خطبه ۲۱۹ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۱۹ و من کلام له ع

وَ اللَّهِ لَأَنْ أَبِیتَ عَلَى حَسَکِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً- أَوْ أُجَرَّ فِی الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً- أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ یَوْمَ الْقِیَامَهِ ظَالِماً- لِبَعْضِ الْعِبَادِ- وَ غَاصِباً لِشَیْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ- وَ کَیْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ یُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا- وَ یَطُولُ فِی الثَّرَى حُلُولُهَا- وَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَیْتُ عَقِیلًا وَ قَدْ أَمْلَقَ- حَتَّى اسْتَمَاحَنِی مِنْ بُرِّکُمْ صَاعاً- وَ رَأَیْتُ صِبْیَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ- کَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ- وَ عَاوَدَنِی مُؤَکِّداً وَ کَرَّرَ عَلَیَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً- فَأَصْغَیْتُ إِلَیْهِ سَمْعِی فَظَنَّ أَنِّی أَبِیعُهُ دِینِی- وَ أَتَّبِعُ قِیَادَهُ مُفَارِقاً طَرِیقَتِی- فَأَحْمَیْتُ لَهُ حَدِیدَهً ثُمَّ أَدْنَیْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِیَعْتَبِرَ بِهَا- فَضَجَّ ضَجِیجَ ذِی دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا- وَ کَادَ أَنْ یَحْتَرِقَ مِنْ مِیسَمِهَا- فَقُلْتُ لَهُ ثَکِلَتْکَ الثَّوَاکِلُ یَا عَقِیلُ- أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِیدَهٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ- وَ تَجُرُّنِی إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ- أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَ لَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى- وَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِکَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَهٍ فِی وِعَائِهَا- وَ مَعْجُونَهٍ شَنِئْتُهَا- کَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِیقِ حَیَّهٍ أَوْ قَیْئِهَا- فَقُلْتُ أَ صِلَهٌ أَمْ زَکَاهٌ أَمْ صَدَقَهٌ- فَذَلِکَ مُحَرَّمٌ عَلَیْنَا أَهْلَ الْبَیْتِ- فَقَالَ لَا ذَا وَ لَا ذَاکَ وَ لَکِنَّهَا هَدِیَّهٌ- فَقُلْتُ هَبِلَتْکَ الْهَبُولُ أَ عَنْ دِینِ اللَّهِ أَتَیْتَنِی لِتَخْدَعَنِی- أَ مُخْتَبِطٌ أَمْ ذُو جِنَّهٌ أَمْ تَهْجُرُ- وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِیتُ الْأَقَالِیمَ السَّبْعَهَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاکِهَا- عَلَى أَنْ أَعْصِیَ اللَّهَ فِی نَمْلَهٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِیرَهٍمَا فَعَلْتُهُ- وَ إِنَّ دُنْیَاکُمْ عِنْدِی لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَهٍ فِی فَمِ جَرَادَهٍ تَقْضَمُهَا- مَا لِعَلِیٍّ وَ لِنَعِیمٍ یَفْنَى وَ لَذَّهٍ لَا تَبْقَى- نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِینُ السعدان نبت ذو شوک- یقال له حسک السعدان و حسکه السعدان- و تشبه به حلمه الثدی فیقال سعدانه الثندوه- و هذا النبت من أفضل مراعی الإبل- و فی المثل مرعى و لا کالسعدان- و نونه زائده لأنه لیس فی الکلام فعلال غیر مضاعف- إلا خزعال و هو ظلع یلحق الناقه- و قهقار و هو الحجر الصلب- و قسطال و هو الغبار- .

و المسهد الممنوع النوم و هو السهاد- . و الأغلال القیود و المصفد المقید- و الحطام عروض الدنیا و متاعها- شبه لزواله و سرعه فنائه بما یتحطم من العیدان و یتکسر- . ثم قال کیف أظلم الناس لأجل نفس تموت سریعا- یعنی نفسه ع- . فإن قلت أ لیس قوله عن نفس یسرع إلى البلى قفولها- یشعر بمذهب من قال بقدم الأنفس- لأن القفول الرجوع- و لا یقال فی مذهبه للمسافره قافله إلا إذا کانت راجعه- . قلت لا حاجه إلى القول بقدم الأنفس محافظه على هذه اللفظه- و ذلک لأن النفس إذا کانت حادثه فقد کان أصلها العدم- فإذا مات الإنسان عدمت نفسه فرجعت إلى العدم الأصلی- و هو المعبر عنه بالبلى- .

و أملق افتقر- قال تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَکُمْ مِنْ إِمْلاقٍ- . و استماحنی طلب منی أن أعطیه صاعا من الحنطه- و الصاع أربعه أمداد و المد رطل و ثلث- فمجموع ذلک خمسه أرطال و ثلث رطل- و جمع الصاع أصوع و إن شئت همزت- و الصواع لغه فی الصاع و یقال هو إناء یشرب فیه- . و العظلم بالکسره فی الحرفین- نبت یصبغ به ما یراد اسوداده- و یقال هو الوسمه- و شعث الألوان أی غبر- . و أصغیت إلیه أملت سمعی نحوه- . و أتبع قیاده أطیعه و انقاد له- . و أحمیت الحدیده فی النار فهی محماه- و لا یقال حمیت الحدیده- . و ذی دنف أی ذی سقم مؤلم- . و من میسمها من أثرها فی یده- . و ثکلتک الثواکل دعاء علیه و هو جمع ثاکله- و فواعل لا یجی‏ء إلا جمع المؤنث إلا فیما شذ- نحو فوارس أی ثکلتک نساؤک- . قوله أحماها إنسانها أی صاحبها- و لم یقل إنسان- لأنه یرید أن یقابل هذه اللفظه بقوله جبارها- .

و سجرها بالتخفیف أوقدها و أحماها- و السجور ما یسجر به التنور- . قوله بملفوفه فی وعائها- کان أهدى له الأشعث بن قیس نوعا من الحلواء تأنق فیه- و کان ع یبغض الأشعث لأن الأشعث کان یبغضه- و ظن الأشعث أنه یستمیله بالمهاداه- لغرض دنیوی کان فی نفس الأشعث- و کان أمیر المؤمنین‏ع یفطن لذلک و یعلمه- و لذلک رد هدیه الأشعث- و لو لا ذلک لقبلها لأن النبی ص قبل الهدیه- و قد قبل علی ع هدایا جماعه من أصحابه- و دعاء بعض من کان یأنس إلیه- إلى حلواء عملها یوم نوروز فأکل- و قال لم عملت هذا فقال لأنه یوم نوروز- فضحک و قال نوروزا لنا فی کل یوم إن استطعتم- . و کان ع من لطافه الأخلاق و سجاحه الشیم- على قاعده عجیبه جمیله- و لکنه کان ینفر عن قوم کان یعلم من حالهم الشنآن له- و عمن یحاول أن یصانعه بذلک عن مال المسلمین- و هیهات حتى یلین لضرس الماضغ الحجر- . و قال بملفوفه فی وعائها لأنه کان طبق مغطى- .

ثم قال و معجونه شنئتها أی أبغضتها و نفرت عنها- کأنها عجنت بریق الحیه أو بقیئها- و ذلک أعظم الأسباب للنفره من المأکول- . و قال الراوندی وصفها باللطافه فقال- کأنها عجنت بریق الحیه و هذا تفسیر أبعد من الصحیح- . قوله أ صله أم زکاه أم صدقه- فذلک محرم علینا أهل البیت- الصله العطیه لا یراد بها الأجر- بل یراد وصله التقرب إلى الموصول- و أکثر ما تفعل للذکر و الصیت- و الزکاه هی ما تجب فی النصاب من المال- . و الصدقه هاهنا هی صدقه التطوع- و قد تسمى الزکاه الواجبه صدقه- إلا أنها هنا هی النافله- . فإن قلت کیف قال فذلک محرم علینا أهل البیت- و إنما یحرم علیهم الزکاه الواجبه خاصه- و لا یحرم علیهم صدقه التطوع و لا قبول الصلات- قلت أراد بقوله أهل البیت الأشخاص الخمسه- محمدا و علیا و فاطمه و حسنا و حسیناع- فهؤلاء خاصه دون غیرهم من بنی هاشم- محرم علیهم الصله و قبول الصدقه- و أما غیرهم من بنی هاشم فلا یحرم علیهم إلا الزکاه الواجبه خاصه- .

فإن قلت- کیف قلت إن هؤلاء الخمسه یحرم علیهم قبول الصلات- و قد کان حسن و حسین ع یقبلان صله معاویه- . قلت کلا لم یقبلا صلته و معاذ الله أن یقبلاها- و إنما قبلا منه ما کان یدفعه إلیهما- من جمله حقهما من بیت المال- فإن سهم ذوی القربى منصوص علیه فی الکتاب العزیز- و لهما غیر سهم ذوی القربى سهم آخر للإسلام من الغنائم- . قوله هبلتک الهبول أی ثکلتک أمک- و الهبول التی لها عاده بثکل الولد- .

فإن قلت ما الفرق بین مختبط و ذی جنه و یهجر- . قلت المختبط المصروع من غلبه الأخلاط السوداویه- أو غیرها علیه- و ذو الجنه من به مس من الشیطان- و الذی یهجر هو الذی یهذی فی مرض لیس بصرع- کالمحموم و المبرسم و نحوهما- . و جلب الشعیره بضم الجیم قشرها- و الجلب و الجلبه أیضا جلیده تعلو الجرح عند البرء- یقال منه جلب الجرح یجلب و یجلب- و أجلب الجرح أیضا- و یقال للجلیده التی تجعل على القتب جلبه أیضا- . و تقضمها بفتح الضاد و الماضی قضم بالکسر

نبذ من أخبار عقیل بن أبی طالب

و عقیل هو عقیل بن أبی طالب ع- بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف- أخو أمیر المؤمنین ع لأمه و أبیه- و کان بنو أبی طالب أربعه- طالب و هو أسن من عقیل بعشر سنین- و عقیل و هو أسن من جعفر بعشر سنین- و جعفر و هو أسن من علی بعشر سنین- و علی و هو أصغرهم سنا و أعظمهم قدرا- بل و أعظم الناس بعد ابن عمه قدرا- . و کان أبو طالب یحب عقیلا أکثر من حبه سائر بنیه- فلذلک قال للنبی ص و للعباس حین أتیاه- لیقتسما بنیه عام المحل فیخففا عنه ثقلهم- دعوا لی عقیلا و خذوا من شئتم فأخذ العباس جعفرا- و أخذ محمد ص علیا ع- .

و کان عقیل یکنى أبا یزید-قال له رسول الله ص یا أبا یزید إنی أحبک حبین- حبا لقرابتک منی و حبا لما کنت أعلم من حب عمی إیاک- . أخرج عقیل إلى بدر مکرها کما أخرج العباس- فأسر و فدی و عاد إلى مکه- ثم أقبل مسلما مهاجرا قبل الحدیبیه- و شهد غزوه مؤته مع أخیه جعفر ع- و توفی فی خلافه معاویه فی سنه خمسین- و عمره ست و تسعون سنه- . و له دار بالمدینه معروفه- و خرج إلى العراق ثم إلى الشام ثم عاد إلى المدینه- و لم یشهد مع أخیه أمیر المؤمنین ع شیئا من حروبه- أیام خلافته- و عرض نفسه و ولده علیه فأعفاه و لم یکلفه حضور الحرب- . و کان أنسب قریش و أعلمهم بأیامها- و کان مبغضا إلیهم لأنه کان یعد مساوئهم-و کانت له طنفسه تطرح فی مسجد رسول الله ص فیصلی علیها- و یجتمع إلیه الناس فی علم النسب و أیام العرب- و کان حینئذ قد ذهب بصره- و کان أسرع الناس جوابا و أشدهم عارضه- .

کان یقال إن فی قریش أربعه یتحاکم إلیهم- فی علم النسب و أیام قریش- و یرجع إلى قولهم عقیل بن أبی طالب- و مخرمه بن نوفل الزهری و أبو الجهم بن حذیفه العدوی- و حویط بن عبد العزى العامری- . و اختلف الناس فی عقیل- هل التحق بمعاویه و أمیر المؤمنین حی فقال قوم نعم- و رووا أن معاویه قال یوما و عقیل عنده هذا أبو زید- لو لا علمه أنی خیر له من أخیه لما أقام عندنا و ترکه- فقال عقیل أخی خیر لی فی دینی- و أنت خیر لی فی دنیای و قد آثرت دنیای- أسأل الله خاتمه خیر- .

و قال قوم- إنه لم یعد إلى معاویه إلا بعد وفاه أمیر المؤمنین ع- و استدلوا على ذلک بالکتاب الذی کتبه إلیه فی آخر خلافته- و الجواب الذی أجابه ع و قد ذکرناه فیما تقدم- و سیأتی ذکره أیضا فی باب کتبه ع- و هذا القول هو الأظهر عندی و روى المدائنی- قال قال معاویه یوما لعقیل بن أبی طالب- هل من حاجه فأقضیها لک- قال نعم جاریه عرضت علی و أبى أصحابها أن یبیعوها- إلا بأربعین ألفا- فأحب معاویه أن یمازحه فقال- و ما تصنع بجاریه قیمتها أربعون ألفا و أنت أعمى- تجتزئ بجاریه قیمتها خمسون درهما- قال أرجو أن أطأها فتلد لی غلاما- إذا أغضبته یضرب عنقک بالسیف- فضحک معاویه و قال مازحناک یا أبا یزید- و أمر فابتیعت له الجاریهالتی أولد منها مسلما- فلما أتت على مسلم ثمانی عشره سنه و قد مات عقیل أبوه- قال لمعاویه- یا أمیر المؤمنین إن لی أرضا بمکان کذا من المدینه- و إنی أعطیت بها مائه ألف- و قد أحببت أن أبیعک إیاها فادفع إلی ثمنها- فأمر معاویه بقبض الأرض و دفع الثمن إلیه- .

فبلغ ذلک الحسین ع فکتب إلى معاویه أما بعد فإنک غررت غلاما من بنی هاشم- فابتعت منه أرضا لا یملکها- فاقبض من الغلام ما دفعته إلیه و اردد إلینا أرضنا- . فبعث معاویه إلى مسلم فأخبره ذلک- و أقرأه کتاب الحسین ع- و قال اردد علینا مالنا و خذ أرضک فإنک بعت ما لا تملک- فقال مسلم أما دون أن أضرب رأسک بالسیف فلا- فاستلقى معاویه ضاحکا یضرب برجلیه- فقال یا بنی هذا و الله کلام قاله لی أبوک- حین ابتعت له أمک- . ثم کتب إلى الحسین إنی قد رددت علیکم الأرض- و سوغت مسلما ما أخذ- فقال الحسین ع أبیتم یا آل أبی سفیان إلا کرما- .

و قال معاویه لعقیل- یا أبا یزید أین یکون عمک أبو لهب الیوم- قال إذا دخلت جهنم- فاطلبه تجده مضاجعا لعمتک أم جمیل بنت حرب بن أمیه- . و قالت له زوجته ابنه عتبه بن ربیعه- یا بنی هاشم لا یحبکم قلبی أبدا- أین عمی أین أخی کان أعناقهم أباریق الفضه- ترى آنافهم الماء قبل شفاههم- قال إذا دخلت جهنم فخذی على شمالک- .

سأل معاویه عقیلا عن قصه الحدیده المحماه المذکوره- فبکى و قال أنا أحدثک یا معاویه عنه- ثم أحدثک عما سألت- نزل بالحسین ابنه ضیف فاستسلف درهما اشترى به خبزا- و احتاج إلى الإدام فطلب من قنبر خادمهم- أن یفتح له زقا من زقاق عسل جاءتهم من الیمن- فأخذ منه رطلا فلما طلبها ع لیقسمها- قال یا قنبر أظن أنه حدث بهذا الزق حدث- فأخبره فغضب ع- و قال علی بحسین- فرفع علیه الدره- فقال بحق عمی جعفر- و کان إذا سئل بحق جعفر سکن- فقال له ما حملک أن أخذت منه قبل القسمه- قال إن لنا فیه حقا فإذا أعطیناه رددناه- قال فداک أبوک و إن کان لک فیه حق- فلیس لک أن تنتفع بحقک قبل أن ینتفع المسلمون بحقوقهم- أما لو لا أنی رأیت رسول الله ص یقبل ثنیتک لأوجعتک ضربا- ثم دفع إلى قنبر درهما کان مصرورا فی ردائه- و قال اشتر به خیر عسل تقدر علیه- قال عقیل- و الله لکأنی أنظر إلى یدی علی و هی على فم الزق- و قنبر یقلب العسل فیه- ثم شده و جعل یبکی- و یقول اللهم اغفر لحسین فإنه لم یعلم- . فقال معاویه ذکرت من لا ینکر فضله- رحم الله أبا حسن فلقد سبق من کان قبله- و أعجز من یأتی بعده هلم حدیث الحدیده- .

قال نعم أقویت و أصابتنی مخمصه شدیده- فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبیانی و جئته بهم- و البؤس و الضر ظاهران علیهم- فقال ائتنی عشیه لأدفع إلیک شیئا- فجئته یقودنی أحد ولدی فأمره بالتنحی- ثم قال أ لا فدونک فأهویت حریصا قد غلبنی الجشع- أظنها صره فوضعت یدی على حدیده تلتهب نارا- فلما قبضتها نبذتها- و خرت کما یخور الثور تحت ید جازره- فقال لی ثکلتک أمک- هذا من حدیده أوقدت لها نار الدنیا- فکیف بک و بی غدا إن سلکنا فی سلاسل جهنم- ثم قرأ إِذِ الْأَغْلالُ فِی أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ یُسْحَبُونَ- . ثم قال لیس لک عندی فوق حقک- الذی فرضه الله لک إلا ما ترى- فانصرف إلى أهلک- . فجعل معاویه یتعجب- و یقول هیهات هیهات عقمت النساء أن یلدن مثله

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

 

بازدیدها: ۹۰

خطبه ۲۱۸ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(تلاوت)

۲۱۸ و من کلام له ع قاله عند تلاوته

یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّکَ بِرَبِّکَ الْکَرِیمِ- أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّهً وَ أَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَهً- لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَهً بِنَفْسِهِ- یَا أَیُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَکَ عَلَى ذَنْبِکَ- وَ مَا غَرَّکَ بِرَبِّکَ وَ مَا أَنَّسَکَ بِهَلَکَهِ نَفْسِکَ- أَ مَا مِنْ دَائِکَ بُلُولٌ أَمْ لَیْسَ مِنْ نَوْمِکَ یَقَظَهٌ- أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِکَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَیْرِکَ- فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِیَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ- أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ یُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْکِی رَحْمَهً لَهُ- فَمَا صَبَّرَکَ عَلَى دَائِکَ وَ جَلَّدَکَ عَلَى مُصَابِکَ- وَ عَزَّاکَ عَنِ الْبُکَاءِ عَلَى نَفْسِکَ- وَ هِیَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَیْکَ- وَ کَیْفَ لَا یُوقِظُکَ خَوْفُ بَیَاتِ نِقْمَهٍ- وَ قَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِیهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ- فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَهِ فِی قَلْبِکَ بِعَزِیمَهٍ- وَ مِنْ کَرَى الْغَفْلَهِ فِی نَاظِرِکَ بِیَقَظَهٍ- وَ کُنْ لِلَّهِ مُطِیعاً وَ بِذِکْرِهِ آنِساً- وَ تَمَثَّلْ فِی حَالِ تَوَلِّیکَ عَنْهُ- إِقْبَالَهُ عَلَیْکَ یَدْعُوکَ إِلَى عَفْوِهِ- وَ یَتَغَمَّدُکَ بِفَضْلِهِ وَ أَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَیْرِهِ-فَتَعَالَى مِنْ قَوِیٍّ مَا أَکْرَمَهُ- وَ تَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِیفٍ مَا أَجْرَأَکَ عَلَى مَعْصِیَتِهِ- وَ أَنْتَ فِی کَنَفِ سِتْرِهِ مُقِیمٌ- وَ فِی سَعَهِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ- فَلَمْ یَمْنَعْکَ فَضْلَهُ وَ لَمْ یَهْتِکْ عَنْکَ سِتْرَهُ- بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَیْنٍ- فِی نِعْمَهٍ یُحْدِثُهَا لَکَ أَوْ سَیِّئَهٍ یَسْتُرُهَا عَلَیْکَ- أَوْ بَلِیَّهٍ یَصْرِفُهَا عَنْکَ فَمَا ظَنُّکَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ- وَ ایْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَهَ کَانَتْ فِی مُتَّفِقَیْنِ فِی الْقُوَّهِ- مُتَوَازِیَیْنِ فِی الْقُدْرَهِ- لَکُنْتَ أَوَّلَ حَاکِمٍ عَلَى نَفْسِکَ بِذَمِیمِ الْأَخْلَاقِ- وَ مَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ- وَ حَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْیَا غَرَّتْکَ وَ لَکِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ- وَ لَقَدْ کَاشَفَتْکَ الْعِظَاتِ وَ آذَنَتْکَ عَلَى سَوَاءٍ- وَ لَهِیَ بِمَا تَعِدُکَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِکَ- وَ النَّقْضِ فِی قُوَّتِکَ أَصْدَقُ وَ أَوْفَى مِنْ أَنْ تَکْذِبَکَ أَوْ تَغُرَّکَ- وَ لَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَکَ مُتَّهَمٌ- وَ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُکَذَّبٌ- وَ لَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِی الدِّیَارِ الْخَاوِیَهِ وَ الرُّبُوعِ الْخَالِیَهِ- لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْکِیرِکَ- وَ بَلَاغِ مَوْعِظَتِکَ- بِمَحَلَّهِ الشَّفِیقِ عَلَیْکَ وَ الشَّحِیحِ بِکَ- وَ لَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ یَرْضَ بِهَا دَاراً- وَ مَحَلُّ مَنْ لَمْ یُوَطِّنْهَا مَحَلًّا- وَ إِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْیَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْیَوْمَ- إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَهُ وَ حَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِیَامَهُ- وَ لَحِقَ بِکُلِّ مَنْسَکٍ أَهْلُهُ وَ بِکُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ- وَ بِکُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ- فَلَمْ یَجْرِ فِی عَدْلِهِ وَ قِسْطِهِ یَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِی الْهَوَاءِ- وَ لَا هَمْسُ قَدَمٍ فِی الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ- فَکَمْ حُجَّهٍ یَوْمَ ذَاکَ دَاحِضَهٌ- وَ عَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَهٌ- فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِکَ مَا یَقُومُ بِهِ عُذْرُکَ وَ تَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُکَ- وَ خُذْ مَا یَبْقَى لَکَ مِمَّا لَا تَبْقَى لَهُ- وَ تَیَسَّرْ لِسَفَرِکَ وَ شِمْ بَرْقَ النَّجَاهِ وَ ارْحَلْ مَطَایَا التَّشْمِیرِ

لقائل أن یقول- لو قال ما غرک بربک العزیز أو المنتقم أو نحو ذلک- لکان أولى لأن للإنسان المعاتب أن یقول- غرنی کرمک الذی وصفت به نفسک- . و جواب هذا أن یقال- إن مجموع الصفات صار کشی‏ء واحد- و هو الکریم الذی خلقک فسواک فعدلک- فی أی صوره ما شاء رکبک- و المعنى ما غرک برب هذه صفته- و هذا شأنه و هو قادر على أن یجعلک فی أی صوره شاء- فما الذی یؤمنک من أن یمسخک- فی صوره القرده و الخنازیر- و نحوها من الحیوانات العجم- و معنى الکریم هاهنا الفیاض على المواد بالصور- و من هذه صفته ینبغی أن یخاف منه تبدیل الصوره- .

قال ع أدحض مسئول حجه- المبتدأ محذوف و الحجه الداحضه الباطله- . و المعذره بکسر الذال العذر- . و یقال لقد أبرح فلان جهاله- و أبرح لؤما و أبرح شجاعه- و أتى بالبرح من ذلک أی بالشدید العظیم- و یقال هذا الأمر أبرح من هذا أی أشد- و قتلوه أبرح قتل و جهاله منصوب على التمییز- . و قال القطب الراوندی مفعول به- قال معناه جلب جهاله إلى نفسه و لیس بصحیح- و أبرح لا یتعدى هاهنا و إنما یتعدى أبرح فی موضعین- أحدهما أبرحه الأمر أی أعجبه- و الآخر أبرح زید عمرا أی أکرمه و عظمه- . قوله ما جرأک بالهمزه- و فلان جری‏ء القوم أی مقدمهم- .

و ما أنسک بالتشدید و روی ما آنسک بالمد- و کلاهما من أصل واحد- و تأنست‏بفلان و استأنست بمعنى- و فلان أنیسی و مؤانسی و قد أنسنی کله بمعنى- أی کیف لم تستوحش من الأمور التی تؤدی إلى هلکه نفسک- . و البلول مصدر بل الرجل من مرضه إذا برئ- و یجوز أبل- قال الشاعر-

إذا بل من داء به ظن أنه نجا
و به الداء الذی هو قاتله‏

و الضاحی لحر الشمس البارز- و هذا داء ممض أی مؤلم أمضنی الجرح إمضاضا- و یجوز مضنی- . و روی و جلدک على مصائبک بصیغه الجمع- . و بیات نقمه بفتح الباء طروقها لیلا- و هی من ألفاظ القرآن العزیز- . و تورط وقع فی الورطه بتسکین الراء و هی الهلاک- و أصل الورطه أرض مطمئنه لا طریق فیها- و قد أورطه و ورطه توریطا أی أوقعه فیها- . و المدارج الطرق و المسالک- و یجوز انتصاب مدارج هاهنا- لأنها مفعول به صریح- و یجوز أن ینتصب على تقدیر حرف الخفض و حذفه- أی فی مدارج سطواته- . قوله و تمثل أی و تصور- . و یتغمدک بفضله أی یسترک بعفوه- و سمى العفو و الصفح فضلا تسمیه للنوع بالجنس- .

قوله مطرف عین بفتح الراء- أی زمان طرف العین- و طرفها إطباق أحدجفنیها على الآخر- و انتصاب مطرف هاهنا على الظرفیه- کقولک وردت مقدم الحاج أی وقت قدومهم- . قوله متوازیین فی القدره أی متساویین- و روی متوازنین بالنون- . و العظات جمع عظه- و هو منصوب على نزع الخافض- أی کاشفتک بالعظات- و روی العظات بالرفع على أنه فاعل- و روی کاشفتک الغطاء- . و آذنتک أی أعلمتک- . و على سواء أی على عدل و إنصاف- و هذا من الألفاظ القرآنیه- . و الراجفه الصیحه الأولى- و حقت بجلائلها القیامه أی بأمورها العظام- و المنسک الموضع الذی تذبح فیه النسائک- و هی ذبائح القربان و یجوز فتح السین- و قد قرئ بهما فی قوله تعالى- لِکُلِّ أُمَّهٍ جَعَلْنا مَنْسَکاً- . فإن قلت إذا کان یلحق بکل معبود عبدته- فالنصارى إذن تلحق بعیسى- و الغلاه من المسلمین بعلی- و کذلک الملائکه فما القول فی ذلک- .

قلت لا ضرر فی التحاق هؤلاء بمعبودیهم- و معنى الالتحاق أن یؤمر الأتباع فی الموقف- بالتحیز إلى الجهه التی فیها الرؤساء- ثم یقال للرؤساء أ هؤلاء أتباعکم و عبدتکم- فحینئذ یتبرءون منهم- فینجو الرؤساء و تهلک الأتباع- کما قال سبحانه أَ هؤُلاءِ إِیَّاکُمْ کانُوا یَعْبُدُونَ- قالُوا سُبْحانَکَ أَنْتَ وَلِیُّنا مِنْ دُونِهِمْ- بَلْ کانُوا یَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَکْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ- أی إنما کانوا یطیعون الشیاطین المضله لهم- فعبادتهم فی‏الحقیقه للشیاطین لا لنا- و إنهم ما أطاعونا و لو أطاعونا لکانوا مهتدین- و إنما أطاعوا شیاطینهم- . و لا حاجه فی هذا الجواب إلى أن یقال ما قیل فی قوله تعالى- إِنَّکُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- من تخصیص العموم بالآیه الأخرى- و هی قوله تعالى إِنَّ الَّذِینَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏- أُولئِکَ عَنْها مُبْعَدُونَ- .

فإن قلت فما قولک فی اعتراض ابن الزبعری على الآیه- هل هو وارد- . قلت لا لأنه قال تعالى إِنَّکُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ- و ما لما لا یعقل- فلا یرد علیه الاعتراض بالمسیح و الملائکه- و الذی قاله المفسرون من تخصیص العموم بالآیه الثانیه- تکلف غیر محتاج إلیه- . فإن قلت فما الفائده فی أن قرن القوم بأصنامهم فی النار- و أی معنى لذلک فی زیاده التعذیب و السخط- . قلت لأن النظر إلى وجه العدو باب من أبواب العذاب- و إنما أصاب هؤلاء ما أصابهم- بسبب الأصنام التی ضلوا بها- فکلما رأوها معهم زاد غمهم و حسرتهم- .

و أیضا فإنهم قدروا أن یستشفعوا بها فی الآخره- فإذا صادفوا الأمر على عکس ذلک- لم یکن شی‏ء أبغض إلیهم منها- . قوله فلم یجر قد اختلف الرواه فی هذه اللفظه- فرواها قوم فلم یجر و هو مضارع جرى یجری- تقول ما الذی جرى للقوم- فیقول من سألته قدم الأمیر من السفر- فیکون المعنى على هذا- فلم یکن و لم یتجدد فی دیوان حسابه ذلک الیوم- صغیر و لا حقیر إلا بالحق و الإنصاف- و هذا مثل قوله تعالى- لا ظُلْمَ الْیَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِیعُ‏الْحِسابِ- و رواها قوم فلم یجز مضارع جاز یجوز- أی لم یسغ و لم یرخص ذلک الیوم لأحد من المکلفین- فی حرکه من الحرکات المحقرات المستصغرات- إلا إذا کانت قد فعلها بحق- و على هذا یجوز فعل مثلها- و رواها قوم فلم یجر من جار أی عدل عن الطریق- أی لم یذهب عنه سبحانه- و لم یضل و لم یشذ عن حسابه شی‏ء- من أمر محقرات الأمور إلا بحقه- أی إلا ما لا فائده فی إثباته و المحاسبه علیه- نحو الحرکات المباحه و العبثیه- التی لا تدخل تحت التکلیف- .

و قال الراوندی خرق بصر مرفوع لأنه اسم ما لم یسم فاعله- و لا أعرف لهذا الکلام معنى- . و الهمس الصوت الخفی- . قوله فتحر من أمرک- تحریت کذا أی توخیته و قصدته و اعتمدته- . قوله و تیسر لسفرک أی هیئ أسباب السفر- و لا تترک لذاک عائقا- . و الشیم النظر إلى البرق- . و رحلت مطیتی إذا شددت على ظهرها الرحل- قال الأعشى-
رحلت سمیه غدوه أجمالها غضبى علیک فما تقول بدا لها- . و التشمیر الجد و الانکماش فی الأمر- . و معانی الفصل ظاهره- و ألفاظه الفصیحه تعطیها و تدل علیها- بما لو أراد المفسر أن یعبر عنه بعباره غیر عبارته ع- لکان لفظه ع أولى أن یکون تفسیرا لکلام ذلک المفسر

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

 

بازدیدها: ۴۷

خطبه۲۱۷ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(تلاوت)

۲۱۷ و من کلام له ع قاله عند تلاوته

یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ- لا تُلْهِیهِمْ تِجارَهٌ وَ لا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ- إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى جَعَلَ الذِّکْرَ جَلاءً لِلْقُلُوبِ- تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَهِ وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَهِ- وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَهِ- وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِی الْبُرْهَهِ بَعْدَ الْبُرْهَهِ- وَ فِی أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِی فِکْرِهِمْ- وَ کَلَّمَهُمْ فِی ذَاتِ عُقُولِهِمْ- فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ یَقَظَهٍ فِی الْأَسْمَاعِ وَ الْأَبْصَارِ وَ الْأَفْئِدَهِ- یُذَکِّرُونَ بِأَیَّامِ اللَّهِ وَ یُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ- بِمَنْزِلَهِ الْأَدِلَّهِ فِی الْفَلَوَاتِ- مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَیْهِ طَرِیقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاهِ- وَ مَنْ أَخَذَ یَمِیناً وَ شِمَالًا ذَمُّوا إِلَیْهِ الطَّرِیقَ- وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَکَهِ- وَ کَانُوا کَذَلِکَ مَصَابِیحَ تِلْکَ الظُّلُمَاتِ- وَ أَدِلَّهَ تِلْکَ الشُّبُهَاتِ- وَ إِنَّ لِلذِّکْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْیَا بَدَلًا- فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَهٌ وَ لَا بَیْعٌ عَنْهُ- یَقْطَعُونَ بِهِ أَیَّامَ الْحَیَاهِ- وَ یَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِی أَسْمَاعِ الْغَافِلِینَ- وَ یَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ یَأْتَمِرُونَ بِهِ- وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ- فَکَأَنَّهُمْ قَطَعُوا الدُّنْیَا إِلَى الآْخِرَهِ وَ هُمْ فِیهَا- فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِکَ- فَکَأَنَّمَااطَّلَعُوا غُیُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِی طُولِ الْإِقَامَهِ فِیهِ- وَ حَقَّقَتِ الْقِیَامَهُ عَلَیْهِمْ عِدَاتِهَا- فَکَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِکَ لِأَهْلِ الدُّنْیَا- حَتَّى کَأَنَّهُمْ یَرَوْنَ مَا لَا یَرَى النَّاسُ وَ یَسْمَعُونَ مَا لَا یَسْمَعُونَ- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِکَ فِی مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَهِ- وَ مَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَهِ- وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِینَ اعْمَالِهِمْ- وَ فَرَغُوا لِمُحَاسَبَهِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى کُلِّ صَغِیرَهٍ وَ کَبِیرَهٍ- أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فیهَا- وَ حَمَّلُوا ثقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ- فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا- فَنَشَجُوا نَشِیجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِیباً- یَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَ اعْتِرَافٍ- لَرَأَیْتَ أَعْلَامَ هُدًى وَ مَصَابِیحَ دُجًى- قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِکَهُ- وَ تَنَزَّلَتْ عَلَیْهِمُ السَّکِینَهُ- وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْکَرَامَاتِ- فِی مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ فِیهِ- فَرَضِیَ سَعْیَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ- یَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ- رَهَائِنُ فَاقَهٍ إِلَى فَضْلِهِ وَ أُسَارَى ذِلَّهٍ لِعَظَمَتِهِ- جَرَحَ طُولُ الْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَ طُولُ الْبُکَاءِ عُیُونَهُمْ- لِکُلِّ بَابِ رَغْبَهٍ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ یَدٌ قَارِعَهٌ- یَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِیقُ لَدَیْهِ الْمَنَادِحُ- وَ لَا یَخِیبُ عَلَیْهِ الرَّاغِبُونَ- فَحَاسِبْ نَفْسَکَ لِنَفْسِکَ فَإِنَّ غَیْرَهَا مِنَ الْأَنْفُسِ لَهَا حَسِیبٌ غَیْرُکَ من قرأ یسبح له فیها بفتح الباء- ارتفع رجال عنده بوجهین-

أحدهما أن یضمر له فعل یکون هو فاعله- تقدیره یسبحه رجال- و دل على یسبحه یسبح- کما قال الشاعر-
لیبک یزید ضارع لخصومه و مختبط مما تطیح الطوائح‏أی یبکیه ضارع و دل على یبکیه لیبک- . و الثانی أن یکون خبر مبتدإ محذوف- تقدیره المسبحون رجال- و من قرأ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بکسر الباء فرجال فاعل- و أوقع لفظ التجاره فی مقابله لفظ البیع- إما لأنه أراد بالتجاره هاهنا الشراء خاصه- أو لأنه عمم بالتجاره المشتمله على البیع و الشراء- ثم خص البیع لأنه أدخل فی باب الإلهاء- لأن البیع یحصل ربحه بیقین- و لیس کذلک الشراء- و الذکر یکون تاره باللسان و تاره بالقلب- فالذی باللسان نحو التسبیح و التکبیر- و التهلیل و التحمید و الدعاء- و الذی بالقلب فهو التعظیم و التبجیل و الاعتراف و الطاعه- .

و جلوت السیف و القلب جلاء بالکسر- و جلوت الیهود عن المدینه جلاء بالفتح- . و الوقره الثقل فی الأذن- و العشوه بالفتح فعله من العشا فی العین- و آلاؤه نعمه- . فإن قلت أی معنى تحت قوله عزت آلاؤه- و عزت بمعنى قلت- و هل یجوز مثل ذلک فی تعظیم الله- . قلت عزت هاهنا لیس بمعنى قلت- و لکن بمعنى کرمت و عظمت- تقول منه عززت على فلان بالفتح- أی کرمت علیه و عظمت عنده- و فلان عزیز علینا أی کریم معظم- .

و البرهه من الدهر المده الطویله و یجوز فتح الباء- . و أزمان الفترات ما یکون منها بین النوبتین- . و ناجاهم فی فکرهم ألهمهم- بخلاف مناجاه الرسل ببعث الملائکه إلیهم- و کذلک و کلمهم فی ذات عقولهم فاستصبحوا بنور یقظه- صار ذلک النور مصباحا لهم یستضیئون به- .

قوله من أخذ القصد حمدوا إلیهم طریقه- إلى هاهنا هی التی فی قولهم أحمد الله إلیک- أی منهیا ذلک إلیک أو مفضیا به إلیک و نحو ذلک- و طریقه العرب فی الحذف فی مثل هذا معلومه- قال سبحانه وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْکُمْ مَلائِکَهً- أی لجعلنا بدلا منکم ملائکه- و قال الشاعر-

فلیس لنا من ماء زمزم
شربه مبرده بانت على طهیان‏

أی عوضا من ماء زمزم- . قوله و من أخذ یمینا و شمالا أی ضل عن الجاده- . و إلى فی قوله ذموا إلیه الطریق مثل إلى الأولى- . و یهتفون بالزواجر یصوتون بها- هتفت الحمامه تهتف هتفا و هتف زید بالغنم هتافا بالکسر- و قوس هتافه و هتفى أی ذات صوت- . و القسط العدل و یأتمرون به یمتثلون الأمر- . و قوله فکأنما قطعوا الدنیا إلى الآخره- إلى قوله و یسمعون ما لا یسمعون- هو شرحقوله عن نفسه ع لو کشف الغطاء ما ازددت یقینا- . و الأوزار الذنوب و النشیج صوت البکاء- و المقعد موضع القعود- .

و ید قارعه تطرق باب الرحمه و هذا الکلام مجاز- . و المنادح المواضع الواسعه- . و على فی قوله و لا یخیب علیه الراغبون- متعلقه بمحذوف مثل إلى المتقدم ذکرها- و التقدیر نادمین علیه- . و الحسیب المحاسب- . و اعلم أن هذا الکلام فی الظاهر- صفه حال القصاص و المتصدین لإنکار المنکرات- أ لا تراه یقول یذکرون بأیام الله- أی بالأیام التی کانت فیها النقمه بالعصاه- و یخوفون مقامه من قوله تعالى- وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ- ثم قال فمن سلک القصد حمدوه- و من عدل عن الطریق ذموا طریقه و خوفوه الهلاک- ثم قال یهتفون بالزواجر عن المحارم فی أسماع الغافلین- و یأمرون بالقسط و ینهون عن المنکر- .

و هذا کله إیضاح لما قلناه أولا- إن ظاهر الکلام شرح حال القصاص- و أرباب المواعظ فی المجامع و الطرقات- و المتصدین لإنکار القبائح- و باطن الکلام شرح حال العارفین- الذین هم صفوه الله تعالى من خلقه- و هو ع دائما یکنی عنهم و یرمز إلیهم- على أنه فی هذا الموضع قد صرح بهم فی قوله- حتى کأنهم یرون ما لا یرى الناس- و یسمعون ما لا یسمعون- . و قد ذکر من مقامات العارفین فی هذا الفصل الذکر- و محاسبه النفس و البکاء و النحیب- و الندم و التوبه و الدعاء و الفاقه و الذله- و الحزن و هو الأسى الذی ذکر أنه جرح قلوبهم بطوله‏

بیان أحوال العارفین

و قد کنا وعدنا بذکر مقامات العارفین فیما تقدم- و هذا موضعه فنقول- إن أول مقام من مقامات العارفین- و أول منزل من منازل السالکین التوبه- قال الله تعالى وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِیعاً أَیُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ وقال النبی ص التائب من الذنب کمن لا ذنب له وقال علی ع ما من شی‏ء أحب إلى الله من شاب تائب- .

و التوبه فی عرف أرباب هذه الطریقه- الندم على ما عمل من المخالفه- و ترک الزله فی الحال- و العزم على ألا یعود إلى ارتکاب معصیه- و لیس الندم وحده عند هؤلاء توبه- و إن جاءفی الخبر الندم توبه- لأنه على وزان قوله ع الحج عرفه- لیس على معنى أن غیرها لیس من الأرکان- بل المراد أنه أکبر الأرکان و أهمها- و منهم من قال یکفی الندم وحده- لأنه یستتبع الرکنین الآخرین- لاستحاله کونه نادما على ما هو مصر على مثله- أو ما هو عازم على الإتیان بمثله- .

قالوا و للتوبه شروط و ترتیبات- فأول ذلک انتباه القلب من رقد الغفله- و رؤیه العبد ما هو علیه من سوء الحاله- و إنما یصل إلى هذه الجمله بالتوفیق للإصغاء- إلى ما یخطر بباله من زواجر الحق سبحانه یسمع قلبه- فإنفی الخبر النبوی عنه ص واعظ کل حال الله فی قلب کل امرئ مسلموفی الخبر أن فی بدن المرء لمضغه- إذا صلحت صلح جمیع البدن ألا و هی القلب- و إذا فسدت فسد جمیع البدن ألا و هی القلب- .و إذا فکر العبد بقلبه فی سوء صنیعه- و أبصر ما هو علیه من ذمیم الأفعال- سنحت فی قلبه إراده التوبه و الإقلاع عن قبیح المعامله- فیمده الحق سبحانه بتصحیح العزیمه- و الأخذ فی طرق الرجوع و التأهب لأسباب التوبه- .

و أول ذلک هجران إخوان السوء- فإنهم الذین یحملونه على رد هذا القصد- و عکس هذا العزم- و یشوشون علیه صحه هذه الإراده- و لا یتم ذلک له إلا بالمواظبه على المشاهد- و المجالس التی تزیده رغبه فی التوبه- و توفر دواعیه إلى إتمام ما عزم علیه- مما یقوی خوفه و رجاءه- فعند ذلک تنحل عن قلبه عقده الإصرار- على ما هو علیه من قبیح الفعال- فیقف عن تعاطی المحظورات- و یکبح نفسه بلجام الخوف عن متابعه الشهوات- فیفارق الزله فی الحال- و یلزم العزیمه على ألا یعود إلى مثلها فی الاستقبال- فإن مضى على موجب قصده و نفذ على مقتضى عزمه- فهو الموفق حقا- و إن نقض التوبه مره أو مرات-

ثم حملته إرادته على تجدیدها- فقد یکون مثل هذا کثیرا- فلا ینبغی قطع الرجاء عن توبه أمثال هؤلاء- فإن لکل أجل کتابا- و قد حکی عن أبی سلیمان الدارانی أنه قال- اختلفت إلى مجلس قاص فأثر کلامه فی قلبی- فلما قمت لم یبق فی قلبی شی‏ء- فعدت ثانیا فسمعت کلامه- فبقی من کلامه فی قلبی أثر فی الطریق ثم زال- ثم عدت ثالثا فوقر کلامه فی قلبی- و ثبت حتى رجعت إلى منزلی- و کسرت آلات المخالفه و لزمت الطریق- . و حکیت هذه الحکایه لیحیی بن معاذ- فقال عصفور اصطاد کرکیا- یعنی بالعصفور القاص و بالکرکی أبا سلیمان- .

و یحکی أن أبا حفص الحداد ذکر بدایته- فقال ترکت ذلک العمل یعنی المعصیه- کذا و کذا مره ثم عدت إلیها- ثم ترکنی العمل فلم أعد إلیه- .و قیل إن بعض المریدین تاب- ثم وقعت له فتره و کان یفکر و یقول- أ ترى لو عدت إلى التوبه کیف کان یکون حکمی- فهتف به هاتف یا فلان أطعتنا فشکرناک- ثم ترکتنا فأمهلناک- و إن عدت إلینا قبلناک فعاد الفتى إلى الإراده- . و قال أبو علی الدقاق التوبه على ثلاثه أقسام- فأولها التوبه و أوسطها الإنابه و آخرها الأوبه- فجعل التوبه بدایه و الأوبه نهایه و الإنابه واسطه بینهما- و المعنى أن من تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبه- و من تاب طمعا فی الثواب فهو صاحب الإنابه- و من تاب مراعاه للأمر فقط فهو صاحب الأوبه- .

و قال بو علی أیضا التوبه صفه المؤمنین- قال سبحانه وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِیعاً أَیُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- و الإنابه صفه الأولیاء- قال سبحانه وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِیبٍ- و الأوبه صفه الأنبیاء- قال سبحانه نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ- . و قال الجنید دخلت على السری یوما فوجدته متغیرا- فسألته فقال دخل علی شاب فسألنی عن التوبه- فقلت ألا تنسى ذنبک- فقال بل التوبه ألا تذکر ذنبک- قال الجنید فقلت له إن الأمر عندی ما قاله الشاب- قال کیف قلت لأنی إذا کنت فی حال الجفاء- فنقلنی إلى حال الصفاء- فذکر الجفاء فی حال الصفاء جفاء- فسکت السری- . و قال ذو النون المصری- الاستغفار من غیر إقلاع توبه الکذابین- . و سئل البوشنجی عن التوبه- فقال إذا ذکرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذکره- فذاک حقیقه التوبه- .

و قال ذو النون- حقیقه التوبه أن تضیق علیک الأرض بما رحبت- حتى لا یکون لک قرار ثم تضیق علیک نفسک- کما أخبر الله تعالى فی کتابه- بقوله حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَیْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ- وَ ضاقَتْ عَلَیْهِمْ أَنْفُسُهُمْ- وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَیْهِ ثُمَّ تابَ عَلَیْهِمْ- . و قیل لأبی حفص الحداد لم تبغض الدنیا- فقال لأنی باشرت فیها الذنوب- قیل فهلا أحببتها لأنک وفقت فیها للتوبه- فقال أنا من الذنب على یقین- و من هذه التوبه على ظن- . و قال رجل لرابعه العدویه- إنی قد أکثرت من الذنوب و المعاصی- فهل یتوب علی أن تبت- قالت لا بل لو تاب علیک لتبت- .

قالوا و لما کان الله تعالى یقول فی کتابه العزیز- إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ- دلنا ذلک على محبته لمن صحت له حقیقه التوبه- و لا شبهه أن من قارف الزله فهو من خطئه على یقین- فإذا تاب فإنه من القبول على شک- لا سیما إذا کان من شرط القبول محبه الحق سبحانه له- و إلى أن یبلغ العاصی محلا- یجد فی أوصافه أماره محبه الله تعالى إیاه مسافه بعیده- فالواجب إذا على العبد- إذا علم أنه ارتکب ما یجب عنه التوبه دوام الانکسار- و ملازمه التنصل و الاستغفار- کما قیل استشعار الوجل إلى الأجل- .

و کان من سنته ع دوام الاستغفار- و قال إنه لیغان على قلبی فاستغفر الله فی الیوم سبعین مره- .و قال یحیى بن معاذ- زله واحده بعد التوبه أقبح من سبعین قبلها- . و یحکی أن علی بن عیسى الوزیر رکب فی موکب عظیم- فجعل الغرباء یقولون من هذا من هذا- فقالت امرأه قائمه على السطح- إلى متى تقولون من هذا من هذا- هذا عبد سقط من عین الله فابتلاه بما ترون- فسمع علی بن عیسى کلامها فرجع إلى منزله- و لم یزل یتوصل فی الاستعفاء من الوزاره حتى أعفی- و ذهب إلى مکه فجاور بها- .

و منها المجاهد و قد قلنا فیها ما یکفی فیما تقدم- . و منها العزله و الخلوه- و قد ذکرنا فی جزء قبل هذا الجزء- مما جاء فی ذلک طرفا صالحا و منها التقوى و هی الخوف من معصیه الله- و من مظالم العباد- قال سبحانه إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ وقیل إن رجلا جاء إلى رسول الله ص- فقال یا رسول الله أوصنی- فقال علیک بتقوى الله فإنه جماع کل خیر- و علیک بالجهاد فإنه رهبانیه المسلم- و علیک بذکر الله فإنه نور لک- . و قیل فی تفسیر قوله تعالى اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ- أن یطاع فلا یعصى- و یذکر فلا ینسى و یشکر فلا یکفر- .

و قال النصرآباذی- من لزم التقوى بادر إلى مفارقه الدنیا- لأن الله تعالى یقول وَ لَدارُ الْآخِرَهِ خَیْرٌ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا- . و قیل یستدل على تقوى الرجل بثلاث- التوکل فیما لم ینل و الرضا بما قد نال- و حسن الصبر على ما فات- . و کان یقال- من کان رأس ماله التقوى کلت الألسن عن وصف ربحه- .

