خطبه 148 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قبل موته

أَيُّهَا النَّاسُ- كُلُّ امْرِئٍ لَاقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ- الْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ وَ الْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ- كَمْ أَطْرَدْتُ الْأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هَذَا الْأَمْرِ- فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا إِخْفَاءَهُ هَيْهَاتَ عِلْمٌ مَخْزُونٌ- أَمَّا وَصِيَّتِي فَاللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً- وَ مُحَمَّداً ص فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ- أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ- وَ أَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ- وَ خَلَاكُمْ ذَمٌّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا- حُمِّلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ مَجْهُودَهُ- وَ خُفِّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ- رَبٌّ رَحِيمٌ وَ دِينٌ قَوِيمٌ وَ إِمَامٌ عَلِيمٌ- أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ- وَ أَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَ غَداً مُفَارِقُكُمْ- غَفَرَ اللَّهُ لِي وَ لَكُمْ- إِنْ تَثْبُتِ الْوَطْأَةُ فِي هَذِهِ الْمَزَلَّةِ فَذَاكَ- وَ إِنْ تَدْحَضِ الْقَدَمُ فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفْيَاءِ أَغْصَانٍ- وَ مَهَبِّ رِيَاحٍ وَ تَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ- اضْمَحَلَّ فِي الْجَوِّ مُتَلَفَّقُهَا وَ عَفَا فِي الْأَرْضِ مَخَطُّهَا- وَ إِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً- وَ سَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلَاءً- سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاكٍ وَ صَامِتَةً بَعْدَ نُطُوقٍ- لِيَعِظْكُمْ هُدُوِّي وَ خُفُوتُ إِطْرَاقِي وَ سُكُونُ أَطْرَافِي- فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِيغِ- وَ الْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ- وَدَاعِي لَكُمْ وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلَاقِي- غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي وَ يُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي- وَ تَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَ قِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي

اللغة

أقول: أطردت الأيّام: صيّرتها طريدة لي. و شرد الجمل: ذهب لوجهه. و دحضت القدم: زلفت. و اضمحلّ: فنى. و المخطّ: الأثر.

و هذا الفصل محلّ الوعظ و الاعتبار.
فأيّه بالناس و نبّههم على لحوق ضرورة الموت المنفور منه طبعا. و أحسن بقوله: في فراره. فإنّه لمّا كان الإنسان دائما فارّا من الموت و متوقيّا له، و كان لابدّ منه. لا جرم كان ضرورىّ اللقاء له في فراره.

و الأجل قد يراد به غاية الحياة الدنيا كما قال تعالى «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ»«» و قد يراد به المدّة المضروبة للإنسان و هى مدّة عمره، و إيّاه عنى هاهنا بقوله:

و الأجل مساق النفس فإنّ مدّة بقائها في هذا البدن هو مساقها إلى غايتها لا محلّ قرارها. و قوله: و الهرب منه موافاته. في غاية اللطف، و ذلك أنّ الفارّ من الموت مثلا بالحركات و العلاجات و نحوها يستلزم حركاته في ذلك فناء الأوقات و تصرّمها و قطع تلك الأوقات مستلزم لملاقاته و موافاته فأطلق لفظ الموافاة على الهرب مجازا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه. و قوله: كم أطردت الأيّام. أى صيّرتها طريدة لي أتّبع بعضها بعضا بالبحث و تعرّف مكنون هذا الأمر: أى الّذى وقع له من القتل، و ذلك المكنون هو وقته المعيّن بالتفصيل و مكانه فإنّ ذلك ممّا استأثر اللّه تعالى بعلمه كقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» و قوله «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ»«» و إن كان قد أخبره الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكيفيّة قتله مجملا كما روى عنه أنّه قال: ستضرب على هذه- و أشار إلى هامّته- فيخضب منها هذه- و أشار إلى لحيته- . و عنه أنّه قال: أتعلم من أشقى الأوّلين قال: نعم عاقر الناقة. فقال له: أتعلم من أشقى الآخرين قال: لا. قال: من يضربك هاهنا فيخضب هذه. و أمّا بحثه هو فعن تفصيل الوقت و المكان و نحوهما من القرائن المشخّصه، و ذلك البحث إمّا بالسؤال من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مدّة حياته و كتمانه إيّاه أو بالفحص و التفرّس من قرائن أحواله في سائر أوقاته مع الناس.

