نامه 28 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية جوابا، و هو من محاسن الكتب

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ- تَذْكُرُ فِيهِ اصْطِفَاءَ اللَّهِ مُحَمَّداً ص‏ لِدِينِهِ- وَ تَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ- فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً- إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا- وَ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا- فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ- أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ- وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ- فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ كُلُّهُ- وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ- وَ مَا أَنْتَ وَ الْفَاضِلَ وَ الْمَفْضُولَ وَ السَّائِسَ وَ الْمَسُوسَ- وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ- وَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ- وَ تَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ- هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا- وَ طَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا- أَ لَا تَرْبَعُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ- وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ- وَ تَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ- فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ وَ لَا ظَفَرُ الظَّافِرِ- وَ إِنَّكَ لَذَهَّابٌ فِي التِّيهِ رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ- أَ لَا تَرَى غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ- وَ لَكِنْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أُحَدِّثُ- أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ- حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ- وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ص بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ أَ وَ لَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ- حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ- قِيلَ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَ ذُو الْجَنَاحَيْنِ- وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ- لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ- وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ- فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ- فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا- لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا- وَ لَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا- فَنَكَحْنَا وَ أَنْكَحْنَا- فِعْلَ الْأَكْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاكَ- وَ أَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَ مِنَّا النَّبِيُّ وَ مِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ- وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْكُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ- وَ مِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَ مِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ- وَ مِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَ مِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ- فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَيْكُمْ- فَإِسْلَامُنَا مَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِيَّتُنَا لَا تُدْفَعُ- وَ كِتَابُ اللَّهِ يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا- وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ- وَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ- وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ- فَنَحْنُ مَرَّةً أَوْلَى بِالْقَرَابَةِ وَ تَارَةً أَوْلَى بِالطَّاعَةِ- وَ لَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ- يَوْمَ السَّقِيفَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ ص فَلَجُوا عَلَيْهِمْ- فَإِنْ يَكُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَكُمْ- وَ إِنْ يَكُنْ بِغَيْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ- وَ زَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَ عَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ- فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ- فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ-
وَ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا وَ قُلْتَ إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ- كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ- وَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ- وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ- وَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً- مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ وَ لَا مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ- وَ هَذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا- وَ لَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا- ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَ أَمْرِ عُثْمَانَ- فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ- فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ وَ أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَكَفَّهُ- أَمَّنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ- حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ- كَلَّا وَ اللَّهِ لَ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ- وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا- وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا وَ مَا كُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً- فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَ هِدَايَتِي لَهُ- فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ- وَ قَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْمُتَنَصِّحُ‏ – وَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ‏ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ وَ ذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي وَ لِأَصْحَابِي عِنْدَكَ إِلَّا السَّيْفُ- فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ- مَتَى أَلْفَيْتَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الْأَعْدَاءِ نَاكِلِينَ- وَ بِالسَّيْفِ مُخَوَّفِينَ- فَلَبِّثْ قَلِيلًا يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ‏ – فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ- وَ يَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ- وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ- شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ- مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ الْمَوْتِ- أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ- وَ قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ وَ سُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ- قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا- فِي أَخِيكَ وَ خَالِكَ وَ جَدِّكَ وَ أَهْلِكَ- وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ

أقول: هذا الكتاب ملتقط من كتاب ذكر السيّد منه فصلا سابقا، و هو قوله: فأراد قومنا إهلاك نبيّنا. و قد ذكرنا كتاب معاوية الّذي هو هذا الكتاب جواب له، و ذكرنا الكتاب له بأسره هناك و إن كان فيه اختلاف ألفاظ يسيرة بين الروايات.

