google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
180-200 خطبه شرح وترجمه میر حبیب الله خوئیخطبه ها شرح و ترجمه میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه خطبه هاخطبه شماره 191/2 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)قاصعة

خطبه 192 صبحی صالح

192- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه اللّه، على استكباره و تركه السجود لآدم ( عليه‏السلام  )، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ‏خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ

رأس العصيان‏

وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ

ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ

فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ‏

اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ

أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً

ابتلاء اللّه لخلقه‏

وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِوَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ

طلب العبرة

فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ

فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً

إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ

التحذير من الشيطان‏

فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ

فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَ قَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ

صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِوَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ

اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ

وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ

فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ

فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ

لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ

فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ

وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ‏وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلًا وَ فُرْسَاناً

وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ

وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

التحذير من الكبر

أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ

ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ

التحذير من طاعة الكبراء

أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ‏وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ

فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ

وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ

اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ

العبرة بالماضين‏

فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ

وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ

فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ

فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً

مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ

فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ

فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ‏

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ

تواضع الأنبياء

وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ( عليهماالسلام  )عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ

فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُوَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى

وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ

وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ

وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ

الكعبة المقدسة

أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صلوات‏الله‏عليه  )إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً

ثُمَ‏ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ

ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ( عليه‏السلام  )وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ

مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ

قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ

وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى

بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ

وَ لَوْ كَانَ الْإِسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ

لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ

وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ

عود إلى التحذير

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ

فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ

وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ

وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ

فضائل الفرائض‏

انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ

عصبية المال‏

وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏

فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ

وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ

فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِوَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ

وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا

وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي

وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا

اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ

حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ

فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ‏مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً

أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ

فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ

وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ

الاعتبار بالأمم‏

فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( عليهم‏السلام  )فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ

يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً

لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍيَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا

فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ

النعمة برسول اللّه‏

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ

كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ

قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ

فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ

لوم العصاة

أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَ‏عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ

تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ

وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ

وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي

أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ

أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ

وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً

فضل الوحي‏

أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ

وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ

وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ

وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ

وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ

وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ

فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ

وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ

إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ

وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏

فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌفَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ

قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ

ثُمَّ قَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ

فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ‏بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مُرَفْرِفَةً

وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَرَجَعَ

فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي

وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ

لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

و من خطبة له عليه السّلام تسمى بالقاصعة و هى المأة و الحادية و التسعون من المختار فى باب الخطب

الفصل الرابع
و هو مرويّ في الكافي باختلاف تطلع عليه انشاء اللّه تعالى.
و لو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذّهبان، و معادن العقيان، و مغارس الجنان، و أن يحشر معهم طيرالسّماء، و وحوش الارض لفعل، و لو فعل لسقط البلاء، و بطل الجزاء و اضمحلّت الأنباء، و لما وجب للقابلين أجور المبتلين، و لا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين، و لا لزمت الأسماء معانيها، و لكنّ اللّه سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم، و ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملا العيون و القلوب غنى، و خصاصة تملا الأبصار و الأسماع أذى. و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام، و عزّة لا تضام، و ملك تمتدّ نحوه أعناق الرّجال، و تشدّ إليه عقد الرّجال، لكان ذلك أهون على الخلق في الإعتبار، و أبعد لهم في الاستكبار، و لامنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النّيات مشتركة، و الحسنات مقتسمة.

و لكنّ اللّه سبحانه أراد أن يكون الإتّباع لرسله، و التّصديق بكتبه، و الخشوع لوجهه، و الاستكانة لأمره، و الإستسلام لطاعته، أمورا له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة، و كلّما كانت البلوى و الاختبار أعظم، كانت المثوبة و الجزاء أجزل. ألا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم صلوات اللّه‏ عليه إلى الاخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ و لا تنفع، و لا تسمع و لا تبصر، فجعلها بيته الحرام الّذي جعله للنّاس قياما، ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، و أقلّ نتائق الدّنيا مدرا، و أضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة، و رمال دمثة، و عيون وشلة، و قرى منقطعة، لا يزكو بها خفّ، و لا حافر، و لا ظلف، ثمّ أمر آدم و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، و غاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة، و مهاوي فجاج عميقة، و جزائر بحار منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا يهلّلون للّه حوله، و يرملون على أقدامهم شعثا غبرا له قد نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم، و شوّهوا بإعفاء الشّعور محاسن خلقهم، ابتلاء عظيما، و امتحانا شديدا، و اختبارا مبينا، و تمحيصا بليغا، جعله اللّه سببا لرحمته، و وصلة إلى جنّته.

و لو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، و مشاعره العظام، بين جنّات و أنهار، و سهل و قرار جمّ الأشجار، داني الثّمار، ملتفّ النبي متّصل القرى، بين برّة سمراء، و روضة خضراء، و أرياف محدقة،و عراص مغدقة، و رياض ناضرة، و طرق عامرة، لكان قد صفّر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء، و لو كانت الأساس المحمول عليها، و الأحجار المرفوع بها، بين زمرّدة خضراء، و ياقوتة حمراء، و نور و ضياء، لخفّف ذلك مسارعة الشّكّ في الصّدور، و لوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، و لنفى معتلج الرّيب من النّاس. و لكنّ اللّه يختبر عباده بأنواع الشّدائد، و يتعبّدهم بألوان المجاهد، و يبتليهم بضروب المكاره، إخراجا للتّكبّر عن قلوبهم، و إسكانا للتّذلّل في نفوسهم، و ليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله، و أسبابا ذللا لعفوه.

اللغة

(الذهبان) بالضمّ و الكسر جمع الذهب كاذهاب و ذهوب و (العقيان) بالكسر ذهب ينبت كما في القاموس، و قيل: الذهب الخالص و هو الانسب هنا بملاحظة المعادن و (رام) الشي‏ء روما كقال طلب و (ضامه) ضيما كضاره لفظا و معنى، و في القاموس ضامه حمقه و استضامه انتقصه فهو مضيم و مستضام و الضيم.

و (شابه) شوبا من باب قال خلطه مثل شوب اللبن بالماء فهو مشوب و قولهم ليس فيه شائبة، قال الفيومي ذلك يجوزان يكون مأخوذا من هذا و معناه ليس فيه شي‏ء مختلط به و ان قلّ كما قيل ليس فيه علقة و لا شبهة و أن تكون فاعلة بمعنى مفعولة مثل عيشة راضية هكذا استعمله الفقهاء و لم أجد فيه نصّا، نعم قال الجوهرى الشائبة واحدة الشوائب و هى الأدناس و الأقذار.

و (قياما) مصدر و زان صيام و (الوعر) من الأرض ضدّ السّهل (و البقاع) كجبال جمع بقعة بالضمّ و الفتح و هى القطعة من الأرض على غير هيئة الّتي إلى جنبها.
و (النتائق) جمع نتيقه فعلية بمعنى مفعولة من النتق و هو الرفع و الجذب.
قال الشارح البحراني: و سمّيت المدن و الأماكن المشهورة و المرتفعة نتائق لارتفاع بنائها و شهرتها و علوّها عن غيرها من الأرض كأنها جذبت و رفعت، و قال بعض الشارحين: النتائق البقاع المرتفعة و أراد مكة و كنى بنتقها عن شهرتها و علوها بالنسبة إلى ما استفل عنها من البلاد.

و قال الشارح المعتزلي أصل هذه اللفظة من قولهم امرأة نتاق أى كثيرة الحمل و الولادة و يقال: ضيعة منتاق أى كثيرة الريع فجعل عليه السّلام الضياع ذات المدر التي يثار للحرث نتايق. و قال عليه السّلام: إنّ مكة أقلّها إصلاحا للزرع لأنّ أرضها حجرية.

أقول: و الأظهر عندى أن يكون النتائق مأخوذة من قولهم أنتق فلان إذا حمل مظلّة من الشمس، و المظلّة بالفتح و الكسر الكبير من الأخبية و تسمية البلاد بها لاشتمالها على الدّور و الأبنية التي تستظلّ بها.
و (المنتجع) بفتح الجيم اسم مفعول من انتجع القوم إذا ذهبوا لطلب الماء و الكلاء في موضعهما و (المفازة) الموضع المهلك من فوّز بالتشديد إذا مات، لأنّها مظنّة الموت و (القفر) من الأرض الّتي لا نبات بها و لا ماء (يهلّلون للّه) من التهليل و في بعض النسخ يهلّون من أهلّ المحرم رفع صوته بالتلبية عند الاحرام و كلّ من رفع صوته فقد أهلّ إهلالا و استهلّ استهلالا بالبناء فيهما للفاعل.

و (رمل) فلان رملا من باب طلب و رملانا بالتحريك فيهما هرول و (الشعث) محرّكة انتشار الأمر و مصدر الأشعث للمغبر الرأس و شعث الشعر شعثا فهو شعث من باب تعب تغيّر و تلبّد لقلّة تعهّده بالدّهن، و الشعث أيضا الوسخ، و رجل شعث وسخ الجسد، و شعث الرأس أيضا و هو أشعث أغبر أى من غير استحداد و لا تنظف، و الشعث أيضا الانتشار و التفرّق كما يتشعّث رأس السّواك.

و (السرابيل) جمع السّربال و هو القميص و (البرّة) بالضمّ واحدة البرّ و هى الحنطة و (أرياف) جمع ريف بالكسر أرض فيها زرع و خصب و ما قارب الماء من أرض العرب أو حيث يكون به الخضرة و المياه و الزّروع.
و (أحدقت) الروضة صارت حديقة، و الحديقة الرّوضة ذات الشجرة و البستان من النخل و الشجر او كلّ ما أحاط به البناء، أو القطعة من النخل هكذا في القاموس و قال الفيومى: و الحديقة البستان يكون عليه حايط فعيلة بمعنى مفعولة، لأنّ الحائط أحدق بها أى أحاط، ثمّ توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان و إن كان بغير حايط و الجمع حدائق.

و (عراص) جمع عرصة ككلاب و كلبة و هى البقعة الواسعة الّتى ليس بها بناء و (مغدقة) فيما رأيناه من النسخ بالغين المعجة و الدال المهملة من الغدق بالتحريك و هو الماء الكثير، و أغدق المطر كثر قطره، و يجوز أن يكون من العذق بالذال المعجمة مثل فلس و هو النخلة بحملها و بالكسر القنو منها و العنقود من العنب إو إذا اكل ما عليه و (المعتلج) مصدر بمعنى الاعتلاج من اعتلج الأمواج اضطربت و تلاطمت، و اعتلج الأرض طال نباتها، و يجوز كونه مفعولا من الاعتلاج و في بعض النسخ بصيغة الفاعل و الكلّ صحيح و (الفتح) بضمتين الباب الواسع المفتوح و (الذلل) بضمتين أيضا جمع ذلول بالفتح من الذلّ بالضّم و الكسر ضدّ الصّعوبة.

الاعراب

قوله: لفعل، جواب لو، و قوله: و لما وجب، عطف على قوله لسقط، و الأسماء بالنصب كما في أكثر النسخ مفعول لزمت، و في شرح البحراني عن نسخة الرضيّ «قده» بالرفع على الفاعل و المعنى واحد حسبما تعرفه إنشاء اللّه، و الفاء في قوله: فكانت النيات، فصيحة، و قوله: امورا خبر يكون، و خاصة، صفة له، و له، متعلق بها قدم عليها لتوكيد الاختصاص، و جملة لا يشوبها في محلّ الرّفع صفة ثانية جي‏ء بها لمزيد التوكيد

و قوله: بأحجار، متعلق بقوله: اختبر، و حجرا و مدرا و قطرا منصوبات على التميز، و جملة لا يزكو بها في محلّ الجرّ صفة لقرى، و ذللا، حال من فاعل يهزّوا و له، متعلّق بقوله: يرملون، و ابتلاء و امتحانا و اختبارا و تمحيصا منصوبات على المصدر و حذف العوامل من ألفاظها اى ابتلاهم اللّه بهذه المشاق ابتلاء و امتحنهم بها امتحانا و هكذا و يحتمل الانتصاب على المفعول له أى يفعلون ما ذكر من التكاليف الشاقة للابتلاء العظيم الذى ابتلوا به، و جملة لكان جواب لو أراد.

المعنى

اعلم أنه عليه السّلام لما ذكر في الفصل السابق اختبار اللّه لعباده المستكبرين بأوليائه المستضعفين، و مثّل بقصّة بعث موسى و هارون عليهما السّلام إلى فرعون، اتبعه بهذا الفصل و نبّه عليه السّلام فيه على وجه الحكمة في بعث ساير الأنبياء و الرّسل بالضعف و المسكنة و الفقر و الفاقة و الضرّ و سوء الحال، و في وضع بيته الحرام الذى جعله قبلة للأنام بواد غير ذى زرع و بلد قفر و أرض وعر، و أشار أنّ الحكمة في ذلك كلّه هو الابتلاء و الاختبار و هو قوله عليه السّلام.

(و لو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم) أى حين بعثهم (أن يفتح لهم كنوز الذّهبان و معادن العقيان و مغارس الجنان) لينفقوا منها و يكونوا ذى سعة و منعة و عزّ و رفعة تدفع بها اعتراض الجاحدين، و تنقطع ألسن المعاندين، و لم يقولوا فيهم مثل ما قالوه لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ. مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا».

(و أن يحشر معهم طير السّماء و وحوش الأرض) احتشاما و إعظاما لقدرهم و إجلالا لشأنهم في أعين المبعوثين إليهم (لفعل) ذلك كلّه لأنه عزّ و جلّ على كلّ شي‏ء قدير، و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
و محصّله أنّ فتح الكنوز و المعادن و حشر الطيور و الوحوش امور ممكنة في نفسها، و هو سبحانه قادر على جميع الممكنات و عالم بها، و لو تعلّقت إرادته بهامع عموم قدرته عليها لزم وقوعها.

