَیْلٍ أَوْ ذَرَّ عَلَیْهِ شَارِقُ نَهَارٍ- وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَیْهِ أَطْبَاقُ الدَّیَاجِیرِ- وَ سُبُحَاتُ النُّورِ وَ أَثَرِ کُلِّ خَطْوَهٍ- وَ حِسِّ کُلِّ حَرَکَهٍ وَ رَجْعِ کُلِّ کَلِمَهٍ- وَ تَحْرِیکِ کُلِّ شَفَهٍ وَ مُسْتَقَرِّ کُلِّ نَسَمَهٍ- وَ مِثْقَالِ کُلِّ ذَرَّهٍ وَ هَمَاهِمِ کُلِّ نَفْسٍ هَامَّهٍ- وَ مَا عَلَیْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَهٍ أَوْ سَاقِطِ وَرَقَهٍ- أَوْ قَرَارَهِ نُطْفَهٍ أَوْ نُقَاعَهِ دَمٍ وَ مُضْغَهٍ- أَوْ نَاشِئَهِ خَلْقٍ وَ سُلَالَهٍ- لَمْ یَلْحَقْهُ فِی ذَلِکَ کُلْفَهٌ- وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِی حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَهٌ- وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِی تَنْفِیذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِیرِ الْمَخْلُوقِینَ مَلَالَهٌ وَ لَا فَتْرَهٌ- بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ- وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ- مَعَ تَقْصِیرِهِمْ عَنْ کُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِیلِ- وَ التَّعْدَادِ الْکَثِیرِ- إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَیْرُ مَأْمُولٍ وَ إِنْ تُرْجَ فَخَیْرُ مَرْجُوٍّ- اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِی فِیمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَیْرَکَ- وَ لَا أُثْنِی بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاکَ- وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَیْبَهِ وَ مَوَاضِعِ الرِّیبَهِ- وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِی عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِیِّینَ- وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِینَ الْمَخْلُوقِینَ- اللَّهُمَّ وَ لِکُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَیْهِ مَثُوبَهٌ مِنْ جَزَاءٍ- أَوْ عَارِفَهٌ مِنْ عَطَاءٍ- وَ قَدْ رَجَوْتُکَ دَلِیلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَهِ- وَ کُنُوزِ الْمَغْفِرَهِ- اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَکَ بِالتَّوْحِیدِ الَّذِی هُوَ لَکَ- وَ لَمْ یَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَیْرَکَ- وَ بِی فَاقَهٌ إِلَیْکَ لَا یَجْبُرُ مَسْکَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُکَ- وَ لَا یَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّکَ وَ جُودُکَ- فَهَبْ لَنَا فِی هَذَا الْمَقَامِ رِضَاکَ- وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَیْدِی إِلَى سِوَاکَ- إِنَّکَ عَلى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ
اللغه
أقول: کبسها: أغاصها فی الماء بقوّه. و المور: التردّد فی الحرکه. و مستفحله: صائله: و التلاطم: الترادّ. و الأواذىّ: جمع آذىّ و هو ما عظم من موج البحر. و الاصطفاق: الترادّ أیضا. و الأثباج: جمع ثبج و هو معظمها و عوالیها. و هیج الفرس: إذا غلب صاحبه و لم یملکه. و الارتماء: التقاذف و الترادّ. و الکلکل: الصدر. و المستخذى: الخاضع. و التمعّک: التمرّغ. و اصطخاب أمواجه: غلبتها و أصواتها. و الساجى: الساکن.
و الحکمه: ما أحاط من اللجام بحنک الدابّه و الدحو: البسط. و التّیار: الموج. و النخوه: الکبر و الترفّع. و البأو: الفخر. و شمخ بأنفه: تکبّر. و الغلواء: تجاوز الحدّ. و کعمته: سددت فاه. و الکظّه: شدّه البطنه. و همد: سکن و خمد. و النزق: الخفّه و الطیش. و لبد: لصق بالأرض ساکنا. و الزیفان: التبختر. و البذّخ: العالیه. و العرنین: أعلى الأنف عند ملتقى الحاجبین. و السهوب: جمع سهب و هو الفلاه الواسعه. و البید: جمع بیداء و هى الفلاه أیضا. و الاخدود: الشقّ فی الأرض. و الجلامید: الصخور.
و الشناخیب: رؤس الجبال و الشمّ: العالیه. و الصیخود: الصخره الصلبه. و أدیمها: سطحها. و تغلغله: دخوله فی أعماقها. و التسرّب: الدخول فی السرب. و الجوبه: الفرجه فی الأرض. و جراثیم الأرض: أعالیها و ما اجتمع منها. و أرض جرز: لا نبات بها لانقطاع الماء عنها. و الروابى: عوالى الأرض. و القزع: قطع السحاب الرقیقه الواحده قزعه.