اللغة
و خبأت الشي‏ء: سترته. و طفق: أخذ و جعل. و هجر: مدينة من بلاد البحرين. و النضال: المراماة. و المسدّد: الّذي يقوّم غيره لأمر و يهديه إليه. و اعتزلك: تباعد عنك. و الثلم: الكسر. و الطليق: من اطلق بعد الأسر. و الربع: الوقوف. و الظلع: العرج. و الذرع: بسط اليد. و التيه: الضلال و التحيّر في المفاوز. و الروّاغ: كثير الميل عن القصد. و الجمّة: الكثيرة. و مجّ الماء من فيه: ألقاه. و الرميّة. الصيد يرمى، و الصنيعة: الحسنة. و الفلج:الفوز. و الشكاة و الشكيّة و الشكاية: ظاهرة و الظاهر: الزائل و المخشوش: الّذي جعل في أنفه خشاش، و هو خشبة تدخل في أنف البعير ليقاد بها. و الغضاضة: الذلّة و المنقصة. و سنح: اعترض. و أعدى: أشدّ عدوانا. و المعّوقين: المثبّطين. و الظنّة: التهمة. و المنصّح: المبالغ في النصيحة. و الاستعبار: البكاء. و ألفيت كذا: وجدته. و النكول: التأخّر جبنا. و الإرقال: ضرب من السير السريع. و الجحفل: الجيش العظيم. و الساطع: المرتفع. و القتام: الغبار. و السرابيل: القمصان. و النصال: السيوف.

المعنى
و قد أجاب عليه السّلام عن كلّ فصل من كتاب معاوية بفصل. و الكتاب أفصح ما اختار السيّد- رحمه اللّه- من الكتب و فيه نكت:

الاولى: أنّه استعار لفظ الخبأ
لما ستره الدهر في وجود معاوية من العجب ثمّ فسّر العجب فقال: إذ طفقت. إلى قوله: النضال. و وجه العجب هنا أنّه أخبر أهل بيت النبيّ بحال النبيّ و ما أنعم اللّه به عليه من اصطفائه له لدينه و تأييده بأصحابه مع علمهم البالغ بحاله و كونهم أولى بالإخبار عنها. و ضرب له في ذلك مثلين: أحدهما: قوله: كنا قل التمر إلى هجر. و أصل هذا المثل أنّ رجلا قدم من هجر إلى البصرة بمال اشترى به شيئا للربح فلم يجد فيها أكسد من التمر فاشترى بماله تمرا و حمله إلى هجر و ادّخره في البيوت ينتظر به السعر فلم يزدد إلّا رخصا حتّى فسد جميعه و تلف ماله فضرب مثلا لمن يحمل الشي‏ء إلى معدنه لينتفع به فيه، و وجه مطابقة المثل هنا أنّ معاوية حمل الخبر بما أخبر به إلى معدنه الّذي هو أولى به منه كحامل التمر إلى معدنه. و هجر معروفة بكثرة التمر حتّى أنّه ربما يبلغ خمسين جلّة بدينار- و وزن الجلّة مائة رطل، فذلك خمسة ألف رطل- و لم يسمع مثل ذلك في بلاد اخرى. و هجر اسم قد يذكّر لقصد الموضع و لذلك صرفها شاعرهم حيث يقول:
و خطّها الخطّ إرقالا و قال قلى: اوّل لا نادما أهجر قرى هجر
الثانية: أنّه شبّه بداعى مسدّده إلى النضال، و وجه التشبيه هنا أيضا حمل الخبر إلى من هو أولى به منه كما يدعو الإنسان مسدّده و استاده في الرمى إلى المراماة، و مسدّده أولى بأن يدعوه إلى ذلك.
الثانية: أنّ معاوية لمّا اقتصّ حال أصحابه و ذكر الأفضل فالأفضل منهم
معرّضا بأفضليّتهم عليه مع عدم مشاركتهم له في الفضل أجابه بأنّ ذلك التفضيل و الترتيب إمّا أن يتمّ أولا. فإن تمّ فهو بمعزل عنك. إذ ليس لك نصيب و لا شرك في درجاتهم و مراتبهم و سابقتهم في الإسلام فيكون إذن خوضك فيه خوضا فيما لا يعنيك، و إن نقص فليس عليك من نقصانه عار و لا يلحقك منه و هن. فخوضك فيه أيضا فضول. و قوله: و ما أنت. إلى و ما للطلقاء. استفهام على سبيل الاستحقار و الإنكار عليه أن يخوض على صغر شأنه و حقارته في هذه الامور الكبار. و المنقول أنّ أبا سفيان كان من الطلقاء فكذلك معاوية فهو طليق و ابن طليق. و قوله: هيهات. استبعاد لأهليّته لمثل هذا الحكم و ترتيب طبقات المهاجرين في الفضل. ثمّ ضرب له في حكميه ذلك مثلين آخرين: أحدهما: قوله: لقد حنّ قدح ليس منها، و أصله أنّ أحد قداح الميسر.
– إذ كان ليس من جوهر باقى القداح ثمّ أجاله المفيض- خرج له صوت تخالف أصواتها فيعرف به أنّه ليس من جملتها فضرب مثلا لمن يمدح قوما و يطريهم و يفتخر بهم مع أنّه ليس منهم، و تمثّل به عمر حين قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط: أقبل من دون قريش. فقال عمر: حنّ قدح ليس منها.

