خطبه132 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول

وَ انْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا- وَ قَذَفَتْ إِلَيْهِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرَضُونَ‏ مَقَالِيدَهَا- وَ سَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصَالِ الْأَشْجَارُ النَّاضِرَةُ- وَ قَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّيرَانَ الْمُضِيئَةَ- وَ آتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ الثِّمَارُ الْيَانِعَةُ

اللغة

أقول: المقاليد: المفاتيح جمع مقلد بكسر الميم. و اليانع من التمار: المدرك.

و هذا الفصل يشتمل على تمجيد اللّه سبحانه و إظهار عظمة سلطانه.

فانقياد الدنيا و الآخرة له بأزمّتها: دخولها ذلّ الإمكان و الحاجة إليه.

و قوله: و قذفت إليه السماوات و الأرضون مقاليدها. كقوله تعالى «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»«» قال ابن عبّاس و مقاتل: المراد بمفاتيح السماوات و الأرض الرزق و الرحمة، و قال الليث: القلاد: الخزانة. و مقاليد السماوات و الأرض خزائنهما، و أقول: لفظ القذف مجاز في تسليمها و انقيادها بزمام الحاجة و الإمكان إلى قدرته مع جميع ما هى سبب في وجوده في هذا العالم ممّا هو رزق و رحمة للخلق، و كذلك لفظ المفاتيح على رأى ابن عبّاس استعارة للأسباب المعدّة للأرزاق و الرحمة، و تلك الأسباب كحركات السماوات و اتّصالات بعض الكواكب ببعض و كاستعدادات الأرض للنبات و غيره، و وجه الاستعارة أنّ هذه الأسباب باعدادها الموادّ الأرضيّة تفتح بها خزائن الجود الإلهىّ كما تفتح الأبواب المحسوسة بمفاتيحها، و كلّها مسلّمة إلى حكمه و جريانها بمشيئته، و على قول الليث فلفظ الخزائن استعارة في موادّها و استعدادتها، و وجه الاستعارة أنّ تلك الموادّ و الاستعدادات تكون فيها بالقوّة و الفعل جميع المحدثات من الأرزاق و غيرها كما يكون في الخزائن ما يحتاج إليه. و سجود الأشجار الناضرة له بالغدوّ و الآصال: خضوعها و ذلّها تحت قدرته و حاجتها إلى جوده، و نسب قدح النيران إليها لما أنّها السبب المادّىّ و إن كان القدح حقيقة في فعال السبب الفاعليّ القريب، و جعل ذلك له تعالى لأنّه الفاعل الأوّل. و قوله: و آتت. إلى آخره.

فأراد بكلماته أوامره و أحكام قدرته المعبّر عنها بقوله: كن، و إطلاق الكلمات عليها استعارة وجهها نفوذ تلك الأحكام في المحكومات كنفوذ الأوامر القوليّة في المأمورات، و أراد بإتيان الثمار دخولها طوعا في الوجود المعبّر عنه بقوله تعالى «فَيَكُونُ». و باللّه التوفيق و العصمة.

القسم الثاني منها:

وَ كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ- نَاطِقٌ لَا يَعْيَا لِسَانُهُ- وَ بَيْتٌ لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ- وَ عِزٌّ لَا تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ

أقول: هذا الفصل كأنّه في معرض التوبيخ على ترك أوامر اللّه و مخالفة أحكامه
و يشبه أن يكون الواو للحال كأنّه يقول: تفعلون كذا و كتاب اللّه بين أظهركم ناطق، و كونه بين أظهرهم كناية عن وجوده بينهم مع أنّ من شأنه أن يستند إليه، و استعار لفظ الناطق للكتاب باعتبار أن المكتوب يعبّر عن المقصود كما أنّ الناطق كذلك، و لفظ اللسان و أنّه لا يعيا ترشيح للاستعارة كنّى بها عن بيان الكتاب على مرور الأوقات، و يحتمل أن يريد باللسان نفسه عليه السّلام مجازا. إذ كان هو لسان الكتاب الّذي لا يفتر و لا يقصر عن بيان مقاصده، و كذلك استعار لفظ البيت باعتبار كونه حافظا لحافظيه و العاملين به كما يحفظ البيت أهله، و أركانه: قواعده الكلّيّة الّتى يبنى عليها نظام العالم من الأوامر و النواهى و المواعظ و الحكم، و تلك القواعد لا تكاد تنهدم في وقت من الأوقات. إذ الحكم الكلّيّة صالحة لجميع الأوقات، و كونه عزّا مجاز إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه. إذ كان حفظه و العمل به مستلزما للعزّ الدائم الّذي لا يعرض له ذلّ، و أعوانه هم اللّه و ملائكته و رسله و أولياؤه.
و أولئك أعوان لا خوف عليهم و لا انهزام لجمعيّتهم من أمر. و باللّه التوفيق.