و الکفّه بالضمّ: ما استطال من السحاب و ما استدار. و بالکسر: الومیض و اللمعان. و الکنهور: العظیم من السحاب. و الرباب: الغمام الأبیض. و السحّ: الصبّ. و أسفّ: دنا من الأرض لثقله. و هیدبه: ما تهدّب منه إلى الأرض أى تدلى. و تمریه: تستخرج ما فیه من الماء و الدرر جمع درّه بالکسر و هى کثره اللبن و سیلانه. و الأهاضیب: جمع هضاب و هو جمع هضب و هو جلبات القطر بعد القطر. و الشآبیب: جمع شؤبوب و هو الرشقه القویّه من المطر. و البرک: الصدر. و البوانى: ما یلی الصدر من الأضلاع. و بعاع السحاب ثقله بالمطر. و العبء: الثقل. و جبله زعراء: لا نبت بها. و تزد هى: تتکبّر. و الریط: جمع ریطه و هى الأزاهیر المنیره. و سمطت: زینت بالسمط و هو العقد، و من روى شمطت بالشین لمعجمه أراد خلطت. و الجبلّه: الخلقه. و أوعز إلیه بکذا: تقدّم إلیه به. و العقابیل:بقایا المرض. و الترح: الحزن. و الفاقه: الفقر. و الخلج: الجذب و الانتزاع. و الأشطان: جمع شطن و هى الحبال. و المرائر: أیضا الحبال اللطیفه الفتل. و التخافت: المسارّه. و الرجم بالظنّ: القول عنه. و الغیابه: ظلمه قعر البئر. و مصائخ الأسماع: خروقها. و الإصاخه: التسمّع. و الولائج: المداخل. و الأکمام: جمع کمّ بالکسر و هو غلاف الطلع. و المنقمع: محلّ الانقماع و هو الارتداع. و لحاء الشجره: قشرها. و الأفنان: الأغصان. و الأمشاج: النطفه المختلطه بالدم، و تعفو: تمحو. و شناخیب الجبال: رؤوسها. و ذراها: أعالیها. و التغرید: تردید صوت الطائر. و الدیاجیر: جمع دیجور و هو الظلام و السدفه: الظلمه. و ذرّ الشارق: طلع. و رجع الکلمه: جوابها. و النقاعه: نقره یجتمع فیها الدم. و اعتورته: أحاطت به. و العارفه: المعروف. و الخلّه. الفقر.
و أنعشه: أنهضه من عثرته.
و اعلم أنّ هذا الفصل یشتمل على فصول:
الفصل الأوّل: فی تمجید اللّه تعالى باعتبار خلقه للأرض فی الماء و جمله من أحوالها و هو. إلى قوله: جواد طرقها، و فیه أبحاث:
البحث الأوّل: فی الاستعارات و التشبیهات و أبحاث لفظیّه.
الأوّل:
استعاره لفظ الکبس لخلقه لها غائصا معظمها فی الماء کما یغوص بعض الزقّ المنفوخ و نحوه بالاعتماد علیه.
الثانی:
استعاره لفظ الاستفحال للموج، و وجه المشابهه ما اشترک فیه الموج و الفحل من الاضطراب و الهیجان و الصوله.
الثالث:
تشبیهه بالفحول أیضا و وجه الشبه ما یظهر على رؤس الموج عند اضطرابه و غلیانه من رغوه الزبد کما یظهر من فم الفحل عند هیاجه.
الرابع:
استعار لفظ الجماح لحرکه الماء على غیر نسق و اضطراب لا یملک معه تصریفه کما یجمح الفرس.
الخامس:
استعار أوصاف الناقه من الکلکل و الکاهل للأرض و رشّح تلک الاستعاره بالوطى و التمعّک. و إنّما خصّ الصدر و الکاهل لقوّتهما و کنّى بالمجموع عن إلحاقها بالناقه.
السادس:
استعار للماء لفظ الاستخذاء و القهر و لفظ الحکمه و الانقیاد و الأسر و کنّى بها عن إلحاقه بحیوان صایل قهر کالفرس و أضاف الحکمه إلى الذلّ إضافه للسبب إلى المسبّب.
السابع:
استعار لفظ النخوه، و البأو، و شموخ الأنف، و الغلواء، و النزق، و الزیفان، و الوثبات للماء فی هیجانه و اضطرابه ملاحظه لشبهه بالإنسان المتجبّر التیّاه فی حرکاته المؤذنه بتکبّره و زهوه.
الثامن:
استعار لفظ الأکتاف للأرض، و وجه المشابهه کون الأرض محلّا لحمل ما یثقل من الجبال کما أنّ کتف الإنسان و غیره محلّ لحمل الأثقال.
التاسع:
استعار لفظ العرنین و الأنف لأعالى رؤس الجبال کنایه عن إلحاقها بالإنسان.
العاشر:
کنّى بالتغلغل و التسرّب عمّا یتوهّم من نفوذ الجبال فی الأرض و غوصها فیها، و استعار لفظ الخیاشیم لتلک الأسراب الموهومه. و لمّا جعل للجبال انوفا جعل تلک الأسراب المتوهّم قیام الجبال فیها خیاشیم.
الحادى عشر:
استعار لفظ الرکوب للجبال و الأعناق للأرض کنایه عن إلحاقهما بالقاهر و المقهور.
الثانی عشر:
استعار لفظ الوجدان و الذریعه للجداول کنایه عن إلحاقها بالإنسان عدیم الوسیله إلى مطلوبه.
الثالث عشر:
الضمیران فی تغلغلها و رکوبها و الضمیر فی خیاشیمها یعود إلى الأرض و باقى الضمائر ظاهر.
الرابع عشر:
تجوّز فی إسناد لفظ الإحیاء و الاستخراج إلى السحاب إذ المخرج هو اللّه تعالى.
الخامس عشر:
کنّى بعدم النوم عن عدم إخفاء و میض البرق فی السحاب کنایه بالمستعار.
السادس عشر:
استعار لفظ الهدب لقطرات المطر المتّصله یتلو بعضها بعضا ملاحظه لشبهها بالخیوط المتدلّیه [المستدلیه خ].
السابع عشر:
استعار لفظ الدرر و الأهاضیب و هى الجلباب للغمام کنایه عن إلحاقها بالناقه.
الثامن عشر:
أسند المرى إلى الجنوب مجازا أو لأنّ لها سببیّه ما فی نزول الغیث و إنّما خصّ الجنوب لأنّها فی أکثر البلاد حارّه رطبه أمّا الحراره فلأنّها تأتى من الجهه المتسخّنه بمقاربه الشمس، و أمّا الرطوبه فلأنّ البخار أکثرها جنوبیّه و الشمس تفعل فیها بقوّه و یتبخّر عنها أبخره تخالط الریاح و إذا کان کذلک کان الجنوب أولى بالذکر من وجهین: أحدهما: أنّها أکثر استصحابا للأبخره فلذلک کان السحاب أکثر انعقادا معها و مصاحبه لها الثانی: أنّها لحرارتها تفتح المسامّ، و لرطوبتها ترخى فکان درور المطر عنها أکثر.