الثاني: قوله: و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها. يضرب لمن يحكم على قوم و فيهم و هو من أراذلهم، و ليس للحكم بأهل بل هم أولى منه. إذ شأن الأشراف أن يكونوا حكّاما. و مراده أنّ معاوية ليس من القوم الّذين حكم بتفضيل بعضهم‏ على بعض في شي‏ء، و ليس أهلا للحكم فيهم.

الثالثة: قوله: ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك.
استفهام على سبيل التنبيه له على قصوره عن درجة السابقين و التقريع له على ادّعائه لها: أى أنّه فليترفّق بنفسك و لا يكلّفها عليه و ليقف بها عن مجاراة أهل الفضل حال ظلعك. و استعار لفظ الظلع لقصوره، و وجه المشابهة قصوره عن لحوق رتبة السابقين في الفضل كقصور الظالع عن شأو الضليع، و كذلك قوله: و تعرف قصور ذرعك، و قصور ذرعه كناية عن قصور قوّته و عجزه عن تناول تلك المرتبة. و حيث أخّره القدر إشارة إلى مرتبته النازلة الّتي جرى القدر بها أن تكون نازلة عن مراتب السابقين. و قد أمره بالتأخّر فيها و الوقوف عندها تقريعا و توبيخا بها. و قوله: فما عليك. إلى قوله: الظافر. في قوّة احتجاج على وجوب تأخّره بحسب هذه المرتبة بقياس ضمير من الشكل الأوّل، و المذكور في قوّة صغراه و تقديرها: فغلب المغلوب في هذا الأمر الكبير ليس عليك منه شي‏ء، و تقدير الكبرى: و كل من كان كذلك فيجب تأخّره عنه و اعتزاله إيّاه و إلّا لكان سفيها بدخوله فيما لا يعنيه.

الرابعة: قوله: و إنّك لذهّاب في التيه
أى كثير الذهاب و التوغّل في الضلال عن معرفة الحقّ، كثير العدول عن العدل و الصراط المستقيم في حقّنا و عن الفرق بيننا و بينكم و معرفة فضائلنا و رذائلكم. ثمّ نبّهه على وجه الفرق بينهم و بين من عداهم من المهاجرين و الأنصار بذكر أفضليّة بيته الّتي انفردوا بها دونهم في الحياة و بعد الممات بعد أن قرّر أنّ لكلّ من الصحابة فضلا لتثبت الأفضليّة لبيته بالقياس إليهم، و ذلك قوله: ألا ترى. إلى قوله: الجناحين. فمن ذلك أفضليّتهم في الشهادة. و شهيدهم الّذي أشار إليه عمّه حمزة بن عبد المطّلب- رضى اللّه عنه- و أشار إلى وجه أفضليّته بالنسبة إلى ساير الشهداء من وجهين: أحدهما: قولىّ و هو تسميته الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سيّد الشهداء. و الثاني: فعلىّ و هو أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خصّه بسبعين تكبيرة عند صلاته‏ عليه في أربع عشرة صلاة، و ذلك أنّه كان كلّما كبّر عليه خمسا حضرت جماعة اخرى من الملائكة فصلّى بهم عليه أيضا، و ذلك من خصائص حمزة- رضى اللّه عنه- و شرف بنى هاشم في حياتهم و موتهم، و منه أفضليّتهم لما فعل ببعضهم من التمثيل به كما فعل بأخيه جعفر بن أبي طالب من قطع يديه فسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك الاعتبار ذا الجناحين و الطيّار في الجنّة. و من المنقول عن علىّ عليه السّلام من الشعر فيه و الفخر إلى معاوية:
و جعفر الّذي يضحى و يمسى يطير مع الملائكة ابن امّي‏

