و من خطبه له علیه السّلام
القسم الأول
وَ انْقَادَتْ لَهُ الدُّنْیَا وَ الْآخِرَهُ بِأَزِمَّتِهَا- وَ قَذَفَتْ إِلَیْهِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرَضُونَ مَقَالِیدَهَا- وَ سَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصَالِ الْأَشْجَارُ النَّاضِرَهُ- وَ قَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّیرَانَ الْمُضِیئَهَ- وَ آتَتْ أُکُلَهَا بِکَلِمَاتِهِ الثِّمَارُ الْیَانِعَهُ
اللغه
أقول: المقالید: المفاتیح جمع مقلد بکسر المیم. و الیانع من التمار: المدرک.
و هذا الفصل یشتمل على تمجید اللّه سبحانه و إظهار عظمه سلطانه.
فانقیاد الدنیا و الآخره له بأزمّتها: دخولها ذلّ الإمکان و الحاجه إلیه.
و قوله: و قذفت إلیه السماوات و الأرضون مقالیدها. کقوله تعالى «لَهُ مَقالِیدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»«» قال ابن عبّاس و مقاتل: المراد بمفاتیح السماوات و الأرض الرزق و الرحمه، و قال اللیث: القلاد: الخزانه. و مقالید السماوات و الأرض خزائنهما، و أقول: لفظ القذف مجاز فی تسلیمها و انقیادها بزمام الحاجه و الإمکان إلى قدرته مع جمیع ما هى سبب فی وجوده فی هذا العالم ممّا هو رزق و رحمه للخلق، و کذلک لفظ المفاتیح على رأى ابن عبّاس استعاره للأسباب المعدّه للأرزاق و الرحمه، و تلک الأسباب کحرکات السماوات و اتّصالات بعض الکواکب ببعض و کاستعدادات الأرض للنبات و غیره، و وجه الاستعاره أنّ هذه الأسباب باعدادها الموادّ الأرضیّه تفتح بها خزائن الجود الإلهىّ کما تفتح الأبواب المحسوسه بمفاتیحها، و کلّها مسلّمه إلى حکمه و جریانها بمشیئته، و على قول اللیث فلفظ الخزائن استعاره فی موادّها و استعدادتها، و وجه الاستعاره أنّ تلک الموادّ و الاستعدادات تکون فیها بالقوّه و الفعل جمیع المحدثات من الأرزاق و غیرها کما یکون فی الخزائن ما یحتاج إلیه. و سجود الأشجار الناضره له بالغدوّ و الآصال: خضوعها و ذلّها تحت قدرته و حاجتها إلى جوده، و نسب قدح النیران إلیها لما أنّها السبب المادّىّ و إن کان القدح حقیقه فی فعال السبب الفاعلیّ القریب، و جعل ذلک له تعالى لأنّه الفاعل الأوّل. و قوله: و آتت. إلى آخره.
فأراد بکلماته أوامره و أحکام قدرته المعبّر عنها بقوله: کن، و إطلاق الکلمات علیها استعاره وجهها نفوذ تلک الأحکام فی المحکومات کنفوذ الأوامر القولیّه فی المأمورات، و أراد بإتیان الثمار دخولها طوعا فی الوجود المعبّر عنه بقوله تعالى «فَیَکُونُ». و باللّه التوفیق و العصمه.
القسم الثانی منها:
وَ کِتَابُ اللَّهِ بَیْنَ أَظْهُرِکُمْ- نَاطِقٌ لَا یَعْیَا لِسَانُهُ- وَ بَیْتٌ لَا تُهْدَمُ أَرْکَانُهُ- وَ عِزٌّ لَا تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ
أقول: هذا الفصل کأنّه فی معرض التوبیخ على ترک أوامر اللّه و مخالفه أحکامه
و یشبه أن یکون الواو للحال کأنّه یقول: تفعلون کذا و کتاب اللّه بین أظهرکم ناطق، و کونه بین أظهرهم کنایه عن وجوده بینهم مع أنّ من شأنه أن یستند إلیه، و استعار لفظ الناطق للکتاب باعتبار أن المکتوب یعبّر عن المقصود کما أنّ الناطق کذلک، و لفظ اللسان و أنّه لا یعیا ترشیح للاستعاره کنّى بها عن بیان الکتاب على مرور الأوقات، و یحتمل أن یرید باللسان نفسه علیه السّلام مجازا. إذ کان هو لسان الکتاب الّذی لا یفتر و لا یقصر عن بیان مقاصده، و کذلک استعار لفظ البیت باعتبار کونه حافظا لحافظیه و العاملین به کما یحفظ البیت أهله، و أرکانه: قواعده الکلّیّه الّتى یبنى علیها نظام العالم من الأوامر و النواهى و المواعظ و الحکم، و تلک القواعد لا تکاد تنهدم فی وقت من الأوقات. إذ الحکم الکلّیّه صالحه لجمیع الأوقات، و کونه عزّا مجاز إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه. إذ کان حفظه و العمل به مستلزما للعزّ الدائم الّذی لا یعرض له ذلّ، و أعوانه هم اللّه و ملائکته و رسله و أولیاؤه.