و قد حکوا من حکایات المتقین شیئا کثیرا- مثل ما یحکى عن ابن سیرین- أنه اشترى أربعین حبا سمنا- فأخرج غلامه فأره من حب- فسأله من أی حب أخرجها- قال لا أدری فصبها کلها- . و حکی أن أبا یزید البسطامی غسل ثوبه فی الصحراء- و معه مصاحب له- فقال صاحبه نضرب هذا الوتد فی جدار هذا البستان- و نبسط الثوب علیه- فقال لا یجوز ضرب الوتد فی جدار الناس- قال فنعلقه على شجره حتى یجف قال یکسر الأغصان- فقال نبسطه على الإذخر- قال إنه علف الدواب لا یجوز أن نستره منها- فولى ظهره قبل الشمس- و جعل القمیص على ظهره حتى جف أحد جانبیه- ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر- . و منها الورع و هو اجتناب الشبهات- وقال ص لأبی هریره کن ورعا تکن أعبد الناسو قال بو بکر کنا ندع سبعین بابا من الحلال- مخافه أن نقع فی باب واحد من الحرام- .

و کان یقال- الورع فی المنطق أشد منه فی الذهب و الفضه- و الزهد فی الرئاسه أشد منه فی الذهب و الفضه- لأنک تبذلهما فی طلب الرئاسه- . و قال أبو عبد الله الجلاء- أعرف من أقام بمکه ثلاثین سنه- لم یشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه برکوته و رشائه- . و قال بشر بن الحارث أشد الأعمال ثلاثه- الجود فی القله و الورع فی الخلوه- و کلمه الحق عند من یخاف و یرجى- .

و یقال إن أخت بشر بن الحارث- جاءت إلى أحمد بن حنبل- فقالت إنا نغزل على سطوحنا- فتمر بنا مشاعل الطاهریه فیقع شعاعها علینا- أ فیجوز لنا الغزل فی ضوئها- فقال أحمد من أنت یا أمه الله- قالت أخت بشر الحافی فبکى أحمد- و قال من بیتکم خرج الورع- لا تغزلی فی ضوء مشاعلهم- . و حکى بعضهم- قال مررت بالبصره فی بعض الشوارع- فإذا بمشایخ قعود و صبیان یلعبون- فقلت أ ما تستحیون من هؤلاء المشایخ- فقال غلام من بینهم هؤلاء المشایخ قل ورعهم- فقلت هیبتهم- . و یقال إن مالک بن دینار مکث بالبصره أربعین سنه- ما صح له أن یأکل من تمر البصره و لا من رطبها- حتى مات و لم یذقه- و کان إذا انقضى أوان الرطب- یقول یا أهل البصره هذا بطنی ما نقص منه شی‏ء- سواء علی أکلت من رطبکم أو لم آکل- .

و قال الحسن مثقال ذره من الورع- خیر من ألف مثقال من الصوم و الصلاه- . و دخل الحسن مکه- فرأى غلاما من ولد علی بن أبی طالب- قد أسند ظهره إلى‏الکعبه و هو یعظ الناس- فقال له الحسن ما ملاک الدین قال الورع- قال فما آفته قال الطمع- فجعل الحسن یتعجب منه- . و قال سهل بن عبد الله- من لم یصحبه الورع أکل رأس الفیل و لم یشبع- . و حمل إلى عمر بن عبد العزیز مسک من الغنائم- فقبض على مشمه و قال إنما ینتفع من هذا بریحه- و أنا أکره أن أجد ریحه دون المسلمین- .

و سئل أبو عثمان الحریری عن الورع- فقال کان أبو صالح بن حمدون عند صدیق له و هو فی النزع- فمات الرجل فنفث أبو صالح فی السراج فأطفأه- فقیل له فی ذلک- فقال إلى الآن کان الدهن الذی فی المسرجه له- فلما مات صار إلى الورثه- . و منها الزهد و قد تکلموا فی حقیقته- فقال سفیان الثوری الزهد فی الدنیا قصر الأمل- . و قال الخواص الزهد أن تترک الدنیا فلا تبالی من أخذها- .

و قال أبو سلیمان الدارانی- الزهد ترک کل ما یشغل عن الله- . و قیل الزهد تحت کلمتین من القرآن العزیز- لِکَیْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَکُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاکُمْ- . و کان یقال من صدق فی زهده أتته الدنیا و هی راغمه- و لهذا قیل لو سقطت قلنسوه من السماء- لما وقعت إلا على رأس من لا یریدها- . و قال یحیى بن معاذ الزهد یسعطک الخل و الخردل- و العرفان یشمک المسک و العنبر- .

و قیل لبعضهم ما الزهد فی الدنیا- قال ترک ما فیها على من فیها- . و قال رجل لذی النون المصری- متى ترانی أزهد فی الدنیا- قال إذا زهدت فی نفسک- . و قال رجل لیحیی بن معاذ- متى ترانی أدخل حانوت التوکل- و ألبس رداء الزهد و أقعد بین الزاهدین- فقال إذا صرت من ریاضتک لنفسک فی السر إلى حد- لو قطع الله عنک القوت ثلاثه أیام- لم تضعف فی نفسک و لا فی یقینک- فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجه- فقعودک على بساط الزاهدین جهل- ثم لا آمن أن تفتضح- . و قال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثه أوجه- ترک الحرام و هو زهد العوام- و ترک الفضول من الحلال و هو زهد الخواص- و ترک کل ما یشغلک عن الله و هو زهد العارفین- .

و قال یحیى بن معاذ الدنیا کالعروس- فطالبها کماشطتها تحسن وجهها و تعطر ثوبها- و الزاهد فیها کضرتها تسخم وجهها- و تنتف شعرها و تحرق ثوبها- و العارف مشتغل بالله لا یلتفت إلیها و لا یشعر بها- . و کان النصرآباذی یقول فی مناجاته- یا من حقن دماء الزاهدین- و سفک دماء العارفین- . و کان یقال إن الله تعالى جعل الخیر کله فی بیت- و جعل مفتاحه الزهد- و جعل الشر کله فی بیت و جعل مفتاحه حب الدنیا- . و منها الصمت- و قدمنا فیما سبق من الأجزاء نکتا نافعه فی هذا المعنى- و نذکر الآن شیئا آخر-قال رسول الله ص من کان یؤمن بالله و الیوم الآخر فلا یؤذین جاره- و من کان یؤمن بالله و الیوم الآخر فلیکرم ضیفه- و من کان یؤمن بالله و الیوم الآخر فلیقل خیرا أو فلیصمت- .

و قال أصحاب هذا العلم الصمت من آداب الحضره- قال الله تعالى- وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا- . و قال مخبرا عن الجن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا- . و قال الله تعالى مخبرا عن یوم القیامه- وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً- . و قالوا کم بین عبد سکت تصونا عن الکذب و الغیبه- و عبد سکت لاستیلاء سلطان الهیبه- . و أنشدوا-أرتب ما أقول إذا افترقنا و أحکم دائما حجج المقال‏فأنساها إذا نحن التقیناو أنطق حین أنطق بالمحال‏- . و أنشدوا-

فیا لیل کم من حاجه لی مهمه
إذا جئتکم لم أدر باللیل ماهیا

قالوا و ربما کان سبب الصمت و السکوت حیره البدیهه- فإنه إذا ورد کشف بغته- خرست العبارات عند ذلک فلا بیان و لا نطق- و طمست الشواهد فلا علم و لا حس- قال الله تعالى- یَوْمَ یَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَیَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ- قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّکَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُیُوبِ- فأما إیثار أرباب المجاهده الصمت- فلما علموا فی الکلام من الآفات- ثم ما فیه من حط النفس و إظهار صفات المدح- و المیل إلى أن یتمیز من بین أشکاله بحسن النطق- و غیر ذلک من ضروب آفات الکلام- و هذا نعت أرباب‏الریاضه- و هو أحد أرکانهم فی حکم مجاهده النفس- و منازلتها و تهذیب الأخلاق- .

و یقال إن داود الطائی لما أراد أن یقعد فی بیته- اعتقد أن یحضر مجلس أبی حنیفه- لأنه کان تلمیذا له و یقعد بین أضرابه من العلماء- و لا یتکلم فی مسأله على سبیل ریاضته نفسه- فلما قویت نفسه على ممارسه هذه الخصله سنه کامله- قعد فی بیته عند ذلک و آثر العزله- .

و یقال إن عمر بن عبد العزیز- کان إذا کتب کتابا فاستحسن لفظه- مزق الکتاب و غیره- . و قال بشر بن الحارث- إذا أعجبک الکلام فاصمت فإذا أعجبک الصمت فتکلم- و قال سهل بن عبد الله- لا یصح لأحد الصمت حتى یلزم نفسه الخلوه- و لا یصح لأحد التوبه حتى یلزم نفسه الصمت- . و منها الخوف- قال الله تعالى یَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً- . و قال تعالى وَ إِیَّایَ فَارْهَبُونِ- .

و قال یَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ- . أبو علی الدقاق- الخوف على مراتب خوف و خشیه و هیبه- . فالخوف من شروط الإیمان و قضایاه- قال الله تعالى فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ- .و الخشیه من شروط العلم- قال الله تعالى إِنَّما یَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ- .و الهیبه من شروط المعرفه- قال سبحانه وَ یُحَذِّرُکُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ- .

و قال أبو عمر الدمشقی- الخائف من یخاف من نفسه- أکثر مما یخاف من الشیطان- . و قال بعضهم من خاف من شی‏ء هرب منه- و من خاف الله هرب إلیه- . و قال أبو سلیمان الدارانی- ما فارق الخوف قلبا إلا خرب و منها الرجاء- و قد قدمنا فیما قبل من ذکر الخوف و الرجاء طرفا صالحا- قال سبحانه مَنْ کانَ یَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ- . و الفرق بین الرجاء و التمنی- و کون أحدهما محمودا و الآخر مذموما- أن التمنی ألا یسلک طریق الاجتهاد و الجد- و الرجاء بخلاف ذلک- فلهذا کان التمنی یورث صاحبه الکسل- .

و قال أبو علی الروذباری- الرجاء و الخوف کجناحی الطائر- إذا استویا استوى الطائر و تم طیرانه- و إذا نقص أحدهما وقع فیه النقص- و إذا ذهبا صار الطائر فی حد الموت- . و قال أبو عثمان المغربی من حمل نفسه على الرجاء تعطل- و من حمل نفسه على الخوف قنط- و لکن من هذا مره و من هذا مره- . ومن کلام یحیى بن معاذ و یروى عن علی بن الحسین ع یکاد رجائی لک مع الذنوب- یغلب رجائی لک مع الأعمال- لأنی أجدنی أعتمد فی الأعمال على‏ الإخلاص- و کیف أحرزها و أنا بالآفه معروف- و أجدنی فی الذنوب أعتمد على عفوک- و کیف لا تغفرها و أنت بالجود موصوف- . و منها الحزن و هو من أوصاف أهل السلوک- .

و قال أبو علی الدقاق- صاحب الحزن یقطع من طریق الله فی شهر- ما لا یقطعه من فقد الحزن فی سنتین- .فی الخبر النبوی ص إن الله یحب کل قلب حزین- . و فی بعض کتب النبوات القدیمه- إذا أحب الله عبدا نصب فی قلبه نائحه- و إذا أبغض عبدا جعل فی قلبه مزمارا- .

و روی أن رسول الله ص کان متواصل الأحزان- دائم الفکر- . و قیل إن القلب إذا لم یکن فیه حزن خرب- کما أن الدار إذا لم یکن فیها ساکن خربت- . و سمعت رابعه رجلا یقول وا حزناه- فقالت قل وا قله حزناه- لو کنت محزونا ما تهیأ لک أن تتنفس- . و قال سفیان بن عیینه لو أن محزونا بکى فی أمه- لرحم الله تلک الأمه ببکائه- . و کان بعض هؤلاء القوم- إذا سافر واحد من أصحابه یقول- إذا رأیت محزونا فأقرئه عنی السلام- . و کان الحسن البصری لا یراه أحد- إلا ظن أنه حدیث عهد بمصیبه- . و قال وکیع یوم مات الفضیل ذهب الحزن الیوم من الأرض- . و قال بعض السلف- أکثر ما یجده المؤمن- فی صحیفته من الحسنات الحزن و الهم- .

و قال الفضیل- أدرکت السلف یقولون- إن لله فی کل شی‏ء زکاه- و زکاه العقل طول الحزن- . و منها الجوع و ترک الشهوات و قد تقدم ذکر ذلک- . و منها الخشوع و التواضع قال سبحانه- الَّذِینَ هُمْ فِی صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ و
فی الخبر النبوی عنه ص لا یدخل الجنه من فی قلبه مثقال ذره من کبر- و لا یدخل النار من فی قلبه مثقال ذره من إیمان- فقال رجل یا رسول الله- إن المرء لیحب أن یکون ثوبه حسنا- فقال إن الله جمیل یحب الجمال- إنما المتکبر من بطر الحق و غمص الناس وروى أنس بن مالک أن رسول الله ص- کان یعود المریض و یشیع الجنائز- و یرکب الحمار و یجیب دعوه العبد- . و کان یوم قریظه و النضیر على حمار- مخطوم بحبل من لیف- علیه إکاف من لیف- .

و دخل مکه یوم فتحها راکب بعیر برحل خلق- و إن ذقنه لتمس وسط الرحل خضوعا لله تعالى و خشوعا- و جیشه یومئذ عشره آلاف- . قالوا فی حد الخشوع هو الانقیاد للحق- و فی التواضع هو الاستسلام و ترک الاعتراض على الحکم- . و قال بعضهم- الخشوع قیام القلب بین یدی الحق بهم مجموع- . و قال حذیفه بن الیمان- أول ما تفقدون من دینکم الخشوع- .

و کان یقال من علامات الخشوع- أن العبد إذا أغضب أو خولف أو رد علیه- استقبل ذلک بالقبول- . و قال محمد بن علی الترمذی- الخاشع من خمدت نیران شهوته- و سکن دخان صدره- و أشرق نور التعظیم فی قلبه- فماتت حواسه و حیی قلبه- و تطامنت جوارحه- . و قال الحسن- الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب- . و قال الجنید- الخشوع تذلل القلوب لعلام الغیوب- قال الله تعالى- وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِینَ یَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً- أی خاشعون متواضعون- . و رأی بعضهم رجلا منقبض الظاهر- منکسر الشاهد- قد زوی منکبیه- فقال یا فلان الخشوع هاهنا- و أشار إلى صدره لا هاهنا- و أشار إلى منکبیه- .

وروی أن رسول الله ص رأى رجلا- یعبث بلحیته فی صلاته- فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه- . و قیل شرط الخشوع فی الصلاه- ألا یعرف من على یمینه و لا من على شماله- . و قال بعض الصوفیه- الخشوع قشعریره ترد على القلب بغته- عند مفاجأه کشف الحقیقه- . و کان یقال- من لم یتضع عند نفسه لم یرتفع عند غیره- . و قیل إن عمر بن عبد العزیز لم یکن یسجد إلا على التراب- .

و کان عمر بن الخطاب یسرع فی المشی- و یقول هو أنجح للحاجه و أبعد من الزهو- . کان رجاء بن حیوه لیله- عند عمر بن عبد العزیز و هو خلیفه- فصعف المصباح فقام رجل لیصلحه- فقال اجلس- فلیس من الکرم أن یستخدم المرء ضیفه- فقال‏أنبه الغلام- قال إنها أول نومه نامها- ثم قام بنفسه فأصلح السراج- فقال رجاء أ تقوم إلى السراج و أنت أمیر المؤمنین- قال قمت و أنا عمر بن عبد العزیز- و رجعت و أنا عمر بن عبد العزیز- .

وفی حدیث أبی سعید الخدری أن رسول الله ص کان یعلف البعیر و یقم البیت- و یخصف النعل و یرقع الثوب- و یحلب الشاه و یأکل مع الخادم- و یطحن معها إذا أعیت- و کان لا یمنعه الحیاء أن یحمل بضاعته- من السوق إلى منزل أهله- و کان یصافح الغنی و الفقیر و یسلم مبتدئا- و لا یحقر ما دعی إلیه و لو إلى حشف التمر- و کان هین المئونه لین الخلق- کریم السجیه جمیل المعاشره- طلق الوجه بساما من غیر ضحک- محزونا من غیر عبوس- متواضعا من غیر ذله- جوادا من غیر سرف- رقیق القلب رحیما لکل مسلم- ما تجشأ قط من شبع- و لا مد یده إلى طبع- .

و قال الفضیل- أوحى الله إلى الجبال- أنی مکلم على واحد منکم نبیا- فتطاولت الجبال و تواضع طور سیناء- فکلم الله علیه موسى لتواضعه- . سئل الجنید عن التواضع- فقال خفض الجناح و لین الجانب- . ابن المبارک- التکبر على الأغنیاء- و التواضع للفقراء من التواضع- . و قیل لأبی یزید متى یکون الرجل متواضعا- قال إذا لم یر لنفسه مقاما و لا حالا- و لا یرى أن فی الخلق من هو شر منه- . و کان یقال التواضع نعمه لا یحسد علیها- و التکبر محنه لا یرحم منها- و العز فی التواضع فمن طلبه فی الکبر لم یجده- . و کان یقال الشرف فی التواضع- و العز فی التقوى و الحریه فی القناعه- . یحیى بن معاذ التواضع حسن فی کل أحد- لکنه فی الأغنیاء أحسن- و التکبر سمج فی کل أحد- و لکنه فی الفقراء أسمج- .

و رکب زید بن ثابت- فدنا ابن عباس لیأخذ برکابه- فقال مه یا ابن عم رسول الله- فقال إنا کذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا- فقال زید أرنی یدک فأخرجها فقبلها- فقال هکذا أمرنا أن نفعل بأهل بیت نبینا- . و قال عروه بن الزبیر- رأیت عمر بن الخطاب علیه رضوان الله تعالى- و على عاتقه قربه ماء- فقلت یا أمیر المؤمنین- إنه لا ینبغی لمثلک هذا- فقال إنه لما أتتنی الوفود سامعه مهادنه- دخلت نفسی نخوه- فأحببت أن أکسرها- و مضى بالقربه إلى حجره امرأه من الأنصار- فأفرغها فی إنائها- . أبو سلیمان الدارانی- من رأى لنفسه قیمه- لم یذق حلاوه الخدمه- .

یحیى بن معاذ التکبر على من تکبر علیک تواضع- . بشر الحافی- سلموا على أبناء الدنیا بترک السلام علیهم بلغ عمر بن عبد العزیز- أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم- فکتب إلیه- بلغنی أنک اشتریت خاتما و فصه بألف درهم- فإذا أتاک کتابی فبع الخاتم- و أشبع به ألف بطن- و اتخذ خاتما من درهمین- و اجعل فصه حدیدا صینیا- و اکتب علیه رحم الله امرأ عرف قدره- . قومت ثیاب عمر بن عبد العزیز- و هو یخطب أیام خلافته باثنی عشر درهما- و هی قباء و عمامه و قمیص و سراویل- و رداء و خفان و قلنسوه- .

و قال إبراهیم بن أدهم- ما سررت قط سروری فی أیام ثلاثه- کنت فی سفینه و فیها رجل مضحک- کان یلعب لأهل السفینه- فیقول کنا نأخذ العلج من بلاد الترک هکذا- و یأخذ بشعر رأسی فیهزنی فسرنی ذلک- لأنه لم یکن فی تلک السفینه أحقر منی فی عینه- و کنت علیلا فی مسجد- فدخل المؤذن و قال اخرج فلم أطق- فأخذ برجلی و جرنی إلى خارج المسجد- و کنت بالشام و علی فرو- فنظرت إلیه فلم أمیز بین الشعر- و بین القمل لکثرته- . عرض على بعض الأمراء مملوک بألوف من الدراهم- فاستکثر الثمن- فقال العبد اشترنی یا مولای- ففی خصله تساوی أکثر من هذا الثمن- قال ما هی- قال لو قدمتنی على جمیع ممالیک- و خولتنی بکل مالک- لم أغلظ فی نفسی- بل أعلم أنی عبدک فاشتراه- .

تشاجر أبو ذر و بلال- فعیر أبو ذر بلالا بالسواد- فشکاه إلى رسول الله ص- فقال یا أبا ذر- ما علمت أنه قد بقی فی قلبک شی‏ء- من کبر الجاهلیه- فألقى أبو ذر نفسه- و حلف ألا یحمل رأسه- حتى یطأ بلال خده بقدمه- فما رفع رأسه حتى فعل بلال ذلکمر الحسن بن علی ع بصبیان یلعبون- و بین أیدیهم کسر خبز یأکلونها- فدعوه فنزل و أکل معهم- ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم و کساهم- و قال الفضل لهم- لأنهم لم یجدوا غیر ما أطعمونی- و نحن نجد أکثر مما أطعمناهم- .

و منها مخالفه النفس- و ذکر عیوبها و قد تقدم ذکر ذلک- . و منها القناعه قال الله تعالى- مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثى‏- وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیاهً طَیِّبَهً- قال کثیر من المفسرین هی القناعه- . وفی الحدیث النبوی و یقال إنه من کلام أمیر المؤمنین ع القناعه کنز لا ینفدوفی الحدیث النبوی أیضا کن ورعا تکن أعبد الناس- و کن قنوعا تکن أشکر الناس- و أحب للناس ما تحب لنفسک تکن مؤمنا- و أحسن مجاوره من جاورک تکن مسلما- و أقل الضحک فإن کثره الضحک تمیت القلب- . و کان یقال الفقراء أموات- إلا من أحیاه الله تعالى بعز القناعه- .

و قال أبو سلیمان الدارانی- القناعه من الرضا بمنزله الورع من الزهد- هذا أول الرضا و هذا أول الزهد- . و قیل القناعه سکون النفس- و عدم انزعاجها عند عدم المألوفات- . و قیل فی تفسیر قوله تعالى- لَیَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أنه القناعه- . و قال أبو بکر المراغی- العاقل من دبر أمر الدنیا بالقناعه و التسویف- و أنکر أبو عبد الله بن خفیف- فقال القناعه ترک التسویف بالمفقود- و الاستغناء بالموجود- . و کان یقال خرج العز و الغنى یجولان- فلقیا القناعه فاستقرا- . و کان یقال- من کانت قناعته سمینه طابت له کل مرقه- . مر أبو حازم الأعرج بقصاب- فقال له خذ یا أبا حازم- فقال لیس معی درهم قال أنا أنظرک- قال نفسی أحسن نظره لی منک- .

و قیل وضع الله تعالى خمسه أشیاء فی خمسه مواضع- العز فی الطاعه و الذل فی المعصیه- و الهیبه فی قیام اللیل- و الحکمه فی البطن الخالی- و الغنى فی القناعه- . و کان یقال انتقم من فلان بالقناعه- کما تنتقم من قاتلک بالقصاص- . ذو النون المصری- من قنع استراح من أهل زمانه- و استطال على أقرانه- . و أنشدوا-

و أحسن بالفتى من یوم عار
ینال به الغنى کرم و جوع‏

و رأى رجل حکیما یأکل- ما تساقط من البقل على رأس الماء- فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أکل هذا- فقال و أنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمه السلطان- . و قیل العقاب عزیز فی مطاره- لا تسمو إلیه مطامع الصیادین- فإذا طمع فی جیفه علقت على حباله- نزل من مطاره فنشب فی الأحبوله- . و قیل لما نطق موسى بذکر الطمع- فقال لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَیْهِ أَجْراً- قال له الخضر هذا فِراقُ بَیْنِی وَ بَیْنِکَ- و فسر بعضهم قوله هَبْ لِی مُلْکاً- لا یَنْبَغِی لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِی- فقال مقاما فی القناعه لا یبلغه أحد- .

و منها التوکل- قال الله تعالى وَ مَنْ یَتَوَکَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ- و قال سهل بن عبد الله- أول مقام فی التوکل- أن یکون العبد بین یدی الله تعالى- کالمیت بین یدی الغاسل- یقلبه کیف یشاء- لا یکون له حرکه و لا تدبیر- . و قال رجل لحاتم الأصم من أین تأکل- فقال وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- وَ لکِنَّ الْمُنافِقِینَ لا یَفْقَهُونَ- . و قال أصحاب هذا الشأن التوکل بالقلب- و لیس ینافیه الحرکه بالجسد- بعد أن یتحقق العبد أن التقدیر من الله- فإن تعسر شی‏ء فبتقدیره- و أن تسهل فبتیسیره- .

وفی الخبر النبوی أنه ع قال للأعرابی- الذی ترک ناقته مهمله فندت- فلما قیل له قال توکلت فترکتها- فقال ع اعقل و توکل- . و قال ذو النون التوکل الانخلاع من الحول و القوه- و ترک تدبیر الأسباب- و قال بعضهم- التوکل رد العیش إلى یوم واحد بإسقاط هم غد- .

و قال أبو علی الدقاق- التوکل ثلاث درجات- التوکل و هو أدناها- ثم التسلیم ثم التفویض- فالأولى للعوام و الثانیه للخواص- و الثالثه لخواص الخواص- . جاء رجل إلى الشبلی یشکو إلیه کثره العیال- فقال ارجع إلى بیتک- فمن وجدت منهم لیس رزقه على الله- فأخرجه من البیت- . و قال سهل بن عبد الله- من طعن فی التوکل فقط طعن فی الإیمان- و من طعن فی الحرکه فقد طعن فی السنه- . و کان یقال المتوکل کالطفل- لا یعرف شیئا یأوی إلیه إلا ثدی أمه- کذلک المتوکل لا یهتدی إلا إلى ربه- .

و رأى أبو سلیمان الدارانی رجلا بمکه- لا یتناول شیئا إلا شربه من ماء زمزم- فمضت علیه أیام فقال له یوما- أ رأیت لو غارت أی زمزم- أی شی‏ء کنت تشرب- فقام و قبل رأسه- و قال جزاک الله خیرا حیث أرشدتنی- فإنی کنت أعبد زمزم منذ أیام ثم ترکه و مضى- . و قیل التوکل نفی الشکوک- و التفویض إلى مالک الملوک- . و دخل جماعه على الجنید- فقالوا نطلب الرزق- قال إن علمتم فی أی موضع هو فاطلبوه- قالوا فنسأل الله ذلک- قال إن علمتم أنه ینساکم فذکروه- قالوا لندخل البیت فنتوکل- قال التجربه شک- قالوا فما الحیله قال ترک الحیله- .

و قیل التوکل الثقه بالله- و الیأس عما فی أیدی الناس- . و منها الشکر- و قد تقدم منا ذکر کثیر مما قیل فیه- . و منها الیقین و هو مقام جلیل- قال الله تعالى وَ بِالْآخِرَهِ هُمْ یُوقِنُونَ وقال علی بن أبی طالب ع لو کشف الغطاء ما ازددت یقینا- . و قال سهل بن عبد الله- حرام على قلب أن یشم رائحه الیقین- و فیه شکوى إلى غیر الله- . وذکر للنبی ص ما یقال- عن عیسى ابن مریم ع- أنه مشى على الماء- فقال لو ازداد یقینا لمشى على الهواءوفی الخبر المرفوع عنه ص أنه قال لعبد الله بن مسعود- لا ترضین أحدا بسخط الله- و لا تحمدن أحدا على فضل الله- و لا تذمن أحدا على ما لم یؤتک الله- و اعلم أن الرزق لا یسوقه حرص حریص- و لا یرده کراهه کاره- و أن الله جعل الروح و الفرج فی الرضا و الیقین- و جعل الهم و الحزن فی الشک و السخط- .

و منها الصبر- قال الله تعالى وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُکَ إِلَّا بِاللَّهِ وقال علی ع الصبر من الإیمان بمنزله الرأس من الجسد
– . و سئل الفضیل عن الصبر- قال تجرع المراره من غیر تعبیس- . و قال رویم الصبر ترک الشکوى- .وقال علی ع الصبر مطیه لا تکبو- . وقف رجل على الشبلی- فقال أی صبر أشد على الصابرین- قال الشبلی الصبر فی الله تعالى فقال لا- قال فالصبر لله- فقال لا- قال فالصبر مع الله تعالى فقال لا- قال فأی شی‏ء قال الصبر عن الله- فصرخ الشبلی صرخه عظیمه و وقع- .

و یقال إن الشبلی حبس فی المارستان- فدخل علیه قوم- فقال من أنتم- قالوا محبوک جئناک زائرین- فرماهم بالحجاره فهربوا- فقال لو کنتم أحبای لصبرتم على بلائی وجاء فی بعض الأخبار عن الله تعالى بعینی ما یتحمل المتحملون من أجلیوقال عمر بن الخطاب لو کان الصبر و الشکر بعیرین- لم أبال أیهما رکبتوفی الحدیث المرفوع الإیمان الصبر و السخاءوفی الخبر العلم خلیل المؤمن- و الحلم وزیره و العقل دلیله- و العمل قائده و الرفق والده- و البر أخوه و الصبر أمیر جنوده- قالوا فناهیک بشرف خصله- تتأمر على هذه الخصال- و المعنى أن الثبات على هذه الخصال- و استدامه التخلق بها إنما یکون بالصبر- فلذلک کان أمیر الجنود- .

و منها المراقبه-جاء فی الخبر عن النبی ص أن سائلا سأله عن الإحسان- فقال أن تعبد الله کأنک تراه- فإن لم تکن تراه فإنه یراک- . و هذه إشاره إلى حال المراقبه- لأن المراقبه علم العبد باطلاع الرب علیه- فاستدامه العبد لهذا العلم مراقبه للحق- و هو أصل کل خیر- و لا یکاد یصل إلى هذه الرتبه- إلا بعد فراغه عن المحاسبه- فإذا حاسب نفسه على ما سلف- و أصلح حاله فی الوقت-و لازم طریق الحق- و أحسن بینه و بین الله تعالى بمراعاه القلب- و حفظ مع الله سبحانه الأنفاس- راقبه تعالى فی عموم أحواله- فیعلم أنه تعالى رقیب علیه- یعلم أحواله و یرى أفعاله و یسمع أقواله- و من تغافل عن هذه الجمله- فهو بمعزل عن بدایه الوصله- فکیف عن حقائق القربه- .

و یحکى أن ملکا کان یتحظى جاریه له- و کان لوزیره میل باطن إلیها- فکان یسعى فی مصالحها- و یرجح جانبها على جانب غیرها- من حظایا الملک و نسائه- فاتفق أن عرض علیها الملک حجرین من الیاقوت الأحمر- أحدهما أنفس من الآخر بمحضر من وزیره- فتحیرت أیهما تأخذ- فأومأ الوزیر بعینه إلى الحجر الأنفس- و حانت من الملک التفاته- فشاهد عین الوزیر و هی مائله إلى ذلک الجانب- فبقی الوزیر بعدها أربعین سنه- لا یراه الملک قط إلا کاسرا عینه- نحو الجانب الذی کان طرفه مائلا إلیه ذلک الیوم- أی کأن ذلک خلقه- و هذا عزم قوی فی المراقبه- و مثله فلیکن حال من یرید الوصول- .

و یحکى أیضا أن أمیرا کان له غلام- یقبل علیه أکثر من إقباله على غیره من ممالیکه- و لم یکن أکثرهم قیمه- و لا أحسنهم صوره فقیل له فی ذلک- فأحب أن یبین لهم فضل الغلام فی الخدمه على غیره- فکان یوما راکبا و معه حشمه- و بالبعد منهم جبل علیه ثلج- فنظر الأمیر إلى الثلج و أطرق- فرکض الغلام فرسه- و لم یعلم الغلمان لما ذا رکض- فلم یلبث إلا قلیلا حتى جاء و معه شی‏ء من الثلج- فقال الأمیر ما أدراک أنی أردت الثلج- فقال إنک نظرت إلیه- و نظر السلطان إلى شی‏ء لا یکون إلا عن قصد- فقال الأمیر لغلمانه إنما أختصه بإکرامی و إقبالی- لأن لکل واحد منکم شغلا- و شغله مراعاه لحظاتی و مراقبه أحوالی- .

و قال بعضهم من راقب الله فی خواطره- عصمه الله فی جوارحه- . و منها الرضا- و هو أن یرضى العبد بالشدائد و المصائب- التی یقضیها الله تعالى علیه- و لیس المراد بالرضا رضا العبد- بالمعاصی و الفواحش- أو نسبتها إلى الرب تعالى عنها- فإنه سبحانه لا یرضاها- کما قال جل جلاله وَ لا یَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْکُفْرَ- . و قال کُلُّ ذلِکَ کانَ سَیِّئُهُ عِنْدَ رَبِّکَ مَکْرُوهاً- . قال رویم- الرضا أن لو أدخلک جهنم لما سخطت علیه- . و قیل لبعضهم متى یکون العبد راضیا- قال إذا سرته المصیبه- کما سرته النعمه- .

قال الشبلی مره و الجنید حاضر- لا حول و لا قوه إلا بالله- فقال الجنید أرى أن قولک هذا ضیق صدر- و ضیق الصدر یجی‏ء من ترک الرضا بالقضاء- . و قال أبو سلیمان الدارنی- الرضا ألا تسأل الله الجنه- و لا تستعیذ به من النار- . و قال تعالى فیمن سخط قسمته- وَ مِنْهُمْ مَنْ یَلْمِزُکَ فِی الصَّدَقاتِ- فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا- وَ إِنْ لَمْ یُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ یَسْخَطُونَ- .

ثم نبه على ما حرموه من فضیله الرضا- فقال وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ- وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ- سَیُؤْتِینَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ- إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ- و جواب لو هاهنا محذوف لفهم المخاطب و علمه به- .و فی حذفه فائده لطیفه- و هو أن تقدیره لرضی الله عنهم- و لما کان رضاه عن عباده مقاما جلیلا جدا حذف ذکره- لان الذکر له لا ینبئ عن کنهه و حقیقه فضله- فکان الإضراب عن ذکره أبلغ فی تعظیم مقامه- . ومن الأخبار المرفوعه أنه ص قال اللهم إنی أسألک الرضا بعد القضاء- قالوا إنما قال بعد القضاء- لأن الرضا قبل القضاء لا یتصور- و إنما یتصور توطین النفس علیه- و إنما یتحقق الرضا بالشی‏ء بعد وقوع ذلک الشی‏ء- .

وفی الحدیث أنه قال لابن عباس یوصیه اعمل لله بالیقین و الرضا- فإن لم یکن فاصبر- فإن فی الصبر على ما تکره خیرا کثیراوفی الحدیث أنه ص رأى رجلا من أصحابه- و قد أجهده المرض و الحاجه- فقال ما الذی بلغ بک ما أرى- قال المرض و الحاجه- قال أ و لا أعلمک کلاما- إن أنت قلته أذهب الله عنک ما بک- قال و الذی نفسی بیده ما یسرنی بحظی منهما- أن شهدت معک بدرا و الحدیبیه- فقال ص- و هل لأهل بدر و الحدیبیه ما للراضی و القانع- .

و قال أبو الدرداء- ذروه الإیمان الصبر و الرضا- . قدم سعد بن أبی وقاص مکه بعد ما کف بصره- فانثال الناس علیه یسألونه الدعاء لهم- فقال له عبد الله بن السائب- یا عم إنک تدعو للناس فیستجاب لک- هلا دعوت أن یرد علیک بصرک- فقال یا ابن أخی- قضاء الله تعالى أحب إلی من بصری- . عمر بن عبد العزیز- أصبحت و ما لی سرور إلا فی مواقع القدر- . و کان یقال- الرضا إطراح الاقتراح على العالم بالصلاح- و کان یقال إذا کان القدر حقا کان سخطه حمقا- .

و کان یقال من رضی حظی- و من اطرح الاقتراح أفلح و استراح- . و کان یقال کن بالرضا عاملا- قبل أن تکون له معمولا- و سر إلیه عادلا و إلا سرت نحوه معدولا- . و قیل للحسن من أین أتى الخلق- قال من قله الرضا عن الله- فقیل و من أین دخلت علیهم قله الرضا عن الله- قال من قله المعرفه بالله- . و قال صاحب سلوان المطاع فی الرضا-

یا مفزعی فیما یجی‏ء
و راحمی فیما مضى‏

عندی لما تقضیه ما
یرضیک من حسن الرضا

و من القطیعه أستعیذ مصرحا و معرضا- و قال أیضا-

کن من مدبرک الحکیم
علا و جل على وجل‏

و ارض القضاء فإنه‏
حتم أجل و له أجل‏

 و قال أیضا-

یا من یرى حالی و أن لیس
لی فی غیر قربی منه أوطار

و لیس لی ملتحد دونه‏
و لا علیه لی أنصار

حاشا لذاک العز و الفضل
أن یهلک من أنت له جار

و إن تشأ هلکی فهب لی رضا
بکل ما تقضی و تختار

عندی لأحکامک یا مالکی
قلب کما أنعمت صبار

کل عذاب منک مستعذب‏
ما لم یکن سخطک و النار

و منها العبودیه- و هی أمر وراء العباده- معناها التعبد و التذلل- قالوا العباده للعوام من المؤمنین- و العبودیه للخواص من السالکین- . و قال أبو علی الدقاق- العباده لمن له علم الیقین- و العبودیه لمن له عین الیقین- . و سئل محمد بن خفیف متى تصح العبودیه- فقال إذا طرح کله على مولاه- و صبر معه على بلواه- .

و قال بعضهم العبودیه معانقه ما أمرت به- و مفارقه ما زجرت عنه- . و قیل العبودیه أن تسلم إلیه کلک- و تحمل علیه کلک- . وفی الحدیث المرفوع تعس عبد الدینار و تعس عبد الخبیصه- . رأى أبو یزید البسطامی رجلا- فقال له ما حرفتک قال خربنده- قال أمات الله حمارک- لتکون عبدا لله لا عبدا للحمار- .

و کان ببغداد فی رباط شیخ الشیوخ- صوفی کبیر اللحیه جدا- و کان مغرى و معنى بها أکثر زمانه- یدهنها و یسرحها- و یجعلها لیلا عند نومه فی کیس- فقام بعض المریدین إلیه فی اللیل و هو نائم- فقصها من الإذن إلى الإذن- فأصبحت کالصریم- و أصبح الصوفی شاکیا إلى شیخ الرباط- فجمع الصوفیه و سألهم- فقال المرید أنا قصصتها- قال و کیف فعلت ویلک ذلک- قال أیها الشیخ- إنها کانت صنمه و کان یعبدها من دون الله- فأنکرت ذلک بقلبی- و أردت أن أجعله عبدا لله لا عبدا للحیه- .

قالوا و لیس شی‏ء أشرف من العبودیه- و لا اسم أتم للمؤمن من اسمه بالعبودیه- و لذلک قال سبحانه فی ذکر النبی ص لیله المعراج- و کان ذلک الوقت أشرف أوقاته فی الدنیا- سُبْحانَ الَّذِی أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَیْلًا- و قال تعالى- فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ ما أَوْحى‏- فلو کان اسم أجل من العبودیه لسماه به- . و أنشدوا-

لا تدعنی إلا بیا عبدها
فإنه أشرف أسمائی‏

و منها الإراده قال تعالى- وَ لا تَطْرُدِ الَّذِینَ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ- بِالْغَداهِ وَ الْعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجْهَهُ- . قالوا الإراده هی بدء طریق السالکین- و هی اسم لأول منازل القاصدین إلى الله- و إنما سمیت هذه الصفه إراده- لأن الإراده مقدمه کل أمر- فما لم یرد العبد شیئا لم یفعله- فلما کان هذا الشأن أول الأمر- لمن یسلک طریق الله سمی إراده- تشبیها له بالقصد إلى الأمور التی هو مقدمتها- . قالوا و المرید على موجب الاشتقاق من له إراده- و لکن المرید فی هذا الاصطلاح من لا إراده له- فما لم یتجرد عن إرادته لا یکون مریدا- کما أن من لا إراده له على موجب الاشتقاق لا یکون مریدا- . و قد اختلفوا فی العبارات الداله- على ماهیه الإراده فی اصطلاحهم- فقال بعضهم الإراده ترک ما علیه العاده- و عاده الناس فی الغالب التعریج على أوطان الغفله-و الرکون إلى اتباع الشهوه- و الإخلاد إلى ما دعت إلیه المنیه- و المرید هو المنسلخ عن هذه الجمله- . و قال بعضهم الإراده نهوض القلب فی طلب الرب- و لهذا قیل إنها لوعه تهون کل روعه- .

و قال أبو علی الدقاق الإراده لوعه فی الفؤاد- و لذعه فی القلب و غرام فی الضمیر- و انزعاج فی الباطن و نیران تأجج فی القلوب- . و قال ممشاذ الدینوری- مذ علمت أن أحوال الفقراء جد کلها- لم أمازح فقیرا- و ذلک أن فقیرا قدم علی- فقال أیها الشیخ أرید أن تتخذ لی عصیده- فجرى على لسانی إراده و عصیده فتأخر الفقیر و لم أشعر- فأمرت باتخاذ عصیده و طلبته فلم أجده- فتعرفت خبره- فقیل إنه انصرف من فوره- و هو یقول إراده و عصیده إراده و عصیده- و هام على وجهه حتى خرج إلى البادیه- و هو یکرر هذه الکلمه- فما زال یقول و یرددها حتى مات- .

و حکى بعضهم- قال کنت بالبادیه وحدی فضاق صدری- فصحت یا أنس کلمونی یا جن کلمونی- فهتف هاتف أی شی‏ء نادیت- فقلت الله فقال الهاتف کذبت- لو أردته لما نادیت الإنس و لا الجن- . فالمرید هو الذی لا یشغله عن الله شی‏ء- و لا یفتر آناء اللیل و أطراف النهار- فهو فی الظاهر بنعت المجاهدات- و فی الباطن بوصف المکابدات- فارق الفراش و لازم الانکماش- و تحمل المصاعب و رکب المتاعب- و عالج الأخلاق و مارس المشاق- و عانق الأهوال و فارق الأشکال فهو کما قیل-

ثم قطعت اللیل فی مهمه
لا أسدا أخشى و لا ذیبا

یغلبنی شوقی فأطوى السرى
و لم یزل ذو الشوق مغلوبا

و قیل من صفات المریدین التحبب إلیه بالتوکل- و الإخلاص فی نصیحه الأمه- و الأنس بالخلوه- و الصبر على مقاساه الأحکام- و الإیثار لأمره و الحیاء من نظره- و بذل المجهود فی محبته- و التعرض لکل سبب یوصل إلیه- و القناعه بالخمول- و عدم الفرار من القلب- إلى أن یصل إلى الرب- .

و قال بعضهم- آفه المرید ثلاثه أشیاء التزویج- و کتبه الحدیث و الأسفار- . و قیل- من حکم المرید أن یکون فیه ثلاثه أشیاء- نومه غلبه و أکله فاقه و کلامه ضروره- . و قال بعضهم نهایه الإراده أن یشیر إلى الله- فیجده مع الإشاره- فقیل له و أی شی‏ء یستوعب الإراده- فقال أن یجد الله بلا إشاره- . و سئل الجنید- ما للمریدین و سماع القصص و الحکایات- فقال الحکایات جند من جند الله تعالى- یقوی بها قلوب المریدین- فقیل له هل فی ذلک شاهد- فتلا قوله تعالى وَ کُلًّا نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ- ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَکَ- .

و قال أصحاب الطریقه بین المرید و المراد فرق- فالمرید من سلک الریاضه طلبا للوصول- و المراد من فاضت علیه العنایه الإلهیه ابتداء- فکان مخطوبا لا خاطبا- و بین الخاطب و المخطوب فرق عظیم- . قالوا کان موسى ع مریدا- قال رَبِّ اشْرَحْ لِی صَدْرِی- و کان محمد ص مرادا- قال له أَ لَمْ نَشْرَحْ لَکَ صَدْرَکَ- و سئل الجنید عن‏المرید و المراد- فقال المرید سائر و المراد طائر- و متى یلحق السائر الطائر- .

أرسل ذو النون المصری رجلا إلى أبی یزید- و قال له إلى متى النوم و الراحه- قد سارت القافله- فقال له أبو یزید قل لأخی- الرجل من ینام اللیل کله- ثم یصبح فی المنزل قبل القافله- فقال ذو النون هنیئا له- هذا الکلام لا تبلغه أحوالنا- . و قد تکلم الحکماء فی هذا المقام- فقال أبو علی بن سینا فی کتاب الإشارات- أول درجات حرکات العارفین ما یسمونه هم الإراده- و هو ما یعتری المستبصر بالیقین البرهانی- أو الساکن النفس إلى العقد الإیمانی- من الرغبه فی اعتلاق العروه الوثقى- فیتحرک سره إلى القدس- لینال من روح الاتصال- فما دامت درجته هذه فهو مرید- .

ثم إنه لیحتاج إلى الریاضه- و الریاضه موجهه إلى ثلاثه أغراض- الأول تنحیه ما دون الحق عن سنن الإیثار- . و الثانی تطویع النفس الأماره للنفس المطمئنه- لتنجذب قوى التخیل و الوهم- إلى التوهمات المناسبه للأمر القدسی- منصرفه من التوهمات المناسبه للأمر السفلی- . و الثالث تلطیف السر لنفسه- .

فالأول یعین علیه الزهد الحقیقی- و الثانی یعین علیه عده أشیاء- العباده المشفوعه بالفکره- ثم الألحان المستخدمه لقوى النفس الموقعه- لما لحن بها من الکلام موقع القبول من الأوهام- ثم نفس الکلام الواعظ من قائل ذکی- بعباره بلیغه و نغمه رخیمه و سمت رشید- و الثالث یعین علیه الفکر اللطیف- و العشق العفیف الذی تتأمر فیه شمائل المعشوق- دون سلطان الشهوه- .

و منها الاستقامه- و حقیقتها الدوام و الاستمرار على الحال- قال تعالى إِنَّ الَّذِینَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا- . و سئل بعضهم عن تارک الاستقامه- فقال قد ذکر الله ذلک فی کتابه- فقال وَ لا تَکُونُوا کَالَّتِی نَقَضَتْ غَزْلَها- مِنْ بَعْدِ قُوَّهٍ أَنْکاثاً وفی الحدیث المرفوع شیبتنی هود فقیل له فی ذلک فقال قوله فَاسْتَقِمْ کَما أُمِرْتَ‏- .

و قال تعالى وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِیقَهِ- لَأَسْقَیْناهُمْ ماءً غَدَقاً- فلم یقل سقیناهم بل أسقیناهم- أی جعلنا لهم سقیا دائمه- و ذلک لأن من دام على الخدمه دامت علیه النعمه- . و منها الإخلاص- و هو إفراد الحق خاصه فی الطاعه- بالقصد و التقرب إلیه بذلک خاصه- من غیر ریاء و من غیر أن یمازحه شی‏ء آخر من تصنع لمخلوق- أو اکتساب محمده بین الناس أو محبه مدح- أو معنى من المعانی- و لذلک قال أرباب هذا الفن- الإخلاص تصفیه العمل عن ملاحظه المخلوقین- . و قال الخواص من هؤلاء القوم- نقصان کل مخلص فی إخلاصه رؤیه إخلاصه- فإذا أراد الله أن یخلص إخلاص عبد- أسقط عن إخلاصه رؤیته لإخلاصه- فیکون مخلصا لا مخلصا- . وجاء فی الأثر عن مکحول ما أخلص عبد لله أربعین صباحا- إلا ظهرت ینابیع الحکمه من قلبه على لسانه- .

و منها الصدق و یطلق على معنیین- تجنب الکذب و تجنب الریاء- و قد تقدم القول فیهما- . و منها الحیاء- و
فی الحدیث الصحیح إذا لم تستحی فاصنع ما شئتوفی الحدیث أیضا الحیاء من الإیمان- و قال تعالى أَ لَمْ یَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ یَرى‏- قالوا معناه أ لم یستحی- . وفی الحدیث أنه قال لأصحابه استحیوا من الله حق الحیاء- قالوا إنا لنستحیی و نحمد الله- قال لیس کذلک- من استحیا من الله حق الحیاء- فلیحفظ الرأس و ما وعى و البطن و ما حوى- و لیذکر الموت و طول البلى- و لیترک زینه الحیاه الدنیا- فمن یعمل ذلک فقد استحیا من الله حق الحیاء- .

و قال ابن عطاء- العلم الأکبر الهیبه و الحیاء- فإذا ذهبا لم یبق خیر- . و قال ذو النون- الحب ینطق و الحیاء یسکت و الخوف یقلق- . و قال السری الحیاء و الأنس یطرقان القلب- فإن وجدا فیه الزهد و الورع حطا و إلا رحلا- . و کان یقال تعامل القرن الأول من الناس- فیما بینهم بالدین حتى رق الدین- ثم تعامل القرن الثانی بالوفاء حتى ذهب الوفاء- ثم تعامل القرن الثالث بالمروءه حتى فنیت المروءه- ثم تعامل القرن الرابع بالحیاء حتى قل الحیاء- ثم صار الناس یتعاملون بالرغبه و الرهبه

و قال الفضیل خمس من علامات الشقاء- القسوه فی القلب و جمود العین- و قله الحیاء و الرغبه فی الدنیا و طول الأمل- . و فسر بعضهم قوله تعالى وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها- لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ- أنها کان لها صنم فی زاویه البیت- فمضت فألقت على وجهه ثوبا- فقال یوسف ما هذا قالت أستحیی منه- قال فأنا أولى أن أستحیی من الله- .

وفی بعض الکتب القدیمه ما أنصفنی عبدی یدعونی فأستحیی أن أرده- و یعصینی و أنا أراه فلا یستحیی منی
و منها الحریه- و هو ألا یکون الإنسان بقلبه رق شی‏ء من المخلوقات- لا من أغراض الدنیا و لا من أغراض الآخره- فیکون فردا لفرد لا یسترقه عاجل دنیا- و لا آجل منى و لا حاصل هوى- و لا سؤال و لا قصد و لا أرب- .

قال له ص بعض أصحاب الصفه- قد عزفت نفسی یا رسول الله عن الدنیا- فاستوى عندی ذهبها و حجرها قال صرت حرا- . و کان بعضهم یقول- لو صحت صلاه بغیر قرآن لصحت بهذا البیت-أ تمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتای طلعه حر- و سئل الجنید عمن لم یبق له من الدنیا- إلا مقدار مص نواه- فقال المکاتب عبد ما بقی علیه درهم- . و منها الذکر- قال الله تعالى یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا- اذْکُرُوا اللَّهَ ذِکْراً کَثِیراًوروى أبو الدرداء أن رسول الله ص قال أ لا أنبئکم بخیر أعمالکم- و أزکاها عند خالقکم- و أرفعها فی درجاتکم- و خیر من إعطائکم الذهب و الفضه فی سبیل الله- و من أن تلقوا عدوکم- فتضربوا أعناقهم و یضربوا أعناقکم- قالوا ما ذلک یا رسول الله قال ذکر اللهوفی الحدیث المرفوع لا تقوم الساعه على أحد یقول الله الله- .

