و من کتاب له علیه السّلام إلى معاویه جوابا، و هو من محاسن الکتب
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِی کِتَابُکَ- تَذْکُرُ فِیهِ اصْطِفَاءَ اللَّهِ مُحَمَّداً ص لِدِینِهِ- وَ تَأْیِیدَهُ إِیَّاهُ لِمَنْ أَیَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ- فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْکَ عَجَباً- إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا- وَ نِعْمَتِهِ عَلَیْنَا فِی نَبِیِّنَا- فَکُنْتَ فِی ذَلِکَ کَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ- أَوْ دَاعِی مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ- وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِی الْإِسْلَامِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ- فَذَکَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَکَ کُلُّهُ- وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ یَلْحَقْکَ ثَلْمُهُ- وَ مَا أَنْتَ وَ الْفَاضِلَ وَ الْمَفْضُولَ وَ السَّائِسَ وَ الْمَسُوسَ- وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ- وَ التَّمْیِیزَ بَیْنَ الْمُهَاجِرِینَ الْأَوَّلِینَ- وَ تَرْتِیبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِیفَ طَبَقَاتِهِمْ- هَیْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَیْسَ مِنْهَا- وَ طَفِقَ یَحْکُمُ فِیهَا مَنْ عَلَیْهِ الْحُکْمُ لَهَا- أَ لَا تَرْبَعُ أَیُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِکَ- وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِکَ- وَ تَتَأَخَّرُ حَیْثُ أَخَّرَکَ الْقَدَرُ- فَمَا عَلَیْکَ غَلَبَهُ الْمَغْلُوبِ وَ لَا ظَفَرُ الظَّافِرِ- وَ إِنَّکَ لَذَهَّابٌ فِی التِّیهِ رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ- أَ لَا تَرَى غَیْرَ مُخْبِرٍ لَکَ- وَ لَکِنْ بِنِعْمَهِ اللَّهِ أُحَدِّثُ- أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ لِکُلٍّ فَضْلٌ- حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِیدُنَا قِیلَ سَیِّدُ الشُّهَدَاءِ- وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ص بِسَبْعِینَ تَکْبِیرَهً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَیْهِ أَ وَ لَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَیْدِیهِمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ- وَ لِکُلٍّ فَضْلٌ- حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ- قِیلَ الطَّیَّارُ فِی الْجَنَّهِ وَ ذُو الْجَنَاحَیْنِ- وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْکِیَهِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ- لَذَکَرَ ذَاکِرٌ فَضَائِلَ جَمَّهً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِینَ- وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِینَ- فَدَعْ عَنْکَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِیَّهُ- فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا- لَمْ یَمْنَعْنَا قَدِیمُ عِزِّنَا- وَ لَا عَادِیُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِکَ أَنْ خَلَطْنَاکُمْ بِأَنْفُسِنَا- فَنَکَحْنَا وَ أَنْکَحْنَا- فِعْلَ الْأَکْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاکَ- وَ أَنَّى یَکُونُ ذَلِکَ کَذَلِکَ وَ مِنَّا النَّبِیُّ وَ مِنْکُمُ الْمُکَذِّبُ- وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْکُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ- وَ مِنَّا سَیِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّهِ وَ مِنْکُمْ صِبْیَهُ النَّارِ- وَ مِنَّا خَیْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ وَ مِنْکُمْ حَمَّالَهُ الْحَطَبِ- فِی کَثِیرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَیْکُمْ- فَإِسْلَامُنَا مَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِیَّتُنَا لَا تُدْفَعُ- وَ کِتَابُ اللَّهِ یَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا- وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللَّهِ- وَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ- وَ هذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا- وَ اللَّهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِینَ- فَنَحْنُ مَرَّهً أَوْلَى بِالْقَرَابَهِ وَ تَارَهً أَوْلَى بِالطَّاعَهِ- وَ لَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ- یَوْمَ السَّقِیفَهِ بِرَسُولِ اللَّهِ ص فَلَجُوا عَلَیْهِمْ- فَإِنْ یَکُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَکُمْ- وَ إِنْ یَکُنْ بِغَیْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ- وَ زَعَمْتَ أَنِّی لِکُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَ عَلَى کُلِّهِمْ بَغَیْتُ- فَإِنْ یَکُنْ ذَلِکَ کَذَلِکَ فَلَیْسَتِ الْجِنَایَهُ عَلَیْکَ- فَیَکُونَ الْعُذْرُ إِلَیْکَ-