و أولئک أعوان لا خوف علیهم و لا انهزام لجمعیّتهم من أمر. و باللّه التوفیق.
القسم الثالث منها:
أَرْسَلَهُ عَلَى حِینِ فَتْرَهٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ تَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ- فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وَ خَتَمَ بِهِ الْوَحْیَ- فَجَاهَدَ فِی اللَّهِ الْمُدْبِرِینَ عَنْهُ وَ الْعَادِلِینَ بِهِ
اللغه
أقول: قفّى به: اتّبع به من قبله.
و غرض الفصل الثناء على الرسول صلّى اللّه علیه و آله و سلّم.
فقوله: أرسله. إلى قوله: الألسن. بیان لبعض أمارات النبوّه فإنّ منها الزمان المتطاول الّذى تندرس فیه الشریعه السابقه و القوانین الّتی بها نظام العالم و یحتاج الخلق إلى قوانین مجدّده لنظام أحوالهم. و حینئذ تجب بعثه رسول. و کان الفتره بین عیسى و محمّد علیهما السّلام ستّه مأئه و عشرین سنه، و منها تنازع الألسن و اختلاف الخلق فی الآراء و المذاهب و قلّه الاتّفاق على قانون شرعىّ جامع لهم. فقوله: فقفّى به الرسل. کقوله تعالى «وَ قَفَّیْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ»«».
و قوله: و ختم به الوحى. کقوله «وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ» و هذا الختام مستفاد من الشریعه و لیس للعقل فی الحکم بانقطاع الرسل فیما بعد مجال بل ذلک من الامور الممکنه عنده. و المدبرون عن اللّه: المعرضون عن اتّباع أوامره و نواهیه. و العادلون به: الجاعلون له عدیلا و هو الندّ و المثل کالمشرکین- تعالى عمّا یقولون علوّا کبیرا- و نسبه المجاهده إلى اللّه تعالى استعاره، و وجهها أنّه تعالى رمى بمحمّد صلّى اللّه علیه و آله و سلّم المشرکین کما یرمى المجاهد بنفسه و أعوانه مجاهدیه. و باللّه التوفیق.
القسم الرابع منها:
وَ إِنَّمَا الدُّنْیَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى- لَا یُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَیْئاً- وَ الْبَصِیرُ یَنْفُذُهَا بَصَرُهُ- وَ یَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا- فَالْبَصِیرُ مِنْهَا شَاخِصٌ- وَ الْأَعْمَى إِلَیْهَا شَاخِصٌ- وَ الْبَصِیرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ- وَ الْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ
اللغه
أقول: الشاخص: الذاهل و المسافر، و الشاخص أیضا الّذی یرفع بصره إلى الشیء و یمدّه إلیه.
و هذا الفصل مع قلّه ألفاظه یشتمل على لطائف:
فالاولى: أنّ الدنیا منتهى بصر الأعمى شیئا
و استعار لفظ الأعمى للجاهل کقوله تعالى «أَ فَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَتَکُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ یَعْقِلُونَ بِها أَوْ»«» و وجه الاستعاره أنّ الجاهل لا یدرک بعین بصیرته الحقّ کما لا یدرک الأعمى من المبصرات، و أشار بقوله: لا یبصر من ورائها شیئا إلى جهله بأحوال الموت و ما بعده من سعاده الآخره و شقاوتها.
فإن قلت: إنّه أثبت للأعمى العمى، و أثبت أنّه یبصر الدنیا و ذلک نوع مناقضه.
قلت: إنّه لمّا أراد بالأعمى أعمى البصیره و هو الجاهل استعاره لم یکن فی إثبات البصر الحسّى له و نظر الدنیا به مناقضه، و یحتمل أن یرید ببصره أیضا بصر بصیرته استعاره، و ظاهر أن منتهى بصر بصیره الجاهل التصرّف فی أحوال الدنیا و کیفیّه تحصیلها و التمتّع بها دون أن یفیده عبره لما ورائها من أحوال الآخره.