و قال أبو علی الدقاق- الذکر منشور الولایه- فمن وفق للذکر فقد أعطی المنشور- و من سلب الذکر فقد عزل- . و قیل ذکر الله تعالى بالقلب سیف المریدین- به یقاتلون أعداءهم و به یدفعون الآفات التی تقصدهم- و أن البلاء إذا أظل العبد- ففزع بقلبه إلى الله حاد عنه کل ما یکرهه- . وفی الخبر المرفوع إذا مررتم بریاض الجنه فارتعوا فیها- قیل و ما ریاض الجنه قال مجالس الذکروفی الخبر المرفوع أنا جلیس من ذکرنی- . و سمع الشبلی و هو ینشد-

ذکرتک لا أنی نسیتک لمحه
و أیسر ما فی الذکر ذکر لسانی‏

فکدت بلا وجد أموت من الهوى‏
و هام على القلب بالخفقان‏

فلما أرانی الوجد أنک حاضری
شهدتک موجودا بکل مکان‏

فخاطبت موجودا بغیر تکلم‏
و لاحظت معلوما بغیر عیان‏

و منها الفتوه- قال سبحانه مخبرا عن أصحاب الأصنام- قالُوا سَمِعْنا فَتًى یَذْکُرُهُمْ یُقالُ لَهُ إِبْراهِیمُ- . و قال تعالى فی أصحاب الکهف- إِنَّهُمْ فِتْیَهٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً- . و قد اختلفوا فی التعبیر عن الفتوه ما هی- فقال بعضهم الفتوه ألا ترى لنفسک فضلا على غیرک- . و قال بعضهم الفتوه الصفح عن عثرات الإخوان- .

و قالوا إنما هتف الملک یوم أحد بقوله-لا سیف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علی‏- . لأنه کسر الأصنام- فسمی بما سمی به أبوه إبراهیم الخلیل- حین کسرها و جعلها جذاذا- . قالوا و صنم کل إنسان نفسه- فمن خالف هواه فقد کسر صنمه- فاستحق أن یطلق علیها لفظ الفتوه- . و قال الحارث المحاسبی الفتوه أن تنصف و لا تنتصف- . و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سئل أبی عن الفتوه- فقال ترک ما تهوى لما تخشى- . و قیل الفتوه ألا تدخر و لا تعتذر- .

سأل شقیق البلخی جعفر بن محمد الصادق ع عن الفتوه- فقال ما تقول أنت- قال إن أعطینا شکرنا و إن منعنا صبرنا- قال إن الکلاب عندنا بالمدینه هذا شأنها- و لکن قل إن أعطینا آثرنا و إن منعنا شکرنا- .

و منها الفراسه- قیل فی تفسیر قوله تعالى إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِینَ- أی للمتفرسین- وقال النبی ص اتقوا فراسه المؤمن فإنها لا تخطئقیل الفراسه سواطع أنوار لمعت فی القلوب- حتى شهدت الأشیاء من حیث أشهدها الحق إیاها- و کل من کان أقوى إیمانا کان أشد فراسه- . و کان یقال- إذا صحت الفراسه ارتقى منها صاحبها إلى المشاهده- .

و منها حسن الخلق و هو من صفات العارفین- فقد أثنى الله تعالى به على نبیه- فقال وَ إِنَّکَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِیمٍ وقیل له ص- أی المؤمنین أفضل إیمانا- فقال أحسنهم خلقا و بالخلق تظهر جواهر الرجال- و الإنسان مستور بخلقه مشهور بخلقه- .

و قال بعضهم- حسن الخلق استصغار ما منک و استعظام ما إلیک- . وقال النبی ص إنکم لن تسعوا الناس بأموالکم- فسعوهم بأخلاقکم- . قیل لذی النون- من أکبر الناس هما قال أسوؤهم خلقا- . و کان یقال- ما تخلق أحد أربعین صباحا بخلق إلا صار ذلک طبیعه فیه- . قال الحسن فی قوله تعالى وَ ثِیابَکَ فَطَهِّرْ- أی و خلقک فحسن- . شتم رجل الأحنف بن قیس و جعل یتبعه و یشتمه- فلما قرب الحی وقف- و قال یا فتى إن کان قد بقی فی قلبک شی‏ء فقله- کیلا یسمعک سفهاء الحی فیجیبوک- .

و یقال إن معروفا الکرخی نزل دجله لیسبح- و وضع ثیابه و مصحفه- فجاءت امرأه فاحتملتهما فتبعها- و قال أنا معروف الکرخی فلا بأس علیک- أ لک ابن یقرأ قالت لا- قال أ فلک بعل قالت لا- قال فهاتی المصحف و خذی الثیاب- . قیل لبعضهم ما أدب الخلق- قال ما أدب الله به نبیه- فی قوله خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ یقال إن فی بعض کتب النبوات القدیمه یا عبدی اذکرنی حین تغضب- أذکرک حین أغضب- .

قالت امرأه لمالک بن دینار یا مرائی- فقال لقد وجدت اسمی الذی أضله أهل البصره- . قال بعضهم و قد سئل عن غلام سوء له لم یمسکه- قال أ تعلم علیه الحلم- . و کان یقال ثلاثه لا یعرفون إلا عند ثلاثه- الحلیم عند الغضب و الشجاع عند الحرب- و الصدیق عند الحاجه إلیه- . و قیل فی تفسیر قوله تعالى- وَ أَسْبَغَ عَلَیْکُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَهً وَ باطِنَهً- الظاهره تسویه الخلق و الباطنه تصفیه الخلق- . الفضیل لأن یصحبنی فاجر حسن الخلق أحب إلی- من أن یصحبنی عابد سیئ الخلق- . خرج إبراهیم بن أدهم إلى بعض البراری- فاستقبله جندی فسأله أین العمران- فأشار إلى المقبره فضرب رأسه فشجه و أدماه- فلما جاوزه قیل له- إن ذلک إبراهیم بن أدهم‏زاهد خراسان- فرد إلیه یعتذر- فقال إبراهیم- إنک لما ضربتنی سألت الله لک الجنه- .

قال لم سألت ذلک- قال علمت أنی أوجر على ضربک لی- فلم أرد أن یکون نصیبی منک الخیر و نصیبک منی الشر- . و قال بعض أصحاب الجنید- قدمت من مکه- فبدأت بالشیخ کی لا یتعنى إلی فسلمت علیه- ثم مضیت إلى منزلی- فلما صلیت الصبح فی المسجد- إذا أنا به خلفی فی الصف- فقلت إنما جئتک أمس لئلا تتعنى- فقال ذلک فضلک و هذا حقک- .

کان أبو ذر على حوض یسقی إبله- فزاحمه إنسان فکسر الحوض- فجلس أبو ذر ثم اضطجع فقیل له فی ذلک- فقال أمرنا رسول الله ص- إذا غضب الرجل و هو قائم فلیجلس فإن ذهب عنه- و إلا فلیضطجع- . دعا إنسان بعض مشاهیر الصوفیه إلى ضیافه- فلما حضر باب داره رده و اعتذر إلیه- ثم فعل به مثل ذلک و ثانیه و ثالثه- و الصوفی لا یغضب و لا یضجر- فمدحه ذلک الإنسان و أثنى علیه بحسن الخلق- فقال إنما تمدحنی على خلق تجد مثله فی الکلب- إن دعوته حضر و إن زجرته انزجر- .

مر بعضهم وقت الهاجره بسکه- فألقى علیه من سطح طست رماد- فغضب من کان فی صحبته فقال لا تغضبوا- من استحق أن یصب علیه النار فصولح على الرماد- لم تجز له أن یغضب- . کان لبغض الخیاطین جار یدفع إلیه ثیابا فیخیطها- و یدفع إلیه أجرتها دراهم زیوفا- فیأخذها فقام یوما من حانوته و استخلف ولده- فجاء الجار بالدراهم الزائفه- فدفعها إلى الولد فلم یقبلها فأبدلها بدراهم جیده- فلما جاء أبوه دفع إلیه الدراهم- فقال ویحک هل جرى بینک و بینه أمر قال نعم- إنه أحضر الدراهم زیوفا فرددتها فأحضر هذه-فقال بئس ما صنعت- إنه منذ کذا و کذا سنه یعاملنی بالزائف و أصبر علیه- و ألقیها فی بئر کی لا یغر غیری بها و قیل الخلق السیئ هو أن یضیق قلب الإنسان- عن أن یتسع لغیر ما تحبه النفس و تؤثره- کالمکان الضیق لا یسع غیر صاحبه- . و کان یقال- من سوء الخلق أن تقف على سوء خلق غیرک و تعیبه به- .

قیل لرسول الله ادع الله على المشرکین- فقال إنما بعثت رحمه و لم أبعث عذابادعا علی ع غلاما له مرارا و هو لا یجیبه- فقام إلیه فقال أ لا تسمع یا غلام قال بلى- قال فما حملک على ترک الجواب- قال أمنی لعقوبتک قال اذهب فأنت حر- .

و منها الکتمان-قال رسول الله ص استعینوا على أمورکم بالکتمان- . و قال السری علامه الحب الصبر و الکتمان- و من باح بسرنا فلیس منا- . و قال الشاعر-

کتمت حبک حتى منک تکرمه
ثم استوى فیک إسراری و إعلانی‏

کأنه غاض حتى فاض عن جسدی‏
فصار سقمی به فی جسم کتمانی‏

و هذا ضد ما یذهب إلیه القوم من الکتمان- و هو عذر لأصحاب السر و الإعلان- و کان یقال المحبه فاضحه و الدمع نمام- . و قال الشاعر-

لا جزى الله دمع عینی خیرا
و جزى الله کل خیر لسانی‏

فاض دمعی فلیس یکتم شیئا
و وجدت اللسان ذا کتمان‏

یقال إن بعض العارفین- أوصى تلمیذه بکتمان ما یطلع علیه من الحال- فلما شاهد الأمر غلب- فکان یطلع فی بئر فی موضع خال فیحدثها بما یشاهد- فنبتت فی تلک البئر شجره- سمع منها صوت یحکی کلام ذلک التلمیذ- کما یحکی الصدا کلام المتکلم- فأسقط بذلک من دیوان الأولیاء- . و أنشدوا-

أبدا تحن إلیکم الأرواح
و وصالکم ریحانها و الراح‏

و قلوب أهل ودادکم تشتاقکم‏
و إلى لقاء جمالکم ترتاح‏

وا رحمه للعاشقین تحملوا
ثقل المحبه و الهوى فضاح‏

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم‏
و کذا دماء البائحین تباح‏

 و قال الحسین بن منصور الحلاج

إنی لأکتم من علمی جواهره
کی لا یرى العلم ذو جهل فیفتننا

و قد تقدمنی فیه أبو حسن‏
إلى الحسین و أوصى قبله الحسنا

یا رب مکنون علم لو أبوح به
لقیل لی أنت ممن یعبد الوثنا

و لاستحل رجال صالحون دمی‏
یرون أقبح ما یأتونه حسنا

و منها الجود و السخاء و الإیثار- قال الله تعالى وَ یُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ کانَ بِهِمْ خَصاصَهٌ وقال النبی ص السخی قریب من الله قریب من الناس-و البخیل بعید من الله بعید من الناس- و أن الجاهل السخی أحب إلى الله من العابد البخیل- .

قالوا لا فرق بین الجود و السخاء فی اصطلاح أهل العربیه- إلا أن الباری سبحانه لا یوصف بالسخاء- لأنه یشعر بسماح النفس عقیب التردد فی ذلک- و أما فی اصطلاح أرباب هذه الطریقه- فالسخاء هو الرتبه الأولى و الجود بعده ثم الإیثار- فمن أعطى البعض و أبقى البعض فهو صاحب السخاء- و من أعطى الأکثر و أبقى لنفسه شیئا فهو صاحب الجود- و الذی قاسى الضراء و آثر غیره بالبلغه فهو صاحب الإیثار- .

قال أسماء بن خارجه الفزاری- ما أحب أن أرد أحدا عن حاجه طلبها- إن کان کریما صنت عرضه عن الناس- و إن کان لئیما صنت عنه عرضی- . کان مؤرق العجلی یتلطف فی بر إخوانه- یضع عندهم ألف درهم و یقول أمسکوها حتى أعود إلیکم- ثم یرسل إلیهم أنتم منها فی حل- . و کان یقال الجود إجابه الخاطر الأول- . و کان أبو الحسن البوشنجی فی الخلاء فدعا تلمیذا له- فقال انزع عنی هذا القمیص و ادفعه إلى فلان- فقیل له هلا صبرت فقال لم آمن على نفسی- أن تغیر علی ما وقع لی من التخلق معه بالقمیص- .

رئی علی ع یوما باکیا فقیل له لم تبکی- فقال لم یأتنی ضیف منذ سبعه أیام- أخاف أن یکون الله قد أهاننی- . أضاف عبد الله بن عامر رجلا فأحسن قراه- فلما أراد أن یرتحل لم یعنه غلمانه فسئل عن ذلک- فقال إنهم إنما یعینون من نزل علینا- لا من ارتحل عنا- . و منها الغیره-قال رسول الله ص لا أحد أغیر من الله- إنما حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن لغیرتهوفی حدیث أبی هریره أن الله لیغار و أن المؤمن لیغارقال و الغیره هی کراهیه المشارکه فیما هو حقک- . و قیل الغیره الأنفه و الحمیه- .

و حکی عن السری أنه قرئ بین یدیه- وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ- جَعَلْنا بَیْنَکَ وَ بَیْنَ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَهِ حِجاباً مَسْتُوراً- فقال لأصحابه أ تدرون ما هذا الحجاب- هذا حجاب الغیره و لا أحد أغیر من الله- . قالوا و معنى حجاب الغیره- أنه لما أصر الکافرون على الجحود- عاقبهم بأن لم یجعلهم أهلا لمعرفه أسرار القرآن- . و قال أبو علی الدقاق- إن أصحاب الکسل عن عبادته- هم الذین ربط الحق بأقدامهم مثقله الخذلان- فاختار لهم البعد و أخرهم عن محل القرب- و لذلک تأخروا- . و فی معناه أنشدوا فقالوا-

أنا صب بمن هویت و لکن
ما احتیالی فی سوء رأی الموالی‏

 و فی معناه قالوا سقیم لا یعاد و مرید لا یراد- . و کان أبو علی الدقاق- إذا وقع شی‏ء فی خلال المجلس یشوش قلوب الحاضرین- یقول هذا من غیره الحق- یرید به ألا یتم ما أملناه من صفاء هذا الوقت- . و أنشدوا فی معناه-
همت بإتیاننا حتى إذا نظرت إلى المرأه نهانا وجهها الحسن‏- . و قیل لبعضهم أ ترید أن تراه قال لا- قیل لم قال أنزه ذلک الجمال عن نظر مثلی- و فی معناه أنشدوا-

إنی لأحسد ناظری علیک
حتى أغض إذا نظرت إلیک‏

و أراک تخطر فی شمائلک
التی هی فتنتی فأغار منک علیکا

و سئل الشبلی متى تستریح- قال إذا لم أر له ذاکرا- . و قال أبو علی الدقاق فیقول النبی ص عند مبایعته فرسا من أعرابی- و أنه استقاله فأقاله- فقال الأعرابی عمرک الله فمن أنت- قال ص أنا امرؤ من قریش- فقال بعض الصحابه من الحاضرین للأعرابی- کفاک جفاء ألا تعرف نبیک- فکان أبو علی یقول إنما قال امرؤ من قریش- غیره و نوعا من الأنفه- و إلا فقد کان الواجب علیه- أن یتعرف لکل أحد أنه من هو- لکن الله سبحانه أجرى على لسان ذلک الصحابی- التعریف للأعرابی بقوله کفاک جفاء ألا تعرف نبیک- .

و قال أصحاب الطریقه- مساکنه أحد من الخلق للحق فی قلبک- توجب الغیره منه تعالى- . أذن الشبلی مره فلما انتهى إلى الشهادتین- قال و حقک لو لا أنک أمرتنی ما ذکرت معک غیرک- . و سمع رجل رجلا یقول جل الله- فقال أحب أن تجله عن هذا- . و کان بعض العارفین یقول- لا إله إلا الله من داخل القلب- محمد رسول الله من قرط الأذن- . و قیل لأبی الفتوح السهروردی- و قد أخذ بحلب لیصلب على خشبه- ما الذی أباحهم هذا منک- قال إن هؤلاء دعونی- إلى أن أجعل محمدا شریکا لله فی الربوبیه- فلم أفعل فقتلونی- .

و منها التفویض– قال الله تعالى وَ عَسى‏ أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئاً وَ هُوَ خَیْرٌ لَکُمْ- وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَیْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَکُمْ- وَ اللَّهُ یَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ- فاستوقف من عقل أمره عن الاقتراح علیه- و أفهمه ما یرضاه به من التفویض إلیه- فالعاقل تارک للاقتراح على العالم بالصلاح- .

و قال تعالى فَعَسى‏ أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئاً- وَ یَجْعَلَ اللَّهُ فِیهِ خَیْراً کَثِیراً- فبعث على تأکید الرجاء بقوله خَیْراً کَثِیراً- . و لما فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله فَوَقاهُ اللَّهُ سَیِّئاتِ ما مَکَرُوا- وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ- کما ورد فی الکتاب العزیز- . و حقیقه التفویض هی التسلیم لأحکام الحق سبحانه- و إلى ذلک وقعت الإشاره بقوله تعالى- قُلْ لَنْ یُصِیبَنا إِلَّا ما کَتَبَ اللَّهُ لَنا- هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْیَتَوَکَّلِ الْمُؤْمِنُونَ- فأس التفویض و الباعث علیه- هو اعتقاد العجز عن مغالبه القدر- و أنه لا یکون فی الخیر و الشر- أعنی الرخص و الصحه و سعه الرزق و البلایا- و الأمراض و العلل و ضیق الرزق- إلا ما أراد الله تعالى کونه- و لا یصح التفویض ممن لم یعتقد ذلک و لم یعلمه علم الیقین- .

و قد بالغ النبی ص فی التصریح به- و النص علیهبقوله لعبد الله بن مسعود لیقل همک ما قدر أتاک و ما لم یقدر لم یأتک- و لو جهد الخلق أن ینفعوک بشی‏ء- لم یکتبه الله لک لم یقدروا علیه- و لو جهدوا أن یضروک بشی‏ء- لم یکتبه الله علیک لم یقدروا على ذلکوفی صحیح مسلم بن الحجاج أنه قال لأبی هریره فی کلام له فإن أصابک شی‏ء فلا تقل- لو فعلت کذا لکان کذا- فإن لو تفتح عمل الشیطان- و لکن قل ما قدر الله و ما شاء فعلوفی صحیح مسلم أیضا عن البراء بن عازب إذا أخذت مضجعک فقل کذا- إلى أن قال- وجهت وجهی إلیک و ألجأت ظهری إلیک- رغبه و رهبه إلیک لا منجى و لا ملجأ منک إلا إلیک- .

و کان یقال معارضه المریض طبیبه توجب تعذیبه- و کان یقال إنما الکیس الماهر من أمسى فی قبضه القاهر- . و کان یقال إذا کانت مغالبه القدر مستحیله- فما من أعوان تقوده إلى الحیله- . و کان یقال إذا التبست المصادر ففوض إلى القادر- . و کان یقال- من الدلاله على أن الإنسان مصرف مغلوب- و مدبر مربوب- أن یتبلد رأیه فی بعض الخطوب- و یعمى علیه الصواب المطلوب- . و إذا کان کذلک- فربما کان تدمیره فی تدبیره و اغتیاله من احتیاله- و هلکته من حرکته- . و فی ذلک أنشدوا-

أیا من یعول فی المشکلات
على ما رآه و ما دبره‏

إذا أعضل الأمر فافزع به‏
إلى من یرى منه ما لم تره‏

تکن بین عطف یقیل الخطوب
و لطف یهون ما قدره‏

إذا کنت تجهل عقبى الأمور
و ما لک حول و لا مقدره‏

فلم ذا العنا و علام الأسى
و مم الحذار و فیم الشره‏

و أنشدوا فی هذا المعنى-

یا رب مغتبط و مغبوط
بأمر فیه هلکه‏

و منافس فی ملک ما
یشقیه فی الدارین ملکه‏

علم العواقب دونه
ستر و لیس یرام هتکه‏

و معارض الأقدار بالآراء
سیئ الحال ضنکه‏

فکن امرأ محض الیقین
و زیف الشبهات سبکه‏

تفویضه توحیده‏
و عناده المقدار شرکه‏

و منها الولایه و المعرفه و قد تقدم القول فیهما- .

و منها الدعاء و المناجاه– قال الله تعالى ادْعُونِی أَسْتَجِبْ لَکُمْ وفی الحدیث المرفوع الدعاء مخ العباده- . و قد اختلف أرباب هذا الشأن فی الدعاء- فقال قوم الدعاء مفتاح الحاجه- و مستروح أصحاب الفاقات- و ملجأ المضطرین و متنفس ذوی المآرب- . و قد ذم الله تعالى قوما فقال وَ یَقْبِضُونَ أَیْدِیَهُمْ- فسروه و قالوا لا یمدونها إلیه فی السؤال- .

و قال سهل بن عبد الله التستری- خلق الله الخلق و قال تاجروا فی- فإن لم تفعلوا فاسمعوا منی- فإن لم تفعلوا فکونوا ببابی- فإن لم تفعلوا فأنزلوا حاجاتکم بی- . قالوا و قد أثنى الله على نفسه- فقال أَمَّنْ یُجِیبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ- قالوا الدعاء إظهار فاقه العبودیه- .

و قال أبو حاتم الأعرج- لأن أحرم الدعاء أشد علی من أن أحرم الإجابه- . و قال قوم- بل السکوت و الخمود تحت جریان الحکم- و الرضا بما سبق من اختیار الحکیم- العالم بالمصالح أولى- و لهذا قال الواسطی اختیار ما جرى لک فی الأزل- خیر لک من معارضه الوقت- . وقال النبی ص إخبارا عن الله تعالى من شغله ذکری عن مسألتی- أعطیته أفضل ما أعطی السائلین- .

و قال قوم یجب أن یکون العبد صاحب دعاء بلسانه- و صاحب رضا بقلبه لیأتی بالأمرین جمیعا- . و قال قوم إن الأوقات تختلف- ففی بعض الأحوال یکون الدعاء أفضل من السکوت- و فی بعض الأحوال یکون بالعکس- و إنما یعرف هذا فی الوقت- لأن علم الوقت یحصل فی الوقت- فإذا وجد فی قلبه الإشاره إلى الدعاء فالدعاء أولى- و إن وجد بقلبه الإشاره إلى السکوت- فالسکوت له أتم و أولى- .

وجاء فی الخبر أن الله یبغض العبد فیسرع إجابته بغضا لسماع صوته- و أنه یحب العبد فیؤخر إجابته حبا لسماع صوته- . و من أدب الدعاء حضور القلب-فقد روی عنه ص أن الله لا یستجیب دعاء قلب لاه- . و من شروط الإجابه طیب الطعمه و حل المکسب-قال ص لسعد بن أبی وقاص أطب کسبک تستجب دعوتک- .

و ینبغی أن یکون الدعاء بعد المعرفه-قیل لجعفر بن محمد الصادق ع- ما بالنا ندعو فلا یستجاب لنا- قال لأنکم تدعون من لا تعرفونه- . کان صالح المری یقول کثیرا- ادعوا فمن أدمن قرع الباب یوشک أن یفتح له- فقالت له رابعه العدویه ما ذا تقول- أغلق هذا الباب حتى یستفتح- فقال صالح شیخ جهل و امرأه علمت- . و قیل فائده الدعاء إظهار الفاقه من الخلق- و إلا فالرب یفعل ما یشاء- .

و قیل دعاء العامه بالأقوال و دعاء العابد بالأفعال- و دعاء العارف بالأحوال- . و قیل خیر الدعاء ما هیجه الأحزان و الوجد- . و قیل أقرب الدعاء إلى الإجابه دعاء الاضطرار- لقوله تعالى أَمَّنْ یُجِیبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ- . قال أصحاب هذه الطریقه- ألسنه المبتدءین أرباب الإراده منطلقه بالدعاء- و ألسنه المحققین الواصلین قد خرست عن ذلک- . و کان عبد الله بن المبارک یقول- ما دعوته منذ خمسین سنه- و لا أرید أن یدعو لی أحد- .

و قیل الدعاء سلم المذنبین- . و قال من قال بنقیض هذا الدعاء مراسله- و ما دامت المراسله باقیه فالأمر جمیل بعد- . و قالوا ألسنه المذنبین دموعهم- . و کان أبو علی الدقاق یقول- إذا بکى المذنب فقد راسل الله- . و فی معناه أنشدوا
دموع الفتى عما یجن تترجم و أنفاسه تبدین ما القلب یکتم‏- .

و قال بعضهم لبعض العارفین ادع لی- فقال کفاک من الإجابه ألا تجعل بینک و بینه واسطه- . و منها التأسی- قال سبحانه لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَهٌ حَسَنَهٌ- أی فی مصابه و ما نیل منه فی نفسه و فی أهله یوم أحد- فلا تجزعوا أن أصیب بعضکم- . وجاء فی الحدیث المرفوع لا تنظروا إلى من فوقکم- و انظروا إلى من دونکم- فإنه أجدر ألا تزدروا نعم الله علیکم- . و قالت الخنساء ترثى أخاها-

و لو لا کثره الباکین حولی
على إخوانهم لقتلت نفسی‏

و ما یبکون مثل أخی و لکن‏
أعزی النفس عنه بالتأسی‏

 و حقیقه التأسی- تهوین المصائب و النوائب على النفس- بالنظر إلى ما أصاب أمثالک- و من هو أرفع محلا منک- . و قد فسر العلماء قوله تعالى- وَ لَنْ یَنْفَعَکُمُ الْیَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ- أَنَّکُمْ فِی الْعَذابِ مُشْتَرِکُونَ- قال إنه لا یهون على أحد من أهل النار عذابه- و إن تأسى بغیره من المعذبین- لأن الله تعالى جعل لهم التأسی نافعا فی الدنیا- و لم یجعله نافعا لأهل النار مبالغه فی تعذیبهم- و نفیا لراحه تصل إلیهم- .

و منها الفقر و هو شعار الصالحین-قال رسول الله ص اللهم أحینی مسکینا و أمتنی مسکینا- و احشرنی مع المساکین
– . قال لعلی ع- إن الله قد زینک بزینه لم یزین العباد بأحسن منها- وهب لک حب المساکین- فجعلک ترضى بهم أتباعا و یرضون بک إماما- .

وجاء فی الخبر المرفوع الفقراء الصبر جلساء الله یوم القیامه- . و سئل یحیى بن معاذ عن الفقر- فقال ألا تستغنی إلا بالله- . وقال أبو الدرداء لأن أقع من فوق قصر فأتحطم- أحب إلی من مجالسه الغنی- لأنی سمعت رسول الله ص یقول- إیاکم و مجالسه الموتى- فقیل له و ما الموتى قال الأغنیاء- . قیل للربیع بن خثیم قد غلا السعر- قال نحن أهون على الله من أن یجیعنا- إنما یجیع أولیاءه- .

و قیل لیحیى بن معاذ ما الفقر قال خوف الفقر- . و قال الشبلی أدنى علامات الفقیر- أن لو کانت الدنیا بأسرها لواحد فأنفقها فی یوم واحد- ثم خطر بباله لو أمسکت منها قوت یوم آخر- لم یصدق فی فقره- . سئل ابن الجلاء عن الفقر فسکت ثم ذهب قلیلا- و عاد فقال کانت عندی أربعه دوانیق فضه- فاستحییت من الله أن أتکلم فی الفقر و هی عندی- فذهبت فأخرجتها ثم قعد فتکلم فی الفقر- . و قال أبو علی الدقاق فی تفسیرقوله ص من تواضع لغنی ذهب ثلثا دینه- إن المرء بقلبه و لسانه و جوارحه- فمن تواضع لغنی بلسانه و جوارحه ذهب ثلثا دینه- فإن تواضع له مع ذلک بقلبه ذهب دینه کله- .

و منها الأدب– قالوا فی تفسیر قوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى‏- حفظ أدب الحضره- . قیل إنه ع لم یمد نظره فوق المقام- الذی أوصل إلیه لیله شاهد السدره- و هی أقصى ما یمکن أن ینتهی إلیه البشریون- . وفی الحدیث المرفوع أدبنی ربی فأحسن تأدیبیو قیل إن الجنید لم یمد رجله فی الخلوه عشرین سنه- و کان یقول الأدب مع الله أولى من الأدب مع الخلق- .

و قال أبو علی الدقاق- من صاحب الملوک بغیر أدب أسلمه الجهل إلى القتل- . ومن کلامه ع ترک الأدب یوجب الطرد- فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب- و من أساء الأدب على الباب رد إلى ساحه الدواب- . و قال عبد الله بن المبارک- قد أکثر الناس فی الأدب- و عندی أن الأدب معرفه الإنسان بنفسه- . و قال الثوری من لم یتأدب للوقت فوقته مقت- .

و قال أبو علی الدقاق فی قوله تعالى حکایه عن أیوب- إِذْ نادى‏ رَبَّهُ أَنِّی مَسَّنِیَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِینَ- قال لم یقل فارحمنی لأنه حفظ آداب الخطاب- و کذلک قال فی قول عیسى- إِنْ کُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ- قال لم یقل لم أقل رعایه لأدب الحضره- .

و منها المحبه و هی مقام جلیل- قالوا المحبه أن تهب کلک لمن أحببت- فلا یبقى لک منک شی‏ء- . قیل لبعض العرب ما وجدت من حب فلانه- قال أرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس- . و قال أبو عبد الرحمن السلمی- المحبه أن تغار على محبوبک أن یحبه غیرک- . و قال النصرآباذی المحبه نوعان- نوع یوجب حقن الدماء و نوع یوجب سفک الدماء- . و قال یحیى بن معاذ- المحبه الخالصه ألا تنقص بالجفاء و لا تزید بالبر- . و قیل للنصرآباذی کیف حالک فی المحبه- قال عدمت وصال المحبین- و رزقت حسراتهم فهو ذا أنا أحترق فیها- ثم قال المحبه مجانبه السلو على کل حال- . و أنشدوا-

و من کان فی طول الهوى ذاق
سلوه فإنی من لیلى لها غیر ذائق‏

و أکثر شی‏ء نلته من وصالها
أمانی لم تصدق کلمحه بارق‏

وجاء فی الحدیث المرفوع المرء مع من أحب- و لما سمع سمنون هذا الخبر- قال فاز المحبون بشرف الدنیا و الآخره- لأنهم مع الله تعالى- . وفی الحدیث المرفوع لأعطین الرایه غدا رجلا یحب الله و رسوله- و یحبه الله و رسوله
و هذا یتجاوز حد الجلاله و الشرف- . و کان یقال الحب أوله ختل و آخره قتل- . قیل کتب یحیى بن معاذ إلى أبی یزید- سکرت من کثره ما شربت من محبته- فکتب إلیه أبو زید- غیرک شرب بحور السموات و الأرض- و ما روی بعد و لسانه خارج و هو یقول هل من مزید- .و أنشد-

عجبت لمن یقول ذکرت حبی
و هل أنسى فأذکر ما نسیت‏

شربت الحب کأسا بعد کأس‏
فما نفد الشراب و لا رویت‏

و قیل المحبه سکر لا یصحو صاحبه إلا بمشاهده محبوبه- ثم السکر الذی یحصل عند المشاهده لا یوصف- . و أنشدوا-

فأسکر القوم دور کأس
و کان سکری من المدیر

 و منها الشوق-جاء فی الخبر المرفوع أن الجنه لتشتاق إلى ثلاثه- علی و سلمان و عمار- . الشوق مرتبه من مراتب القوم- و مقام من مقاماتهم- سئل ابن عطاء الشوق أعلى أم المحبه- فقال المحبه لأن الشوق منها یتولد- . ومن الأدعیه النبویه المأثوره- الدعاء الذی کان یدعو به عمار بن یاسر رضی الله عنه اللهم بعلمک بالغیب و قدرتک على الخلق- أحینی ما علمت الحیاه خیرا لی- و توفنی ما کانت الوفاه خیرا لی- اللهم إنی أسألک خشیتک فی الغیب و الشهاده- و أسألک کلمه الحق فی الرضا و الغضب- و أسألک القصد فی الغنى و الفقر- و أسألک نعیما لا یبید و قره عین لا تنقطع- و أسألک الرضا بعد القضاء و برد العیش بعد الموت- و أسألک النظر إلى وجهک- و الشوق إلى لقائک من غیر ضراء مضره- اللهم زینا بزینه الإیمان و اجعلنا هداه مهتدین- . قالوا الشوق احتیاج القلب إلى لقاء المحبوب- و على قدر المحبه یکون الشوق- و علامه الشوق حب الموت- .

و هذا هو السر فی قوله تعالى- فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ- أی أن من کان صاحب محبه یتمنى لقاء محبوبه- فمن لا یتمنى ذلک لا یکون صادق المحبه- . قیل لبعض الصوفیه هل تشتاق إلیه- فقال إنما الشوق إلى غائب و هو حاضر لا یغیب- . و قالوا فی قوله تعالى- مَنْ کانَ یَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ- إنه تطیب لقلوب المشتاقین- .

و
یقال إنه مکتوب فی بعض کتب النبوات القدیمه شوقناکم فلم تشتاقوا- و زمرنا لکم فلم ترقصوا- و خوفناکم فلم ترهبوا و نحنا لکم فلم تحزنواوقیل إن شعیبا بکى حتى عمی فرد الله إلیه بصره- ثم بکى حتى عمی فرد علیه بصره ثم کذلک ثلاثا- فقال الله تعالى- إن کان هذا البکاء شوقا إلى الجنه فقد أبحتها لک- و إن کان خوفا من النار فقد أجرتک منها- فقال و حقک لا هذا و لا هذا و لکن شوقا إلیک- فقال له لأجل ذلک أخدمتک نبیی و کلیمی عشر سنین
– .

و منها الزهد و رفض الدنیا– قال سبحانه- وَ لا تَمُدَّنَّ عَیْنَیْکَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ- زَهْرَهَ الْحَیاهِ الدُّنْیا و
جاء فی الخبر أن یوسف ع کان یجوع فی سنی الجدب- فقیل له أ تجوع و أنت على خزائن مصر- فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجیاعو کذلک قال علی ع و قد قیل له أ هذا لباسک- و هذا مأکولک و أنت أمیرالمؤمنین- فقال نعم إن الله فرض على أئمه العدل- أن یقدروا لأنفسهم کضعفه الناس- کیلا یتبیغ بالفقیر فقره- . و منع عمر بن الخطاب نفسه عام الرماده الدسم- و قال لا آکله حتى یصیبه المسلمون جمیعا- . و کان عمر بن عبد العزیز من أکثر الناس تنعما- قبل أن یلی الخلافه- قومت ثیابه حینئذ بألف دینار- و قومت و هو یخطب الناس أیام خلافته بثلاثه دراهم- .

و اعلم أن بعض هذه المراتب و المقامات- التی ذکرناها للقوم قد یکون متداخلا فی الظاهر- و له فی الباطن عندهم فرق یعرفه من یأنس بکتبهم- و قد أتینا فی تقسیم مراتبهم- و تفصیل مقاماتهم فی هذا الفصل بما فیه کفایه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۴۲۴

خطبه ۲۱۶ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۱۶ و من کلام له ع قاله بعد تلاوته

أَلْهاکُمُ التَّکاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ- یَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَ زَوْراً مَا أَغْفَلَهُ- وَ خَطَراً مَا أَفْظَعَهُ- لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَیَّ مُدَّکِرٍ وَ تَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَکَانٍ بَعِیدٍ- أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ یَفْخَرُونَ- أَمْ بِعَدِیدِ الْهَلْکَى یَتَکَاثَرُونَ قد اختلف المفسرون فی تأویل هاتین الآیتین- فقال قوم المعنى أنکم قطعتم أیام عمرکم- فی التکاثر بالأموال و الأولاد حتى أتاکم الموت- فکنی عن حلول الموت بهم بزیاره المقابر- . و قال قوم بل کانوا یتفاخرون بأنفسهم- و تعدى ذلک إلى أن تفاخروا بأسلافهم الأموات- فقالوا منا فلان و فلان لقوم کانوا و انقرضوا- . و هذا هو التفسیر الذی یدل علیه کلام أمیر المؤمنین ع- قال یا له مراما منصوب على التمییز- . ما أبعده أی لا فخر فی ذلک- و طلب الفخر من هذا الباب بعید- و إنما الفخر بتقوى الله و طاعته- .

و زورا ما أغفله إشاره إلى القوم الذین افتخروا- جعلهم بتذکر الأموات السالفین کالزائرین لقبورهم- و الزور اسم للواحد و الجمع کالخصم و الضیف- قال ما أغفلهم عما یراد منهم- لأنهم ترکوا العباده و الطاعه- و صرموا الأوقات بالمفاخره بالموتى- . ثم قال و خطرا ما أفظعه- إشاره إلى الموت أی ما أشده- فظع الشی‏ء بالضم فهو فظیع- أی شدید شنیع مجاوز للمقدار- .

قوله لقد استخلوا منهم أی مدکر- قال الراوندی- أی وجدوا موضع التذکر خالیا من الفائده- و هذا غیر صحیح- و کیف یقول ذلک و قد قال و خطرا ما أفظعه- و هل یکون أمر أعظم تذکیرا من الاعتبار بالموتى- و الصحیح أنه أراد باستخلوا- ذکر من خلا من آبائهم أی من مضى- یقال هذا الأمر من الأمور الخالیه- و هذا القرن من القرون الخالیه أی الماضیه- . و استخلى فلان فی حدیثه أی حدث عن أمور خالیه- و المعنى أنه استعظم ما یوجبه حدیثهم- عما خلا و عمن خلا من أسلافهم- و آثار أسلافهم من التذکیر- فقال أی مدکر و واعظ فی ذلک-

و روی أی مذکر بمعنى المصدر- کالمعتقد بمعنى الاعتقاد و المعتبر بمعنى الاعتبار- . و تناوشوهم من مکان بعید أی تناولوهم- و المراد ذکروهم و تحدثوا عنهم- فکأنهم تناولوهم- و هذه اللفظه من ألفاظ القرآن العزیز- وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَکانٍ بَعِیدٍ- و أنى لهم تناول الإیمان حینئذ بعد فوات الأمر:

یَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَ حَرَکَاتٍ سَکَنَتْ- وَ لَأَنْ یَکُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ یَکُونُوا مُفْتَخَراً- وَ لَأَنْ یَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّهٍ- أَحْجَى مِنْ أَنْ یَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّهٍ- لَقَدْ نَظَرُوا إِلَیْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَهِ- وَ ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِی غَمْرَهِ جَهَالَهٍ- وَ لَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْکَ الدِّیَارِ الْخَاوِیَهِ- وَ الرُّبُوعِ الْخَالِیَهِ لَقَالَتْ- ذَهَبُوا فِی الْأَرْضِ ضُلَّالًا وَ ذَهَبْتُمْ فِی أَعْقَابِهِمْ جُهَّالًا- تَطَئُونَ فِی هَامِهِمْ وَ تَسْتَنْبِتُونَ فِی أَجْسَادِهِمْ- وَ تَرْتَعُونَ فِیمَا لَفَظُوا وَ تَسْکُنُونَ فِیمَا خَرَّبُوا- وَ إِنَّمَا الْأَیَّامُ بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَهُمْ بَوَاکٍ وَ نَوَائِحُ عَلَیْکُمْ- أُولَئِکُمْ سَلَفُ غَایَتِکُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِکُمْ- الَّذِینَ کَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ- وَ حَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوکاً وَ سُوَقاً یرتجعون منهم أجسادا أی یذکرون آباءهم- فکأنهم ردوهم إلى الدنیا و ارتجعوهم من القبور- و خوت خلت- . قال و هؤلاء الموتى أحق بأن یکونوا عبره و عظه- من أن یکونوا فخرا و شرفا- و المفتخرون بهم أولى بالهبوط- إلى جانب الذله منهم بالقیام مقام العز- . و تقول هذا أحجى من فلان- أی أولى و أجدر و الجناب الفناء- .

ثم قال لقد نظروا إلیهم بأبصار العشوه- أی لم ینظروا النظر المفضی إلى الرؤیه- لأن أبصارهم ذات عشوه- و هو مرض فی العین ینقص به الأبصار- و فی عین فلان عشاء و عشوه بمعنى- و منه قیل لکل أمر ملتبس- یرکبه الراکب على غیر بیان أمر عشوه- و منه أوطأتنی عشوه و یجوز بالضم و الفتح- .

قال و ضربوا بهم فی غمره جهاله- أی و ضربوا من ذکر هؤلاء الموتى فی بحر جهل- و الضرب ها هنا استعاره- أو یکون من الضرب بمعنى السیر- کقوله تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِی الْأَرْضِ- أی خاضوا و سبحوا من ذکرهم فی غمره جهاله- و کل هذا یرجع إلى معنى واحد- و هو تسفیه رأی المفتخرین بالموتى- و القاطعین الوقت بالتکاثر بهم- إعراضا عما یجب إنفاقه من العمر فی الطاعه و العباده- . ثم قال لو سألوا عنهم دیارهم التی خلت منهم- و یمکن أن یرید بالدیار و الربوع القبور- لقالت ذهبوا فی الأرض ضلالا أی هالکین- و منه قوله تعالى- وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِی الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِی خَلْقٍ جَدِیدٍ- . و ذهبتم فی أعقابهم أی بعدهم جهالا لغفلتکم و غرورکم- . قوله ع تطئون فی هامهم- أخذ هذا المعنى أبو العلاء المعری فقال-

خفف الوطء ما أظن أدیم
الأرض إلا من هذه الأجساد

رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحک من تزاحم الأضداد

و دفین على بقایا دفین
من عهود الآباء و الأجداد

صاح هذی قبورنا تملأ الأرض‏
فأین القبور من عهد عاد

سر إن اسطعت فی الهواء ر
ویدا لا اختیالا على رفات العباد

قوله و تستنبتون فی أجسادهم- أی تزرعون النبات فی أجسادهم- و ذلک لأن أدیم الأرض الظاهر- إذا کان من أبدان الموتى- فالزرع لا محاله یکون نابتا فی الأجزاء الترابیه- التی هی أبدان الحیوانات- و روی و تستثبتون بالثاء- أی و تنصبون الأشیاء الثابته کالعمد و الأساطین- للأوطان فی أجساد الموتى- .

ثم قال و ترتعون فیما لفظوا- لفظت الشی‏ء بالفتح رمیته من فمی ألفظه بالکسر- و یجوز أن یرید بذلک أنکم تأکلون ما خلفوه و ترکوه- و یجوز أن یرید أنکم تأکلون الفواکه- التی تنبت فی أجزاء ترابیه- خالطها الصدید الجاری من أفواههم ثم قال و تسکنون فیما خربوا- أی تسکنون فی المساکن التی لم یعمروها- بالذکر و العباده- فکأنهم أخربوها فی المعنى- ثم سکنتم أنتم فیها بعدهم- و یجوز أن یرید أن کل دار عامره- قد کانت من قبل خربه- و إنما أخربها قوم بادوا و ماتوا- فإذن لا ساکن منا فی عماره- إلا و یصدق علیه أنه ساکن فیما قد کان خرابا من قبل- و الذین أخربوه الآن موتى- و یجوز أن یرید بقوله و تسکنون فیما خربوا- و تسکنون فی دور فارقوها و أخلوها- فأطلق على الخلو و الفراغ لفظ الخراب مجازا- . قوله و إنما الأیام بینکم و بینهم- بواک و نوائح علیکم- یرید أن الأیام و اللیالی تشیع رائحا إلى المقابر و تبکی- و تنوح على الباقین الذین سیلتحقون به عن قریب- .

قوله أولئکم سلف غایتکم- السلف المتقدمون و الغایه الحد الذی ینتهی إلیه- إما حسیا أو معنویا و المراد هاهنا الموت- . و الفرط القوم یسبقون الحی إلى المنهل- . و مقاوم العز دعائمه جمع مقوم- و أصلها الخشبه التی یمسکها الحراث- و حلبات الفخر جمع حلبه و هی الخیل تجمع للسباق- . و السوق بفتح الواو جمع سوقه و هو من دون الملک: سَلَکُوا فِی بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِیلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَیْهِمْ فِیهِ- فَأَکَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ- فَأَصْبَحُوا فِی فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا یَنْمُونَ- وَ ضِمَاراً لَا یُوجَدُونَ- لَا یُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ- وَ لَا یَحْزُنُهُمْ تَنَکُّرُ الْأَحْوَالِ- وَ لَا یَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَ لَا یَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ- غُیَّباً لَا یُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لَا یَحْضُرُونَ- وَ إِنَّمَا کَانُوا جَمِیعاً فَتَشَتَّتُوا وَ أُلَّافاً فَافْتَرَقُوا- وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ- عَمِیَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِیَارُهُمْ- وَ لَکِنَّهُمْ سُقُوا کَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً- وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَکَاتِ سُکُوناً- فَکَأَنَّهُمْ فِی ارْتِجَالِ الصِّفَهِ صَرْعَى سُبَاتٍ- جِیرَانٌ لَا یَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لَا یَتَزَاوَرُونَ- بَلِیَتْ بَیْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ-

وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ- فَکُلُّهُمْ وَحِیدٌ وَ هُمْ جَمِیعٌ- وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ- لَا یَتَعَارَفُونَ لِلَیْلٍ صَبَاحاً وَ لَا لِنَهَارٍ مَسَاءً- أَیُّ الْجَدِیدَیْنِ ظَعَنُوا فِیهِ کَانَعَلَیْهِمْ سَرْمَداً- شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا- وَ رَأَوْا مِنْ آیَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا- فَکِلَا الْغَایَتَیْنِ مُدَّتْ لَهُمْ- إِلَى مَبَاءَهٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَ الرَّجَاءِ- فَلَوْ کَانُوا یَنْطِقُونَ بِهَا- لَعَیُّوا بِصِفَهِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَایَنُوا- وَ لَئِنْ عَمِیَتْ آثَارُهُمْ وَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ- لَقَدْ رَجَعَتْ فِیهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ- وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ- وَ تَکَلَّمُوا مِنْ غَیْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ- فَقَالُوا کَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ وَ خَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ- وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى وَ تَکَاءَدَنَا ضِیقُ الْمَضْجَعِ- وَ تَوَارَثْنَا الْوَحْشَهَ وَ تَهَدَّمَتْ عَلَیْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ- فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَکَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا- وَ طَالَتْ فِی مَسَاکِنِ الْوَحْشَهِ إِقَامَتُنَا- وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ کَرْبٍ فَرَجاً وَ لَا مِنْ ضِیقٍ مُتَّسَعاً- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِکَ- أَوْ کُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَکَ- وَ قَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَکَّتْ- وَ اکْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ- وَ تَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَهُ فِی أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا-

وَ هَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِی صُدُورِهِمْ بَعْدَ یَقَظَتِهَا- وَ عَاثَ فِی کُلِّ جَارِحَهٍ مِنْهُمْ جَدِیدُ بِلًى سَمَّجَهَا- وَ سَهَّلَ طُرُقَ الآْفَهِ إِلَیْهَا- مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَیْدٍ تَدْفَعُ وَ لَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ- لَرَأَیْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَ أَقْذَاءَ عُیُونٍ- لَهُمْ فِی کُلِّ فَظَاعَهٍ صِفَهُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ- وَ غَمْرَهٌ لَا تَنْجَلِی- فَکَمْ أَکَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِیزِ جَسَدٍ وَ أَنِیقِ لَوْنٍ- کَانَ فِی الدُّنْیَا غَذِیَّ تَرَفٍ وَ رَبِیبَ شَرَفٍ- یَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِی سَاعَهِ حُزْنِهِ- وَ یَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَهِ إِنْ مُصِیبَهٌ نَزَلَتْ بِهِ- ضَنّاً بِغَضَارَهِ عَیْشِهِ وَ شَحَاحَهً بِلَهْوِهِ وَ لَعِبِهِ فَبَیْنَا هُوَ یَضْحَکُ إِلَى الدُّنْیَا وَ تَضْحَکُ إِلَیْهِ- فِی ظِلِّ عَیْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَکَهُ- وَ نَقَضَتِ الْأَیَّامُ قُوَاهُ- وَ نَظَرَتْ إِلَیْهِ الْحُتُوفُ مِنْ کَثَبٍ- فَخَالَطَهُ بَثٌّ لَا یَعْرِفُهُ وَ نَجِیُّ هَمٍ‏مَا کَانَ یَجِدُهُ- وَ تَوَلَّدَتْ فِیهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا کَانَ بِصِحَّتِهِ- فَفَزِعَ إِلَى مَا کَانَ عَوَّدَهُ الْأَطِبَّاءُ- مِنْ تَسْکِینِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وَ تَحْرِیکِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ- فَلَمْ یُطْفِئُ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَهً- وَ لَا حَرَّکَ بِحَارٍّ إِلَّا هَیَّجَ بُرُودَهً- وَ لَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْکَ الطَّبَائِعِ- إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا کُلَّ ذَاتِ دَاءٍ- حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ- وَ تَعَایَا أَهْلُهُ بِصِفَهِ دَائِهِ- وَ خَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلینَ عَنْهُ- وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِیَّ خَبَرٍ یَکْتُمُونَهُ- فَقَائِلٌ هُوَ لِمَا بِهِ وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِیَابَ عَافِیَتِهِ- وَ مُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ- یُذَکِّرُهُمْ أَسَى الْمَاضِینَ مِنْ قَبْلِهِ- فَبَیْنَا هُوَ کَذَلِکَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْیَا- وَ تَرْکِ الْأَحِبَّهِ- إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ- فَتَحَیَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَ یَبِسَتْ رُطُوبَهُ لِسَانِهِ- فَکَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَیَّ عَنْ رَدِّهِ- وَ دُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ- مِنْ کَبِیرٍ کَانَ یُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِیرٍ کَانَ یَرْحَمُهُ- وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِیَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَهٍ- أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْیَا هذا موضع المثل ملعا یا ظلیم و إلا فالتخویه- من أراد أن یعظ و یخوف و یقرع صفاه القلب- و یعرف الناس قدر الدنیا و تصرفها بأهلها- فلیأت بمثل هذه الموعظه فی مثل هذا الکلام الفصیح- و إلا فلیمسک فإن السکوت أستر و العی خیر من منطق یفضح صاحبه- و من تأمل هذا الفصل علم صدق معاویه فی قوله فیه- و الله ما سن‏الفصاحه لقریش غیره- و ینبغی لو اجتمع فصحاء العرب قاطبه فی مجلس- و تلى علیهم أن یسجدوا له- کما سجد الشعراء لقول عدی بن الرقاع-قلم أصاب من الدواه مدادها- . فلما قیل لهم فی ذلک- قالوا إنا نعرف مواضع السجود فی الشعر- کما تعرفون مواضع السجود فی القرآن- .