و قد ذكرنا مقتلهما و قاتلهما من قبل. ثمّ أشار إلى أنّ له فضايل جمّة تعرفها فيه قلوب المؤمنين و لا تمجّها آذانهم، و إنّما ترك تعديدها و ذكرها في معرض الفخر بها لنهى اللّه سبحانه عن تزكيته لنفسه، و الذاكر يعنى نفسه. و إنّما نكّره و لم يأت بالألف و اللام و لم ينسبه إلى نفسه لأنّ في ذلك صريح الدلالة على تزكيته لنفسه. و استعار لفظ المجّ لكراهيّة النفس لبعض ما تكرّر سماعه و إعراضها عنه فإنّها تصير كالقاذف له من الاذن كما يقذف الماجّ الماء. و قوله: فدع عنك من مالت به الرميّة. أى فدع عنك أصحاب الأغراض و المقاصد المفسدة و لا تلتفت إلى ما يقولون في حقّنا كعمرو بن العاص، و يحتمل أن تكون الإشارة إليه بعينه على طريقة قولهم: إيّاك أعنى فاسمعى يا جارة. و استعار لفظ الرميّة، و كنّى بها عن الامور الّتي تقصدها النفوس و ترميها بقصودها، و نسب الميل إليها لأنّها هى الجاذبة للإنسان و المايلة الحاملة على الفعل.

الخامسة: قوله: فإنّا صنايع ربّنا. إلى قوله. لنا.
و هذا تنبيه من وجه آخر على أفضليّتهم من جهة اختصاص اللّه سبحانه إيّاهم بالنعمة الجزيلة، و هى نعمة الرسالة و ما يستلزمه من الشرف و الفضل حتّى كان الناس عيالا لهم فيها، إذ كانت تلك النعمة و لوازمها إنّما وصلت إلى الناس بواسطتهم و منهم. و أكرم بها فضيلة و شرفا على ساير الخلق. و هذا التشبيه في قوّة صغرى من‏ الشكل الأوّل في معرض الافتخار و الاحتجاج على أنّه لا ينبغي لأحد أن يعارضهم في شرف أو يفاخرهم و ينافسهم في فضيلة، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان بصفة أنّه صنيعة ربّه بلا واسطة و الناس بعده صنايع له و بواسطته فلا ينبغي لأحد من الناس أن يعارضه في فضل أو يجاريه في شرف. و يجوّز بلفظ الصنائع في الموضعين إطلاقا لاسم المقبول على القابل و الحالّ على المحلّ. ثمّ كثر ذلك المجاز، يقال: فلان صنيعة فلان. إذا اختصّه لموضع نعمته كقوله تعالى وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي«». و قوله: لم يمنعنا، إلى قوله: هناك. امتنان في معرض الافتخار أيضا. و عادىّ منسوب إلى عاد قوم هود، و النسبة إليه كناية عن القدم، و وجه الامتنان هو أنّهم لم يمتنعوا على فضلهم عليهم من خلطهم إيّاهم بأنفسهم في مناكحتهم. و فعل الأكفاء منصوب على المصدر عن فعل مضمر. و قوله: هناك. كناية عن مرتبة الكفاءة في النكاح: أى و لستم أهلا لتلك المرتبة، و الواو في و لستم للحال و العامل خلطناكم. ثمّ أشار إلى بيان ما ادّعاه من نفى كونهم أهلا لمخالطتهم بالمقابلة بين حال بنى هاشم و حال بنى اميّة ليظهر من تلك المقابلة رذيلة كلّ واحد ممّن ذكر من بنى اميّة بإزاء فضيلة كلّ واحد ممّن ذكر من بنى هاشم و بظهور فضائل الأفراد و رذائلهم يتبيّن نسبة البيتبين في الشرف و الخسّة.

