نامه27 شرح ابن میثم بحرانی

و من عهد له عليه السّلام إلى محمد بن أبى بكر، رضى اللّه عنه حين قلده مصر

القسم الأول
فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ- وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ- حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ- وَ لَا يَيْأَسَ‏ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ- فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ- عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَ الْكَبِيرَةِ وَ الظَّاهِرَةِ وَ الْمَسْتُورَةِ- فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَ إِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَ آجِلِ الْآخِرَةِ- فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ- وَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ- سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ- فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ- وَ أَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ- ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَ الْمَتْجَرِ الرَّابِحِ- أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ- وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ- لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لَا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ- فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ الْمَوْتَ وَ قُرْبَهُ- وَ أَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ- فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَ خَطْبٍ جَلِيلٍ- بِخَيْرٍ لَا يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً- أَوْ شَرٍّ لَا يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً- فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا- وَ مَنْ أَقْرَبُ إِلَى النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا- وَ أَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ- إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وَ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ- وَ هُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ- الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ وَ الدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ- فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ عَذَابُهَا جَدِيدٌ- دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ- وَ لَا تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ وَ لَا تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ- وَ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللَّهِ- وَ أَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا- فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ- عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ- وَ إِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لِلَّهِ- وَ اعْلَمْ يَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ- أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ- فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ- وَ أَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ- وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَّا سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ- وَ لَا تُسْخِطِ اللَّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ- فَإِنَّ فِي اللَّهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ- وَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ- صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا- وَ لَا تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ- وَ لَا تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لِاشْتِغَالٍ- وَ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْ‏ءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلَاتِكَ


اللغة
أقول: قلّده الأمر: جعله في عنقه كالقلادة. و اللفظ مستعار. و حظى من كذا: أي صار له منه حظوة و هى المنزلة و الحظّ الوافر. و الجبّار: البالغ في التكبّر. و الطرداء: جمع طريد و هو ما يطرد من صيد. و الخلف: العوض.

المعنى
و هذا الفصل من العهد ملتقط من كلام طويل و مداره على امور:

الأوّل: وصيّته محمّدا- رضى اللّه عنه- بمكارم الأخلاق في حقّ رعيّته، و ذكر أوامر: أحدها: أمره بخفض الجناح. قيل: و أصله أنّ الطائر يمدّ جناحيه و يخفضهما ليجمع فراخه تحتها إيهاما للشفقّة عليها. فاستعمل كناية عن التواضع الكائن عن‏ الرحمة و الشفقّة كما قال تعالى وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ«» و قد بيّنا أنّ التواضع ملكة تحت فضيلة العفّة.

الثاني: أمره بإلانة جانبه كناية عن الرفق في الأقوال و الأفعال و عدم الغلظة عليهم و الجفاوة في حقّهم في كلّ الأحوال. و هو قريب من التواضع، و من لوازمه.

الثالث: أمره أن يبسط لهم وجهه و هو كناية عن لقائهم بالبشاشة و الطلاقة من غير تقطيب و عبوس. و هو من لوازم التواضع أيضا.

الرابع: أن يواسى بينهم في النظرة و اللحظة و هى أخفّ من النظرة، و هو كناية عن الاستقصاء في العدل بينهم في جليل الامور و حقيرها و قليلها و كثيرها. و قوله: حتّى لا يطمع. إلى قوله: عليهم. بيان وجه الحكمة في أمره بالمساواة بينهم في اللحظة و النظرة على حقارتهما.
فإن قلت: فلم خصّص العظماء بالطمع في الحيف و الضعفاء باليأس من العدل.
قلت: لأنّ العادة أنّ الولاة و الأمراء إنّما يخصّصون بالنظرة و الإقبال بالبشاشة الأغنياء و العظماء دون الضعفاء و ذلك التخصيص مستلزم لطمعهم أن يحاف لهم، و الإعراض عن الضعفاء مستلزم لليأس من العدل في حقّهم. و الضمير في قوله: عليهم. يرجع إلى العظماء.

