و من خطبة له عليه السّلام فى ذم أهل العراق
أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْمَرْأَةِ الْحَامِلِ- حَمَلَتْ فَلَمَّا أَتَمَّتْ أَمْلَصَتْ وَ مَاتَ
قَيِّمُهَا- وَ طَالَ تَأَيُّمُهَا وَ وَرِثَهَا أَبْعَدُهَا- . أَمَا وَ اللَّهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَاراً- وَ لَكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ
سَوْقاً- وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلِيٌّ يَكْذِبُ قَاتَلَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى- فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ أَ عَلَى
اللَّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ- أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ- كَلَّا وَ اللَّهِ لَكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ
عَنْهَا- وَ لَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا- وَيْلُ أُمِّهِ كَيْلًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ لَوْ كَانَ لَهُ وِعَاءٌ- وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ
اللغة
أقول:
أملصت: أسقطت.
و الأيّم: الّتى. لا بعل لها.
و اللهجة: اللسان و القول الفصيح.
و هذا الكلام صدر عنه بعد حرب صفّين. و فيه مقصودان:
الأوّل: توبيخهم على تركهم للقتال بعد أن شارفوا النصر على أهل الشام، و تخاذلهم إلى التحكيم
و أبرز هذا المقصود في تشبيههم بالمرأة الحامل، و ذكر لها أوصافا
خمسة، و هى وجود الشبه بينها و بينهم فالحمل يشبه استعدادهم و تعبيتهم للحرب، و الاتمام يشبه مشارفتهم للظفر، و الإملاص يشبه رجوعهم عن عدوّهم بعد طمعهم في الظفر به و ذلك رجوع غير طبيعىّ و لا معتاد للعقلاء كما أنّ الإملاص أمر غير طبيعىّ للحامل و لا معتاد لها، ثمّ موت القيّم بامورها و هو زوجها و طول غربتها، و ذلك يشبه عدم طاعتهم له الجارى مجرى موته عنهم و طول ضعفهم لذلك و دوام عجزهم و ذلّتهم بعد رجوعهم لتفرّقهم إلى خوارج و رهم فإنّ موت قيّم المرأة مستلزم لضعفها و دوام عجزها و ذلّتها، ثمّ كونها قد استحقّ ميراثها البعيد عنها لعدم ولدها و زوجها و ذلك يشبه من حالهم أخذ عدوّهم الّذي هو أبعد الناس عنهم ما لهم من البلاد، و استحقاقه ذلك بسبب تقصيرهم عن مقاومته. و بهذه الوجوه من الشبه اشبهوا المرأة المذكورة و تمّ توبيخهم من هذه الجهة، ثمّ أخبرهم على التضجّر من حاله معهم بأنّه لم يأتهم إيثارا للمقام بينهم و لكن سوقا قدريّا اضطرّه إلى ذلك. و صدق. إذ لم يكن خروجه من المدينة الّتي هى دار الهجرة و مفارقة منزل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قبره إلى الكوفة إلّا لقتال أهل البصرة، و حاجته إلى الاستنصار بأهل الكوفة عليهم إذ لم يكن جيش الحجاز وافيا بمقاتلتهم ثمّ اتّصلت تلك الفتنة بفتنة أهل الشام فدامت حاجته إلى المقام بينهم، و روى و لا حبئت إليكم شوقا بالشين المعجمة.
و المقصود الثاني: توبيخهم على ما بلغه من تكذيبهم له، و مقابلته لهم على ذلك
بردّ أحكام أوهامهم الفاسدة في حقّه، و ذمّهم بجهلهم و قصور أفهامهم عمّا يفيده من الحكمة: و هو قوله: و لقد بلغنى أنّكم تقولون. يكذّب صورة دعواهم المقولة و قد كان جماعة من منافقى أصحابه إذا أخبر عن امور ستكون، أو كانت ثمّ أخبر عنها و أسند ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يتحادثون فيما بينهم بتكذيبه فيبلغه ذلك كإخباره عن قصّة الخوارج و ما يكون منهم، و عن ذى الثدية، و أنّه سيقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين و نحو ذلك من الامور الغريبة الّتى تستنكرها طباع العوامّ و لا يعقل أسرارها إلّا العالمون بل كانوا يكذّبونه بمحضره. روى أنّه لمّا قال: لو كسرت لى الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم، و اللّه ما من آية نزلت في
برّ أو بحر أو سهل أو جبل و لا سماء و لا أرض إلّا و أنا أعلم فيمن نزلت و في أىّ شيء انزلت. قال رجل من تحت المنبر: يا للّه و للدعوى الكاذبة. و كذلك لمّا قال: سلونى قبل أن تفقدونى أما و اللّه لتشعرنّ الفتنة الغماء برجلها و يطأ في خطامها يا لها فتنة شبّت نارها بالحطب الجزل مقبلة من شرق الأرض رافعة ذيلها داعية ويلها بدجلة أو حولها ذاك إذا استدار الفلك و قلتم مات أو هلك بأىّ واد سلك. فقال قوم من تحت منبره: للّه أبوه ما أفصحه كاذبا. و كأنّها إشارة إلى واقعة التتار. و قابل دعواهم بأمرين: أحدهما: الدعاء عليهم بقتال اللّه لهم، و قد علمت أنّ قتاله يعود إلى مقته و إبعادهم عن رحمته.