(و) لكنه لم يتعلّق إرادته بها فلم يفعلها و لم تقع إذ (لو فعل) لترتّب عليه مفاسد كثيرة و امور كلّها خلاف مقتضى الحكمة الالهيّة و النظم الأصلح و هى ستّة امور: أحدها ما أشار إليه بقوله (لسقط البلاء) أى لو وقع هذه الأمور لسقط ابتلاء المتكبّرين بالمستضعفين من الأنبياء و المرسلين و ارتفع اختبارهم بهم، إذ مع وقوعها ارتفع الضعف عنهم و انتفى علّة الاستضعاف

(و) ثانيها أنه (بطل الجزاء) لأنّ الجزاء مترتّب على التسليم للأنبياء و على امتثال التكاليف الالهيّة على وجه الخلوص، و مع كون الأنبياء حين بعثهم بزينة الملوك و السلاطين يكون الانقياد لهم و امتثال أو امرهم و نواهيهم عن رغبة مائلة أو رهبة قاهرة، فلا تكون طاعتهم عن إخلاص حتى يستحقّ المطيعون للجزاء كما هو واضح لا يخفى.

(و) ثالثها أنه (اضمحلّت الأنباء) اى أخبار الأنبياء، و المراد باضمحلالها انمحاؤها و ذهاب أثرها.
و ذلك لأنّ الغرض الأصلى من بعثهم و رسالتهم أن يجذبوا الخلق إلى الحقّ الأوّل عزّ و جلّ و يزهّدوهم عن الدّنيا و يرغّبوهم في الاخرة، فاذا فتحت لهم أبواب الكنوز و المعادن، و اشتغلوا بزخارف الدّنيا و كانوا بزّى أهلها لم يؤثّر موعظتهم في القلوب و لم يبق وقع للرسالة عند الناس، و لا وجدوا للمبعوثين إليهم مقالا و تعريضا عليهم بأن يقولوا يا أيّها الرّسل لم تقولون ما لا تفعلون، أنتم تزهّدونا عن الدّنيا و ترغبون فيها، و ترغّبونا في الاخرة و اشتغالكم بغيرها، فيبطل بذلك المقصود الأصلى من البعث و اضمحلّت الرسالة إذا هذا.

و قال الشارح البحراني في وجه اضمحلال الأنباء ما محصّله: إنّ الأنبياء و إن كانوا أكمل الخلق نفوسا و أقواهم استعدادا لقبول الكمالات النفسانية، إلّا أنهم محتاجون إلى الريّاضة التّامة بالاعراض عن الدّنيا و طيباتها و هو الزهد الحقيقى،فيكون تركهم للدّنيا شرطا في بلوغ درجات الوحى و الرّسالة و تلقّى أخبار السّماء، فلو خلقوا منغمسين في الدّنيا و فتحت عليهم أبوابها لا نقطعوا من حضرة جلال اللّه، و اضمحلّ بسبب ذلك عنهم الأنباء، و انقطع عنهم الوحى، و انحطّوا عن مراتب الرسالة.

قال: و قال بعض الشارحين: أراد باضمحلال الأنباء سقوط الوعد و الوعيد و الاخبار عن أحوال الجنة و النار و أحوال القيامة انتهى.
و الأظهر بل الأولى ما قلناه، لأنّ استلزام انفتاح أبواب الكنوز و المعادن لانقطاع الوحى و الرسالة و الانحطاط عن درجة النبوّة ممنوع و على فرض التسليم فابداء الملازمة بين المقدّم و التالى غير خال عن التكلّف، و مثله الكلام فيما حكاه عن بعض الشارحين، فتدبّر.

(و) رابعها أنه (لما وجب للقابلين) لدعوة الرسل أى المتصدّقين لهم المؤمنين بهم (أجور المبتلين) الممتحنين، لأنه إذا سقط البلاء و الامتحان حسبما عرفته آنفا لا يبقى مبتلى و لا مبتلى به، فلا يكون قبول القابلين و تصديقهم للرسل عن وجه الابتلاء حتى يحسب لهم الأجر و الجزاء بذلك.

(و) خامسها أنه (لا استحقّ المؤمنون) باللّه و بأنبيائه و رسله (ثواب المحسنين) لعدم كون ايمانهم عن وجه الاخلاص حسبما عرفته، فلا يكونون محسنين حتّى يستحقّوا الثواب الجزيل و الجزاء الجميل، و إنما المؤمنون المحسنون الذين اذا سمعوا ما انزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع مما عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين و ما لنا لا نؤمن باللّه و ما جاءنا من الحقّ و نطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصالحين فأثابهم اللّه بما قالوا جنّات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك جزاء المحسنين.

(و) سادسها أنّه (لالزمت الأسماء معانيها) برفع الأسماء و نصبها على اختلاف النسخ، و المراد واحد و هو ارتفاع الملازمة بينها و بين المعاني و انفكاك‏احداهما عن الاخرى، لأنّ اطلاق اسم المسلم على المسلم حينئذ و تسميته به لمحض ماله من صورة الاسلام لا لوجود معنى الاسلام و حقيقته فيه، إذ المفروض أنّ إسلامه عن رغبة أو رهبة لا عن وجه الحقيقة و التمحيص و الاخلاص، فيصدق الاسم بدون المعني، و كذلك التسمية بالمؤمن و المصدق و العابد و الزاهد و الراكع و الساجد و غيرها، هذا.

و لما نبّه عليه السّلام أنّ اللّه سبحانه لو أراد بالأنبياء إذ بعثهم انفتاح الكنوز و المعادن و المغارس و حشر الوحوش و الطيور لترتّب عليه هذه الأمور السّتة الّتي كلّها خلاف الحكمة و المصلحة أراد التنبيه بما هو مقتضي النظم الأصلح فقال على وجه الاستدراك: (و لكنّ اللّه سبحانه جعل رسله) حيث بعثهم (اولى قوّة في عزائمهم) و جدّ في تبليغ ما امروا به من تكاليف ربّهم بالقتال و الجهاد و الصّبر على تحمّل المكاره و الأذى.

و قد قال بعض المفسّرين في قوله تعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ إنّ من للتبيين لا للتبعيض و انّ كلّ الرسل اولو عزم لم يبعث اللّه رسولا إلّا كان ذا عزم و حزم و رأى و كمال و عقل، و وصفهم بالعزم لصبرهم و ثباتهم في تبليغ الرّسالات و انفاذ ما امروا به.

(و) جعلهم مع ذلك (ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم) لاتّصافهم بالضّر و المسكنة و الفقر و الفاقة (مع قناعة تملا القلوب و العيون غني و خصاصة) أى جوع (تملا الابصار و الأسماع اذى).
قال الشارح البحراني: استعار وصف الملاء للقناعة باعتبار استلزامها لقوّة غنائهم و قلّة حاجتهم إلى شي‏ء من متاع الدّنيا بحيث لا تميل نفوسهم و لا عيونهم إلى شي‏ء من زينتها و قيناتها، فكأنّها قد امتلأت فلا تتسع لشي‏ء من ذلك فتطلبه و كذلك للخصاصة باعتبار استلزامها لقوّة الأذى في أسماعهم و أبصارهم، إذ الجوع المفرط مستلزم لأذى هاتين القوّتين لتحلّل الأرواح الحاملة لهما و ضعفهما فكانّ الأذى حشو أبصارهم و أسماعهم بحيث لا تتّسع لغيره، كلّ ذلك طلبا لكمال الاستعداد لأنّ البطنة تورث‏القسوة و تذهب الفطنة و تزيل الرقة و تستلزم رذايل كثيرة لا دواء لها إلّا الخصاصة، هذا.

و قوله (و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام و عزّة لا تضام) قياس اقتراني آخر من الشكل الأوّل أيضا تأكيد للقياس المتقدّم ذكره، أى لو أراد اللّه بالأنبياء إذ بعثهم أن يكونوا أهل قوّة و قدرة لا يمكن أن تطلب و تقصد لبلوغها الغاية و أهل عزّة و قهر و غلبة لا يمكن أن تنتقص أو تظلم أى يظلم صاحبها لانتهائها النهاية.

(و) أهل (ملك) و سلطنة (تمتدّ نحوه أعناق الرجال و تشدّ إليه عقد الرّحال) أى يأمله الاملون، و يرجوه الراجون فانّ كلّ من أمل شيئا لا سيّما إذا كان ملكا عظيما يطمح إليه بصره و يسافر برغبته إليه و يحيط مطايا الامال عنده، فكنّى عن ذلك بمدّ العنق و شدّ عقد الرّحال.

و الحاصل أنّ الأنبياء لو بعثوا بالقدرة و القوّة و الملك و السلطنة (لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار) أى أسهل في اعتبارهم بحالهم و أسرع في إجابتهم لدعوتهم كما هو المشاهد بالتجربة، فانّ الملوك لا تصعب اجابتهم كما تصعب اجابة الفقراء لا سيّما على المتكبّرين المتجبّرين (و أبعد لهم في الاستكبار) لأنّ الملوك أبعد من أن يتكبّر عليهم و يستنكف من طاعتهم بخلاف البائس الفقير.

(و لامنوا عن رهبة قاهرة لهم) على الايمان (أو رغبة مائلة بهم) إليه (فكانت النيّات) إذا (مشتركة) بين اللّه و بين ما يأملونه من الشهوات، غير خالصة له تعالى من هوى الأنفس كما قال «أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ».
(و الحسنات مقتسمة) بينه تعالى و بين تلك الشهوات (و لكنّ اللّه سبحانه أراد أن يكون الاتّباع لرسله) و أنبيائه (و التصديق بكنبه) و صحفه السماوية (و الخشوع لوجهه) و الخنوع لذاته (و الاستكانة) و التمكين (لأمره و الاستسلام) و الانقياد (لطاعته امورا له خاصة) أى مختصّة به ممحّضة له كما قال «وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (لا يشوبها) أى تلك الامور (من غيرها شائبة) رغبة أو رهبة.

و انما أراد عزّ و جل اختصاص هذه الامور له و خلوصها من شوب الرغبة و الرهبة لعظم البلوى و الامتحان حينئذ (و كلّما كانت البلوى و الاختبار أعظم كانت المثوبةو الجزاء أجزل) هذا.
و لما نبّه عليه السّلام على وجه الحكمة و المصلحة في بعث الأنبياء بالخصاصة و المسكنة، و أنّ الوجه في ذلك هو الامتحان و الابتلاء ليترتّب على اتّباعهم عظيم الأجر و جزيل الجزاء، أردفه بالتّنبيه على حكمة وضع البيت الحرام بأوعر البقاع و أقفر البلدان فقال: (ألا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم عليه السّلام إلى الاخرين من هذا العالم بأحجار) بنى بها البيت (لا تضرّ و لا تنفع و لا تبصر و لا تسمع) هذا باعتبار مجموع الأحجار أو بملاحظته في نظر الخلق فلا ينافي ما مرّ في شرح الفصل الثامن عشر من الخطبة الاولى من أنّ حجر الأسود أوّل ملك آمن و أقرّ بالتوحيد و النّبوة و الولاية و أنّه يجي‏ء يوم القيامة و له لسان ناطق و عين ناظرة يشهد لكلّ من وافاه إلى ذلك و حفظ الميثاق.

(فجعلها بيته الحرام) و وصفه به لأنّه حرام على المشركين دخوله و حرام إخراج من تحصّن به منه حسبما عرفت في شرح الخطبة الاولى.
قال الرّماني: و إنّما سمّي به لأنّ اللّه حرّم أن يصاد عنده و أن يعضد شجره، و لأنّه أعظم حرمة.
قال في مجمع البيان: و في الحديث مكتوب في أسفل المقام إنّي أنا اللّه ذو بكّة حرّمتها يوم خلقت السماوات و الأرض و يوم وضعت هذين الجبلين، و حففتها بسبعة أملاك حفا، من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقّه مذعنا بالربوبيّة حرّمت جسده على النار.

(الّذى جعله للنّاس قياما) أى مقيما لأحوالهم في الدّنيا و الاخرة و يستقيم به امورهم الدنيويّة و الاخرويّة يقال: فلان قيام أهله أى يستقيم به شئونهم قال سبحانه جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أى لمعايشهم و مكاسبهم يستقيم به امور دينهم و دنياهم يلوذ به الخائف و يأمن فيه الضعيف و يربح عنده التّجار باجتماعهم عنده من ساير الأطراف، و يغفر بقصده للمذنب و يفوز حاجّه بالمثوبات.

روى في مجمع البيان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدّنيا و الاخرة أصابه.
و قال ابن عبّاس: معناه جعل اللّه الكعبة امنا للنّاس بها يقومون أى يؤمنون، و لولاها لفنوا و هلكوا و ما قاموا، و كان أهل الجاهليّة يأمنون به فلو لقي الرّجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم ما قتله، و قيل: معني قوله: قياما للناس، انهم لو تركوا عاما واحدا لا يحجّونه ما نوظروا ان يهلكوا.

و رواه علىّ بن إبراهيم عنهم عليهم السّلام قال ما دامت الكعبة يحجّ الناس إليها لم يهلكوا فاذا هدمت و تركوا الحجّ هلكوا.
(ثمّ وضعه) أى البيت (بأوعر بقاع الأرض حجرا) أى أصعب قطعها و أغلظها من حيث الحجر (و أقلّ نتائق الدّنيا مدرا) أى أقلّ بلدانها و مدنها من حيث التراب و المدر، و بذلك لم يكن صلاحية الزرع و الحرث كما قال إبراهيم «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ»: (و أضيق بطون الأودية قطرا) من حيث الناحية و الجانب (بين جبال خشنة) غليظة (و رمال دمثة) لينة، و الوصف بها إشارة إلى بعدها من الانبات لأنّ الرّمل كلّما كان ألين و أسهل كان أبعد من أن ينبت و لا يزكو به الدّواب أيضا لأنّها تتعب في المشي به.

(و عيون وشلة) قليلة الماء (و قرى منقطعة) بعضها عن بعض (لا يزكو بها خفّ و لا حافر و لا ظلف) أى لا يزيد و لا ينمو بتلك الأرض ذوات الخفّ كالابل و الحافر كالخيل و البغال و الظلف كالبقر و الغنم، و عدم نمائها بها لما عرفت من قلّة مائها و نباتها و خشونة جبالها و سهولة رمالها و خلوّها من المرتع و المرعى.