القسم الثالث منها:

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ تَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ- فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وَ خَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ- فَجَاهَدَ فِي اللَّهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ وَ الْعَادِلِينَ بِهِ

اللغة
أقول: قفّى به: اتّبع به من قبله.

و غرض الفصل الثناء على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فقوله: أرسله. إلى قوله: الألسن. بيان لبعض أمارات النبوّة فإنّ منها الزمان المتطاول الّذى تندرس فيه الشريعة السابقة و القوانين الّتي بها نظام العالم و يحتاج الخلق إلى قوانين مجدّدة لنظام أحوالهم. و حينئذ تجب بعثة رسول. و كان الفترة بين عيسى و محمّد عليهما السّلام ستّة مأئة و عشرين سنة، و منها تنازع الألسن و اختلاف الخلق في الآراء و المذاهب و قلّة الاتّفاق على قانون شرعىّ جامع لهم. فقوله: فقفّى به الرسل. كقوله تعالى «وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ»«».

و قوله: و ختم به الوحى. كقوله «وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» و هذا الختام مستفاد من الشريعة و ليس للعقل في الحكم بانقطاع الرسل فيما بعد مجال بل ذلك من الامور الممكنة عنده. و المدبرون عن اللّه: المعرضون عن اتّباع أوامره و نواهيه. و العادلون به: الجاعلون له عديلا و هو الندّ و المثل كالمشركين- تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا- و نسبة المجاهدة إلى اللّه تعالى استعارة، و وجهها أنّه تعالى رمى بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المشركين كما يرمى المجاهد بنفسه و أعوانه مجاهديه. و باللّه التوفيق.

القسم الرابع منها:

وَ إِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى- لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً- وَ الْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ- وَ يَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا- فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ- وَ الْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ- وَ الْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ- وَ الْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ

اللغة
أقول: الشاخص: الذاهل و المسافر، و الشاخص أيضا الّذي يرفع بصره إلى الشي‏ء و يمدّه إليه.

و هذا الفصل مع قلّة ألفاظه يشتمل على لطائف:
فالاولى: أنّ الدنيا منتهى بصر الأعمى شيئا
و استعار لفظ الأعمى للجاهل كقوله تعالى «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ»«» و وجه الاستعارة أنّ الجاهل لا يدرك بعين بصيرته الحقّ كما لا يدرك الأعمى من المبصرات، و أشار بقوله: لا يبصر من ورائها شيئا إلى جهله بأحوال الموت و ما بعده من سعادة الآخرة و شقاوتها.
فإن قلت: إنّه أثبت للأعمى العمى، و أثبت أنّه يبصر الدنيا و ذلك نوع مناقضة.
قلت: إنّه لمّا أراد بالأعمى أعمى البصيرة و هو الجاهل استعارة لم يكن في إثبات البصر الحسّى له و نظر الدنيا به مناقضة، و يحتمل أن يريد ببصره أيضا بصر بصيرته استعارة، و ظاهر أن منتهى بصر بصيرة الجاهل التصرّف في أحوال الدنيا و كيفيّة تحصيلها و التمتّع بها دون أن يفيده عبرة لما ورائها من أحوال الآخرة.

