و من خطبه له علیه السلام
انْتَفِعُوا بِبَیَانِ اللَّهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللَّهِ- وَ اقْبَلُوا نَصِیحَهَ اللَّهِ- فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَیْکُمْ بِالْجَلِیَّهِ وَ أَخَذَ عَلَیْکُمُ الْحُجَّهَ- وَ بَیَّنَ لَکُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَکَارِهَهُ مِنْهَا- لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ- فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص کَانَ یَقُولُ- إِنَّ الْجَنَّهَ حُفَّتْ بِالْمَکَارِهِ- وَ إِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَهِ اللَّهِ شَیْءٌ إِلَّا یَأْتِی فِی کُرْهٍ- وَ مَا مِنْ مَعْصِیَهِ اللَّهِ شَیْءٌ إِلَّا یَأْتِی فِی شَهْوَهٍ- فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَ قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ- فَإِنَّ هَذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَیْءٍ مَنْزِعاً- وَ إِنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِیَهٍ فِی هَوًى- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا یُمْسِی وَ لَا یُصْبِحُ-
إِلَّا وَ نَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ- فَلَا یَزَالُ زَارِیاً عَلَیْهَا وَ مُسْتَزِیداً لَهَا- فَکُونُوا کَالسَّابِقِینَ قَبْلَکُمْ وَ الْمَاضِینَ أَمَامَکُمْ- قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْیَا تَقْوِیضَ الرَّاحِلِ وَ طَوَوْهَا طَیَّ الْمَنَازِلِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِی لَا یَغُشُّ- وَ الْهَادِی الَّذِی لَا یُضِلُّ وَ الْمُحَدِّثُ الَّذِی لَا یَکْذِبُ- وَ مَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِیَادَهٍ أَوْ نُقْصَانٍ- زِیَادَهٍ فِی هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَهٍ- وَ لَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِن غِنًى- فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِکُمْ- وَ اسْتَعِینُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِکُمْ- فَإِنَّ فِیهِ شِفَاءً مِنْ أَکْبَرِ الدَّاءِ- وَ هُوَ الْکُفْرُ وَ النِّفَاقُ وَ الْغَیُّ وَ الضَّلَالُ- فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ وَ تَوَجَّهُوا إِلَیْهِ بِحُبِّهِ- وَ لَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ- إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَ قَائِلٌ مُصَدَّقٌ- وَ أَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ یَوْمَ الْقِیَامَهِ شُفِّعَ فِیهِ- وَ مَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ یَوْمَ الْقِیَامَهِ صُدِّقَ عَلَیْهِ- فَإِنَّهُ یُنَادِی مُنَادٍ یَوْمَ الْقِیَامَهِ- أَلَا إِنَّ کُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِی حَرْثِهِ وَ عَاقِبَهِ عَمَلِهِ- غَیْرَ حَرَثَهِ الْقُرْآنِ- فَکُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَ أَتْبَاعِهِ- وَ اسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّکُمْ وَ اسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِکُمْ- وَ اتَّهِمُوا عَلَیْهِ آرَاءَکُمْ وَ اسْتَغِشُّوا فِیهِ أَهْوَاءَکُمْ الْعَمَلَ الْعَمَلَ ثُمَّ النِّهَایَهَ النِّهَایَهَ- وَ الِاسْتِقَامَهَ الِاسْتِقَامَهَ ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ وَ الْوَرَعَ الْوَرَعَ- إِنَّ لَکُمْ نِهَایَهً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَایَتِکُمْ- وَ إِنَّ لَکُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِکُمْ- وَ إِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَایَهً فَانْتَهُوا إِلَى غَایَتِهِ- وَ اخْرُجُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَقِّهِ- وَ بَیَّنَ لَکُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ- أَنَا شَاهِدٌ لَکُمْ وَ حَجِیجٌ یَوْمَ الْقِیَامَهِ عَنْکُمْ أَلَا وَ إِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ- وَ الْقَضَاءَ الْمَاضِیَ قَدْ تَوَرَّدَ- وَ إِنِّی مُتَکَلِّمٌ بِعِدَهِ اللَّهِ وَ حُجَّتِهِ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى- إِنَّ الَّذِینَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا- تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلائِکَهُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا- وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّهِ الَّتِی کُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَ قَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اللَّهُ فَاسْتَقِیمُوا عَلَى کِتَابِهِ- وَ عَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ وَ عَلَى الطَّرِیقَهِ الصَّالِحَهِ مِنْ عِبَادَتِهِ-