و إنی لأطیل التعجب من رجل یخطب فی الحرب بکلام- یدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود- و النمور و أمثالهما من السباع الضاریه- ثم یخطب فی ذلک الموقف بعینه إذا أراد الموعظه- بکلام یدل على أن طبعه مشاکل لطباع الرهبان- لابسی المسوح الذین لم یأکلوا لحما و لم یریقوا دما- فتاره یکون فی صوره بسطام بن قیس الشیبانی- و عتیبه بن الحارث الیربوعی- و عامر بن الطفیل العامری- و تاره یکون فی صوره سقراط الحبر الیونانی- و یوحنا المعمدان الإسرائیلی- و المسیح ابن مریم الإلهی- .

و أقسم بمن تقسم الأمم کلها به- لقد قرأت هذه الخطبه منذ خمسین سنه و إلى الآن- أکثر من ألف مره- ما قرأتها قط إلا و أحدثت عندی روعه و خوفا و عظه- و أثرت فی قلبی وجیبا و فی أعضائی رعده- و لا تأملتها إلا و ذکرت الموتى من أهلی و أقاربی- و أرباب ودی- و خیلت فی نفسی أنی أنا ذلک الشخص الذی وصف ع حاله- و کم قد قال الواعظون و الخطباء و الفصحاء فی هذا المعنى- و کم وقفت على ما قالوه و تکرر وقوفی علیه- فلم أجد لشی‏ء منه مثل تأثیر هذا الکلام فی نفسی- فإما أن یکون ذلک لعقیدتی فی قائله- أو کانت نیه القائل صالحه و یقینه کان ثابتا- و إخلاصه کان محضاخالصا- فکان تأثیر قوله فی النفوس أعظم- و سریان موعظته فی القلوب أبلغ ثم نعود إلى تفسیر الفصل- فالبرزخ الحاجز بین الشیئین- و البرزخ ما بین الدنیا و الآخره من وقت الموت إلى البعث- فیجوز أن یکون البرزخ فی هذا الموضع القبر- لأنه حاجز بین المیت و بین أهل الدنیا- کالحائط المبنی بین اثنین فإنه برزخ بینهما- و یجوز أن یرید به- الوقت الذی بین حال الموت إلى حال النشور- و الأول أقرب إلى مراده ع- لأنه قال فی بطون البرزخ- و لفظه البطون تدل على التفسیر الأول- و لفظتا أکلت الأرض من لحومهم- و شربت من دمائهم مستعارتان- .
و الفجوات جمع فجوه و هی الفرجه المتسعه بین الشیئین- قال سبحانه وَ هُمْ فِی فَجْوَهٍ مِنْهُ- و قد تفاجى الشی‏ء إذا صارت له فجوه- .

و جمادا لا ینمون- أی خرجوا عن صوره الحیوانیه إلى صوره الجماد- الذی لا ینمی و لا یزید- و یروى لا ینمون بتشدید المیم- من النمیمه و هی الهمس و الحرکه- و منه قولهم أسکت الله نامته- فی قول من شدد و لم یهمز- . و ضمارا یقال لکل ما لا یرجى من الدین و الوعد- و کل ما لا تکون منه على ثقه ضمار- . ثم ذکر أن الأهوال الحادثه فی الدنیا لا تفزعهم- و أن تنکر الأحوال بهم و بأهل الدنیا لا یحزنهم- و یروى تحزنهم على أن الماضی رباعی- . و مثله قوله لا یحفلون بالرواجف- أی لا یکترثون بالزلازل- .

قوله و لا یأذنون للقواصف- أی لا یسمعون الأصوات الشدیده أذنت لکذا أی سمعته- . و جمع الغائب غیب و غیب و کلاهما مروی هاهنا- و أراد أنهم شهود فی الصوره و غیر حاضرین فی المعنى- . و ألاف على فعال جمع آلف کالطراق جمع طارق- و السمار جمع سامر و الکفار جمع کافر- . ثم ذکر أنه لم تعم أخبارهم- أی لم تستبهم أخبارهم و تنقطع عن بعد عهد بهم- و لا عن بعد منزل لهم- و إنما سقوا کأس المنون التی أخرستهم بعد النطق- و أصمتهم بعد السمع و أسکنتهم بعد الحرکه- .

و قوله و بالسمع صمما أی لم یسمعوا فیها نداء المنادی- و لا نوح النائح أو لم یسمع فی قبورهم صوت منهم- . قوله فکأنهم فی ارتجال الصفه- أی إذا وصفهم الواصف مرتجلا غیر مترو فی الصفه- و لا متهیئ للقول- . قال کأنهم صرعى سبات و هو نوم- لأنه لا فرق فی الصوره بین المیت حال موته و النائم المسبوت- . ثم وصفهم بأنهم جیران- إلا أنهم لا مؤانسه بینهم کجیران الدنیا- و أنهم أحباء إلا أنهم لا یتزاورون کالأحباب من أهل الدنیا- . و قوله أحباء جمع حبیب- کخلیل و أخلاء و صدیق و أصدقاء- . ثم ذکر أن عرا التعارف قد بلیت منهم- و انقطعت بینهم أسباب الإخاء- و هذه کلها استعارات لطیفه مستحسنه- .

ثم وصفهم بصفه أخرى- فقال کل واحد منهم موصوف بالوحده- و هم مع ذلک مجتمعون- بخلاف الأحیاء الذین إذا انضم بعضهم إلى بعض- انتفى عنه وصف الوحده- . ثم قال و بجانب الهجر و هم أخلاء- أی و کل منهم فی جانب الهجر- و هم مع ذلک أهل خله و موده أی کانوا کذلک- و هذا کله من باب الصناعه المعنویه و المجاز الرشیق- . ثم قال إنهم لا یعرفون للنهار لیلا و لا للیل نهارا- و ذلک لأن الواحد من البشر- إذا مات نهارا لم یعرف لذلک النهار لیلا أبدا- و إن مات لیلا لم یعرف لذلک اللیل صباحا أبدا- و قال الشاعر-

لا بد من یوم بلا لیله
أو لیله تأتی بلا یوم‏

 و لیس المراد بقوله- أی الجدیدین ظعنوا فیه کان علیهم سرمدا- أنهم و هم موتى یشعرون بالوقت الذی ماتوا فیه- و لا یشعرون بما یتعقبه من الأوقات- بل المراد أن صوره ذلک الوقت لو بقیت عندهم لبقیت أبدا- من غیر أن یزیلها وقت آخر یطرأ علیها- و یجوز أن یفسر على مذهب من قال ببقاء الأنفس- فیقال إن النفس التی تفارق لیلا- تبقى الصوره اللیلیه و الظلمه حاصله عندها أبدا- لا تزول بطرآن نهار علیها لأنها قد فارقت الحواس- فلا سبیل لها- إلى أن یرتسم فیها شی‏ء من المحسوسات بعد المفارقه- و إنما حصل ما حصل من غیر زیاده علیه- و کذلک الأنفس التی تفارق نهارا
بعض الأشعار و الحکایات فی وصف القبور و الموتىو اعلم أن الناس قد قالوا فی حال الموتى فأکثروا- فمن ذلک قول الرضی أبی الحسن رحمه الله تعالى-

أعزز علی بأن نزلت بمنزل
متشابه الأمجاد بالأوغاد

فی عصبه جنبوا إلى آجالهم‏
و الدهر یعجلهم عن الإرواد

ضربوا بمدرجه الفناء قبابهم
من غیر أطناب و لا أعماد

رکب أناخوا لا یرجى منهم‏
قصد لإتهام و لا إنجاد

کرهوا النزول فأنزلتهم وقعه
للدهر بارکه بکل مفاد

فتهافتوا عن رحل کل مذلل‏
و تطاوحوا عن سرج کل جواد

بادون فی صور الجمیع
و إنهم متفردون تفرد الآحاد

 قوله بادون فی صور الجمیع- مأخوذ من قول أمیر المؤمنین ع- فکلهم وحید و هم جمیع- . و قال أیضا-

و لقد حفظت له فأین حفاظه
و لقد وفیت له فأین وفاؤه‏

أوعى الدعاء فلم یجبه قطیعه
أم ضل عنه من البعاد دعاؤه‏

هیهات أصبح سمعه و عیانه
فی الترب قد حجبتها أقذاؤه‏

یمسی و لین مهاده حصباؤه‏
فیه و مؤنس لیله ظلماؤه‏

قد قلبت أعیانه و تنکرت
أعلامه و تکسفت أضواؤه‏

مغف و لیس للذه إغفاؤه
مغض و لیس لفکره إغضاؤه‏

وجه کلمع البرق غاض و میضه‏
قلب کصدر العضب فل مضاؤه‏

حکم البلى فیه فلو تلقى
به أعداءه لرتى له أعداؤه‏

 و قال أبو العلاء-

أستغفر الله ما عندی لکم
خبر و ما خطابی إلا معشرا قبروا

أصبحتم فی البلى غبرا ملابسکم‏
من الهباء فأین البرد و القطر

کنتم على کل خطب فادح صبرا
فهل شعرتم و قد جادتکم الصبر

و ما درى یوم أحد بالذین ثووا
فیه و لا یوم بدر أنهم نصروا

 و قال أبو عارم الکلابی-

أ جازعه ردینه أن أتاها
نعیی أم یکون لها اصطبار

إذا ما أهل قبری و دعونی‏
و راحوا و الأکف بها غبار

و غودر أعظمی فی لحد
قبر تراوحه الجنائب و القطار

تهب الریح فوق محط قبری‏
و یرعى حوله اللهق النوار

مقیم لا یکلمه صدیق
بقبر لا أزور و لا أزار

فذاک النأی لا الهجران حولا
و حولا ثم تجتمع الدیار

 مر الإسکندر بمدینه- قد ملکها سبعه أملاک من بیت واحد و بادوا- فسأل هل بقی من نسلهم أحد- قالوا بقی واحد و هو یلزم المقابر- فدعا به فسأله لم تلزم المقابر- قال أردت أن أمیز عظام الملوک من عظام عبیدهم- فوجدتها سواء- قال هل لک أن تلزمنی حتى أنیلک بغیتک- قال لو علمت أنک تقدر على ذلک للزمتک- قال و ما بغیتک‏قال حیاه لا موت معها- قال لن أقدر على ذلک- قال فدعنی أطلبه ممن یقدر علیه- .قال النبی ص ما رأیت منظرا إلا و القبر أفظع منه
وقال ص القبر أول منزل من منازل الآخره- فمن نجا منه فما بعده أیسر و من لم ینج فما بعده شر له- .

مر عبد الله بن عمر رضی الله عنه بمقبره فصلى فیها رکعتین- و قال ذکرت أهل القبور و أنه حیل بینهم و بین هذا- فأحببت أن أتقرب بهما إلى اللهفإن قلت ما معنى قوله ع و بجانب الهجر- و أی فائده فی لفظه جانب فی هذا الموضع- . قلت لأنهم یقولون فلان فی جانب الهجر و فی جانب القطیعه- و لا یقولون فی جانب الوصل و فی جانب المصافاه- و ذلک أن لفظه جنب فی الأصل موضوعه للمباعده- و منه قولهم الجار الجنب و هو جارک من قوم غرباء- یقال جنبت الرجل و أجنبته و تجنبته و تجانبته- کله بمعنى- و رجل أجنبی و أجنب و جنب و جانب کله بمعنى- .

قوله ع شاهدوا من أخطار دارهم- المعنى أنه شاهد المتقون من آثار الرحمه و أماراتها- و شاهد المجرمون من آثار النقمه و أماراتها عند الموت- و الحصول فی القبر أعظم مما کانوا یسمعون و یظنون- أیام کونهم فی الدنیا- . ثم قال فکلا الغایتین مدت لهم- المعنى مدت الغایتان غایه الشقی منهم و غایه السعید- .إلى مباءه أی إلى منزل یعظم حاله عن أن یبلغه خوف خائف- أو رجاء راج- و تلک المباءه هی النار أو الجنه- و تقول قد استباء الرجل أی اتخذ مباءه- و أبأت الإبل رددتها إلى مباءتها و هی معاطنها- . ثم قال فلو کانوا ینطقون بها لعیوا بتشدید الیاء- قال الشاعر-

عیوا بأمرهم کما عیت
ببیضتها الحمامه

جعلت لها عودین من‏
نشم و آخر من ثمامه

و روی لعیوا بالتخفیف کما تقول حیوا- قالوا ذهبت الیاء الثانیه لالتقاء الساکنین- لأن الواو ساکنه و ضمت الیاء الأولى لأجل الواو- قال الشاعر-

و کنا حسبناهم فوارس کهمس
حیوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا

 قوله لقد رجعت فیهم یقال رجع البصر نفسه- و رجع زید بصره یتعدى و لا یتعدى- یقول تکلموا معنى لا صوره- فأدرکت حالهم بالأبصار و الأسماع العقلیه لا الحسیه- و کلحت الوجوه کلوحا و کلاحا- و هو تکشر فی عبوس- . و النواضر النواعم و النضره الحسن و الرونق- . و خوت الأجساد النواعم- خلت من دمها و رطوبتها و حشوتها- و یجوز أن یکون خوت أی سقطت- قال تعالى فَهِیَ خاوِیَهٌ عَلى‏ عُرُوشِها- و الأهدام جمع هدم و هو الثوب البالی- قال أوس-
و ذات هدم عار نواشرها تصمت بالماء تولبا جذعا- .

و تکاءدنا شق علینا و منه عقبه کئود- و یجوز تکأدنا- جاءت هذه الکلمه فی أخوات لها تفعل و تفاعل بمعنى- و مثله تعهد الضیعه و تعاهدها- . و یقال قوله و توارثنا الوحشه- کأنه لما مات الأب فاستوحش أهله منه- ثم مات الابن فاستوحش منه أهله أیضا- صار کان الابن ورث تلک الوحشه من أبیه کما تورث الأموال- و هذا من باب الاستعاره- . قوله و تهدمت علینا الربوع- یقال تهدم فلان على فلان غضبا إذا اشتد غضبه- و یجوز أن یکون تهدمت أی تساقطت-

و روی و تهکمت بالکاف- و هو کقولک تهدمت بالتفسیرین جمیعا- و یعنی بالربوع الصموت القبور- و جعلها صموتا لأنه لا نطق فیها- کما تقول لیل قائم و نهار صائم أی یقام و یصام فیهما- و هذا کله على طریق الهز و التحریک- و إخراج الکلام فی معرض غیر المعرض المعهود- جعلهم لو کانوا ناطقین مخبرین عن أنفسهم- لأتوا بما وصفه من أحوالهم- و ورد فی الحدیث أن عمر حضر جنازه رجل- فلما دفن قال لأصحابه قفوا- ثم ضرب فأمعن فی القبور- و استبطأه الناس جدا- ثم رجع و قد احمرت عیناه و انتفخت أوداجه- فقیل أبطأت یا أمیر المؤمنین فما الذی حبسک-

قال أتیت قبور الأحبه فسلمت فلم یردوا علی السلام- فلما ذهبت أقفی نادانی التراب- فقال أ لا تسألنی یا عمر ما فعلت بالیدین- قلت ما فعلت بهما- قال قطعت الکفین من الرسغین- و قطعت الرسغین من الذراعین- و قطعت الذراعین من المرفقین- و قطعت المرفقین من العضدین- و قطعت العضدین من المنکبین- و قطعت المنکبین من الکتفین- فلما ذهبت أقفی نادانی التراب- فقال أ لا تسألنی یا عمر ما فعلت بالأبدان و الرجلین- قلت ما فعلت قال قطعت الکتفین من الجنبین- و قطعت الجنبین من الصلب- و قطعت الصلب من الورکین- و قطعت الورکین من الفخذین- و قطعت الفخذین من الرکبتین-و قطعت الرکبتین من الساقین- و قطعت الساقین من القدمین- فلما ذهبت أقفی نادانی التراب- فقال یا عمر علیک بأکفان لا تبلى- فقلت و ما أکفان لا تبلى-

قال تقوى الله و العمل بطاعته- و هذا من الباب الذی نحن بصدده- نسب الأقوال المذکوره إلى التراب و هو جماد- و لم یکن ذلک- و لکنه اعتبر فانقدحت فی نفسه هذه المواعظ الحکمیه- فأفرغها فی قالب الحکایه- و رتبها على قانون المسأله و الإجابه- و أضافها إلى جماد موات- لأنه أهز لسامعها إلى تدبرها- و لو قال نظرت فاعتبرت فی حال الموتى- فوجدت التراب قد قطع کذا من کذا- لم تبلغ عظته المبلغ الذی بلغته- حیث أودعها فی الصوره التی اخترعها- . قوله ع- فلو مثلتهم بعقلک أو کشف عنهم محجوب الغطاء لک- إلى آخر جواب لو- هذا الکلام أخذه ابن نباته بعینه- فقال فلو کشفتم عنهم أغطیه الأجداث- بعد لیلتین أو ثلاث- لوجدتم الأحداق على الخدود سائله- و الألوان من ضیق اللحود حائله- و هوام الأرض فی نواعم الأبدان جائله- و الرءوس الموسده على الأیمان زائله- ینکرها من کان لها عارفا- و یفر عنها من لم یزل لها آنفا- .

قوله ع ارتسخت أسماعهم- لیس معناه ثبتت کما زعمه الراوندی- لأنها لم تثبت و إنما ثبتت الهوام فیها- بل الصحیح أنه من رسخ الغدیر إذا نش ماؤه و نضب- و یقال قد ارتسخت الأرض بالمطر- إذا ابتلعته حتى یلتقی الثریان- . و استکت أی ضاقت و انسدت- قال النابغه-و نبئت خیر الناس أنک لمتنی و تلک التی تستک منها المسامع‏- .

قوله و اکتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت- أی غارت و ذهبت فی الرأس- و أخذ المتنبی قوله و اکتحلت أبصارهم بالتراب فقال-

یدفن بعضنا بعضا و یمشی
أواخرنا على هام الأوالی‏

و کم عین مقبله النواحی‏
کحیل بالجنادل و الرمال‏

و مغض کان لا یغضی لخطب
و بال کان یفکر فی الهزال‏

و ذلاقه الألسن حدتها- ذلق اللسان و السنان یذلق ذلقا- أی ذرب فهو ذلق و أذلق- . و همدت بالفتح سکنت و خمدت و عاث أفسد- و قوله جدید بلى من فن البدیع- لأن الجده ضد البلى- و قد أخذ الشاعر هذه اللفظه فقال-یا دار غادرنی جدید بلاک رث الجدید فهل رثیث لذاک‏ و سمجها قبح صورتها- و قد سمج الشی‏ء بالضم فهو سمج بالسکون- ثم ضخم فهو ضخم- و یجوز فهو سمج بالکسر مثل خشن فهو خشن- .

قوله و سهل طرق الآفه إلیها- و ذلک أنه إذا استولى العنصر الترابی على الأعضاء- قوی استعدادها للاستحاله من صورتها الأولى إلى غیرها- . و مستسلمات أی منقاده طائعه غیر عاصیه- فلیس لها أید تدفع عنها- و لا لها قلوب تجزع و تحزن لما نزل بها- . و الأشجان جمع شجن و هو الحزن- . و الأقذاء جمع قذى و هو ما یسقط فی العین فیؤذیها- .

قوله صفه حال لا تنتقل- أی لا تنتقل إلى حسن و صلاح- و لیس یرید لا تنتقل مطلقا- لأنها تنتقل إلى فساد و اضمحلال- . و رجل عزیز أی حدث- و عزیز الجسد أی طری- و أنیق اللون معجب اللون- و غذی ترف قذ غذی بالترف و هو التنعم المطغی- . و ربیب شرف أی قد ربی فی الشرف و العز- و یقال رب فلان ولده یربه ربا- و رباه یربیه تربیه- . و یتعلل بالسرور یتلهى به عن غیره- و یفزع إلى السلوه یلتجئ إلیها- و ضنا أی بخلا و غضاره العیش نعیمه و لینه- . و شحاحه أی بخلا شححت بالکسر أشح- و شححت أیضا بالفتح- أشح و أشح بالضم و الکسر شحا و شحاحه- و رجل شحیح و شحاح بالفتح- و قوم شحاح و أشحه- .

و یضحک إلى الدنیا و تضحک إلیه- کنایه عن الفرح بالعمر و العیشه- و کذا کل واحد منهما یضحک إلى صاحبه لشده الصفاء- کأن الدنیا تحبه و هو یحبها- . و عیش غفول قد غفل عن صاحبه- فهو مستغرق فی العیش لم ینتبه له الدهر- فیکدر علیه وقته- قال الشاعر-

و کان المرء فی غفلات عیش
کأن الدهر عنها فی وثاق‏

و قال الآخر-

ألا إن أحلى العیش ما سمحت
به صروف اللیالی و الحوادث نوم‏

 قوله إذ وطئ الدهر به حسکه- أی إذ أوطأه الدهر حسکه- و الهاء فی حسکه ترجع إلى الدهر- عدی الفعل بحرف الجر- کما تقول قام زید بعمرو أی أقامه- .و قواه جمع قوه و هی المره من مرائر الحبل- و هذا الکلام استعاره- . و من کثب من قرب و البث الحزن- و البث أیضا الأمر الباطن الدخیل- . و نجی الهم ما یناجیک و یسارک- و الفترات أوائل المرض- .

و آنس ما کان بصحته منصوب على الحال- و قال الراوندی فی الشرح- هذا من باب أخطب ما یکون الأمیر قائما- ثم ذکر أن العامل فی الحال فترات- قال تقدیره فترات آنس ما کان- و ما ذکره الراوندی فاسد- فإنه لیس هذا من باب أخطب ما یکون الأمیر قائما- لأن ذلک حال سد مسد خبر المبتدإ- و لیس هاهنا مبتدأ- و أیضا فلیس العامل فی الحال فترات و لا فتر- بل العامل تولدت- و القار البارد- .

فإن قلت لم قال تسکین الحار بالقار- و تحریک البارد بالحار- و لأی معنى جعل الأول التسکین و الثانی التحریک- قلت لأن من شأن الحراره التهییج و التثویر- فاستعمل فی قهرها بالبارد لفظه التسکین- و من شأن البروده التخدیر و التجمید- فاستعمل فی قهرها بالحار لفظه التحریک- . قوله و لا اعتدل بممازج لتلک الطبائع- إلا أمد منها کل ذات داء- أی و لا استعمل دواء مفردا معتدل المزاج- أو مرکبا کذلک- إلا و أمد کل طبیعه منها ذات مرض بمرض زائد على الأول- . و ینبغی أن یکون قوله و لا اعتدل بممازج- أی و لا رام الاعتدال لممتزج- لأنه لو حصل له الاعتدال لکان قد برئ من مرضه- فسمی محاوله الاعتدال اعتدالا- لأنه بالاستدلال المعتدلات قد تهیأ للاعتدال- فکان قد اعتدل بالقوه- . و ینبغی أیضا أن یکون قد حذف مفعول أمد- و تقدیره بمرض کما قدرناه نحن- و حذف المفعولات کثیر واسع- .

قوله حتى فتر معلله- لأن معللی المرض فی أوائل المرض یکون عندهم نشاط- لأنهم یرجون البرء- فإذا رأوا أمارات الهلاک فترت همتهم- . قوله و ذهل ممرضه ذهل بالفتح و هذا کالأول- لأن الممرض إذا أعیا علیه المرض- و انسدت علیه أبواب التدبیر یذهل- . قوله و تعایا أهله بصفه دائه- أی تعاطوا العی و تساکتوا إذا سئلوا عنه- و هذه عاده أهل المریض المثقل یجمجمون إذا سئلوا عن حاله- .

قوله و تنازعوا دونه شجى خبر یکتمونه- أی تخاصموا فی خبر ذی شجى- أی خبر ذی غصه یتنازعونه و هم حول المریض سترا دونه- و هو لا یعلم بنجواهم و بما یفیضون فیه من أمره- . فقائل منهم هو لمآبه أی قد أشفى على الموت- و آخر یمنیهم إیاب عافیته أی عودها- آب فلان إلى أهله أی عاد- . و آخر یقول قد رأینا مثل هذا- و من بلغ إلى أعظم من هذا ثم عوفی- فیمنی أهله عود عافیته- . و آخر یصبر أهله على فقده- و یذکر فضیله الصبر و ینهاهم عن الجزع- و یروی لهم أخبار الماضین- . و أسى أهلیهم و الأسى جمع أسوه- و هو ما یتأسى به الإنسان- قالت الخنساء-
و ما یبکون مثل أخی و لکن أسلی النفس عنه بالتأسی‏- . قوله على جناح من فراق الدنیا أی سرعان ما یفارقها- لأن من کان على جناح طائر فأوشک به أن یسقط- .

قوله إذ عرض له عارض یعنی الموت- و من غصصه جمع غصه- و هو ما یعترض مجرى الأنفاس- و یقال إن کل میت من الحیوان لا یموت إلا خنقا- و ذلک لأنه من النفس یدخل- فلا یخرج عوضه أو یخرج فلا یدخل عوضه- و یلزم من ذلک الاختناق- لأن الرئه لا تبقى حینئذ مروحه للقلب- و إذا لم تروحه اختنق- . قوله فتحیرت نوافذ فطنته- أی تلک الفطنه النافذه الثاقبه تحیرت عند الموت و تبلدت- .

قوله و یبست رطوبه لسانه- لأن الرطوبه اللعابیه التی بها یکون الذوق تنشف حینئذ- و یبطل الإحساس باللسان تبعا لسقوط القوه- . قوله فکم من مهم من جوابه عرفه فعی عن رده- نحو أن یکون له مال مدفون- یسأل عنه حال ما یکون محتضرا- فیحاول أن یعرف أهله به فلا یستطیع- و یعجز عن رد جوابهم- و قد رأینا من عجز عن الکلام فأشار إشاره فهموا معناها- و هی الدواه و الکاغذ- فلما حضر ذلک أخذ القلم و کتب فی الکاغذ ما لم یفهم- و یده ترعد ثم مات قوله و دعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه- أظهر الصمم لأنه لا حیله له- . ثم وصف ذلک الدعاء فقال من کبیر کان یعظمه- نحو صراخ الوالد على الولد- و الولد یسمع و لا یستطیع الکلام- و صغیر کان یرحمه نحو صراخ الولد على الوالد- و هو یسمع و لا قدره له على جوابه- .

ثم ذکر غمرات الدنیا فقال- إنها أفظع من أن تحیط الصفات بها و تستغرقها- أی تأتی على کنهها و تعبر عن حقائقها- . قوله أو تعتدل على عقول أهل الدنیا- هذا کلام لطیف فصیح غامض- و معناه‏أن غمرات الموت و أهواله عظیمه جدا- لا تستقیم على العقول و لا تقبلها- إذا شرحت لها و وصفت کما هی على الحقیقه- بل تنبو عنها و لا نصدق بما یقال فیها- فعبر عن عدم استقامتها على العقول بقوله أو یعتدل- کأنه جعلها کالشی‏ء المعوج عند العقل- فهو غیر مصدق به
إیراد أشعار و حکایات فی وصف الموت و أحوال الموتى و مما یناسب ما ذکر من حال الإنسان قول الشاعر-

بینا الفتى مرح الخطا فرحا
بما یسعى له إذ قیل قد مرض الفتى‏

إذ قیل بات بلیله ما نامها
إذ قیل أصبح مثقلا ما یرتجى‏

إذ قیل أمسى شاخصا و موجها
إذ قیل فارقهم و حل به الردى‏

 و قال أبو النجم العجلی-

و المرء کالحالم فی المنام
یقول إنی مدرک أمامی‏

فی قابل ما فاتنی فی العام‏
و المرء یدنیه إلى الحمام‏

مر اللیالی السود و الأیام
إن الفتى یصبح للأسقام‏

کالغرض المنصوب للسهام‏
أخطأ رام و أصاب رام‏

 و قال عمران بن حطان-

أ فی کل عام مرضه ثم نقهه
و ینعى و لا ینعى متى ذا إلى متى‏

و لا بد من یوم یجی‏ء و لیله
یسوقان حتفا راح نحوک أو غدا

 وجاء فی الحدیث أن رسول الله ص مر بمقبره فنادى- یا أهل القبور الموحشه و الربوع المعطله- أ لا أخبرکم بما حدث بعدکم- تزوج نساؤکم و تبوئت مساکنکم- و قسمت أموالکم- هل أنتم مخبرون بما عاینتم- ثم قال ألا إنهم لو أذن لهم فی الجواب- لقالوا وجدنا خیر الزاد التقوى- . و نظر الحسن إلى رجل یجود بنفسه- فقال إن أمرا هذا آخره- لجدیر أن یزهد فی أوله- و إن أمرا هذا أوله لجدیر أن یخاف آخره- . و قال عبده بن الطبیب- و یعجبنی قوله على الحال التی کان علیها- فإنه کان أسود لصا من لصوص بنی سعد بن زید مناه بن تمیم- .

و لقد علمت بأن قصری حفره
غبراء یحملنی إلیها شرجع‏

فبکى بناتی شجوهن و زوجتی‏
و الأقربون إلی ثم تصدعوا

و ترکت فی غبراء یکره وردها
تسفی على الریح ثم أودع‏

أن الحوادث یخترمن و إنما
عمر الفتى فی أهله مستودع‏

 و نظیر هذه الأبیات فی رویها و عروضها- قول متمم بن نویره الیربوعی-

و لقد علمت و لا محاله أننی
للحادثات فهل ترینی أجزع‏

أهلکن عادا ثم آل محرق‏
فترکنهم بلدا و ما قد جمعوا

و لهن کان الحارثان کلاهما
و لهن کان أخو المصانع تبع‏

فعددت آبائی إلى عرق الثرى‏
فدعوتهم فعلمت أن لم یسمعوا

ذهبوا فلم أدرکهم ودعتهم
غول أتوها و الطریق المهیع‏

لا بد من تلف مصیب فانتظر
أ بأرض قومک أم بأخرى تصرع‏

و لیأتین علیک یوم مره یبکى
علیک مقنعا لا تسمع‏

 لما فتح خالد بن الولید عین التمر- سال عن الحرقه بنت النعمان بن المنذر- فدل علیها فأتاها و کانت عمیاء- فسألها عن حالها فقالت لقد طلعت علینا الشمس- ما شی‏ء یدب تحت الخورنق إلا تحت أیدینا- ثم غربت و قد رحمنا کل من یدور به- و ما بیت دخلته حبره إلا دخلته عبره- ثم قالت-

و بینا نسوس الناس و الأمر
أمرنا إذا نحن فیه سوقه نتنصف‏

فأف لدنیا لا یدوم نعیمها
تقلب تارات بنا و تصرف‏

فقال قائل ممن کان حول خالد- قاتل الله عدی بن زید لکأنه ینظر إلیها حین یقول-

إن للدهر صرعه فاحذرنها
لا تبیتن قد أمنت الدهورا

قد یبیت الفتى معافى فیردى‏
و لقد کان آمنا مسرورا

دخل عبد الله بن العباس على عبد الملک بن مروان یوم قر- و هو على فرش‏یکاد یغیب فیها- فقال یا ابن عباس إنی لأحسب الیوم باردا قال أجل- و إن ابن هند عاش فی مثل ما ترى عشرین أمیرا- و عشرین خلیفه- ثم هو ذاک على قبره ثمامه تهتز- . فیقال إن عبد الملک أرسل إلى قبر معاویه- فوجد علیه ثمامه نابته- . کان محمد بن عبد الله بن طاهر فی قصره ببغداد على دجله- فإذا بحشیش على وجه الماء فی وسطه قصبه على رأسها رقعه- فأمر بها فوجد هذا-

تاه الأعیرج و استولى به البطر
فقل له خیر ما استعملته الحذر

أحسنت ظنک بالأیام إذ حسنت‏
و لم تخف سوء ما یأتی به القدر

و سالمتک اللیالی فاغتررت
بها و عند صفو اللیالی یحدث الکدر

فلم ینتفع بنفسه أیاما- . عدی بن زید-

أیها الشامت المعیر
بالدهر أ أنت المبرأ الموفور

أم لدیک العهد الوثیق من الأیام‏
بل أنت جاهل مغرور

من رأیت المنون خلدن أم
من ذا علیه من أن یضام خفیر

أین کسرى کسرى الملوک أنو شروان‏
أم أین قبله سابور

و بنو الأصفر الکرام ملوک الروم
و لم یبق منهم مذکور

و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجله
تجبى إلیه و الخابور

لم یهبه ریب المنون فباد
الملک عنه فبابه مهجور

شاده مرمرا و جلله کلسا
فللطیر فی ذراه وکور

و تبین رب الخورنق إذ أشرف‏
یوما و للهدى تفکیر

سره حاله و کثره ما یملک
و البحر معرضا و السدیر

فارعوى قلبه و قال فما غبطه
حی إلى الممات یصیر

ثم بعد الفلاح و الملک
و الأمه وارتهم هناک القبور

ثم أضحوا کأنهم ورق جف‏
فألوت به الصبا و الدبور

قد اتفق الناس على أن هذه الأبیات- أحسن ما قیل من القریض فی هذا المعنى- و أن الشعراء کلهم أخذوا منها- و احتذوا فی هذا المعنى حذوها- . و قال الرضی أبو الحسن رضی الله عنه-

انظر إلى هذا الأنام بعبره
لا یعجنک خلقه و رواؤه‏

فتراه کالورق النضیر تقصفت‏
أغصانه و تسلبت شجراؤه‏

أنی تحاماه المنون و
إنما خلقت مراعی للردى خضراؤه‏

أم کیف تأمل فلته أجساده‏
من ذا الزمان و حشوها أدواؤه‏

لا تعجبن فما العجیب فناؤه
بید المنون بل العجیب بقاؤه‏

إنا لنعجب کیف حم حمامه‏
عن صحه و یغیب عنا داؤه‏

من طاح فی سبل الردى آباؤه
فلیسلکن طریقهم أبناؤه‏

و مؤمر نزلوا به فی سوقه
لا شکله فیهم و لا نظراؤه‏

قد کان یفرق ظله أقرانه
و یغض دون جلاله أکفاؤه‏

و محجب ضربت علیه مهابه
یعشی العیون بهاؤه و ضیاؤه‏

نادته من خلف الحجاب منیه
أمم فکان جوابها حوباؤه‏

شقت إلیه سیوفه و رماحه‏
و أمیط عنه عبیده و إماؤه‏

لم یغنه من کان ود لو أنه
قبل المنون من المنون فداؤه‏

حرم علیه الذل إلا أنه‏
أبدا لیشهد بالجلال بناؤه‏

متخشع بعد الأنیس جنابه
متضائل بعد القطین فناؤه‏

عریان تطرد کل ریح تربه‏
و یطیع أول أمرها حصباؤه‏

و لقد مررت ببرزخ فسألته
أین الألى ضمتهم أرجاؤه‏

مثل المطی بوارکا أجداثه‏
تسفی على جنباتها بوغاؤه‏

نادیته فخفى علی جوابه
بالقول إلا ما زقت أصداؤه‏

من ناظر مطروفه ألحاظه
أو خاطر مظلوله سوداؤه‏

أو واجد مکظومه زفراته‏
أو حاقد منسیه شحناؤه‏

و مسندین على الجنوب
کأنهم شرب تخاذل بالطلا أعضاؤه‏

تحت الصعید لغیر إشفاق إلى‏
یوم المعاد یضمهم أحشاؤه‏

أکلتهم الأرض التی ولدتهم
أکل الضروس حلت له أکلاؤه‏

و قال أیضا-

و تفرق البعداء بعد تجمع
صعب فکیف تفرق القرباء

و خلائق الدنیا خلائق مومس‏
للمنع آونه و للإعطاء

طورا تبادلک الصفاء و تاره
تلقاک تنکرها من البغضاء

و تداول الأیام یبلینا کما
یبلی الرشاء تطاوح الأرجاء

و کان طول العمر روحه راکب
قضى اللغوب و جد فی الإسراء

لهفی على القوم الأولى غادرتهم‏
و علیهم طبق من البیداء

متوسدین على الخدود کأنما
کرعوا على ظمإ من الصهباء

صور ضننت على العیون بلحظها
أمسیت أوقرها من البوغاء

و نواظر کحل التراب جفونها
قد کنت أحرسها من الأقذاء

قربت ضرائحهم على زوارها
و نأوا عن الطلاب أی تناء

و لبئس ما یلقى بعقر دیارهم
أذن المصیخ بها و عین الرائی‏

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۳۱۸

خطبه ۲۱۵ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(جهاد)

۲۱۵ و من کلام له ع یحث فیه أصحابه على الجهاد

وَ اللَّهُ مُسْتَأْدِیکُمْ شُکْرَهُ وَ مُوَرِّثُکُمْ أَمْرَهُ- وَ مُمْهِلُکُمْ فِی مِضْمَارٍ مَمْدُودٍ لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ- فَشُدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ وَ اطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ- لَا تَجْتَمِعُ عَزِیمَهٌ وَ وَلِیمَهٌ- مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْیَوْمِ- وَ أَمْحَى الظُّلَمَ لِتَذَاکِیرِ الْهِمَمِ مستأدیکم شکره- أی طالب منکم أداء ذلک و القیام به- استأدیت دینی عند فلان أی طلبته- .

و قوله و مورثکم أمره- أی سیرجع أمر الدوله إلیکم و یزول أمر بنی أمیه- . ثم شبه الآجال التی ضربت للمکلفین- لیقوموا فیها بالواجبات و یتسابقوا فیها إلى الخیرات- بالمضمار الممدود لخیل تتنازع فیه السبق- . ثم قال فشدوا عقد المآزر- أی شمروا عن ساق الاجتهاد- و یقال لمن یوصى بالجد و التشمیر اشدد عقده إزارک- لأنه إذا شدها کان أبعد عن العثار و أسرع للمشی- . قوله و اطووا فضول الخواصر نهى عن کثره الأکل- لأن الکثیر الأکل لا یطوی فضول خواصره لامتلائها- و القلیل الأکل یأکل فی بعضها و یطوی بعضها- قال الشاعر-

کلوا فی بعض بطنکم و عفوا
فإن زمانکم زمن خمیص‏

و قال أعشى باهله-

طاوی المصیر على العزاء منصلت
بالقوم لیله لا ماء و لا شجر

و قال الشنفری-

و أطوی على الخمص الحوایا کما
انطوت خیوطه ماری تغار و تفتل‏

ثم أتى ع بثلاثه أمثال مخترعه له لم یسبق بها- و إن کان قد سبق بمعناها- و هی قوله لا تجتمع عزیمه و ولیمه- و قوله ما أنقض النوم لعزائم الیوم- و قوله و أمحى الظلم لتذاکیر الهمم- . فمما جاء للمحدثین من ذلک- ما کتبه بعض الکتاب إلى ولده-

خدمه السلطان والکا
سات فی أیدی الملاح‏

لیس یلتامان فاطلب‏
رفعه أو شرب راح‏

و مثله قول آخر لولده-

ما للمطیع هواه
من الملام ملاذ

فاختر لنفسک هذا
مجد و هذا التذاذ

و قال آخر-

و لیس فتى الفتیان من راح و اغتدى
لشرب صبوح أو لشرب غبوق‏

و لکن فتى الفتیان من راح
و اغتدى‏لضر عدو أو لنفع صدیق‏

و هذا کثیر جدا یناسب قوله لا تجتمع عزیمه و ولیمه- و مثل قوله ما أنقض النوم لعزائم الیوم- قول الشاعر-

فتى لا ینام على عزمه
و من صمم العزم لم یرقد

و قوله و أمحى الظلم لتذاکیر الهمم- أی الظلم التی ینام فیها لا کل الظلم- أ لا ترى أنه إذا لم ینم فی الظلمه- بل کان عنده من شده العزم- و قوه التصمیم ما لا ینام معه- فإن الظلمه لا تمحو تذاکیر هممه- و التذاکیر جمع تذکار- . و المثلان الأولان أحسن من الثالث- و کان الثالث من تتمه الثانی- و قد قالت العرب فی الجاهلیه هذا المعنى- و جاء فی القرآن العزیز- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّهَ- وَ لَمَّا یَأْتِکُمْ مَثَلُ الَّذِینَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِکُمْ- مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا- حَتَّى یَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا مَعَهُ- مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِیبٌ- . و هذا مثل قوله لا تجتمع عزیمه و ولیمه- أی لا یجتمع لکم دخول الجنه و الدعه- و القعود عن مشقه الحرب

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۱۰۸

خطبه ۲۱۴ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۱۴ و من کلام له ع

قَدْ أَحْیَا عَقْلَهُ وَ أَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِیلُهُ- وَ لَطُفَ غَلِیظُهُ وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ کَثِیرُ الْبَرْقِ- فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِیقَ وَ سَلَکَ بِهِ السَّبِیلَ- وَ تَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلَامَهِ وَ دَارِ الْإِقَامَهِ- وَ ثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِینَهِ بَدَنِهِ فِی قَرَارِ الْأَمْنِ وَ الرَّاحَهِ- بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَ أَرْضَى رَبَّهُ یصف العارف- یقول قد أحیا قلبه بمعرفه الحق سبحانه- و أمات نفسه بالمجاهده و ریاضه القوه البدنیه بالجوع و العطش- و السهر و الصبر على مشاق السفر و السیاحه- . حتى دق جلیله أی حتى نحل بدنه الکثیف- . و لطف غلیظه تلطفت أخلاقه و صفت نفسه- فإن کدر النفس فی الأکثر إنما یکون من کدر الجسد- و البطنه کما قیل تذهب الفطنه

فصل فی مجاهده النفوس و ما ورد فی ذلک من الآثار

و تقول أرباب هذه الطریقه- من لم یکن فی بدایته صاحب مجاهده- لم یجد من هذه الطریقه شمه- .و قال عثمان المغربی الصوفی- من ظن أنه یفتح علیه شی‏ء من هذه الطریقه- أو یکشف له عن سر من أسرارها من غیر لزوم المجاهده- فهو غالط- . و قال أبو علی الدقاق- من لم یکن فی بدایته قومه لم یکن فی نهایته جلسه- . و من کلامهم الحرکه برکه- حرکات الظواهر توجب برکات السرائر- . و من کلامهم- من زین ظاهره بالمجاهده حسن الله سرائره بالمشاهده- . و قال الحسن الفرازینی هذا الأمر على ثلاثه أشیاء- ألا تأکل إلا عند الفاقه- و لا تنام إلا عند الغلبه و لا تتکلم إلا عند الضروره- .

و قال إبراهیم بن أدهم- لن ینال الرجل درجه الصالحین- حتى یغلق عن نفسه باب النعمه- و یفتح علیها باب الشده- . و من کلامهم من کرمت علیه نفسه هان علیه دینه- . و قال أبو علی الروذباری- إذا قال الصوفی بعد خمسه أیام أنا جائع- فألزموه السوق و مروه بالکسب- . و قال حبیب بن أوس أبو تمام و هو یقصد غیر ما نحن فیه- و لکنه یصلح أن یستعمل فیما نحن فیه-

خذی عبرات عینک عن زماعی
و صونی ما أزلت من القناع‏

أقلی قد أضاق بکاک ذرعی‏
و ما ضاقت بنازله ذراعی‏

أ آلفه النحیب کم افتراق
أظل فکان داعیه اجتماع‏

فلیست فرحه الأوبات
إلا لموقوف على ترح الوداع‏

تعجب أن رأت جسمی نحیلا
کان المجد یدرک بالصراع‏

أخو النکبات من یأوی
إذا ما أطفن به إلى خلق وساع‏

یثیر عجاجه فی کل فج‏
یهیم به عدی بن الرقاع‏

أبن مع السباع الماء
حتى لخالته السباع من السباع‏

و قال أیضا-

فاطلب هدوءا بالتقلقل و استثر
بالعیس من تحت السهاد هجودا

ما أن ترى الأحساب بیضا وضحا
إلا بحیث ترى المنایا سودا

وجاء فی الحدیث أن فاطمه جاءت إلى رسول الله ص بکسره خبز- فقال ما هذه قالت قرص خبزته- فلم تطب نفسی حتى أتیتک منه بهذه الکسره- فأکلها- و قال أما إنها لأول طعام دخل فم أبیک منذ ثلاث- . و کان یقال ینابیع الحکمه من الجوع- و کسر عادیه النفس بالمجاهده- .

و قال یحیى بن معاذ- لو أن الجوع یباع فی السوق- لما کان ینبغی لطلاب الآخره إذا دخلوا السوق أن یشتروا غیره- . و قال سهل بن عبد الله- لما خلق الله الدنیا جعل فی الشبع المعصیه و الجهل- و جعل فی الجوع الطاعه و الحکمه- . و قال یحیى بن معاذ- الجوع للمریدین ریاضه و للتائبین تجربه- و للزهاد سیاسه و للعارفین تکرمه- . و قال أبو سلمان الدارانی- مفتاح الدنیا الشبع و مفتاح الآخره الجوع- . و قال بعضهم- أدب الجوع ألا ینقص من عادتک إلا مثل أذن السنور- هکذا على التدریج حتى تصل إلى ما ترید- .

و یقال إن أبا تراب النخشبی خرج من البصره إلى مکه- فوصل إلیها على أکلتین أکله بالنباج و أکله بذات عرق- . قالوا و کان سهل بن عبد الله التستری إذا جاع قوی- و إذا أکل ضعف- . و کان منهم من یأکل کل أربعین یوما أکله واحده- و منهم من یأکل کل ثمانین یوما أکله واحده- . قالوا و اشتهى أبو الخیر العسقلانی السمک سنین کثیره- ثم تهیأ له أکله من وجه حلال- فلما مد یده لیأکل- أصابت إصبعه شوکه من شوک السمک- فقام و ترک الأکل- و قال یا رب هذا لمن مد یده بشهوه إلى الحلال- فکیف بمن مد یده بشهوه إلى الحرام- . و فی الکتاب العزیز- وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏- فَإِنَّ الْجَنَّهَ هِیَ الْمَأْوى‏- فالجمله الأولى هی التقوى و الثانیه هی المجاهده- .

وقال النبی ص أخوف ما أخاف على أمتی اتباع الهوى و طول الأمل- أما اتباع الهوى فیصد عن الحق- و أما طول الأمل فینسی الآخره
– . و سئل بعض الصوفیه عن المجاهده- فقال ذبح النفس بسیوف المخالفه- . و قال من نجمت طوارق نفسه أفلت شوارق أنسه- . و قال إبراهیم بن شیبان- ما بت تحت سقف و لا فی موضع علیه غلق أربعین سنه- و کنت أشتهی فی أوقات أن أتناول شبعه عدس فلم یتفق- ثم جملت إلی و أنا بالشام غضاره فیها عدسیه- فتناولت منها و خرجت- فرأیت قواریر معلقه فیها شبه أنموذجات فظننتها خلا- فقال بعض الناس- أ تنظر إلى هذه و تظنها خلا و إنما هی خمر- و هی أنموذجات هذه الدنان لدنان هناک- فقلت قد لزمنی فرض الإنکار- فدخلت حانوت ذلک الخمار لأکسر الدنان و الجرار- فحملت إلى ابن طولون فأمر بضربی مائتی خشبه- و طرحی فی السجن فبقیت مده- حتى دخل أبو عبد الله الوبانی المغربی أستاذ ذلک البلد- فعلم أنی محبوس فشفع فی فأخرجت إلیه- فلما وقع بصره علی قال أی شی‏ء فعلت- فقلت شبعه عدس و مائتی خشبه- فقال لقد نجوت مجانا- .

و قال إبراهیم الخواص- کنت فی جبل فرأیت رمانا فاشتهیته- فدنوت فأخذت منه واحده فشققتها فوجدتها حامضه- فمضیت و ترکت الرمان- فرأیت رجلا مطروحا قد اجتمع علیه الزنابیر- فسلمت علیه فرد علی باسمی- فقلت کیف عرفتنی قال من عرف الله لم یخف علیه شی‏ء- فقلت له أرى لک حالا مع الله- فلو سألته أن یحمیک و یقیک من أذى هذه الزنابیر- فقال و أرى لک حالا مع الله- فلو سألته أن یقیک من شهوه الرمان- فإن لذع الرمان یجد الإنسان ألمه فی الآخره- و لذع الزنابیریجد الإنسان ألمه فی الدنیا- فترکته و مضیت على وجهی- .