الثاني: الوعيد للعباد بسؤال اللّه لهم عن صغير أعمالهم و كبيرها و ظاهرها و مستورها، و الإعلام بأنّهم مظنّة عذابه لبدأهم بمعصيته و البادى أظلم. قال الراوندى- رحمه اللّه- : المراد بأظلم الظالم. قلت: و يحتمل أن يكون قد سمىّ ما يجازيهم به من العدل ظلما مجازا لمشابهة الظلم في الكميّة و الصورة كما سمىّ في القصاص اعتداء في قوله فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ«» ثمّ نسب إليه فعلهم فصدق إذن أفعل التفضيل باعتبار كونهم بدءوا بالمعصية و كذلك الإعلام بأنّه تعالى مظنّة الكرم بالعفو عنهم.

الثالث: إعلامهم بما ينبغي لهم من استعمال الدنيا و التنبيه على كيفيّة استعمالها الواجب بوصف حال المتّقين فيها ليقتدوا بحالهم و هي ما أخبر عنه بقوله: ذهبوا بعاجل الدنيا. إلى قوله: و لا ينقص لهم نصيب من لذّة، و خلاصة حالهم المذكورة أنّهم أكثر فايدة من أهل الدنيا. إذ حصلوا من اللذّة في دنياهم على أفضل ما حصل لأهلها من لذّاتهم بها مع زيادة الفوز الأكبر في الآخرة بما وعد فيها المتّقون، و اعلم أنّ الّذي يشير إليه من عاجل الدنيا في حق المتّقين الّذين شاركوا أهلها فيها و حظوا به منها ممّا حظى به المترفون و أخذه الجبابرة المتكبّرون هو ما حصلوا عليه من لذّات الدنيا المباحة لهم بقدر ضرورتهم و حاجتهم كما روى عنه في صفتهم بلفظ آخر: شاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباحهم في الدنيا ما كفاهم و به أغناهم قال اللّه عزّ اسمه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ«» الآية سكنوا من الدنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما اكلت شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيّبات ما يأكلون و شربوا من طيّبات ما يشربون و لبسوا من أفضل ما يلبسون و تزوّجوا من أفضل ما يتزوّجون و ركبوا من أفضل ما يركبون أصابوا لذّة الدنيا مع أهل الدنيا و هم فيها جيران اللّه يتمنّون عليه فيعطيهم ما يتمنّون لا يردّ لهم دعوة و لا ينقص لهم نصيبا من لذّة. فأمّا وجه كونهم أكلوها على أفضل ما اكلت و سكنوها بأفضل ما سكنت فلأنّهم استعملوها على الوجه الّذي ينبغي لهم و قد امروا باستعمالها عليه. و ظاهر أنّ ذلك الوجه أفضل الوجوه، و أمّا أنّهم شاركوا أهل الدنيا في طيّباتها فظاهر، بل نقول: إنّ لذّتهم بما استعملوا منها أتمّ و أكمل، و ذلك أنّ كلّ ما استعملوه منها من مأكول و مشروب و منكوح و مركوب إنّما كان عند الحاجة و الضرورة إليه، و قد علمت أنّ الحاجة إلى الشي‏ء كلّما كانت أشدّ و أقوى كانت اللذّة به عند حصوله أتمّ و أعلى و ذلك من الامور الوجدانيّة. فثبت إذن أنّهم حظوا منها بما حظى به المترفون و أخذوا منها أخذة الجبابرة المتكبّرين مع ما فضّلوا به من الحصول على آجل الآخرة الّذي لم يشاركهم أهل الدنيا فيه كقوله تعالى وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ«» و أمّا الزاد المبلّغ لهم إلى ساحل العزّة و حضرة الجلال فهو التقوى الّذى اتّصفوا به كما قال تعالي وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏«» و قد علمت معنى كونه زادا غير مرّة. و استعار للتقوى و الطاعة لفظ المتجر باعتبار كون الغاية المقصودة منها استعاضة ثواب اللّه المشبه للثمن، و رشّح بذكر المربح: أى المكسب للربح، و ذلك باعتبار زيادة فضل ثواب اللّه في الآخرة على ما بذله العبد من نفسه من العمل. و قوله: أصابوا لذّة زهد الدنيا. إشارة إلى بعض ما يزود به من اللذّات في الدنيا و هو لذّة الزهد. إذ كان لهم بطرح الدنيا عن أعناق نفوسهم و وصولهم بسببه إلى ما وصلوا إليه من الكمالات العالية ابتهاجات عظيمة أجلّ و أعلى ممّا يعده المترفون و المتكبّرون لذّة و خيرا.