فذكر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قابله بالمكذّب له من بنى اميّة و هو أبو جهل بن هشام. و إليه الإشارة بقوله وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ«» الآية. قيل: نزلت في المطلبين ببدر،- و كانوا عشرة- و هم أبو جهل، و عتبة و شيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، و نبيه و منبّه ابنا الحجّاج، و أبو البخترى بن هشام، و النضر بن الحرث، و الحرث بن عامر، و ابىّ بن خلف، و زمعة بن الأسود. فذكر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بفضيلته و هى النبوّة و ذكر أبا جهل برذيلته و هى تكذيبه. ثمّ أسد اللّه و هو حمزة بن عبد المطّلب وسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك لشجاعته و ذبّه عن دين اللّه. و قابله بأسد الأحلاف و هو أسد بن عبد العزّى و الأحلاف هم عبد مناف و زهرة و أسد و تيم و الحرث بن فهر، و سمّوا الأحلاف لأنّ بنى قصىّ أرادوا أن ينتزعوا بعض ما كان بأيدى بنى عبد الدار من اللواء و النداوة و الحجابة و الرفادة و هى كلّ شي‏ء كان فرضه قصىّ على قريش لطعام الحاجّ في كلّ سنة و لم يكن لهم إلّا السقاية فتحالفوا على حربهم و أعدّوا للقتال ثمّ رجعوا عن ذلك ناكصين و أقرّوا ما كان بأيديهم. ثمّ سيّدا- شياب أهل الجنّة و هما الحسن و الحسين عليهما السّلام و قابلهما بصبية النار. و قيل: هم صبية عقبة بن أبى معيط حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: لك و لهم النار.