الثاني: الحجّة و تقريرها: أنّ الّذي أخبركم به من هذه الامور إنّما هو عن اللّه و عن رسوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم فلو كذبت فيه لكذبت إمّا على اللّه و هو باطل لأنّى أوّل من آمن به و أوّل مؤمن به لا يكون أوّل مكذّب له، أو على نبيّه و هو باطل لأنّى أوّل من صدّقه و اتّبع ملته.
و قوله: كلّا و اللّه. ردّ لصدق دعواهم بعد الحجّة كأنّه قال: فإذن دعواكم علىّ الكذب فيما اخبركم به باطلة.
و قوله: و لكنّها لهجة غبتم عنها و لم تكونوا من أهلها.
يريد به بيان منشأ دعويهم الفاسدة لتكذيبه، و ذلك كون ما يقوله و يخبر به من الامور المستقبلة و نحوها طورا وراء عقولهم الضعيفة الّتى هى بمنزلة أوهام ساير الحيوان و ليسوا لفهم أسرارها بأهل. و أشار باللهجة إلى تلك الأقوال و أسرارها و بغيبتهم عنها إلى غيبة عقولهم عن إدراكها و معرفة إمكانها في حقّ مثله أو إلى غيبتهم عنها عند إلقاء الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم قوانينها الكلّية إليه و تعليمه لأبوابها و تفصيل
ما فصّل منها له. و ظاهر أنّه لمّا كانت عقول اولئك و أمثالهم مقهورة تحت سلطان أوهامهم و كان الوهم مكذّبا و منكرا لمثل هذه الأحكام لا جرم لم تنتهض عقولهم لتصديقه عليه السّلام فيها و لم تجوّز اطّلاعه عليها بل تابعت أوهامهم في الحكم بتكذيبه. و حاله في ذلك مختصرة من حال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم
مع منافقى قومه.
و قوله: ويل امّه.
فالويل في الأصل دعاء بالشرّ، أو خبر به: و إضافته إلى الامّ دعاء عليها أن تصاب بأولادها، و قيل: إنّها تستعمل للرحمة، و قيل تستعمل للتعجّب و استعظام الأمر.
و قوله: كيلا بغير ثمن.
إشارة إلى ما يفيضه عليهم من الأخلاق الكريمة و الحكم البالغة الّتى لا يريد بها جزاء و لا ثمنا ثمّ لا يفقهونها و لا يهذّبون بها أنفسهم لكون نفوسهم غير مستعدّة لقبولها فليس لها إذن من تلك الأنفس وعاء يقبلها. و استعار لفظ الكيل و كنّى به عن كثرة ما يلقيه إليهم منها و هو مصدر استغنى به عن ذكر فعله. فعلى هذا يحتمل أن يكون ويل امّه دعاء بالشرّ على من لم يفقه مقاله و لم يقتبس الحكمة منه، و الضمير لإنسان ذلك الوقت و إن لم يجر له ذكر سابق مفرد يعود إليه لكنّه موجود في كلّ شخص منهم و كأنّه قال: ويل لامّهم، و يحتمل أن يكون ترحّما لهم فإنّ الجاهل مرحوم، و يحتمل أن يكون تعجّبا من قوّة جهلهم أو من كثرة كيله للحكم عليهم مع إعراضهم عنها.
و قوله: و لتعلمّن نبأه بعد حين.
اقتباس لهذه الآية المفصحة عن مقصوده: أى و لتعلمّن نبأ جهلكم و إعراضكم عمّا أمركم به و ألقاه إليكم من الحكم و الآراء الصالحة، و ينكشف لهم ثمرة ذلك بعد حين.
و أشار بالحين إمّا إلى مدّة الحياة الدنيا. و ثمرة أفعالهم إذن الندامة و الحسرة على ما فرّطوا في جنب اللّه حيث لا ينفع إلّا الأعمال الصالحة و ذلك حين تزول عنهم غواشى أبدانهم و تطرح نفوسهم جلابيبها بالموت، و إمّا إلى مدّة حياته هو: أى ستعلمون عاقبة فعلكم هذا بعد مفارقتى لكم. و العاقبة إذن ابتلاؤهم بمن بعده من بنى اميّة و غيرهم بالقتل و الذلّ و الصغار.
و باللّه العصمة و التوفيق.
شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی ج2 صفحه ی193