فأبى اللّه إلّا أن تخفى عنه تلك الحال. هيهات: أى بعد ذلك العلم فهو علم مخزون. ثمّ شرع في الوصيّة فبدء بالأهمّ فالأهمّ فالأوّل: هو الإخلاص للّه بالإعراض عن كلّ ما سواه، و في ذلك لزوم أوامره و نواهيه و سائر ما نطق به كتابه العزيز. الثاني: لزوم سنّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عدم إهمالها. و إنّما قدّم اسم اللّه على محمّد لما بيّنا أنّ الواجب في علم البيان تقديم الأهمّ. ثمّ أكّد القول في الأمر باتّباع التوحيد المطلق و السنّة النبويّة، و استعار لهما لفظ العمودين و رشّح بذكر الإقامة، و لفظ المصباحين و رشّح بذكر الإيقاد، و وجه الاستعارة الاولى أنّ مدار الإسلام و نظام امور المسلمين في معاشهم و معادهم على توحيد اللّه و لزوم ما جاء به رسوله كما أنّ مدار الخيمة و قيامها بالعمد، و وجه الثانية: أنّ توحيد اللّه و الاقتداء بما جاء به رسوله مستلزمان للهداية في طريقه من ظلمات الجهل قائدان إلى جواره في جنّات النعيم و هو المطلوب الحقيقيّ كما يهدى المصباح في الظلام على الطريق إلى المطلوب. و قوله: و خلاكم ذمّ. أي عداكم، و هى كلمة تجري مجرى المثل: أي عند لزومكم لتوحيد اللّه و سنّة رسوله لا ذمّ عليكم، و أوّل من قالها قصير مولى جذيمة حين حثّ عمرو بن عديّ ابن اخت جذيمة على ثاره من الزباء. فقال له عمرو: كيف لي بذلك و الزباء أمنع من عقاب الجوّ. فقال له قصير: اطلب الأمر و خلاك ذمّ. و قوله: ما لم تشردوا. استثناء من نفى لحوق الذمّ لهم: أى أوقدوا هذين المصباحين فما دمتم كذلك فلا ذمّ يلحقكم إلّا أن تشردوا: أي تنفرّقوا عمّا أنتم عليه.

ثمّ لمّا كان قد أمرهم بلزوم هذين الأمرين اللذين يدور عليهما التكليف بيّن لهم بقوله: حمل كلّ امري‏ء منكم. إلى قوله: الجهلة. أنّ التكليف بذلك يتفاوت فكلّ امرء من العلماء و أهل النباهة و من هو بصدد العلم يحمل مجهوده و طاقته منه بالتنبيه على الأدلّة و تعليمها، و أمّا الجهّال كالنساء و أهل البادية و الزنج و نحوهم من أهل الغباوة فتكليفهم دون ذلك و هو بالمحسوس من العبادات دون الأمر بالتفكّر في مقاصدها. ثمّ ذكر وصف الرحمة للربّ لمناسبة ما سبق من ذكر التخفيف عن الجهلة في التكليف. و دين قويم: لا عوج فيه و لا زيغ عن القصد الحقيقيّ. و إمام عليم: إشارة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العالم بكيفيّة سلوك طريق اللّه و مراحلها و منازلها، و الهادى فيها بما يقتضيه حكمته من القول و العمل، أو إلى نفسه لكونه وارث علمه و سالك مسالكه. و ربّ: خبر مبتدأ محذوف و تقديره و ذلك المكلّف ربّ رحيم، و يجوز أن يكون فاعلا لفعل يفسّره قوله: حمل و خفّف: أي يحملكم ربّ كقوله تعالى «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ.

لِلرِّجالِ»«» ثمّ ختم الوصيّة بالدعاء لهم و له و بطلب المغفرة. ثمّ تمّم بالتنبيه لهم على وجه الاعتبار به، و هو تصرّف حالاته بحسب الأزمان فقد كان بالأمس صاحبهم في الحرب و منازعة الأقران و صاحب الأمر و النهي فيهم، و اليوم عبرة لهم بحال مصرعه و ضعفه عن الحراك، و غدا مفارقهم بالموت. و كلّ هذه التغييرات محلّ الاعتبار يجب التنبيه لها. و أراد بغد إمّا حقيقة إن كان قد غلب على ظنّه موته في تلك الواقعة، أو ما يستقبل من الزمان و إن بعد، و هذا أرجح لقوله: إن ثبتت الوطأة في هذه المزلّة: أي إن يكن لي ثبات في الدنيا و بقاء في هذه المزلّة: أي محلّ الزوال عن الحياة فذاك المرجوّ، و كنّى بثبات الوطأة عمّا ذكرناه، و بدحض القدم عن عدم ذلك بالموت.