و هم الّذين يحقّ لهم أن يتكبّروا على المتكبّرين. إذ كان الكمال الّذي به تكبّر المتكبّرون أمرا خاليا ضعيفا بالقياس إلى الكمال الحقّ الّذي حصل عليه هؤلاء. و قوله: و تيقّنوا أنّهم جيران اللّه غدا. أى يوم القيامة، و هو إشارة إلى جهة فرحهم بجوار اللّه و التذاذهم به المضاف إلى ما أصابوه من لذّة زهد الدنيا و تلك الجهة هى ما حصلوا عليه من اليقين باللّه و الوصول التامّ إليه بعد مفارقة الأبدان، و ذلك معنى جواره. و قوله: لا تردّ لهم دعوة. إشارة إلى بعض فضائلهم الّتي انفردوا بها أيضا المتفرّعة على كمال نفوسهم و كرامتهم عند اللّه اللازمة عن لزوم طاعته و هو كونهم مجابى الدعوة مع ما شاركوا غيرهم فيه من تمام اللذّة في الدنيا و انفردوا به من تمامها في الآخرة.

الرابع: تحذيرهم من الموت و قربه و تنبيههم على غايته من ذلك التحذير و هو أن يعدّوا له عدّته الّتي يلقى بها و لا يكون كثير ضرر و قد علمت أنّه التقوى و العمل الصالح، و أكّد الأمر بإعداد عدّته بالتنبيه على عظم ما يأتي به من الأمر و الخطب الجليل، و أشار إلى أنّ ذلك الأمر قد يكون خيرا خالصا دائما و قد يكون شرّا خالصا دائما لتشتدّ الرغبة و تقوى في إكمال العدّة المستلزمة لتحصيل ذلك الخير و لدفع ذلك الشرّ. ثمّ نبّه على أنّ ذلك الخير الّذى يأتي به الموت هو الجنّة و ذلك الشرّ هو النار و أنّ المقرّب إلى كلّ منهما و المستلزم للحصول عليه هو العمل له بقوله: فمن أقرب. إلى قوله: عاملها. ثمّ نبّه بقوله: و أنتم.

إلى قوله: خلقكم. على أنّ هذا الأمر المستعقب لإحدى هاتين الغايتين العظيمتين و هو الموت لا بدّ من لقائه ليتأكّد الأمر عليهم بالاستعداد له. و استعار لهم لفظ الطرداء ملاحظة لشبههم بما يطرد من صيد و نحوه و لشبههه بالفارس المجدّ في الطلب الّذي لا بدّ من إدراكه الطريدة، و ظاهر أنّه ألزم لكلّ امرء من ظلّه. إذ كان ظلّ المرء قد ينفكّ عنه حيث لا ضوء و الموت أمر لازم لا بدّ منه. و قوله: و الموت معقود بنواصيكم. كناية عن لزومه و كونه لا بدّ منه من اقتضاء: أى مشدود و مربوط بنواصيكم و ذلك الربط إشارة إلى حكم القضاء الإلهى به و كونه ضروريّا للحيوان، و إنّما خصّ الناصية لأنّها أعزّ ما في الإنسان و أشرف، و اللازم لها أملك له و أقدر على ضبطه. و نحوه قوله تعالى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ«» و استعار لفظ الطىّ لتقضّى أحوال الدنيا و أيّامها الّتي يقطعها الإنسان وقتا فوقتا ملاحظة لشبه أحوالها بما يطوى من بساط و نحوه، و ظاهر أنّ ذلك الطىّ من خلفهم خلفا خياليّا بالنسبة إلى ما يستقبلونه من أحوالها بوجوه هممهم. ثمّ لمّا كرّر ذكر الموت و أكّد لزومه بطىّ الدنيا رجع إلى التحذير من غايته و هى النار و وصفها بأوصافها ليشتدّ الحذر منها و هى بعد قعرها. و ممّا ينبّه عليه ما روى أنّ النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمع هدّة فقال‏ لأصحابه: هذا حجر القى من شفير جهنّم فهو يهوى فيها منذ سبعين خريفا و الآن حين وصل إلى قعرها. و كان ذلك إشارة إلى منافق مات في ذلك الوقت و عمره سبعون سنة، و قد أشرنا إلى ذلك من قبل.