ثُمَّ لَا تَمْرُقُوا مِنْهَا وَ لَا تَبْتَدِعُوا فِیهَا- وَ لَا تُخَالِفُوا عَنْهَا فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ یَوْمَ الْقِیَامَهِ ثُمَّ إِیَّاکُمْ وَ تَهْزِیعَ الْأَخْلَاقِ وَ تَصْرِیفَهَا- وَ اجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً وَ لْیَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ- فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ- وَ اللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً یَتَّقِی تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى یَخْزُنَ لِسَانَهُ- وَ إِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ- وَ إِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ- لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ یَتَکَلَّمَ بِکَلَامٍ تَدَبَّرَهُ فِی نَفْسِهِ- فَإِنْ کَانَ خَیْراً أَبْدَاهُ وَ إِنْ کَانَ شَرّاً وَارَاهُ- وَ إِنَّ الْمُنَافِقَ یَتَکَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ- لَا یَدْرِی مَا ذَا لَهُ وَ مَا ذَا عَلَیْهِ- وَ لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص- لَا یَسْتَقِیمُ إِیمَانُ عَبْدٍ
حَتَّى یَسْتَقِیمَ قَلْبُهُ- وَ لَا یَسْتَقِیمُ قَلْبُهُ حَتَّى یَسْتَقِیمَ لِسَانُهُ- فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْکُمْ أَنْ یَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى- وَ هُوَ نَقِیُّ الرَّاحَهِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِینَ وَ أَمْوَالِهِمْ- سَلِیمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْیَفْعَلْ وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ یَسْتَحِلُّ الْعَامَ- مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ وَ یُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ- وَ أَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَا یُحِلُّ لَکُمْ شَیْئاً- مِمَّا حُرِّمَ عَلَیْکُمْ- وَ لَکِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَ الْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ- فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الْأُمُورَ وَ ضَرَّسْتُمُوهَا- وَ وُعِظْتُمْ بِمَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ وَ ضُرِبَتِ لَکُمْ الْأَمْثَالُ وَ دُعِیتُمْ إِلَى الْأَمْرِ الْوَاضِحِ فَلَا یَصَمُّ عَنْ ذَلِکَ إِلَّا أَصَمُّ- وَ لَا یَعْمَى عَنْ ذَلِکَ إِلَّا أَعْمَى- وَ مَنْ لَمْ یَنْفَعْهُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ وَ التَّجَارِبِ- لَمْ یَنْتَفِعْ بِشَیْءٍ مِنَ الْعِظَهِ وَ أَتَاهُ التَّقْصِیرُ مِنْ أَمَامِهِ- حَتَّى یَعْرِفَ مَا أَنْکَرَ وَ یُنْکِرَ مَا عَرَفَ- فَإِنَّ النَّاسَ رَجُلَانِ مُتَّبِعٌ شِرْعَهً وَ مُبْتَدِعٌ بِدْعَهً- لَیْسَ مَعَهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّهٍ وَ لَا ضِیَاءُ حُجَّهٍ وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ- فَإِنَّهُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِینُ وَ سَبَبُهُ الْأَمِینُ- وَ فِیهِ رَبِیعُ الْقَلْبِ وَ یَنَابِیعُ الْعِلْمِ- وَ مَا لِلْقَلْبِ جِلَاءٌ غَیْرُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَکِّرُونَ- وَ بَقِیَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ- فَإِذَا رَأَیْتُمْ خَیْراً فَأَعِینُوا عَلَیْهِ- وَ إِذَا رَأَیْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ-
فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص کَانَ یَقُولُ- یَا ابْنَ آدَمَ اعْمَلِ الْخَیْرَ وَ دَعِ الشَّرَّ- فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ أَلَا وَ إِنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَهٌ- فَظُلْمٌ لَا یُغْفَرُ وَ ظُلْمٌ لَا یُتْرَکُ- وَ ظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَا یُطْلَبُ- فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِی لَا یُغْفَرُ فَالشِّرْکُ بِاللَّهِ- قَالَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لا یَغْفِرُ أَنْ یُشْرَکَ بِهِ وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِی یُغْفَرُ- فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ- وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِی لَا یُتْرَکُ- فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً- الْقِصَاصُ هُنَاکَ شَدِیدٌ لَیْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى- وَ لَا ضَرْباً بِالسِّیَاطِ وَ لَکِنَّهُ مَا یُسْتَصْغَرُ ذَلِکَ مَعَهُ- فَإِیَّاکُمْ وَ التَّلَوُّنَ فِی دِینِ اللَّهِ- فَإِنَّ جَمَاعَهً فِیمَا تَکْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ- خَیْرٌ مِنْ فُرْقَهٍ فِیمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَهٍ خَیْراً مِمَّنْ مَضَى- وَ لَا مِمَّنْ بَقِیَ یَا أَیُّهَا النَّاسُ- طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَیْبُهُ عَنْ عُیُوبِ النَّاسِ- وَ طُوبَى لِمَنْ لَزِمَ بَیْتَهُ وَ أَکَلَ قُوتَهُ- وَ اشْتَغَلَ بِطَاعَهِ رَبِّهِ وَ بَکَى عَلَى خَطِیئَتِهِ- فَکَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِی شُغُلٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِی رَاحَهٍ
اللغه
أقول: الظنون: المتّهمه.
و الزارى: العایب.
و تقویض البناء: نقضه.
و اللأواء: الشدّه.
و محل به السلطان: کاده و قال فیه ما یضرّه.
و تورّدت الخیل البلده: دخلتها قطعه قطعه.
و تهزیع الأخلاق: تکسیرها و تفریقها.
و ضرست الأمر: أحکمته تجربه.
المعنى