(ثمّ أمر آدم عليه السّلام و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه) أى يعطفوا و يميلوا جوانبهم معرضين عن كلّ شي‏ء متوجّهين إليه قاصدين العكوف لديه، و قد مضى في شرح الفصل الثامن عشر من الخطبة الاولى عن أبي جعفر عليه السّلام انّ آدم عليه السّلام أتى هذا البيت ألف آتية على قدميه منها سبعمائة حجّة و ثلاثمأة عمرة، و مضى هناك حجّ ساير الأنبياءو الرّسل عليهم السّلام فلينظر ثمة (فصار) البيت (مثابة) و مرجعا (لمنتجع أسفارهم) كناية عما يرومونه في سفرهم اليه من المارب و المقاصد و المنافع و التجارات كما قال عزّ من قائل «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً» و قال «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ».

(و غاية لملقى رحالهم) أى مقصد القصد (تهوى اليه ثمار الأفئدة) ثمرة الفؤاد كما قيل سويداء القلب أى تميل و تسقط باطن القلوب إليه، و هويها كناية عن سرعة سيرها يعني أنّه سبحانه جعل القلوب مايلة إليه محبّة له إجابة لدعاء إبراهيم عليه السّلام حيث قال رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ.

قال الشارح البحراني هوى الأفئدة ميولها و محبّتها إلّا أنّه لما كان الّذى يميل الى الشي‏ء و يحبّه كأنّه يسقط إليه و لا يملك نفسه استعير لفظ الهوى للحركة إلى المحبوب و السعى اليه، و الحاصل أنّ القلوب تسعى و تتوجّه إليه.
(من مفاوز قفار سحيقة) أى الأفلاء«» البعيدة (و مهاوى فجاج عميقة) أى من الوهاد و الطرق العميقة الّتي بين الجبال و وصفها بالعمق على حدّ قوله تعالى وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (و جزائر بحار منقطعة) وصف الجزائر بالانقطاع إما باعتبار انقطاع الماء عنها، أو باعتبار انقطاعها عن ساير بقاع الأرض بسبب إحاطة البحر بها.
و قوله (حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا) غاية لقوله تهوى، أى تسرع إليه قلوب الحاج من المفاوز و المهاوى إلى أن يحرّكوا المناكب مطيعين منقادين.

قال الشارح البحراني: و كنّي بهزّ مناكبهم عن حركاتهم في الطواف بالبيت إذ كان ذلك من شأن المتحرّك بسرعة.
و قال المحدّث العلامة المجلسيّ قده: هو كناية عن السفر إليه مشتاقين.
(يهلّلون للّه حوله) أى حول البيت، و على رواية يهلّون فالمراد أنّهم يرفعون‏أصواتهم بالتلبية، و على هذه الرواية فلا بدّ من التخصيص بغير المتمتّع و المعتمر بالعمرة المفردة فانّ وظيفتهما قطع التلبية إذا شاهدا بيوت مكة أو حين يدخلان الحرم.

روى معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا دخلت مكة و أنت متمتّع فنظرت إلى بيوت مكة فاقطع التلبية، و حدّ بيوت مكّة الّتي كانت قبل اليوم عقبة المدينين، فانّ الناس قد أحدثوا بمكة ما لم يكن، فاقطع التلبية و عليك بالتكبير و التحميد و التهليل و الثناء على اللّه عزّ و جلّ بما استطعت.
و روى مرازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يقطع صاحب العمرة المفردة التلبية إذا وضعت الابل أخفافها في الحرم- و بمعناهما أخبار كثيرة.

و أما فضل الاهلال فقد روى في الوسائل عن الصّدوق «ره» قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام ما من مهلّ يهلّ بالتلبية إلّا أهلّ من عن يمينه من شي‏ء إلى مقطع التراب، و من عن يساره إلى مقطع التراب، و قال له الملكان: ابشر يا عبد اللّه و ما يبشّر اللّه عبدا إلّا بالجنّة.

(و يرملون على أقدامهم شعثا غبرا له) أى يهرولون على أقدامهم للّه سبحانه حالكونهم أشعث الرّؤوس متلبّد الشعور متغيّر الألوان مغبّر الوجوه و الأبدان وسخ الأجساد.
(قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم) يحتمل أن يكون المراد بالسرابيل الثياب المعهودة بالاحرام على وجه الاستعارة تشبيها لها بالسرابيل في إحاطتها بالبدن فيكون المقصود بنبذها وراء ظهورهم طرحها على عواتقهم و مناكبهم كما هو المعهود في لبس ثوب الاحرام، و أن يكون المراد بها مطلق المخيط من الثياب من باب المجاز المرسل فيكون النبذ وراء الظهور كناية عن خلعها عن الأبدان، و الثاني أظهر.

(و شوّهوا) أى قبّحوا (باعفاء الشعور) أى اكثارها و إطالتها (محاسن خلقهم) ابتلاهم اللّه سبحانه بهذه المشاق و البليات (ابتلاءا عظيما و امتحانا شديدا و اختبارا مبينا و تمحيصا بليغا) أى امتحانا كاملا (جعله اللّه سببا لرحمته و وصلة إلى جنّته) أى جعل حجّ البيت و البلاء بهذه الابتلاآت العظيمة و التكاليف الشديدة سببالشمول رحمته و طريقا للوصول إلى جنّته كما يشهد به الأخبار الواردة في فضل الحجّ، و قد مضى جملة منها في شرح الفصل الثامن عشر من المختار الأوّل، هذا و لما نبّه عليه السّلام على وجه المصلحة في بناء البيت بالأحجار و وضعه بأوعر البقاع و تكليف ولد آدم عليه السّلام بالحجّ إليه على الكيفيّات الخاصّة المتضمنة للتواضع و التذلل و أشار إلى أنّ المصلحة في ذلك هو التمحيص و الامتحان و الاستعداد بذلك لافاضة رحمة اللّه و الوصول إلى جنّته و الاستحقاق لجزيل الجزاء و مز يد الثواب أراد بالتنبيه على أنّ وضعه بغير هذا المكان من الأمكنة البهيجة المستحسنة كان موجبا لتصغير الجزاء و تقليل الثواب و هو خلاف المصلحة فقال: (و لو أراد اللّه سبحانه أن يضع بيته الحرام و مشاعره العظام) أى مواضع المناسك (بين جنّات و أنهار و سهل و قرار) من الأرض (جمّ الأشجار دانى الثمار) دنوّها كناية عن كثرتها و سهولة تناولها كما قال سبحانه في وصف الجنّة قُطُوفُها دانِيَةٌ (ملتفّ البنى) أى مشتبك العمارات (متّصل القرى) بكثرتها (بين برّة سمراء) أى حنطة حسن اللّون (و روضة خضراء) ذات الخضرة و النضارة (و أرياف محدقة) مشتملة على الحدائق و البساتين (و عراص مغدقة) ذات الماء الكثير و المطر (و رياض ناضرة و طرق عامرة) بكثرة المارة.

(لكان) جواب لو أى لو أراد اللّه سبحانه أن يضع بيته بين هذه الأمكنة الحسنة ذات البهجة و النضارة لكان قادرا عليه لكنه خلاف الوجه الأصلح لأنّه يلزم حينئذ أن يكون سبحانه (قد صغّر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء) لما قد مرّ من أنّ الاختبار و البلوى كلّما كانت أعظم كانت المثوبة و الجزاء أجزل.

و لما نبّه عليه السّلام في الشرطية المتقدّمة على أنّ وضع البيت الحرام في غير هذا المكان الذى هو فيه الان خلاف الحكمة و المصلحة اتبعها شرطيّة اخرى و نبّه عليه السّلام فيها على أنّ بناءه بغير هذه الأحجار المتعارفة التي بنى بها أيضا خلاف مقتضى الحكمة و هو قوله: (و لو كان الأساس المحمول عليها) البيت (و الأحجار المرفوع بها بين‏ زمرّدة خضراء و ياقوتة حمراء و نور و ضياء) أى لو كان بنائه بالأحجار المعدنية كالزمرّد و الياقوت و الجواهر النفيسة المتلألاة النيّرة و المضيئة (لخفّف ذلك مسارعة الشكّ في الصدور) أى سرعته، و في بعض النسخ بالضاد المعجمة بمعنى المقاربة و في بعضها بالصاد المهملة بمعنى المغالبة.

قال الشارح البحراني: و تلخيصه أنّه تعالى لو جعل الأساس المحمول عليها بيته الحرام من هذه الأحجار المنيرة المضيئة لخفّف ذلك مسارعة الشّك في الصدور إذ يراد شكّ الخلق في صدق الأنبياء و عدم صدقهم و شكّهم في أنّ البيت بيت اللّه أو ليس، فانه على تقدير كون الأنبياء بالحال المشهور من الفقر و الذلّ و كون البيت الحرام من هذه الأحجار المعتادة يقوّى الشك في كونهم رسلا من عند اللّه و في كون البيت بيتا له، و على تقدير كونهم في الملك و العزّ و كون البيت من الأحجار النفيسة المذكورة ينتفي ذلك الشكّ، إذ يكون ملكهم و نفاسة تلك الأحجار من الامور الجاذبة إليهم و الداعية إلى محبّتهم و المسارعة إلى تصديقهم و الحكم بكون البيت بيت اللّه لمناسبة في كماله ما ينسبه الأنبياء إلى اللّه سبحانه من الوصف بأكمل طرفى النقيض و لكون الخلق أميل إلى المحسوس و استعار لفظ المسارعة للمغالبة بين الشك في صدق الأنبياء و الشك في كذبهم فانّ كلّا منهما يترجّح على الاخر.

و بذلك أيضا ظهر معنى قوله عليه السّلام (و لوضع مجاهدة إبليس عن القلوب) فانّ حجّ البيت المبنى بالطوب و المدر و القيام بوظايفه و إقامة مناسكه مع ما فيه من المشاق العظيمة و الرّياضات التي لا يكاد أن تتحمل عادة لا يتأتى إلّا مع جهاد النفس و مجاهدة إبليس، بخلاف ما لو كان مبنيّا بالجواهر النفيسة الشريفة من الياقوت و الزمرّد و الزبرجد و نحوها بين جنات و أنهار و أشجار في أرض سهل و قرار فانّ النفوس حينئذ كانت تميل إليه و ترغب إلى رؤيته فلا تبقى إذا حاجة إلى مجاهدة نفسانية أو شيطانية.

و يوضح ذلك الحديث الّذي قدّمنا روايته عن الفقيه في شرح الفصل الثامن عشر من المختار الأول، و نعيد روايته هنا من الكافي باقتضاء المقام، و مزيد ايضاحه‏للغرض المسوق له هذا الفصل من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام فأقول: روى ثقة الاسلام الكلينىّ عطر اللّه مضجعه عن محمّد بن أبي عبد اللّه عن محمّد بن أبي يسر «نصر خ» عن داود بن عبد اللّه عن عمرو بن محمّد عن عيسى بن يونس قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصرى فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب أصحابك و دخلت فيما لا أصل له و لا حقيقة، فقال: إنّ أصحابي كان مخلطا كان يقول طورا بالقدر و طورا بالجبر، و ما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه و قدم مكّة متمرّدا و انكارا على من يحجّ و كان يكره العلماء مجالسته و مسائلته لخبث لسانه و فساد ضميره، فأتى أبا عبد اللّه عليه السّلام: فجلس إليه في جماعة من نظرائه فقال: يا أبا عبد اللّه إنّ المجالس أمانات و لا بدّ لكلّ من به سعال أن يسعل أ فتأذن لي في الكلام فقال عليه السّلام: تكلّم، فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، و تلوذون بهذا الحجر، و تعبدون هذا البيت المعمور بالطوب و المدر، و تهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، إنّ من فكر هذا و قدر علم أنّ هذا فعل أسّسه غير حكيم و لا ذى نظر، فقل فانك رأس هذا الأمر و سنامه، و أبوك اسّه و تمامه.

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ من أضلّه اللّه و أعمى قلبه استوخم الحقّ و لم يستعذ به فصار الشيطان وليّه و قرينه، و ربّه يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره، و هذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم في اتيانه، فحثّهم على تعظيمه و زيارته، و جعله محلّ أنبيائه و قبلة للمصلّين إليه فهو شعبة من رضوانه. و طريق يؤدّى إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، و مجمع العظمة و الجلال خلقه اللّه قبل دحو الأرض بألفي عام فأحقّ من اطيع فيما امر و انتهى عما نهى عنه و ذكر اللّه منشى الأرواح و الصور، هذا.

و أما قوله (و لنفي معتلج الريب من الناس) فانه ربما يعترى الشك على ذوى العقائد الضعيفة أنّه لو كان هذا البيت بيته سبحانه لبناه بما يليق عزّه و جلاله من الحسن و البهاء و العزّ و الشرف و مع بنائه على هذا الوصف كان ينتفي اعتلاج الريب منهم قطعا.

(و لكن اللّه) عزّ و جلّ لم يبنه بهذا الوصف، و إنما بناه بالأحجار الغير النفيسة اختبارا و امتحانا و تمحيصا و ابتلاء فانّه (يختبر عباده بأنواع الشدائد) و المشاق كتروك الاحرام و المناسك العظام (و يتعبّدهم بألوان المجاهد) من مجاهدة النفس و مجاهدة إبليس التي عرفت (و يبتليهم بضروب المكاره) التي تكرهها الطباع و ترغب عنها النفوس (اخراجا للتكبّر) المبعد من اللّه سبحانه (عن قلوبهم و اسكانا للتذلّل) و التواضع المقرّب إليه تعالى (في نفوسهم و ليجعل ذلك) الاستعداد الحاصل لهم من الاختبار و الابتلاء (أبوابا فتحا) مفتوحة (الى فضله) و احسانه (و أسبابا ذللا) سهلة (لعفوه) و غفرانه.