و قال یوسف بن أسباط- لا یمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج- أو شوق مقلق- . و قال الخواص- من ترک شهوه فلم یجد عوضها فی قلبه فهو کاذب فی ترکها- . و قال أبو علی الرباطی صحت عبد الله المروزی- و کان یدخل البادیه قبل أن أصحبه بلا زاد- فلما صحبته قال لی أیما أحب إلیک- تکون أنت الأمیر أم أنا قلت بل أنت- فقال و علیک الطاعه قلت نعم- فأخذ مخلاه و وضع فیها زادا و حملها على ظهره- فکنت إذا قلت له أعطنی حتى أحملها- قال الأمیر أنا و علیک الطاعه- قال فأخذنا المطر لیله- فوقف إلى الصباح على رأسی و علیه کساء یمنع عنی المطر- فکنت أقول فی نفسی یا لیتنی مت و لم أقل له أنت الأمیر- ثم قال لی إذا صحبت إنسانا فاصحبه کما رأیتنی صحبتک- . أبو الطیب المتنبی-

ذرینی أنل ما لا ینال من العلا فصعب
العلا فی الصعب و السهل فی السهل‏

تریدین إدراک المعالی رخیصه
و لا بد دون الشهد من إبر النحل‏

 و له أیضا-

و إذا کانت النفوس کبارا
تعبت فی مرادها الأجسام‏

و من أمثال العامه- من لم یغل دماغه فی الصیف لم تغل قدره فی الشتاء- . من لم یرکب الأخطار لم ینل الأوطار- .إدراک السول و بلوغ المأمول بالصبر على الجوع- و فقد الهجوع و سیلان الدموع و اعلم أن تقلیل المأکول لا ریب فی أنه نافع- للنفس و الأخلاق- و التجربه قد دلت علیه- لأنا نرى المکثر من الأکل- یغلبه النوم و الکسل و بلاده الحواس- و تتبخر المأکولات الکثیره أبخره کثیره- فتتصاعد إلى الدماغ فتفسد القوى النفسانیه- و أیضا فإن کثره المأکل تزیل الرقه- و تورث القساوه و السبعیه و القیاس أیضا یقتضی ذلک- و لأن کثره المزاولات سبب لحصول الملکات- فالنفس إذا توفرت على تدبیر الغذاء و تصریفه- کان ذلک شغلا شاغلا لها- و عائقا عظیما عن انصبابها إلى الجهه الروحانیه العالیه- و لکن ینبغی أن یکون تقلیل الغذاء إلى حد- یوجب جوعا قلیلا- فإن الجوع المفرط- یورث ضعف الأعضاء الرئیسه و اضطرابها- و اختلال قواها- و ذلک یقتضی تشویش النفس و اضطراب الفکر- و اختلال العقل- و لذلک تعرض الأخلاط السوداویه- لمن أفرط علیه الجوع- فإذن لا بد من إصلاح أمر الغذاء- بأن یکون قلیل الکمیه کثیر الکیفیه- فتؤثر قله کمیته فی أنه لا یشغل النفس بتدبیر الهضم- عن التوجه إلى الجهه العالیه الروحانیه- و تؤثر کثره کیفیته- فی تدارک الخلل الحاصل له من قله الکمیه- و یجب أن یکون الغذاء شدید الإمداد للأعضاء الرئیسه- لأنها هی المهمه من أعضاء البدن- و ما دامت باقیه على کمال حالها- لا یظهر کثیر خلل من ضعف غیرها من الأعضاء

فصل فی الریاضه النفسیه و أقسامها

و اعلم أن الریاضه و الجوع هی أمر یحتاج إلیه المرید- الذی هو بعد فی طریق السلوک إلى الله- . و ینقسم طالبوا هذا الأمر الجلیل الشاق إلى أقسام أربعه-

أحدها الذین مارسوا العلوم الإلهیه- و أجهدوا أنفسهم فی طلبها و الوصول إلى کنهها- بالنظر الدقیق فی الزمان الطویل- فهو لا یحصل لهم شوق شدید- و میل عظیم إلى الجهه العالیه الشریفه- فیحملهم حب الکمال على الریاضه- .

و ثانیها الأنفس التی هی بأصل الفطره و الجوهر- مائله إلى الروحانیه من غیر ممارسه علم- و لا دربه بنظر و بحث- و قد رأینا مثلهم کثیرا- و شاهدنا قوما من العامه متى سنح لهم سانح مشوق- مثل صوت مطرب أو إنشاد بیت یقع فی النفس- أو سماع کلمه توافق أمرا فی بواطنهم- فإنه یستولی علیهم الوجد و یشتد الحنین- و تغشاهم غواش لطیفه روحانیه- یغیبون بها عن المحسوسات و الجسمانیات- .

و ثالثها نفوس حصل لها الأمران معا- الاستعداد الأصلی و الاشتغال بالعلوم النظریه الإلهیه- .

و رابعها النفوس التی لا استعداد لها فی الأصل- و لا ارتاضت بالعلوم الإلهیه- و لکنهم قوم سمعوا کمال هذه الطریقه- و أن السعاده الإنسانیه  لیست إلا بالوصول إلیها- فمالت نحوها و حصل لها اعتقاد فیها- . فهذه أقسام المریدین- و الریاضه التی تلیق بکل واحد من هذه الأقسام- غیر الریاضه اللائقه بالقسم الآخر- .

و نحتاج قبل الخوض فی ذلک إلى تقدیم أمرین- أحدهما أن النفحات الإلهیه دائمه مستمره- و أنه کل من توصل إلیها وصل- قال سبحانه و تعالى- وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا وقال النبی ص إن لربکم فی أیام عصرکم نفحات- ألا فتعرضوا لنفحاته- . و ثانیهما أن النفوس البشریه فی الأکثر مختلفه بالنوع- فقد تکون بعض النفوس مستعده- غایه الاستعداد لهذا المطلب- و ربما لم تکن البته مستعده له- و بین هذین الطرفین أوساط مختلفه بالضعف و القوه- . و إذا تقرر ذلک فاعلم أن القسمین الأولین- لما اختلفا فیما ذکرناه لا جرم- اختلفا فی الکسب و المکتسب- .

أما الکسب فإن صاحب العلم الأولى به فی الأکثر- العزله و الانقطاع عن الخلق- لأنه قد حصلت له الهدایه و الرشاد- فلا حاجه له إلى مخالطه أحد- یستعین به على حصول ما هو حاصل- و أما صاحب الفطره الأصلیه من غیر علم- فإنه لا یلیق به العزله لأنه یحتاج إلى المعلم و المرشد- فإنه لیس یکفی الفطره الأصلیه- فی الوصول إلى المعالم الإلهیه و الحقائق الربانیه- و لا بد من موقف و مرشد فی مبدإ الحال- هذا هو القول فی الکسب بالنظر إلیها- .

و أما المکتسب فإن صاحب العلم إذا اشتغل بالریاضه- کانت مشاهداته و مکاشفاته أکثر کمیه- و أقل کیفیه مما لصاحب الفطره المجرده- أما کثره الکمیه فلأن قوته النظریه تعینه على ذلک- و أما قله الکیفیه- فلأن القوه النفسانیه تتوزع على تلک الکثره- و کلما کانت الکثره أکثر- کان توزع القوه إلى أقسام أکثر- و کان کل واحد منهاأضعف مما لو کانت الأقسام أقل عددا- و إذا عرفت ذلک- عرفت أن الأمر فی جانب صاحب الفطره الأصلیه- بالعکس من ذلک- و هو أن مشاهداته و مکاشفاته- تکون أقل کمیه و أکثر کیفیه- .

و أما الاستعداد الثالث- و هو النفس التی قد جمعت الفطره الأصلیه- و العلوم الإلهیه النظریه بالنظر- فهی النفس الشریفه الجلیله الکامله- . و هذه الأقسام الثلاثه مشترکه- فی أن ریاضتها القلبیه یجب أن تکون زائده- فی الکم و الکیف على ریاضتها البدنیه- لأن الغرض الأصلی هو ریاضه القلب و طهاره النفس- و إنما شرعت الریاضات البدنیه و العبادات الجسمانیه- لتکون طریقا إلى تلک الریاضه الباطنه- فإذا حصلت کان الاشتغال بالریاضه البدنیه عبثا- لأن الوسیله بعد حصول المتوسل إلیه فضله- مستغنى عنها- بل ربما کانت عائقه عن المقصود- نعم لا بد من المحافظه على الفرائض خاصه- لئلا تعتاد النفس الکسل- و ربما أفضى ذلک إلى خلل فی الریاضه النفسانیه- و لهذا حکی عن کثیر من کبراء القوم- قله الاشتغال بنوافل العبادات- .

و أما القسم الرابع- و هو النفس التی خلت عن الوصفین معا- فهذه النفس یجب ألا تکون ریاضتها فی مبدإ الحال- إلا بتهذیب الأخلاق بما هو مذکور فی کتب الحکمه الخلقیه- فإذا لانت و مرنت و استعدت للنفحات الإلهیه- حصل لها ذوق ما- فأوجب ذلک الذوق شوقا فأقبلت بکلیتها على مطلوبها

فصل فی أن الجوع یؤثر فی صفاء النفس

و اعلم أن السبب الطبیعی- فی کون الجوع مؤثرا فی صفاء النفس- أن البلغم الغالب على مزاج البدن- یوجب بطبعه البلاده- و إبطاء الفهم لکثره الأرضیه فیه- و ثقل جوهره- و کثره ما یتولد عنه من البخارات التی تسد المجاری- و تمنع نفوذ الأرواح- و لا ریب أن الجوع یقتضی تقلیل البلغم- لأن القوه الهاضمه إذا لم تجد غذاء تهضمه- عملت فی الرطوبه الغریبه الکائنه فی الجسد- فکلما انقطع الغذاء- استمر عملها فی البلغم الموجود فی البدن- فلا تزال تعمل فیه و تذیبه الحراره الکائنه فی البدن- حتى یفنى کل ما فی البدن من الرطوبات الغریبه- و لا یبقى إلا الرطوبات الأصلیه- فإن استمر انقطاع الغذاء- أخذت الحراره و القوه الهاضمه- فی تنقیص الرطوبات الأصلیه من جوهر البدن- فإن کان ذلک یسیرا و إلى حد لیس بمفرط- لم یضر ذلک بالبدن کل الإضرار- و کان ذلک هو غایه الریاضه- التی أشار أمیر المؤمنین ع إلیها- بقوله حتى دق جلیله و لطف غلیظه- و إن أفرط وقع الحیف و الإجحاف على الرطوبه الأصلیه- و عطب البدن و وقع صاحبه فی الدق و الذبول- و ذلک منهی عنه لأنه قتل للنفس- فهو کمن یقتل نفسه بالسیف أو بالسکین

کلام للفلاسفه و الحکماء فی المکاشفات الناشئه عن الریاضه

و اعلم أن قوله ع و برق له لامع کثیر البرق- هو حقیقه مذهب الحکماء- و حقیقه قول الصوفیه أصحاب الطریقه و الحقیقه- و قد صرح به الرئیس أبو علی بن سینا فی کتاب الإشارات- فقال فی ذکر السالک إلى مرتبه العرفان- ثم إنه‏إذا بلغت به الإراده و الریاضه حدا ما- عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إلیه- لذیذه کأنها بروق تومض إلیه ثم تخمد عنه- و هی التی تسمى عندهم أوقاتا- و کل وقت یکتنفه وجد إلیه و وجد علیه- ثم إنه لتکثر علیه هذه الغواشی إذا أمعن فی الارتیاض- ثم إنه لیتوغل فی ذلک حتى یغشاه فی غیر الارتیاض- فکلما لمح شیئا عاج منه إلى جانب القدس- فتذکر من أمره أمرا فغشیه غاش- فیکاد یرى الحق فی کل شی‏ء- و لعله إلى هذا الحد تستولی علیه غواشیه- و یزول هو عن سکینته- و یتنبه جلیسه لاستنفاره عن قراره- فإذا طالت علیه الریاضه لم تستنفره غاشیه- و هدی للتأنس بما هو فیه- ثم إنه لتبلغ به الریاضه مبلغا- ینقلب له وقته سکینه فیصیر المخطوب مألوفا- و الومیض شهابا بینا- و یحصل له معارف مستقره کأنها صحبه مستمره- و یستمتع فیها ببهجته فإذا انقلب عنها انقلب حیران آسفا- . فهذه ألفاظ الحکیم أبی علی بن سینا فی الإشارات- و هی کما نراها مصرح فیها بذکر البروق اللامعه للعارف- .

و قال القشیری فی الرساله- لما ذکر الحال و الأمور الوارده على العارفین- قال هی بروق تلمع ثم تخمد- و أنوار تبدو ثم تخفى- ما أحلاها لو بقیت مع صاحبها- ثم تمثل بقول البحتری-خطرت فی النوم منها خطره خطره البرق بدا ثم اضمحل‏أی زور لک لو قصدا سرى‏و ملم بک لو حقا فعل‏- . فهو کما تراه- یذکر البروق اللامعه حسبما ذکره الحکیم- و کلاهما یتبع ألفاظ أمیر المؤمنین ع لأنه حکیم الحکماء- و عارف العارفین و معلم الصوفیه- و لو لا أخلاقه‏ و کلامه و تعلیمه للناس هذا الفن- تاره بقوله و تاره بفعله- لما اهتدى أحد من هذه الطائفه- و لا علم کیف یورد و لا کیف یصدر- .

و قال القشیری أیضا فی الرساله- المحاضره قبل المکاشفه- فإذا حصلت المکاشفه فبعدها المشاهده- . و قال و هی أرفع الدرجات- قال فالمحاضره حضور القلب- و قد تکون بتواتر البرهان- و الإنسان بعد وراء الستر- و إن کان حاضرا باستیلاء سلطان الذکر- . و أما المکاشفه فهی حضور البین- غیر مفتقر إلى تأمل الدلیل- و تطلب السبیل ثم المشاهده و هی وجود الحق من غیر بقاء تهمه- . و أحسن ما ذکر فی المشاهد قول الجنید- هی وجود الحق مع فقدانک- . و قال عمرو بن عثمان المکی- المشاهده أن تتوالى أنوار التجلی على القلب- من غیر أن یتخللها ستر و لا انقطاع- کما لو قدر اتصال البروق فی اللیله المظلمه- فکما أنها تصیر من ذلک بضوء النهار- فکذلک القلب إذا دام له التجلی مع النهار فلا لیل- . و أنشدوا شعرا-

لیلی بوجهک مشرق
و ظلامه فی الناس سار

فالناس فی سدف الظلام‏
و نحن فی ضوء النهار

 و قال الثوری لا تصح للعبد المشاهده و قد بقی له عرق قائم- . و قالوا إذا طلع الصباح استغنی عن المصباح- . و أنشدوا أیضا-

فلما استنار الصبح طوح ضوءه
بأنواره أنوار ضوء الکواکب‏

فجرعهم کأسا لو ابتلیت لظى
بتجریعه طارت کأسرع ذاهب‏

کأس و أی کأس تصطلمهم عنهم- و تفنیهم و تخطفهم منهم و لا تبقیهم- کأس لا تبقى و لا تذر تمحو بالکلیه- و لا تبقى شظیه من آثار البشریه- کما قال قائلهم-ساروا فلم یبق لا عین و لا أثر- . و قال القشیری أیضا هی ثلاث مراتب- اللوائح ثم اللوامع ثم الطوالع فاللوائح کالبروق- ما ظهرت حتى استترت کما قال القائل-فافترقنا حولا فلما التقینا کان تسلیمه علی وداعا- . و أنشدوا-

یا ذا الذی زار و ما زارا
کأنه مقتبس نارا

مر بباب الدار مستعجلا
ما ضره لو دخل الدارا

ثم اللوامع و هی أظهر من اللوائح- و لیس زوالها بتلک السرعه- فقد تبقى وقتین و ثلاثه- و لکن کما قیل-

العین باکیه لم تشبع النظرا

أو کما قالوا-

و بلائی من مشهد و مغیب
و حبیب منی بعید قریب‏

لم ترد ماء وجهه العین حتى‏
شرقت قبل ریها برقیب‏

فأصحاب هذا المقام بین روح و فوح- لأنهم بین کشف و ستر یلمع ثم یقطع- لا یستقر لهم نور النهار حتى تکر علیه عساکر اللیل- فهم کما قیل-و اللیل یشملنا بفاضل برده و الصبح یلحفنا رداء مذهبا- . ثم الطوالع و هی أبقى وقتا و أقوى سلطانا- و أدوم مکثا و أذهب للظلمه و أنفی للمهمه- .أ فلا ترى کلام القوم کله مشحون بالبروق و اللمعان- . و کان مما نقم حامد بن العباس وزیر المقتدر- و علی بن عیسى الجراح وزیره أیضا على الحلاج- أنهما وجدا فی کتبه لفظ النور الشعشعانی- و ذلک لجهالتهما مراد القوم و اصطلاحهم و من جهل أمرا عاداه- .

ثم قال ع- و تدافعته الأبواب إلى باب السلامه و دار الإقامه- أی لم یزل ینتقل من مقام من مقامات القوم- إلى مقام فوقه حتى وصل- و تلک المقامات معروفه عند أهلها- و من له أنس بها و سنذکرها فیما بعد- . ثم قال و ثبتت رجلاه بطمأنینه بدنه- فی قرار الأمن و الراحه بما استعمل قلبه و أرضى ربه- أی کانت الراحه الکلیه و السعاده الأبدیه- مستثمره من ذلک التعب الذی تحمله لما استعمل قلبه- و راض جوارحه و نفسه حتى وصل- کما قیل-عند الصباح یحمد القوم السرى و تنجلی عنا غیابات الکرى‏

و قال الشاعر-

تقول سلیمى لو أقمت بأرضنا
و لم تدر أنی للمقام أطوف‏

 و قال آخر-

ما ابیض وجه المرء فی طلب
العلا حتى یسود وجهه فی البید

و قال-

فاطلب هدوءا بالتقلقل و استثر
بالعیس من تحت السهاد هجودا

ما إن ترى الأحساب بیضا وضحا
إلا بحیث ترى المنایا سودا

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۵۷

خطبه ۲۱۳ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۱۳ و من کلام له ع- لما مر بطلحه بن عبید الله و عبد الرحمن بن عتاب بن أسید- و هما قتیلان یوم الجمل

لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْمَکَانِ غَرِیباً- أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ کُنْتُ أَکْرَهُ أَنْ تَکُونَ قُرَیْشٌ قَتْلَى- تَحْتَ بُطُونِ الْکَوَاکِبِ- أَدْرَکْتُ وَتْرِی مِنْ بَنِی عَبْدِ مَنَافٍ- وَ أَفْلَتَنِی أَعْیَارُ بَنِی جُمَحٍ- لَقَدْ أَتْلَعُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَى أَمْرٍ- لَمْ یَکُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا دُونَهُ

عبد الرحمن بن عتاب بن أسید

– هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسید- بن أبی العیص بن أمیه بن عبد شمس لیس بصحابی و لکنه من التابعین- و أبوه عتاب بن أسید بن أبی العیص بن أمیه بن عبد شمس- من مسلمه الفتح- و لما خرج رسول الله ص من مکه إلى حنین- استعمله علیها- فلم یزل أمیرها حتى قبض رسول الله ص- و بقی على حاله خلافه أبی بکر الصدیق- و مات هو و أبو بکر فی یوم واحد- لم یعلم أحدهما بموت الآخر- و عبد الرحمن هذا هو الذی قال أمیر المؤمنین فیه- و قد مر به قتیلا یوم الجمل لهفی علیک یعسوب قریش- هذا فتى الفتیان هذا اللباب المحض من بنی عبد مناف- شفیت نفسی و قتلت معشری- إلى الله أشکو عجری و بجری- فقال له قائل- لشد ما أطریت‏ الفتى یا أمیر المؤمنین منذ الیوم- قال إنه قام عنی و عنه نسوه لم یقمن عنک- و عبد الرحمن هذا هو الذی احتملت العقاب کفه یوم الجمل- و فیها خاتمه فألقتها بالیمامه فعرفت بخاتمه- و علم أهل الیمامه بالوقعه- .

و رأیت فی شرح نهج البلاغه للقطب الراوندی- فی هذا الفصل عجائب و طرائف- فأحببت أن أوردها هاهنا- منها أنه قال فی تفسیر قوله ع- أدرکت و ترى من بنی عبد مناف- قال یعنی طلحه و الزبیر کانا من بنی عبد مناف- و هذا غلط قبیح- لأن طلحه من تیم بن مره- و الزبیر من أسد بن عبد العزى بن قصی- و لیس أحد منهما من بنی عبد مناف- و ولد عبد مناف أربعه- هاشم و عبد شمس و نوفل و عبد المطلب- فکل من لم یکن من ولد هؤلاء الأربعه- فلیس من ولد عبد مناف- .

و منها أنه قال إن مروان بن الحکم من بنی جمح- و لقد کان هذا الفقیه رحمه الله بعیدا عن معرفه الأنساب- مروان من بنی أمیه بن عبد شمس- و بنو جمح من بنی هصیص بن کعب بن لؤی بن غالب- و اسم جمح تیم بن عمرو بن هصیص- و أخوه سهم بن عمرو بن هصیص- رهط عمرو بن العاص- فأین هؤلاء و أین مروان بن الحکم- . و منها أنه قال- و أفلتتنی أغیار بنی جمح بالغین المعجمه- قال هو جمع غیر الذی بمعنى سوى- و هذا لم یرو و لا مثله مما یتکلم به أمیر المؤمنین- لرکته و بعده عن طریقته- فإنه یکون قد عدل عن أن یقول- و لم یفلتنی إلا بنو جمح إلى مثل هذه العباره الرکیکه المتعسفه بنو جمح

و اعلم أنه ع أخرج هذا الکلام- مخرج الذم لمن حضر الجمل مع عائشه زوجه النبی ص- من بنی جمح- فقال و أفلتتنی أعیار بنی جمح- جمع عیر و هو الحمار- و قد کان معها منهم یوم الجمل جماعه هربوا- و لم یقتل منهم إلا اثنان فممن هرب و نجا بنفسه- عبد الله الطویل بن صفوان بن أمیه- بن خلف بن وهب بن حذافه بن جمح- و کان شریفا و ابن شریف- و عاش حتى قتل مع ابن الزبیر بمکه- . و منهم یحیى بن حکیم بن صفوان بن أمیه بن خلف- عاش حتى استعمله عمرو بن سعید الأشدق على مکه- لما جمع له بین مکه و المدینه- فأقام عمرو بالمدینه و یحیى بمکه- .

و منهم عامر بن مسعود بن أمیه بن خلف- کان یسمى دحروجه الجعل لقصره و سواده- و عاش حتى ولاه زیاد صدقات بکر بن وائل- و ولاه عبد الله بن الزبیر بن العوام الکوفه- . و منهم أیوب بن حبیب بن علقمه- بن ربیعه بن الأعور بن أهیب بن حذافه بن جمح- عاش حتى قتل بقدید قتلته الخوارج- . فهؤلاء الذین أعرف حضورهم الجمل مع عائشه من بنی جمح- و قتل من بنی جمح مع عائشه عبد الرحمن بن وهب بن أسید- بن خلف بن وهب بن حذافه بن جمح- و عبد الله بن ربیعه بن دراج العنبس- بن وهبان بن وهب بن حذافه بن جمح- لا أعرف أنه قتل من بنی جمح ذلک الیوم غیرهما- فإن صحت الروایه و أفلتنی أعیان بنی جمح بالنون- فالمراد رؤساؤهم و ساداتهم- .

و أتلعوا أعناقهم رفعوها- و رجل أتلع بین التلع أی طویل العنق- و جید تلیع أی طویل- قال الأعشى-یوم تبدی لنا قتیله عن جید تلیع تزینه الأطواق‏و وقص الرجل إذا اندقت عنقه فهو موقوص- و وقصت عنق الرجل أقصها وقصا أی کسرتها- و لا یجوز وقصت العنق نفسها- . و الضمیر فی قوله ع لقد أتلعوا- یرجع إلى قریش أی راموا الخلافه فقتلوا دونها- .

فإن قلت- أ تقول إن طلحه و الزبیر لم یکونا من أهل الخلافه- إن قلت ذلک ترکت مذهب أصحابک- و إن لم تقله خالفت قول أمیر المؤمنین لم یکونوا أهله- . قلت هما أهل للخلافه ما لم یطلبها أمیر المؤمنین- فإذا طلبها لم یکونا أهلا لها لا هما و لا غیرهما- و لو لا طاعته لمن تقدم- و ما ظهر من رضاه به لم نحکم بصحه خلافته

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۴۰

خطبه ۲۱۲ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۱۲ و من کلام له ع- فی ذکر السائرین إلى البصره لحربه ع

فَقَدِمُوا عَلَى عُمَّالِی وَ خُزَّانِ بَیْتِ مَالِ الْمُسْلِمِینَ الَّذِی فِی یَدَیَّ- وَ عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ کُلُّهُمْ فِی طَاعَتِی وَ عَلَى بَیْعَتِی- فَشَتَّتُوا کَلِمَتَهُمْ وَ أَفْسَدُوا عَلَیَّ جَمَاعَتَهُمْ- وَ وَثَبُوا عَلَى شِیعَتِی فَقَتَلُوا طَاِئفَهً منْهُمْ غَدْراً- وَ طَاِئفَهً عَضُّوا عَلَى أَسْیَافِهِمْ- فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا اللَّهَ صَادِقِینَ عضوا على أسیافهم- کنایه عن الصبر فی الحرب و ترک الاستسلام- و هی کنایه فصیحه- شبه قبضهم على السیوف بالعض- و قد قدمنا ذکر ما جرى- و أن عسکر الجمل قتلوا طائفه من شیعه أمیر المؤمنین ع بالبصره- بعد أن أمنوهم غدرا- و أن بعض الشیعه صبر فی الحرب و لم یستسلم- و قاتل حتى قتل مثل حکیم بن جبله العبدی و غیره-

و روی و طائفه عضوا على أسیافهم بالرفع- تقدیره و منهم طائفه- . قرأت فی کتاب غریب الحدیث- لأبی محمد عبد الله بن قتیبه- فی حدیث حذیفه بن الیمان أنه ذکر خروج عائشه- فقال تقاتل معها مضر مضرها الله فی النار-و أزد عمان سلت الله أقدامها- و أن قیسا لن تنفک تبغی دین الله شرا- حتى یرکبها الله بالملائکه- فلا یمنعوا ذنب تلعه- .

قلت هذا الحدیث من أعلام نبوه سیدنا محمد ص- لأنه إخبار عن غیب- تلقاه حذیفه عن النبی ص- و حذیفه أجمع أهل السیره على أنه مات- فی الأیام التی قتل عثمان فیها- أتاه نعیه و هو مریض- فمات و علی ع لم یتکامل بیعه الناس- و لم یدرک الجمل- . و هذا الحدیث یؤکد مذهب أصحابنا- فی فسق أصحاب الجمل- إلا من ثبتت توبته منهم و هم الثلاثه

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۱۷

خطبه ۲۱۱ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۱۱ و من کلام له ع

اللَّهُمَّ إِنِّی أَسْتَعْدِیکَ عَلَى قُرَیْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ- فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِی وَ أَکْفَئُوا إِنَائِی- وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِی حَقّاً کُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَیْرِی- وَ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِی الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ- وَ فِی الْحَقِّ أَنْ تَمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً- فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَیْسَ لِی رَافِدٌ وَ لَا ذَابٌّ وَ لَا مُسَاعِدٌ- إِلَّا أَهْلَ بَیْتِی فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِیَّهِ- فَأَغْضَیْتُ عَلَى الْقَذَى وَ جَرِعْتُ رِیقِی عَلَى الشَّجَا- وَ صَبَرْتُ مِنْ کَظْمِ الْغَیْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ- وَ آلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ قال الرضی رحمه الله- و قد مضى هذا الکلام فی أثناء خطبه متقدمه- إلا أنی ذکرته هاهنا لاختلاف الروایتین العدوى طلبک إلى وال لیعدیک على من ظلمک- أی ینتقم لک منه- یقال استعدیت الأمیر على فلان فأعدانی- أی استعنت به علیه فأعاننی- .

و قطعوا رحمی و قطعوا قرابتی- أی أجرونی مجرى الأجانب- و یجوز أن یرید أنهم عدونی- کالأجنبی من رسول الله ص- و یجوز أن یرید أنهم جعلونی کالأجنبی‏منهم- لا ینصرونه و لا یقومون بأمره- . و أکفئوا إنائی قلبوه و کبوه- و حذف الهمزه من أول الکلمه أفصح و أکثر- و قد روی کذلک- و یقال لمن قد أضیعت حقوقه- قد أکفأ إناءه تشبیها بإضاعه اللبن من الإناء- .

و قد اختلفت الروایه فی قوله- إلا أن فی الحق أن تأخذه- فرواها قوم بالنون و قوم بالتاء- و قال الراوندی إنها فی خط الرضی بالتاء- و معنى ذلک أنک إن ولیت أنت- کانت ولایتک حقا- و إن ولی غیرک کانت ولایته حقا- على مذهب أهل الاجتهاد- و من رواها بالنون فالمعنى ظاهر- . و الرافد المعین و الذاب الناصر- .

و ضننت بهم بخلت بهم- و أغضیت على کذا صبرت- . و جرعت بالکسر و الشجا ما یعترض فی الحلق- . و الوخز الطعن الخفیف- و روی من خز الشفار و الخز القطع- و الشفار جمع شفره و هی حد السیف و السکین و اعلم أن هذا الکلام- قد نقل عن أمیر المؤمنین ع ما یناسبه و یجری مجراه- و لم یؤرخ الوقت الذی قاله فیه- و لا الحال التی عناها به- و أصحابنا یحملون ذلک على أنه ع- قاله عقیب الشورى و بیعه عثمان- فإنه لیس یرتاب أحد من أصحابنا على أنه تظلم و تألم حینئذ- .

و یکره أکثر أصحابنا- حمل أمثال هذا الکلام على التألم من یوم السقیفه- . و لقائل أن یقول لهم- أ تقولون إن بیعه عثمان لم تکن صحیحه- فیقولون لا فیقال‏لهم فعلى ما ذا تحملون کلامه ع- مع تعظیمکم له و تصدیقکم لأقواله- فیقولون نحمل ذلک على تألمه و تظلمه منهم- إذا ترکوا الأولى و الأفضل- فیقال لهم فلا تکرهوا قول من یقول من الشیعه و غیرهم- إن هذا الکلام و أمثاله صدر عنه عقیب السقیفه- و حملوه على أنه تألم و تظلم- من کونهم ترکوا الأولى و الأفضل- فإنکم لستم تنکرون أنه کان الأفضل و الأحق بالأمر- بل تعترفون بذلک و تقولون ساغت إمامه غیره- و صحت لمانع کان فیه ع- و هو ما غلب على ظنون العاقدین للأمر- من أن العرب لا تطیعه- فإنه یخاف من فتنه عظیمه تحدث- إن ولی الخلافه لأسباب یذکرونها و یعدونها- و قد روى کثیر من المحدثین- أنه عقیب یوم السقیفه تألم و تظلم- و استنجد و استصرخ- حیث ساموه الحضور و البیعه- و أنه قال و هو یشیر إلى القبر- یا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِی وَ کادُوا یَقْتُلُونَنِی- و أنه قال وا جعفراه و لا جعفر لی الیوم- وا حمزتاه و لا حمزه لی الیوم- .

و قد ذکرنا من هذا المعنى جمله صالحه فیما تقدم- و کل ذلک محمول عندنا- على أنه طلب الأمر من جهه الفضل و القرابه- و لیس بدال عندنا على وجود النص- لأنه لو کان هناک نص- لکان أقل کلفه و أسهل طریقا- و أیسر لما یرید تناولا أن یقول- یا هؤلاء إن العهد لم یطل- و إن رسول الله ص أمرکم بطاعتی- و استخلفنی علیکم بعده- و لم یقع منه ع بعد ما علمتموه و نص ینسخ ذلک- و لا یرفعه فما الموجب لترکی و العدول عنی- .

فإن قالت الإمامیه- کان یخاف القتل لو ذکر ذلک- فقیل لهم فهلا یخاف القتل- و هو یعتل و یدفع لیبایع- و هو یمتنع و یستصرخ تاره بقبر رسول الله ص-و تاره بعمه حمزه و أخیه جعفر و هما میتان- و تاره بالأنصار و تاره ببنی عبد مناف- و یجمع الجموع فی داره- و یبث الرسل و الدعاه لیلا و نهارا إلى الناس- یذکرهم فضله و قرابته- و یقول للمهاجرین- خصمتم الأنصار بکونکم أقرب إلى رسول الله ص- و أنا أخصمکم بما خصمتم به الأنصار- لأن القرابه إن کانت هی المعتبره- فأنا أقرب منکم- .

و هلا خاف من هذا الامتناع- و من هذا الاحتجاج و من الخلوه فی داره بأصحابه- و من تنفیر الناس عن البیعه- التی عقدت حینئذ لمن عقدت له- . و کل هذا إذا تأمله المنصف- علم أن الشیعه أصابت فی أمر و أخطأت فی أمر- أما الأمر الذی أصابت فیه فقولها- إنه امتنع و تلکأ و أراد الأمر لنفسه- و أما الأمر الذی أخطأت فیه- فقولها إنه کان منصوصا علیه نصا جلیا بالخلافه- تعلمه الصحابه کلها أو أکثرها- و أن ذلک النص خولف طلبا للرئاسه الدنیویه- و إیثارا للعاجله- و أن حال المخالفین للنص لا تعدو أحد أمرین- إما الکفر أو الفسق- فإن قرائن الأحوال و أماراتها لا تدل على ذلک- و إنما تدل و تشهد بخلافه- و هذا یقتضی أن أمیر المؤمنین ع- کان فی مبدإ الأمر یظن أن العقد لغیره- کان عن غیر نظر فی المصلحه- و أنه لم یقصد به إلا صرف الأمر عنه- و الاستئثار علیه- فظهر منه ما ظهر من الامتناع و العقود فی بیته- إلى أن صح عنده و ثبت فی نفسه- أنهم أصابوا فیما فعلوه و أنهم لم یمیلوا إلى هوى- و لا أرادوا الدنیا و إنما فعلوا الأصلح فی ظنونهم- لأنه رأى من بغض الناس له و انحرافهم عنه- و میلهم علیه و ثوران الأحقاد التی کانت فی أنفسهم- و احتدام النیران التی کانت فی قلوبهم- و تذکروا التراث التی وتراهم فیما قبل بها- و الدماء التی سفکها منهم و أراقها- .

و تعلل طائفه أخرى منهم للعدول عنه بصغر سنه- و استهجانهم تقدیم الشباب على الکهول و الشیوخ- . و تعلل طائفه أخرى منهم- بکراهیه الجمع بین النبوه و الخلافه فی بیت واحد- فیجفخون على الناس کما قاله من قاله- و استصعاب قوم منهم شکیمته و خوفهم تعدیه و شدته- و علمهم بأنه لا یداجی و لا یحابی- و لا یراقب و لا یجامل فی الدین- و أن الخلافه تحتاج إلى من یجتهد برأیه- و یعمل بموجب استصلاحه- و انحراف قوم آخرین عنه- للحسد الذی کان عندهم له فی حیاه رسول الله ص- لشده اختصاصه له و تعظیمه إیاه- و ما قال فیه فأکثر من النصوص الداله على رفعه شأنه- و علو مکانه و ما اختص به من مصاهرته و أخوته- و نحو ذلک من أحواله معه- و تنکر قوم آخرین له- لنسبتهم إلیه العجب و التیه کما زعموا- و احتقاره العرب و استصغاره الناس کما عددوه علیه- و إن کانوا عندنا کاذبین- و لکنه قول قیل و أمر ذکر و حال نسبت إلیه- و أعانهم علیها ما کان یصدر عنه من أقوال توهم مثل هذا- نحو قوله فإنا صنائع ربنا و الناس بعد صنائع لنا- و ما صح به عنده- أن الأمر لم یکن لیستقیم له یوما واحدا- و لا ینتظم و لا یستمر- و أنه لو ولی الأمر لفتقت العرب علیه فتقا- یکون فیه استئصال شأفه الإسلام و هدم أرکانه- فأذعن بالبیعه- و جنح إلى الطاعه و أمسک عن طلب الإمره- و إن کان على مضض و رمض- . و قد روی عنه ع- أن فاطمه ع حرضته یوما على النهوض و الوثوب- فسمع صوت المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله- فقال لها أ یسرک زوال هذا النداء من الأرض- قالت لا قال فإنه ما أقول لک- .

و هذا المذهب هو أقصد المذاهب و أصحها- و إلیه یذهب أصحابنا المتأخرون من البغدادیین و به یقول- . و اعلم أن حال علی ع فی هذا المعنى- أشهر من أن یحتاج فی الدلاله علیها- إلى الإسهاب و الإطناب- فقد رأیت انتقاض العرب علیه من أقطارها- حین بویع بالخلافه بعد وفاه رسول الله ص- بخمس و عشرین سنه- و فی دون هذه المده تنسى الأحقاد- و تموت التراث و تبرد الأکباد الحامیه- و تسلو القلوب الواجده- و یعدم قرن من الناس و یوجد قرن- و لا یبقى من أرباب تلک الشحناء و البغضاء إلا الأقل- فکانت حاله بعد هذه المده الطویله مع قریش- کأنها حاله لو أفضت الخلافه إلیه یوم وفاه ابن عمه ص- من إظهار ما فی النفوس و هیجان ما فی القلوب- حتى أن الأخلاف من قریش- و الأحداث و الفتیان الذین لم یشهدوا وقائعه- و فتکاته فی أسلافهم و آبائهم- فعلوا به ما لو کانت الأسلاف أحیاء لقصرت عن فعله- و تقاعست عن بلوغ شأوه- فکیف کانت تکون حاله لو جلس على منبر الخلافه- و سیفه بعد یقطر دما من مهج العرب- لا سیما قریش الذین بهم کان ینبغی لو دهمه خطب أن یعتضد- و علیهم کان یجب أن یعتمد- إذن کانت تدرس أعلام المله و تنعفی رسوم الشریعه- و تعود الجاهلیه الجهلاء على حالها- و یفسد ما أصلحه رسول الله ص- فی ثلاث و عشرین سنه فی شهر واحد- فکان من عنایه الله تعالى بهذا الدین- أن ألهم الصحابه ما فعلوه- و الله متم نوره و لو کره المشرکون‏

فصل فی أن جعفرا و حمزه لو کان حیین لبایعا علیا

و سألت النقیب أبا جعفر- یحیى بن محمد بن أبی یزید رحمه الله- قلت له أ تقول إن حمزه و جعفرا لو کانا حیین- یوم مات رسول الله ص أ کانا یبایعانه بالخلافه- فقال نعم- کانا أسرع إلى بیعه من النار فی یبس العرفج- فقلت له أظن أن جعفرا کان یبایعه و یتابعه- و ما أظن حمزه کذلک- و أراه جبارا قوی النفس شدید الشکیمه- ذاهبا بنفسه شجاعا بهمه- و هو العم و الأعلى سنا و آثاره فی الجهاد معروفه- و أظنه کان یطلب الخلافه لنفسه- . فقال الأمر فی أخلاقه و سجایاه کما ذکرت- و لکنه کان صاحب دین متین- و تصدیق خالص لرسول الله ص- و لو عاش لرأى من أحوال علی ع- مع رسول الله ص ما یوجب أن یکسر له نخوته- و أن یقیم له صعره و أن یقدمه على نفسه- و أن یتوخى رضا الله و رضا رسوله فیه- و إن کان بخلاف إیثاره- .

ثم قال أین خلق حمزه السبعی- من خلق علی الروحانی اللطیف- الذی جمع بینه و بین خلق حمزه- فاتصفت بهما نفس واحده- و أین هیولانیه نفس حمزه- و خلوها من العلوم من نفس علی القدسیه- التی أدرکت بالفطره لا بالقوه التعلیمیه- ما لم تدرکه نفوس مدققی الفلاسفه الإلهیین- لو أن حمزه حیی حتى رأى من علی ما رآه غیره- لکان أتبع له من ظله- و أطوع له من أبی ذر و المقداد أما قولک هو و العم و الأعلى سنا- فقد کان العباس العم و الأعلى سنا- و قد عرفت ما بذله له و ندبه إلیه- و کان أبو سفیان کالعم و کان أعلى سنا- و قد عرفت ما عرضه علیه- ثم قال ما زالت الأعمام تخدم أبناء الإخوه- و تکون أتباعا لهم- أ لست ترى داود بن‏علی و عبد الله بن علی- و صالح بن علی و سلیمان بن علی- و عیسى بن علی و إسماعیل ابن علی- و عبد الصمد بن علی خدموا ابن أخیهم- و هو عبد الله السفاح بن محمد بن علی- و بایعوه و تابعوه- و کانوا أمراء جیوشه و أنصاره و أعوانه- أ لست ترى حمزه و العباس اتبعا ابن أخیهما صلوات الله علیه- و أطاعاه و رضیا بریاسته و صدقا دعوته- أ لست تعلم أن أبا طالب- کان رئیس بنی هاشم و شیخهم و المطاع فیهم- و کان محمد رسول الله ص یتیمه و مکفوله- و جاریا مجرى أحد أولاده عنده- ثم خضع له و اعترف بصدقه و دان لأمره- حتى مدحه بالشعر کما یمدح الأدنى الأعلى فقال فیه-

و أبیض یستسقى الغمام بوجهه
ثمال الیتامى عصمه للأرامل‏

یطیف به الهلاک من آل هاشم‏
فهم عنده فی نعمه و فواضل‏

و إن سرا اختص به محمد ص- حتى أقام أبا طالب و حاله معه حاله مقام المادح له- لسر عظیم و خاصیه شریفه- و إن فی هذا لمعتبر عبره- أن یکون هذا الإنسان الفقیر- الذی لا أنصار له و لا أعوان معه- و لا یستطیع الدفاع عن نفسه- فضلا عن أن یقهر غیره- تعمل دعوته و أقواله فی الأنفس- ما تعمله الخمر فی الأبدان المعتدله المزاج- حتى تطیعه أعمامه و یعظمه مربیه و کافله- و من هو إلى آخر عمره القیم بنفقته- و غذاء بدنه و کسوه جسده- حتى یمدحه بالشعر کما یمدح الشعراء الملوک و الرؤساء- و هذا فی باب المعجزات عند المنصف- أعظم من انشقاق القمر و انقلاب العصا- و من أبناء القوم بما یأکلون و ما یدخرون فی بیوتهم- .

ثم قال رحمه الله- کیف قلت أظن أن جعفرا کان یبایعه و یتابعه- و لا أظن فی حمزه ذلک- إن کنت قلت ذلک لأنه أخوه- فإنه أعلى منه سنا هو أکبر من علی بعشرسنین- و قد کانت له خصائص و مناقب کثیره- و قال فیه النبی ص قولا شریفا- اتفق علیه المحدثون- قال له لما افتخر هو و علی و زید بن حارثه- و تحاکموا إلى رسول الله ص أشبهت خلقی و خلقی- فخجل فرحا ثم قال لزید- أنت مولانا و صاحبنا فخجل أیضا- ثم قال لعلی أنت أخی و خالصتی- قالوا فلم یخجل- قالوا کان ترادف التعظیم له و تکرره علیه- لم یجعل عنده للقول ذلک الموضع- و کان غیره إذا عظم عظم نادرا- فیحسن موقعه عنده- و اختلف الناس فی أی المدحتین أعظم- .

فقلت له- قد وقفت لأبی حیان التوحیدی فی کتاب البصائر- على فصل عجیب یمازج ما نحن فیه- قال فی الجزء الخامس من هذا الکتاب- سمعت قاضی القضاه أبا سعد بشر بن الحسین- و ما رأیت رجلا أقوى منه فی الجدل- فی مناظره جرت بینه و بین أبی عبد الله الطبری- و قد جرى حدیث جعفر بن أبی طالب و حدیث إسلامه- و التفاضل بینه و بین أخیه علی- فقال القاضی أبو سعد- إذا أنعم النظر علم أن إسلام جعفر کان بعد بلوغ- و إسلام البالغ لا یکون إلا بعد استبصار و تبین- و معرفه بقبح ما یخرج منه و حسن ما یدخل فیه- و أن إسلام علی مختلف فی حاله- و ذلک أنه قد ظن أنه کان عن تلقین- لا تبیین إلى حین بلوغه و أوان تعقبه و نظره- و قد علم أیضا أنهما قتلا- و أن قتله جعفر شهاده بالإجمال- و قتله علی فیها أشد الاختلاف- ثم خص الله جعفرا- بأن قبضه إلى الجنه قبل ظهور التباین- و اضطراب الحبل و کثره الهرج- و على أنه لو انعقد الإجماع- و تظاهر جمیع الناس على أن القتلتین شهاده- لکانت الحال فی الذی رفع إلیها جعفر أغلظ و أعظم- و ذلک أنه قتل مقبلا غیر مدبر- و أما علی فإنه اغتیل اغتیالا و قصد من حیث لا یعلم- و شتان ما بین من فوجئ بالموت و بین من عاین مخایل الموت-و تلقاه بالنحر و الصدر- و عجل إلى الله بالإیمان و الصدق- أ لا تعلم أن جعفرا قطعت یمناه فأمسک اللواء بیسراه- و قطعت یسراه فضم اللواء إلى حشاه- ثم قاتله ظاهر الشرک بالله و قاتل علی ممن صلى إلى القبله- و شهد الشهاده و أقدم علیه بتأویل- و قاتل جعفر کافر بالنص الذی لا خلاف فیه- أ ما تعلم أن جعفرا ذو الجناحین- و ذو الهجرتین إلى الحبشه و المدینه- .

قال النقیب رحمه الله اعلم فداک شیخک- أن أبا حیان رجل ملحد زندیق- یحب التلاعب بالدین- و یخرج ما فی نفسه فیعزوه إلى قوم لم یقولوه- و أقسم بالله إن القاضی أبا سعد- لم یقل من هذا الکلام لفظه واحده- و لکنها من موضوعات أبی حیان و أکاذیبه و ترهاته- کما یسند إلى القاضی أبی حامد المروروذی کل منکر- و یروى عنه کل فاقره- .

ثم قال یا أبا حیان مقصودک أن تجعلها مسأله خلاف- تثیر بها فتنه بین الطالبیین- لتجعل بأسهم بینهم- و کیف تقلبت الأحوال فالفخر لهم لم یخرج عنهم- . ثم ضحک رحمه الله حتى استلقى و مد رجلیه- و قال هذا کلام یستغنى عن الإطاله فی إبطاله بإجماع المسلمین- فإنه لا خلاف بین المسلمین فی أن علیا أفضل من جعفر- و إنما سرق أبو حیان هذا المعنى الذی أشار إلیه- من رساله المنصور أبی جعفر إلى محمد بن عبد الله النفس الزکیه- قال له و کانت بنو أمیه یلعنون أباک فی أدبار الصلوات المکتوبات- کما تلعن الکفره فعنفناهم و کفرناهم- و بینا فضله و أشدنا بذکره فاتخذت ذلک علینا حجه- و ظننت أنه لما ذکرناه من فضله- أنا قدمناه على حمزه و العباس و جعفر- أولئک مضوا سالمین مسلمین منهم و ابتلی أبوک بالدماء- .

فقلت له رحمه الله و إذا لا إجماع فی المسأله- لأن المنصور لم یقل بتفضیله علیهم-و أنت ادعیت الإجماع- فقال إن الإجماع قد سبق هذا القائل- و کل قول قد سبقه الإجماع لا یعتد به- . فلما خرجت من عند النقیب أبی جعفر- بحثت فی ذلک الیوم فی هذا الموضوع- مع أحمد بن جعفر الواسطی رحمه الله- و کان ذا فضل و عقل و کان إمامی المذهب- فقال لی صدق النقیب فیما قال- أ لست تعلم أن أصحابکم المعتزله على قولین- أحدهما أن أکثر المسلمین ثوابا أبو بکر- و الآخر أن أکثرهم ثوابا علی- و أصحابنا یقولون إن أکثر المسلمین ثوابا علی- و کذلک الزیدیه- و أما الأشعریه و الکرامیه و أهل الحدیث- فیقولون أکثر المسلمین ثوابا أبو بکر- فقد خلص من مجموع هذه الأقوال- أن ثواب حمزه و جعفر دون ثواب علی ع- أما على قول الإمامیه و الزیدیه و البغدادیین کافه- و کثیر من البصریین من المعتزله فالأمر ظاهر- و أما الباقون فعندهم أن أکثر المسلمین ثوابا- أبو بکر ثم عمر ثم عثمان ثم علی- و لم یذهب ذاهب إلى أن ثواب حمزه و جعفر- أکثر من ثواب علی من جمیع الفرق- فقد ثبت الإجماع الذی ذکره النقیب- إذا فسرنا الأفضلیه بالأکثریه ثوابا- و هو التفسیر الذی یقع الحجاج و الجدال- فی إثباته لأحد الرجلین- و أما إذا فسرنا الأفضلیه بزیاده المناقب و الخصائص- و کثره النصوص الداله على التعظیم- فمعلوم أن أحدا من الناس- لا یقارب علیا ع فی ذلک- لا جعفر و لا حمزه و لا غیرهما- .