و قد أمر السامعین أن ینتفعوا ببیان اللّه فی کتابه و على لسان رسوله، و یتّعظوا بمواعظه و یقبلوا نصیحته فیما لأجله خلقوا، و إنّما عدّد اسم اللّه صریحا دون الضمیر للتعظیم. ثمّ أشار إلى وجه وجوب الامتثال علیهم و هو إعذاره إلیهم بالجلیّه: أى إظهار ما هو صوره العذر من الآیات و النذر الجلیّه الواضحه، و اتّخاذ الحجّه ببعث الرسل، و بیان محابّه من الأعمال الصالحات و مکارهه من المحرّمات فی کتابه العزیز لغایه اتّباع محابّه و اجتناب مکارهه. ثمّ نبّه على ما فی الطاعه و امتثال التکلیف من الشدّه و المکروه فذکر الخبر، و نعم ما تضمّنه الخبر و أنّه لم ینبّه على الشدّه مجرّده بل قرنها بذکر الجنّه و جعلها محجوبه بها لتحصل الرغبه فی الجنّه فیتمّ السعى فی قطع تلک الحجب المکروهه، و کذلک قرن ذکر الشهوات بذکر کونها محفوفه بها بالنار تنفیرا عنها. ثمّ بعد تسهیل المکاره الّتی یشتمل علیها الطاعات بذکر الجنّه و تحقیر الشهوات الّتی یرید الجذب عنها بذکر النار صرّح بأنّه لا تأتى طاعه إلّا فی کره و لا معصیه إلّا فی شهوه، و قد عرفت سرّ ذلک، و أنّ النفس للقوّه الشهویّه أطوع منها للعقل خصوصا فیما هو أقرب إلیها من اللذّات المحسوسه الّتی یلحقها العقاب علیها. ثمّ عقّب ذلک بدعاء اللّه أن یرحم امرأ نزع عن شهوته: أى امتنع من الانهماک فیها و قمع نفسه الأمّاره بالسوء فإنّها أبعد شیء منزعا عن اللّه. ثمّ فسّر منزعها الّذی ینزع إلیه و هی المعصیه فی هواها، و ما تمیل إلیه. ثمّ نبّه على حال المؤمن الحقّ و تهمته نفسه فی جمیع أوقاته من صباح و مساء، و أنّه لا یزال عائبا علیها و مراقبا لأحوالها، و مؤاخذا لها بالزیاده فی الأعمال الصالحه، و قد سبقت الإشاره إلى ذلک. ثمّ أمرهم أن یکونوا کالسابقین من أکابر الصحابه و الماضین أمامهم إلى الجنّه فی الإعراض عن الدنیا، و استعار لفظ التقویض و الطىّ لقطعهم علائق الدنیا و رحیلهم إلى الآخره کما یقوّض الراحل متاعه للسفر، و یطوى خیامه للرحیل. ثمّ عقّب بذکر القرآن و ممادحه ترغیبا فی الاقتداء به، و استعار وصف الناصح له، و وجه الاستعاره أنّ القرآن یرشده إلى وجوه المصالح کما أنّ الناصح کذلک، و رشّح بکونه لا غشّ معه و کذلک کونه هادیا لا یضلّ: أى طریق اللّه، و روى لا یضلّ: أى لا یضلّ غیره، و کذلک استعار وصف المحدّث له، و رشّح بکونه لا یکذب، و وجه الاستعاره اشتماله على الأخبار و القصص الصحیح، و فهمه و استفادته عنه کالمحدّث الصادق، و کنّى بمجالسه القرآن عن مجالسه حملته و قرّائه لاستماعه منهم، و تدبّره عنهم فإنّ فیه من الآیات الباهره و النواهی الزاجره ما یزید بصیره المستبصر من الهدى، و ینقص من عمى الجهل. ثمّ نبّههم على أنّه لیس بعده على أحد فقر: أى لیس بعد نزوله للناس و بیانه الواضح حاجه بالناس إلى بیان حکم فی إصلاح معاشهم و معادهم، و لا لأحد قبله من غنى: أى قبل نزوله لا غنى عنه للنفوس الجاهله، و إذا کان بهذه الصفه أمرهم بأخذ الشفاء عنه لأدوائهم: أى أدواء الجهل، و أن یستعینوا به على شدّتهم و فقرهم إلى أن یستلیحوا منه وجوه المصالح الدنیویّه و الاخرویّه.
ثمّ عدّ أکبر أدواء الجهل و أعاد ذکر کونه شفاء منها: أوّلها: الکفر باللّه و هو عمى القوّه النظریّه من قوى النفس عن معرفه صانعها و مبدعها إلى غایه إنکاره أو اتّخاذ ثان له أو الحکم علیه بصفات المخلوقین المحدّثین، و الثانی: النفاق و هو مستلزم لرذیله الکذب المقابله لفضیله الصدق. ثمّ لرذیله الغدر المقابله لفضیله الوفاء، و قد سبق بیان حال النفس فی هاتین الرذیلتین. الثالث: الغىّ و هو رذیله التفریط من فضیله الحکمه. الرابع: الضلال و هو الانحراف عن فضیله العدل، و إلى کونه شفاء الإشاره بقوله صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: إنّ القلوب تصدء کما یصدء الحدید. قیل: یا رسول اللّه ما جلاؤها قال: قراءه القرآن و ذکر الموت، و قد علم اشتماله على ذکر الموت فی مواضع کثیره. ثمّ أمرهم أن یسألو اللّه به، و المراد أنّکم اعدّوا أنفسکم و کمّلوها لاستنزال المطالب من اللّه بما اشتمل علیه القرآن من الکمالات النفسانیّه، و توجّهوا إلیه بحبّه لأنّ من أحبّه استکمل بما فیه فحسن توجّهه إلى اللّه.
و قوله: و لا تسئلوا به خلقه.
و قوله: و لا تسئلوا به خلقه. أى لا تجعلوا تعلّمکم له لطلب الرزق به من خلق مثلکم فإنّه لم ینزل لذلک.
و قوله: إنّه [فإنّه خ] ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله.
و قوله: إنّه [فإنّه خ] ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله. و ذلک لاشتماله على جمیع الکمالات النفسانیّه من العلوم، و مکارم الأخلاق و النهى عن جمیع الرذائل الموبقه. ثم استعار لفظى الشافع و المشفّع. و وجه الاستعاره کون تدبّره و العمل بما فیه ماحیا لما یعرض للنفس من الهیئات الردیئه من المعاصی، و ذلک مستلزم لمحو غضب اللّه کما یمحو الشفیع المشفّع أثر الذنب عن قلب المشفوع إلیه، و ذلک سرّ الخبر المرفوع ما من شفیع من ملک و لا نبىّ و لا غیرهما أفضل من القرآن، و کذلک لفظ القائل المصدّق، و وجه الاستعاره کونه ذا ألفاظ إذا نطق بها لا یمکن تکذیبها کالقائل الصادق. ثمّ أعاد معنى کونه شافعا مشفّعا یوم القیامه. ثمّ استعار لفظ المحل للقرآن، و وجه الاستعاره أنّ لسان حال القرآن شاهد فی علم اللّه و حضره ربوبیّته على من أعرض عنه بعدم اتّباعه و مخالفته لما اشتمل علیه، و تلک شهاده لا یجوز علیها الکذب فبالواجب أن یصدق فأشبه الساعى إلى السلطان فی حقّ غیره بما یضرّه.
و قوله: فإنّه لا ینادى مناد یوم القیامه. إلى آخره.