وَ تِلْکَ شَکَاهٌ ظَاهِرٌ عَنْکَ عَارُهَا وَ قُلْتَ إِنِّی کُنْتُ أُقَادُ- کَمَا یُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَایِعَ- وَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ- وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ- وَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَهٍ فِی أَنْ یَکُونَ مَظْلُوماً- مَا لَمْ یَکُنْ شَاکّاً فِی دِینِهِ وَ لَا مُرْتَاباً بِیَقِینِهِ- وَ هَذِهِ حُجَّتِی إِلَى غَیْرِکَ قَصْدُهَا- وَ لَکِنِّی أَطْلَقْتُ لَکَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِکْرِهَا- ثُمَّ ذَکَرْتَ مَا کَانَ مِنْ أَمْرِی وَ أَمْرِ عُثْمَانَ- فَلَکَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِکَ مِنْهُ- فَأَیُّنَا کَانَ أَعْدَى لَهُ وَ أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَکَفَّهُ- أَمَّنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَیْهِ- حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَیْهِ- کَلَّا وَ اللَّهِ لَ قَدْ یَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِینَ مِنْکُمْ- وَ الْقائِلِینَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَیْنا- وَ لا یَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِیلًا وَ مَا کُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّی کُنْتُ أَنْقِمُ عَلَیْهِ أَحْدَاثاً- فَإِنْ کَانَ الذَّنْبُ إِلَیْهِ إِرْشَادِی وَ هِدَایَتِی لَهُ- فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ- وَ قَدْ یَسْتَفِیدُ الظِّنَّهَ الْمُتَنَصِّحُ – وَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِیقِی إِلَّا بِاللَّهِ عَلَیْهِ تَوَکَّلْتُ وَ إِلَیْهِ أُنِیبُ وَ ذَکَرْتَ أَنَّهُ لَیْسَ لِی وَ لِأَصْحَابِی عِنْدَکَ إِلَّا السَّیْفُ- فَلَقَدْ أَضْحَکْتَ بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ- مَتَى أَلْفَیْتَ بَنِی عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الْأَعْدَاءِ نَاکِلِینَ- وَ بِالسَّیْفِ مُخَوَّفِینَ- فَلَبِّثْ قَلِیلًا یَلْحَقِ الْهَیْجَا حَمَلْ – فَسَیَطْلُبُکَ مَنْ تَطْلُبُ- وَ یَقْرُبُ مِنْکَ مَا تَسْتَبْعِدُ- وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَکَ فِی جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ التَّابِعِینَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ- شَدِیدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ- مُتَسَرْبِلِینَ سَرَابِیلَ الْمَوْتِ- أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَیْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ- وَ قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّیَّهٌ بَدْرِیَّهٌ وَ سُیُوفٌ هَاشِمِیَّهٌ- قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا- فِی أَخِیکَ وَ خَالِکَ وَ جَدِّکَ وَ أَهْلِکَ- وَ ما هِیَ مِنَ الظَّالِمِینَ بِبَعِیدٍ
أقول: هذا الکتاب ملتقط من کتاب ذکر السیّد منه فصلا سابقا، و هو قوله: فأراد قومنا إهلاک نبیّنا. و قد ذکرنا کتاب معاویه الّذی هو هذا الکتاب جواب له، و ذکرنا الکتاب له بأسره هناک و إن کان فیه اختلاف ألفاظ یسیره بین الروایات.
اللغه
و خبأت الشیء: سترته. و طفق: أخذ و جعل. و هجر: مدینه من بلاد البحرین. و النضال: المراماه. و المسدّد: الّذی یقوّم غیره لأمر و یهدیه إلیه. و اعتزلک: تباعد عنک. و الثلم: الکسر. و الطلیق: من اطلق بعد الأسر. و الربع: الوقوف. و الظلع: العرج. و الذرع: بسط الید. و التیه: الضلال و التحیّر فی المفاوز. و الروّاغ: کثیر المیل عن القصد. و الجمّه: الکثیره. و مجّ الماء من فیه: ألقاه. و الرمیّه. الصید یرمى، و الصنیعه: الحسنه. و الفلج:الفوز. و الشکاه و الشکیّه و الشکایه: ظاهره و الظاهر: الزائل و المخشوش: الّذی جعل فی أنفه خشاش، و هو خشبه تدخل فی أنف البعیر لیقاد بها. و الغضاضه: الذلّه و المنقصه. و سنح: اعترض. و أعدى: أشدّ عدوانا. و المعّوقین: المثبّطین. و الظنّه: التهمه. و المنصّح: المبالغ فی النصیحه. و الاستعبار: البکاء. و ألفیت کذا: وجدته. و النکول: التأخّر جبنا. و الإرقال: ضرب من السیر السریع. و الجحفل: الجیش العظیم. و الساطع: المرتفع. و القتام: الغبار. و السرابیل: القمصان. و النصال: السیوف.