الثانية: قوله: و البصير ينفذها بصره
استعار لفظ البصير للعالم، و نفوذ بصره كناية عن إدراكه ما وراء الدنيا من أحوال الآخرة و علمه أنّها دار القرار.

الثالثة: قوله: فالبصير منها شاخص
أى راحل مسافر قد جعلها طريقا له إلى الآخرة، و الأعمى إليها شاخص: أى متطلّع إليها بعين بصيرته و وهمه و إن كان أعمى عن مصالحه الحقيقيّة و عن آفاتها و طرقها المخوفة، و في هذه الكلمة مع الّتي قبلها من أقسام البديع التجنيس التامّ و المطابقة بين الأعمى و البصير.
الرابعة: قوله: و البصير منها متزوّد

أى بالتقوى و الأعمال الصالحة في سفره إلى اللّه تعالى، و الأعمى لها متزوّد: أى متّخذ للذّاتها و قيناتها زادا له في قطعها مدّة عمره قد جعل ذلك هو الزاد الحقيقىّ و الكمال الّذي ينبغي له و هي في البديع كالّتي قبلها. و باللّه التوفيق.

 

القسم الخامس منها

وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْ‏ءٍ- إِلَّا وَ يَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ- وَ يَمَلُّهُ إِلَّا الْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً- وَ إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ- الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ- وَ بَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ- وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ- وَ رِيٌّ لِلظَّمْآنِ وَ فِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ وَ السَّلَامَةُ- كِتَابُ اللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ- وَ تَنْطِقُونَ بِهِ وَ تَسْمَعُونَ بِهِ- وَ يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ- وَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ- وَ لَا يَخْتَلِفُ فِي اللَّهِ- وَ لَا يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللَّهِ- قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ- وَ نَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ- وَ تَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ الْآمَالِ- وَ تَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الْأَمْوَالِ- لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكُمُ الْخَبِيثُ وَ تَاهَ بِكُمُ الْغُرُورُ- وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ

اللغة
أقول: الدمن: ما تلبّد من آثار الناس و ما اسوّد و هو جمع دمنة: و الغلّ: الغشّ و الحقد.

المعنى
و قد استثنى الحياة ممّا يشبع منه و يملّ ثمّ علّل عدم ملال الحياة بفقدان الراحة في الموت. قال بعض الشارحين: إنّ فقدان الراحة في الموت مخصوص بأهل الشقاوة في الآخرة فأمّا أولياء اللّه و عباده الصالحون فلهم في الموت الراحة الكبرى كما أشار إليه سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس للمؤمن راحة دون لقاء اللّه. و قال بعضهم: بل يحمل على العموم مراعاة لظاهر الكلام و ذلك من وجهين:

أحدهما: أنّ بالموت يفوت متجر الآخرة و ينقطع الاستعداد لكمال أشرف ممّا حصل عليه الميّت و إن كان وليّا فلا جرم لا يجد الراحة الّتى تلحقه بما يفوته من ذلك الكمال.

الثاني: أنّ النفوس البشريّة لمّا لم يكن معارفها ضروريّة و لم يتمكّن ما دامت في هذه الأبدان من الاطّلاع على ما بعد الموت من سعادة أو شقاوة فبالحريّ أن لا تجد لها راحة تتصوّرها في الموت. قال: و ذلك لا ينافي الخبر: ليس للمؤمن راحة دون لقاء اللّه: أمّا على الوجه الأوّل فلأنّ الراحة الحاصلة من الكمال الفائت بالموت لا تحصل له و إن حصل على راحة ما بحسب طاعته السابقة، و أمّا على الثاني فلأنّ المؤمن لا يجد له ما دام في الدنيا راحة في الموت و ذلك لا ينافي أن تحصل له الراحة عند لقاء اللّه كما نقل أنّ الحسن عليه السّلام لمّا آن سفره إلى الآخرة بكى فقال له أخوه الحسين عليه السّلام: ما لى أراك تكاد تجزع مع يقينك بأنّك تقدم حيث تقدم على جدّك و أبيك. فقال: نعم يا أخى لا شكّ في ذلك إلّا أنّنى سالك مسلكا لا أسلكه من قبل.