الثانیه: قوله: و البصیر ینفذها بصره
استعار لفظ البصیر للعالم، و نفوذ بصره کنایه عن إدراکه ما وراء الدنیا من أحوال الآخره و علمه أنّها دار القرار.
الثالثه: قوله: فالبصیر منها شاخص
أى راحل مسافر قد جعلها طریقا له إلى الآخره، و الأعمى إلیها شاخص: أى متطلّع إلیها بعین بصیرته و وهمه و إن کان أعمى عن مصالحه الحقیقیّه و عن آفاتها و طرقها المخوفه، و فی هذه الکلمه مع الّتی قبلها من أقسام البدیع التجنیس التامّ و المطابقه بین الأعمى و البصیر.
الرابعه: قوله: و البصیر منها متزوّد
أى بالتقوى و الأعمال الصالحه فی سفره إلى اللّه تعالى، و الأعمى لها متزوّد: أى متّخذ للذّاتها و قیناتها زادا له فی قطعها مدّه عمره قد جعل ذلک هو الزاد الحقیقىّ و الکمال الّذی ینبغی له و هی فی البدیع کالّتی قبلها. و باللّه التوفیق.
القسم الخامس منها
وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ مِنْ شَیْءٍ- إِلَّا وَ یَکَادُ صَاحِبُهُ یَشْبَعُ مِنْهُ- وَ یَمَلُّهُ إِلَّا الْحَیَاهَ فَإِنَّهُ لَا یَجِدُ فِی الْمَوْتِ رَاحَهً- وَ إِنَّمَا ذَلِکَ بِمَنْزِلَهِ الْحِکْمَهِ- الَّتِی هِیَ حَیَاهٌ لِلْقَلْبِ الْمَیِّتِ- وَ بَصَرٌ لِلْعَیْنِ الْعَمْیَاءِ- وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ- وَ رِیٌّ لِلظَّمْآنِ وَ فِیهَا الْغِنَى کُلُّهُ وَ السَّلَامَهُ- کِتَابُ اللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ- وَ تَنْطِقُونَ بِهِ وَ تَسْمَعُونَ بِهِ- وَ یَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ- وَ یَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ- وَ لَا یَخْتَلِفُ فِی اللَّهِ- وَ لَا یُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللَّهِ- قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِیمَا بَیْنَکُمْ- وَ نَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِکُمْ- وَ تَصَافَیْتُمْ عَلَى حُبِّ الْآمَالِ- وَ تَعَادَیْتُمْ فِی کَسْبِ الْأَمْوَالِ- لَقَدِ اسْتَهَامَ بِکُمُ الْخَبِیثُ وَ تَاهَ بِکُمُ الْغُرُورُ- وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِی وَ أَنْفُسِکُمْ
اللغه
أقول: الدمن: ما تلبّد من آثار الناس و ما اسوّد و هو جمع دمنه: و الغلّ: الغشّ و الحقد.
المعنى
و قد استثنى الحیاه ممّا یشبع منه و یملّ ثمّ علّل عدم ملال الحیاه بفقدان الراحه فی الموت. قال بعض الشارحین: إنّ فقدان الراحه فی الموت مخصوص بأهل الشقاوه فی الآخره فأمّا أولیاء اللّه و عباده الصالحون فلهم فی الموت الراحه الکبرى کما أشار إلیه سیّد المرسلین صلّى اللّه علیه و آله و سلّم: لیس للمؤمن راحه دون لقاء اللّه. و قال بعضهم: بل یحمل على العموم مراعاه لظاهر الکلام و ذلک من وجهین:
أحدهما: أنّ بالموت یفوت متجر الآخره و ینقطع الاستعداد لکمال أشرف ممّا حصل علیه المیّت و إن کان ولیّا فلا جرم لا یجد الراحه الّتى تلحقه بما یفوته من ذلک الکمال.