المعنى
و قد أجاب علیه السّلام عن کلّ فصل من کتاب معاویه بفصل. و الکتاب أفصح ما اختار السیّد- رحمه اللّه- من الکتب و فیه نکت:
الاولى: أنّه استعار لفظ الخبأ
لما ستره الدهر فی وجود معاویه من العجب ثمّ فسّر العجب فقال: إذ طفقت. إلى قوله: النضال. و وجه العجب هنا أنّه أخبر أهل بیت النبیّ بحال النبیّ و ما أنعم اللّه به علیه من اصطفائه له لدینه و تأییده بأصحابه مع علمهم البالغ بحاله و کونهم أولى بالإخبار عنها. و ضرب له فی ذلک مثلین: أحدهما: قوله: کنا قل التمر إلى هجر. و أصل هذا المثل أنّ رجلا قدم من هجر إلى البصره بمال اشترى به شیئا للربح فلم یجد فیها أکسد من التمر فاشترى بماله تمرا و حمله إلى هجر و ادّخره فی البیوت ینتظر به السعر فلم یزدد إلّا رخصا حتّى فسد جمیعه و تلف ماله فضرب مثلا لمن یحمل الشیء إلى معدنه لینتفع به فیه، و وجه مطابقه المثل هنا أنّ معاویه حمل الخبر بما أخبر به إلى معدنه الّذی هو أولى به منه کحامل التمر إلى معدنه. و هجر معروفه بکثره التمر حتّى أنّه ربما یبلغ خمسین جلّه بدینار- و وزن الجلّه مائه رطل، فذلک خمسه ألف رطل- و لم یسمع مثل ذلک فی بلاد اخرى. و هجر اسم قد یذکّر لقصد الموضع و لذلک صرفها شاعرهم حیث یقول:
و خطّها الخطّ إرقالا و قال قلى: اوّل لا نادما أهجر قرى هجر
الثانیه: أنّه شبّه بداعى مسدّده إلى النضال، و وجه التشبیه هنا أیضا حمل الخبر إلى من هو أولى به منه کما یدعو الإنسان مسدّده و استاده فی الرمى إلى المراماه، و مسدّده أولى بأن یدعوه إلى ذلک.
الثانیه: أنّ معاویه لمّا اقتصّ حال أصحابه و ذکر الأفضل فالأفضل منهم
معرّضا بأفضلیّتهم علیه مع عدم مشارکتهم له فی الفضل أجابه بأنّ ذلک التفضیل و الترتیب إمّا أن یتمّ أولا. فإن تمّ فهو بمعزل عنک. إذ لیس لک نصیب و لا شرک فی درجاتهم و مراتبهم و سابقتهم فی الإسلام فیکون إذن خوضک فیه خوضا فیما لا یعنیک، و إن نقص فلیس علیک من نقصانه عار و لا یلحقک منه و هن. فخوضک فیه أیضا فضول. و قوله: و ما أنت. إلى و ما للطلقاء. استفهام على سبیل الاستحقار و الإنکار علیه أن یخوض على صغر شأنه و حقارته فی هذه الامور الکبار. و المنقول أنّ أبا سفیان کان من الطلقاء فکذلک معاویه فهو طلیق و ابن طلیق. و قوله: هیهات. استبعاد لأهلیّته لمثل هذا الحکم و ترتیب طبقات المهاجرین فی الفضل. ثمّ ضرب له فی حکمیه ذلک مثلین آخرین: أحدهما: قوله: لقد حنّ قدح لیس منها، و أصله أنّ أحد قداح المیسر.
– إذ کان لیس من جوهر باقى القداح ثمّ أجاله المفیض- خرج له صوت تخالف أصواتها فیعرف به أنّه لیس من جملتها فضرب مثلا لمن یمدح قوما و یطریهم و یفتخر بهم مع أنّه لیس منهم، و تمثّل به عمر حین قال الولید بن عقبه بن أبی معیط: أقبل من دون قریش. فقال عمر: حنّ قدح لیس منها.
الثانی: قوله: و طفق یحکم فیها من علیه الحکم لها. یضرب لمن یحکم على قوم و فیهم و هو من أراذلهم، و لیس للحکم بأهل بل هم أولى منه. إذ شأن الأشراف أن یکونوا حکّاما. و مراده أنّ معاویه لیس من القوم الّذین حکم بتفضیل بعضهم على بعض فی شیء، و لیس أهلا للحکم فیهم.
الثالثه: قوله: ألا تربع أیّها الإنسان على ظلعک.