ثم وقع بیدی بعد ذلک کتاب- لشیخنا أبی جعفر الإسکافی- ذکر فیه أن مذهب بشر بن المعتمر و أبی موسى- و جعفر بن مبشر و سائر قدماء البغدادیین- أن أفضل المسلمین علی بن أبی طالب- ثم ابنه الحسن ثم ابنه الحسین- ثم حمزه بن عبد المطلب ثم جعفر بن أبی طالب- ثم أبو بکر بن أبی قحافه ثم عمر بن الخطاب- ثم عثمان بن عفان-قال و المراد بالأفضل أکرمهم عند الله- أکثرهم ثوابا و أرفعهم فی دار الجزاء منزله- . ثم وقفت بعد ذلک على کتاب- لشیخنا أبی عبد الله البصری- یذکر فیه هذه المقاله- و ینسبها إلى البغدادیین- و قال إن الشیخ أبا القاسم البلخی کان یقول بها- و قبله الشیخ أبو الحسین الخیاط- و هو شیخ المتأخرین من البغدادیین- قالوا کلهم بها فأجبنی هذا المذهب- و سررت بأن ذهب الکثیر من شیوخنا إلیه- و نظمته فی الأرجوزه- التی شرحت فیها عقیده المعتزله فقلت-

و خیر خلق الله بعد المصطفى
أعظمهم یوم الفخار شرفا

السید المعظم الوصی‏
بعل البتول المرتضى علی‏

و ابناه ثم حمزه و جعفر
ثم عتیق بعدهم لا ینکر

المخلص الصدیق ثم عمر
فاروق دین الله ذاک القسور

و بعده عثمان ذو النورین
هذا هو الحق بغیر مین‏

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۶۰

خطبه ۲۱۰ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۱۰: فَأَجَابَهُ ع رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- بِکَلَامٍ طَوِیلٍ یَکْثُرُ فِیهِ الثَّنَاءُ عَلَیْهِ- وَ یَذْکُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ ع- إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِی نَفْسِهِ- وَ جَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ- أَنْ یَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِکَ کُلُّ مَا سِوَاهُ- وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ کَانَ کَذَلِکَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَهُ اللَّهِ عَلَیْهِ- وَ لَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَیْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَهُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ- إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللَّهِ عَلَیْهِ عِظَماً- وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الْوُلَاهِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ- أَنْ یُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ- وَ یُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْکِبْرِ- وَ قَدْ کَرِهْتُ أَنْ یَکُونَ جَالَ فِی ظَنِّکُمْ أَنِّی أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ- وَ اسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ کَذَلِکَ- وَ لَوْ کُنْتُ أُحِبُّ أَنْ یُقَالَ ذَلِکَ- لَتَرَکْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَهِ وَ الْکِبْرِیَاءِ- وَ رُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ- فَلَا تُثْنُوا عَلَیَّ بِجَمِیلِ ثَنَاءٍ- لِإِخْرَاجِی نَفْسِی إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَیْکُمْ مِنَ الْبَقِیَّهِ- فِی حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا- فَلَا تُکَلِّمُونِی بِمَا تُکَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَهُ- وَ لَا تَتَحَفَّظُوا بِمَا یُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَهِ- وَ لَا تُخَالِطُونِی بِالْمُصَانَعَهِ وَ لَا تَظُنُّوا بِی اسْتِثْقَالًا فِی حَقٍّ قِیلَ لِی- وَ لَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِی- فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ یُقَالَ لَهُ- أَوِ الْعَدْلَ أَنْ یُعْرَضَ عَلَیْهِ کَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَیْهِ-فَلَا تَکُفُّوا عَنْ مَقَالَهٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَهٍ بِعَدْلٍ- فَإِنِّی لَسْتُ فِی نَفْسِی بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ- وَ لَا آمَنُ ذَلِکَ مِنْ فِعْلِی- إِلَّا أَنْ یَکْفِیَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِی مَا هُوَ أَمْلَکُ بِهِ مِنِّی- فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِیدٌ مَمْلُوکُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَیْرُهُ- یَمْلِکُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِکُ مِنْ أَنْفُسِنَا- وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا کُنَّا فِیهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَیْهِ- فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَهِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِیرَهَ بَعْدَ الْعَمَى هذا الفصل و إن لم یکن فیه ألفاظ غریبه سبیلها أن تشرح- ففیه معان مختلفه سبیلها أن تذکر و توضح- و تذکر نظائرها و ما یناسبها- .

فمنها قوله ع- إن من حق من عظمت نعمه الله علیه- أن تعظم علیه حقوق الله تعالى- و أن یعظم جلال الله تعالى فی نفسه- و من حق من کان کذلک أن یصغر عنده کل ما سوى الله- . و هذا مقام جلیل من مقامات العارفین- و هو استحقار کل ما سوى الله تعالى- و ذلک أن من عرف الله تعالى- فقد عرف ما هو أعظم من کل عظیم- بل لا نسبه لشی‏ء من الأشیاء أصلا إلیه سبحانه- فلا یظهر عند العارف عظمه غیره البته- کما أن من شاهد الشمس المنیره یستحقر ضوء القمر- و السراج الموضوع فی ضوء الشمس حال مشاهدته جرم الشمس- بل لا تظهر له فی تلک الحال صنوبره السراج- و لا تنطبع صورتها فی بصره- . و منها قوله ع- من أسخف حالات الولاه أن یظن بهم حب الفخر- و یوضع‏ أمرهم على الکبر-قال النبی ص لا یدخل الجنه من کان فی قلبه مثقال حبه من کبروقال ص لو لا ثلاث مهلکات لصلح الناس- شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه- .

و کان یقال لیس لمعجب رأی و لا لمتکبر صدیق- . و کان أبو مسلم صاحب الدوله یقول- ما تاه إلا وضیع و لا فاخر إلا لقیط- و لا تعصب إلا دخیل- . و قال عمر لبعض ولده التمس الرفعه بالتواضع- و الشرف بالدین و العفو من الله بالعفو عن الناس- و إیاک و الخیلاء فتضع من نفسک- و لا تحقرن أحدا لأنک لا تدری- لعل من تزدریه عیناک أقرب إلى الله وسیله منک- . و منها قوله ع- قد کرهت أن تظنوا بی حب الإطراء و استماع الثناء- قدروی عن النبی ص أنه قال احثوا فی وجوه المداحین التراب- و قال عمر المدح هو الذبح- . و کان یقال- إذا سمعت الرجل یقول فیک من الخیر ما لیس فیک- فلا تأمن أن یقول فیک من الشر ما لیس فیک- .

و یقال إن فی بعض الکتب المنزله القدیمه- عجبا لمن قیل فیه الخیر و لیس فیه کیف یفرح- و لمن قیل فیه الشر و لیس فیه کیف یغضب- و أعجب من ذلک من أحب نفسه على الیقین- و أبغض الناس على الظن- . و کان یقال- لا یغلبن جهل غیرک بک علمک بنفسک- . و قال رجل لعبد الملک- إنی أرید أن أسر إلیک یا أمیر المؤمنین شیئا- فقال لمن حوله‏إذا شئتم فانهضوا- فتقدم الرجل یرید الکلام- فقال له عبد الملک قف لا تمدحنی- فإنی أعلم بنفسی منک- و لا تکذبنی فإنه لا رأی لمکذوب- و لا تغتب عندی أحدا فإنی أکره الغیبه- قال أ فیأذن أمیر المؤمنین فی الانصراف قال إذا شئت- .

و ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجانی- فی مسأله کلامیه- فجعل النوشجانی یخضع فی الکلام و یستخذی له- فقال یا محمد أراک تنقاد إلى ما أقوله- قبل وجوب الحجه لی علیک- و قد ساءنی منک ذلک- و لو شئت أن أفسر الأمور بعزه الخلافه و هیبه الرئاسه- لصدقت و إن کنت کاذبا و عدلت و إن کنت جائرا- و صوبت و إن کنت مخطئا- و لکنی لا أقنع إلا بإقامه الحجه و إزاله الشبهه- و إن أنقص الملوک عقلا- و أسخفهم رأیا من رضی بقولهم صدق الأمیر- .

و قال عبد الله بن المقفع فی الیتیمه- إیاک إذا کنت والیا أن یکون من شأنک حب المدح و التزکیه- و أن یعرف الناس ذلک منک- فتکون ثلمه من الثلم یقتحمون علیک منها- و بابا یفتتحونک منه و غیبه یغتابونک بها- و یسخرون منک لها- و اعلم أن قابل المدح کمادح نفسه- و أن المرء جدیر أن یکون حبه المدح- هو الذی یحمله على رده- فإن الراد له ممدوح و القابل له معیب- . و قال معاویه لرجل من سید قومک- قال أنا قال لو کنت کذلک لم تقله- . و قال الحسن- ذم الرجل نفسه فی العلانیه مدح لها فی السر- . کان یقال من أظهر عیب نفسه فقد زکاها- . و منها قوله ع- لو کنت کذلک لترکته انحطاطا لله تعالى- عن تناول ما هو أحق به من الکبریاء-فی الحدیث المرفوع من تواضع لله رفعه الله- و من تکبر خفضه الله- .

و فیه أیضا العظمه إزاری- و الکبریاء ردائی فمن نازعنی فیهما قصمته- . و منها قوله ع- فلا تکلمونی بما تکلم به الجبابره- و لا تتحفظوا منی بما یتحفظ به عند أهل البادره- . أحسن ما سمعته فی سلطان لا تخاف الرعیه بادرته- و لا یتلجلج المتحاکمون عنده- مع سطوته و قوته لإیثاره العدل- قول أبی تمام فی محمد بن عبد الملک-

وزیر حق و والی شرطه و رحى
دیوان ملک و شیعی و محتسب‏

کالأرحبی المذکی سیره المرطى‏
و الوخد و الملع و التقریب و الخبب‏

عود تساجله أیامه فبها
من مسه و به من مسها جلب‏

ثبت الخطاب إذا اصطکت بمظلمه
فی رحله ألسن الأقوام و الرکب‏
لا المنطق اللغو یزکو فی مقاومه
یوما و لا حجه الملهوف تستلب‏

کأنما هو فی نادی قبیلته‏
لا القلب یهفو و لا الأحشاء تضطرب‏

و من هذا المعنى قول أبی الجهم العدوی فی معاویه-

نقلبه لنخبر حالتیه
فنخبر منهما کرما و لینا

نمیل على جوانبه کأنا
إذا ملنا نمیل على أبینا

و منها قوله ع- لا تظنوا بی استثقال رفع الحق إلی- فإنه من استثقل الحق أن یقال له- کان العمل به علیه أثقل- . هذا معنى لطیف و لم أسمع منه شیئا منثورا و لا منظوما- . و منها قوله ع- و لا تکفوا عن قول بحق أو مشوره بعدل- . قد ورد فی المشوره شی‏ء کثیر- قال الله تعالى وَ شاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ- . و کان یقال إذا استشرت إنسانا صار عقله لک- .

و قال أعرابی ما غبنت قط حتى یغبن قومی- قیل و کیف ذاک قال لا أفعل شیئا حتى أشاورهم- . و کان یقال- من أعطی الاستشاره لم یمنع الصواب- و من أعطی الاستخاره لم یمنع الخیره- و من أعطی التوبه لم یمنع القبول- و من أعطی الشکر لم یمنع المزید- . و فی آداب ابن المقفع لا یقذفن فی روعک- أنک إذا استشرت الرجال ظهر منک للناس حاجتک- إلى رأی غیرک فیقطعک ذلک عن المشاوره- فإنک لا ترید الرأی للفخرو لکن للانتفاع به- و لو أنک أردته للذکر لکان أحسن الذکر عند العقلاء- أن یقال إنه لا ینفرد برأیه دون ذوی الرأی من إخوانه- .

و منها أن یقال ما معنى قوله ع- و ربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء- إلى قوله لا بد من إمضائها- فنقول إن معناه أن بعض من یکره الإطراء و الثناء- قد یحب ذلک بعد البلاء و الاختبار- کما قال مرداس بن أدیه لزیاد إنما الثناء بعد البلاء- و إنما نثنی بعد أن نبتلی- فقال لو فرضنا أن ذلک سائغ و جائز و غیر قبیح- لم یجز لکم أن تثنوا علی فی وجهی- و لا جاز لی أن أسمعه منکم- لأنه قد بقیت علی بقیه لم أفرغ من أدائها- و فرائض لم أمضها بعد و لا بد لی من إمضائها- و إذا لم یتم البلاء الذی قد فرضنا- أن الثناء یحسن بعده لم یحسن الثناء-.

و معنى قوله لإخراجی نفسی إلى الله و إلیکم- أی لاعترافی بین یدی الله و بمحضر منکم- أن علی حقوقا فی إیالتکم و رئاستی علیکم- لم أقم بها بعد و أرجو من الله القیام بها- . و منها أن یقال ما معنى قوله فلا تخالطونی بالمصانعه- فنقول إن معناه لا تصانعونی- بالمدح و الإطراء عن عمل الحق- کما یصانع به کثیر من الولاه الذین یستفزهم المدح- و یستخفهم الإطراء و الثناء- فیغمضون عن اعتماد کثیر من الحق- مکافأه لما صونعوا به من التقریظ و التزکیه و النفاق- . و منها قوله ع فإنی لست بفوق أن أخطئ- هذا اعتراف منه ع بعدم العصمه- فإما أن یکون الکلام على ظاهره- أو یکون قاله على سبیل هضم‏النفس-کما قال رسول الله ص و لا أنا إلا أن یتدارکنی الله برحمته- .

و منها قوله ع- أخرجنا مما کنا فیه فأبدلنا بعد الضلاله بالهدى- و أعطانا البصیره بعد العمى- لیس هذا إشاره إلى خاص نفسه ع- لأنه لم یکن کافرا فأسلم- و لکنه کلام یقوله و یشیر به إلى القوم- الذین یخاطبهم من أفناء الناس- فیأتی بصیغه الجمع الداخله فیها نفسه توسعا- و یجوز أن یکون معناه- لو لا ألطاف الله تعالى ببعثه محمد ص- لکنت أنا و غیری على أصل مذهب الأسلاف من عباده الأصنام- کما قال تعالى لنبیه وَ وَجَدَکَ ضَالًّا فَهَدى‏- لیس معناه أنه کان کافرا- بل معناه لو لا اصطفاه الله تعالى لک- لکنت کواحد من قومک- و معنى وَ وَجَدَکَ ضَالًّا- أی و وجدک بعرضه للضلال- فکأنه ضال بالقوه لا بالفعل

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۱۰۵

خطبه ۲۰۹ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۰۹ و من خطبه له ع خطبها بصفین

أَمَّا بَعْدُ- فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِی عَلَیْکُمْ حَقّاً بِوِلَایَهِ أَمْرِکُمْ- وَ لَکُمْ عَلَیَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِی لِی عَلَیْکُمْ- وَ الْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْیَاءِ فِی التَّوَاصُفِ- وَ أَضْیَقُهَا فِی التَّنَاصُفِ- لَا یَجْرِی لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَیْهِ- وَ لَا یَجْرِی عَلَیْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ- وَ لَوْ کَانَ لِأَحَدٍ أَنْ یَجْرِیَ لَهُ وَ لَا یَجْرِیَ عَلَیْهِ- لَکَانَ ذَلِکَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ- لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لِعَدْلِهِ فِی کُلِّ مَا جَرَتْ عَلَیْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ- وَ لَکِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ یُطِیعُوهُ- وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَیْهِ مُضَاعَفَهَ الثَّوَابِ- تَفَضُّلًا مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِیدِ أَهْلُهُ الذی له علیهم من الحق هو وجوب طاعته- و الذی لهم علیه من الحق هو وجوب معدلته فیهم- و الحق أوسع الأشیاء فی التواصف و أضیقها فی التناصف- معناه أن کل أحد یصف الحق و العدل- و یذکر حسنه و وجوبه- و یقول لو ولیت لعدلت- فهو بالوصف باللسان وسیع و بالفعل ضیق- لأن ذلک العالم العظیم الذین کانوا یتواصفون حسنه- و یعدون أن لو ولوا باعتماده و فعله- لا تجد فی الألف منهم واحدا لو ولی لعدل- و لکنه قول بغیر عمل- .

ثم عاد إلى تقریر الکلام الأول- و هو وجوب الحق له و علیه- فقال إنه لا یجری لأحد إلا و جرى علیه- و کذلک لا یجری علیه إلا و جرى له- أی لیس و لا واحد من الموجودین- بمرتفع عن أن یجری الحق علیه- و لو کان أحد من الموجودین کذلک- لکان أحقهم بذلک البارئ سبحانه- لأنه غایه الشرف- بل هو فوق الشرف و فوق الکمال و التمام- و هو مالک الکل و سید الکل- فلو کان لجواز هذه القضیه وجه- و لصحتها مساغ لکان البارئ تعالى أولى بها- و هی ألا یستحق علیه شی‏ء- و تقدیر الکلام لکنه یستحق علیه أمور- فهو فی هذا الباب کالواحد منا یستحق و یستحق علیه- و لکنه ع حذف هذا الکلام المقدر- أدبا و إجلالا لله تعالى أن یقول إنه یستحق علیه شی‏ء- .

فإن قلت فما بال المتکلمین لا یتأدبون بأدبه ع- و کیف یطلقون علیه تعالى الوجوب و الاستحقاق- . قلت لیست وظیفه المتکلمین- وظیفه أمیر المؤمنین ع فی عباراتهم- هؤلاء أرباب صناعه- و علم یحتاج إلى ألفاظ و اصطلاح لا بد لهم من استعماله- للإفهام و الجدل بینهم- و أمیر المؤمنین إمام یخطب على منبره- یخاطب عربا و رعیه لیسوا من أهل النظر- و لا مخاطبته لهم لتعلیم هذا العلم- بل لاستنفارهم إلى حرب عدوه- فوجب علیه بمقتضى الأدب- أن یتوقى کل لفظه توهم ما یستهجنه السامع- فی الأمور الإلهیه و فی غیرها- . فإن قلت فما هذه الأمور التی زعمت- أنها تستحق على البارئ سبحانه- و أن أمیر المؤمنین ع حذفها من اللفظ و اللفظ یقتضیها- . قلت الثواب و العوض و قبول التوبه- و اللطف و الوفاء بالوعد و الوعید- و غیر ذلک مما یذکره أهل العدل- .

فإن قلت فما معنى قوله- لکان ذلک خالصا لله سبحانه دون خلقه- لقدرته على عباده- و لعدله فی کل ما جرت علیه صروف قضائه- و هب أن تعلیل عدم استحقاق شی‏ء- على الله تعالى بقدرته على عباده صحیح- کیف یصح تعلیل ذلک بعدله- فی کل ما جرت علیه صروف قضائه- أ لا ترى أنه لیس بمستقیم- أن تقول لا یستحق على البارئ شی‏ء لأنه عادل- و إنما المستقیم أن تقول لا یستحق علیه شی‏ء لأنه مالک- و لذلک عللت الأشعریه هذا الحکم بأنه مالک الکل- و الاستحقاق إنما یکون على من دونه- .

قلت التعلیل صحیح- و هو أیضا مما عللت به الأشعریه مذهبها- و ذلک لأنه إنما یتصور الاستحقاق على الفاعل المختار- إذا کان ممن یتوقع منه أو یصح منه أن یظلم- فیمکن حینئذ أن یقال قد وجب علیه کذا- و استحق علیه کذا- فأما من لا یمکن أن یظلم و لا یتصور وقوع الظلم منه- و لا الکذب و لا خلف الوعد و الوعید- فلا معنى لإطلاق الوجوب و الاستحقاق علیه- کما لا یقال کذا الداعی الخالص- یستحق علیه أن یفعل ما دعاه إلیه الداعی- و یجب علیه أن یفعل ما دعاه إلیه الداعی- مثل الهارب من الأسد- و الشدید العطش إذا وجد الماء و نحو ذلک- .

فإن قلت أ لیس یشعر قوله ع- و جعل جزاءهم علیه مضاعفه الثواب تفضلا منه- بمذهب البغدادیین من أصحابکم- و هو قولهم إن الثواب تفضل من الله سبحانه- و لیس بواجب- . قلت لا و ذلک لأنه جعل المتفضل به- هو مضاعفه الثواب لا أصل الثواب- و لیس ذلک بمستنکر عندنا- . فإن قلت- أ یجوز عندکم أن یستحق المکلف عشره أجزاء من الثواب- فیعطى عشرین جزءا منه- أ لیس من مذهبکم أن التعظیم و التبجیل- لا یجوز من البارئ سبحانه أن یفعلهمافی الجنه- إلا على قدر الاستحقاق- و الثواب عندکم هو النفع المقارن للتعظیم و التبجیل- فیکف قلت إن مضاعفه الثواب عندنا جائزه- .

قلت مراده ع بمضاعفه الثواب هنا- زیاده غیر مستحقه من النعیم و اللذه الجسمانیه- خاصه فی الجنه- فسمى تلک اللذه الجسمانیه ثوابا لأنها جزء من الثواب- فأما اللذه العقلیه فلا یجوز مضاعفتها- . قوله ع بما هو من المزید أهله- أی بما هو أهله من المزید- فقدم الجار و المجرور و موضعه نصب على الحال- و فیه دلاله على أن حال المجرور تتقدم علیه- کما قال الشاعر-

لئن کان برد الماء حران صادیا
إلی حبیبا إنها لحبیب‏

ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً- افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ- فَجَعَلَهَا تَتَکَافَأُ فِی وُجُوهِهَا- وَ یُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً- وَ لَا یُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ- . وَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْکَ الْحُقُوقِ- حَقُّ الْوَالِی عَلَى الرَّعِیَّهِ وَ حَقُّ الرَّعِیَّهِ عَلَى الْوَالِی- فَرِیضَهٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِکُلٍّ عَلَى کُلٍّ- فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِینِهِمْ- فَلَیْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِیَّهُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاهِ- وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاهُ إِلَّا بِاسْتِقَامَهِ الرَّعِیَّهِ- فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِیَّهُ إِلَى الْوَالِی حَقَّهُ- وَ أَدَّى الْوَالِی إِلَیْهَا حَقَّهَا- عَزَّ الْحَقُّ بَیْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّینِ- وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ- فَصَلَحَ بِذَلِکَ الزَّمَانُ- وَ طُمِعَ فِی بَقَاءِ الدَّوْلَهِ وَ یَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ- .

وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِیَّهُ وَالِیَهَا- أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِی بِرَعِیَّتِهِ- اخْتَلَفَتْ هُنَالِکَ الْکَلِمَهُ- وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ کَثُرَ الْإِدْغَالُ فِی الدِّینِ- وَ تَرَکَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى- وَ عُطِّلَتِ الْأَحْکَامُ وَ کَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ- فَلَا یُسْتَوْحَشُ لِعَظِیمِ حَقٍّ عُطِّلَ- وَ لَا لِعَظِیمِ بَاطِلٍ فُعِلَ- فَهُنَالِکَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ- وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ- . فَعَلَیْکُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِی ذَلِکَ وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَیْهِ- فَلَیْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ- وَ طَالَ فِی الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِیقَهَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَهِ لَهُ- وَ لَکِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ- النَّصِیحَهُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ- وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَهِ الْحَقِّ بَیْنَهُمْ- وَ لَیْسَ امْرُؤٌ وَ إِنْ عَظُمَتْ فِی الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ- وَ تَقَدَّمَتْ فِی الدِّینِ فَضِیلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ یُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ مِنْ حَقِّهِ- وَ لَا امْرُؤٌ وَ إِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ- وَ اقْتَحَمَتْهُ الْعُیُونُ- بِدُونِ أَنْ یُعِینَ عَلَى ذَلِکَ أَوْ یُعَانَ عَلَیْهِ تتکافأ فی وجوهها تتساوى- و هی حق الوالی على الرعیه و حق الرعیه على الوالی- . و فریضه قد روی بالنصب و بالرفع- فمن رفع فخبر مبتدإ محذوف- و من نصب فبإضمار فعل أو على الحال- . و جرت على أذلالها السنن- بفتح الهمزه أی على مجاریها و طرقها- . و أجحف الوالی برعیته ظلمهم- . و الإدغال فی الدین الفساد- .

و محاج السنن جمع محجه و هی جاده الطریق- . قوله و کثرت علل النفوس أی تعللها بالباطل- و من کلام الحجاج إیاکم و علل النفوس- فإنها أدوى لکم من علل الأجساد- . و اقتحمته العیون احتقرته و ازدرته- قال ابن درید-و منه ما تقتحم العین فإن ذقت جناه ساغ عذبا فی اللها- . و مثل قوله ع- و لیس امرؤ و إن عظمت فی الحق منزلته- قول زید بن علی ع لهشام بن عبد الملک- إنه لیس أحد و إن عظمت منزلته بفوق أن یذکر بالله- و یحذر من سطوته- و لیس أحد و إن صغر بدون أن یذکر بالله- و یخوف من نقمته- . و مثل قوله ع و إذا غلبت الرعیه والیها- قول الحکماء إذا علا صوت بعض الرعیه على الملک- فالملک مخلوع- فإن قال نعم فقال أحد من الرعیه لا- فالملک مقتول

فصل فیما ورد من الآثار فیما یصلح الملک

و قد جاء فی وجوب الطاعه لأولی الأمر الکثیر الواسع- قال الله سبحانه- أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ وروى عبد الله بن عمر عن رسول الله ص السمع و الطاعه على المرءالمسلم فیما أحب و کره- ما لم یؤمر بمعصیه فإذا أمر بها فلا سمع و لا طاعه
وعنه ص إن أمر علیکم عبد أسود مجدع فاسمعوا له و أطیعواومن کلام علی ع إن الله جعل الطاعه غنیمه الأکیاس عند تفریط الفجره
– .

بعث سعد بن أبی وقاص جریر بن عبد الله البجلی- من العراق إلى عمر بن الخطاب بالمدینه- فقال له عمر کیف ترکت الناس- قال ترکتهم کقداح الجعبه منها الأعصل الطائش- و منها القائم الرائش قال فکیف سعد لهم- قال هو ثقافها الذی یقیم أودها و یغمز عصلها- قال فکیف طاعتهم قال یصلون الصلاه لأوقاتها- و یؤدون الطاعه إلى ولاتها- قال الله أکبر إذا أقیمت الصلاه أدیت الزکاه- و إذا کانت الطاعه کانت الجماعه- . و من کلام أبرویز الملک- أطع من فوقک یطعک من دونک- .

و من کلام الحکماء قلوب الرعیه خزائن والیها- فما أودعه فیها وجده- . و کان یقال صنفان متباغضان متنافیان- السلطان و الرعیه و هما مع ذلک متلازمان- إن أصلح أحدهما صلح الآخر و إن فسد فسد الآخر- . و کان یقال- محل الملک من رعیته محل الروح من الجسد- و محل الرعیه منه محل الجسد من الروح- فالروح تألم بألم کل عضو من أعضاء البدن- و لیس کل واحد من الأعضاء یألم بألم غیره- و فساد الروح فساد جمیع البدن- و قد یفسد بعض البدن و غیره من سائر البدن صحیح- .

و کان یقال ظلم الرعیه استجلاب البلیه- . و کان یقال العجب ممن استفسد رعیته- و هو یعلم أن عزه بطاعتهم- . و کان یقال موت الملک الجائر خصب شامل- . و کان یقال لا قحط أشد من جور السلطان- . و کان یقال قد تعامل الرعیه المشمئزه بالرفق- فتزول أحقادها و یذل قیادها- و قد تعامل بالخرق فتکاشف بما غیبت- و تقدم على ما عیبت حتى یعود نفاقها شقاقا- و رذاذها سیلا بعاقا- ثم إن غلبت و قهرت فهو الدمار- و إن غلبت و قهرت لم یکن یغلبها افتخار- و لم یدرک بقهرها ثأر و کان یقال الرعیه و إن کانت ثمارا مجتناه- و ذخائر مقتناه و سیوفا منتضاه- و أحراسا مرتضاه- فإن لها نفارا کنفار الوحوش- و طغیانا کطغیان السیول- و متى قدرت أن تقول قدرت على أن تصول- .

و کان یقال أیدی الرعیه تبع ألسنتها- فلن یملک الملک ألسنتها حتى یملک جسومها- و لن یملک جسومها حتى یملک قلوبها فتحبه- و لن تحبه حتى یعدل علیها فی أحکامه عدلا- یتساوى فیه الخاصه و العامه- و حتى یخفف عنها المؤن و الکلف- و حتى یعفیها من رفع أوضاعها و أراذلها- علیها- و هذه الثالثه تحقد على الملک العلیه من الرعیه- و تطمع السفله فی الرتب السنیه- .

و کان یقال الرعیه ثلاثه أصناف- صنف فضلاء مرتاضون بحکم الرئاسه و السیاسه- یعلمون فضیله الملک و عظیم غنائه- و یرثون له من ثقل أعبائه- فهؤلاء یحصل الملک موداتهم بالبشر عند اللقاء- و یلقى أحادیثهم بحسن الإصغاء- و صنف فیهم خیر و شر ظاهران- فصلاحهم یکتسب من معاملتهم بالترغیب و الترهیب- و صنف من السفله الرعاع أتباع‏لکل داع- لا یمتحنون فی أقوالهم و أعمالهم بنقد- و لا یرجعون فی الموالاه إلى عقد- .

و کان یقال ترک المعاقبه للسفله على صغار الجرائم- تدعوهم إلى ارتکاب الکبائر العظائم- أ لا ترى أول نشور المرأه کلمه سومحت بها- و أول حران الدابه حیده سوعدت علیها- . و یقال إن عثمان قال یوما لجلسائه- و هو محصور فی الفتنه- وددت أن رجلا صدوقا أخبرنی عن نفسی و عن هؤلاء- فقام إلیه فتى فقال إنی أخبرک- تطأطأت لهم فرکبوک- و ما جراهم على ظلمک إلا إفراط حلمک- قال صدقت فهل تعلم ما یشب نیران الفتن- قال نعم سألت عن ذلک شیخا من تنوخ کان باقعه- قد نقب فی الأرض و علم علما جما- فقال الفتنه یثیرها أمران- أثره تضغن على الملک الخاصه- و حلم یجزئ علیه العامه- قال فهل سألته عما یخمدها- قال نعم زعم أن الذی یخمدها فی ابتدائها- استقاله العثره و تعمیم الخاصه بالأثره- فإذا استحکمت الفتنه أخمدها الصبر- قال عثمان صدقت- و إنی لصابر حتى یحکم الله بیننا و هو خیر الحاکمین- و یقال إن یزدجرد بن بهرام سأل حکیما- ما صلاح الملک قال الرفق بالرعیه- و أخذ الحق منها بغیر عنف- و التودد إلیها بالعدل- و أمن السبل و إنصاف المظلوم- قال فما صلاح الملک قال وزراؤه إذا صلحوا صلح- قال فما الذی یثیر الفتن قال ضغائن یظهرها جرأه عامه- و استخفاف خاصه و انبساط الألسن بضمائر القلوب- و إشفاق موسر و أمن معسر- و غفله مرزوق و یقظه محروم- قال و ما یسکنها قال أخذ العده لما یخاف- و إیثار الجد حین یلتذ الهزل- و العمل بالحزم و ادراع الصبر و الرضا بالقضاء- . و کان یقال خیر الملوک من أشرب قلوب رعیته محبته- کما أشعرها هیبته- و لن ینال ذلک منها حتى تظفر منه بخمسه أشیاء- إکرام شریفها و رحمه ضعیفها- و إغاثه لهیفهاو کف عدوان عدوها- و تأمین سبل رواحها و غدوها- فمتى أعدمها شیئا من ذلک- فقد أحقدها بقدر ما أفقدها- . و کان یقال الأسباب التی تجر الهلک إلى الملک ثلاثه- أحدها من جهه الملک- و هو أن تتأمر شهواته على عقله- فتستهویه نشوات الشهوات- فلا تسنح له لذه إلا اقتنصها- و لا راحه إلا افترصها- . و الثانی من جهه الوزراء- و هو تحاسدهم المقتضی تعارض الآراء- فلا یسبق أحدهم إلى حق- إلا کوید و عورض و عوند- . و الثالث من جهه الجند المؤهلین لحراسه الملک و الدین- و توهین المعاندین و هو نکولهم عن الجلاد- و تضجیعهم فی المناصحه و الجهاد- و هم صنفان صنف وسع الملک علیهم فأبطرهم الإتراف- و ضنوا بنفوسهم عن التعریض للإتلاف- و صنف قدر علیهم الأرزاق- فاضطغنوا الأحقاد و استشعروا النفاق

الآثار الوارده فی العدل و الإنصاف

قوله ع أو أجحف الوالی برعیته- قد جاء من نظائره الکثیر جدا- و قد ذکرنا فیما تقدم نکتا حسنه فی مدح العدل و الإنصاف- و ذم الظلم و الإجحاف- وقال النبی ص زین الله السماء بثلاثه الشمس و القمر و الکواکب- و زین الأرض بثلاثه العلماء و المطر و السلطان العادل
– . و کان یقال إذا لم یعمر الملک ملکه بإنصاف الرعیه- خرب ملکه بعصیان الرعیه- . و قیل لأنوشروان أی الجنن أوقى- قال الدین قیل فأی العدد أقوى قال العدل- .

وقع جعفر بن یحیى إلى عامل من عماله- کثر شاکوک و قل حامدوک- فإما عدلت و إما اعتزلت- . وجد فی خزانه بعض الأکاسره سفط- ففتح فوجد فیه حب الرمان- کل حبه کالنواه الکبیره من نوى المشمش- و فی السفط رقعه فیها- هذا حب رمان عملنا فی خراجه بالعدل- . جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلما- فقال یا أمیر المؤمنین هذا مکان العائذ بک- قال له عذت بمعاذ ما شأنک- قال سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته- فجعل یعنفنی بسوطه و یقول أنا ابن الأکرمین- و بلغ أباه ذلک فحبسنی خشیه أن أقدم علیک- فکتب إلى عمرو- إذا أتاک کتابی هذا فاشهد الموسم أنت و ابنک- فلما قدم عمرو و ابنه دفع الدره إلى المصری- و قال اضربه کما ضربک فجعل یضربه و عمر یقول- اضرب ابن الأمیر اضرب ابن الأمیر یرددها- حتى قال یا أمیر المؤمنین قد استقدت منه- فقال و أشار إلى عمرو ضعها على صلعته- فقال المصری یا أمیر المؤمنین إنما أضرب من ضربنی- فقال إنما ضربک بقوه أبیه و سلطانه- فاضربه إن شئت فو الله لو فعلت لما منعک أحد منه- حتى تکون أنت الذی تتبرع بالکف عنه- ثم قال یا ابن العاص- متى تعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرار- .

خطب الإسکندر جنده- فقال لهم بالرومیه کلاما تفسیره- یا عباد الله إنما إلهکم الله الذی فی السماء- الذی نصرنا بعد حین- الذی یسقیکم الغیث عند الحاجه- و إلیه مفزعکم عند الکرب- و الله لا یبلغنی إن الله أحب شیئا إلا أحببته- و عملت به إلى یوم أجلی- و لا یبلغنی أنه أبغض شیئا إلا أبغضته- و هجرته إلى یوم أجلی- و قد أنبئت أن الله یحب العدل فی عباده- و یبغض الجور- فویل للظالم من سوطی و سیفی- و من ظهر منهالعدل من عمالی فلیتکئ فی مجلسی کیف شاء- و لیتمن على ما شاء- فلن تخطئه أمنیته و الله المجازی کلا بعمله- . قال رجل لسلیمان بن عبد الملک و هو جالس للمظالم- یا أمیر المؤمنین أ لم تسمع قول الله تعالى- فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَیْنَهُمْ أَنْ لَعْنَهُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِینَ- قال ما خطبک قال وکیلک اغتصبنی ضیعتی- و ضمها إلى ضیعتک الفلانیه- قال فإن ضیعتی لک و ضیعتک مردوده إلیک- ثم کتب إلى الوکیل بذلک و بصرفه عن عمله- .

و رقى إلى کسرى قباذ- أن فی بطانه الملک قوما قد فسدت نیاتهم- و خبثت ضمائرهم- لأن أحکام الملک جرت على بعضهم لبعضهم- فوقع فی الجواب أنا أملک الأجساد لا النیات- و أحکم بالعدل لا بالهوى- و أفحص عن الأعمال لا عن السرائر- . و تظلم أهل الکوفه إلى المأمون من والیهم- فقال ما علمت فی عمالی أعدل و لا أقوم بأمر الرعیه- و لا أعود بالرفق منه- فقال له منهم واحد- فلا أحد أولى منک یا أمیر المؤمنین بالعدل و الإنصاف- و إذا کان بهذه الصفه- فمن عدل أمیر المؤمنین أن یولیه بلدا بلدا- حتى یلحق أهل کل بلد من عدله- مثل ما لحقنا منه- و یأخذوا بقسطهم منه کما أخذ منه سواهم- و إذا فعل أمیر المؤمنین ذلک- لم یصب الکوفه منه أکثر من ثلاث سنین- فضحک و عزله- . کتب عدی بن أرطاه إلى عمر بن عبد العزیز- أما بعد فإن قبلنا قوما لا یؤدون الخراج- إلا أن یمسهم نصب من العذاب- فاکتب إلى أمیر المؤمنین برأیک- فکتب أما بعد فالعجب لک کل العجب- تکتب إلی تستأذننی فی عذاب البشر- کأن إذنی لک جنه من عذاب الله- أو کان رضای ینجیک من سخط الله- فمن أعطاک ما علیه عفوافخذ منه- و من أبى فاستحلفه و کله إلى الله- فلأن یلقوا الله بجرائمهم- أحب إلی من أن ألقاه بعذابهم- .

فضیل بن عیاض- ما ینبغی أن تتکلم بفیک کله- أ تدری من کان یتکلم بفیه کله- عمر بن الخطاب کان یعدل فی رعیته و یجور على نفسه- و یطعمهم الطیب و یأکل الغلیظ- و یکسوهم اللین و یلبس الخشن- و یعطیهم الحق و یزیدهم و یمنع ولده و أهله- أعطى رجلا عطاءه أربعه آلاف درهم ثم زاده ألفا- فقیل له أ لا تزید ابنک عبد الله کما تزید هذا- فقال إن هذا ثبت أبوه یوم أحد- و إن عبد الله فر أبوه و لم یثبت- . و کان یقال لا یکون العمران- إلا حیث یعدل السلطان- . و کان یقال العدل حصن وثیق فی رأس نیق- لا یحطمه سیل و لا یهدمه منجنیق- . وقع المأمون إلى عامل کثر التظلم منه- أنصف من ولیت أمرهم- و إلا أنصفهم منک من ولی أمرک- . بعض السلف العدل میزان الله و الجور مکیال الشیطان

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۵۳

خطبه ۲۰۸ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۰۸ و من دعاء کان یدعو به ع کثیرا

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَمْ یُصْبِحْ بِی مَیِّتاً وَ لَا سَقِیماً- وَ لَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِی بِسُوءٍ- وَ لَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِی وَ لَا مَقْطُوعاً دَابِرِی- وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ دِینِی وَ لَا مُنْکِراً لِرَبِّی- وَ لَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِیمَانِی وَ لَا مُلْتَبِساً عَقْلِی- وَ لَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِی- أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوکاً ظَالِماً لِنَفْسِی- لَکَ الْحُجَّهُ عَلَیَّ وَ لَا حُجَّهَ لِی- وَ لَا أَسْتَطِیعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَیْتَنِی- وَ لَا أَتَّقِیَ إِلَّا مَا وَقَیْتَنِی- اللَّهُمَّ إِنِّی أَعُوذُ بِکَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِی غِنَاکَ- أَوْ أَضِلَّ فِی هُدَاکَ أَوْ أُضَامَ فِی سُلْطَانِکَ- أَوْ أُضْطَهَدَ وَ الْأَمْرُ لَکَ- اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِی أَوَّلَ کَرِیمَهٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ کَرَائِمِی- وَ أَوَّلَ وَدِیعَهٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِکَ عِنْدِی- اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِکَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِکَ- أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِینِکَ- أَوْ تَتَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِی جَاءَ مِنْ عِنْدِکَ‏

قوله کثیرا منصوب بأنه صفه مصدر محذوف- أی دعاء کثیرا- و میتا منصوب على الحال- أی لم یفلق الصباح على میتا- و لا یجوز أن تکون یصبح ناقصه- و یکون میتا خبرها کما قال الراوندی- لأن خبر کان و أخواتها- یجب أن یکون هو الاسم- أ لا ترى أنهما مبتدأ و خبر فی الأصل- و اسم یصبح ضمیر الله تعالى- و میتا لیس هو الله سبحانه- .

قوله و لا مضروبا على عروقی بسوء- أی و لا أبرص- و العرب تکنی عن البرص بالسوء- و من أمثالهم ما أنکرک من سوء- أی لیس إنکاری لک عن برص- حدث بک فغیر صورتک- . و أراد بعروقه أعضاءه- و یجوز أن یرید و لا مطعونا فی نسبی- و التفسیر الأول أظهر- . و لا مأخوذا بأسوإ عملی- أی و لا معاقبا بأفحش ذنوبی- . و لا مقطوعا دابری أی عقبی و نسلی- و الدابر فی الأصل التابع لأنه یأتی دبرا- و یقال للهالک قد قطع الله دابره- کأنه یراد أنه عفا أثره و محا اسمه- قال سبحانه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِینَ- . و لا مستوحشا أی و لا شاکا فی الإیمان- لأن من شک فی عقیده استوحش منها- . و لا متلبسا عقلی أی و لا مختلطا عقلی- لبست علیهم الأمر بالفتح أی خلطته- و عذاب الأمم من قبل المسخ و الزلزله و الظلمه و نحو ذلک- .

قوله لک الحجه علی و لا حجه لی- لأن الله سبحانه قد کلفه بعد تمکینه و إقداره- و إعلامه قبح القبیح و وجوب الواجب- و تردید دواعیه إلى الفعل و ترکه- و هذه حجه الله تعالى على عباده- و لا حجه للعباد علیه لأنه ما کلفهم إلا بما یطیقونه- و لا کان لهم لطف فی أمر إلا و فعله- . قوله لا أستطیع أن آخذ إلا ما أعطیتنی- و لا أتقی إلا ما وقیتنی- أی لا أستطیع أن أرزق نفسی أمرا- و لکنک الرزاق- و لا أدفع عن نفسی محذورا من المرض و الموت- إلا ما دفعته أنت عنی- . و قال الشاعر-

لعمرک ما یدرى الفتى کیف
یتقی نوائب هذا الدهر أم کیف یحذر

یرى الشی‏ء مما یتقى فیخافه‏
و ما لا یرى مما یقی الله أکثر

و قال عبد الله بن سلیمان بن وهب-

کفایه الله أجدى من توقینا
و عاده الله فی الأعداء تکفینا

کاد الأعادی فما أبقوا و لا ترکوا
عیبا و طعنا و تقبیحا و تهجینا

و لم نزد نحن فی سر و
فی علن على مقالتنا الله یکفینا

و کان ذاک و رد الله حاسدنا
بغیظه لم ینل مأموله فینا

قوله ع أن أفتقر فی غناک- موضع الجار و المجرور نصب على الحال- و فی متعلقه بمحذوف- و المعنى أن أفتقر و أنت الموصوف بالغنى- الفائض على الخلق- . و کذلک قوله أو أضل فی هداک- معناه أو أضل و أنت ذو الهدایه العامه للبشر کافه- و کذلک أو أضام فی سلطانک- کما یقول المستغیث إلى السلطان کیف أظلم فی عدلک- .

و کذلک قوله أو أضطهد و الأمر لک- أی و أنت الحاکم صاحب الأمر- و الطاء فی أضطهد هی تاء الافتعال- و أصل الفعل ضهدت فلانا فهو مضهود أی قهرته- و فلان ضهده لکل أحد- أی کل من شاء أن یقهره فعل- . قوله اللهم اجعل نفسی- هذه الدعوه مثل دعوه رسول الله ص- و هیقوله اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا- و اجعله الوارث منا- أی لا تجعل موتنا متأخرا عن ذهاب حواسنا- وکان علی بن الحسین یقول فی دعائه اللهم احفظ علی سمعی و بصری إلى انتهاء أجلی- .

و فسروا قوله ع و اجعله الوارث منا- فقالوا الضمیر فی و اجعله یرجع إلى الإمتاع- . فإن قلت کیف یتقى الإمتاع بالسمع و البصر- بعد خروج الروح- . قلت هذا توسع فی الکلام- و المراد لا تبلنا بالعمى و لا الصمم- فنکون أحیاء فی الصوره و لسنا بأحیاء فی المعنى- لأن من فقدهما لا خیر له فی الحیاه- فحملته المبالغه على أن طلب بقاءهما بعد ذهاب النفس- إیذانا و إشعارا بحبه ألا یبلى بفقدهما- .

و نفتتن على ما لم یسم فاعله- نصاب بفتنه تضلنا عن الدین- و روی نفتتن بفتح حرف المضارعه على نفتعل- افتتن الرجل أی فتن- و لا یجوز أن یکون الافتتان متعدیا کما ذکره الراوندی- و لکنه قرأ فی الصحاح للجوهری- و الفتون الافتتان یتعدى و لا یتعدى- فظن أن ذلک للافتتان و لیس کما ظن- و إنما ذلک راجع إلى الفتون- . و التتابع التهافت فی اللجاج و الشر- و لا یکون إلا فی مثل ذلک- و روی أو تتابع بطرح إحدى التاءات

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۲۴

خطبه ۲۰۷ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۰۷ و من خطبه له ع

وَ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ وَ حَکَمٌ فَصَلَ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ سَیِّدُ عِبَادِهِ- کُلَّمَا نَسَخَ اللَّهُ الْخَلْقَ فِرْقَتَیْنِ جَعَلَهُ فِی خَیْرِهِمَا- لَمْ یُسْهِمْ فِیهِ عَاهِرٌ وَ لَا ضَرَبَ فِیهِ فَاجِرٌ- أَلَا وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَیْرِ أَهْلًا- وَ لِلْحَقِّ دَعَائِمَ وَ لِلطَّاعَهِ- عِصَماً- وَ إِنَّ لَکُمْ عِنْدَ کُلِّ طَاعَهٍ عَوْناً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- یَقُولُ عَلَى الْأَلْسِنَهِ وَ یُثَبِّتُ بِهِ الْأَفْئِدَهَ- فِیهِ کِفَاءٌ لِمُکْتَفٍ وَ شِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْتَحْفَظِینَ عِلْمَهُ- یَصُونُونَ مَصُونَهُ وَ یُفَجِّرُونَ عُیُونَهُ- یَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلَایَهِ- وَ یَتَلَاقَوْنَ بِالْمَحَبَّهِ وَ یَتَسَاقَوْنَ بِکَأْسٍ رَوِیَّهٍ- وَ یَصْدُرُونَ بِرِیَّهٍ لَا تَشُوبُهُمُ الرِّیبَهُ- وَ لَا تُسْرِعُ فِیهِمُ الْغِیبَهُ- عَلَى ذَلِکَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَ أَخْلَاقَهُمْ- فَعَلَیْهِ یَتَحَابُّونَ وَ بِهِ یَتَوَاصَلُونَ- فَکَانُوا کَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ یُنْتَقَى فَیُؤْخَذُ مِنْهُ وَ یُلْقَى- قَدْ مَیَّزَهُ التَّخْلِیصُ وَ هَذَّبَهُ التَّمْحِیصُ- فَلْیَقْبَلِ امْرُؤٌ کَرَامَهً بِقَبُولِهَا- وَ لْیَحْذَرْ قَارِعَهً قَبْلَ حُلُولِهَا- وَ لْیَنْظُرِ امْرُؤٌ فِی قَصِیرِ أَیَّامِهِ وَ قَلِیلِ مُقَامِهِ فِی مَنْزِلٍ- حَتَّى یَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلًا- فَلْیَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ وَ مَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ- فَطُوبَى لِذِی قَلْبٍ سَلِیمٍ- أَطَاعَ مَنْ یَهْدِیهِ وَ تَجَنَّبَ مَنْ یُرْدِیهِ- وَ أَصَابَ سَبِیلَ السَّلَامَهِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ- وَ طَاعَهِ هَادٍ أَمَرَهُ وَ بَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ-وَ تُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَ اسْتَفْتَحَ التَّوْبَهَ وَ أَمَاطَ الْحَوْبَهَ- فَقَدْ أُقِیمَ عَلَى الطَّرِیقِ وَ هُدِیَ نَهْجَ السَّبِیلِ الضمیر فی أنه یرجع إلى القضاء و القدر- المذکور فی صدر هذه الخطبه- و لم یذکره الرضی رحمه الله- یقول أشهد أن قضاءه تعالى عدل عدل و حکم بالحق- فإنه حکم فصل بین العباد بالإنصاف- و نسب العدل و الفصل إلى القضاء على طریق المجاز- و هو بالحقیقه منسوب إلى ذی القضاء- و القاضی به هو الله تعالى- .

قوله و سید عباده هذا کالمجمع علیه بین المسلمین- و إن کان قد خالف فیه شذوذ منهم- و احتج الجمهوربقوله أنا سید ولد آدم و لا فخروبقوله ادعوا لی سید العرب علیا- فقالت عائشه أ لست سید العرب- فقال أنا سید البشر و علی سید العربوبقوله آدم و من دونه تحت لوائیو احتج المخالفبقوله ع لا تفضلونی على أخی یونس بن متى- .

و أجاب الأولون تاره بالطعن فی إسناد الخبر- و تاره بأنه حکایه کلام حکاه ص- عن عیسى ابن مریم- و تاره بأن النهی إنما کان عن الغلو فیه- کما غلت الأمم فی أنبیائها- فهو کما ینهى الطبیب المریض- فیقول لا تأکل من الخبز و لا درهما- و لیس مراده تحریم أکل الدرهم و الدرهمین- بل تحریم ما یستضر بأکله منه- . قوله ع- کلما نسخ الله الخلق فرقتین جعله فی خیرهما- النسخ النقل و منه نسخ الکتاب- و منه نسخت الریح آثار القوم و نسخت الشمس الظل- یقول‏ کلما قسم الله تعالى الأب الواحد إلى ابنین- جعل خیرهما و أفضلهما لولاده محمد ع- و سمى ذلک نسخا لأن البطن الأول یزول- و یخلفه البطن الثانی- و منه مسائل المناسخات فی الفرائض- .