و قوله: فإنّه لا ینادى مناد یوم القیامه. إلى آخره. فالمنادى هو لسان حال الأعمال، و الحرث کلّ عمل تطلب به غایه و تستخرج منه ثمره، و الابتلاء هاهنا ما یلحق النفس على الأعمال و عواقبها من العذاب بقدر الخروج فیها عن طاعه اللّه، و ظاهر أنّ حرث القرآن و البحث عن مقاصده لغایه الاستکمال به برىء من لواحق العقوبات. ثمّ حثّهم على أن یکونوا من حرثته و أتباعه، و أن یستدلّوه: أى یتّخذوه دلیلا قاعدا إلى ربّهم، و أن یستنصحوه على انفسهم: أى یتّخذوه ناصحا على نفوسهم الأمّاره بالسوء لکونها هی الغاشیه لهم یقودها إلى معصیه اللّه، و کون القرآن زاجرا لهم عمّا تأمرهم به تلک النفوس فیجب أن تقبل نصیحته علیها، و کذلک اتّهموا علیه آرائکم: أى إذا رأیتم رأیا یخالف القرآن فاتّهموا ذلک الرأى فإنّه صادر عن النفس الأمّاره بالسوء، و کذلک قوله: و استغشّوا فیه أهوائکم، و إنّما قال هنا: استغشّوا، و قال فی الآراء: اتّهموا لأنّ الهوى هو میل النفس الأمّاره من غیر مراجعه العقل فإذا حکمت النفس عن متابعتها بحکم فهو غشّ صراح، و أمّا الرأی فقد یکون بمراجعه العقل و حکمه، و قد یکون بدونه فجاز أن یکون حقّا، و جاز أن یکون باطلا فکان بالتهمه أولى.
ثمّ أمر بلزوم العمل الصالح. ثمّ بحفظ النهایه المطلوبه منهم بالعمل و الوصول إلیها منه: أى راعوا عاقبتکم و نهایه أعمالکم و غایتها فإنّ الأمور بخواتیمها. ثمّ أمر بالاستقامه: أى على العمل. ثمّ بالصبر علیه، و حقیقته مقاومه الهوى لئلّا ینقاد إلى قبائح اللذّات فیخرج عن الصراط. ثمّ بالورع، و هو لزوم الأعمال الجمیله، و إنّما عطف النهایه و الصبر بثمّ لتأخّر نهایه العمل عنه، و کون الصبر أمرا عدمیّا فهو فی معنى المتراخی و المنفک عن العمل الّذی هو معنى وجودیّ بخلاف الاستقامه على العمل فإنّها کیفیّه له، و الورع فإنّه جزء منه، و کرّر تلک الألفاظ للتأکید، و النصب فی جمیعها على الإغراء. ثمّ أشار إلى أنّ تلک النهایه هی النهایه الّتی لهم و أمرهم بالانتهاء إلیها، و هی الأمر الّذی خلقوا لأجله أعنى الوصول إلى اللّه طاهرین عن رجس الشیطان، و هو لفظ الخبر النبویّ أیّها الناس إنّ لکم معالم فانتهوا إلى معالمکم، و إنّ لکم غایه فانتهوا إلى غایتکم فإنّ المراد بالغایه و النهایه واحد، و المراد بالمعالم حظائر القدس و منازل الملائکه، و کذلک إنّ لکم علما فاهتدوا بعلمکم: أى إلى تلک النهایه. و استعار لفظ العلم لنفسه. ثمّ أخبر أنّ للإسلام غایه و أمرهم بالانتهاء إلیها، و تلک الغایه هی النهایه المشار إلیها.
و قوله: و أخرجوا إلى اللّه. إلى قوله: وظائفه.
و قوله: و أخرجوا إلى اللّه. إلى قوله: وظائفه. فالتقدیر أخرجوا من حقّه فیما افترض علیکم، و حقّه فی فرائضه و وظائفه الإخلاص بها لوجهه. ثمّ رغّبهم فی طاعته و اتّباع أوامره بکونه شاهدا لهم یوم القیامه و محتجّا. قال بعض الشارحین: و إنّما ذکر الاحتجاج و إن کان ذلک الموقف لیس موقف محاجّه لأنّه إذا شهد لهم فکأنّه أثبت الحجّه لهم فأشبه المحاجّ، و أقول: لمّا کان إمام کلّ قوم هو المخاطب عنهم و الشهید لهم کما قال تعالى «یَوْمَ نَدْعُوا کُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ»«» و قوله «وَ نَزَعْنا مِنْ کُلِّ أُمَّهٍ شَهِیداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَکُمْ»«» و کان ذلک الموقف هو موقف السؤال و الجواب کان ذلک معنى المحاجّه و المجادله. فالخلوص من الأسئله بأجوبتها یشبه غلب المسئول بالحجّه و هو البرهان المطلوب، و جرت العاده بأنّ البرهان یکون عند المحاجّه، و کذلک الانقطاع عن الجواب یشبه کون المسئول محجوجا، و هذا الاحتجاج و الشهاده مقالیّه عند القائلین بحشر الأجساد، و حالیّه عند غیرهم. ثمّ أخبر أنّ القدر السابق فی علم اللّه قد وقع، و القضاء الماضى: أى النافذ قد تورّد: أى دخل فی الوجود شیئا فشیئا، و قد علمت فیما سلف أنّ القضاء هو العلم الإلهى بما یکون و ما هو کائن، و أنّ القدر تفصیله الواقع على وفقه لکنّه أشار بوقوع القدر هنا إلى وقع خاص و هو خلافته و ما یلزمها من الفتن و الوقایع، و روى أنّ هذه الخطبه من أوائل الخطب الّتی خطب بها أیّام بویع بعد قتل عثمان. قال بعض الشارحین: و فی هذا الکلام إشاره إلى أنّ الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم أخبره أنّ الأمر سیصل إلیه فی آخر وقته، و أقول: لا شکّ أنّ وقوع هذا الأمر من القدر السابق على وفق القضاء، و لیس للّفظ إشعار بما قال هذا الفاضل. إذ کان علیه السّلام عالما بأنّ کلّ واقع فی الوجود فبقضاء من اللّه و قدر.
و قوله: و إنّى متکلّم بعده اللّه و حجّته.