استفهام على سبیل التنبیه له على قصوره عن درجه السابقین و التقریع له على ادّعائه لها: أى أنّه فلیترفّق بنفسک و لا یکلّفها علیه و لیقف بها عن مجاراه أهل الفضل حال ظلعک. و استعار لفظ الظلع لقصوره، و وجه المشابهه قصوره عن لحوق رتبه السابقین فی الفضل کقصور الظالع عن شأو الضلیع، و کذلک قوله: و تعرف قصور ذرعک، و قصور ذرعه کنایه عن قصور قوّته و عجزه عن تناول تلک المرتبه. و حیث أخّره القدر إشاره إلى مرتبته النازله الّتی جرى القدر بها أن تکون نازله عن مراتب السابقین. و قد أمره بالتأخّر فیها و الوقوف عندها تقریعا و توبیخا بها. و قوله: فما علیک. إلى قوله: الظافر. فی قوّه احتجاج على وجوب تأخّره بحسب هذه المرتبه بقیاس ضمیر من الشکل الأوّل، و المذکور فی قوّه صغراه و تقدیرها: فغلب المغلوب فی هذا الأمر الکبیر لیس علیک منه شیء، و تقدیر الکبرى: و کل من کان کذلک فیجب تأخّره عنه و اعتزاله إیّاه و إلّا لکان سفیها بدخوله فیما لا یعنیه.
الرابعه: قوله: و إنّک لذهّاب فی التیه
أى کثیر الذهاب و التوغّل فی الضلال عن معرفه الحقّ، کثیر العدول عن العدل و الصراط المستقیم فی حقّنا و عن الفرق بیننا و بینکم و معرفه فضائلنا و رذائلکم. ثمّ نبّهه على وجه الفرق بینهم و بین من عداهم من المهاجرین و الأنصار بذکر أفضلیّه بیته الّتی انفردوا بها دونهم فی الحیاه و بعد الممات بعد أن قرّر أنّ لکلّ من الصحابه فضلا لتثبت الأفضلیّه لبیته بالقیاس إلیهم، و ذلک قوله: ألا ترى. إلى قوله: الجناحین. فمن ذلک أفضلیّتهم فی الشهاده. و شهیدهم الّذی أشار إلیه عمّه حمزه بن عبد المطّلب- رضى اللّه عنه- و أشار إلى وجه أفضلیّته بالنسبه إلى سایر الشهداء من وجهین: أحدهما: قولىّ و هو تسمیته الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم سیّد الشهداء. و الثانی: فعلىّ و هو أنّ رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم خصّه بسبعین تکبیره عند صلاته علیه فی أربع عشره صلاه، و ذلک أنّه کان کلّما کبّر علیه خمسا حضرت جماعه اخرى من الملائکه فصلّى بهم علیه أیضا، و ذلک من خصائص حمزه- رضى اللّه عنه- و شرف بنى هاشم فی حیاتهم و موتهم، و منه أفضلیّتهم لما فعل ببعضهم من التمثیل به کما فعل بأخیه جعفر بن أبی طالب من قطع یدیه فسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم بذلک الاعتبار ذا الجناحین و الطیّار فی الجنّه. و من المنقول عن علىّ علیه السّلام من الشعر فیه و الفخر إلى معاویه:
و جعفر الّذی یضحى و یمسى یطیر مع الملائکه ابن امّی
و قد ذکرنا مقتلهما و قاتلهما من قبل. ثمّ أشار إلى أنّ له فضایل جمّه تعرفها فیه قلوب المؤمنین و لا تمجّها آذانهم، و إنّما ترک تعدیدها و ذکرها فی معرض الفخر بها لنهى اللّه سبحانه عن تزکیته لنفسه، و الذاکر یعنى نفسه. و إنّما نکّره و لم یأت بالألف و اللام و لم ینسبه إلى نفسه لأنّ فی ذلک صریح الدلاله على تزکیته لنفسه. و استعار لفظ المجّ لکراهیّه النفس لبعض ما تکرّر سماعه و إعراضها عنه فإنّها تصیر کالقاذف له من الاذن کما یقذف الماجّ الماء. و قوله: فدع عنک من مالت به الرمیّه. أى فدع عنک أصحاب الأغراض و المقاصد المفسده و لا تلتفت إلى ما یقولون فی حقّنا کعمرو بن العاص، و یحتمل أن تکون الإشاره إلیه بعینه على طریقه قولهم: إیّاک أعنى فاسمعى یا جاره. و استعار لفظ الرمیّه، و کنّى بها عن الامور الّتی تقصدها النفوس و ترمیها بقصودها، و نسب المیل إلیها لأنّها هى الجاذبه للإنسان و المایله الحامله على الفعل.
الخامسه: قوله: فإنّا صنایع ربّنا. إلى قوله. لنا.