و شدّة حرّها كقوله تعالى قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا«» و حدّة عذابها كقوله تعالى كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ«» و كونه ليست بدار رحمة و لا يسمع لها دعوة كقوله تعالى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها«» الآية. إلى قوله تُكَلِّمُونِ و كونها لا تفرّج فيها كربة كقوله تعالى فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ و قوله وَ نادَوْا يا مالِكُ إلى قوله ماكِثُونَ«».

الخامس: قوله: و ان استطعتم. إلى قوله: بينهما. أمر لهم بالجمع من شدّة الخوف من اللّه و حسن ظنّ به و هما بابان عظيمان من أبواب الجنّة كما علمته فيما سلف. ثمّ أشار إلى أنّهما متلازمان بقوله: فإنّ العبد. إلى قوله: خوفا للّه: أى أنّ مقدار حسن ظنّ العبد بربّه مطابق و ملازم لمقدار خوفه منه و إنّ زيادته مع زيادته و نقصانه مع نقصانه.

و اعلم أنّه عليه السّلام لم يجعل أحدهما علّة للآخر بل هما معلولا علّة واحدة مساويا بها و هى معرفة اللّه. ثمّ لمّا كانت معرفة اللّه تعالى مقولة بحسب الشدّة و الضعف كان حسن الظنّ به و رجاؤه و شدّة الخوف منه أيضا ممّا يشتدّ و يضعف بحسب قوّة المعرفة و ضعفها إلّا أنّ كلّ واحد منها يستند إلى ضعف من المعرفة و اعتبار خاصّ يكون هو مبدء القريب أمّا في حسن الظنّ و الرجاء فأن يلحظ العبد من ربّه و يعتبر جميع أسباب نعمه على خلقه حتّى إذا علم لطايفها في حقّهم ممّا هو ضروريّ لهم كآلات الغذاء، و ما لهم إليه حاجة كالأظفار، و ما هو زينة كتقويس الحاجبين و اختلاف ألوان العينين، و بالجملة ما ليس بضرورىّ علم أنّ العناية الإلهيّة إذا لم يقصر في أمثال هذه الدقايق حتّى لم يرض لعباده أن يفوتهم‏ الموائد و المزايا في الزينة و الحاجة كيف يرضى بسياقتهم إلى الهلاك الأبدىّ بل إذا أراد اعتبارا في هذا الباب علم أنّه‏ تعالى هيّأ لأكثر الخلق أسباب السعادة في الدنيا حتّى كان الغالب على أكثرهم الخير و السلامة سنّة اللّه الّتي قد خلت في عباده و علم أنّ الغالب في أمر الآخرة ذلك أيضا لأنّ مدبّر الدنيا و الاخرة واحد و هو اللطيف بعباده و هو الغفور الرحيم، و حينئذ تكون الملاحظات و الاعتبارات مستلزمة لحسن الظنّ و باعثة على الرجاء. و من هذه الاعتبارات النظر في حكمة الشريعة و سببها و مصالح الدنيا، و وجه الرحمة على العباد بها، و بالجملة أن يعتبر صفات الرحمة و اللطف. و أمّا في الخوف فأقوى أسبابه أن يعرف اللّه تعالى و صفات جلاله و عظمته و تعاليه و سطوته و استغناه، و أنّه لو أهلك العالمين لم يبال و لم يمنعه مانع، و كذلك ساير اعتبارات الصفات الّتي يقتضى العنف و إيقاع المكاره كالسخط و الغضب، و لذلك قال تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ«» و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا أخوفكم للّه.