و قيل: هم ولد مروان بن الحكم الّذين صاروا أهل النار عند البلوغ و كانوا صبية حين أخبر عليه السّلام بذلك.
ثمّ خير نساء العالمين و أراد فاطمة عليها السّلام و قابلها منهم بحمّالة الحطب و هى امّ جميل بنت حرب عمّة معاوية كانت تحمل حزم الشوك فتنشرها بالليل في طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليعقره. و عن قتادة أنّها كانت تمشى بالنميمة بين الناس فتلقى بينهم العداوة و تهيج نارها كما توقد النار بالحطب فاستعير لفظ الحطب لتلك النميمة للمشابهة المذكورة، و منه قولهم: فلان يحطب على فلان. إذا كان يغرى به. و قوله: في كثير. إلى قوله: و عليكم. أى و هذا الّذي ذكرناه من فضائلنا و رذائلكم قليل في كثير ممّا لنا من الفضايل و عليكم من الرذائل. قال: عليكم من الرذائل. لأنّ الامور بثمراتها و ما تستلزمه و ثمرة الرذائل على الشخص مضرّتها و تبعاتها. و قوله: فإسلامنا. إلى قوله: لا تدفع. إشارة إلى أنّ شرف بيته على غيره لا يختصّ به في الإسلام فقط فإنّ شرف بنى هاشم في الجاهليّة أيضا مشهور و مكارم أخلاقهم لا يدفعها دافع، و قد نبّهنا على ذلك في المقدّمات، و كما نقل عن جعفر بن أبي طالب لمّا أسلم قال له النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه شكر لك ثلاث خصال في الجاهليّة فما هى قال: يا رسول اللّه ما زنيت قطّ لأنّى قلت في نفسى: إنّ ما لا يرضاه العاقل لنفسه لا ينبغي أن يرضاه‏ لغيره تكرّما، و لا كذبت كذبة قطّ تأثّما، و لا شربت الخمر قطّ تذمّما لأنّه يذهب العقول. و قوله: و كتاب اللّه يجمع لنا ما شذّ عنّا. أى يوجب لنا بصريح حكمه و يجمع لنا ما شذّ عنّا من هذا الأمر و سلبناه و هو شروع في الاحتجاج على أولويّته من غيره بهذا الأمر من الخلفاء و من يطمع في الخلافة و بيّن ذلك من وجوه: أحدها: قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ«» و وجه الاستدلال أنّه عليه السّلام من أخصّ اولى الأرحام بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كلّ من كان كذلك فهو أولى به و بالقيام مقامه مع كمال استعداده لذلك أمّا الصغرى فظاهرة و أمّا الكبرى فللآية. الثاني: قوله تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ«» الآية. و وجه الاستدلال أنّه عليه السّلام كان أقرب الخلق إلى اتّباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أوّل من آمن به و صدّقه و أفضل من أخذ عنه الحكمة و فصل الخطاب كما بيّناه. و كلّ من كان كذلك فهو أولى بخلافته و القيام مقامه فيما جاء به الآية. فظهر إذن أنّه عليه السّلام أولى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بمنصبه تارة من جهة قرابته و تارة من جهة طاعته و اتّباعه. الثالث: قوله: و لمّا احتجّ. إلى قوله: دعواهم. و هو إلزام لهم. و صورته أنّ الأنصار لمّا طلبوا الإمامة لأنفسهم و قالوا للمهاجرين: منّا أمير و منكم أمير. احتجّت المهاجرون عليهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّهم من شجرته الّتي أشار إلى كون الأئمّة منها بما رووه عنه من قوله: الأئمّة من قريش. فسلّموا لهم ذلك و غلبوا عليهم. فلا يخلو ذلك الغلب إمّا أن يكون لكونهم أقرب إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأنصار أو لغير ذلك، فإن كان الأوّل فأهل بيته أولى بذلك الحقّ لأنّهم أقرب إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّن عداهم و هم ثمرة تلك الشجرة و غايتها و إن كان بغيره فحجّة الأنصار قائمة و دعواهم للإمامة باق، إذ لم يكن ما رووه من‏ الخبر دافعا لقولهم إلّا من جهة كونهم من قريش الموجب لهم لقربهم و بعد الأنصار عنه و قد فرض أنّ جهة الأقربيّة غير معتبرة هنا.

السادسة: جوابه عمّا ادّعاه بزعمه من حسده عليه السّلام لساير الخلفاء و بغيه عليهم، و تقرير الجواب أنّه لا يخلو إمّا أن يكون هذه الدعوى صادقة أو كاذبة فإن كانت صادقة كما زعمت فليست جنايتى عليك حتّى يكون عذرى عنها إليك بل ذلك فضول منك و خوض فيما لا يعنيك. و أكّد ذلك بالمثل. و البيت لأبى ذويب و أوّله:

و عيّرها الواشون أنّى احبّها               و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و يضرب لمن ينكر أمرا ليس منه في شي‏ء و لا يلزمه إنكاره.

السابعة: جوابه عمّا ادّعاه توبيخا له و غضّا من منصبه و هو قوده إلى البيعة للخلفاء قبله كما يقاد الجمل المخشوش
قهرا و كرها و إذلالا و هو وجه التشبيه فقلّب عليه السّلام تلك الدعوى و بيّن أنّ ذلك ليس ذمّا له بل مدحا، و لا فضيحة بل على مدّعيها، و أشار إلى كونها مدحا و ليست ذمّا بقوله: و ما على المسلم. إلى قوله: بيقينه. و وجه ذلك أنّه عليه السّلام لمّا كان ثابتا على اليقين التامّ في علومه مبرّء عن الريب و الشبهة في دينه فكان ذلك هو الكمال الحقّ و الفضل المبين الّذي لا نقصان معه لم يكن عليه غضاضة في ظلم غيره له و لم يلحقه بذلك نقصان و لا ذمّ بل كان انفراده بالثبات على الدين الخالص مع الاجتماع على ظلمه فضيلة تخصّه فيكون ذكرها مستلزما لمدحه و تعظيمه، و كذلك ليس في ذكرها فضيحة عليه، إذ الفضيحة هي إظهار عيب الإنسان و نقصه و حيث لا عيب فلا فضيحة، و أمّا أنّها فضيحة لمعاوية فلظهور نقصانه في عدم الفرق بين ما يمدح به و يذمّ. و قوله: و هذه حجّتى. إلى قوله: ذكرها. أى أنّ حجّتى هذه على كونى مظلوما في أخذى لبيعة غيرى لست أنت المقصود بها. إذ لست في هذا الأمر في شي‏ء فتخاطب فيه بل القصد بها غيرك، و أراد الّذين ظلموا و إنّما ذكرت لك منها بقدر ما دعت الحاجة إليه و سنح لى أن أذكره في جوابك.