و هذا تنبیه من وجه آخر على أفضلیّتهم من جهه اختصاص اللّه سبحانه إیّاهم بالنعمه الجزیله، و هى نعمه الرساله و ما یستلزمه من الشرف و الفضل حتّى کان الناس عیالا لهم فیها، إذ کانت تلک النعمه و لوازمها إنّما وصلت إلى الناس بواسطتهم و منهم. و أکرم بها فضیله و شرفا على سایر الخلق. و هذا التشبیه فی قوّه صغرى من الشکل الأوّل فی معرض الافتخار و الاحتجاج على أنّه لا ینبغی لأحد أن یعارضهم فی شرف أو یفاخرهم و ینافسهم فی فضیله، و تقدیر الکبرى: و کلّ من کان بصفه أنّه صنیعه ربّه بلا واسطه و الناس بعده صنایع له و بواسطته فلا ینبغی لأحد من الناس أن یعارضه فی فضل أو یجاریه فی شرف. و یجوّز بلفظ الصنائع فی الموضعین إطلاقا لاسم المقبول على القابل و الحالّ على المحلّ. ثمّ کثر ذلک المجاز، یقال: فلان صنیعه فلان. إذا اختصّه لموضع نعمته کقوله تعالى وَ اصْطَنَعْتُکَ لِنَفْسِی«». و قوله: لم یمنعنا، إلى قوله: هناک. امتنان فی معرض الافتخار أیضا. و عادىّ منسوب إلى عاد قوم هود، و النسبه إلیه کنایه عن القدم، و وجه الامتنان هو أنّهم لم یمتنعوا على فضلهم علیهم من خلطهم إیّاهم بأنفسهم فی مناکحتهم. و فعل الأکفاء منصوب على المصدر عن فعل مضمر. و قوله: هناک. کنایه عن مرتبه الکفاءه فی النکاح: أى و لستم أهلا لتلک المرتبه، و الواو فی و لستم للحال و العامل خلطناکم. ثمّ أشار إلى بیان ما ادّعاه من نفى کونهم أهلا لمخالطتهم بالمقابله بین حال بنى هاشم و حال بنى امیّه لیظهر من تلک المقابله رذیله کلّ واحد ممّن ذکر من بنى امیّه بإزاء فضیله کلّ واحد ممّن ذکر من بنى هاشم و بظهور فضائل الأفراد و رذائلهم یتبیّن نسبه البیتبین فی الشرف و الخسّه.
فذکر النبىّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و قابله بالمکذّب له من بنى امیّه و هو أبو جهل بن هشام. و إلیه الإشاره بقوله وَ ذَرْنِی وَ الْمُکَذِّبِینَ«» الآیه. قیل: نزلت فی المطلبین ببدر،- و کانوا عشره- و هم أبو جهل، و عتبه و شیبه ابنا ربیعه بن عبد شمس، و نبیه و منبّه ابنا الحجّاج، و أبو البخترى بن هشام، و النضر بن الحرث، و الحرث بن عامر، و ابىّ بن خلف، و زمعه بن الأسود. فذکر النبىّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم بفضیلته و هى النبوّه و ذکر أبا جهل برذیلته و هى تکذیبه. ثمّ أسد اللّه و هو حمزه بن عبد المطّلب وسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم بذلک لشجاعته و ذبّه عن دین اللّه. و قابله بأسد الأحلاف و هو أسد بن عبد العزّى و الأحلاف هم عبد مناف و زهره و أسد و تیم و الحرث بن فهر، و سمّوا الأحلاف لأنّ بنى قصىّ أرادوا أن ینتزعوا بعض ما کان بأیدى بنى عبد الدار من اللواء و النداوه و الحجابه و الرفاده و هى کلّ شیء کان فرضه قصىّ على قریش لطعام الحاجّ فی کلّ سنه و لم یکن لهم إلّا السقایه فتحالفوا على حربهم و أعدّوا للقتال ثمّ رجعوا عن ذلک ناکصین و أقرّوا ما کان بأیدیهم. ثمّ سیّدا- شیاب أهل الجنّه و هما الحسن و الحسین علیهما السّلام و قابلهما بصبیه النار. و قیل: هم صبیه عقبه بن أبى معیط حیث قال صلّى اللّه علیه و آله و سلّم له: لک و لهم النار.
و قیل: هم ولد مروان بن الحکم الّذین صاروا أهل النار عند البلوغ و کانوا صبیه حین أخبر علیه السّلام بذلک.