الثانی: أنّ النفوس البشریّه لمّا لم یکن معارفها ضروریّه و لم یتمکّن ما دامت فی هذه الأبدان من الاطّلاع على ما بعد الموت من سعاده أو شقاوه فبالحریّ أن لا تجد لها راحه تتصوّرها فی الموت. قال: و ذلک لا ینافی الخبر: لیس للمؤمن راحه دون لقاء اللّه: أمّا على الوجه الأوّل فلأنّ الراحه الحاصله من الکمال الفائت بالموت لا تحصل له و إن حصل على راحه ما بحسب طاعته السابقه، و أمّا على الثانی فلأنّ المؤمن لا یجد له ما دام فی الدنیا راحه فی الموت و ذلک لا ینافی أن تحصل له الراحه عند لقاء اللّه کما نقل أنّ الحسن علیه السّلام لمّا آن سفره إلى الآخره بکى فقال له أخوه الحسین علیه السّلام: ما لى أراک تکاد تجزع مع یقینک بأنّک تقدم حیث تقدم على جدّک و أبیک. فقال: نعم یا أخى لا شکّ فی ذلک إلّا أنّنى سالک مسلکا لا أسلکه من قبل.
و أقول: إن کان مراده علیه السّلام بقوله: لا یجد فی الموت راحه: أى فی نفس الموت مع قطع النظر عن غیره من أحوال الآخره فالحقّ قول من عمّم فقدان الراحه فی حق الجمیع. إذ الموت من حیث هو موت لا راحه فیه لأحد من الناس کافّه، و إن کان مراده فقدان الراحه فی الموت و ما بعده فالحقّ التخصیص بأهل الشقاوه الدائمه. فإنّ شدّه محبّه الحیاه و نقصانها متفاوته بحسب تصوّر زیاده الراحه فی الآخره و نقصانها، و ذلک ظاهر عند اعتبار أهل الدنیا المقبلین علیها بالکلّیّه، و أهل الآخره المقبلین علیها بالکلّیّه، و من بینهم من طبقات السالکین.
و قوله: و إنّما ذلک. أى الأمر الّذی هو أحقّ بأن لا یملّ و لا یشبع منه بمنزله الحکمه: أی ما کان بمنزله الحکمه، و الحکمه فی لسان الشریعه هى العلم النافع فی الآخره، و قد یطلق على ما هو أعمّ من ذلک. ثمّ ذکر لها أوصافا: الأوّل: أنّها حیاه للقلب المیّت، و قد مرّ أنّ القلب فی عرف العارفین هى النفس الإنسانیّه، و استعار للحکمه لفظ الحیاه، و وجه المشابهه کون الحیاه بها وجود القلب و بقائه کما أنّ الحکمه بها بقاء الإنسان و سعادته فی الدارین، و کذلک استعار لفظ المیّت للقلب الجاهل باعتبار أنّه غیر مطّلع على وجوه مصالحه و مفاسده فی الدارین غیر مهتد لانتفاع أو دفع تضرّر کالمیّت.
الثانی: استعار لفظ البصر للحکمه، و وصف العمیاء لعین الجاهل. ثمّ یجوز أن یکون لفظ العین أیضا استعاره فی بصیره الجاهل، و یجوز أن یکون المراد حقیقته، و وجه الاستعاره الاولى: أنّ بالحکمه یبصر الإنسان مقاصده و یهتدى وجوه مصالحه الدنیویّه و الاخرویّه کما یهتدى البصیر بعینه وجوه مسالکه و مقاصده، و وجه الثانیه: أنّ بصیره الجاهل لا تهتدى لتلک الوجوه کما لا تهتدى العین العمیاء إلى شیء، و وجه الثالثه: أنّ بصر الجاهل تابع لبصیرته فإقدامه و إحجامه و تصرّفاته المنسوبه إلى حسّ البصر و غیره تابعه لما یتصوّره، و لمّا کانت تلک التصرّفات غیر نافعه فی الأکثر بل قد یکون ضارّه لا جرم أشبهت عینه الباصره الّتی وقع بها سوء ذلک التصرف العین العمیاء فاستعیر لها لفظها و کذلک استعار لفظ السمع و لفظ الصّماء للاذن، و وجه الاستعارات ما سبق فإنّ المراد بالسمع إدراک البصیره.