و قوله في جواب الشرط: فإنّا كنّا في أفياء أغصان. إلى قوله: مخطّها. أي و إن نمت فإنّا كنّا في كذا. و كنّى بالامور المذكورة عن أحوال الدنيا و ملذّاتها و بقائه فيها و متاعه بها، و قيل: استعار لفظ الأغصان للأركان الأربعة من العناصر، و لفظ الأفياء لما تستريح فيه النفوس من تركيبها في هذا العالم، و وجه الاستعارة الاولى: أنّ الأركان في مادّتها كالأغصان للشجرة، و وجه الثانية: أنّ الأفياء محلّ الاستراحة و اللذة كما أنّ الكون في هذا البدن حين صحّة التركيب و اعتدال المزاج من هذه الأركان كذلك. و كذلك استعار لفظ مهابّ الرياح للأبدان، و لفظ الرياح للأرواح و النفحات الإلهيّة عليها في هذه الأبدان، و وجه الاولى: قبول الأبدان لنفحات الجود كقبول مهابّ الرياح لها استعارة لفظ المحسوس للمعقول، و وجه الثانية: أظهر من أن يذكر. و كذلك لفظ الغمام للأسباب العلويّة من الحركات السماويّة و الاتّصالات الكوكبيّة و الأرزاق المفاضة على الإنسان في هذا العالم الّتي هي سبب بقائها، و وجهها الاشتراك في الإفاضة و السببيّته، و كنّى بظلّها عمّا يستراح إليه منها كما يقال: فلان يعيش في ظلّ فلان: أي في عيشه و عنايته، و كنّى باضمحلال متلفّقها في الجوّ عن تفرّق الأسباب العلويّة للبقاء و فنائها، و بعفاء مخطّها في الأرض عن فناء آثارها في الأبدان، و الضمير في متلفّقها يعود إلى الغمام، و في مخطّها يعود إلى مهابّ الرياح.

و قوله: فإنّما كنت جارا جاوركم بدني أيّاما. فيه تنبيه على أنّ نفسه القدسيّة كانت متّصلة بالملأ الأعلى، و لم يكن لها ميل إلى البقاء في الدنيا و مجاورة أهلها فيها فكانت مجاورته لهم ببدنه فقط، و أيضا فإنّ المجاورة من عوارض الجسميّة فيحتمل أن يكون ذلك تنبيها منه على وجود أمر آخر غير البدن و هو النفس، و كنّى بالأيّام عن مدّة حياته الدنيا. و قوله: و ستعقبون. أي توجدون في عاقبة أمركم منّى جثّة خالية لا روح بها و لا حراك قد افقرت من تلك المعاني المعهودة لكم من العقل و النطق و القوّة فهي متبدّلة بالحراك السكون، و بالنطق السكوت. ثمّ عاد إلى أمرهم بالاتّعاظ بذلك الهدوء و خفوت الأطراق و سكون الأطراف بالموت. و قوله: فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطيق البليغ. صاحب اللسن و الفصاحة.
كلام حقّ فإنّ الطباع أكثر انفعالا و اعتبارا عن مشاهدة ما فيه العبرة من الوصف له بالقول المسموع، و لو بأبلغ عبارة. ثمّ أخذ عليه السّلام في توديعهم.

فقوله: و داعيكم. إنشاء لاخبر. و قوله: وداع امرء مرصد للتلاقي. أى معدّ و مهيّأ للقاء اللّه. و قوله: غدا ترون أيّامي. إلى آخره. تذكير لهم بفضيلته و تنبيه عليها ليثبت متّبعوه على اتّباعه، و الغافلون عن فضله و محلّه بينهم إذا فارقهم و ولّى أمرهم الظالمون بعده فلابدّ أن ينكشف لهم ما كان مغطّى عن أعين بصائرهم من لزومه للقصد في سبيل اللّه، و يعرفون منزلته و فضله حين مشاهدة المنكرات ممّن يقوم مقامه خلفا في الناس. و إنّ وقائعه و حروبه‏ و حرصه على هذا الأمر لم يكن لنيل دنيا بل لإقامة سنن العدل و رضا اللّه تعالى.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 208

 

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.