و قوله: و إنّى متکلّم بعده اللّه و حجّته. أى لمّا وقع هذا الأمر إلىّ فإنّى أتکلّم بکذا، وعده اللّه ما وعد به عباده الّذین اعترفوا بربوبیّته و استقاموا على سلوک سبیله بطاعته من تنزّل الملائکه علیهم بذهاب الخوف و الحزن و البشاره بالجنّه، و أمّا حجّته الّتی تکلّم بها فقوله: و قد قلتم ربّنا اللّه: أى اعترفتم بالربوبیّته فاستقیموا على کتابه و على منهاج أمره و على الطریقه الصالحه من عبادته: أى الّتی هی عن علم و الخالصه من الریاء و النفاق من غیر أن یمرقوا منها: أى یخرجوا فیها بالتحذلق و التشدّد إلى طرف الإفراط الّذی هو ثمره الجهل، و لا تحدثوا فیها بدعه و لا تخالفوا عنها و تحیدوا یمینا و شمالا فتقعوا فی مهاوى الهلاک فإنّکم متى فعلتم ذلک فقد تمّ شرط استحقاقکم لإنجاز عدته المذکوره فإنّ ذلک الشرط مرکّب من الاعتراف بربوبیّته، و الاستقامه على الامور المذکوره فحینئذ یجب أن تفاض تلک العده، و مع فوات جزء من ذلک الشرط لا یقع المشروط فلم یتحقّق الموعود به، و ذلک معنى کون أهل المروق منقطعا بهم: أى لا یجدون بلاغا یوصلهم إلى المقصد لأنّ الشرط هو البلاغ إلى المقصد الحقیقىّ. ثمّ شرع فی النهى عن النفاق لأنّ تهزیع الأخلاق تغییرها و نقلها من حال إلى حال و هو معنى تصریفها، و ذلک هو النفاق. إذ المنافق لا یلزم خلقا واحدا بل تاره یکون صادقا، و تاره کاذبا، و تاره وفیّا، و اخرى غادرا، و مع الظالمین ظالم، و مع أهل العدل عادل، و لذلک قال: و اجعلوا اللسان واحدا، و هو شروع فی الوصیّه بحال اللسان وعد له: أى لا یکوننّ أحدکم ذا لسانین و هو المنافق.. ثمّ أمر بخزنه و استلزم النهى عن امور، و هی الفضل من القول و وضعه فی غیر مواضعه و الغیبه و النمیمه و السعایه و المسابه و القذف و نحوه، و کلّها رذائل فی طرف الإفراط من فضیله العدل.
و قوله: فإنّ اللسان جموح بصاحبه.
و قوله: فإنّ اللسان جموح بصاحبه. تعلیل لذلک النهى، و إشاره إلى خروجه بصاحبه عن فضیله العدل إلى الرذائل الّتی هی موارد الهلکه فی الآخره و الدنیا کما أنّ الفرس الجموح مخرج بصاحبه إلى الهلاک، و لفظ الجموح مستعار له بهذا الاعتبار. ثمّ أقسم أنّه لا متّقى ینفعه تقواه إلّا بخزن لسانه، و هو حقّ لأنّ التقوى النافع هو تقوى التامّ، و خزن اللسان و کفّه عن الرذائل المذکوره جزء عظیم من التقوى لا یتمّ بدونه فهی إذن لا ینفع إلّا به. ثمّ نبّه على ما ینبغی عند إراده القول من التثبّت و التأمّل ما یراد النطق به و على ما لا ینبغی من القول بغیر مراجعه الفکر، و قرن الأوّل بالإیمان ترغیبا فیه، و الثانی بالنفاق تنفیرا عنه.
و قوله: لأنّ المؤمن. إلى قوله: و ما ذا علیه.
و قوله: لأنّ المؤمن. إلى قوله: و ما ذا علیه. بیان لمعنى کون اللسان وراء و أماما، و تلخیص هذا البیان أنّ الوراء فی الموضعین کنایه عن التبعیّه لأنّ لسان المؤمن تابع لقلبه فلا ینطق إلّا بعد تقدیم الفکر فیما ینبغی أن یقوله، و قلب المنافق و ذکره متأخّر عن نطقه فکان لفظ الوراء استعاره من المعنى المحسوس للمعقول فأمّا الخبر النبوىّ المذکور فهو استشهاد على أنّ الإیمان لا یتمّ إلّا باستقامه اللسان على الحقّ و خزنه عن الرذائل الّتى عدّدناها و ذلک عین ما ادّعاه فی قوله: إنّ التقوى لا ینفع العبد حتّى یخزن لسانه. فأمّا برهان الخبر فهو أنّ استقامه القلب عباره عن التصدیق باللّه و رسوله و اعتقاد حقیّه ما وردت به الشریعه من المأمورات و المنهیّات، و ذلک عین الإیمان و حقیقته فإذن لا یستقیم الإیمان حتّى یستقیم القلب، و أمّا أنّه لا یستقیم القلب حتّى یستقیم اللسان فلأنّ استقامه اللسان على الإقرار بالشهادتین و لوازمها و على الإمساک عمّا لا ینبغی من الأمور المعدوده من لوازم استقامه القلب لحکمنا على غیر المقرّ بتلک الامور و القائل بها بعدم الإیمان الکامل، و لا یستقیم أمر من دون لازمه.
و قوله: فمن استطاع. إلى قوله: فلیفعل.
و قوله: فمن استطاع. إلى قوله: فلیفعل. أمر بالاجتهاد فی لقاء اللّه تعالى على أحوال، و هی نقاء الراحه من دماء المسلمین و أراد السلامه من قتل النفس، و أموالهم و أراد السلامه من الظلم، و أن یکون الإنسان سلیم اللسان من أعراضهم و أراد الکفّ عن الغیبه و السبّ، و شرط ذلک بالاستطاعه لعسره و شدّته و إن کان واجب الترک على کلّ حال، و أشدّها الکفّ عن الغیبه فإنّه یکاد أن لا یستطاع، و إلى نحو هذا إشاره الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم المسلّم من سلم المسلمون من یده و لسانه. فسلامتهم من یده سلامه دمائهم و أموالهم، و سلامتهم من لسانه سلامه أعراضهم، و أعمّ من ذلک قال بعض الحکماء: من علم أنّ لسانه جارحه من جوارحه أقلّ من إعمالها و استقبح إدامه تحریکها کما یستقبح أن یحرّک رأسه أو منکبه دائما.
و قوله: و اعلموا. إلى قوله: حرّم علیکم
و قوله: و اعلموا. إلى قوله: حرّم علیکم قال بعض الشارحین: هو إشاره إلى أنّ ما ثبت من طریق النصّ أو العاده الّتی شهد بها النصّ فی زمان الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم لا یجوز أن ینقض بالقیاس و الاجتهاد بل کلّ ما ورد به النصّ فیتبع فیه مورد النصّ فما کان حلالا بمقتضى النصّ و عمومه العام الماضى فهو فی هذا العام حلال، و کذا فی الحرام، و عموم هذا الکلام یقتضى عدم جواز نسخ النصّ و تخصیصه بالقیاس و هو مذهب الإمامیّه لاعتقادهم بطلان القول بالقیاس المتعارف، ومذهب جماعه من الاصولیّین مع اعترافهم بصحّه القیاس، و من یجوّز تخصیصه به یحمل هذا الکلام على عدم قبول القیاس فی نسخ النصّ من کتاب أو سنّه، و ما أحدثه الناس إشاره إلى القیاس.