و أقول: إن كان مراده عليه السّلام بقوله: لا يجد في الموت راحة: أى في نفس الموت مع قطع النظر عن غيره من أحوال الآخرة فالحقّ قول من عمّم فقدان الراحة في حق الجميع. إذ الموت من حيث هو موت لا راحة فيه لأحد من الناس كافّة، و إن كان مراده فقدان الراحة في الموت و ما بعده فالحقّ التخصيص بأهل الشقاوة الدائمة. فإنّ شدّة محبّة الحياة و نقصانها متفاوته بحسب تصوّر زيادة الراحة في الآخرة و نقصانها، و ذلك ظاهر عند اعتبار أهل الدنيا المقبلين عليها بالكلّيّة، و أهل الآخرة المقبلين عليها بالكلّيّة، و من بينهم من طبقات السالكين.

و قوله: و إنّما ذلك. أى الأمر الّذي هو أحقّ بأن لا يملّ و لا يشبع منه بمنزلة الحكمة: أي ما كان بمنزلة الحكمة، و الحكمة في لسان الشريعة هى العلم النافع في الآخرة، و قد يطلق على ما هو أعمّ من ذلك. ثمّ ذكر لها أوصافا: الأوّل: أنّها حياة للقلب الميّت، و قد مرّ أنّ القلب في عرف العارفين هى النفس الإنسانيّة، و استعار للحكمة لفظ الحياة، و وجه المشابهة كون الحياة بها وجود القلب و بقائه كما أنّ الحكمة بها بقاء الإنسان و سعادته في الدارين، و كذلك استعار لفظ الميّت للقلب الجاهل باعتبار أنّه غير مطّلع على وجوه مصالحه و مفاسده‏ في الدارين غير مهتد لانتفاع أو دفع تضرّر كالميّت.

الثاني: استعار لفظ البصر للحكمة، و وصف العمياء لعين الجاهل. ثمّ يجوز أن يكون لفظ العين أيضا استعارة في بصيرة الجاهل، و يجوز أن يكون المراد حقيقته، و وجه الاستعارة الاولى: أنّ بالحكمة يبصر الإنسان مقاصده و يهتدى وجوه مصالحه الدنيويّة و الاخرويّة كما يهتدى البصير بعينه وجوه مسالكه و مقاصده، و وجه الثانية: أنّ بصيرة الجاهل لا تهتدى لتلك الوجوه كما لا تهتدى العين العمياء إلى شي‏ء، و وجه الثالثة: أنّ بصر الجاهل تابع لبصيرته فإقدامه و إحجامه و تصرّفاته المنسوبة إلى حسّ البصر و غيره تابعة لما يتصوّره، و لمّا كانت تلك التصرّفات غير نافعة في الأكثر بل قد يكون ضارّة لا جرم أشبهت عينه الباصرة الّتي وقع بها سوء ذلك التصرف العين العمياء فاستعير لها لفظها و كذلك استعار لفظ السمع و لفظ الصّماء للاذن، و وجه الاستعارات ما سبق فإنّ المراد بالسمع إدراك البصيرة.

و الاذن يحتمل أن يراد بها البصيرة استعارة، أو الاذن المحسوسة، و كذلك استعار لفظ الرّى للحكمة، و لفظ الظمآن للجاهل، و وجه الاولى: أنّ الحكمة تملأ النفس و تجدها شفاء لها من داء الجهل كما يملأ الماء جوف الظمآن و ينقع غلّته و يشفى من ألم الظماء، و وجه الثانية: أنّ الجاهل يلحقه ألم الجهل و يكون سببا لموته في الآخرة كما يلحق الظمآن ألم الظمأ. الثالث: أنّ فيها الغنى كلّه و السلامة، و أراد بالغنى غنى النفس عن كلّ شي‏ء و كمالها بها فإنّ غاية الحكمة الوصول إلى الحقّ سبحانه و الغرق في بحار معرفته و في ذلك غنى العارفين عن كلّ شي‏ء، و أراد بالسلامة سلامة النفوس من عذاب الجهل. إذ ثبت في اصول الحكمة أنّه السبب الأكبر في الهلاك الاخروىّ. قوله: كتاب اللّه. خبر مبتدأ: إمّا خبر ثان لذلك، و ما كان بمنزلة الحكمة خبر أوّل، أو لمبتدأ محذوف تقديره و هو كتاب اللّه، و يحتمل أن يكون عطف بيان لما كان بمنزلة الحكمة و ذكر له أوصافا:

الأوّل: قوله: تبصرون به. إشارة إلى اشتمال الكتاب على الحكمة، و وجه شبهه بها أنّ به إبصار الجاهلين لمقاصدهم الدنيويّة و الاخرويّة لما فيه من الحكمة.

الثاني: و كذلك ينطقون به.

الثالث: و يسمعون به.

الرابع: قوله: ينطق بعضه ببعض. أى يفسّر بعضه ببعض كالمبيّن المفسّر للمجمل، و المقيّد المبيّن للمطلق، و المخصّص المبيّن للعامّ.

الخامس: و يشهد بعضه على بعض: أى يستشهد ببعضه على أنّ المراد بعض آخر و هو قريب ممّا قبله.

السادس: قوله: و لا يختلف في اللّه. أي لمّا كان مدار الكتاب على بيان القواعد الكلّيّة الّتي بها يكون صلاح حال نوع الإنسان في معاشه و معاده و كانت غاية ذلك الجذب إلى اللّه سبحانه و الوصول إلى جواره لم يكن فيه لفظ يختلف في الدلالة على هذه المقاصد بل كلّه متطابق الألفاظ على مقصود واحد و هو الوصول إلى الحقّ- سبحانه- بصفة الطهارة عن نجاسات هذه الدار و إن تعدّدت الأسباب الموصلة إلى ذلك المقصود.

السابع: قوله: و لا يخالف بصاحبه عن اللّه. أي لا يجوز بالمهتدين بأنواره في سلوك سبيل اللّه عن الغاية الحقيقيّة و هو اللّه- سبحانه- . و قوله: قد اصطلحتم. إلى آخره. توبيخ للسامعين على ارتكاب رذائل الأخلاق، و استعار لفظ الاصطلاح لسكوتهم عن إنكار بعضهم على بعض ما يصدر عنه من المنكر كالغشّ و الحقد و الحسد، و اشتراكهم في تلك الرذائل. و قوله: و نبت المرعى على دمنكم. يضرب مثلا للمتصالحين في الظاهر مع غلّ القلوب فيما بينهم، و وجه مطابقة المثل أنّ ذلك الصلح سريع الزوال لا أصل له كما يسرع جفاف النبات في الدمن.

و قوله: تصافيتم على حبّ الآمال. إشارة إلى وجه الصلح الّذي ذكره و لذلك اسقط حرف العطف هنا.

و قوله: و تعاديتم في كسب الأموال. إشارة إلى وجه الغلّ الّذي أشار إليه: أمّا الأوّل: فلأنّ الجامع للناس في الظاهر هو ما يؤمّل كلّ من صاحبه من الانتفاع به أو دفع شرّه فيما هو بصدده من المأمولات الدنيويّة و إن انطوى له على غلّ كما هو المتعارف في زماننا، و أمّا الثاني: فلأنّ الأحقاد و العداوات أغلب ما تكون على مجاذبة أموال الدنيا و قيناتها.

و قوله: لقد استهام بكم الخبيث. أى اشتدّ عشقه لكم و لازمكم، و أراد بالخبيث إبليس، و ذلك تنبيه على ما يظهر منهم من آثار وسوسته و ملازمتهم لما ينهون عنه، و كذلك قوله: و تاه بكم الغرور: أى استغفلكم فتهتم في استغفاله لكم عن سواء سبيل اللّه، و الغرور هو الشيطان كما قال تعالى «وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ»«». ثمّ ختم باستعانة اللّه تعالى له و لهم على النفوس الأمّارة بالسوء: أمّا في حقّه عليه السّلام ففي دوامها مقهورة لعقله، و أمّا في حقّهم قهرها و قمعها. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 153

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.