ثمّ خیر نساء العالمین و أراد فاطمه علیها السّلام و قابلها منهم بحمّاله الحطب و هى امّ جمیل بنت حرب عمّه معاویه کانت تحمل حزم الشوک فتنشرها باللیل فی طریق رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم لیعقره. و عن قتاده أنّها کانت تمشى بالنمیمه بین الناس فتلقى بینهم العداوه و تهیج نارها کما توقد النار بالحطب فاستعیر لفظ الحطب لتلک النمیمه للمشابهه المذکوره، و منه قولهم: فلان یحطب على فلان. إذا کان یغرى به. و قوله: فی کثیر. إلى قوله: و علیکم. أى و هذا الّذی ذکرناه من فضائلنا و رذائلکم قلیل فی کثیر ممّا لنا من الفضایل و علیکم من الرذائل. قال: علیکم من الرذائل. لأنّ الامور بثمراتها و ما تستلزمه و ثمره الرذائل على الشخص مضرّتها و تبعاتها. و قوله: فإسلامنا. إلى قوله: لا تدفع. إشاره إلى أنّ شرف بیته على غیره لا یختصّ به فی الإسلام فقط فإنّ شرف بنى هاشم فی الجاهلیّه أیضا مشهور و مکارم أخلاقهم لا یدفعها دافع، و قد نبّهنا على ذلک فی المقدّمات، و کما نقل عن جعفر بن أبی طالب لمّا أسلم قال له النبىّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: إنّ اللّه شکر لک ثلاث خصال فی الجاهلیّه فما هى قال: یا رسول اللّه ما زنیت قطّ لأنّى قلت فی نفسى: إنّ ما لا یرضاه العاقل لنفسه لا ینبغی أن یرضاه لغیره تکرّما، و لا کذبت کذبه قطّ تأثّما، و لا شربت الخمر قطّ تذمّما لأنّه یذهب العقول. و قوله: و کتاب اللّه یجمع لنا ما شذّ عنّا. أى یوجب لنا بصریح حکمه و یجمع لنا ما شذّ عنّا من هذا الأمر و سلبناه و هو شروع فی الاحتجاج على أولویّته من غیره بهذا الأمر من الخلفاء و من یطمع فی الخلافه و بیّن ذلک من وجوه: أحدها: قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللَّهِ«» و وجه الاستدلال أنّه علیه السّلام من أخصّ اولى الأرحام بالرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و کلّ من کان کذلک فهو أولى به و بالقیام مقامه مع کمال استعداده لذلک أمّا الصغرى فظاهره و أمّا الکبرى فللآیه. الثانی: قوله تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ«» الآیه. و وجه الاستدلال أنّه علیه السّلام کان أقرب الخلق إلى اتّباع رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و أوّل من آمن به و صدّقه و أفضل من أخذ عنه الحکمه و فصل الخطاب کما بیّناه. و کلّ من کان کذلک فهو أولى بخلافته و القیام مقامه فیما جاء به الآیه. فظهر إذن أنّه علیه السّلام أولى برسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و بمنصبه تاره من جهه قرابته و تاره من جهه طاعته و اتّباعه. الثالث: قوله: و لمّا احتجّ. إلى قوله: دعواهم. و هو إلزام لهم. و صورته أنّ الأنصار لمّا طلبوا الإمامه لأنفسهم و قالوا للمهاجرین: منّا أمیر و منکم أمیر. احتجّت المهاجرون علیهم برسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم و أنّهم من شجرته الّتی أشار إلى کون الأئمّه منها بما رووه عنه من قوله: الأئمّه من قریش. فسلّموا لهم ذلک و غلبوا علیهم. فلا یخلو ذلک الغلب إمّا أن یکون لکونهم أقرب إلیه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم من الأنصار أو لغیر ذلک، فإن کان الأوّل فأهل بیته أولى بذلک الحقّ لأنّهم أقرب إلیه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم ممّن عداهم و هم ثمره تلک الشجره و غایتها و إن کان بغیره فحجّه الأنصار قائمه و دعواهم للإمامه باق، إذ لم یکن ما رووه من الخبر دافعا لقولهم إلّا من جهه کونهم من قریش الموجب لهم لقربهم و بعد الأنصار عنه و قد فرض أنّ جهه الأقربیّه غیر معتبره هنا.
السادسه: جوابه عمّا ادّعاه بزعمه من حسده علیه السّلام لسایر الخلفاء و بغیه علیهم، و تقریر الجواب أنّه لا یخلو إمّا أن یکون هذه الدعوى صادقه أو کاذبه فإن کانت صادقه کما زعمت فلیست جنایتى علیک حتّى یکون عذرى عنها إلیک بل ذلک فضول منک و خوض فیما لا یعنیک. و أکّد ذلک بالمثل. و البیت لأبى ذویب و أوّله:
و عیّرها الواشون أنّى احبّها و تلک شکاه ظاهر عنک عارها
و یضرب لمن ینکر أمرا لیس منه فی شیء و لا یلزمه إنکاره.