و قوله: و لکنّ الحلال ما أحلّ اللّه و الحرام ما حرّم اللّه،
و قوله: و لکنّ الحلال ما أحلّ اللّه و الحرام ما حرّم اللّه، تأکید لاتّباع النصّ و ما کان علیه الصحابه من الدین ممّا هو معلوم بینهم دون ما أحدث من الآراء و المذاهب.
و قوله: و قد جرّبتم الامور و ضرّستموها. إلى قوله: الأمر الواضح.
و قوله: و قد جرّبتم الامور و ضرّستموها. إلى قوله: الأمر الواضح. إشاره إلى وجوه العلم و مأخذه، و وجه اتّصاله بما قبله أنّهم إذا کانوا قد أحکموا الامور تجربه، و وعّظوا بمن کان قبلهم، و ضربت لهم الأمثال، و دعوا إلى الأمر الواضح و هو الدین و طریقه فلا بدّ أن تکون نفوسهم قد استعدّت بذلک لعلم الأحکام الشرعیّه و مقاصدها من الکتاب و السنّه و عادات الرسول و الصحابه، و لا یخفى علیهم ما ابتدع بعدها، و أنّ کلّ بدعه حرام فضلا أن ترفع حکم نصّ أو سنّه سبق العلم بها، و لا یصمّ عن هذه المواعظ و الأمثال و الدعوه إلى الدین إلّا أصمّ. أى من هو شدید الصمم کما یقال: ما یجهل بهذا الأمر إلّا جاهل: أى أشدّ الناس جهلا، و کذلک لا یعمى عنه: أى لا یعمى عنه بصیره إلّا بصیره اشتدّ عماها.
و قوله: من لم ینفعه. إلى قوله: من أمامه.
و قوله: من لم ینفعه. إلى قوله: من أمامه. کلام حقّ، و ذلک أنّ الإنسان فی مبدء الفطره خال عن العلوم، و إنّما خلقت له هذه الآلات البدنیّه لیتصفّح بها صور المحسوسات و معانیها و یتنبّه لمشارکات بینها و مباینات فیحصل له التجربه و سائر العلوم الضروریّه و المکتسبه فمن لم ینتفع بالبلاء: أى بامتحان الأمور و تجاریبها، و هو إشاره إلى اعتبار الأمور و التفکّر فیها و الابتلاء بها کالوقوع فی المکاره و معاناه الأعمال و لم یستفد منها علما فظاهر أنّه لا ینفعه العظه لأنّ العظه فرع تصفّح الأمور و اعتبار آیات اللّه منها، و محال أن یحصل فرع من دون أصله و حینئذ یأتیه النقص فی کمال نفسه و وجوه مصالحه، و یحتمل أن لا یرید بالعظه الاتّعاظ بل الموعظه، و ظاهر أنّ الموعظه أیضا لا ینفعه لأنّ البلاء بالمکاره و الوقائع النازله أقوى فعلا فی النفس و أکثر تأثیراً فإذا لم ینتفع بها و لم یستفد منها علما فبالأولى أن لا ینتفع بالموعظه.
و قوله: من أمامه.
و قوله: من أمامه. لأنّ الکمالات الّتی یتوجّه إلیها بوجه عقله تفوته لنقصان تجربته و وقوف عقله عنها فأشبه فوتها له مع طلبه لها إتیان النقصان له من أمامه.
و قوله: حتّى یعرف ما أنکر و ینکر ما عرف.
و قوله: حتّى یعرف ما أنکر و ینکر ما عرف. إشاره إلى غایه نقصانه، و هی الاختلاط و الحکم على غیر بصیره فتاره یتخیّل فیما أنکره و جهله أنّه عارف بحقیقته، و تاره ینکر ما کان یعرفه و یحکم بصحّته لخیال یطرأ علیه. ثمّ قسّم لهم الناس إلى قسمین: فقسم متّبع شرعه: أى طریقه و منهاجا و هو منهاج الدین، و قسم مبتدع بدعه بغیر برهان سنّه من اللّه یعتمد علیه، و لا ضیاء حجّه یقوده فی ظلمات الجهل لیلحقوا بأفضل القسمین.
و قوله: إنّ اللّه سبحانه لم یعظ أحداً بمثل هذا القرآن.
و قوله: إنّ اللّه سبحانه لم یعظ أحداً بمثل هذا القرآن. رجوع إلى ممادح القرآن، و استعار له ألفاظا: الأوّل: لفظ الحبل، و رشّح بالمتین، و قد عرفت وجه هذا الاستعاره مراراً. الثانی: و کذلک سببه الأمین. الثالث: لفظ الربیع، و وجهها أنّ القلوب یحیى به کما یحیى الأنعام بالربیع. الرابع: لفظ الینابیع، و وجهها أنّ العلوم عند تدبّره و التفهم عنه تغیض عنه و ینتفع بها کما یغیض الماء عن الینابیع. الخامس: لفظ الجلاء، و وجهها أنّ الفهم عنه یکشف عن القلوب صداء الجهل کما یجلو الصیقل المرآه.
فإن قلت: فلم قال: و لیس للقلب جلاء غیره مع أنّ سائر العلوم جلاء له.