تكملة

هذا الفصل من الخطبة رواه ثقة الاسلام الكليني «قده» باختلاف لما أورده السيّد «ره» هنا فأحببت ايراده بروايته مع بيان غريب موارد الاختلاف فأقول: قال في الكافي و روى انّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال في خطبة له: و لو أراد اللّه جلّ ثناؤه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان و معادن البلدان و مغارس الجنان و أن يحشر طير السّماء و وحش الأرض معهم لفعل، و لو فعل لسقط البلاء و بطل الجزاء و اضمحلّ الابتلاء، و لما وجب للقائلين أجور المبتلين و لا لحق المؤمنين ثواب المحسنين، و لا لزمت الأسماء أهاليها على معنى مبين و لذلك لو أنزل اللّه من السماء آية فظلّت «لظلّت خ ل» أعناقهم لها خاضعين، و لو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين.

و لكن اللّه جلّ ثناؤه جعل رسله أولي قوّة في عزائم نيّاتهم، و ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم من قناعة تملا القلوب و العيون غناه، و خصاصة يملا الأسماع و الأبصار اذاه.
و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام، و عزّة لا تضام، و ملك يمدّ نحوه أعناق الرّجال و يشدّ إليه عقد الرّحال لكان أهون على الخلق في الاختبار، و أبعد لهم في «من خ»الاستكبار، و لامنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيّات مشتركة و الحسنة مقتسمة.

و لكن اللّه أراد أن يكون الاتّباع لرسله، و التصديق بكتبه و الخشوع لوجهه و الاستكانة لأمره و الاستسلام اليه امور له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة، و كلّ ما كانت البلوى و الاختبار أعظم كانت المثوبة و الجزاء أجزل.
ألا ترون أنّ اللّه جلّ ثناؤه اختبر الأوّلين من لدن آدم عليه السّلام الى آخرين من هذا العالم بأحجار ما تضرّ و لا تنفع و لا تبصر و لا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذى جعله للنّاس قياما، ثمّ جعله بأوعر بقاع الأرض حجرا، و أقلّ نتايق الدّنيا مدرا، و أضيق بطون الأودية معاشا، و أغلظ محالّ المسلمين مياها بين جبال خشنة، و رمال دمثة، و عيون وشلة، و قرى منقطعة، واتر من مواضع قطر السماء، واتر [داثر كذا في كا] ليس يزكو به خف و لا ظلف و لا حافر.

ثم أمر آدم عليه السّلام و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، و غاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار متّصلة و جزائر بحار منقطعة، و مهاوى فجاج عميقة، حتى يهزّوا مناكبهم ذللا للّه حوله، و يرملوا على اقدامهم شعثا غبرا، قد نبذوا القنع و السرابيل وراء ظهورهم، و حسروا بالشعور حلقا عن رؤوسهم، ابتلاءاً عظيما، و اختبارا كبيرا، و امتحانا شديدا، و تمحيصا بليغا، و فتونا مبينا، جعله اللّه سببا لرحمته، و وصلة و وسيلة إلى جنّته. و علّة لمغفرته، و ابتلاءاً للخلق برحمته.

و لو كان اللّه تبارك و تعالى وضع بيته الحرام، و مشاعره العظام، بين جنّات و أنهار، و سهل قرار، جم الأشجار، دانى الثمار، ملتفّ النبات، متّصل القرى، من برّة سمراء، و روضة خضراء، و أرياف محدقة، و عراص معذقة، و زروع ناضرة، و طرق عامرة، و حدائق كثيرة، لكان قد صغر الجزاء على حسب ضعف البلاء.
ثمّ لو كانت الأساس المحمول عليها، أو الأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء و ياقوتة حمراء، و نور و ضياء لخفّف ذلك مصارعة الشك في الصّدور، و لوضع‏مجاهدة ابليس عن القلوب، و لنفي معتلج الريب من الناس.

و لكن اللّه عزّ و جلّ يختبر عبيده بأنواع الشدائد، و يتعبّدهم بألوان المجاهدة، و يبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبّر من قلوبهم، و إسكانا للتذلل في أنفسهم، و ليجعل ذلك أبوابا إلى فضله، و أسبابا ذللا لعفوه، و فتنة كما قال الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.

بيان

قوله عليه السّلام «و اتر من مواضع قطر السماء» و اتر أى منفرد منقطع من الوتر و هو الفرد، و واتر الثاني يحتمل أن يكون تأكيدا لفظيّا للأوّل، و أن يراد به أنّه ناقص من حيث النبات من وتره ماله نقصه، أو أنه مأخوذ من الوتيرة و هي قطعة تستدقّ و تغلظ من الأرض.

و قوله «و حسروا بالشعور» من حسره حسرا كشفه، أى كشفوا شعورهم لأجل حلقها عن رؤوسهم، و فتنه فتنا «و فتونا» اختبره «و عراص معذقة» ضبطه في النسخة الّتي عندنا بفتح الميم و العين المهملة و الذال المعجمة، أى محال العذق «و الاس» مثلثة أصل البناء كالأساس و الاسس محرّكة و أصل كلّ شي‏ء جمعه أسياس و زان أسباب و قوله «كما قال الم احسب اه» شاهد لقوله: فتنة يعنى أنّ اللّه يختبر العبيد و يتعبّدهم بالشدايد و المجاهد لأجل الامتحان و تميّز الجيّد من الرّدى و المؤمن من المنافق كما نصّ به سبحانه في كتابه المجيد، ليثيب المؤمنين بحسن ايمانهم و يعاقب المنافقين.

الترجمة

مى‏فرمايد و اگر اراده مى‏فرمود خداوند متعال به پيغمبران خود وقتى كه مبعوث نمود ايشان را اين كه بگشايد براى ايشان خزانهاى طلا و معدنهاى زرخالص و محلهاى كاشتن باغها را، و اين كه جمع نمايد با ايشان مرغ آسمان و وحشيهاى زمينها را هر آينه مى‏ نمود، و اگر مى‏ نمود اينها را هر آينه ساقط مى ‏شد امتحان و ابتلاء، و باطل مى‏ شد جزا و ثواب، و بهم مى‏خورد خبرهاى پيغمبران، و هر آينه واجب نمى ‏گرديد از براى قبول كنندگان احكام دين اجرهاى ممتحنين، و مستحق نمى ‏شد مؤمنان ثواب نيكوكاران را، و لازم نمى ‏گرديد اسمها به معنى‏هاى حقيقى خود و ليكن حق سبحانه و تعالى گردانيده است پيغمبرهاى خود را صاحبان قوّت در عزمهاى خود، و صاحبان ضعف در آنچه مى‏بيند آن را چشمها از حالت‏هاى فقر و پريشانى ايشان با قناعتى كه پر مي كند قلبها و چشم‏ها را از حيثيّت بى نيازى، و با گرسنگى كه پر گرداند ديدها و گوشها را از حيثيّت اذيّت.

و اگر بودندى پيغمبرها أهل قوّتى كه قصد كرده نشود، و أهل عزّتى كه مغلوب و مظلوم نگردد، و صاحب سلطنت و ملكى كه كشيده شود بجانب آن گردنهاى مردمان، و بسته شود بسوى او گرههاى پالانهاى مركبان، هر آينه مى‏شد آسان‏تر بر خلق در عبرت بر داشتن از ايشان، و دورتر از براى ايشان از تكبّر نمودن بر ايشان، و هر آينه ايمان مى ‏آوردند آن خلق از ترس و خوفى كه قهر كننده باشد ايشان را، يا از رغبت و طمعى كه ميل آورنده باشد ايشان را و مى ‏بود نيتهاى خلق غير خالص و مشوب برهبت و رغبت، و أعمال حسنه ايشان قسمت يافته و مخلوط بريا و سمعت.

و ليكن حق تعالى اراده فرمود اين را كه باشد متابعت پيغمبران او و تصديق كتابهاى او و فروتنى براى ذات او، و تمكين كردن براى حكم او، و گردن نهادن براى طاعت او كارهائى كه مختص بأو باشد كه مشوب نباشد به آنها چيزى از رياء و سمعت، و هر قدر امتحان و ابتلاء بزرگتر باشد ثواب و جزاء زياد تر گردد.

آيا نمى ‏بينيد كه خداوند تعالى امتحان فرموده اولين را از نزد جناب آدم ‏عليه السّلام تا آخرين از اين عالم با سنگهائى كه نه ضرر دارد و نه منفعت، و نمى‏ بينند و نمى‏ شنود پس گردانيد آنها را بيت الحرام خود چنان بيتى كه گردانيده آنرا از براى خلق بر پا دارنده أحوال ايشان در دنيا و آخرت پس نهاد آن خانه را به دشوارترين بقعه اى زمين از جهت سنگ، و كمترين شهرهاى زمين از جهت كلوخ و تنگ‏ترين ميانهاى واديها از حيثيّت قطر در ميان كوههاى درشت و ريگهاى نرم و چشمهاى كم آب و دههاى بريده كه ميان آنها باير است و خراب كه فربه نمى‏شود در آنها شتر و اسب و گوسفند و گاو و أمثال آنها.

بعد از آن امر كرد خداوند عالم جناب آدم و فرزندان او را كه بر گردانند اطراف و جوانب خود را بسوى آن، پس گرديد بيت الحرام محل باز گشت از براى قصد منفعت سفرهاى ايشان، و نهايت از براى انداختن بار هاى ايشان.
مى ‏افتد بسوى آن يعنى مايل مى‏ شود بان باطن قلبها از بيابانهاى بى آب و علف دور دراز، و از درّهاى واقعه در ميان كوهها كه گروند و از جزيره‏هاى درياها كه بريده ‏اند از ساير قطعات زمين بجهت احاطه آب تا آنكه حركت مى‏ دهند دوشهاى خودشان را در حالت ذلت، تهليل و تكبير مى ‏گويند از براى خداوند در آن، و مى‏ دوند بر قدمهاى خودشان در حالتى كه ژوليده مو غبار آلوده باشند براى معبود بحق در حالتى كه انداخته‏ اند پيراهنها را پس پشتهاى خود هنگام احرام، و زشت سازنده‏ اند بجهت زياد كردن مويها نيكوهاى خلقت خود را در موسم حج امتحان فرمود خداوند ايشان را با اين كارها امتحان بزرگ و امتحان با شدّت و امتحان آشكار و امتحان كامل گردانيد خداوند حجّ آن خانه را و ابتلاء اين بليّات را سبب رحمت خود، و مايه اتّصال بسوى جنّت خود.

و اگر اراده مى ‏نمود حق تعالى اين كه بگذارد بيت الحرام خود و مواضع مناسك حج خود را در ميان باغهاى خوش، و نهرهاى دلكش، و زمين نرم و هموار متصفه با كثرت درخت‏ها، و با نزديكى ميوه‏ها و با تويهم بودن بناها، و با اتصال‏ دهها ميان گندم مايل بسرخى، و مرغزار سبز و خرّم، و كشتزارهاى مشتمله بر بساتين، و عرصه‏ هاى موصوفه بزيادتى آب، و زراعتهاى تر و تازه، و راههاى آباد و معموره هر آينه مى‏ شد، پروردگار كوچك و حقير مي كرد مقدار جزا را بر حسب ضعف و سستى بلا.

و اگر بودى بنائى كه نهاده شده بود بر او بناى حرم و سنگهائى كه بلند شده با آن خانه خدا ميان زمرّد سبز و ياقوت سرخ و سنگهاى درخشنده و نور بخشنده هر آينه سبك مى ‏نمود اين وضع بنا شتابيدن شك را در سينها و هر آينه فرو نهادى مجاهده شيطان لعين را از قلبها، و هر آينه نابود كردى اضطراب شك را از مردمان و ليكن خداى تعالى امتحان مى‏فرمايد بندگان خود را با أنواع سختيها، و بندگى مى‏خواهد از ايشان با گوناگون مجاهدها، و مبتلا مى ‏سازد ايشان را بأقسام مكروهات از جهت بيرون كردن تكبّر از قلبهاى ايشان، و ساكن نمودن تذلل در نفسهاى ايشان، و تا بگرداند اين را درهاى گشاده شده بسوى فضل و انعام خود، و واسطهاى رام شده براى عفو و مغفرت خود.

الفصل الخامس

فاللّه اللّه في عاجل البغي، و آجل و خامة الظّلم، و سوء عاقبة الكبر، فإنّها مصيدة إبليس العظمى، و مكيدته الكبرى، الّتي تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة، فما تكدي أبدا، و لا تشوى أحدا لا عالما لعلمه، و لا مقلّا في طمره، و عن ذلك ما حرس اللّه عباده‏المؤمنين بالصّلوات، و الزّكوات، و مجاهدة الصّيام في الأيّام المفروضات، تسكينا لأطرافهم، و تخشيعا لأبصارهم، و تذليلا لنفوسهم، و تخفيضا لقلوبهم، و إذهابا للخيلاء عنهم، لما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتّراب تواضعا، و التصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا، و لحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا، مع ما في الزّكاة من صرف ثمرات الأرض و غير ذلك إلى أهل المسكنة و الفقر أنظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر، و قدع طوالع الكبر، و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلّا عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجّة تليط بعقول السّفهاء غيركم، فإنّكم تتعصّبون لأمر لا (ما خ) يعرف له سبب و لا علّة، أمّا إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناريّ و أنت طينيّ، و أمّا الأغنياء من مترفة الامم فتعصّبوا لاثار «إلى آثار خ» مواقع النّعم فقالوا- نحن اكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين. فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال، و محامد الأفعال، و محاسن الامور الّتي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء من‏بيوتات العرب، و يعاسيب القبائل بالأخلاق الرّغيبة، و الأحلام العظيمة، و الأخطار الجليلة، و الأثار المحمودة. فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، و الوفاء بالذّمام، و الطّاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الأخذ بالفضل، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالامم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشّرّ أحوالهم، و احذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكّرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم، و زاحت الأعداء له عنهم، و مدّت العافية عليهم «فيه بهم خ»، و انقادت النّعمة له معهم، و وصلت الكرامة عليه حبلهم: من الاجتناب للفرقة، و اللّزوم للالفة، و التّحاضّ عليها، و التّواصي بها، و اجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم، و أوهن منّتهم من تضاغن القلوب، و تشاحن الصّدور، و تدابر النّفوس، و تخاذل الأيدي.

و تدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال‏التّمحيص و البلاء، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء، و أجهد العباد بلاء و أضيق أهل الدّنيا حالا، اتّخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب و جرّعوهم جرع المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذلّ الهلكة، و قهر الغلبة، لا يجدون حيلة في امتناع، و لا سبيلا إلى دفاع. حتّى إذا رأى اللّه جدّ الصّبر منهم على الأذى في محبّته، و الاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضائق البلاء فرجا، فأبد لهم العزّ مكان الذّلّ، و الأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكا حكّاما، و أئمّة أعلاما، و بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تذهب الامال إليه بهم. فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، و الأهواء مؤتلفة «متّفقة خ»، و القلوب معتدلة، و الأيدي مترادفة، و السّيوف متناصرة، و البصائر نافذة، و العزائم واحدة.

ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين، و ملوكا على رقاب العالمين فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة، و تشتّتت الالفة، و اختلفت الكلمة و الأفئدة، و تشعّبوا مختلفين، و تفرّقوا متحاربين، قد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، و سلبهم غضارة نعمته، و بقي قصص أخبارهم فيكم، عبرا للمعتبرين منكم.

اللغة

(البغي) الظلم و العلوّ و الاستطالة و العدول عن الحقّ و تجاوز الحدّ و (وخم) وخامة كشرف شرافة ثقل و طعام وخيم ثقيل ردى غير موافق و (المصيدة) بكسر الميم و سكون الصاد المهملة و فتح الدال آلة الصّيد من الشبكة و نحوها و (المكيدة) و زان معيشة مصدر بمعني الكيد و (ساوره) مساورة دائبة، و سورة الخمر و غيرها حدّتها، و من البرد شدّته، و من السّلطان سطوته و اعتداؤه.

و (اكدى) الحافر إذا بلغ في حفره إلى موضع صلب لا يمكنه حفره، و اكدت المطالب إذا صعبت في وجه طالبها فعجز عنها و (اشوت) الضربة تشوى أخطات فلم تصب المقتل، و أشواه يشويه إذا رماه فلم يصب مقتله، و رجل (مقلّ) و أقلّ فقير و (الطمر) بالكسر الثوب الخلق و البالى من الثياب من غير الصوف و الجمع أطمار.

و (عتاق) الوجوه إما من العتق و هو الكرم و الشرف و الجمال و الحريّة و النجابة قال في القاموس: و العتاق من الخيل النجائب، أو من العتيق و هو الخيار من كلّ شي‏ء، و في بعض النسخ و عتايق الوجوه جمع عتيقة يقال أمة عتيقة أى خارجة عن الرق و (التمويه) التدليس يقال موّهت النحاس أو الحديد تمويها أى طليته بالذهب أو الفضة و (مواقع) النعم جمع موقع اسم مكان و يحتمل المصدر و (المجداء) جمع مجيد مثل فقهاء و فقيه و هو الرفيع العالى و الكريم الشريف الفعال (و النجداء) كفقهاء أيضا جمع نجيد و هو الشجاع الماضي فيما يعجز غيره.

(و اليعسوب) أمير النحل و رئيس القوم و (الأخطار) جمع خطر بالتحريك كأسباب و سبب و هو القدر و المنزلة و (الجوار) بالكسر أن تعطي الرّجل ذمّة فيكون بها جارك فتجيره و مصدر جاور يقال جاوره مجاورة و جوارا و جوارا بالضمّ و الكسر صار جاره و (الذّمام) أيضا الحق و الحرمة و ما يذمّ به الرّجل على إضاعته من العهد.

و (مدّت العافية) بالبناء للمفعول كما هو الظاهر أو بالبناء على الفاعل من قولهم مدّ الماء إذا جرى و سال، و في بعض النسخ و مدّت العافية فيه بهم، و في بعضها عليه بهم و (الفقرة) بالكسر ما انتظم من عظام الصّلب من الكاهل إلى العجز و الجمع فقركعنب و (سام) فلانا أمرا أى كلّفه إياه و أكثر ما يستعمل في الشرّ و العذاب قال سبحانه يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ.

(و المرار) بالضمّ شجر مرّ إذا اكلت منه الابل قلصت مشافرها و (الاملاء) جمع الملاء و هو الجماعة و (قصص أخبارهم) في بعض النسخ بكسر القاف جمع قصّة، و في بعضها بالفتح كصدر من قصصت الخبر قصا حدّثت به على وجهه، و الأوّل أولى.

الاعراب

قوله: فانّها مصيدة إبليس، الضمير راجع إلى كلّ من البغي و الظلم و الكبر أو الأخير فقط و هو الأظهر، و التأنيث باعتبار الخبر كما في قولهم: و ما كانت امّك فانّ الضمير إذا وقع بين مرجع مذكر و خبر مؤنّث أو بالعكس فالأولى رعاية جانب الخبر كما صرّح به علماء الأدب.

و قوله: عن ذلك ما حرس اللّه، قال الشارح المعتزلي: لفظة ما زائدة مؤكدة أى و عن هذه المكايد التي هى الظلم و البغى و الكبر حرس اللّه عباده فعن متعلّقة بحرس.
قال: و قال القطب الراوندى رحمه اللّه: يجوز أن تكون مصدرية فيكون موضعها رفعا بالابتداء و خبر المبتدأ قوله لما في ذلك، و يجوز أن يكون نافية أى لم يحرس اللّه عباده عن ذلك إلجاء و قهرا، بل فعلوا اختيارا من أنفسهم.
و الوجه الأوّل باطل لأنّ عن على هذا التقدير يكون من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه، و أيضا فان لما في ذلك لو كان هو الخبر لتعلّق لام الخبر بمحذوف أى حراسة اللّه تعالى لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه، و هذا كلام غير مفيد إلّا على تأويل بعيد لا حاجة إلى تعسّفه.

و الثاني يأباه سياق الكلام، لأنّ قوله: تسكينا و تخشّعا، و قوله: لما في ذلك، تعليل للحاصل الثابت لا للمنفي المعدوم، انتهى.
أقول: أما ما ذكره القطب الراوندى فغير خال من التكلّف حسبما قاله الشارح المعتزلي، و لكن اعتراض الشارح عليه بأنّ عن على هذا التقدير من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه ممنوع، لمنع عدم جواز تقديم معمول المصدر عليه‏ مطلقا و إنما هو مسلم في المفعول الصريح لضعف عمله، و أمّا الظرف و أخوه فيكفيهما رايحة الفعل.

قال نجم الأئمة الرضيّ: و أنا لا أرى منعا من تقديم معموله عليه إذا كان ظرفا أو شبهه، نحو قولك: اللّهم ارزقني من عدوّك بالبراءة و إليك الفرار قال تعالى وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ و قال فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ و مثله في كلامهم كثير و تقدير الفعل في مثله تكلّف.

و أما ما ذكره الشارح من المعني فلا باس به و إن كان يتوجّه عليه أنّ الأصل عدم زيادة ما و أن جعل مرجع اسم الاشارة هو الظلم و البغى و الكبر يأبى عنه الذوق السليم.
و الأظهر عندي أنّ عن في قوله: عن ذلك للتعليل كما في قوله تعالى وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ أو بمعني من النشوية و ذلك إشارة إلى تساور هذه المكايد في القلوب و تأثيرها في النفوس تساور السّموم القاتلة، و أن يكون الظرف مستقرا في موضع الرفع خبرا مقدّما على مبتدئه و هو قوله: ما حرس اللّه، لكونه في تأويل المصدر، و المعني أنّ حراسة اللّه لعباده بالصلاة و الزكاة و الصيام لأجل مفاسد هذه المكائد أو أنّها ناشئة من ذلك الفساد، و هو تأثيرها في النفوس تأثير السّموم، و على هذا فيتمّ الكلام لفظا و معني على أحسن التئام و انتظام، فافهم و اغتنم.

و تسكينا و تخشيعا و تذليلا و تخفيضا و اذهابا منصوبات على المفعول له و العامل حرس، و عن، في قوله: عن علّة، للتعليل أو بمعني من النشوية، و غيركم، بالنصب استثناء من قوله: أحدا، و العامل وجدت، و قوله: بالاخلاق الرغيبة، متعلّق بقوله: تفاضلت.

و لفظة في في قوله: و مدّت العافية فيه، بمعني اللّام كما في قوله تعالى قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ امرأة دخلت النار في هرّة حبستها، و قوله: من الاجتناب، بيان لأمر و جملة: اتّخذتهم الفراعنة، استيناف بياني لا محلّ لها من الاعراب

المعنى

اعلم أنه لما نبّه في الفصل السابق على أنّ المطلوب من العباد هو التواضع و التذلّل و اخلاص النية و العمل، مستشهدا على ذلك ببعث الأنبياء العظام و السفراء الكرام بحال الذلّ و الفاقة و الفقر و الخصاصة، و بوضع البيت الحرام بأقفر البلاد و أوعر الجبال، و ختم الفصل بأنّ التواضع و التذلّل باب مفتوح للفضل و الاحسان، و سبب ذلول للعفو و الغفران، عقّبه بهذا الفصل تذكيرا للمخاطبين، و ترغيبا لهم على ملازمة هذين الوصفين و الأخذ بهما، و تحذيرا لهم عن الأخذ بضدّهما و هو التكبر و الخيلاء، و تنبيها على أنّ الغرض الأصلي في وضع ساير العبادات من الصلاة و الزكاة و الصيام بكيفيّاتها المخصوصة أيضا هذا المعني أعني التذلّل و الاستكانة فقال عليه السّلام: (فاللّه اللّه في عاجل البغي و آجل و خامة الظلم و سوء عاقبة الكبر) أى اتقوا اللّه سبحانه و احذروه تعالى فيما يترتّب على البغي و الظلم عاجلا و آجلا من العقوبات الدنيويّة و الاخروية، و الاتيان في الأوّل بالعاجل و في الثاني بالاجل لمجرّد التفنن لا للاختصاص.

و المعاني المتقدّمة للبغى كلّها محتملة هنا إلّا أنّ الأنسب الأظهر بمساق الخطبة أنّ المراد به العدول عن الحقّ و التجاوز عن الحد او السّعى فى الفساد، أو الخروج عن طاعة الامام و أمّا سوء عاقبة الكبر فلكونه مؤدّيا إلى الهلاك الاخروى الموجب للعذاب الأليم و النكال العظيم كما يفصح عنه تعليله وجوب الحذر عنه أو عنه و عن سابقيه بقوله: (فانّها مصيدة ابليس العظمى) الّتى يصيد بها القلوب و يأخذها و يملكها أخذ الصياد للصيّد بشركه و حبائله.
قال الشارح البحرانى: و وصفها بالعظم باعتبار قوّة الكبر و كثرة ما يستلزمه من الرذائل.

(و مكيدته الكبرى) أى خديعته الكبيرة و كيده القوى، لأنّه يحسّنه فى نظر المتكبّر و يزيّنه و يذكر محاسنه مع أنها مقابح في الواقع، فيوقعه فيه بتمويهه‏و تلبيسه من حيث لا يعلم.

و وصفه بالكبر لما نبّه عليه بقوله (الّتى تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة) فانّ تزيين ما فى باطنه تلك المفسدة العظيمة و ذلك السّم الناقع، و تحسينه في نظر المتكبّر و ايقاعه له فيها من حيث لا يشعر إن هو إلّا كيد عظيم و حيلة كبيرة.

و كنّى بتساورها عن شدّة تأثيرها و حدّتها فى القلوب، و شبّهه بمساورة السّموم القاتلة تأكيدا للشدّة و توضيحا لها، بل نقول إنّها أشدّ تأثيرا منها، لأنّ تأثير السموم فى البدن و تأثير تلك الخصلة الذميمة فى القلب، و الأوّل موجب للألم الجسمانى و الهلاك الدنيوى، و الثاني للألم الرّوحانى و الهلاك الاخروى.

و قوله (فما تكدى أبدا و لا تشوى أحدا) تفريع على التشبيه و توضيح لوجه الشبه، يعنى أنّ السّموم القاتلة كما لا يمنع من تأثيرها فى الأبدان مانع، و لا يقاومها شي‏ء من الطبايع، و لا تخطى من اصابة مقاتل احد من آحاد الناس، فكذلك تلك المكيدة لابليس لا يردّها من مساورة القلوب شي‏ء أصلا، و لا يدفعها منها دافع أبدا، و لا يكاد أن يقاومها أحد من النّاس أو يقابلها واحد من العقول، فتخطى من أصابتها و اهلاكها.

و لمزيد توكيد العموم المستفادة من قوله لا تشوى أحدا من حيث كونه نكرة في سياق النفي أتى بقوله (لا عالما بعلمه و لا مقلّا في طمره) يعني أنّ العالم مع ماله من الكياسة و العلم بقبح هذه الصّفة الخبيثة و كونها من مكائد ابليس لا يكاد ينجو منها فضلا عن الجاهل، و كذلك المقلّ المفتقر مع فقره و اعوازه للمال الّذى يتكبّر به لا يخلص من تلك المكيدة فكيف بالغني الواجد لأسباب الطغيان و الخيلاء، فانّ الانسان ليطغى أن رآه استغنى، هذا.

و لما كانت الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح و المفاسد الكامنة كما عليه بناء العدلية من الامامية و المعتزلة، و كان جعل العبادات الموظفة من الشارع لتحصيل تلك المصالح و دفع هذه المفاسد و نبه عليه السّلام على أنّ في الكبر مفسدة عظيمة و سوء العاقبة و أنّه بمنزلة السموم القاتلة أشار بقوله:(و عن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصّلوات و الزّكوات و مجاهدة الصيام في الأيام المفروضات) إلى أنّ وجود هذه المفاسد في الكبر صار علّة و منشئا لجعل تلك العبادات، فانها لاشتمالها على التواضع و التّذلّل المنافي للكبر و المضادّ له أمر اللّه سبحانه عباده المؤمنين بها حراسة لهم و حفظا عن الكبر و مفاسده العظيمة، و حثّا على التواضع و مصالحه الخطيرة كما أمر بالحجّ مع ماله من الكيفيّات المخصوصة و باتباع الرّسل مع ما لهم من الذّل و المسكنة لهذه النكتة أيضا حسبما عرفت في الفصل المتقدّم تفصيلا.