التاسع عشر:
استعار لفظ البرک و البوانى للسحاب و أسند إلیه الإلقاء کنایه عن إلحاقه بالجمل الّذى أثقله الحمل فرمى بصدره إلى الأرض.
العشرون:
نسب الابتهاج و الازدهاء و اللبس إلى الأرض ذات الأزاهیر مجازا ملاحظه لشبهها بالمرأه المتبجّحه بما علیها من فاخر الملبوس و جمیل الثیاب.
البحث الثانی: أن مقتضى الکلام أنّ اللّه خلق الماء قبل الأرض ثمّ دحاها فیه و سکن بها مستفحل أمواجه
و هذا ممّا شهد به البرهان العقلىّ فإنّ الماء لمّا کان حاویا لأکثر الأرض کان سطحه الباطن المماسّ لسطحه الظاهر مکانا لها و ظاهر أنّ للمکان تقدّما باعتبار ما على المتمکّن فیه و إن کان اللفظ یعطى تقدّم خلق الماء على خلق الأرض تقدّما زمانیّا کما هو المقبول عند السامعین.
البحث الثالث: أنّه اشیر إلى کونها مدحوّه فی القرآن الکریم أیضا
وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِکَ دَحاها مع أنّ الأرض کره کما ثبت بیانه فی علم الهیئه. فلا بدّ من التأویل و قد نبّهنا إلیه فی قوله: اللهم داحى المدحوّات، و قد ورد فی الخبر: أنّ الأرض دحیت من تحت الکعبه. قال بعض العارفین: الإشاره بالکعبه إلى کعبه وجود واجب الوجود الّتى هى مقصد وجوه المخلصین الّتى جعلت هذه الکعبه فی عالم الشهاده مثالا لها و دحوها من تحتها عباره عن وجودها عن ذلک المبدأ.
البحث الرابع: الإشاره إلى خلق الجبال فیها و کونها سببا لسکونها
و للناس فی تکوین ما تکوّن من الجبال فیها وجوه: أحدها: أنّه قد یکون عن بخار زالت میاهها. الثانی: قد یکون عن زلزله فصلت قطعه على ناحیه فارتفعت. الثالث: قد تکون عن ریاح جمعت بهبوبها ترابا فتراکم و علا. الرابع: قد تکون لعمارات تراکمت فتخرّبت. فأمّا کونها أسبابا لسکون الأرض فقد سبقت الإشاره إلیه فی الخطبه الاولى، و اعلم أنّ البرهان مطابق على الشهاده بسکونها کما اشیر إلیه فی مظانّه.
البحث الخامس: فی تفجیر ینابیع العیون فی الجبال و غیرها
و قد أشار العلماء إلى أسبابه فقالوا: إنّ الأدخنه و الأبخره ما یحتبس منها تحت الأرض و فیه ثقب و فرج فیها هواء تبرّد الأبخره و الهواء فیصیر ماء فما له قوّه و مدد یتفجّر عیونا و یجرى على الولاء لعدم مدخل الهواء بین الخارج و ما یتّصل به و یتبعه، و ما لا مدد له من العیون یرکد، و ما له مدد إلّا أنّ أجزاءه مبدّده و الأرض واهیه لا تحتاج إلى مقاومه یتحصّل منه القنوات، و ماء البئر أیضا من قبیل ماله مدد لکنّه لم یجد سبیلا إلى أحد الجوانب لعدم رخاوه أرضه فخالف القنوات. و إنّما خصّ الجبال بتفجّر العیون منها لأنّ العیون أکثر ما یتفجّر من الجبال و الأماکن المرتفعه و ذلک لشدّه احتقان الأبخره تحتها بالنسبه إلى سایر الأماکن الهابطه الرخوه فإنّ الأرض إذا کانت رخوه نفضت البخار عنها فلا یکاد یجتمع منه قدر ما یعتدّ به و لأنّ هذا التخصیص أدّل على حکمه الصانع و عنایته بالخلق. و هو فی معرض تمجیده و تعدید آلائه.
البحث السادس: أنّه أعدّ الهواء لساکنها
و اعلم أنّه سبحانه کما جعل الهواء عنصرا لأبدان الحیوان و أرواحه البدنیّه کذلک جعله مددا یصل إلى الأرواح و یکون علّه لصلاحها و بقاءها بالتعدیل و ذلک التعدیل یکون بفعلین: أحدهما: التزویح، و الثانی: التفتیه. أمّا التزویح فهو تعدیل مزاج الروح الحارّ إذا أفرط بالاحتقان فی الأکثر فإنّ الهواء الّذى یحیط بنا أبرد بکثیر من ذلک المزاج فإذا وصل إلیه باستنشاق الریه و من مسامّ منافس النبض و صدمه و خالطه منعه عن الاستحاله إلى الناریّه الاحتقانیّه المؤدیّه إلى سوء مزاج یزول به عن الاستعداد لقبول التأثیر النفسانىّ الّذى هو سبب الحیاه، و أمّا التنقیه فهى باستصحابه عند ردّ النّفس لما سلّمته إلیه القوّه الممیّزه من البخار الدخانىّ الّذى نسبته إلى الروح نسبه الخلط الفضلىّ إلى البدن فکما أنّ التعدیل هو بورود الهواء على الروح عند الاستنشاق فالتنقیه بصدوره عنه عند ردّ النفس و ذلک أنّ الهواء المستنشق إنّما یحتاج إلیه فی تعدیله أوّل وروده لکونه باردا بالفعل فإذا استحال إلى کیفیّه الروح بالتسخّن لطول مکثه بطلت فایدته فاستغنى عنه و احتیج إلى هواء جدید یدخل و یقوم مقامه فدعت الضروره إلى إخراجه لإخلاء المکان لمعاقبه و لیندفع معه فضول جوهر الروح. فهذا معنى قوله علیه السّلام: و أعدّ الهواء متنسّما لساکنها. و اعتبار إعداده لمنفعه الحیوان أعمّ ممّا ذکرنا فإنّه أیضا معدّ لسایر الأمزجه المعدنیّه و النباتیّه و الحیوانیّه الّتى یحتاج الإنسان فی بقائه إلیها و کونه عنصرا لها و معتبرا فی بقائها. و عند ملاحظه هذه المنافع عن الهواء یظهر أثر نعمه اللّه به.