فالجواب من وجهین: أحدهما: أنّ العلوم الجالیه للقلب هی المعدّه لسلوک سبیل اللّه و الوصول إلى الغایه من الکمال النفسانىّ کالعلوم الإلهیّه، و علم الأخلاق و أحوال المعاد، و لا علم منها إلّا و فی القرآن أصله و مادّته و هو مقتبس من القرآن. الثانی: أنّ هذا الکلام صدر عنه علیه السّلام و لم یکن فی ذلک الزمان علم مدوّن و لا استفاده للمسلمین إلّا من
و قوله: مع أنّه قد ذهب المتذکّرون
و قوله: مع أنّه قد ذهب المتذکّرون: أى المتدبّرون لمقاصد القرآن، و بقى الناسون له و المتناسون المتعمّدون للتشاغل و النسیان للجواذب إلى اللّه، و هو فی معنى التوبیخ لهم. ثمّ أمرهم بإعانه من یعمل الخیر على فعله، و وجوه الإعانه کثیره. ثمّ بالإعراض عن الشرّ و إنکاره عند رؤیته و استشهد على وجوب امتثال أمره بالخبر النبوىّ، و قد نبّه الخبر على وجوب عمل الخیر و الانتهاء عن الشرّ باستلزام ذلک لکون فاعله جوادا قاصدا، و استعار وصفى الجواد القاصد، و وجه المشابهه أنّ العامل للخیر المنتهى عن الشرّ مستقیم على طریق اللّه فلا تعریج فی طریقه و لا اعوجاج فیکون سیره فی سلوک سبیل اللّه أسرع سیر کالجواد من الخیل المستقیم على الطریق. ثمّ قسّم علیه السّلام الظلم إلى ثلاثه أقسام: الأوّل: الظلم الّذی لا یغفر أصلا. و هو ظلم النفس بالشرک باللّه، و برهانه النصّ و المعقول: أمّا النصّ فقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا یَغْفِرُ أَنْ یُشْرَکَ بِهِ» و أمّا المعقول فلأنّ المغفره عباره إمّا عن محو آثار الجرائم عن ألواح النفوس أو عمّا یلزم ذلک من ستر اللّه على النفوس أن تحترق بنار جهنّم، و الهیئات البدنیّه الّتی حجبت نفوس المشرکین عن معرفه اللّه هیئات متمکّنه من تلک النفوس قد صارت ملکات لا یمکن زوالها مع عدم مسکتهم بالمعارف الإلهیّه فهم فی العذاب ماکثون، و فی سلاسل تلک الهیئات و أغلالها مکبّلون فإذن لا یتحقّق المغفره فی حقّهم لعدم مخلصهم منها و جاذبهم عنها و هی عصمه المعرفه. الثانی: ظلم لا یترک: أى لا بدّ من أخذ فاعله بالعقوبه و القصاص به، و هو ظلم العباد بعضهم لبعض، و إلیه الإشاره بقوله: یوم یقتصّ للجماء من القرناء، و هذا الظالم إن کانت له مسکه ببعض عصم النجاه من المعارف الإلهیّه وجب خلاصه من العذاب بعد حین لکن یتفاوت مکثه بحسب تفاوت شدّه تمکّن تلک الهیئات الردیئه من نفسه و ضعفها، و إلیه أشار الخبر النبوىّ یخرجون من النار بعد ما یصیرون حمما و فحما.
و الثالث: الظلم الّذی یغفر و لا یطلب و هو ظلم العبد نفسه عند ارتکابه بعض صغائر الزلّات، و هی الّتی لا تکسب النفس هیئه ردیئه باقیه بل حاله یسرع زوالها، و إلیه الإشاره بقوله تعالى «وَ یَسْتَعْجِلُونَکَ بِالسَّیِّئَهِ قَبْلَ الْحَسَنَهِ وَ قَدْ خَلَتْ»«» أى فی حال کونهم ظالمین: ثمّ أخذ فی التحذیر من الظلم بذکر شدّه القصاص فی الآخره، و صدق أنّه لیس جرحا بمدیه و لا ضربا بسوط کقصاص الدنیا، و لکنّه ما یستصغر ذلک معه من العقوبات بالنار المشهوره أوصافها، و روى عن الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلم أنّه کان جالسا فی أصحابه فسمع هدّه. فقال: هذا حجر أرسله اللّه تعالى من شفیر جهنّم فهو یهوى فیها منذ سبعین خریفا حتّى بلغ الآن قعرها فهذا بعض أوصافها المحسوسه.
و اعلم أنّ لهذا الخبر تماما ما یکشف سرّه، و هو أنّ الراوى قال: فسمعنا بعد ذلک صیحه و صراخا فقلنا: ما هذا فقالوا: فلان المنافق مات و کان عمره یومئذ سبعین سنه. قال بعض من تلطّف: إنّ المراد بجهنّم المشار إلیها هی الدنیا و متاعها. و بالحجر هو ذلک المنافق استعاره، و وجه المشابهه أنّ ذلک المنافق لم ینتفع بوجوده مدّه حیاته و لم تکسب نفسه خیرا فأشبه الحجر فی ذلک، و إرسال اللّه تعالى له هو إفاضته علیه ما استعدّ له من اتّباع هواه فیها و الانهماک فی شهوتها و التیه عن سبیله المشار إلیه بقوله «یُضِلُّ مَنْ یَشاءُ» و شفیرها هو أوّلها بالنسبه إلیه و ذلک حین استعداده للانهماک فیها، و أوّل الامور القائده له فی طرق الضلال من متاعها و لذّاتها، و هویّه فیها سبعین خریفا هو انهماکه فیها مدّه عمره، و بلوغه قعرها هو وصوله بموته إلى غایه العذاب بسبب ما اکتسب منها من ملکات السوء کما أومأنا إلیه غیر مرّه. ثمّ نهى عن التلوّن فی دین اللّه، و کنّى به عن منافقه بعضهم لبعض فإنّ ذلک یستلزم الفرقه و لذلک. قال: فإنّ جماعه فیما تکرهون من الحقّ خیر من فرقه فیما تحبّون من الباطل: أى فإنّ الاجتماع على الحقّ المکروه إلیکم کالحرب مثلا خیر لکم من الافتراق فی الباطل المحبوب عندکم کمتاع الدنیا. ثمّ تمّم النهى عن الفرقه و قال: فإنّ اللّه لم یعط أحدا بفرقه خیراً لا من الماضین و لا من الباقین، و لمّا کان الخیر فی الاجتماع و الالفه و المحبّه حتّى یصیر الناس کرجل واحد و یتمّ نظام العالم بذلک کان فی الفرقه أضداد ذلک و کذلک ما روى عن الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلم من فارق الجماعه قید شبر فقد خلع ربقه الإسلام من عنقه، و قد سبق بیان فضیله الاجتماع. ثمّ أعاد النهى عن الغیبه للناس بذکر معایبهم و نبّه من عساه أن یستحیى من نفسه بأنّ لکلّ عیبا ینبغی أن یشتغل به، و طوبى فعلى من الطیب، و الواو منقلبه عن الیاء، و قیل: هى اسم شجره فی الجنّه، و على التقدیرین مبتداء. ثمّ نبّه على فضل العزله و لزوم البیت للاشتغال بطاعه اللّه و البکاء على الخطیئه و الندم علیها.