أما اشتمال الصلاة على التواضع و تنافيها للتكبّر فلكون مدارها بأفعالها و أركانها و أجزائها و شرايطها على ذلك كما يأتي ذكره في كلامه عليه السّلام.
و أمّا كون ذلك علّة لجعلها و تشريعها فيدلّ عليه صريحا ما رواه في الفقيه قال: كتب الرضا علي بن موسى عليهما السّلام إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: انّ علّة الصلاة أنها إقرار بالرّبوبيّة للّه تعالى، و خلع الانداد و قيام بين يدي الجبّار جل جلاله بالذّل و المسكنة و الخضوع و الاعتراف و الطلب للاقالة من سالف الذّنوب، و وضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظاما للّه عزّ و جلّ، و أن يكون ذاكرا غير ناس و لا بطر، و يكون خاشعا متذلّلا راغبا طالبا للزّيادة في الدّين و الدنيا، مع ما فيه من الايجاب و المداومة على ذكر اللّه بالليل و النهار لئلا ينسي العبد سيّده و مدبّره و خالقه، فيبطر و يطغى، و يكون في ذكره لربّه و قيامه بين يديه زجرا عن المعاصي و مانعا له من الفساد.

و هذه الرواية«» كما دلّت على كون الصلاة مانعة من الكبر، فكذا دلّت‏على كونها مانعة من البغي و الظلم المتقدّم ذكرهما في كلامه عليه السّلام و غيرهما من المعاصي جميعا، و هو نصّ قوله تعالى «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ».

و أمّا اشتمال الزكاة على التواضع فلأنّها شكر للنعمة المالية كما أنّ العبادات البدنية شكر للنعمة البدنيّة و ظاهر أنّ شكر النعمة ملازم للتذلّل و مناف للتكبّر على المنعم، و من حيث إنها مستلزمة للتعاطف و الترحّم على الفقراء و الضعفاء و المساكين تلازم الايتلاف بهم و تنافي التكبّر عليهم أيضا كما يدلّ على ذلك: ما رواه فى الوسائل عن الصدوق «ره» باسناده عن محمّد بن سنان عن الرضا عليه السّلام أنه كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: إنّ علة الزكاة من أجل قوت الفقراء و تحصين أموال الأغنياء، لأنّ اللّه عزّ و جلّ كلّف أهل الصّحة القيام بشان أهل الزمانة و البلوى، كما قال اللّه تبارك و تعالى لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في أموالكم إخراج الزكاة و في أنفسكم توطين الأنفس على الصبر، مع ما في ذلك من أداء شكر نعم اللّه عزّ و جلّ، و الطمع في الزيادة مع ما فيه من الزيادة و الرأفة و الرّحمة لأهل الضعف و العطف على أهل المسكنة و الحثّ لهم على المواساة، و تقوية الفقراء و المعونة لهم على أمر الدّين، و هو «مو» عظة لأهل الغنى و عبرة لهم ليستدلّوا على فقراء الاخرة بهم، و ما لهم من الحثّ في ذلك على الشكر للّه تبارك و تعالى لما خوّلهم و أعطاهم، و الدّعاء و التضرّع و الخوف من أن يصيروا مثلهم في امور كثيرة في أداء الزكاة و الصّدقات و صلة الأرحام و اصطناع المعروف.

و أمّا تضمّن الصيام للتّذلّل و تنافيه للتكبّر فلكونه موجبا لكسر سورة النفس الأمارة و ذلّتها، و سببا لتباعد الشيطان عنه، و اندفاع وسوسته المنبعثة عنها الكبر و يرشد الى ذلك: ما رواه في الفقيه قال: و كتب أبو الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليهما السلام إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: علّة الصّوم عرفان مسّ الجوع و العطش ليكون ذليلا مستكينامأجورا محتسبا صابرا، و يكون ذلك دليلا له على شدائد الاخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات، واعظا له في العاجل دليلا على الاجل ليعلم شدّة مبلغ ذلك من أهل الفقر و المسكنة في الدّنيا و الاخرة.

و في الفقيه أيضا قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه: ألا اخبركم بشي‏ء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كتباعد المشرق من المغرب قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: الصّوم يسوّد وجهه، و الصّدقة تكسر ظهره، و الحب في اللّه و الموازرة على العمل الصالح يقطع و تينه، و لكلّ شي‏ء زكاة و زكاة الأبدان الصّيام، هذا.
ثمّ المراد بمجاهدة الصّيام بذل الجهد له و احتمال مشاقّه و نسبة المفروضات إلى الأيام من باب المجاز العقلي و الاسناد إلى الزمان كما في مثل نهاره صائم أى الأيام المفروض فيها الصيام.

هذا تفصيل حصول الحراسة بهذه العبادات عن الكبر و أشباهه، و إجماله ما أشار اليه عليه السّلام بقوله (تسكينا لأطرافهم) أى للأعضاء و الجوارح.
روى في الوسائل عن عليّ عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال: ليخشع الرجل في صلاته فانّ من خشع قلبه للّه عزّ و جلّ خشعت جوارحه، فلا يعبث بشي‏ء اجلسوا في الركعتين حتّى تسكن جوارحكم ثمّ قوموا فانّ ذلك من فعلنا، إذا قام أحدكم من الصلاة فليرجع يده حذاء صدره، فاذا كان أحدكم بين يدي اللّه جلّ جلاله فيتحرى بصدره و ليقم صلبه و لا ينحنى.

و روى في مجمع البيان عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما أنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.
(و تخشيعا لأبصارهم).
روى في الكافي عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كنت في صلاتك فعليك بالخشوع و الاقبال على صلاتك فانّ اللّه تعالى يقول الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ.
روى في الصافي عن القمي في تفسير هذه الاية قال غضّك بصرك في صلاتك‏و إقبالك عليها.
و في الصافى روى أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته، فلما نزلت الاية طأطأ رأسه و رمى ببصره إلى الأرض.

(و تذليلا لنفوسهم و تخفيضا لقلوبهم) باستحضار عظمة اللّه عزّ و جلّ و استشعار هيبته.
فقد قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق.
و قال الصادق عليه السّلام: لا تجتمع الرغبة و الرهبة في قلب أحد إلّا وجبت له الجنّة فاذا صلّيت فاقبل بقلبك على اللّه عزّ و جلّ الحديث.

و فى الوسائل عن الخصال باسناده عن عليّ عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال عليه السّلام لا يقومنّ أحدكم في الصلاة متكاسلا و لا ناعسا، و لا يفكرّن في نفسه فانه بين يدي ربّه عزّ و جلّ و إنما للعبد من صلاته ما أقبل عليه منها بقلبه.

(و اذهابا للخيلاء) و التكبّر (عنهم) و علّل ذلّة النفوس و خفض القلوب و إذهاب الخيلاء بقوله (لما في ذلك) فهو علّة للعلّة أى في ذلك المحروس به المتقدّم ذكره (من تعفير عتاق الوجوه) أى كرايمها و شرايفها و احرارها (بالتراب تواضعا) و تذلّلا (و إلصاق كرايم الجوارح) و هى المساجد السّبعة (بالأرض تصاغرا).

روى في الفقيه عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: كان موسى ابن عمران عليه السّلام إذا صلّى لم ينفتل حتّى يلصق خدّه الأيمن بالأرض و خدّه الأيسر بالأرض.
قال: و قال أبو جعفر عليه السّلام أوحى اللّه إلى موسى بن عمران عليه السّلام أ تدرى لما اصطفيتك بكلامي دون خلقي قال موسى عليه السّلام: لا يا ربّ، قال: يا موسى إني قلبت عبادى ظهرا و بطنا فلم أجد فيهم أحدا أذلّ لى نفسا منك، يا موسى إنك إذا صلّيت وضعت خديك على التراب.

(و لحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا) فانّ الجوع يلحق البطن بالمتن و يوجب ذلة النفس و قمعها عن الانهماك في الشهوات و زوال الأشر و البطر و الخيلاء عنها (مع ما في الزكاة من) علّة اخرى لتشريعها و هو (صرف ثمرات الأرض) من الغلّات‏الأربع (و غير ذلك) من الأنعام الثلاثة و النقدين (إلى أهل المسكنة و الفقر) المنصوص بهم في الكتاب الكريم بقوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ و المسكين أسوء حالا من الفقير.

روى في الكافي عن أبي بصير قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: قول اللّه عزّ و جلّ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ قال عليه السّلام: الفقير الّذى لا يسأل الناس و المسكين أجهد منه و البائس أجهدهم، فكلّ ما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من إسراره، و كلّ ما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه، و لو أنّ رجلا يحمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسنا جميلا.

(انظروا إلى ما فى هذه الأفعال) و هى الصلاة و الزكاة و الصّيام (من قمع نواجم الفخر) أى اذلال ما تبدو و تظهر من خصال الفخر و الخيلاء (و قدع طوالع الكبر) أى كفّ ما تطلع من آثار الكبر و الاعتلاء.
و ان شئت مزيد المعرفة بأسرار هذه العبادات أعنى الصّيام و الصلاة و الزكاة و بشرايطها و آدابها و علل وجوبها و غير ذلك مما يتعلّق بها، فعليك بمراجعة شرح المختار المأة و التسع، هذا.

و لما حذّرهم عليه السّلام من البغى و الظلم و الكبر أردفه بتوبيخهم على العصبيّة و العناد من دون علّة مقتضية لذلك فقال: (و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلّا عن علة) مقتضية لتعصّبه حاملة له عليه (تحتمل) و فى بعض النسخ تحمل (تمويه الجهلاء) أى تلبيس الأمر عليهم حتّى يزعمون لمكان جهالتهم صحّة تلك العلّة مع بطلانها في نفس الأمر (أو حجّة) و دليل (تليط بعقول السفهاء) أى تلتصق بعقولهم و يظنّون بمالهم من السفاهة حقّيتها مع أنها باطلة في الحقيقة (غيركم) فيقبلونها أى ما وجدت أحدا يتعصّب بشي‏ء إلّا وجدت تعصّبه ناشئا من علّة غيركم، و بعبارة اخرى وجدت كلّ أحد يتعصّب لعلّة إلّا أنتم.

(فانّكم تتعصّبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علة) حاملة لتمويه الجهلاء و ملتصقةبعقول السفهاء.
و ليس المراد نفى مطلق السبب للعصبيّة، لما قد مرّ في شرح الفصل الأوّل و الثالث من الخطبة من أنّ سبب تعصّبهم و ثوران الفتنة بينهم هو اعتزاء الجاهلية الّذى كان بينهم، و إنّما المراد نفى سبب ذلك الاعتزاء، يعنى أنكم تتعصّبون لأمر و هو الاعتزاء ليس لذلك الأمر سبب معروف ظاهر مقبول و لو عند الجهال فاذا لم يكن للاعتزاء سبب مقبول تكون سببيّته للعصبيّة أيضا سخيفة هيّنة، فيكون تعصّبهم له بمنزلة التعصّب لا لعلّة، هذا.

و لما ذكر اجمالا أنّ تعصّب كلّ متعصّب من العالمين فانّما هو علّة مقتضية له أراد تفصيل ذلك الاجمال بالاشارة إلى بعض علل التعصّب الناشى من المتعصّبية فقال: (أما إبليس) اللعين و هو رئيس المتعصّبين و المستكبرين (فتعصّب على آدم لأصله) و استكبر عليه بشرف جوهره على زعمه لكونه مخلوقا من النار (و طعن عليه فى خلقته) لكونه مخلوقا من الطين، ففضل نفسه عليه قياسا للفرع على الأصل فى الشرف و الخسة (فقال أنا نارىّ و أنت طيني) فكانت علة تعصّبه أنه تعزّز بخلقة النار و استوهن خلق الصلصال.

روى في الكافى عن داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ الملائكة يحسبون أنّ ابليس منهم و كان فى علم اللّه أنّه ليس منهم فاستخرج ما فى نفسه بالحميّة و الغضب، فقال خلقتنى من نار و خلقته من طين.
و قد مرّ تفصيل الكلام فى قياسه و بطلان قياسه فى شرح الفصل الحادى عشر من المختار الأوّل و شرح الفصل الأوّل من هذا المختار الذى نحن بصدد شرحه، من أراد الاطلاع عليه فليراجع الفصلين.

(و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم) أى الامم المترفة و هم الذين أطغتهم النعمة أو المتنعّمون الذين لا يمنع من تنعّمهم أو المتروكون يصنعون ما يشاؤن و لا يمنعون (فتعصّب و الاثار مواقع النعم).

قال المحدّث العلّامة المجلسىّ «ره»: مواقع النعم هى الأموال و الأولاد، و آثارها هى الترفّه و الغنى و التلذّذ بها.
و بمثله قال الشارح البحرانى حيث قال: مواقعها هى الأموال و الأولاد، و آثار تلك المواقع هى الغنى و الترفّه بها و التنعّم و الالتذاذ و كان تعصّبهم لذلك و فخرهم به، ثمّ قال: و يحتمل أن يريد بالنعم الأموال و الأولاد و بمواقعها وقوعها، فانه كثيرا ما يريد بمفعل المصدر و آثارها هى الغنى و الترفّه كما قدّمنا.

و كيف كان فالمقصود أنّ تعصّب المترفين و تفاخرهم إنما كان بسبب كثرة الأموال و الأولاد كما أقرّوا به (فقالوا نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين) و هو اقتباس من الاية الشريفة في سورة سباء قال سبحانه وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.

قال الطبرسي «و ما ارسلنا في قرية من نذير» أى من نبىّ مخوف باللّه تعالى «إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها» أى جبابرتها و اغنياؤها المتنعّمون فيها «إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» و في هذا بيان للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ أهل قريته جروا على منهاج الأوّلين، و إشارة إلى أنّه كان اتباع الأنبياء فيما مضى الفقراء و أوساط الناس دون الأغنياء.

ثمّ بين سبحانه علّة كفرهم بأن قال وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً أى افتخروا بأموالهم و أولادهم ظنّا بأنّ اللّه سبحانه انما خوّلهم المال و الولد كرامة لهم عنده فقالوا إذا رزقنا و حرمتم فنحن اكرم منكم و أفضل عند اللّه تعالى فلا يعذّبنا على كفرنا بكم و ذلك قوله وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ و لم يعلموا أنّ الأموال و الأولاد عطاء من اللّه تعالى يستحقّ به الشكر عليهم، و ليس ذلك للاكرام و التفضيل، هذا.