البحث السابع: فی إخراجه تعالى أهل الأرض إلیها بعد تمام مرافقها
کما قال تعالى وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَیْنا فِیها رَواسِیَ وَ أَنْبَتْنا فِیها مِنْ کُلِّ شَیْءٍ مَوْزُونٍ وَ جَعَلْنا لَکُمْ فِیها مَعایِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِینَ«» و الإشاره بأهلها المخرجین إلیها إلى الحیوان مطلقا. و أعلم أنّ أوّل ارتفاقهم بها أن جعلها قرارا لهم صالحا للسکنى علیها کما قال تعالى الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِراشاً و لکونها فراشا شرایط: أحدها: أن تکون ساکنه لیصحّ الاستقرار علیها و التصرّف فیها بحسب الاختیار و موافقه المصلحه دون کونها متحرّکه. الثانی: أن تکون خارجه من الماء و ذلک أنّ الإنسان و غیره من الحیوان البریّه لا یمکنه أن یعیش فی الماء فاقتضت عنایه الحقّ سبحانه بالحیوان أن أبرز بعضها من الماء لیعیش فیه و یتصرّف علیه. الثالث: أن لا یکون فی غایه الصلابه کالحجر و إلّا لکان النوم و المشى علیها مولما، و أیضا لم یکن لینبت فیها أنواع النبات و الأشجار، و أیضا لکانت تسخن فی الصیف کثیرا و تبرد کثیرا فی الشتاء فما کانت تصلح لسکنى الحیوان، و أیضا کان یتعذّر حفرها و ترکیب بعضها ببعض. الرابع: أن لا یکون فی غایه الرخاوه کالماء و غیره من المایعات الّتى یغوص فیه الإنسان. الخامس: أنّه سبحانه لم یخلقها فی غایه الشفّافیّه و اللطافه فإنّها إن کانت مع ذلک جسما سیّالا کالهواء لم یتمکّن من الاستقرار علیه و إن کان جسما ثابتا صیقلا برّاقا احترق الحیوان و ما علیها بسبب انعکاس أشعّه الشمس علیها کما یحترق القطن إذا قرب من المرایا المحاذیه للشمس و البلّور لکنّه خلقها غبراء لیستقرّ النور على وجهها فیحصل فیها نوع من السخونه، و خلقها کثیفه لئلّا تنعکس الأشعّه منها على ما فیها فتحرقه فصارت معتدله فی الحرّ و البرد تصلح أن تکون فراشا و مسکنا للحیوان.
المنفعه الثانیه: خلق الجبال فیها و تفجیرها بالماء کما سبقت الإشاره إلیه.
المنفعه الثالثه: ما یتولّد فیها من المعادن و النبات و الحیوان و فى أنواع کلّ من هذه الموجودات و اختلاف أصنافه و ألوانه و روایحه و طعومه ولینه و صلابته و ملاسته و خشونته ما لا یحصى من المنافع الّتى یحتاج إلیها الإنسان فی بقائه و صلاح حاله.
المنفعه الرابعه: کونها أصلا لبدن الإنسان، و ذلک أنّ الماء لرقّته و رطوبته لا یحفظ الشکل و التصویر فإذا خلط بالتراب حصل له قوام و استمساک و حصل قبول الأشکال و التخطیط کما قال تعالى إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَهِ إِنِّی. المنفعه الخامسه: قبولها للحیاه بعد الموت کما قال تعالى وَ آیَهٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَیْتَهُ أَحْیَیْناها.
البحث الثامن: فی تمجیده تعالى باعتبار إنشائه للسحاب و البرق
و النظر فی وجه الحکمه فیه و فی أصله و فی حیاه الأرض به: أمّا وجه الحکمه فی إنشائه فکونه مادّه لما ینبت فی الأرض الجرز ممّا هو قوام بدن الحیوان و غذاء له کما أشار إلیه علیه السّلام بقوله: ثمّ لم یدع جرز الأرض الّتى تقصر میاه العیون و الأنهار عنها و لا تجد جداول الأرض ذریعه إلى بلوغها إلى قوله: و جعل ذلک بلاغا للأنام و رزقا للأنعام. و نحوه قوله تعالى أَ وَ لَمْ یَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْکُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا یُبْصِرُونَ«»
البحث التاسع: فی تمجیده باعتبار تخریقه للفجاج فی آفاقها
أى الطرق الواسعه فی نواحیها کما قال تعالى وَ جَعَلْنا فِیها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ یَهْتَدُونَ«» ثمّ باعتبار إقامته المنار للسالکین فیها. و الإشاره بالمنار إمّا إلى لنجوم کما قال تعالى وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ أو إلى الجبال.
الفصل الثانی: فی تمجیده تعالى باعتبار خلقه لآدم
و اختیاره له و إتمام نعمته علیه، و مقابلته بالعصیان و مقابله عصیانه بقبول توبته و إهباطه إلى الأرض و إکرام ذریّته بعده ببعثه الأنبیاء منهم و إلیهم و قسمته بینهم معیشتهم و آجالهم بالقلّه و الکثره و ابتلائه لهم بذلک، و هو من قوله: فلمّا مهّد أرضه و أنفذ أمره. إلى قوله: و قاطعا لمرائر أقرانها، و اعلم أنّ الکلام فی قصّه آدم علیه السّلام قد سبق فی الخطبه الاولى مستوفى فلا نعیده غیر أنّ فی هذا الکلام فوائد:
الفائده الاولى: معنى قوله: مهّد أرضه
أى جعلها مهادا کقوله تعالى أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أو جعلها مهدا کقوله تعالى جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ مَهْداً و على التقدیر الأوّل أراد أنّه لمّا خلقها بحیث یسهل على العباد أن یتصرّفوا فیها بالقعود و القیام و الزراعه و سایر جهات المنفعه و أنفذ أمره فی خلق آدم خلقه بعد ذلک، و على التقدیر الثانی یکون لفظ المهد استعاره لها ملاحظه لتشبیهها بمهد الصبىّ فی کونه محلّ الراحه و النوم.