و هذا المعنى قد ورد مرفوعا فی عده أحادیث نحوقوله ص ما افترقت فرقتان منذ نسل آدم ولده- إلا کنت فی خیرهماو نحوقوله إن الله اصطفى من ولد إبراهیم إسماعیل- و اصطفى من ولد إسماعیل مضر- و اصطفى من مضر کنانه و اصطفى من کنانه قریشا- و اصطفى من قریش هاشما- و اصطفانی من بنی هاشمقوله لم یسهم فیه عاهر و لا ضرب فیه فاجر- لم یسهم لم یضرب فیه عاهر بسهم أی بنصیب و جمعه سهمان- و العاهر ذو العهر بالتحریک و هو الفجور و الزناء- و یجوز تسکین الهاء مثل نهر و نهر- و هذا هو المصدر و الماضی عهر بالفتح- و الاسم العهر بکسر العین و سکون الهاء- و المرأه عاهره و معاهره و عیهره- و تعیهر الرجل إذا زنى- و الفاجر کالعاهر هاهنا- و أصل الفجور المیل قال لبید-فإن تتقدم تغش منها مقدما غلیظا و إن أخرت فالکفل فاجریقول مقعد الردیف مائلذکر بعض المطاعن فی النسب و کلام للجاحظ فی ذلکو فی الکلام رمز إلى جماعه من الصحابه فی أنسابهم طعن- کما یقال إن آل سعد بن أبی وقاص- لیسوا من بنی زهره بن کلاب- و إنهم من بنی عذره من قحطان-و کما قالوا إن آل الزبیر بن العوام- من أرض مصر من القبط- و لیسوا من بنی أسد بن عبد العزى- قال الهیثم بن عدی فی کتاب مثالب العرب- إن خویلد بن أسد بن عبد العزى کان أتى مصر- ثم انصرف منها بالعوام فتبناه- فقال حسان بن ثابت یهجو آل العوام بن خویلد-

بنی أسد ما بال آل خویلد
یحنون شوقا کل یوم إلى القبط

متى یذکروا قهقى یحنوا لذکرها
و للرمث المقرون و السمک الرقط

عیون کأمثال الزجاج وضیعه
تخالف کعبا فی لحى کثه ثط

یرى ذاک فی الشبان و الشیب منهم‏
مبینا و فی الأطفال و الجله الشمط

لعمر أبی العوام إن خویلدا
غداه تبناه لیوثق فی الشرط

و کما یقال فی قوم آخرین- نرفع هذا الکتاب عن ذکر ما یطعن به فی أنسابهم- کی لا یظن بنا أنا نحب المقاله فی الناس- . قال شیخنا أبو عثمان فی کتاب مفاخرات قریش- لا خیر فی ذکر العیوب إلا من ضروره- و لا نجد کتاب مثالب قط إلا لدعی أو شعوبی- و لست واجده لصحیح النسب و لا لقلیل الحسد- و ربما کانت حکایه الفحش أفحش من الفحش- و نقل الکذب أقبح من الکذب- وقال النبی ص اعف عن ذی قبروقال لا تؤذوا الأحیاء بسب الأموات- و قیل فی المثل یکفیک من شر سماعه- و قالوا أسمعک من أبلغک- و قالوا من طلب عیبا وجده- و قال النابغه-و لست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أی الرجال المهذب‏- .

قال أبو عثمان- و بلغ عمر بن الخطاب أن أناسا من رواه الأشعار- و حمله الآثار یعیبون الناس- و یثلبونهم فی أسلافهم- فقام على المنبر و قال إیاکم و ذکر العیوب- و البحث عن الأصول- فلو قلت لا یخرج الیوم من هذا الأبواب- إلا من لا وصمه فیه- لم یخرج منکم أحد- فقام رجل من قریش نکره أن نذکره- فقال إذا کنت أنا و أنت یا أمیر المؤمنین نخرج- فقال کذبت بل کان یقال لک یا قین بن قین اقعد- .

قلت الرجل الذی قام- هو المهاجر بن خالد بن الولید بن المغیره المخزومی- کان عمر یبغضه لبغضه أباه خالدا- و لأن المهاجر کان علوی الرأی جدا- و کان أخوه عبد الرحمن بخلافه- شهد المهاجر صفین مع علی ع- و شهدها عبد الرحمن مع معاویه- و کان المهاجر مع علی ع فی یوم الجمل- و فقئت ذلک الیوم عینه- و لأن الکلام الذی بلغ عمر بلغه عن المهاجر- و کان الولید بن المغیره مع جلالته فی قریش- و کونه یسمى ریحانه قریش و یسمى العدل- و یسمى الوحید حداد یصنع الدروع و غیرها بیده- ذکر ذلک عنه عبد الله بن قتیبه فی کتاب المعارف- .

و روى أبو الحسن المدائنی هذا الخبر- فی کتاب أمهات الخلفاء- و قال إنه روى عند جعفر بن محمد ع بالمدینه- فقال لا تلمه یا ابن أخی- إنه أشفق أن یحدج بقضیه نفیل بن عبد العزى و صهاک أمه الزبیر بن عبد المطلب- ثم قال رحم الله عمر فإنه لم یعد السنه و تلا- إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَنْ تَشِیعَ الْفاحِشَهُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا- لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ- . أما قول ابن جریر الآملی الطبرستانی فی کتاب المسترشد- إن عثمان والدأبی بکر الصدیق- کان ناکحا أم الخیر ابنه أخته فلیس بصحیح- و لکنها ابنه عمه لأنها ابنه صخر بن عامر- و عثمان هو ابن عمرو بن عامر- و العجب لمن اتبعه من فضلاء الإمامیه على هذه المقاله- من غیر تحقیق لها من کتب الأنساب- و کیف تتصور هذه الواقعه فی قریش- و لم یکن أحد منهم مجوسیا و لا یهودیا- و لا کان من مذهبهم حل نکاح بنات الأخ و لا بنات الأخت- .

ثم نعود لإتمام حکایه کلام شیخنا أبی عثمان- قال و متى یقدر الناس حفظک الله- على رجل مسلم من کل ابنه و مبرأ من کل آفه- فی جمیع آبائه و أمهاته و أسلافه و أصهاره- حتى تسلم له أخواله و أعمامه و خالاته و عماته- و أخواته و بناته و أمهات نسائه- و جمیع من یناسبه من قبل جداته و أجداده- و أصهاره و أختانه- و لو کان ذلک موجودا- لما کان لنسب رسول الله ص فضیله فی النقاء و التهذیب- و فی التصفیه و التنقیح-قال رسول الله ص ما مسنی عرق سفاح قط- و ما زلت أنقل من الأصلاب السلیمه من الوصوم- و الأرحام البریئه من العیوبفلسنا نقضی لأحد بالنقاء من جمیع الوجوه- إلا لنسب من صدقه القرآن و اختاره الله على جمیع الأنام- و إلا فلا بد من شی‏ء یکون فی نفس الرجل أو فی طرفیه- أو فی بعض أسلافه أو فی بعض أصهاره- و لکنه یکون مغطى بالصلاح- و محجوبا بالفضائل و مغمورا بالمناقب- .

و لو تأملت أحوال الناس- لوجدت أکثرهم عیوبا أشدهم تعییبا- قال الزبرقان من بدر ما استب رجلان إلا غلب ألأمهما- و قال خصلتان کثیرتان فی امرئ السوء-کثره اللطام و شده السباب- و لو کان ما یقوله أصحاب المثالب حقا- لما کان على ظهرها عربی- کما قال عبد الملک بن صالح الهاشمی- إن کان ما یقول بعض فی بعض حقا فما فیهم صحیح- و إن کان ما یقول بعض المتکلمین فی بعض حقا- فما فیهم مسلم- .

قوله ع ألا و إن الله قد جعل للخیر أهلا- و للحق دعائم و للطاعه عصما- الدعائم ما یدعم بها البیت لئلا یسقط- و العصم جمع عصمه و هو ما یحفظ به الشی‏ء و یمنع- فأهل الخیر هم المتقون- و دعائم الحق الأدله الموصله إلیه المثبته له فی القلوب- و عصم الطاعه هی الإدمان على فعلها- و التمرن على الإتیان بها- لأن المرون على الفعل یکسب الفاعل ملکه- تقتضی سهولته علیه- و العون هاهنا هو اللطف المقرب من الطاعه- المبعد من القبیح- .

ثم قال ع- إنه یقول على الألسنه و یثبت الأفئده- و هذا من باب التوسع و المجاز- لأنه لما کان مستهلا للقول- أطلق علیه إنه یقول على الألسنه- و لما کان الله تعالى هو الذی یثبت الأفئده- کما قال یُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ- نسب التثبیت إلى اللطف لأنه من فعل الله تعالى- کما ینسب الإنبات إلى المطر- و إنما المنبت للزرع هو الله تعالى و المطر فعله- . ثم قال ع فیه کفاء لمکتف و شفاء لمشتف- و الوجه فیه کفایه- فإن الهمز لا وجه له هاهنا لأنه من باب آخر- و لکنه أتى بالهمزه للازدواج بین کفاءو شفاء- کما قالوا الغدایا و العشایا- و کما قال ع مأزورات غیر مأجورات- فأتى بالهمز و الوجه الواو للازدواج

ذکر بعض أحوال العارفین و الأولیاء

ثم ذکر العارفین فقال- و اعلموا أن عباد الله المستحفظین علمه- إلى قوله و هذبه التمحیص- . و اعلم أن الکلام فی العرفان- لم یأخذه أهل المله الإسلامیه إلا عن هذا الرجل- و لعمری لقد بلغ منه إلى أقصى الغایات و أبعد النهایات- و العارفون هم القوم الذین اصطفاهم الله تعالى- و انتخبهم لنفسه و اختصهم بأنسه- أحبوه فأحبهم و قربوا منه فقرب منهم- قد تکلم أرباب هذا الشأن فی المعرفه و العرفان- فکل نطق بما وقع له- و أشار إلى ما وجده فی وقته- . و کان أبو علی الدقاق یقول- من أمارات المعرفه حصول الهیبه من الله- فمن ازدادت معرفته ازدادت هیبته- .

و کان یقول المعرفه توجب السکینه فی القلب- کما أن العلم یوجب السکون- فمن ازدادت معرفته ازدادت سکینته- . و سئل الشبلی عن علامات العارف- فقال لیس لعارف علامه و لا لمحب سکون و لا لخائف قرار- . و سئل مره أخرى عن المعرفه- فقال أولها الله و آخرها ما لا نهایه له- . و قال أبو حفص الحداد- منذ عرفت الله ما دخل قلبی حق و لا باطل- و قد أشکل هذا الکلام على أرباب هذا الشأن- و تأوله بعضهم فقال- عند القوم إن المعرفه توجب‏غیبه العبد عن نفسه- لاستیلاء ذکر الحق علیه- فلا یشهد غیر الله و لا یرجع إلا إلیه- و کما إن العاقل یرجع إلى قلبه- و تفکره و تذکره فیما یسنح له من أمر- أو یستقبله من حال- فالعارف رجوعه إلى ربه لا إلى قلبه- و کیف یدخل المعنى قلب من لا قلب له- .

و سئل أبو یزید البسطامی عن العرفان- فقال إِنَّ الْمُلُوکَ إِذا دَخَلُوا قَرْیَهً أَفْسَدُوها- وَ جَعَلُوا أَعِزَّهَ أَهْلِها أَذِلَّهً- و هذا معنى ما أشار إلیه أبو حفص الحداد- . و قال أبو یزید أیضا للخلق أحوال و لا حال للعارف- لأنه محیت رسومه و فنى هو- و صارت هویته هویه غیره- و غیبت آثاره فی آثار غیره- . قلت و هذا هو القول بالاتحاد الذی یبحث فیه أهل النظر- . و قال الواسطی- لا تصح المعرفه و فی العبد استغناء بالله- أو افتقار إلیه- و فسر بعضهم هذا الکلام- فقال إن الافتقار و الاستغناء- من أمارات صحو العبد و بقاء رسومه- على ما کانت علیه- و العارف لا یصح ذلک علیه- لأنه لاستهلاکه فی وجوده- أو لاستغراقه فی شهوده- إن لم یبلغ درجه الاستهلاک فی الوجود- مختطف عن إحساسه بالغنى و الفقر و غیرهما من الصفات- و لهذا قال الواسطی- من عرف الله انقطع و خرس و انقمع-قال ص لا أحصی ثناء علیک أنت کما أثنیت على نفسک- .

و قال الحسین بن منصور الحلاج- علامه العارف أن یکون فارغا من الدنیا و الآخره- . و قال سهل بن عبد الله التستری- غایه العرفان شیئان الدهش و الحیره- . و قال ذو النون- أعرف الناس بالله أشدهم تحیرا فیه- . و قیل لأبی یزید بما ذا وصلت إلى المعرفه- قال ببدن عار و بطن جائع- .

و قیل لأبی یعقوب السوسی- هل یتأسف العارف على شی‏ء غیر الله- فقال و هل یرى شیئا غیره لیتأسف علیه- . و قال أبو یزید العارف طیار و الزاهد سیار- . و قال الجنید لا یکون العارف عارفا- حتى یکون کالأرض یطؤها البر و الفاجر- و کالسحاب یظل کل شی‏ء- و کالمطر یسقى ما ینبت و ما لا ینبت- . و قال یحیى بن معاذ یخرج العارف من الدنیا- و لا یقضى وطره من شیئین- بکائه على نفسه و حبه لربه- . و کان ابن عطاء یقول- أرکان المعرفه ثلاثه الهیبه و الحیاء و الأنس و قال بعضهم العارف أنس بالله فأوحشه من خلقه- و افتقر إلى الله فأغناه عن خلقه- و ذل لله فأعزه فی خلقه- . و قال بعضهم العارف فوق ما یقول- و العالم دون ما یقول- .

و قال أبو سلیمان الدارانی- إن الله یفتح للعارف على فراشه- ما لا یفتح للعابد و هو قائم یصلی- . و کان رویم یقول- ریاء العارفین أفضل من إخلاص العابدین- . و سئل أبو تراب النخشبی عن العارف- فقال هو الذی لا یکدره شی‏ء- و یصفو به کل شی‏ء- . و قال بعضهم المعرفه أمواج ترفع و تحط- . و سئل یحیى بن معاذ عن العارف فقال الکائن البائن- . و قیل لیس بعارف من وصف المعرفه عند أبناء الآخره- فکیف عند أبناء الدنیا- .

و قال محمد بن الفضل المعرفه حیاه القلب مع الله- . و سئل أبو سعید الخراز- هل یصیر العارف إلى حال یجفو علیه البکاء- قال‏نعم إنما البکاء فی أوقات سیرهم إلى الله- فإذا صاروا إلى حقائق القرب- و ذاقوا طعم الوصول زال عنهم ذلک- . و اعلم أن إطلاق أمیر المؤمنین ع علیهم لفظه الولایه- فی قوله یتواصلون بالولایه و یتلاقون بالمحبه- یستدعی الخوض فی مقامین جلیلین من مقامات العارفین- المقام الأول الولایه و هو مقام جلیل- قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِیاءَ اللَّهِ- لا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ- وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ وجاء فی الخبر الصحیح عن النبی ص یقول الله تعالى من آذى لی ولیا فقد استحل محارمی- و ما تقرب إلی العبد بمثل أداء ما فرضت علیه- و لا یزال العبد یتقرب إلی بالنوافل حتى أحبه- و لا ترددت فی شی‏ء أنا فاعله- کترددی فی قبض نفس عبدی المؤمن- یکره الموت و أکره مساءته و لا بد له منه- .

و اعلم أن الولی له معنیان- أحدهما فعیل بمعنى مفعول کقتیل و جریح- و هو من یتولى الله أمره کما قال الله تعالى- إِنَّ وَلِیِّیَ اللَّهُ الَّذِی نَزَّلَ الْکِتابَ- وَ هُوَ یَتَوَلَّى الصَّالِحِینَ- فلا یکله إلى نفسه لحظه عین بل یتولى رعایته- . و ثانیهما فعیل بمعنى فاعل کنذیر و علیم- و هو الذی یتولى طاعه الله و عبادته فلا یعصیه- . و من شرط کون الولی ولیا ألا یعصی مولاه و سیده- کما أن من شرط کون النبی‏نبیا العصمه- فمن ظن فیه أنه من الأولیاء- و یصدر عنه ما للشرع فیه اعتراض- فلیس بولی عند أصحاب هذا العلم بل هو مغرور مخادع- . و یقال إن أبا یزید البسطامی قصد بعض من یوصف بالولایه- فلما وافى مسجده قعد ینتظر خروجه- فخرج الرجل و تنخم فی المسجد- فانصرف أبو یزید و لم یسلم علیه- و قال هذا رجل غیر مأمون على أدب من آداب الشریعه- کیف یکون أمینا على أسرار الحق- .

و قال إبراهیم بن أدهم لرجل- أ تحب أن تکون لله ولیا قال نعم- قال لا ترغب فی شی‏ء من الدنیا و لا من الآخره- و فرغ نفسک لله- و أقبل بوجهک علیه لیقبل علیک و یوالیک- . و قال یحیى بن معاذ فی صفه الأولیاء- هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المکابده- و ادرعوا بالروح بعد المجاهده- بوصولهم إلى مقام الولایه- . و کان أبو یزید یقول أولیاء الله عرائس الله- و لا یرى العرائس إلا المحارم- فهم مخدرون عنده فی حجاب الأنس- لا یراهم أحد فی الدنیا و لا فی الآخره- .

و قال أبو بکر الصیدلانی- کنت أصلح لقبر أبی بکر الطمستانی لوحا أنقر فیه اسمه- فیسرق ذلک اللوح- فأنقر له لوحا آخر و أنصبه على قبره فیسرق- و تکرر ذلک کثیرا دون غیره من ألواح القبور- فکنت أتعجب منه فسألت أبا علی الدقاق عن ذلک- فقال إن ذلک الشیخ آثر الخفاء فی الدنیا- و أنت ترید أن تشهره باللوح الذی تنصبه على قبره- فالله سبحانه یأبى إلا إخفاء قبره کما هو ستر نفسه- . و قال بعضهم- إنما سمی الولی ولیا لأنه توالت أفعاله على الموافقه- .

و قال یحیى بن معاذ الولی لا یرائی و لا ینافق- و ما أقل صدیق من یکون هذا خلقه- . المقام الثانی المحبه قال الله سبحانه- مَنْ یَرْتَدَّ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ- فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ- و المحبه عند أرباب هذا الشأن حاله شریفه- . قال أبو یزید البسطامی- المحبه استقلال الکثیر من نفسک- و استکثار القلیل من حبیبک- . و قال أبو عبد الله القرشی- المحبه أن تهب کلک لمن أحببت- فلا یبقى لک منک شی‏ء- و أکثرهم على نفی صفه العشق- لأن العشق مجاوزه الحد فی المحبه- و البارئ سبحانه أجل من أن یوصف- بأنه قد تجاوز أحد الحد فی محبته- .

سئل الشبلی عن المحبه- فقال هی أن تغار على المحبوب- أن یحبه أحد غیرک- . و قال سمنون ذهب المحبون بشرف الدنیا و الآخره-لأن النبی ص قال المرء مع من أحب- فهم مع الله تعالى- . و قال یحیى بن معاذ- حقیقه المحبه ما لا ینقص بالجفاء و لا یزید بالبر- . و قال لیس بصادق من ادعى محبته و لم یحفظ حدوده- . و قال الجنید إذا صحت المحبه سقطت شروط الأدب- . و أنشد فی معناه-إذا صفت الموده بین قوم و دام ودادهم سمج الثناءو کان أبو علی الدقاق یقول- أ لست ترى الأب الشفیق لا یبجل ولده فی الخطاب- و الناس یتکلفون فی مخاطبته- و الأب یقول له یا فلان باسمه- .

و قال أبو یعقوب السوسی- حقیقه المحبه أن ینسى العبد حظه من الله- و ینسى حوائجه إلیه- . قیل للنصرآباذی یقولون إنه لیس لک من المحبه شی‏ء- قال صدقوا و لکن لی حسراتهم فهو ذو احتراق فیه- . و قال النصرآباذی أیضا- المحبه مجانبه السلو على کل حال ثم أنشد-

و من کان فی طول الهوى ذاق
سلوه فإنی من لیلى لها غیر ذائق‏

و أکثر شی‏ء نلته فی وصالها
أمانی لم تصدق کلمحه بارق‏

و کان یقال الحب أوله خبل و آخره قتل- . و قال أبو علی الدقاق فی معنىقول النبی ص حبک الشی‏ء یعمی و یصم- قال یعمی و یصم عن الغیر إعراضا- و عن المحبوب هیبه ثم أنشد-

إذا ما بدا لی تعاظمته
فأصدر فی حال من لم یره‏

 و قال الجنید سمعت الحارث المحاسبی یقول- المحبه إقبالک على المحبوب بکلیتک- ثم إیثارک له على نفسک و مالک و ولدک- ثم موافقتک له فی جمیع الأمور سرا و جهرا- ثم اعتقادک بعد ذلک أنک مقصر فی محبته- . و قال الجنید سمعت السری یقول- لا تصلح المحبه بین اثنین- حتى یقول الواحد للآخر یا أنا- . و قال الشبلی المحب إذا سکت هلک- و العارف إذا لم یسکت هلک- . و قیل المحبه نار فی القلب تحرق ما سوى ود المحبوب- . و قیل المحبه بذل الجهد و الحبیب یفعل ما یشاء- . و قال الثوری المحبه هتک الأستار و کشف الأسرار- .

حبس الشبلی فی المارستان بین المجانین- فدخل علیه جماعه فقال من أنتم- قالوا محبوک أیها الشیخ- فأقبل یرمیهم بالحجاره ففروا- فقال إذا ادعیتم محبتی فاصبروا على بلائی- . کتب یحیى بن معاذ إلى أبی یزید البسطامی- قد سکرت من کثره ما شربت من کأس محبته- فکتب إلیه أبو یزید- غیرک شرب بحور السموات و الأرض و ما روی بعد- و لسانه خارج و یقول هل من مزید- . و من شعرهم فی هذا المعنى-عجبت لمن یقول ذکرت ربی و هل أنسى فأذکر ما نسیت‏

شربت الحب کأسا بعد کأس‏
فما نفد الشراب و لا رویت‏

ویقال إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبیاء- إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فیه حب الدنیا و الآخره- ملأته من حبیوقال أبو علی الدقاق إن فی بعض الکتب المنزله عبدی أنا و حقک لک محب- فبحقی علیک کن لی محبا- . و قال عبد الله بن المبارک- من أعطی قسطا من المحبه- و لم یعط مثله من الخشیه فهو مخدوع- . و قیل المحبه ما تمحو أثرک و تسلبک عن وجودک- . و قیل المحبه سکر لا یصحوا صاحبه إلا بمشاهده محبوبه- ثم إن السکر الذی یحصل عند المشاهده لا یوصف- و أنشد

فأکسر القوم دور کأس
و کان سکرى من المدیر

و کان أبو علی الدقاق ینشد کثیرا-

لی سکرتان و للندمان واحده شی‏ء
خصصت به من بینهم وحدی‏

و کان یحیى بن معاذ یقول- مثقال خردله من الحب- أحب إلی من عباده سبعین سنه بلا حب- . و قال بعضهم من أراد أن یکون محبا- فلیکن کما حکی عن بعض الهند- أنه أحب جاریه فرحلت عن ذلک البلد- فخرج الفتى فی وداعها فدمعت إحدى عینیه دون الأخرى- فغمض التی لم تدمع أربعا و ثمانین سنه و لم یفتحها- عقوبه لأنها لم تبک على فراق حبیبته- . و أنشدوا فی هذا المعنى-

بکت عینی غداه البین دمعا
و أخرى بالبکاء بخلت علینا

فعاقبت التی بخلت علینا
بأن غمضتها یوم التقیا

وقیل إن الله تعالى أوحى إلى داود ع- إنی حرمت على القلوب أن یدخلها حبی و حب غیری- . و قیل المحبه إیثار المحبوب على النفس- کامرأه العزیز لما أفرط بها الحب قالت- أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِینَ- و فی الابتداء قالت- ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِکَ سُوءاً إِلَّا أَنْ یُسْجَنَ- فورکت الذنب فی الابتداء علیه- و نادت فی الانتهاء على نفسها بالخیانه و قال أبو سعید الخراز رأیت النبی ص فی المنام- فقلت یا رسول الله اعذرنی- فإن محبه الله شغلتنی عن حبک- فقال یا مبارک من أحب الله فقد أحبنی- .

ثم نعود إلى تفسیر ألفاظ الفصل- قوله ع یصونون مصونه- أی یکتمون من العلم الذی استحفظوه ما یجب أن یکتم- و یفجرون عیونه یظهرون منه ما ینبغی إظهاره- و ذلک أنه لیس ینبغی إظهار کل ما استودع- العارف من الأسرار- و أهل هذا الفن یزعمون- أن قوما منهم عجزوا عن أن یحملوا بما حملوه- فباحوا به فهلکوا منهم الحسین بن منصور الحلاج- و لأبی الفتوح الجارودی المتأخر- أتباع یعتقدون فیه مثل ذلک- .

و الولایه بفتح الواو المحبه و النصره- و معنى یتواصلون بالولایه یتواصلون و هم أولیاء- و مثله و یتلاقون بالمحبه- کما تقول خرجت بسلاحی أی خرجت و أنا متسلح- فیکون موضع الجار و المجرور نصبا بالحال- أو یکون المعنى أدق و ألطف من هذا- و هو أن یتواصلوا بالولایه أی بالقلوب لا بالأجسام- کما تقول أنا أراک بقلبی- و أزورک بخاطری و أواصلک بضمیری- . قوله و یتساقون بکأس رویه- أی بکأس المعرفه و الأنس بالله- یأخذ بعضهم عن بعض العلوم و الأسرار- فکأنهم شرب یتساقون بکأس من الخمر- .

قال و یصدرون بریه- یقال من أین ریتکم مفتوحه الراء- أی من أین ترتوون الماء- . قال لا تشوبهم الریبه أی لا تخالطهم الظنه و التهمه- و لا تسرع فیهم الغیبه- لأن أسرارهم مشغوله بالحق عن الخلق- . قال على ذلک عقد خلقهم و أخلاقهم- الضمیر فی عقد یرجع إلى الله تعالى- أی على هذه الصفات و الطبائع عقد الخالق تعالى- خلقتهم و خلقهم أی هم متهیئون لما صاروا إلیه-کما قال ع إذا أرادک لأمر هیأک لهو
قال ع کل میسر لما خلق له- . قال فعلیه یتحابون و به یتواصلون- أی لیس حبهم بعضهم بعضا إلا فی الله- و لیست مواصلتهم بعضهم بعضا إلا لله- لا للهوى و لا لغرض من أغراض الدنیا- أنشد منشد عند عمر قول طرفه-

فلو لا ثلاث هن من عیشه الفتى
و جدک لم أحفل متى قام عودی‏

فمنهن سبقی العاذلات بشربه
کمیت متى ما تعل بالماء تزبد

و کری إذا نادى المضاف محنبا
کسید الغضا نبهته المتورد

و تقصیر یوم الدجن و الدجن معجب‏
ببهکنه تحت الطراف المعمد

فقال عمر و أنا لو لا ثلاث هن من عیشه الفتى- لم أحفل متى قام عودی- حبی فی الله و بغضی فی الله و جهادی فی سبیل الله- . قوله ع فکانوا کتفاضل البذر- أی مثلهم مثل الحب الذی ینتفی للبذر- یستصلح بعضه و یسقط بعضه- . قد میزه التخلیص قد فرق الانتقاء بین جیده و ردیئه- و هذبه التمحیصقال النبی ص إن المرض لیمحص الخطایا کما تمحص النار الذهب- أی کما تخلص النار الذهب مما یشوبه- . ثم أمر ع المکلفین بقبول کرامه الله و نصحه- و وعظه و تذکیره و بالحذرمن نزول القارعه بهم- و هی هاهنا الموت- و سمیت الداهیه قارعه لأنها تقرع أی تصیب بشده- .

قوله فلیصنع لمتحوله- أی فلیعد ما یجب إعداده للموضع الذی یتحول إلیه- تقول اصنع لنفسک أی اعمل لها- . قوله و معارف منتقله- معارف الدار ما یعرفها المتوسم بها واحدها معرف- مثل معاهد الدار و معالم الدار- و منه معارف المرأه و هو ما یظهر منها کالوجه و الیدین- و المنتقل بالفتح موضع الانتقال- . قوله فطوبى هی فعلى من الطیب- قلبوا الیاء واوا للضمه قبلها- و یقال طوبى لک و طوباک بالإضافه- . و قول العامه طوبیک بالیاء غیر جائز- . قوله لذی قلب سلیم- هو من ألفاظ الکتاب العزیز- أی سلیم من الغل و الشک- .

قوله أطاع من یهدیه- أی قبل مشوره الناصح الآمر له بالمعروف- و الناهی له عن المنکر- . و تجنب من یردیه- أی یهلکه بإغوائه و تحسین القبیح له- . و الباء فی قوله ببصر من بصره متعلقه بأصاب- . قوله قبل أن تغلق أبوابه- أی قبل أن یحضره الموت فلا تقبل توبته- . و الحوبه الإثم و إماطته إزالته- و یجوز أمطت الأذى عنه- و مطت الأذى عنه أی نحیته- و منع الأصمعی منه إلا بالهمزه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۱۱۹

خطبه ۲۰۶ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۰۶ و من خطبه له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِیِّ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِینَ- الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِینَ- الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِیرِهِ لِلنَّاظِرِینَ- وَ الْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِهِ عَنْ فِکْرِ الْمُتَوَهِّمِینَ- الْعَالِمِ بِلَا اکْتِسَابٍ وَ لَا ازْدِیَادٍ- وَ لَا عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ- الْمُقَدِّرِ لِجَمِیعِ الْأُمُورِ بِلَا رَوِیَّهٍ وَ لَا ضَمِیرٍ- الَّذِی لَا تَغْشَاهُ الظُّلَمُ وَ لَا یَسْتَضِی‏ءُ بِالْأَنْوَارِ- وَ لَا یَرْهَقُهُ لَیْلٌ وَ لَا یَجْرِی عَلَیْهِ نَهَارٌ- لَیْسَ إِدْرَاکُهُ بِالْإِبْصَارِ وَ لَا عِلْمُهُ بِالْإِخْبَارِ یجوز شبه و شبه و الروایه هاهنا بالفتح- و تعالیه سبحانه عن شبه المخلوقین- کونه قدیما واجب الوجود- و کل مخلوق محدث ممکن الوجود- .

قوله الغالب لمقال الواصفین- أی إن کنه جلاله و عظمته لا یستطیع الواصفون وصفه- و إن أطنبوا و أسهبوا- فهو کالغالب لأقوالهم لعجزها عن إیضاحه و بلوغ منتهاه- و الظاهر بأفعاله و الباطن بذاته- لأنه إنما یعلم منه أفعاله و أما ذاته فغیر معلومه- . ثم وصف علمه تعالى فقال- إنه غیر مکتسب کما یکتسب الواحد منا علومه- بالاستدلال و النظر- و لا هو علم یزداد إلى علومه الأولى- کما تزید علوم الواحد منا و معارفه- و تکثر لکثره الطرق التی یتطرق بها إلیها- .

ثم قال و لا علم مستفاد- أی لیس یعلم الأشیاء بعلم محدث مجدد- کما یذهب إلیه جهم و أتباعه- و هشام بن الحکم و من قال بقوله- . ثم ذکر أنه تعالى قدر الأمور کلها بغیر رویه- أی بغیر فکر و لا ضمیر- و هو ما یطویه الإنسان من الرأی و الاعتقاد- و العزم فی قلبه- . ثم وصفه تعالى بأنه لا یغشاه ظلام- لأنه لیس بجسم و لا یستضی‏ء بالأنوار- کالأجسام ذوات البصر- و لا یرهقه لیل أی لا یغشاه- و لا یجری علیه نهار لأنه لیس بزمانی- و لا قابل للحرکه- لیس إدراکه بالأبصار لأن ذلک یستدعی المقابله- و لا علمه بالإخبار مصدر أخبر أی لیس علمه مقصورا- على أن تخبره الملائکه بأحوال المکلفین- بل هو یعلم کل شی‏ء- لأن ذاته ذات واجب- لها أن تعلم کل شی‏ء لمجرد ذاتها المخصوصه- من غیر زیاده أمر على ذاتها: مِنْهَا فِی ذِکْرِ النَّبِیِّ ص- أَرْسَلَهُ بِالضِّیَاءِ وَ قَدَّمَهُ فِی الِاصْطِفَاءِ- فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ وَ سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ- وَ ذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَهَ وَ سَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَهَ- حَتَّى سَرَّحَ الضَّلَالَ عَنْ یَمِینٍ وَ شِمَالٍ أرسله بالضیاء أی بالحق- و سمى الحق ضیاء لأنه یهتدى به- أو أرسله بالضیاء أی بالقرآن- .

و قدمه فی الاصطفاء- أی قدمه فی الاصطفاء على غیره من العرب و العجم- قالت قریش لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْیَتَیْنِ- أی على رجل من رجلین من القریتین عَظِیمٌ- أی إما على الولید بن المغیره من مکه- أو على عروه بن مسعود الثقفی من الطائف. ثم قال تعالى أَ هُمْ یَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّکَ- أی هو سبحانه العالم بالمصلحه فی إرسال الرسل- و تقدیم من یرى فی الاصطفاء على غیره- . فرتق به المفاتق أی أصلح به المفاسد- و الرتق ضد الفتق- و المفاتق جمع مفتق و هو مصدر کالمضرب و المقتل- .

و ساور به المغالب ساورت زیدا أی واثبته- و رجل سوار أی وثاب و سوره الخمر وثوبها فی الرأس- . و الحزونه ضد السهوله- و الحزن ما غلظ من الأرض- و السهل ما لان منها- و استعیر لغیر الأرض کالأخلاق و نحوها- . قوله حتى سرح الضلال- أی طرده و أسرع به ذهابا- . عن یمین و شمال- من قولهم ناقه سرح و منسرحه أی سریعه- و منه تسریح المرأه أی تطلیقها

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

 

بازدیدها: ۱۵

خطبه ۲۰۵ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۰۵ و من خطبه له ع

اللَّهُمَّ أَیُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِکَ- سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَهَ غَیْرَ الْجَائِرَهِ- وَ الْمُصْلِحَهَ فِی الدِّینِ وَ الدُّنْیَا غَیْرَ الْمُفْسِدَهِ- فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّکُوصَ عَنْ نُصْرَتِکَ- وَ الْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِینِکَ- فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُکَ عَلَیْهِ یَا أَکْبَرَ الشَّاهِدِینَ شَهَادَهً- وَ نَسْتَشْهِدُ عَلَیْهِ جَمِیعَ مَا أَسْکَنْتَهُ أَرْضَکَ وَ سمَاوَاتِکَ- ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهُ الْمُغْنِی عَنْ نَصْرِهِ- وَ الآْخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ ما فی أیما زائده مؤکده- و معنى الفصل وعید من استنصره فقعد عن نصره- . و وصف المقاله بأنها عادله إما تأکید- کما قالوا شعر شاعر و إما ذات عدل- کما قالوا رجل تأمر و لابن أی ذو تمر و لبن- و یجوز أیضا أن یرید بالعادله المستقیمه- التی لیست کاذبه و لا محرفه عن جهتها- و الجائره نقیضها و هی المنحرفه- جار فلان عن الطریق أی انحرف و عدل- .

و النکوص التأخر- . قوله ع نستشهدک علیه أی نسألک أن تشهد علیه- و وصفه تعالى‏بأنه أکبر الشاهدین شهاده- لقوله تعالى قُلْ أَیُّ شَیْ‏ءٍ أَکْبَرُ شَهادَهً قُلِ اللَّهُ- یقول اللهم إنا نستشهدک على خذلان من استنصرناه- و استنفرناه إلى نصرتک- و الجهاد عن دینک فأبى النهوض- و نکث عن القیام بواجب الجهاد- و نستشهد عبادک من البشر فی أرضک- و عبادک من الملائکه فی سمواتک علیه أیضا- ثم أنت بعد ذلک المغنی لنا عن نصرته و نهضته- بما تتیحه لنا من النصر- و تؤیدنا به من الإعزاز و القوه- و الأخذ له بذنبه فی القعود و التخلف- . و هذا قریب من قوله تعالى- وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ- ثُمَّ لا یَکُونُوا أَمْثالَکُمْ

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۱۴

خطبه ۲۰۴ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۰۴ و من خطبه له ع

وَ کَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ- وَ بَدِیعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ- أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ- الْمُتَرَاکِمِ الْمُتَقَاصِفِ یَبَساً جَامِداً- ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً- فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَکَتْ بِأَمْرِهِ- وَ قَامَتْ عَلَى حَدِّهِ یَحْمِلُهَا الْأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ- وَ الْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ- قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِهَیْبَتِهِ- وَ وَقَفَ الْجَارِی مِنْهُ لِخَشْیَتِهِ- وَ جَبَلَ جَلَامِیدَهَا وَ نُشُوزَ مُتُونِهَا وَ أَطْوَادَهَا- فَأَرْسَاهَا فِی مَرَاسِیهَا- وَ أَلْزَمَهَا قَرَارَتَهَا- فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِی الْهَوَاءِ- وَ رَسَتْ أُصُولُهَا فِی الْمَاءِ- فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا- وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِی مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا- فَأَشْهَقَ قِلَالَهَا وَ أَطَالَ أَنْشَازَهَا- وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً وَ أَرَّزَهَا فِیهَا أَوْتَاداً- فَسَکَنَتْ عَلَى حَرَکَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِیدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِیخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا- فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَکَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِیَاهِهَا- وَ أَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَهِ أَکْنَافِهَا- فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً- وَ بَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً- فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّیٍّ رَاکِدٍ لَا یَجْرِی وَ قَائِمٍ لَا یَسْرِی- تُکَرْکِرُهُ الرِّیَاحُ الْعَوَاصِفُ- وَ تَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ- إِنَّ فِی ذَلِکَ لَعِبْرَهً لِمَنْ یَخْشَى‏

أراد أن یقول و کان من اقتداره- فقال و کان من اقتدار جبروته تعظیما و تفخیما- کما یقال للملک أمرت الحضره الشریفه بکذا- و البحر الزاخر الذی قد امتد جدا و ارتفع- و المتراکم المجتمع بعضه على بعض- و المتقاصف الشدید الصوت- قصف الرعد و غیره قصیفا- . و الیبس بالتحریک- المکان یکون رطبا ثم ییبس- و منه قوله تعالى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِیقاً فِی الْبَحْرِ یَبَساً- و الیبس بالسکون الیابس خلقه حطب یبس- هکذا یقوله أهل اللغه و فیه کلام- لأن الحطب لیس یابسا خلقه بل کان رطبا من قبل- فالأصوب أن یقال- لا تکون هذه اللفظه محرکه إلا فی المکان خاصه- و فطر خلق و المضارع یفطر بالضم فطرا- .

و الأطباق جمع طبق- و هو أجزاء مجتمعه من جراد أو غیم أو ناس- أو غیر ذلک من حیوان أو جماد- یقول خلق منه أجساما مجتمعه مرتتقه- ثم فتقها سبع سموات- و روی ثم فطر منه طباقا- أی أجساما منفصله فی الحقیقه- متصله فی الصوره بعضها فوق بعض- و هی من ألفاظ القرآن المجید- و الضمیر فی منه یرجع إلى ماء البحر فی أظهر النظر- و قد یمکن أن یرجع إلى الیبس- .

و اعلم أنه قد تکرر فی کلام أمیر المؤمنین- ما یماثل هذا القول و یناسبه- و هو مذهب‏کثیر من الحکماء الذین قالوا بحدوث السماء- منهم ثالیس الملطی قالوا أصل الأجسام الماء- و خلقت الأرض من زبده و السماء من بخاره- و قد جاء القرآن العزیز بنحو هذا قال سبحانه- الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِی سِتَّهِ أَیَّامٍ- وَ کانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ- . قال شیخنا أبو علی و أبو القاسم رحمهما الله فی تفسیریهما- هذه الآیه داله على أن الماء و العرش- کانا قبل خلق السموات و الأرض- قالا و کان الماء على الهواء- قالا و هذا یدل أیضا علی أن الملائکه- کانوا موجودین قبل خلق السموات و الأرض- لأن الحکیم سبحانه لا یجوز أن یقدم خلق الجماد- على خلق المکلفین لأنه یکون عبثا- .

و قال علی بن عیسى الرمانی من مشایخنا- أنه غیر ممتنع أن یخلق الجماد قبل الحیوان- إذا علم أن فی إخبار المکلفین بذلک لطفا لهم- و لا یصح أن یخبرهم إلا و هو صادق فیما أخبر به- و إنما یکون صادقا إذا کان المخبر خبره على ما أخبر عنه- و فی ذلک حسن تقدیم خلق الجماد على خلق الحیوان- و کلام أمیر المؤمنین ع یدل على أنه کان یذهب- إلى أن الأرض موضوعه على ماء البحر- و أن البحر حامل لها بقدره الله تعالى- و هو معنى قوله یحملها الأخضر المثعنجر و القمقام المسخر- و أن البحر الحامل لها قد کان جاریا فوقف تحتها- و أنه تعالى خلق الجبال فی الأرض- فجعل أصولها راسخه فی ماء البحر- الحامل للأرض و أعالیها شامخه فی الهواء- و أنه سبحانه جعل هذه الجبال عمادا للأرض- و أوتادا تمنعها من الحرکه و الاضطراب- و لولاها لماجت و اضطربت- و أن هذا البحر الحامل للأرض- تصعد فیه الریاح الشدیده فتحرکه حرکه عنیفه- و تموج السحب التی تغترف الماء منه لتمطر الأرض به- و هذا کله مطابق لما فی الکتاب العزیز- و السنه النبویه و النظر الحکمی- أ لا ترى إلى قوله تعالى- أَ وَ لَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ-کانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- و هذا هو صریح قوله ع- ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها- و إلى قوله تعالى- وَ جَعَلْنا فِی الْأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِهِمْ- و إلى ما ورد فی الخبر- من أن الأرض مدحوه على الماء- و أن الریاح تسوق السحب إلى الماء نازله- ثم تسوقها عنه صاعده بعد امتلائها ثم تمطر- .

و أما النظر الحکمی فمطابق لکلامه إذا تأمله المتأمل- و حمله على المحمل العقلی- و ذلک لأن الأرض هی آخر طبقات العناصر- و قبلها عنصر الماء و هو محیط بالأرض کلها- إلا ما برز منها و هو مقدار الربع من کره الأرض- على ما ذکره علماء هذا الفن و برهنوا علیه- فهذا تفسیر قوله ع یحملها الأخضر المثعنجر- .

و أما قوله و وقف الجاری منه لخشیته- فلا یدل دلاله قاطعه على أنه کان جاریا و وقف- و لکن ذلک کلام خرج مخرج التعظیم و التبجیل- و معناه أن الماء طبعه الجریان و السیلان- فهو جار بالقوه و إن لم یکن جاریا بالفعل- و إنما وقف و لم یجر بالفعل بقدره الله تعالى- المانعه له من السیلان- و لیس قوله و رست أصولها فی الماء- مما ینافی النظر العقلی- لأنه لم یقل و رست أصولها فی ماء البحر- و لکنه قال فی الماء- و لا شبهه فی أن أصول الجبال راسیه فی الماء- المتخلخل بین أجزاء الأرض- فإن الأرض کلها یتخلخل الماء بین أجزائها- على طریق استحاله البخار من الصوره الهوائیه- إلى الصوره المائیه- .

و لیس ذکره للجبال- و کونها مانعه للأرض من الحرکه- بمناف أیضا للنظر الحکمی- لأن الجبال فی الحقیقه قد تمنع من الزلزله- إذا وجدت أسبابها الفاعله- فیکون ثقلها مانعا من الهده و الرجفه- .

لیس قوله تکرکره الریاح- منافیا للنظر الحکمی أیضا- لأن کره الهواء محیطه بکره- و قد تعصف الریاح فی کره الهواء- للأسباب المذکوره فی موضعها من هذا العلم- فیتموج کثیر من الکره المائیه لعصف الریاح- . و لیس قوله ع و تمخضه الغمام الذوارف- صریحا فی أن السحب تنزل فی البحر فتغترف منه- کما قد یعتقد فی المشهور العامی نحو قول الشاعر-کالبحر تمطره السحاب و ما لها فضل علیه لأنها من مائه‏- .

بل یجوز أن تکون الغمام الذراف تمخضه- و تحرکه بما ترسل علیه من الأمطار السائله منها- فقد ثبت أن کلام أمیر المؤمنین ع موجه- إن شئت فسرته بما یقوله أهل الظاهر- و إن شئت فسرته بما یعتقده الحکماء- . فإن قلت فکیف قال الله تعالى- أَ وَ لَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ- کانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- و هل کان الذین کفروا راءین لذلک- حتى یقول لهم أَ وَ لَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا- . قلت هذا فی قوله- اعلموا أن السموات و الأرض کانتا رتقا ففتقناهما- کما یقول الإنسان لصاحبه- أ لم تعلم أن الأمیر صرف حاجبه اللیله عن بابه- أی اعلم ذلک إن کنت غیر عالم- و الرؤیه هنا بمعنى العلم- .

و اعلم أنه قد ذهب قوم من قدماء الحکماء- و یقال أنه مذهب سقراط- إلى تفسیر القیامه و جهنم- بما یبتنی على وضع الأرض على الماء- فقالوا الأرض موضوعه على الماء- و الماء على الهواء و الهواء على النار- و النار فی حشو الأفلاک- و لما کان العنصران الخفیفان و هما الهواء و النار- یقتضیان صعود ما یحیطان به- و العنصران الثقیلان اللذان فی وسطهما و هماالماء و الأرض- یقتضیان النزول و الهبوط- وقعت الممانعه و المدافعه- فلزم من ذلک وقوف الماء و الأرض فی الوسط- .

قالوا- ثم إن النار لا تزال یتزاید تأثیرها فی إسخان الماء- و ینضاف إلى ذلک حر الشمس و الکواکب- إلى أن تبلغ البحار و العنصر المائی غایتهما- فی الغلیان و الفوران- فیتصاعد بخار عظیم إلى الأفلاک شدید السخونه- و ینضاف إلى ذلک حر فلک الأثیر الملاصق للأفلاک- فتذوب الأفلاک کما یذوب الرصاص- و تتهافت و تتساقط و تصیر کالمهل الشدید الحراره- و نفوس البشر على قسمین- أحدهما ما تجوهر و صار مجردا بطریق العلوم و المعارف- و قطع العلائق الجسمانیه حیث کان مدبرا للبدن- و الآخر ما بقی على جسمانیته- بطریق خلوه من العلوم و المعارف- و انغماسه فی اللذات و الشهوات الجسمانیه- فأما الأول فإنه یلتحق بالنفس الکلیه المجرده- و یخلص من دائره هذا العالم بالکلیه- و أما الثانی فإنه تنصب علیه تلک الأجسام الفلکیه الذائبه- فیحترق بالکلیه و یتعذب و یلقی آلاما شدیده- .

قالوا هذا هو باطن ما وردت به الروایه- من العذاب علیها- و خراب العالم و الأفلاک و انهدامها- . ثم نعود إلى شرح الألفاظ- قوله ع فاستمسکت أی وقفت و ثبتت- . و الهاء فی حده تعود إلى أمره- أی قامت على حد ما أمرت به- أی لم تتجاوزه و لا تعدته- . و الأخضر البحر- و یسمى أیضا خضاره معرفه غیر مصروف- و العرب تسمیه بذلک- إما لأنه یصف لون السماء فیرى أخضر- أو لأنه یرى أسود لصفائه فیطلقون علیه لفظالأخضر- کما سموا الأخضر أسود نحو قوله مُدْهامَّتانِ- و نحو تسمیتهم قرى العراق سوادا- لخضرتها و کثره شجرها- و نحو قولهم للدیزج من الدواب أخضر- . المثعنجر السائل- ثعجرت الدم و غیره فاثعنجر أی صببته فانصب- و تصغیر المثعنجر مثیعج و مثیعیج- . و القمقام بالفتح من أسماء البحر- و یقال لمن وقع فی أمر عظیم- وقع فی قمقام من الأمر تشبیها بالبحر- . قوله ع و جبل جلامیدها- أی و خلق صخورها جمع جلمود- .

و النشوز جمع نشز- و هو المرتفع من الأرض و یجوز فتح الشین- . و متونها جوانبها و أطوادها جبالها- و یروى و أطوادها بالجر عطفا على متونها- . فأرساها فی مراسیها أثبتها فی مواضعها- رسا الشی‏ء یرسو ثبت- و رست أقدامهم فی الحرب ثبتت- و رست السفینه ترسو رسوا و رسوا- أی وقفت فی البحر- و قوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها- بالضم من أجریت و أرسیت- و من قرأ بالفتح فهو من رست هی و جرت هی- . و ألزمها قرارتها أمسکها حیث استقرت- . قوله فأنهد جبالها أی أعلاها- نهد ثدی الجاریه ینهد بالضم- إذا أشرف و کعب فهی ناهد و ناهده- .

و سهولها ما تطامن منها عن الجبال- . و أساخ قواعدها- أی غیب قواعد الجبال فی جوانب أقطار الأرض- ساخت قوائم‏الفرس فی الأرض تسوخ و تسیخ- أی دخلت فیها و غابت مثل ثاخت- و أسختها أنا مثل أثختها و الأنصاب الأجسام المنصوبه- الواحد نصب بضم النون و الصاد- و منه سمیت الأصنام نصبا فی قوله تعالى- وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ- لأنها نصبت فعبدت من دون الله- قال الأعشى-و ذا المنصوب لا تنسکنه لعاقبه و الله ربک فاعبدا- .

أی و أساخ قواعد الجبال فی متون أقطار الأرض- و فی المواضع الصالحه لأن تکون فیها الأنصاب المماثله- و هی الجبال أنفسها- – . قوله فأشهق قلالها- جمع قله و هی ما علا من رأس الجبل- أشهقها جعلها شاهقه أی عالیه- . و أرزها أثبتها فیها رزت الجراده ترز رزا- و هو أن تدخل ذنبها فی الأرض فتلقى بیضها- و أرزها الله أثبت ذلک منها فی الأرض- و یجوز أرزت لازما غیر متعد- مثل رزت و ارتز السهم فی القرطاس ثبت فیه- و روی و آرزها بالمد من قولهم شجره آرزه- أی ثابته فی الأرض- أرزت بالفتح تأرز بالکسر أی ثبتت- و آرزها بالمد غیرها أی أثبتها- . و تمید تتحرک و تسیخ تنزل و تهوی- .