و لمّا وبّخهم على التعصّبات الباطلة أرشدهم إلى التعصّبات المرغوبة في الشريعة فقال: (فإن كان و لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال) و في بعض النسخ لمكارم الأخلاق و المعنى واحد، و قد مضى تفصيلها في شرح الفصل الثالث من الخطبة

السادسة و الثمانين، و أقول هنا: روى في الوسائل من الخصال عن الحسن بن عطية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: المكارم عشر فان استطعت أن تكون فيك فلتكن فانها تكون فى الرجل و لا تكون في ولده، و تكون في ولده و لا تكون في أبيه، و تكون في العبد و لا تكون في الحرّ: صدق النّاس «البأس خ»، و صدق اللسان، و اداء الامانة، و صلة الرحم، و إقراء الضيف، و إطعام السائل، و المكافاة على الصنائع، و التذمّم للجار، و التذمّم للصّاحب، و رأسهنّ الحياء.
و فى الوسائل من معانى الأخبار و أمالى الصّدوق عن حماد بن عثمان قال: جاء رجل الى الصادق عليه السّلام فقال: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبرني عن مكارم الأخلاق فقال: العفو عمّن ظلمك، و صلة من قطعك، و إعطاء من حرمك، و قول الحقّ و لو على نفسك (و محامد الأفعال).

روى في الوسائل من المجالس عن المفضّل بن عمر عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام إنّه قال: عليكم بمكارم الأخلاق، فانّ اللّه عزّ و جلّ يحبّها، و إيّاكم و مذامّ الأفعال فانّ اللّه عزّ و جلّ يبغضها، و عليكم بتلاوة القرآن «إلى أن قال» و عليكم بحسن الخلق فانّه يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، و عليكم بحسن الجوار فانّ اللّه جلّ جلاله أمر بذلك، و عليكم بالسّواك فانّه مطهّرة و سنّة حسنة، و عليكم بفرائض اللّه فأدّوها، و عليكم بمحارم اللّه فاجتنبوها.

(و محاسن الامور الّتى تفاضلت فيها المجداء و النجداء) أى أولو لشّرف و الكرم و الشجاعة (من بيوتات العرب و يعاسيب القبايل) أى رؤسائها و ساداتها و ذلك: مثل ما رواه في الكافي عن حبيب بن ثابت عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: لم يدخل الجنّة حميّة غير حميّة حمزة بن عبد المطلب، و ذلك حين أسلم غضبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث السلا الذى القى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّ تعصّبه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دخوله في الاسلام إنما نشأ من فرط الغيرة و العصبيّة بمقتضى سودده و شرف نسبه و علوّ حسبه و هكذا كان عادة الأشراف و الأنجاد فانهم انّما كانوا يتعصّبون و يتفاضلون (بالأخلاق الرغيبة) المرغوب فيها (و الأحلام) أى العقول (العظيمة و الأخطار) أى الأقدارو المراتب (الجليلة و الاثار المحمودة).

و قد اشير اليها في الحديث النّبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المروىّ في الوسائل قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّ خياركم أولو النّهى، قيل: يا رسول اللّه من أولو النهى قال: هم اولو الأخلاق الحسنة، و الأحلام الرزينة، و صلة الأرحام، و البررة بالأمّهات و الاباء، و المتعاهدون بالجيران و اليتامى، و يطعمون الطعام و يفشون السلام فى العالم و يصلّون و الناس نيام غافلون.

و لما قال: فان كان و لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الأخلاق و محامد الأفعال نبّه على تفصيلها بقوله (فتعصّبوا لخلال الحمد) أى للخصال المحمودة و أورد منها هنا عشرا.
الاولى ما أشار إليه بقوله (من الحفظ للجوار) يحتمل أن يكون المراد به حسن المجاورة و حفظ حقوق الجيران.
ففى الكافى عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حسن الجوار يعمر الدّيار و ينسى الأعمار.

و عن أبى مسعود قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: حسن الجوار زيادة في الأعمار و عمارة الدّيار.
و في الوسائل عن الصّدوق باسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث المناهي قال: من اذى جاره حرّم اللّه عليه ريح الجنّة و مأواه جهنّم و بئس المصير، و من ضيّع حقّ جاره فليس منّا، و ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورثه.

قال بعض الأعلام: ليس حسن الجوار كفّ الأذى فقط، بل تحمّل الأذى منه أيضا، و من جملة حسن الجوار ابتداؤه بالسلام، و عيادته في المرض، و تعزيته في المصيبة، و تهنيته في الفرح، و الصفح عن زلّاته، و عدم التطلّع على عوراته، و ترك مضايقته فيما يحتاج إليه من وضع جذوعه على جدارك، و تسلّط ميزابه إلى دارك‏و ما أشبه ذلك.

و يحتمل أن يكون المراد بالجوار أن تعطى رجلا ذمّته و أمانا يكون بذلك جارك، قال الطريحى: و فى الحديث أيّما رجل نظر إلى رجل من المشركين فهو جارحتى يسمع كلام اللّه أى في أمن لا يظلم و لا يؤذي و على هذا فمعنى الحفظ للجوار هو المحافظة على ما اعطيته من الذمام و القيام بلوازمه و عدم الاضاعة له.

(و) الثانية (الوفاء بالذمام) أى الوفاء بالعهد و الأمان.
روى في الوسائل عن الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفليّ عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: ما معنى قول النّبي صلّى اللّه عليه و آله: المسلمون تتكافا دماؤهم و يسعى بذمّتهم أدناهم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو أنّ جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين فأشرف رجل فقال: اعطونى الأمان حتى ألقى صاحبكم و اناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به.
و فيه عن الصّدوق بسنده عن حبّة العرنى قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من ائتمن رجلا على دمه ثمّ خاس به فأنا من القاتل برى‏ء و إن كان المقتول في النار.

(و) الثالثة (الطاعة للبرّ) قيل: البرّ اسم جامع للخير كلّه فيكون المراد من طاعته الانقياد له و الاتيان بالخيرات، و يجوز أن يكون بمعنى البارّ أو بحذف المضاف أى لذى البرّ على حدّ قوله تعالى لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى‏ أى البارّ، أو ذو البرّ هو المتّصف بالتقوى، و على هذا فالمراد بالطاعة للبرّ هو الطاعة للأبرار المتّقين.

(و) الرابعة (المعصية للكبر) أى المجانبة و المخالفة له بالملازمة للتواضع و انّما عبر بلفظة المعصية لتقدّم لفظ الطاعة و كونها في قبالها، فعبّر بها لحسن المجاورة و مراعاة للنظير و هو من محاسن البلاغة.

(و) الخامسة (الأخذ بالفضل) يجوز أن يراد بالفضل التفضّل و الاحسان على الغير، و أن يراد به العمل الصالح و على أيّ تقدير فأخذه عبارة عن المواظبة عليه و بهما فسّر قوله سبحانه وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناًإِلى‏ أَجَلٍ قال أمين الاسلام الطبرسى قيل: إنّ الفضل بمعنى التفضّل و الافضال أى و يؤت كلّ ذى إفضال على غيره بمال أو كلام أو عمل بيد أو رجل جزاء إفضاله، فيكون الهاء في فضله عايدا إلى ذى الفضل، و قيل: إنّ معناه يعط كلّ ذي عمل صالح فضله أى ثوابه على قدر عمله، فانّ من كثرت طاعته في الدّنيا زادت درجاته في الجنّة و على هذا فالأولى أن تكون الهاء في فضله عائدا إلى اسم اللّه.

أقول: و يرشد إلى المعنيين ما روى في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ ابن الحسين عليهما السّلام قال: سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه تبارك و تعالى الأوّلين و الاخرين في صعيد واحد ثمّ ينادى مناد أين أهل الفضل قال: فيقوم عنق من الناس فتلقّاهم الملائكة فيقولون: ما كان فضلكم فيقولون: كنّا نصل من قطعنا، و نعطى من حرمنا، و نعفو عمن ظلمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة.

(و) السادسة (الكفّ عن البغى) أى عن الظلم و الاعتداء و الاستطالة و العدول عن الحقّ.
روى في الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ أعجل الشرّ عقوبة البغي.
و عن السكونى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يقول ابليس لجنوده: القوا بينهم الحسد و البغي فانّهما يعدلان عند اللّه الشرك.
أى يعدلانه في الاخراج من الدّين و العقوبة و التأثير في فساد نظام الخلق.

(و) السابعة (الاعظام للقتل) أى تعظيمه و عدّه عظيما، و المراد قتل النفس التي حرّم اللّه إلّا بالحقّ فانّه من أكبر الكبائر و أعظم الذنوب قال تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» روى الصّدوق في عقاب الأعمال عن جابر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال أوّل ما يحكم اللّه في القيامة في الدّماء فيوقف ابنى آدم فيفصل بينهما، ثمّ الذين يلونهم من أصحاب الدّماء حتّى لا يبقى منهم أحد، ثمّ الناس بعد ذلك فيأتي المقتول قاتله‏فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلنى، فيقول أنت قتلته، فلا يستطيع أن يكتم اللّه حديثا.
و عن سعيد الأزرق عن أبى عبد اللّه عليه السّلام فى رجل قتل رجلا يقال له: مت أىّ ميتة شئت إن شئت يهوديا و إن شئت نصرانيا و ان شئت مجوسيا.
و عن أبى الجارود عن محمّد بن علىّ صلوات اللّه عليهما قال: ما من نفس يقتل برّة و لا فاجرة إلّا و هو يحشر يوم القيامة معلّقا بقاتله بيده اليمنى و رأسه بيده اليسرى و أوداجه تشخب دما يقول: يا ربّ سل هذا بم قتلنى، و إن «فان ظ» كان قتله فى طاعة اللّه عزّ و جلّ أثيب القاتل و ذهب بالمقتول إلى النار، و إن كان فى طاعة فلان قيل له: اقتله كما قتله، ثمّ يفعل اللّه فيهما مشيّته.

(و) الثامنة (الانصاف للخلق) روى في الكافى عن السّكونى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سيّد الأعمال إنصاف الناس من نفسك، و مواساة الأخ فى اللّه، و ذكر اللّه على كلّ حال.
و عن أبى حمزة الثمالى عن علىّ بن الحسين عليهما السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في آخر خطبته: طوبى لمن طاب خلقه و طهرت سجيّته و صلحت سريرته و حسنت علانيته و أنفق الفضل من ماله و أمسك الفضل من قوله، و أنصف الناس من نفسه و عن زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام فى كلام له: ألا انّه من ينصف الناس من نفسه لم يزده اللّه إلّا عزّا.

و عن محمّد بن مسلم عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: ثلاثة هم أقرب الخلق إلى اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب. رجل لم تدعه قدرته في حال فى غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده، و رجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الاخر بشعيرة، و رجل قال بالحقّ فيما له و عليه.

(و) التاسعة (الكظم للغيظ) روى فى الكافى عن مالك بن حصين السكونى قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما من عبد كظم الغيظ إلّا زاده اللّه عزّ و جلّ عزّا فى الدّنيا و الاخرة، و قد قال اللّه عزّ و جلّ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ‏ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و أثابه اللّه مكان غيظه ذلك.
و عن سيف بن عميرة قال حدّثنى من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ اللّه قلبه يوم القيامة رضاه.
و عن عبد اللّه بن منذر عن الوصافى عن أبى جعفر عليه السّلام قال: من كظم غيظا و هو يقدر على إمضائه حشا اللّه قلبه أمنا و ايمانا يوم القيامة.

(و) العاشرة (اجتناب الفساد فى الأرض) و هو الدّعوة إلى عبادة غير اللّه أو أخذ المال و قتل النفس بغير حقّ أو العمل بالمعاصى، و بها جميعا فسّر قوله سبحانه تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ هذا.
و لما أمرهم بأخذ مكارم الخصال و محامد الأفعال و أن يكون تعصّبهم لها أردفه بالتحذير عن مذامّ الأفعال و ذمايم الأعمال بالتنبيه على سوء ما نزل باخذيها من العذاب الأليم و الخزى العظيم و هو قوله: (و احذروا ما نزل بالامم) السابقين (قبلكم من المثلات) و العقوبات (بسوء الأفعال و ذميم الأعمال) أى سوء أفعالهم و ذميم أعمالهم.
(فتذكّروا فى الخير و الشرّ أحوالهم) أى تذكّروا اختلاف حالاتهم و لا حظوا تفاوتها فى الخير الناشى من الأخذ بصالح الأعمال و اللّزوم للايتلاف و الاتّفاق، و الشّر الناشى من الأخذ بسوء الأفعال و سلوك مسلك العناد و الافتراق.
(و احذروا أن تكونوا أمثالهم) بأن ينزل عليكم المثلاث أيضا بسوء أفعالكم و ذميم أعمالكم.
(فاذا تفكّرتم في تفاوت حاليهم) بالخير و الشرّ و النعمة و النقمة.

(ف) اسلكوا مسلك الخير و (الزموا كلّ أمر لزمت العزّة به حالهم) أى شأنهم (و زاحت الأعداء له عنهم) أى زالت و بعدت أعداؤهم عنهم لأجل ذلك الأمر (و مدّت العافية فيه عليهم) أى انبسطت و جرت العافية عليهم لأجله و العافية هو كفّ أذى النّاس عنهم و كفّ أذاهم عن النّاس (و انقادت النعمة له معهم) لكونه‏ سببا معدّا لافاضة النعم عليهم (و وصلت الكرامة عليهم حبلهم) قال البحرانى استعار لفظ الوصل لاجتماعهم عن كرامة اللّه لهم حالكونهم على ذلك الأمر و رشّح بذكر الحبل.