الفائده الثانیه: قوله: و أنفذ أمره
أى فی إیجاد مخلوقاته و تمامها فحکم على العالم بالتمام باختیار نوع الإنسان الّذى هو تمام دائره الوجود فقال له کن فکان.
الفائده الثالثه: قوله: خیره من خلقه
نصب على الحال و یحتمل النصب على المصدر و الشاهد على کونه خیره اللّه من خلقه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ و قوله وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى کَثِیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِیلًا«» و بیان هذا التکریم من وجهین: أحدهما: قال أبو یزید البسطامىّ: إنّ أنواع کرامات اللّه تعالى فی حقّ البشر غیر متناهیه کما قال تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَهَ اللَّهِ لا تُحْصُوها هذا على سبیل الإجمال أمّا التفصیل فمن وجوه: الأوّل: أنّه سبحانه یمطر کلّ ساعه على المتوکّلین مطر الکفایه کما قال تعالى وَ مَنْ یَتَوَکَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. الثانی: أنّه یمطر کلّ ساعه على المطیعین مطر المودّه کما قال تعالى سَیَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا«». الثالث: أنّ یمطر على المجتهدین مطر الهدایه کما قال تعالى وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا«». الرابع: أنّه یمطر على الشاکرین مطر الزیاده کما قال لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ. الخامس: أنّه یمطر على المتذکّرین مطر البصیره کما قال تعالى إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّیْطانِ تَذَکَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ«» الثانی: أنّ التکریم لآدم علیه السّلام و ذریّته إمّا بأحوال داخله فی الإنسان أو خارجه عنه و الداخله فیها إمّا بدنیّه أو غیرها: أمّا البدنیّه الّتى اکرم بها فامور: الأوّل: الصوره الحسنه کما قال تعالى: وَ صَوَّرَکُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَکُمْ. الثانی: حسن القامه و التعدیل کما قال تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِی أَحْسَنِ تَقْوِیمٍ و ذلک أنّ الشیء کلّما کان أکثر علوّا و ارتفاعا کان أشرف فی نوعه فإنّ أحسن الأشجار أعلاها امتدادا. الثالث: أنّه أکرمه بتمکینه من القیام و القعود و الاستلقاء و الانبطاح و الاضطجاع و ذلک أنّه تعالى رکّب الخلق على أصناف أربعه: أحدها: ما یشبه القائمین کالأشجار، و ثانیها: ما یشبه الراکعین کالبهائم، و ثالثها: ما یشبه الساجدین کالحشرات الّتى تدبّ على وجوهها و بطونها، و منها ما یشبه القاعدین کالجبال ثمّ إنّه سبحانه خلق الإنسان قادرا على جمیع هذه الهیئات، و مکنّه من ذکره على جمیع هذه الأحوال کما قال تعالى الَّذِینَ یَذْکُرُونَ اللَّهَ قِیاماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ«» و أمّا الأحوال الّتى اکرم بها غیر بدنیّه فامور: أحدها: الروح الّتى هى محلّ العلم بأشرف الموجودات و مبدئها و هو اللّه تعالى کما قال وَ نَفَخَ فِیهِ مِنْ رُوحِهِ و شرّفه بإضافه روحه إلیه، و بهذا التشریف تمیّز عن سایر الموجودات فی هذا العالم.
الثانی: العقل و شرفه من وجوه: الأوّل: روى أنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود علیه السّلام إذا رأیت عاقلا فکن له خادما. الثانی: قول الرسول صلى اللّه علیه و آله و سلّم: أوّل ما خلق اللّه العقل فقال له: أقبل فأقبل ثمّ قال له: أدبر فأدبر فقال: و عزّتى و جلالى ما خلقت خلقا أکرم علىّ منک، بک آخذوا بک اعطى و بک اثیب و بک اعاقب. و اعلم أنّ للعقل بدایه و نهایه و کلاهما یسمّیان عقلا: أمّا الأوّل: فهو القوّه المهیّئه للعلوم الکلّیّه الضروریّه کما للطفل و هو المشار إلیه بقول النبىّ صلى اللّه علیه و آله و سلّم، و الثانی: العقل المستفاد و هو المشار الیه بقوله صلى اللّه علیه و آله و سلّم لعلىّ علیه السّلام: إذا تقرّب الناس إلى خالقهم بأبواب البرّ فتقرّب أنت إلیه بعقلک تسبقهم بالدرجات و الزلفى عند الناس فی الدنیا و عند اللّه فی الآخره. الثالث: العلم و الحکمه الّتى هى ثمره العقل کما قال تعالى یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قِیلَ لَکُمْ تَفَسَّحُوا فِی الْمَجالِسِ«» و قال یُؤْتِی الْحِکْمَهَ مَنْ یَشاءُ وَ مَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَهَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً وَ ما یَذَّکَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ«» و سمّاه حیاه و نورا فقال أَ وَ مَنْ کانَ مَیْتاً فَأَحْیَیْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً یَمْشِی بِهِ فِی النَّاسِ«» و أمّا التکرمه الخارجه عنه فامور: أحدها: أنّه خلق ما سواه منفعه له فقال: هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُمْ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً و قال: وَ سَخَّرَ لَکُمْ ما فِی السَّماواتِ وَ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً«» ففرش الأرض و جعل السماء سقفا محفوظا و جعل ما أخرج من الأرض رزقا له و ما أرسله من السحاب من ماء مادّه لذلک کما قال تعالى وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَکُمْ اللَّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ«» و أکرمه بخلق الشمس و القمر و النجوم کما قال وَ سَخَّرَ لَکُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَیْنِ وَ سَخَّرَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ و قوله وَ هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِی ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ و قال: وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِینَ وَ الْحِسابَ«» و أکرمه بخلق الأنعام فجعل منها غذاءه و ملبوسه و راحته و جماله و زینته فقال وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَکُمْ فِیها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْکُلُونَ وَ لَکُمْ فِیها جَمالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَ حِینَ تَسْرَحُونَ إلى قوله وَ الْخَیْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِیرَ لِتَرْکَبُوها وَ زِینَهً وَ یَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ«». الثانی: روى عن أمیر المؤمنین علیه السّلام فی تفسیر قوله تعالى وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ أنّه قال: بالدعوه إلى الجنّه کما قال وَ اللَّهُ یَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ.