الثامنة: جوابه عمّا ادّعاه عليه في أمر عثمان
و تأليبه و خذلانه و ذلك قوله: فلك أن تجاب عن هذه لرحمك. مع إنكاره عليه ما سبق من الكلام فإنّ فيه إرشادا عظيما لوضع الكلام مواضعه، و تنبيه على أنّه لا يجوز أن يخوض الإنسان فيما لا يعنيه. و قرب رحمه منه لكونه من بني اميّة. و حاصل جوابه أنّه عكّس عليه ما ادّعاه و بيّن أنّه هو الّذي كان عدوّه و خاذله فإنّه عليه السّلام كان ناصره و معرض نفسه للذبّ عنه فاستفهم عن أيّهما كان أعدى عليه و أهدى لمقاتله: أى لوجوه قتله و مواضعه من الآراء و الحيل استفهام توبيخ له، و أراد بقوله: أمن بذل نصرته. إلى قوله: فاستعقده و استكفّه. نفسه عليه السّلام، و ذلك أنّ عثمان كان متّهما له عليه السّلام بالدخول في أمره. فلمّا اشتدّ عليه الحصار بعث إليه و عرض نصرته. فقال: لا أحتاج إلى نصرتك لكن اقعد عنّى و كفّ شرّك. و ذكر نفسه بصفة بذل النصرة ليظهر خروجه ممّا نسب إليه من دمه و هو في قوّة صغرى قياس ضمير تقديرها: إنّي بذلت له نصرتي. و تقدير كبراه: و كلّ من بذل لغيره نصرته فليس من شأنه أن يتّهم بخذلانه و ينسب إلى المشاركة في دمه، و أشار إلى دخول معاوية في دمه بقوله: أمّن استنصره فتراخى عنه و بثّ المنون إليه. و ذلك أنّه بعث حال حصاره إلى الشام مستصرخا بمعاوية فلم يزل يعده و يتراخى عنه لطمعه في الأمر إلى أن قتل. و ذكر القدر و نسبة القتل إليه هاهنا مناسب لتبرّيه من دمه، و الكلام أيضا في قوّة صغرى قياس ضمير احتجّ به على أنّ معاوية هو الساعي في قتله، و تقديرها أنّك ممّن استنصره و استعان به فسوّفه و قعد عنه و بثّ المنون إليه و عوّق و عنه و ثبّط عن نصرته، و أشار إلى ذلك بقوله: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ الآية بعد أن ردّ دعواه عن نفسه بقوله: كلّا: أى كلّا لم أكن أنا أعدى عليه و لا أهدى لمقاتله منك. و تقدير الكبرى: و كلّ من كان كذلك فهو أولى بالنسبة إلى دمه و السعي في قتله. و الآية نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يثبّطون أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنه.