السابعه: جوابه عمّا ادّعاه توبیخا له و غضّا من منصبه و هو قوده إلى البیعه للخلفاء قبله کما یقاد الجمل المخشوش
قهرا و کرها و إذلالا و هو وجه التشبیه فقلّب علیه السّلام تلک الدعوى و بیّن أنّ ذلک لیس ذمّا له بل مدحا، و لا فضیحه بل على مدّعیها، و أشار إلى کونها مدحا و لیست ذمّا بقوله: و ما على المسلم. إلى قوله: بیقینه. و وجه ذلک أنّه علیه السّلام لمّا کان ثابتا على الیقین التامّ فی علومه مبرّء عن الریب و الشبهه فی دینه فکان ذلک هو الکمال الحقّ و الفضل المبین الّذی لا نقصان معه لم یکن علیه غضاضه فی ظلم غیره له و لم یلحقه بذلک نقصان و لا ذمّ بل کان انفراده بالثبات على الدین الخالص مع الاجتماع على ظلمه فضیله تخصّه فیکون ذکرها مستلزما لمدحه و تعظیمه، و کذلک لیس فی ذکرها فضیحه علیه، إذ الفضیحه هی إظهار عیب الإنسان و نقصه و حیث لا عیب فلا فضیحه، و أمّا أنّها فضیحه لمعاویه فلظهور نقصانه فی عدم الفرق بین ما یمدح به و یذمّ. و قوله: و هذه حجّتى. إلى قوله: ذکرها. أى أنّ حجّتى هذه على کونى مظلوما فی أخذى لبیعه غیرى لست أنت المقصود بها. إذ لست فی هذا الأمر فی شیء فتخاطب فیه بل القصد بها غیرک، و أراد الّذین ظلموا و إنّما ذکرت لک منها بقدر ما دعت الحاجه إلیه و سنح لى أن أذکره فی جوابک.
الثامنه: جوابه عمّا ادّعاه علیه فی أمر عثمان
و تألیبه و خذلانه و ذلک قوله: فلک أن تجاب عن هذه لرحمک. مع إنکاره علیه ما سبق من الکلام فإنّ فیه إرشادا عظیما لوضع الکلام مواضعه، و تنبیه على أنّه لا یجوز أن یخوض الإنسان فیما لا یعنیه. و قرب رحمه منه لکونه من بنی امیّه. و حاصل جوابه أنّه عکّس علیه ما ادّعاه و بیّن أنّه هو الّذی کان عدوّه و خاذله فإنّه علیه السّلام کان ناصره و معرض نفسه للذبّ عنه فاستفهم عن أیّهما کان أعدى علیه و أهدى لمقاتله: أى لوجوه قتله و مواضعه من الآراء و الحیل استفهام توبیخ له، و أراد بقوله: أمن بذل نصرته. إلى قوله: فاستعقده و استکفّه. نفسه علیه السّلام، و ذلک أنّ عثمان کان متّهما له علیه السّلام بالدخول فی أمره. فلمّا اشتدّ علیه الحصار بعث إلیه و عرض نصرته. فقال: لا أحتاج إلى نصرتک لکن اقعد عنّى و کفّ شرّک. و ذکر نفسه بصفه بذل النصره لیظهر خروجه ممّا نسب إلیه من دمه و هو فی قوّه صغرى قیاس ضمیر تقدیرها: إنّی بذلت له نصرتی. و تقدیر کبراه: و کلّ من بذل لغیره نصرته فلیس من شأنه أن یتّهم بخذلانه و ینسب إلى المشارکه فی دمه، و أشار إلى دخول معاویه فی دمه بقوله: أمّن استنصره فتراخى عنه و بثّ المنون إلیه. و ذلک أنّه بعث حال حصاره إلى الشام مستصرخا بمعاویه فلم یزل یعده و یتراخى عنه لطمعه فی الأمر إلى أن قتل. و ذکر القدر و نسبه القتل إلیه هاهنا مناسب لتبرّیه من دمه، و الکلام أیضا فی قوّه صغرى قیاس ضمیر احتجّ به على أنّ معاویه هو الساعی فی قتله، و تقدیرها أنّک ممّن استنصره و استعان به فسوّفه و قعد عنه و بثّ المنون إلیه و عوّق و عنه و ثبّط عن نصرته، و أشار إلى ذلک بقوله: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ الآیه بعد أن ردّ دعواه عن نفسه بقوله: کلّا: أى کلّا لم أکن أنا أعدى علیه و لا أهدى لمقاتله منک. و تقدیر الکبرى: و کلّ من کان کذلک فهو أولى بالنسبه إلى دمه و السعی فی قتله. و الآیه نزلت فی جماعه من المنافقین کانوا یثبّطون أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلّم عنه.