لثالث: أنّه أکرمهم بتخیّر قلوبهم لمعرفته و ألسنتهم لشهادته و أبدانهم لخدمته فشرّفهم بتکلیفه و بعثه الأنبیاء إلیهم من أنفسهم کما قال تعالى لَقَدْ جاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ ما عَنِتُّمْ«» ثمّ جعل آدم و الأنبیاء من ذریّته أکرم عباده لدیه فحباهم بالنبوّه و الرساله کما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِینَ ذُرِّیَّهً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ«» ثمّ فضّل اولى العزم منهم فقال: فَاصْبِرْ کَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ثمّ فضّل بعضهم على بعض و هو الخلیل و الکلیم و الروح و الحبیب فقال تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَیْنا عِیسَى ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّناتِ وَ أَیَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ«» ثمّ فضّل محمّد صلى اللّه علیه و آله و سلّم على الکلّ فقال وَ کانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَیْکَ عَظِیماً«» و جعله غایه طینتهم و خاتمه کمالهم فقال وَ لکِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ«».
الفائده الرابعه: قوله: و جعله أوّل جبلّته
إشاره إلى أنّ آدم أوّل شخص تکوّن فی الوجود من نوع الإنسان، و قوله: و المخاطره بمنزلته: أى عند اللّه و کونه مستحقّا للقرب منه، و قوله: موافاه لسابق علمه إشاره إلى أنّ وقوعه فی الوجود بقدر عن ضابط القلم و القضاء الإلهىّ السابق.
الفائده الخامسه: قوله: فأهبطه بعد التوبه
من قال: إنّ المراد بآدم هو نوع النفوس البشریّه و قد ثبت أنّه حادث أو أنّه هو الشخص الأوّل منها قال: إنّ التوبه قبل الإهباط هى التوبه بالقوّه المعلومه للّه من عصاه أولاد آدم التائبین إلیه قبل إهباط نفوسهم من درجات عرفانه، و إلفات وجوههم إلى عماره الأرض، و الاشتغال بالحرث و النسل، و الأنبیاء علیهم السّلام یرجعون عن المباحات إلى ما هو الأولى و الأهمّ من عباده اللّه و مطالعه أنوار کبریائه و یعدّون ما رجعوا عنه ذنوبا، و رجوعهم عنه توبه کما قال النبىّ صلى اللّه علیه و آله و سلّم: إنّه لیغان على قلبى فأستغفر اللّه فی الیوم سبعین مرّه، و لیس ذلک المستغفر منه إلّا اشتغال ذهنه بتدبیر امور الأرض و عمارتها و اشتغاله بذلک عن الخلوه باللّه و استشراق أنوار قدسه.
الفائده السادسه: قوله: و لیقیم الحجّه به على عباده
الّذین بعث آدم حجّه علیهم أمّا أولاده الموجودون فی زمانه و المنقول أنّه مات عن أربعین ولد، أو من بلغته سنّته منهم بعد وفاته و المنقول أنّ اللّه تعالى أنزل من الأحکام تحریم المیته و الدم و لحم الخنزیر و حروف المعجم فی أحدى و عشرین ورقه و هو أوّل کتاب کان فی الدنیا أجرى اللّه علیه الألسنه کلّها.
الفائده السابعه: قوله: و لم یخلهم بعد أن قبضه ممّا یؤکّد علیهم حجّه ربوبیّته
أى أنّ حجّه ربوبیّته قائمه علیهم فی کیفیّه تخلیقه لهم، و خلق ما یستدلّون علیه به من صنعه کما قال تعالى سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی الْآفاقِ وَ فِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ«» الآیه و غیره من الآیات. و إنّما یکون بعثه الأنبیاء مؤکّده لتلک الحجج مذکّره للغافلین عنها بها و منبّهه على وجودها و موصله بینهم و بین معرفته بما جاءت به من الکتب المنزله و السنن الشرعیّه، و قوله: بلغ المقطع عذره و نذره: أى إعذاره إلى الخلق و إنذاره لهم بلغ الغایه. و مقطع کلّ شیء غایته.
الفائده الثامنه: تقدیر اللّه أرزاقهم تقسیمه لها
و إعطاء کلّ مخلوق ما کتب له فی اللوح المحفوظ منها من قلیل و کثیر و ضیّق و واسع و متیسّر و متعسّر و معاقبه الأضداد علیهم من تنغیض سعه الغنى بلواحق الفقر و الفاقه کما قال: و بینما الإنسان فی ملکه أصبح محتاجا إلى الفلس. و کذلک إلحاقه السلامه فی النعم بطوارق الآفات من غرق أو حرق أو غصب ظالم و غلب غاشم و کذلک وسعه الأرزاق و فرج أفراحها و تکدیرها بغصص أحزانها و أتراحها ثمّ خلقه الآجال متفاوته بالطول و القصر و التقدّم و التأخّر.