و الاذن یحتمل أن یراد بها البصیره استعاره، أو الاذن المحسوسه، و کذلک استعار لفظ الرّى للحکمه، و لفظ الظمآن للجاهل، و وجه الاولى: أنّ الحکمه تملأ النفس و تجدها شفاء لها من داء الجهل کما یملأ الماء جوف الظمآن و ینقع غلّته و یشفى من ألم الظماء، و وجه الثانیه: أنّ الجاهل یلحقه ألم الجهل و یکون سببا لموته فی الآخره کما یلحق الظمآن ألم الظمأ. الثالث: أنّ فیها الغنى کلّه و السلامه، و أراد بالغنى غنى النفس عن کلّ شیء و کمالها بها فإنّ غایه الحکمه الوصول إلى الحقّ سبحانه و الغرق فی بحار معرفته و فی ذلک غنى العارفین عن کلّ شیء، و أراد بالسلامه سلامه النفوس من عذاب الجهل. إذ ثبت فی اصول الحکمه أنّه السبب الأکبر فی الهلاک الاخروىّ. قوله: کتاب اللّه. خبر مبتدأ: إمّا خبر ثان لذلک، و ما کان بمنزله الحکمه خبر أوّل، أو لمبتدأ محذوف تقدیره و هو کتاب اللّه، و یحتمل أن یکون عطف بیان لما کان بمنزله الحکمه و ذکر له أوصافا:
الأوّل: قوله: تبصرون به. إشاره إلى اشتمال الکتاب على الحکمه، و وجه شبهه بها أنّ به إبصار الجاهلین لمقاصدهم الدنیویّه و الاخرویّه لما فیه من الحکمه.
الثانی: و کذلک ینطقون به.
الثالث: و یسمعون به.
الرابع: قوله: ینطق بعضه ببعض. أى یفسّر بعضه ببعض کالمبیّن المفسّر للمجمل، و المقیّد المبیّن للمطلق، و المخصّص المبیّن للعامّ.
الخامس: و یشهد بعضه على بعض: أى یستشهد ببعضه على أنّ المراد بعض آخر و هو قریب ممّا قبله.
السادس: قوله: و لا یختلف فی اللّه. أی لمّا کان مدار الکتاب على بیان القواعد الکلّیّه الّتی بها یکون صلاح حال نوع الإنسان فی معاشه و معاده و کانت غایه ذلک الجذب إلى اللّه سبحانه و الوصول إلى جواره لم یکن فیه لفظ یختلف فی الدلاله على هذه المقاصد بل کلّه متطابق الألفاظ على مقصود واحد و هو الوصول إلى الحقّ- سبحانه- بصفه الطهاره عن نجاسات هذه الدار و إن تعدّدت الأسباب الموصله إلى ذلک المقصود.
السابع: قوله: و لا یخالف بصاحبه عن اللّه. أی لا یجوز بالمهتدین بأنواره فی سلوک سبیل اللّه عن الغایه الحقیقیّه و هو اللّه- سبحانه- . و قوله: قد اصطلحتم. إلى آخره. توبیخ للسامعین على ارتکاب رذائل الأخلاق، و استعار لفظ الاصطلاح لسکوتهم عن إنکار بعضهم على بعض ما یصدر عنه من المنکر کالغشّ و الحقد و الحسد، و اشتراکهم فی تلک الرذائل. و قوله: و نبت المرعى على دمنکم. یضرب مثلا للمتصالحین فی الظاهر مع غلّ القلوب فیما بینهم، و وجه مطابقه المثل أنّ ذلک الصلح سریع الزوال لا أصل له کما یسرع جفاف النبات فی الدمن.
و قوله: تصافیتم على حبّ الآمال. إشاره إلى وجه الصلح الّذی ذکره و لذلک اسقط حرف العطف هنا.
و قوله: و تعادیتم فی کسب الأموال. إشاره إلى وجه الغلّ الّذی أشار إلیه: أمّا الأوّل: فلأنّ الجامع للناس فی الظاهر هو ما یؤمّل کلّ من صاحبه من الانتفاع به أو دفع شرّه فیما هو بصدده من المأمولات الدنیویّه و إن انطوى له على غلّ کما هو المتعارف فی زماننا، و أمّا الثانی: فلأنّ الأحقاد و العداوات أغلب ما تکون على مجاذبه أموال الدنیا و قیناتها.
و قوله: لقد استهام بکم الخبیث. أى اشتدّ عشقه لکم و لازمکم، و أراد بالخبیث إبلیس، و ذلک تنبیه على ما یظهر منهم من آثار وسوسته و ملازمتهم لما ینهون عنه، و کذلک قوله: و تاه بکم الغرور: أى استغفلکم فتهتم فی استغفاله لکم عن سواء سبیل اللّه، و الغرور هو الشیطان کما قال تعالى «وَ لا یَغُرَّنَّکُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ»«». ثمّ ختم باستعانه اللّه تعالى له و لهم على النفوس الأمّاره بالسوء: أمّا فی حقّه علیه السّلام ففی دوامها مقهوره لعقله، و أمّا فی حقّهم قهرها و قمعها. و باللّه التوفیق.
شرح نهج البلاغه(ابن میثم بحرانی)، ج ۳ ، صفحهى ۱۵۳
بازدیدها: ۹