و قوله: و کان من نفسه فی شغل. إلى آخر ما ذکره ثمره العزله.
و قوله: و کان من نفسه فی شغل. إلى آخر ما ذکره ثمره العزله. و اعلم أنّ الناس قد اختلفوا فی أنّ العزله أفضل أم المخالطه ففضّل جماعه من مشاهیر الصوفیّه و العارفین العزله منهم إبراهیم بن أدهم و سفیان الثورى، و داود الطائى و الفضیل بن عیاض و سلیمان الخواص و بشر الحافی، و فضّل الآخرین المخالطه و منهم الشعبى و ابن أبى لیلى و هشام بن عروه و ابن شبرمه و ابن عیینه و ابن المبارک، و احتجّ الأوّلون بالنقل و العقل: أمّا النقل فقوله صلّى اللّه علیه و آله و سلم لعبد اللّه بن عامر الجهنى لمّا سأله عن طریق النجاه. فقال: لیسعک بیتک و أمسک علیک لسانک و ابک على خطیئتک. و قیل له صلّى اللّه علیه و آله و سلم: أىّ الناس أفضل. فقال: رجل معتزل فی شعب من الشعاب یعبد ربّه و یدع الناس من شرّه، و قال صلّى اللّه علیه و آله و سلم: یحبّ التقى النقى الخفىّ، و أمّا العقل فهو أنّ فی العزله فوائد مطلوبه للّه لا توجد فی المخالطه فکانت أشرف منها الفراغ لعباده اللّه و الذکر له و الاستیناس بمناجاته و الاستکشاف لأسراره فی امور الدنیا و الآخره من ملکوت السماوات و الأرض، و لذلک کان رسول اللّه صلّى اللّه علیه و آله و سلم یتعبّد بجبل حراء و یعتزل به حتّى آتته النبوّه، و احتجّ الآخرون بالقرآن و السنّه: أمّا القرآن فقوله تعالى «فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً»«» و قوله «وَ لا تَکُونُوا کَالَّذِینَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا»«» و معلوم أنّ العزله تنفى تألّف القلوب و توجب تفرّقها، و أمّا السنّه فقوله صلّى اللّه علیه و آله و سلم: من فارق الجماعه قید شبر فقد خلع ربقه الإسلام عن عنقه. و ما روى أنّ رجلا أتى جبلا یعبد اللّه فیه فجاء به أهله إلى الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلم فنهاه عن ذلک. و قال له: إنّ صبر المسلم فی بعض مواطن الجهاد یوما واحدا خیر له من عباده أربعین سنه، و أقول: إنّ کلا الاحتجاجین صحیح لکنّه لیس أفضلیّه العزله مطلقا و لا أفضلیّه المخالطه مطلقا بل کلّ فی حقّ بعض الناس بحسب مصلحته، و فی بعض الأوقات بحسب ما یشتمل علیه من المصلحه.
و اعلم أنّه من أراد أن یعرف مقاصد الأنبیاء علیهم السّلام فی أوامرهم و تدبیراتهم فینبغی أن یتعرّف طرفا من قوانین الأطبّاء، و مقاصدهم من العبارات المطلقه لهم فإنّه کما أنّ الأطبّاء هم المعالجون للأبدان بأنواع الأدویه و العلاجات لغایه بقائها على صلاحها أو رجوعها إلى العافیه من الأمراض البدنیّه کذلک الأنبیاء علیهم السّلام و من یقوم مقامهم فإنّهم أطبّاء النفوس و المبعوثون لعلاجها من الأمراض النفسانیّه کالجهل و سائر رذائل الأخلاق بأنواع الکلام من الآداب و المواعظ و النواهى و الضرب و القتل، و کما أنّ الطبیب قد یقول الدواء الفلانى نافع من المرض الفلانى، و لا یعنى به فی کلّ الأمزجه بل فی بعضها کذلک الأنبیاء و الأولیاء إذا أطلقوا القول فی شیء أنّه نافع کالعزله مثلا فإنّهم لا یریدون أنّها نافعه لکلّ إنسان، و کما أنّ الطبیب قد یصف لبعض المرضى دواء و یرى شفائه فیه و یرى أنّ ذلک الدواء بعینه لمریض آخر کالسم ّ القاتل و یعالجه بغیره کذلک الأنبیاء علیهم السّلام قد یرون أنّ بعض الامور دواء لبعض النفوس فیقتصرون علیه، و قد یرون أنّ بعض الأوامر علاج لبعض النفوس کالأمر بالعزله و الحثّ علیها لبعض الناس، و قد یرون أنّ ذلک العلاج بعینه مضرّ لغیر تلک النفس فیأمرونها بضدّ ذلک کالأمر بالمخالطه و المعاشره، و أکثر ما یختارون العزله لمن بلغ رتبه من الکمال فی قوّتیه النظریّه و العملیّه، و استغنى عن مخالطه کثیر من الناس لأنّ أکثر الکمالات الإنسانیّه من العلوم و الأخلاق إنّما تحصل بالمخالطه خصوصا إذا کان ذلک الإنسان أعنى المأمور بالعزله خالیا عن عائله یحتاج أن یتکسب لهم، و أکثر ما یختارون المخالطه و الاجتماع لتحصّل الألفه و الإتّحاد بالمحبّه، و للاتّحاد غایتان کلّیّتان: إحداهما: حفظ أصل الدین و تقویته بالجهاد، و الثانیه: تحصیل الکمالات الّتی بها نظام أمر الدارین لأنّ أکثر العلوم و الأخلاق یستفاد من العشره و المخالطه کما بیّنّاه. و باللّه التوفیق.
شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۳ ، صفحهى ۳۴۹
بازدیدها: ۲۲