التاسعه: قوله: و ما کنت اعتذر.
إشاره إلى ما عساه کان سببا لتوهّم کثیر من الجهّال أنّه دخل فی دمه و هو إنکاره علیه ما کان نقمه الناس علیه من أحداثه الّتی أشرنا إلیها قبل، و بیان أنّ ذلک لیس ممّا یعتذر عنه لأنّ ذلک کان إرشادا له و هدایه فإن یکن ذلک هو الّذی توهّمه ذنبا إلیه فلا منى علیه فربّ ملوم لا ذنب له و أنا ذلک الملوم، إذ لم یکن ما فعلته ذنبا، و قد یستفید الظنّه المتنصّح و أنا ذلک المتنصّح إذ لم یکن قصدى إلّا إصلاح ذات البین بقدر الاستطاعه.
و قوله: فربّ ملوم لا ذنب له. مثل لأکتم بن صیفى و یضرب لمن قد ظهر للناس منه أمر أنکروه علیه و هم لا یعرفون حجّته و عذره فیه، و کذلک قوله: و قد یستفید الظنّه المتنصّح یضرب مثلا لمن یبالغ فی النصیحه حتّى یتّهم أنّه غاش. و صدر البیت:
و کم سقت فی آثارکم من نصیحه و قد یستفید الظنّه المتنصّح
العاشره: جوابه عن وعیده له بالحرب الّتی کنّى بالسیف عنها.
فقوله: فلقد أضحکت بعد استعبار. کنایه عن أنّ وعیده لمثله علیه السّلام من أبلغ الأسباب المستلزمه لأبلغ عجب.
إذ کان الضحک بعد البکاء إنّما یکون لتعجّب بالغ غریب و هو کالمثل فی معرض الاستهزاء به. و قیل: معناه لقد أضحک من سمع منک هذا تعجّبا بعد بکائه على الدین لتصرّفک به. و قوله: متى ألفیت. إلى آخره. استفهام له عن وقت وجدانه لبنی عبد المطّلب بصفه النکول عن الحرب و الخوف من السیف استفهام إنکار لوقت وجدانهم کذلک فی معرض التنزیه لهم عن الجبن و الفشل. و قوله:
فلبّث قلیلا تلحق الهیجا حمل. مثل یضرب للوعید بالحرب. و أصله أنّ حمل بن بدر رجل من قشیر اغیر على إبل فی الجاهلیّه فی حرب داحس و أغار و استنقذها. و قال:
لبّث قلیلا یلحق الهیجا حمل ما أحسن الموت إذ الموت نزل
و قیل: أصله أنّ مالک بن زهیر توعّد حمل بن بدر. فقال حمل: لبّث قلیلا یلحق الهیجا حمل. البیت. فارسل مثلا. ثمّ أتى و قتل مالکا، فظفر أخوه قیس بن زهیر به و بأخیه حذیفه ففتلهما و قال:
شفیت النفس من حمل بن بدر و سیفى من حذیفه قد شفانى
و قوله: فسیطلبک. إلى آخر. شروع فی المقابله بالوعید بالسیر الشدید إلیه فی الجیش العظیم، و وصفه بأوصاف تزلزل أرکان العدوّ من شدّه الزحام و سطوح القتام. إلى آخره. و شدیدا و متسربلین نصبا على الحال. و سربال مفعول به لمتسربلین. و سربال الموت کنایه إمّا عن الدرع أو العدّه الّتی یلقون بها الموت و یخوضون فی غمراته، و إمّا عن ملابسهم من الثیاب أو الهیئات و الأحوال الّتی وطّنوا أنفسهم على القتل فیها کالأکفان لهم. و إنّما کان أحبّ اللقاء إلیهم لقاء ربّهم لکمال یقینهم بما هم علیه من الدین الحقّ و ثقتهم بالوعد الإلهىّ الصادق. و الذریّه البدریّه الّتی صحبتهم إشاره إلى أولاد من کان من المسلمین مع النبیّ صلّى اللّه علیه و آله و سلّم یوم بدر، و قد ذکرنا أنّ أخاه المقتول حنظله بن أبی سفیان و خاله الولید بن عتبه و جدّه عتبه بن ربیعه إذ هو أبو هند امّ معاویه، و کنّى بالظالمین فی الآیه عن معاویه و أصحابه. و جمیع ما ذکره من أوصاف الجحفل و ما یصحبه من الذرّیه البدریّه و السیوف الهاشمیّه و التذکیر بمواقعها بمن وقعت به من أهله و وعیده أن یصیبه منها ما أصابهم من أبلغ ما یعدّ به الخطیب للانفعال و الخوف. و باللّه التوفیق.
شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۴ ، صفحهى ۴۳۲
بازدیدها: ۳۰