فإن قلت ما الفرق بین الثلاثه تمید بأهلها- أو تسیخ بحملها أو تزول عن مواضعها- . قلت لأنها لو تحرکت لکانت- إما أن تتحرک على مرکزها أو لا على مرکزها-و الأول هو المراد بقوله تمید بأهلها- و الثانی تنقسم إلى أن تنزل إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت- فالنزول إلى تحت هو المراد بقوله أو تسیخ بحملها- و القسم الثانی هو المراد بقوله أو تزول عن مواضعها- . فإن قلت ما المراد ب على فی قوله- فسکنت على حرکتها- . قلت هی لهیئه الحال- کما تقول عفوت عنه على سوء أدبه- و دخلت إلیه على شربه أی سکنت- على أن من شأنها الحرکه لأنها محموله على سائل متموج- . قوله موجان میاهها بناء فعلان- لما فیه اضطراب و حرکه کالغلیان و النزوان و الخفقان و نحو ذلک- . و أجمدها أی أجعلها جامده- و أکنافها جوانبها و المهاد الفراش- .

فوق بحر لجی کثیر الماء منسوب إلى اللجه- و هی معظم البحر- . قوله یکرکره الریاح- الکرکره تصریف الریح السحاب إذا جمعته بعد تفریق- و أصله یکرر من التکریر فأعادوا الکاف- کرکرت الفارس عنی أی دفعته و رددته- . و الریاح العواصف الشدیده الهبوب- و تمخضه یجوز فتح الخاء و ضمها و کسرها- و الفتح أفصح لمکان حرف الحلق- من مخضت اللبن إذا حرکته لتأخذ زبده- . و الغمام جمع و الواحده غمامه- و لذلک قال الذوارف- لأن فواعل أکثر ما یکون لجمع المؤنث- ذرفت عینه أی دمعت أی السحب المواطر- و المضارع من ذرفت عینه تذرف بالکسر ذرفا و ذرفا- و المذارف المدامع

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج۱۱

بازدیدها: ۸۲

خطبه ۲۰۳ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۰۳ و من کلام له ع- و قد سأله سائل عن أحادیث البدع- و عما فی أیدی الناس من اختلاف الخبر

– فقال ع- : إِنَّ فِی أَیْدِی النَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلًا- وَ صِدْقاً وَ کَذِباً وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً- وَ عَامّاً وَ خَاصّاً- وَ مُحْکَماً وَ مُتَشَابِهاً وَ حِفْظاً وَ وَهَماً- وَ قَدْ کُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص عَلَى عَهْدِهِ- حَتَّى قَامَ خَطِیباً فَقَالَ- مَنْ کَذَبَ عَلَیَّ مُتَعَمِّداً فَلْیَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ- وَ إِنَّمَا أَتَاکَ بِالْحَدِیثِ أَرْبَعَهُ رِجَالٍ لَیْسَ لَهُمْ خَامِسٌ- رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِیمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ- لَا یَتَأَثَّمُ وَ لَا یَتَحَرَّجُ- یَکْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص مُتَعَمِّداً- فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ کَاذِبٌ لَمْ یَقْبَلُوا مِنْهُ- وَ لَمْ یُصَدِّقُوا قَوْلَهُ- وَ لَکِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ص- رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ فَیَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ- وَ قَدْ أَخْبَرَکَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِینَ بِمَا أَخْبَرَکَ- وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَکَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ- فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّهِ الضَّلَالَهِ- وَ الدُّعَاهِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَ الْبُهْتَانِ- فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ حُکَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ- فَأَکَلُوا بِهِمُ الدُّنْیَا وَ إِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوکِ وَ الدُّنْیَا- إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَهِ- وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَیْئاً لَمْ یَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ- فَوَهِمَ فِیهِ وَ لَمْ یَتَعَمَّدْ کَذِباً فَهُوَ فِی یَدَیْهِ- وَ یَرْوِیهِ وَ یَعْمَلُ بِهِ-

وَ یَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِیهِ لَمْ یَقْبَلُوهُ مِنْهُ- وَ لَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ کَذَلِکَ لَرَفَضَهُ- وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص شَیْئاً- یَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لَا یَعْلَمُ- أَوْ سَمِعَهُ یَنْهَى عَنْ شَیْ‏ءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ هُوَ لَا یَعْلَمُ- فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ وَ لَمْ یَحْفَظِ النَّاسِخَ- فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ- وَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ- وَ آخَرُ رَابِعٌ- لَمْ یَکْذِبْ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ- مُبْغِضٌ لِلْکَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَ تَعْظِیماً لِرَسُولِ اللَّهِ ص- وَ لَمْ یَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ- فَجَاءَ بِهِ عَلَى سَمْعِهِ- لَمْ یَزِدْ فِیهِ وَ لَمْ یَنْقُصْ مِنْهُ- فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ- وَ حَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ- وَ عَرَفَ الْخَاصَّ وَ الْعَامَّ وَ الْمُحْکَمَ وَ الْمُتَشَابِهَ- فَوَضَعَ کُلَّ شَیْ‏ءٍ مَوْضِعَهُ- وَ قَدْ کَانَ یَکُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص الْکَلَامُ- لَهُ وَجْهَانِ فَکَلَامٌ خَاصٌّ وَ کَلَامٌ عَامٌّ- فَیَسْمَعُهُ مَنْ لَا یَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ- وَ لَا مَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ ص- فَیَحْمِلُهُ السَّامِعُ وَ یُوَجِّهُهُ عَلَى غَیْرِ مَعْرِفَهٍ بِمَعْنَاهُ- وَ مَا قَصَدَ بِهِ وَ مَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ- وَ لَیْسَ کُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص مَنْ کَانَ یَسْأَلُهُ وَ یَسْتَفْهِمُهُ- حَتَّى إِنْ کَانُوا لَیُحِبُّونَ أَنْ یَجِی‏ءَ الْأَعْرَابِیُّ وَ الطَّارِئُ- فَیَسْأَلَهُ ع حَتَّى یَسْمَعُوا- وَ کَانَ لَا یَمُرُّ بِی مِنْ ذَلِکَ شَیْ‏ءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَ حَفِظْتُهُ- فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَیْهِ النَّاسُ فِی اخْتِلَافِهِمْ وَ عِلَلِهِمْ فِی رِوَایَاتِهِمْ‏

الکلام فی تفسیر الألفاظ الأصولیه- و هی العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ- و الصدق و الکذب و المحکم و المتشابه- موکول إلى فن أصول الفقه- و قد ذکرناه فیما أملیناه من الکتب الأصولیه- و الإطاله بشرح ذلک فی هذا الموضع مستهجنه- . قوله ع و حفظا و وهما الهاء مفتوحه- و هی مصدر وهمت بالکسر- أوهم أی غلطت و سهوت- و قد روی وهما بالتسکین و هو مصدر وهمت بالفتح- أوهم إذا ذهب وهمک إلى شی‏ء- و أنت ترید غیره و المعنى متقارب- .

وقول النبی ص فلیتبوأ مقعده من النار- کلام صیغته الأمر و معناه الخبر- کقوله تعالى- قُلْ مَنْ کانَ فِی الضَّلالَهِ فَلْیَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا- و تبوأت المنزل نزلته و بوأته منزلا أنزلته فیه- . و التأثم الکف عن موجب الإثم- و التحرج مثله و أصله الضیق کأنه یضیق على نفسه- . و لقف عنه تناول عنه- . و جنب عنه أخذ عنه جانبا- . و إن فی قوله حتى إن کانوا لیحبون- مخففه من الثقیله و لذلک جاءت اللام فی الخبر- . و الطارئ بالهمز الطالع علیهم طرأ أی طلع- و قد روی عللهم بالرفع عطفا على وجوه- و روی بالجر عطفا على اختلافهم‏

ذکر بعض أحوال المنافقین بعد وفاه محمد ع

و اعلم أن هذا التقسیم صحیح- و قد کان فی أیام الرسول ص منافقون- و بقوا بعده- و لیس یمکن أن یقال إن النفاق مات بموته- و السبب فی استتار حالهم بعده- أنه ص کان لا یزال بذکرهم بما ینزل علیه من القرآن- فإنه مشحون بذکرهم- أ لا ترى أن أکثر ما نزل بالمدینه من القرآن- مملوء بذکر المنافقین- فکان السبب فی انتشار ذکرهم- و أحوالهم و حرکاتهم هو القرآن- فلما انقطع الوحی بموته ص- لم یبق من ینعى علیهم سقطاتهم و یوبخهم على أعمالهم- و یأمر بالحذر منهم و یجاهرهم تاره و یجاملهم تاره- و صار المتولی للأمر بعده- یحمل الناس کلهم على کاهل المجامله- و یعاملهم بالظاهر- و هو الواجب فی حکم الشرع و السیاسه الدنیویه- بخلاف حال الرسول ص- فإنه کان تکلیفه معهم غیر هذا التکلیف- أ لا ترى أنه قیل له- وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً- فهذا یدل على أنه کان یعرفهم بأعیانهم- و إلا کان النهی له عن الصلاه علیهم تکلیف ما لا یطاق- و الوالی بعده لا یعرفهم بأعیانهم- فلیس مخاطبا بما خوطب به ص فی أمرهم- و لسکوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذکرهم- فکان قصارى أمر المنافق أن یسر ما فی قلبه- و یعامل المسلمین بظاهره و یعاملونه بحسب ذلک- ثم فتحت علیهم البلاد و کثرت الغنائم- فاشتغلوا بها عن الحرکات- التی کانوا یعتمدونها أیام رسول الله- و بعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس و الروم- فألهتهم الدنیا عن الأمور- التی کانت تنقم منهم فی حیاه رسول الله ص- و منهم من استقام اعتقاده و خلصت نیته- لما رأوا الفتوح و إلقاء الدنیا- أفلاذ کبدها من الأموال العظیمه- و الکنوز الجلیله إلیهم- فقالوا لو لم یکن هذا الدین حقا- لما وصلنا إلى ما وصلنا إلیه- و بالجمله لما ترکوا ترکوا- و حیث سکت عنهم سکتوا عن الإسلام و أهله- إلا فی دسیسه خفیه یعملونها نحو الکذب- الذی أشار إلیه أمیر المؤمنین ع- فإنه خالط الحدیث کذب کثیر- صدر عن قوم غیر صحیحی العقیده- قصدوا به الإضلال و تخبیط القلوب و العقائد- و قصد به بعضهم التنویه بذکر قوم- کان لهم فی التنویه بذکرهم غرض دنیوی- و قد قیل إنه افتعل فی أیام معاویه خاصه- حدیث کثیر على هذا الوجه- و لم یسکت المحدثون الراسخون فی علم الحدیث عن هذا- بل ذکروا کثیرا من هذه الأحادیث الموضوعه- و بینوا وضعها و أن رواتها غیر موثوق بهم- إلا أن المحدثین إنما یطعنون فیما دون طبقه الصحابه- و لا یتجاسرون فی الطعن على أحد من الصحابه- لأن علیه لفظ الصحبه- على أنهم قد طعنوا فی قوم لهم صحبه کبسر بن أرطاه و غیره- .

فإن قلت من هم أئمه الضلاله- الذین یتقرب إلیهم المنافقون- الذین رأوا رسول الله ص و صحبوه للزور و البهتان- و هل هذا إلا تصریح بما تذکره الإمامیه و تعتقده- . قلت لیس الأمر کما ظننت و ظنوا- و إنما یعنی معاویه و عمرو بن العاص- و من شایعهما على الضلال- کالخبر الذی رواه من فی حق معاویه- اللهم قه العذاب و الحساب و علمه الکتاب- و کروایه عمرو بن العاص تقربا إلى قلب معاویه- إن آل أبی طالب لیسوا لی بأولیاء- إنما ولیی الله و صالح المؤمنین- و کروایه قوم فی أیام معاویه- أخبارا کثیره من فضائل عثمان- تقربا إلى معاویه بها- و لسنا نجحد فضل عثمان و سابقته- و لکنا نعلم أن بعض الأخبار الوارده فیه موضوع- کخبر عمرو بن مره فیه و هو مشهور- و عمر بن مره ممن له صحبه و هو شامی

ذکر بعض ما منی به آل البیت من الأذى و الاضطهاد

و لیس یجب من قولنا- إن بعض الأخبار الوارده فی حق شخص فاضل مفتعله- أن تکون قادحه فی فضل ذلک الفاضل- فإنا مع اعتقادنا أن علیا أفضل الناس- نعتقد أن بعض الأخبار الوارده فی فضائله مفتعل و مختلق- . و قد رویأن أبا جعفر محمد بن علی الباقر ع قال لبعض أصحابه یا فلان ما لقینا من ظلم قریش إیانا و تظاهرهم علینا- و ما لقی شیعتنا و محبونا من الناس- إن رسول الله ص قبض- و قد أخبر أنا أولى الناس بالناس- فتمالأت علینا قریش حتى أخرجت الأمر عن معدنه- و احتجت على الأنصار بحقنا و حجتنا- ثم تداولتها قریش واحد بعد واحد حتى رجعت إلینا- فنکثت بیعتنا و نصبت الحرب لنا- و لم یزل صاحب الأمر فی صعود کئود حتى قتل- فبویع الحسن ابنه و عوهد ثم غدر به و أسلم- و وثب علیه أهل العراق حتى طعن بخنجر فی جنبه- و نهبت عسکره و عولجت خلالیل أمهات أولاده- فوادع معاویه و حقن دمه و دماء أهل بیته- و هم قلیل حق قلیل-

ثم بایع الحسین ع من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به- و خرجوا علیه و بیعته فی أعناقهم و قتلوه- ثم لم نزل أهل البیت نستذل و نستضام و نقصى و نمتهن- و نحرم و نقتل و نخاف- و لا نأمن على دمائنا و دماء أولیائنا- و وجد الکاذبون الجاحدون لکذبهم و جحودهم موضعا- یتقربون به إلى أولیائهم- و قضاه السوء و عمال السوء فی کل بلده- فحدثوهم بالأحادیث الموضوعه المکذوبه- و رووا عنا ما لم نقله و ما لم نفعله- لیبغضونا إلى الناس- و کان عظم ذلک و کبره زمن معاویه بعد موت الحسن ع- فقتلت شیعتنا بکل بلده- و قطعت الأیدی و الأرجل على الظنه- و کان من یذکر بحبنا و الانقطاع إلینا سجن أو نهب ماله- أو هدمت داره- ثم لم یزل البلاء یشتد و یزداد-إلى زمان عبید الله بن زیاد قاتل الحسین ع- ثم جاء الحجاج فقتلهم کل قتله- و أخذهم بکل ظنه و تهمه- حتى أن الرجل لیقال له زندیق أو کافر- أحب إلیه من أن یقال شیعه علی- و حتى صار الرجل الذی یذکر بالخیر- و لعله یکون ورعا صدوقا- یحدث بأحادیث عظیمه عجیبه- من تفضیل بعض من قد سلف من الولاه- و لم یخلق الله تعالى شیئا منها- و لا کانت و لا وقعت و هو یحسب أنها حق- لکثره من قد رواها ممن لم یعرف بکذب و لا بقله ورع- .

و روى أبو الحسن علی بن محمد بن أبی سیف المدائنی- فی کتاب الأحداث- قال کتب معاویه نسخه واحده إلى عماله بعد عام الجماعه- أن برئت الذمه ممن روى شیئا من فضل أبی تراب و أهل بیته- فقامت الخطباء فی کل کوره و على کل منبر- یلعنون علیا و یبرءون منه و یقعون فیه و فی أهل بیته- و کان أشد الناس بلاء حینئذ أهل الکوفه- لکثره من بها من شیعه علی ع- فاستعمل علیهم زیاد بن سمیه و ضم إلیه البصره- فکان یتتبع الشیعه و هو بهم عارف- لأنه کان منهم أیام علی ع- فقتلهم تحت کل حجر و مدر و أخافهم- و قطع الأیدی و الأرجل و سمل العیون- و صلبهم على جذوع النخل- و طرفهم و شردهم عن العراق- فلم یبق بها معروف منهم- و کتب معاویه إلى عماله فی جمیع الآفاق- ألا یجیزوا لأحد من شیعه علی و أهل بیته شهاده- و کتب إلیهم- أن انظروا من قبلکم من شیعه عثمان و محبیه و أهل ولایته- و الذین یروون فضائله و مناقبه- فادنوا مجالسهم و قربوهم و أکرموهم- و اکتبوا لی بکل ما یروی کل رجل منهم- و اسمه و اسم أبیه و عشیرته- .

ففعلوا ذلک- حتى أکثروا فی فضائل عثمان و مناقبه- لما کان یبعثه إلیهم معاویه- من الصلات و الکساء و الحباء و القطائع- و یفیضه فی العرب منهم و الموالی- فکثر ذلک فی کل مصر- و تنافسوا فی المنازل و الدنیا- فلیس یجی‏ء أحد مردود من الناس عاملا من‏عمال معاویه- فیروی فی عثمان فضیله أو منقبه- إلا کتب اسمه و قربه و شفعه فلبثوا بذلک حینا- .

ثم کتب إلى عماله أن الحدیث فی عثمان قد کثر- و فشا فی کل مصر و فی کل وجه و ناحیه- فإذا جاءکم کتابی هذا- فادعوا الناس إلى الروایه فی فضائل الصحابه- و الخلفاء الأولین- و لا تترکوا خبرا یرویه أحد من المسلمین فی أبی تراب- إلا و تأتونی بمناقض له فی الصحابه- فإن هذا أحب إلى و أقر لعینی- و أدحض لحجه أبی تراب و شیعته- و أشد علیهم من مناقب عثمان و فضله- . فقرئت کتبه على الناس- فرویت أخبار کثیره فی مناقب الصحابه مفتعله- لا حقیقه لها- وجد الناس فی روایه ما یجری هذا المجرى- حتى أشادوا بذکر ذلک على المنابر- و ألقی إلى معلمی الکتاتیب- فعلموا صبیانهم و غلمانهم من ذلک الکثیر الواسع- حتى رووه و تعلموه کما یتعلمون القرآن- و حتى علموه بناتهم و نساءهم و خدمهم و حشمهم- فلبثوا بذلک ما شاء الله- .

ثم کتب إلى عماله نسخه واحده إلى جمیع البلدان- انظروا من قامت علیه البینه- أنه یحب علیا و أهل بیته فامحوه من الدیوان- و أسقطوا عطاءه و رزقه- و شفع ذلک بنسخه أخرى- من اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم- فنکلوا به و أهدموا داره- فلم یکن البلاء أشد و لا أکثر منه بالعراق- و لا سیما بالکوفه- حتى أن الرجل من شیعه علی ع لیأتیه من یثق به- فیدخل بیته فیلقی إلیه سره- و یخاف من خادمه و مملوکه- و لا یحدثه حتى یأخذ علیه الأیمان الغلیظه لیکتمن علیه- فظهر حدیث کثیر موضوع و بهتان منتشر- و مضى على ذلک الفقهاء و القضاه و الولاه- و کان أعظم الناس فی ذلک بلیه القراء المراءون- و المستضعفون الذین یظهرون الخشوع و النسک- فیفتعلون الأحادیث لیحظوا بذلک عند ولاتهم- و یقربوا مجالسهم- و یصیبوا به الأموال و الضیاع‏و المنازل- حتى انتقلت تلک الأخبار و الأحادیث- إلى أیدی الدیانین الذین لا یستحلون الکذب و البهتان- فقبلوها و رووها و هم یظنون أنها حق- و لو علموا أنها باطله لما رووها و لا تدینوا بها- . فلم یزل الأمر کذلک حتى مات الحسن بن علی ع- فازداد البلاء و الفتنه- فلم یبق أحد من هذا القبیل إلا و هو خائف على دمه- أو طرید فی الأرض- .

ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسین ع- و ولی عبد الملک بن مروان فاشتد على الشیعه- و ولى علیهم الحجاج بن یوسف- فتقرب إلیه أهل النسک و الصلاح و الدین- ببغض علی و موالاه أعدائه- و موالاه من یدعی من الناس أنهم أیضا أعداؤه- فأکثروا فی الروایه فی فضلهم و سوابقهم و مناقبهم- و أکثروا من الغض من علی ع و عیبه- و الطعن فیه و الشنئان له- حتى أن إنسانا وقف للحجاج- و یقال إنه جد الأصمعی عبد الملک بن قریب فصاح به- أیها الأمیر إن أهلی عقونی فسمونی علیا و إنی فقیر بائس- و أنا إلى صله الأمیر محتاج- فتضاحک له الحجاج- و قال للطف ما توسلت به قد ولیتک موضع کذا- . و قد روى ابن عرفه المعروف بنفطویه- و هو من أکابر المحدثین و أعلامهم فی تاریخه- ما یناسب هذا الخبر- و قال إن أکثر الأحادیث الموضوعه فی فضائل الصحابه- افتعلت فی أیام بنی أمیه- تقربا إلیهم بما یظنون- أنهم یرغمون به أنوف بنی هاشم- .

قلت- و لا یلزم من هذا أن یکون علی ع یسوءه أن یذکر الصحابه- و المتقدمون علیه بالخیر و الفضل- إلا أن معاویه و بنی أمیه- کانوا یبنون الأمر من هذا- على ما یظنونه فی علی ع من أنه عدو من تقدم علیه- و لم یکن الأمر فی الحقیقه کمایظنونه- و لکنه کان یرى أنه أفضل منهم- و أنهم استأثروا علیه بالخلافه من غیر تفسیق منه لهم- و لا براءه منهم- .

فأما قوله ع و رجل سمع من رسول الله شیئا- و لم یحفظه على وجهه فوهم فیه فقد وقع ذلک- و قال أصحابنا فی الخبر الذی رواه عبد الله بن عمر- أن المیت لیعذب ببکاء أهله علیه- إن ابن عباس لما روی له هذا الخبر- قال ذهل ابن عمر- إنما مر رسول الله ص على قبر یهودی- فقال إن أهله لیبکون علیه و إنه لیعذب- . و قالوا أیضا إن عائشه أنکرت ذلک- و قالت ذهل أبو عبد الرحمن کما ذهل فی خبر قلیب بدر-إنما قال ع إنهم لیبکون علیه- و إنه لیعذب بجرمه- .

قالوا و موضع غلطه فی خبر القلیب- أنهروى أن النبی ص وقف على قلیب بدر- فقال هل وجدتم ما وعدکم ربکم حقا- ثم قال إنهم یسمعون ما أقول لهم- فأنکرت عائشه ذلک- و قالت إنما-قال إنهم یعلمون أن الذی کنت أقوله لهم هو الحق- و استشهد بقوله تعالى- إِنَّکَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏- . فأما الرجل الثالث- و هو الذی یسمع المنسوخ و لم یسمع الناسخ فقد وقع کثیرا- و کتب الحدیث و الفقه مشحونه بذلک- کالذین أباحوا لحوم الحمر الأهلیه لخبر رووه فی ذلک- و لم یرووا الخبر الناسخ- .

و أما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون فی العلم- . و أما قوله ع- و قد کان یکون من رسول الله ص الکلام له‏ وجهان- فهذا داخل فی القسم الثانی و غیر خارج عنه- و لکنه کالنوع من الجنس- لأن الوهم و الغلط جنس تحته أنواع- . و اعلم- أن أمیر المؤمنین ع کان مخصوصا من دون الصحابه- رضوان الله علیهم- بخلوات کان یخلو بها مع رسول الله ص- لا یطلع أحد من الناس على ما یدور بینهما- و کان کثیر السؤال للنبی ص عن معانی القرآن- و عن معانی کلامه ص- و إذا لم یسأل ابتدأه النبی ص بالتعلیم و التثقیف- و لم یکن أحد من أصحاب النبی ص کذلک بل کانوا أقساما- فمنهم من یهابه أن یسأله- و هم الذین یحبون أن یجی‏ء الأعرابی أو الطارئ- فیسأله و هم یسمعون- و منهم من کان بلیدا بعید الفهم- قلیل الهمه فی النظر و البحث- و منهم من کان مشغولا عن طلب العلم و فهم المعانی- إما بعباده أو دنیا- و منهم المقلد یرى أن فرضه السکوت و ترک السؤال- و منهم المبغض الشانئ- الذی لیس للدین عنده من الموقع- ما یضیع وقته و زمانه بالسؤال عن دقائقه و غوامضه- و انضاف إلى الأمر الخاص بعلی ع ذکاؤه و فطنته- و طهاره طینته و إشراق نفسه و ضوءها- و إذا کان المحل قابلا متهیئا- کان الفاعل المؤثر موجودا و الموانع مرتفعه- حصل الأثر على أتم ما یمکن- فلذلک کان علی ع- کما قال الحسن البصری ربانی هذه الأمه و ذا فضلها- و لذا تسمیه الفلاسفه إمام الأئمه و حکیم العرب

فصل فیما وضع الشیعه و البکریه من الأحادیث

و اعلم أن أصل الأکاذیب فی أحادیث الفضائل- کان من جهه الشیعه- فإنهم وضعوافی مبدأ الأمر أحادیث مختلفه فی صاحبهم- حملهم على وضعها عداوه خصومهم- نحو حدیث السطل و حدیث الرمانه- و حدیث غزوه البئر التی کان فیها الشیاطین- و تعرف کما زعموا بذات العلم- و حدیث غسل سلمان الفارسی و طی الأرض- و حدیث الجمجمه و نحو ذلک- فلما رأت البکریه ما صنعت الشیعه- وضعت لصاحبها أحادیث فی مقابله هذه الأحادیث- نحو لو کنت متخذا خلیلا- فإنهم وضعوه فی مقابله حدیث الإخاء و نحو سد الأبواب- فإنه کان لعلی ع فقلبته البکریه إلى أبی بکر- و نحو ایتونی بدواه و بیاض- أکتب فیه لأبی بکر کتابا لا یختلف علیه اثنان- ثم قال یأبى الله تعالى و المسلمون إلا أبا بکر- فإنهم وضعوه فی مقابلهالحدیث المروی عنه فی مرضه ایتونی بدواه و بیاض أکتب لکم ما لا تضلون بعده أبدا- فاختلفوا عنده-

و قال قوم منهم لقد غلبه الوجع حسبنا کتاب الله- و نحو حدیث أنا راض عنک فهل أنت عنی راض و نحو ذلک- فلما رأت الشیعه ما قد وضعت البکریه- أوسعوا فی وضع الأحادیث- فوضعوا حدیث الطوق الحدید الذی زعموا- أنه فتله فی عنق خالد- و حدیث اللوح الذی زعموا- أنه کان فی غدائر الحنفیه أم محمد- و حدیث لا یفعلن خالد ما آمر به- و حدیث الصحیفه التی علقت عام الفتح بالکعبه- و حدیث الشیخ الذی صعد المنبر یوم بویع أبو بکر- فسبق الناس إلى بیعته- و أحادیث مکذوبه کثیره- تقتضی نفاق قوم من أکابر الصحابه- و التابعین الأولین و کفرهم- و علی أدون الطبقات فیهم- فقابلتهم البکریه بمطاعن کثیره فی علی و فی ولدیه- و نسبوه تاره إلى ضعف العقل- و تاره إلى ضعف السیاسه- و تاره إلى حب الدنیا و الحرص علیها- و لقد کان الفریقان فی غنیه عما اکتسباه و اجترحاه- و لقد کان فی فضائل علی ع الثابته الصحیحه- و فضائل أبی بکر المحققهالمعلومه- ما یغنی عن تکلف العصبیه لهما- فإن العصبیه لهما- أخرجت الفریقین من ذکر الفضائل إلى ذکر الرذائل- و من تعدید المحاسن إلى تعدید المساوئ و المقابح- و نسأل الله تعالى- أن یعصمنا من المیل إلى الهوى و حب العصبیه- و أن یجرینا على ما عودنا من حب الحق أین وجد و حیث کان- سخط ذلک من سخط و رضی به من رضی بمنه و لطفه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۵۱

خطبه ۲۰۲ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۰۲ و من کلام له ع بالبصره- و قد دخل على العلاء بن زیاد الحارثی

– و هو من أصحابه یعوده- فلما رأى سعه داره قال- : مَا کُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَهِ هَذِهِ الدَّارِ فِی الدُّنْیَا- أَمَا أَنْتَ إِلَیْهَا فِی الآْخِرَهِ کُنْتَ أَحْوَجَ- وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَهَ- تَقْرِی فِیهَا الضَّیْفَ وَ تَصِلُ فِیهَا الرَّحِمَ- وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا- فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَهَ- فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ- یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ أَشْکُو إِلَیْکَ أَخِی عَاصِمَ بْنَ زِیَادٍ- قَالَ وَ مَا لَهُ- قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَ وَ تَخَلَّى مِنَ الدُّنْیَا- قَالَ عَلَیَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ- یَا عُدَیَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِکَ الْخَبِیثُ- أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَکَ وَ وَلَدَکَ- أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَکَ الطَّیِّبَاتِ وَ هُوَ یَکْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا- أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِکَ- قَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ- هَذَا أَنْتَ فِی خُشُونَهِ مَلْبَسِکَ وَ جُشُوبَهِ مَأْکَلِکَ- قَالَ وَیْحَکَ إِنِّی لَسْتُ کَأَنْتَ- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّهِ الْحَقِّ- أَنْ یُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَهِ النَّاسِ- کَیْلَا یَتَبَیَّغَ بِالْفَقِیرِ فَقْرُهُ‏

کنت هاهنا زائده مثل قوله تعالى- کَیْفَ نُکَلِّمُ مَنْ کانَ فِی الْمَهْدِ صَبِیًّا- . و قوله و بلى إن شئت بلغت بها الآخره لفظ فصیح- کأنه استدرک و قال- و بلى على أنک قد تحتاج إلیها فی الدنیا- لتجعلها وصله إلى نبل الآخره- بأن تقری فیها الضیف- و الضیف لفظ یقع على الواحد و الجمع- و قد یجمع فیقال ضیوف و أضیاف- و الرحم القرابه- . و تطلع منها الحقوق مطالعها- توقعها فی مظان استحقاقها- . و العباء جمع عباءه و هی الکساء و قد تلین- کما قالوا عظاءه و عظایه و صلاءه و صلایه- .

و تقول علی بفلان أی أحضره- و الأصل أعجل به علی- فحذف فعل الأمر و دل الباقی علیه- . و یا عدی نفسه تصغیر عدو- و قد یمکن أن یراد به التحقیر المحض هاهنا- . و یمکن أن یراد به الاستعظام لعداوته لها- و یمکن أن یخرج مخرج التحنن و الشفقه کقولک یا بنی- . و استهام بک الخبیث یعنی الشیطان- أی جعلک هائما ضالا و الباء زائده- . فإن قیل ما معنى قوله ع- أنت أهون على الله من ذلک- . قلت لأن فی المشاهد قد یحل الواحد منا- لصاحبه فعلا مخصوصا محاباه و مراقبه له-و هو یکره أن یفعله- و البشر أهون على الله تعالى من أن یحل لهم أمرا- مجامله و استصلاحا للحال معهم- و هو یکره منهم فعله- . و قوله هذا أنت أی فما بالنا نراک خشن الملبس- و التقدیر فها أنت تفعل کذا فکیف تنهى عنه- .

و طعام جشب أی غلیظ و کذلک مجشوب- و قیل إنه الذی لا أدم معه- . قوله ع- أن یقدروا أنفسهم بضعفه الناس- أی یشبهوا و یمثلوا- . و تبیغ الدم بصاحبه و تبوغ به أی هاج به- وفی الحدیث علیکم بالحجامه لا یتبیغ بأحدکم الدم فیقتله- و قیل أصل یتبیغ یتبغى فقلب جذب و جبذ- أی یجب على الإمام العادل أن یشبه نفسه- فی لباسه و طعامه بضعفه الناس جمع ضعیف- لکیلا یهلک الفقراء من الناس- فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلک الهیئه و بذلک المطعم- کان أدعى لهم إلى سلوان لذات الدنیا- و الصبر عن شهوات النفوس

ذکر بعض مقامات العارفین و الزهاد

و روی أن قوما من المتصوفه- دخلوا خراسان على علی بن موسى الرضا- فقالوا له إن أمیر المؤمنین فکر فیما ولاه الله من الأمور- فرآکم أهل البیت أولى الناس أن تؤموا الناس- و نظر فیک من أهل البیت فرآک أولى الناس بالناس- فرأى أن یرد هذا الأمر إلیک- و الإمامه تحتاج إلى من یأکل الجشب- و یلبس الخشن و یرکب الحمار و یعود المریض- فقال لهم إن یوسف کان نبیا- یلبس أقبیه الدیباج المزرره بالذهب- و یجلس على متکآت آل فرعون ویحکم- إنما یراد من الإمام قسطه و عدله- إذا قال صدق‏و إذا حکم عدل و إذا وعد أنجز- إن الله لم یحرم لبوسا و لا مطعما- ثم قرأ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَهَ اللَّهِ- الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ الآیه- .

و هذا القول مخالف للقانون الذی أشار أمیر المؤمنین إلیه- و للفلاسفه فی هذا الباب کلام لا بأس به- و قد أشار إلیه أبو علی بن سینا فی کتاب الإشارات- و علیه یتخرج قولا أمیر المؤمنین- و علی بن موسى الرضا ع- قال أبو علی فی مقامات العارفین العارفون قد یختلفون فی الهمم- بحسب ما یختلف فیهم من الخواطر- على حسب ما یختلف عندهم من دواعی العبر- فربما استوى عند العارف القشف و الترف- بل ربما آثر القشف- و کذلک ربما سوى عنده التفل و العطر- بل ربما آثر التفل- و ذلک عند ما یکون الهاجس بباله- استحقار ما عدا الحق- و ربما صغا إلى الزینه و أحب من کل شی‏ء عقیلته- و کره الخداج و السقط- و ذلک عند ما یعتبر عادته من صحبته الأحوال الظاهره- فهو یرتاد إلیها فی کل شی‏ء- لأنه مزیه خطوه من العنایه الأولى- و أقرب أن یکون من قبیل ما عکف علیه بهواه- و قد یختلف هذا فی عارفین- و قد یختلف فی عارف بحسب وقتین- .

و اعلم أن الذی رویته عن الشیوخ- و رأیته بخط عبد الله بن أحمد بن الخشاب- رحمه الله- أن الربیع بن زیاد الحارثی- أصابته نشابه فی جبینه- فکانت تنتقض علیه فی کل عام- فأتاه علی ع عائدا- فقال کیف تجدک أبا عبد الرحمن- قال أجدنی یا أمیر المؤمنین لو کان لا یذهب ما بی- إلا بذهاب بصری لتمنیت ذهابه- قال و ما قیمه بصرک عندک- قال لو کانت لی الدنیا لفدیته بها- قال لا جرم لیعطینک الله على قدر ذلک- إن الله تعالى یعطی على قدر الألم و المصیبه- و عنده تضعیف کثیر- قال الربیع‏یا أمیر المؤمنین- أ لا أشکو إلیک عاصم بن زیاد أخی- قال ما له قال لبس العباء و ترک الملاء- و غم أهله و حزن ولده فقال علی ادعوا لی عاصما- فلما أتاه عبس فی وجهه-

و قال ویحک یا عاصم أ ترى الله أباح لک اللذات- و هو یکره ما أخذت منها- لأنت أهون على الله من ذلک- أ و ما سمعته یقول مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ یَلْتَقِیانِ- ثم یقول یَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ- و قال وَ مِنْ کُلٍّ تَأْکُلُونَ لَحْماً طَرِیًّا- وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْیَهً تَلْبَسُونَها- أما و الله إن ابتذال نعم الله بالفعال- أحب إلیه من ابتذالها بالمقال- و قد سمعتم الله یقول وَ أَمَّا بِنِعْمَهِ رَبِّکَ فَحَدِّثْ- و قوله مَنْ حَرَّمَ زِینَهَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبادِهِ- وَ الطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ- إن الله خاطب المؤمنین بما خاطب به المرسلین- فقال یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا- کُلُوا مِنْ طَیِّباتِ ما رَزَقْناکُمْ- و قال یا أَیُّهَا الرُّسُلُ کُلُوا مِنَ الطَّیِّباتِ- وَ اعْمَلُوا صالِحاً وقال رسول الله ص لبعض نسائه ما لی أراک شعثاء مرهاء سلتاء- .

قال عاصم فلم اقتصرت یا أمیر المؤمنین على لبس الخشن- و أکل الجشب- قال إن الله تعالى افترض على أئمه العدل- أن یقدروا لأنفسهم بالقوام- کیلا یتبیغ بالفقیر فقره- فما قام علی ع حتى نزع عاصم العباء و لبس ملاءه- . و الربیع بن زیاد هو الذی افتتح بعض خراسان- و فیه قال عمر دلونی على رجل- إذا کان‏ فی القوم أمیرا فکأنه لیس بأمیر- و إذا کان فی القوم لیس بأمیر فکأنه الأمیر بعینه- و کان خیرا متواضعا- و هو صاحب الوقعه مع عمر- لما أحضر العمال فتوحش له الربیع- و تقشف و أکل معه الجشب من الطعام- فأقره على عمله و صرف الباقین- و قد ذکرنا هذه الحکایه فیما تقدم- .

و کتب زیاد بن أبیه إلى الربیع بن زیاد- و هو على قطعه من خراسان- أن أمیر المؤمنین معاویه کتب إلی- یأمرک أن تحرز الصفراء و البیضاء و تقسم الخرثی- و ما أشبهه على أهل الحرب- فقال له الربیع- إنی وجدت کتاب الله قبل کتاب أمیر المؤمنین- ثم نادى فی الناس أن اغدوا علی غنائمکم- فأخذ الخمس و قسم الباقی على المسلمین- ثم دعا الله أن یمیته فما جمع حتى مات- . و هو الربیع بن زیاد بن أنس بن دیان بن قطر بن زیاد- بن الحارث بن مالک بن ربیعه بن کعب بن مالک- بن کعب بن الحارث بن عمرو بن وعله- بن خالد بن مالک بن أدد- . و أما العلاء بن زیاد الذی ذکره الرضی رحمه الله فلا أعرفه- لعل غیری یعرفه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۴۴

خطبه ۲۰۱ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۰۱ و من کلام له ع- قاله لما اضطرب علیه أصحابه فی أمر الحکومه

یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ یَزَلْ أَمْرِی مَعَکُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ- حَتَّى نَهِکَتْکُمُ الْحَرْبُ- وَ قَدْ وَ اللَّهِ أَخَذَتْ مِنْکُمْ وَ تَرَکَتْ- وَ هِیَ لِعَدُوِّکُمْ أَنْهَکُ- . لَقَدْ کُنْتُ أَمْسِ أَمِیراً فَأَصْبَحْتُ الْیَوْمَ مَأْمُوراً- وَ کُنْتُ أَمْسِ نَاهِیاً فَأَصْبَحْتُ الْیَوْمَ مَنْهِیّاً- وَ قَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ وَ لَیْسَ لِی أَنْ أَحْمِلَکُمْ عَلَى مَا تَکْرَهُونَ نهکتکم بکسر الهاء أدنفتکم و أذابتکم- و یجوز فتح الهاء و قد نهک الرجل أی دنف و ضنی فهو منهوک- و علیه نهکه المرض أی أثره الحرب مؤنثه- . و قد أخذت منکم و ترکت أی لم تستأصلکم- بل فیکم بعد بقیه و هی لعدوکم أنهک- لأن القتل فی أهل الشام کان أشد استحرارا- و الوهن فیهم أظهر- و لو لا فساد أهل العراق برفع المصاحف لاستؤصل الشام- و خلص الأشتر إلى معاویه فأخذه بعنقه- و لم یکن قد بقی من قوه الشام- إلا کحرکه ذنب الوزغه عند قتلها یضطرب یمینا و شمالا- و لکن الأمور السماویه لا تغالب- .

فأما قوله کنت أمس أمیرا فأصبحت الیوم مأمورا- فقد قدمنا شرح حالهم من قبل- و أن أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص و من معه المصاحف- على وجه المکیدهحین أحس بالعطب- و علو کلمه أهل الحق- ألزموا أمیر المؤمنین ع بوضع أوزار الحرب- و کف الأیدی عن القتال و کانوا فی ذلک على أقسام- فمنهم من دخلت علیه الشبهه برفع المصاحف- و غلب على ظنه أن أهل الشام لم یفعلوا ذلک خدعه و حیله- بل حقا و دعاء إلى الدین و موجب الکتاب- فرأى أن الاستسلام للحجه أولى من الإصرار على الحرب- .

و منهم من کان قد مل الحرب و آثر السلم- فلما رأى شبهه ما یسوغ التعلق بها- فی رفض المحاربه و حب العافیه أخلد إلیهم- . و منهم من کان یبغض علیا ع بباطنه- و یطیعه بظاهره- کما یطیع کثیر من الناس السلطان- فی الظاهر و یبغضه بقلبه- فلما وجدوا طریقا إلى خذلانه و ترک نصرته- أسرعوا نحوها- فاجتمع جمهور عسکره علیه- و طالبوه بالکف و ترک القتال- فامتنع امتناع عالم بالمکیده- و قال لهم إنها حیله و خدیعه- و إنی أعرف بالقوم منکم- إنهم لیسوا بأصحاب قرآن و لا دین- قد صحبتهم و عرفتهم صغیرا و کبیرا- فعرفت منهم الإعراض عن الدین و الرکون إلى الدنیا- فلا تراعوا برفع المصاحف و صمموا على الحرب- و قد ملکتموهم فلم یبق منهم إلا حشاشه ضعیفه- و ذماء قلیل- فأبوا علیه و ألحوا و أصروا على القعود و الخذلان- و أمروه بالإنفاذ إلى المحاربین من أصحابه- و علیهم الأشتر أن یأمرهم بالرجوع- و تهددوه إن لم یفعل بإسلامه إلى معاویه- فأرسل إلى الأشتر یأمره بالرجوع و ترک الحرب- فأبى علیه فقال کیف أرجع و قد لاحت أمارات الظفر- فقولوا له لیمهلنی ساعه واحده- و لم یکن علم صوره الحال کیف قد وقعت- فلما عاد إلیه الرسول بذلک- غضبوا و نفروا و شغبوا- و قالوا أنفذت إلى الأشتر سرا و باطنا- تأمره بالتصمیم و تنهاه عن الکف- و إن لم تعده الساعه و إلا قتلناک کما قتلنا عثمان- فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له- أ تحب أن تظفر بمکانک و أمیر المؤمنین قد سل علیه‏خمسون ألف سیف- فقال ما الخبر قال إن الجیش بأسره قد أحدق به- و هو قاعد بینهم على الأرض- تحته نطع و هو مطرق و البارقه تلمع على رأسه- یقولون لئن لم تعد الأشتر قتلناک- قال ویحکم فما سبب ذلک قالوا رفع المصاحف- قال و الله لقد ظننت حین رأیتها رفعت- أنها ستوقع فرقه و فتنه- .

ثم کر راجعا على عقبیه- فوجد أمیر المؤمنین ع تحت الخطر- قد ردده أصحابه بین أمرین- إما أن یسلموه إلى معاویه أو یقتلوه- و لا ناصر له منهم إلا ولداه و ابن عمه- و نفر قلیل لا یبلغون عشره- فلما رآهم الأشتر سبهم و شتمهم- و قال ویحکم أ بعد الظفر و النصر- صب علیکم الخذلان و الفرقه- یا ضعاف الأحلام یا أشباه النساء- یا سفهاء العقول فشتموه و سبوه و قهروه- و قالوا المصاحف المصاحف و الرجوع إلیها- لا نرى غیر ذلک- فأجاب أمیر المؤمنین ع إلى التحکیم- دفعا للمحذور الأعظم بارتکاب المحظور الأضعف- فلذلک قال کنت أمیرا فأصبحت مأمورا- و کنت ناهیا فصرت منهیا- و قد سبق من شرح حال التحکیم- و ما جرى فیه ما یغنی عن إعادته

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۷

خطبه ۲۰۰ شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

۲۰۰ و من کلام له ع فی بعض أیام صفین- و قد رأى الحسن ابنه ع یتسرع إلى الحرب

امْلِکُوا عَنِّی هَذَا الْغُلَامَ لَا یَهُدَّنِی- فَإِنَّنِی أَنْفَسُ بِهَذَیْنِ یَعْنِی الْحَسَنَ وَ الْحُسَیْنَ ع- عَلَى الْمَوْتِ لِئَلَّا یَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ ص- قال الرضی أبو الحسن رحمه الله- قوله ع املکوا عنی هذا الغلام- من أعلى الکلام و أفصحه الألف فی املکوا ألف وصل- لأن الماضی ثلاثی من ملکت الفرس و العبد و الدار- أملک بالکسر أی احجروا علیه کما یحجر المالک على مملوکه- . و عن متعلقه بمحذوف تقدیره استولوا علیه و أبعدوه عنی- و لما کان الملک سبب الحجر على المملوک- عبر بالسبب عن المسبب کما عبر بالنکاح عن العقد- و هو فی الحقیقه اسم الوطء- لما کان العقد طریقا إلى الوطء و سببا له- .

و وجه علو هذا الکلام و فصاحته- أنه لما کان فی املکوا معنى البعد أعقبه‏بعن- و ذلک أنهم لا یملکونه دون أمیر المؤمنین ع- إلا و قد أبعدوه عنه- أ لا ترى أنک إذا حجرت على زید دون عمرو- فقد باعدت زیدا عن عمرو- فلذلک قال املکوا عنی هذا الغلام- و استفصح الشارحون قول أبی الطیب-

إذا کان شم الروح أدنى إلیکم
فلا برحتنی روضه و قبول‏

قالوا و لما کان فی فلا برحتنی معنى فارقتنی- عدی اللفظه و إن کانت لازمه- نظرا إلى المعنى- . قوله لا یهدنی أی لئلا یهدنی- فحذف کما حذف طرفه فی قوله-

ألا أی هذا الزاجری أحضر الوغى‏

أی لأن أحضر- . و أنفس أبخل نفست علیه بکذا بالکسر- . فإن قلت أ یجوز أن یقال للحسن و الحسین و ولدهما- أبناء رسول الله و ولد رسول الله- و ذریه رسول الله و نسل رسول الله- . قلت نعم لأن الله تعالى سماهم أبناءه فی قوله تعالى- نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ- و إنما عنى الحسن و الحسین- و لو أوصى لولد فلان بمال دخل فیه أولاد البنات- و سمى الله تعالى عیسى ذریه إبراهیم فی قوله- وَ مِنْ ذُرِّیَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَیْمانَ- إلى أن قال وَ یَحْیى‏ وَ عِیسى‏- و لم یختلف أهل اللغه فی أن ولد البنات من نسل الرجل- .

فإن قلت فما تصنع بقوله تعالى- ما کانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِکُمْ- قلت أسألک عن أبوته لإبراهیم بن ماریه- فکما تجیب به عن ذلک فهو جوابی عن الحسن و الحسین ع- . و الجواب الشامل للجمیع أنه عنى زید بن حارثه- لأن العرب کانت تقول زید بن محمد- على عادتهم فی تبنی العبید- فأبطل الله تعالى ذلک و نهى عن سنه الجاهلیه- و قال إن محمدا ع لیس أبا لواحد من الرجال- البالغین المعروفین بینکم لیعتزی إلیه بالنبوه- و ذلک لا ینفی کونه أبا لأطفال- لم تطلق علیهم لفظه الرجال- کإبراهیم و حسن و حسین ع- . فإن قلت أ تقول إن ابن البنت ابن- على الحقیقه الأصلیه أم على سبیل المجاز- .

قلت لذاهب أن یذهب إلى أنه حقیقه أصلیه- لأن أصل الإطلاق الحقیقه- و قد یکون اللفظ مشترکا بین مفهومین- و هو فی أحدهما أشهر- و لا یلزم من کونه أشهر فی أحدهما- ألا یکون حقیقه فی الآخر- . و لذاهب أن یذهب إلى أنه حقیقه عرفیه- و هی التی کثر استعمالها و هی فی الأکثر مجاز- حتى صارت حقیقه فی العرف- کالراویه للمزاده و السماء للمطر- . و لذاهب أن یذهب إلى کونه مجازا قد استعمله الشارع- فجاز إطلاقه فی کل حال- و استعماله کسائر المجازات المستعمله- . و مما یدل على اختصاص ولد فاطمه- دون بنی هاشم کافه بالنبی ع أنه ما کان یحل له ع- أن ینکح بنات الحسن و الحسین ع- و لا بنات ذریتهما- و إن بعدن و طال الزمان- و یحل له نکاح بنات غیرهم من بنی هاشم- من الطالبیین و غیرهم- و هذا یدل على مزید الأقربیه و هی کونهم أولاده- لأنه لیس هناک من القربى غیرهذا الوجه- لأنهم لیسوا أولاد أخیه و لا أولاد أخته- و لا هناک وجه یقتضی حرمتهم علیه- إلا کونه والدا لهم و کونهم أولادا له- فإن قلت قد قال الشاعر-

بنونا بنو أبنائنا و بناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد

و قال حکیم العرب أکثم بن صیفی فی البنات یذمهن- إنهن یلدن الأعداء و یورثن البعداء- . قلت إنما قال الشاعر ما قاله على المفهوم الأشهر- و لیس فی قول أکثم ما یدل على نفی بنوتهم- و إنما ذکر أنهن یلدن الأعداء- و قد یکون ولد الرجل لصلبه عدوا قال الله تعالى- إِنَّ مِنْ أَزْواجِکُمْ وَ أَوْلادِکُمْ عَدُوًّا لَکُمْ- و لا ینفی کونه عدوا کونه ابنا- . قیل لمحمد بن الحنفیه ع- لم یغرر بک أبوک فی الحرب- و لم لا یغرر بالحسن و الحسین- فقال لأنهما عیناه و أنا یمینه- فهو یذب عن عینیه بیمینه

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۱۱

بازدیدها: ۱۲