الفائده التاسعه: تقدیره للموت متّصلا بأسبابها
و لمّا کان الأجل عباره عن وقت ضروره الموت و کانت أسباب حلول تلک الآفات هى بعض الأمراض أو القتل مثلا لا جرم صدق أنّ الموت الّذى هو عباره عن مفارقه الأرواح لأجسادها متّصلا بتلک الأسباب، و استعار لفظ الخلج و هو الجذب للموت، و رشّح بذکر الأشطان، و وجه المشابهه ما یستلزمه الموت من قرب الأجل کما یستلزمه الجاذب من قرب المجذوب إلیه فقدّر الموت جاذبا للأجل بالحبال کما یجذب بها الإنسان ما یرید، و أمّا کونه قاطعا لمرائر أقرانها فاستعار أیضا لفظ المرائر لأسباب العلاقه بین اقتران الآجال و هم المتقاربون فی الزمان الواحد الّذى یتّصل بهم الأجل و تلک الأسباب کالصداقه و الاخوّه و سایر أسباب العلاقه بین الناس، و ظاهر کون الموت قاطعا لتلک المرائر.
الفائده العاشره: أنّه علیه السّلام جعل قسمه اللّه تعالى للأرزاق و تقدیرها بالکثره و القلّه و الضیق و السعه صوره ابتلاء من اللّه للشکر من الأغنیاء و الصبر من الفقراء و قد أشرنا فی قوله: ألا إنّ الدنیا دار لا یسلم منها إلّا فیها. إلى أنّ المراد بالإبتلاء من اللّه معاملته تعالى لعباده معامله المبتلین المختبرین لأنّه سبحانه عالم الخفیّات و السرائر فلا یتصوّر فی حقّه الاختبار حقیقه، إلّا أنا نزیده هاهنا بیانا فنقول: إنّ العبد إذا تمکّن فی خاطره أنّ ما یفعله اللّه من إفاضه نعمه علیه أو حرمانه لها ابتلاء لشکره أو صبره فشکر أو صبر حصل من شکره أو صبره على ابتلائه ملکات فاضله فی نفسه یستعدّ بها لمزید الکمال و تمام النعمه کما قال تعالى لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ و قال وَ لَنَبْلُوَنَّکُمْ بِشَیْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِینَ الَّذِینَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِیبَهٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ«» و أمّا التحقیق فی أمثال هذه القسمه من ضیق رزق أوسعه أو طول أجل أو قصره أو معاقبته شدّه لرخاء و حزنا لفرح فهو أنّ لکلّ واحد من هذه الامور أسباب قد تخفى على من تعرّض له و لا بدّ من انتهائها إلى قضاء اللّه فما عدّ منها خیرا فهو داخل فی الإراده الکلّیّه للخیر المطلق بالذات و ما عدّ منها شرّا فداخل فی القصاء الإلهىّ بالعرض کما علم ذلک فی مظانّه، و باللّه التوفیق.
الفصل الثالث: فی تمجیده سبحانه باعتبار کونه عالما بالأشیاء
و عدّ من جزئیّاتها جمله هى من قوله: عالم السرّ من ضمایر المضمرین إلى قوله: أو ناشئه خلق و سلاله. و لنشر إلى ما عساه یشکل من ألفاظه: الأوّل: خواطر رجم الظنون. لمّا کان الخاطر الظنىّ للإنسان یتعلّق بمظنون لا محاله بعد أن لم یکن أشبه تعلّقه به الرجم و هو الرمى بالحجر و نحوه فاستعیر لفظه له و إنّما خصّ الظنّ بذلک دون العلم لما أنّ کثیرا ما یظنّ ما لا یجوز ظنّا غیر مطابق کما یظنّ ببعض الناس ما یقبح منه و یصل إلیه بسببه أذى و إن لم یکن صدقا فکان أشبه الأشیاء برمیه بالحجر المستلزم لأذاه. الثانی: عقد عزیمات الیقین ما انعقد فی النفس من العزم عن یقین. الثالث: و مسارق إیماض الجفون: لمّا أشبه شعاع البصر البرق فی ومیضه و اختفائه عند فتح الجفون و طبقها استعار لفظ الومیض لبروزه و لفظ المسارق لمخارجه. الرابع: استعار لفظ الأکنان للقلوب بالنسبه إلى ما أخفته من الأسرار، و لفظ الغیابات للغیوب، و وجه المشابهه کون القلوب حافظه کالبیوت، و کون الظلمات مانعه من إدراک المبصرات کما تمنع الغیوب إدراک ما فیها. الخامس: مصائف الذرّ و مشاتى الهوامّ: بیوتها و إشرابها الصیفیّه و الشتویّه من بطن الأرض الواقیه لها حرّ الصیف و برد الشتاء. و رجع الحنین من المولهه: تردید صوت الثکلى فی بکائها و حنینها إلى من فقدته. السادس: و لائج غلف الأکمام. إنّما حسنت الإضافه هنا لأنّ کلّ کمّ غلاف و لا ینعکس فجاز تخصیص العامّ بالإضافه إلى بعض جزئیّاته. السابع: محطّ الأمشاج: محلّ نزول النطف من الأصلاب، و مساربها، و هى الأوعیه الّتى یتسرّب فیها المنى و الأخلاط الّتى تتولّد عنها. الثامن: و ما تسقى الأعاصیر بذیولها: أى ما تثیره و تذروه من التراب، و استعار لفظ الذیول لما اخذ الأرض منها. التاسع: استعار لفظ العوم لدخول عروق النبات فی نواحى الأرض لملاحظه شبهها بالماء، و روى: بنات الأرض بتقدیم الباء. و هى الهوامّ الّتى تنشأ فی الرمل و تغوص فیه و تسیر کالحلکه، و هى دویبه کالعظاءه دون الشبر صفراء ملساء تستعملها العرب للسمنه و کنوع من الحیّات و غیرها. العاشر: و تغرید ذوات المنطق استعار لفظ المنطق للطیر، و وجه المشابهه