و بحسب اشتداد المعرفة بتلك الاعتبارات يكون حال الخوف و احتراق القلب ثمّ يفيض أثر ذلك على البدن فيحصل التحوّل و الصغار و الغشية و الرعقة و الرعدة على الجوارح فيكفّها عن المعاصى و يقيّدها بالطاعات استدراكا لما فرّط منه في الصفات فيفيد قمع الشهوات و تكدير اللذّات، و لاحتراق القلب بالخوف يحصل له ذبول و ذلّة يفارقه معها كثير من الرذائل كالكبر و الحسد و الحقد و البخل و غيرها. ثمّ إنّ الجمع بينهما يستلزم كثيرا من الفضائل، و ذلك أنّ معرفة اللّه تعالى و اليقين به إذ حصل هيّج الخوف من عقابه و الرجاء لثوابه بالضرورة، و هما يفيدان الصبر إذ حفّت الجنّة بالمكاره فلا صبر على تحمّلها إلّا بقوّة الرضا، و حفّت النار بالشهوات فلا صبر على قمعها إلّا بقوّة الخوف. و لذلك قال علىّ عليه السّلام: من اشتاق إلى الجنّة سلّى عن الشهوات، و من أشفق من النار رجع عن المحرّمات. ثمّ يؤدّى مقام الصبر إلى مقام المجاهدة و التجرّد لذكر اللّه و دوام الفكر فيه و هى مؤدّية إلى كمال المعرفة المؤدّى إلى الانس المؤدّى‏ إلى المحبّة المستلزمة لمقام الرضا و التوكّل. إذ من ضرورة المحبّة الرضا بفعل المحبوب و الثقة بعنايته. و لمّا ثبت أنّهما معلولا علّة واحدة ثبت أنّهما متلازمان و ليسا بمتضادّين و إن ظنّ ذلك في ظاهر الأمر بل ربّما غلب أحدهما على الآخر بحسب غلبة أسبابه فيشتغل القلب به و يغفل عن الآخر فيظنّ أنّه يعانده و ينافيه، و لذلك أتى عليه السّلام هنا بإن المقتضية للشكّ في استطاعتهم للجمع بينهما ثمّ نبّهه على إحسانه إليه بتوليته أعظم أجناده ليتبنى عن التذكير بتلك النعمة ما يريد أن يوصيه به.