التاسعة: قوله: و ما كنت اعتذر.
إشارة إلى ما عساه كان سببا لتوهّم كثير من الجهّال أنّه دخل في دمه و هو إنكاره عليه ما كان نقمه الناس عليه من أحداثه الّتي‏ أشرنا إليها قبل، و بيان أنّ ذلك ليس ممّا يعتذر عنه لأنّ ذلك كان إرشادا له و هداية فإن يكن ذلك هو الّذي توهّمه ذنبا إليه فلا منى عليه فربّ ملوم لا ذنب له و أنا ذلك الملوم، إذ لم يكن ما فعلته ذنبا، و قد يستفيد الظنّة المتنصّح و أنا ذلك المتنصّح إذ لم يكن قصدى إلّا إصلاح ذات البين بقدر الاستطاعة.
و قوله: فربّ ملوم لا ذنب له. مثل لأكتم بن صيفى و يضرب لمن قد ظهر للناس منه أمر أنكروه عليه و هم لا يعرفون حجّته و عذره فيه، و كذلك قوله: و قد يستفيد الظنّة المتنصّح يضرب مثلا لمن يبالغ في النصيحة حتّى يتّهم أنّه غاش. و صدر البيت:
و كم سقت في آثاركم من نصيحة          و قد يستفيد الظنّة المتنصّح‏

العاشرة: جوابه عن وعيده له بالحرب الّتي كنّى بالسيف عنها.
فقوله: فلقد أضحكت بعد استعبار. كناية عن أنّ وعيده لمثله عليه السّلام من أبلغ الأسباب المستلزمة لأبلغ عجب.
إذ كان الضحك بعد البكاء إنّما يكون لتعجّب بالغ غريب و هو كالمثل في معرض الاستهزاء به. و قيل: معناه لقد أضحك من سمع منك هذا تعجّبا بعد بكائه على الدين لتصرّفك به. و قوله: متى ألفيت. إلى آخره. استفهام له عن وقت وجدانه لبني عبد المطّلب بصفة النكول عن الحرب و الخوف من السيف استفهام إنكار لوقت وجدانهم كذلك في معرض التنزيه لهم عن الجبن و الفشل. و قوله:

فلبّث قليلا تلحق الهيجا حمل.  مثل يضرب للوعيد بالحرب. و أصله أنّ حمل بن بدر رجل من قشير اغير على إبل في الجاهليّة في حرب داحس و أغار و استنقذها. و قال:
لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل              ما أحسن الموت إذ الموت نزل‏

و قيل: أصله أنّ مالك بن زهير توعّد حمل بن بدر. فقال حمل: لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل. البيت. فارسل مثلا. ثمّ أتى و قتل مالكا، فظفر أخوه قيس بن زهير به و بأخيه حذيفة ففتلهما و قال:
شفيت النفس من حمل بن بدر              و سيفى من حذيفة قد شفانى‏

و قوله: فسيطلبك. إلى آخر. شروع في المقابلة بالوعيد بالسير الشديد إليه في الجيش العظيم، و وصفه بأوصاف تزلزل أركان العدوّ من شدّة الزحام و سطوح القتام. إلى آخره. و شديدا و متسربلين نصبا على الحال. و سربال مفعول به لمتسربلين. و سربال الموت كناية إمّا عن الدرع أو العدّة الّتي يلقون بها الموت و يخوضون في غمراته، و إمّا عن ملابسهم من الثياب أو الهيئات و الأحوال الّتي وطّنوا أنفسهم على القتل فيها كالأكفان لهم. و إنّما كان أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم لكمال يقينهم بما هم عليه من الدين الحقّ و ثقتهم بالوعد الإلهىّ الصادق. و الذريّة البدريّة الّتي صحبتهم إشارة إلى أولاد من كان من المسلمين مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر، و قد ذكرنا أنّ أخاه المقتول حنظلة بن أبي سفيان و خاله الوليد بن عتبة و جدّه عتبة بن ربيعة إذ هو أبو هند امّ معاوية، و كنّى بالظالمين في الآية عن معاوية و أصحابه. و جميع ما ذكره من أوصاف الجحفل و ما يصحبه من الذرّية البدريّة و السيوف الهاشميّة و التذكير بمواقعها بمن وقعت به من أهله و وعيده أن يصيبه منها ما أصابهم من أبلغ ما يعدّ به الخطيب للانفعال و الخوف. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 432

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.