أنّ مدلول تغریدها معلوم للّه فأشبه النطق المفید من الإنسان. الحادى عشر: ما أوعبته الأصداف کاللؤلؤ و المرجان و ما حضنت علیه أمواج البحار من لؤلؤ و حیوان و غیرهما، و لفظ الحضن مستعار للأمواج ملاحظه لشبهها بالحواضن فی انطباقها على البیض و الفراخ. الثانی عشر: سبحات النور ما تنزّه منه عن کدر الظلمه، و لفظ النور مستعار لمعارف جلال اللّه، و الضمیر فی قوله: علیها. یرجع إلى الأرض، و قراره النطفه: مستقرّها من الأرحام، و لفظ النقاعه استعاره لمحلّ دم الحیض، و المضغه الولد فی بعض أطوار خلقته کما عرّفناه قبل، و ناشئه الخلق: ما نشأ من مخلوقاته. الثالث عشر: لم یلحقه فی ذلک کلفه. إلى قوله: و لا فتره. الکلفه: کون الفعل مستلزما لفاعله نوع مشقّه و تلک المشقّه إمّا لضعف قوّه الفاعل أو ضعف آلته أو قصور علمه عن تصوّر ما یفعل، و البارى تعالى منزّه عن هذه الامور لاستلزمها الحاجه، و کذلک العارضه من عوارض موانع العلوم و نفوذها یستلزم وجود المقام و المثل و قد تنزّه قدس الحقّ عنهما و أمّا الملاله فالمفهوم انصراف النفس عن الفعل بسبب تحلّل الأرواح الدماغیّه و ضعفها عن العمل أو لعارض آخر لها، و قد علمت أنّها من لواحق الأجسام و کذلک الفتره. و البارى منزّه عنهما. الرابع عشر: قوله: بل نفذ فیهم علمه. إلى قوله: و غمرهم فصله. أثبت کلّ واحده من هذه القراین الأربع مقابله للأربع الّتى نفاها: فنفاذ علمه فیهم مقابل لما نفاه من لحوق الکلفه فی علمه بهم، و إحصاؤهم بعده مقابل للأعراض العارضه فی حفظ خلقه، و وسع عدله لهم مقابل لنفى اعتوار الملاله فی تنفیذ اموره و تدبیر مخلوقاته إذ کان معنى عدله فیهم وضعه لکلّ موجود فی مرتبته و هبته له ما یستحقّه من زیاده و نقصان مضبوطا بنظام الحکمه و اعتراض الملاله سبب لاختلاف نظام الفعل، و قوله: و غمرهم فضله مقابل لنفى الفتره فإنّ فتور الفاعل عن الفعل مانع له عن تتمّه فعله و تمام وجوده، و قوله: مع تقصیرهم عن کنه ما هو أهله تنبیه على حقاره عبادتهم فی جنب عظمته و استحقاقه لما هو أهله لیدوم شکرهم و ثنائهم و لا یستکبروا شیئا من طاعتهم، و باللّه التوفیق.
الفصل الرابع: فی تمجیده خطابا له و دعاء و طلبا لجزاء ما سبق من ثنائه
و تعدید أوصافه الجمیله و هو رضاه عنه و إغناؤه من غیره.
و فیه إشارات:
الاولى: قوله: أنت أهل الوصف الجمیل و التعداد الکثیر
إشاره إلى أنّه تعالى بحسب استحقاقه الوصف بأشرف طرفی النقیض کان أهل الوصف الجمیل و باعتبار تعدّد ثنائه و حمده بالنظر إلى کلّ جزئىّ من جزئیّات نعمه هو أهل التعداد الکثیر.
الثانیه: و قد بسطت لى فیما لا أمدح به غیرک و لا أثنى به على أحد سواک
إشاره إلى إذنه له فی شکره و الثناء علیه بالأوصاف الجمیله الّتى لا یستحقّها حقیقه إلّا هو و لا ینبغی أن تطلق إلّا له. و معنى هذه الإذن إمّا إلهام حسن شکر المنعم و مدحه و إذ لا منعم فی الحقیقه إلّا هو فلا یستحقّ التمجید المطلق إلّا هو. و مخاطبته له بایجاب الشکر کقوله تعالى وَ اشْکُرُوا لِلَّهِ إِنْ کُنْتُمْ إِیَّاهُ تَعْبُدُونَ و بالتسبیح فی قوله تعالى وَ مِنْ آناءِ اللَّیْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّکَ تَرْضى و قوله: وَ سَبِّحُوهُ بُکْرَهً وَ أَصِیلًا و استعار لفظ المعادن للخلق، و وجه المشابهه أنّ معدن الشیء کما أنّه مظنّه المطلوب منها کذلک الخلق أرباب النعم الفانیه مظانّ خیبه طالبها من أیدیهم و حرمانها، و کذلک مواضع الریبه أى الشکّ فی منعهم و عطائهم لها و لذلک فسّره بقوله: و عدلت بلسانى من مدایح الآدمیّین و الثناء على المربوبین المخلوقین.
الثالثه: قوله: دلیلا نصب على الحال أو المفعول، و المراد برجائه دلیلا على ذخایر الرحمه رجاؤه أن یسوقه بهدایته إلى وجوه الاستعدادات إلى رحمته و یستر علیه بتهیّئه للالتفات إلیه عن کلّ خاطر سواه فإنّ کلّ خاطر سوى الحقّ سبحانه ذنب فی حقّ مثله علیه السّلام، و لفظ الذخیره و الکنوز مستعاران لجوده.
الرابعه: قوله: هذا مقام من أفردک بالتوحید
إشاره إلى مقامه بین یدیه بهذا الذکر و التوحید فی خطبته، و هو توطئه لذکر مطلوبه و استنزال رحمه اللّه ثمّ قال: و لى فاقه إلیک فذکر وجه استحقاقه لجوده أوّلا و قصر سدّ تلک الفاقه على فضله إذ لم تکن فاقه فى أمر دنیوىّ یمکن المخلوقین الإتیان به ثمّ أردفه بذکر مطلوبه و هو رضا اللّه و إغناؤه عمّن سواه و ظاهر أنّ حصولها مستلزم لما رجاه اللّه دلیلا علیه من ذخایر رحمته و کنوز مغفرته. و باللّه العصمه و التوفیق.
شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۲ ، صفحهى ۳۲۳
بازدیدها: ۵۸