السادس: نبّهه على ما ينبغي له و هو أولى به و ذلك أن يخالف على نفسه الأمّارة فيما تأمر به من السوء و الفحشاء و ساير مناهى اللّه إلى ما يحكم به العقل و الشرع من طاعته و أن ينافخ عن دينه و يجاهد شياطين الإنس و الجنّ عنه و لو لم يكن له من الدهر إلّا ساعة فينبغى أن لا يشغلها إلّا بالمجاهدة عن دينه و أن لا يسخط اللّه برضا أحد من خلقه: أى لمتابعة أحد من خلق اللّه فيما يسخط اللّه. و قوله: فإنّ في اللّه. إلى قوله: في غيره. احتجاج على وجوب مراعات رضاه تعالى دون غيره بقياس ضمير من الأوّل المذكور في قوّة صغرى. و تقدير الكبرى: و كلّما كان في اللّه خلف عن غيره و ليس في غيره خلف منه فالواجب اتّباع رضاه و أن لا يسخط برضا غيره. ثمّ أمره أن يصلّى الصلاة لوقتها الموقّت لها: أى المعيّن. و اللام للتخصيص و التعليل و أن لا يقدّمها على وقتها لفراغه في ذلك الوقت و لا يؤخّرها عن وقتها لشغله عنها بغيرها فإنّها أهمّ من كلّ شغل و أولى. ثمّ أعلمه أنّ كلّ شي‏ء من الأعمال الصالحة تبع للصلاة. و المراد أنّ الإنسان إذا حافظ على صلاته و أتى بوظائفها في أوقاتها يوشك أن يكون على غيرها أولى بالمحافظة و إذا تساهل فيها فهو في غيرها أكثر تساهلا، و ذلك أنّها عمود الدين و أفضل العبادات كما روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد سئل عن أفضل الأعمال فقال: الصلاة لأوّل وقتها، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة فمن تمّت صلاته سهل عليه غيرها من العبادات و من نقصت‏ صلاته فإنّه يحاسب عليها و على غيرها. و اعلم أنّه ذكر أمر الصلاة في هذا العهد بكلام طويل هدّه السيّد- رحمه اللّه- و فيه بيان حال الصلاة و لواحقها و أوّله أنّه قال: و انظر إلى صلاتك كيف هى فإنّك إمام لقومك إن تتمّها أو تخفّفها. فليس من إمام يصلّى بقوم يكون في صلاتهم نقصان إلّا كان عليه و لا ينقص من صلاتهم شي‏ء و إن تتمّها بحفظ فيها يكن لك مثل اجورهم و لا ينقص به ذلك من اجورهم شيئا. و انظر إلى الوضوء فإنّه من تمام الصلاة تمضمض ثلاثا و استنشق ثلاثا، و اغسل وجهك، ثمّ يدك اليمنى، ثمّ اليسرى، ثمّ امسح رأسك و رجليك فإنّى رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصنع ذلك.

و اعلم أنّ الوضوء نصف الإيمان. ثمّ ارتقب وقت الصلاة فصلّها لوقتها و لا تعجّل بها قبله لفراغ و لا تؤخّرها عنه لشغل فإنّ رجلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن أوقات الصلاة فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أتانى جبرئيل فأرانى وقت صلاة الظهر حين زالت الشمس و كانت على حاجبه الإيمن، ثمّ أرانى وقت العصر و كان ظلّ كلّ شي‏ء مثله، ثمّ صلّى المغرب حين غربت الشمس، ثمّ صلّى العشاء الأخيرة حين غابت الشمس، ثمّ صلّى الصبح فأغلس بها و النجوم مشتبكة. فصلّ بهذه الأوقات و الزم السنّة المعروفة و الطريق الواضح. ثمّ انظر ركوعك و سجودك فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان أتمّ الناس صلاتهم و أخفّهم عملا فيها، و اعلم أنّ كلّ شي‏ء من عملك تبع لصلاتك فمن ضيّع الصلاة فإنّه لغيرها أضيع. أسأل اللّه الّذي يرى و لا يرى و هو بالمنظر الأعلى أن يجعلنا و إيّاك ممّن يحبّ أن يرضى حتّى يعيننا و إيّاك على شكره و ذكره و حسن عبادته و أداء حقّه و على كلّ شي‏ء اختار لنا في ديننا و دنيانا و آخرتنا.


القسم الثاني و من هذا العهد ايضا
فَإِنَّهُ لَا سَوَاءَ إِمَامُ الْهُدَى وَ إِمَامُ الرَّدَى- وَ وَلِيُّ النَّبِيِّ وَ عَدُوُّالنَّبِيِّ- وَ لَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص- إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَ لَا مُشْرِكاً- أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللَّهُ بِإِيمَانِهِ- وَ أَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللَّهُ بِشِرْكِهِ- وَ لَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْجَنَانِ- عَالِمِ اللِّسَانِ- يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ وَ يَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ

أقول: هذا الفصل متّصل بقوله: و آخرتنا من فصل الصلاة، و أوّله: و أنتم يا أهل مصر فليصدق قولكم فعلكم و سرّكم علانيتكم. و لا تخالف ألسنتكم قلوبكم إنّه لا يستوى. إلى قوله: تنكرون. ثمّ يتّصل به يا محمّد بن أبي بكر اعلم أنّ أفضل العفّة الورع في دين اللّه و العمل بطاعته و إنّى اوصيك بتقوى اللّه في سرّ أمرك و علانيتك و على أىّ حال كنت عليه: الدنيا دار بلاء و دار فناء، و الآخرة دار الجزاء و دار البقاء. فاعمل لما يبقى و اعدل عمّا يفنى، و لا تنس نصيبك من الدنيا: إنّى اوصيك بسبع هى جوامع الإسلام: اخش اللّه عزّ و جلّ في الناس و لا تخش الناس في اللّه، و خير العلم ما صدّقه العمل، و لا تقض في أمر واحد بقضائين مختلفين فيختلف أمرك و تزوغ عن الحقّ و أحبّ لعامّة رعيّتك ما تحبّ لنفسك و أهل بيتك و أكره لهم ما تكره لنفسك و أهل بيتك فإنّ ذلك أوجب للحجّة و أصلح للرعيّة، و خض الغمرات إلى الحقّ و لا تخف في اللّه لومة لائم و انصح المرء إذا استشارك و اجعل نفسك اسوة لقريب المسلمين و بعيدهم جعل اللّه مودّتنا في الدين و خلّتنا إيّاكم و خلّة المتّقين و أبقى لكم حتّى يجعلنا بها إخوانا على سرر متقابلين.
أحسنوا أهل مصر موازرة أميركم و أثبتوا على طاعتكم تردوا حوض نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعاننا اللّه و إيّاكم على ما يرضيه. و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته. و القمع: القهر و الاذلال. و اعلم أنّه لما أمرهم بترك النفاق و موافقة الفعل الجميل نلقول الجميل‏ استدرجهم إلى ذلك و جذبهم إليه بالفرق بينه و بين غيره من الأئمّة فأشار بإمام الهدى و ولىّ النبىّ إلى نفسه. و بإمام الردى و بعدوّ النبىّ إلى معاوية، و أسند الخبر المشهور إلى النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أراد بمنافق الجنان عالم اللسان معاوية و أصحابه كلّ ذلك ليفيئوا إلى طاعته عليه السّلام و ينفروا عن خصمه. و أمّا سرّ الخبر فظاهر أنّ المؤمن لإيمانه لا يخاف منه على المسلمين، و أمّا المشرك فإنّ اللّه يقمعه و يذلّه بشركه ما دام مشركا متظاهرا بالشرك لظهور الإسلام و غلبة المسلين و اتّفاقهم على مجانبته و معاداته و عدم الإصغاء إلى ما يقول، و إنّما يخاف عليهم المنافق الّذي من شأنه إسرار الكفر و إظهار الإسلام و تعلّم أحكامه و مخالطة أهله فهو يقول بلسانه ما يقولون و يفعل ما ينكرون، و وجه المخافة منه أنّ مخالطته لأهل الإسلام مع إظهاره له يكون سببا لاصغائهم إليه و مجالستهم له و الاغترار بما يدّعيه من إصداقه.
و صدق علمه اللسانىّ و قدرته على الشبه المضلّة و تنميقها بالأقوال المزّوقة يكون سببا لانفعال كثير من عوامّ المسلمين و فتنتهم عن الدين. و قوله: إنّ أفضل العفّة الورع.
فالورع هو لزوم الأعمال الجميلة و هو ملكة تحت فضيلة العفّة، و ظاهر أنّها جماع الفضايل الّتي تحت العفّة فيكون أفضل من كلّ منها.
و قوله: و اخش اللّه في الناس.
أى خف منه فيما تفعله بهم من شرّ تعصّيه به.
و قوله: و لا تخش الناس في اللّه.
أى لا تخف أحدا منهم و لا تراقبه فيما يفعله من طاعة اللّه فتعدل عن طاعته لخوفك منهم. و باللّه التوفيق.


شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 420

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.