(من الاجتناب للفرقة و اللزوم للالفة) بيان للأمر الموجب لعزّتهم و لساير ما تقديم من الخصائص الأربعة«» يعنى أنّ الأمر الذى لزمت العزّة به شأنهم هو التجنب من الاختلاف و الافتراق و اللزوم للمحبّة و الايتلاف (و التحاضّ) أى الحثّ و الترغيب من الطرفين (عليها و التواصى) أى وصيّة بعضهم بعضا (بها) أى بتلك الالفة.
و اتركوا مسلك الشرّ (و اجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم) أى ظهرهم (و أوهن منّتهم) أى قوّتهم.

(من تضاغن القلوب) يعنى أنّ الأمر الموجب لكسر ظهرهم هو انطواء قلوبهم على الحقد (و تشاحن الصّدور) أى تباغضها و إعلانها بالعداوة (و تدابر النفوس) أى تقاطعها و مصارمتها و هجران بعضها عن بعض و أصله أنّ من يعادى أحدا يولّيه دبره بعداوته و يعرض عنه بوجهه (و تخاذل الأيدى) أى لا ينصر بعضهم بعضا، و إضافة التخاذل إلى الأيدى لأنّ الأغلب أن يكون التناصر بها.

و لما ذكر على وجه العموم أنّ كلّ أمّة من الامم السابقة ترافدت أيديهم و تناصروا و تعاونوا كان ذلك سببا لعزّتهم و ابعاد الأعداء عنهم، و كلّ امّة افترقوا و تقاطعوا استلزم ذلك ذلّهم و كسر شوكتهم و ضعف قوّتهم، عقّبه بتذكير حال خصوص المؤمنين الماضين، و أنّ اجتماع كلمتهم جعلهم ملوكا في أقطار الأرضين و اختلافها أوجب خلع لباس العزّ عنهم و كونهم مقهورين بعد ما كانوا قاهرين و هو قوله: (و تدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص و البلاء) أى حال الاختبار و الابتلاء (ألم يكونوا أثقل الخلايق أعباء) أى أثقالا(و أجهد العباد بلاء و أضيق أهل الدّنيا حالا) و بيّن شدة ابتلائهم و ضيق حالهم بقوله: (اتّخذتهم الفراعنة عبيدا) و المراد بهم إما فراعنة مصر كما سنشير اليه و تقديم ذكرهم في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و الاحدى و الثمانين و يدلّ عليه صريحا: ما فى البحار من تفسير القمّي عن أبي الجارود عن أبى جعفر عليه السّلام في قوله تعالى وَ قالَ مُوسى‏- إلى قوله- : رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فانّ قوم موسى عليه السّلام استعبدهم آل فرعون و قالوا: لو كان لهؤلاء على اللّه كرامة كما يقولون ما سلطنا عليهم، الحديث أو مطلق العتاة كما قال الشارح المعتزلي (فساموهم) أى كلّفوهم و أذاقوهم (سوء العذاب و جرّعوهم جرع المرار) أى سقوهم المرار جرعة بعد جرعة، و يستعار شرب المرار لكلّ من يلقى شديد المشقة.

و المراد بسومهم سوء العذاب إمّا خصوص ذبح الأبناء و ترك البنات، فيكون جرع المرار إشارة إلى ساير شدايدهم، أو الأعمّ منه و من ساير أعمالهم الشاقة، فيكون عطف و جرّعوهم جرع المرار، من قبيل عطف المسبّب على السبب، يعنى أنهم عذّبوهم بسوء العذاب من الذّبح و غيره، فاشربوهم بسبب ذلك التعذيب جرع المرار إلى كلّ من المعنيين ذهب المفسّرون في تفسير قوله تعالى وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.

قال امين الاسلام الطبرسي: فرعون اسم لملك العمالقة كما يقال لملك روم قيصر، و لملك الفرس كسرى، و لملك الترك خاقان، و لملك اليمن تبّع، فهو على هذا بمعنى الصفة، و قيل: إنّ اسم فرعون مصعب بن الرّيان، و قال محمد بن إسحاق: هو الوليد بن مصعب.

قال الطبرسي: فصّل سبحانه في هذه الاية النعمة الّتي أجملها فيما قبل فقال:و اذكروا إذ نجّيناكم اى خلصناكم، من قوم فرعون و أهل دينه، يسومونكم يلزمونكم سوء العذاب، و قيل: يذيقونكم و يكلّفونكم و يعذّبونكم، و الكلّ متقارب و اختلفوا في العذاب الذى نجّاهم اللّه منه فقال بعضهم: ما ذكر في الاية من قوله يذبّحون أبناءكم و يستحيون نساءكم و هذا تفسيره.«» و قيل: أراد به ما كانوا يكلّفونهم من الأعمال الشاقّة، فمنها أنّهم جعلوهم أصنافا فصنف يخدموهم، و صنف يحرثون لهم، و من لا يصلح منهم للعمل ضربوا عليهم الجزية و كانوا يذبّحون أبناءهم و يستحيون نساءهم مع ذلك، و يدلّ عليه قوله تعالى في سورة إبراهيم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ فعطفه على ذلك يدلّ على أنه غيره، و معناه يقتلون أبناءكم و يستحيون نساءكم يستبقونهنّ و يدعونهنّ احياء ليستعبدن و ينكحن علي وجه الاسترقاق، و هذا أشدّ من الذّبح، و في ذلكم أى في سومكم العذاب و ذبح الأبناء ابتلاء عظيم من ربّكم، لما خلى بينكم و بينه حتى فعل بكم هذه الأفاعيل.

و السبّب في قتل الأبناء أنّ فرعون رأى في منامه كان نارا أقبلت من بيت المقدّس حتى اشتملت على بيوت مصر فاحترقتها و احترقت القبط و تركت بنى إسرائيل، فهاله ذلك و دعا السّحرة و الكهنة، و القافة فسألهم عن رؤياه، فقالوا إنه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك و زوال ملكك و تبديل دينك، فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بني إسرائيل و جمع القوابل فقال لهنّ لا يسقط في أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلّا قتل و لا جارية إلّا تركت و وكّل بهنّ، فكنّ يفعلن ذلك و أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل، فدخل رءوس القبط على فرعون فقالوا له: إنّ الموت قد وقع في بني إسرائيل فيذبح صغارهم و يموت كبارهم و يوشك أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة و يتركوا سنة فولد هارون في السنة الّتى لا يذبحون فيها فترك، و ولد موسى في السّنة الّتي يذبحون فيها.

و في البحار عن الثعلبي في كتاب عرايس المجالس لما مات الريان بن الوليد فرعون مصر الأول صاحب يوسف عليه السّلام و هو الذى ولىّ يوسف خزائن أرضه و أسلم على يديه، فلما مات ملك بعده قابوس بن مصعب صاحب يوسف الثاني، فدعاه يوسف عليه السّلام إلى الاسلام فأبي، و كان جبّارا و قبض اللّه تعالى يوسف عليه السّلام في ملكه ثمّ هلك و قام بالملك بعده أخوه أبو العباس بن الوليد بن مصعب بن الريان بن اراشة بن مروان بن عمرو بن فاران بن عملاق بن لاوز بن سام بن نوح عليه السّلام، و كان أعتى من قابوس و أكبر و أفجر، و امتدّت أيام ملكه و أقام بنو إسرائيل بعد وفاة يوسف و قد نشروا و كثروا و هم تحت أيدى العمالقة و هم على بقايا من دينهم مما كان يوسف و يعقوب و إسحاق و إبراهيم عليهم السّلام شرعوا فيهم من الاسلام متمسّكين به، حتى كان فرعون موسى الذى بعثه اللّه إليه و لم يكن منهم فرعون أعتى على اللّه و لا أعظم قولا و لا أقسى قلبا و لا أطول عمرا في ملكه و لا أسوء ملكة لبني إسرائيل منه و كان يعذّبهم و يستعبدهم فجعلهم خدما و خولا و صنفهم في أعماله فصنف يبنون و صنف يحرسون، و صنف يتولون الأعمال القذرة و من لم يكن من أهل العمل فعليه الجزية كما قال تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ.

(فلم تبرح الحال بهم في ذلّ الهلكة و قهر الغلبة) أى لم يزالوا أذلّاء هالكين مقهورين مغلوبين في أيدى الفراعنة و أتباعهم (لا يجدون حيلة في امتناع) منهم (و لا سبيلا إلى دفاع) عنهم.
(حتّى إذا) طالت بهم المدّة و بلغت الغاية المشقّة و الشدّة و (رأى اللّه سبحانه جدّ الصّبر منهم) أى رأى منهم أنهم مجدّون في الصّبر (على الاذى في محبّته و الاحتمال) أى التحمل (للمكروه من خوفه) و خشيته.

(جعل لهم من مضائق البلاء فرجا) و من سوء العذاب مخرجا (فأبدلهم العزّ مكان الذلّ و الأمن مكان الخوف) كما قال عزّ من قائل وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوايُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ و قال أيضا وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ. وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى‏ عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ أى نجّينا الذين آمنوا بموسى عليه السّلام من العذاب المهين، يعنى قتل الأبناء و استخدام النساء و تكليف المشاق و الاستعباد بعد سنين متطاولة و مدد متمادية.

روى الصّدوق في كتاب كمال الدّين و اتمام النعمة عن سعيد بن جبير عن سيّد العابدين عليّ بن الحسين عن أبيه سيّد الشهداء الحسين بن عليّ عن أبيه سيد الوصيّين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لما حضرت يوسف الوفاة جمع شيعته و أهل بيته فحمد اللّه و أثنا عليه ثمّ حدّثهم بشدّة تنالهم تقتل فيها الرجال و تشقّ بطون الحبالى و تذبح الأطفال حتّى يظهر اللّه في القائم من ولد لاوى بن يعقوب و هو رجل أسمر طوال و نعته لهم بنعته فتمسّكوا بذلك، و وقعت الغيبة و الشدّة على بنى اسرائيل و هم ينتظرون قيام القائم أربعمائة سنة حتّى إذا بشّروا بولادته و رأوا علامات ظهوره و اشتدّت البلوى و حمل عليهم بالحجارة «بالخشب و الحجارة خ ل».

و طلب الفقيه الذى كانوا يستريحون إلى أحاديثه فاستتر، و راسلهم «و طلبوا خ ل» فقالوا كنا مع الشدّة نستريح إلى حديثك، فخرج بهم إلى الصحارى و جلس يحدّثهم حديث القائم و نعته و قرب الأمر، و كانت ليلة قمراء.
فبيناهم كذلك حتّى طلع عليهم موسى عليه السّلام و كان في ذلك الوقت حدث السّن قد خرج من دار فرعون يظهر النزهة، فعدل عن موكبه و أقبل إليهم و تحته بغلة و عليه طيلسان خزّ.

فلمّا رآه الفقيه عرفه بالنعت فقام اليه و انكبّ على قدمه فقبّلها ثمّ قال: الحمد للّه الذى لم يمتني حتّى أرانيك، فلما رأى الشيعة ذلك علموا أنّه صاحبهم فأكبّوا على الأرض شكرا للّه عزّ و جلّ فلم يزدهم على أن قال: أرجو أن يعجّل‏اللّه فرجكم.

ثمّ غاب بعد ذلك و خرج إلى مدينة مدين فأقام عند شعيب عليه السّلام ما أقام فكانت الغيبة الثانية أشدّ عليهم من الاولى، و كانت نيفا و خمسين سنة، و اشتدّت البلوى عليهم.
و استتر الفقيه فبعثوا إليه أنه لا صبر لنا على استتارك عنّا، فخرج إلى بعض الصحارى و استدعاهم و طيّب نفوسهم و أعلمهم أنّ اللّه عز و جلّ أوحى إليه أنّه مفرّج عنهم بعد أربعين سنة، فقالوا بأجمعهم: الحمد للّه، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه قل لهم قد جعلتها ثلاثين سنة لقولهم الحمد للّه، فقالوا: كلّ نعمة من اللّه، فأوحى اللّه إليه قل لهم: قد جعلتها عشرين سنة، فقالوا: لا يأتي بالخير إلّا اللّه، فأوحى اللّه تعالى إليه قل لهم: قد جعلتها عشرا، فقالوا: لا يصرف السوء إلّا اللّه، فأوحى اللّه إليه قل لهم: لا تبرحوا فقد أذنت لكم في فرجكم.

فبيناهم كذلك إذ طلع موسى عليه السّلام راكبا حمارا فأراد الفقيه أن يعرف الشيعة ما يستبصرون به فيه، و جاء موسى عليه السّلام حتّى وقف عليهم فسلّم عليهم فقال له الفقيه: ما اسمك قال: موسى، قال: ابن من قال: ابن عمران، قال: ابن من قال: ابن فاهت بن لاوى بن يعقوب، قال: بما ذا جئت قال: جئت بالرّسالة من عند اللّه عزّ و جلّ، فقام إليه فقبّل يده ثمّ جلس بينهم فطيّب نفوسهم و أمرهم أمره ثمّ فرّقهم، فكان بين ذلك الوقت و بين فرجهم بغرق فرعون أربعون سنة.

(فصاروا) أى المؤمنون بعد غرق فرعون و جنوده (ملوكا حكاما و أئمة أعلاما) كما يدلّ عليه قوله سبحانه في سورة القصص وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.
قال الطبرسى: المعنى أنّ فرعون كان يريد إهلاك بنى اسرائيل و إفنائهم و نحن نريد أن نمنّ عليهم و نجعلهم أئمة أى قادة و رؤساء في الخير يقتدى بهم عن ابن عباس، و قيل: نجعلهم ولاة و ملوكا عن قتادة، و هذا القول مثل الأوّل، لأنّ الذين جعلهم اللّه ملوكا فهم أئمة و لا يضاف إلى اللّه سبحانه ملك من يملك الناس ظلما و عدوانا، و قد قال سبحانه فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً و الملك‏من اللّه هو الذى يجب أن يطاع فالأئمة على هذا ملوك مقدّمون في الدّين و الدّنيا يطأ الناس أعقابهم.

و فى سورة المائدة وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ اى اذكروا نعمة اللّه و أياديه لديكم إذ جعل فيكم أنبياء يخبرون بالغيب و تنصرون بهم على الأعداء و لم يبعث فى أمّة ما بعث فى بنى اسرائيل من الأنبياء، و قيل: هم الأنبياء الذين كانوا بعد موسى عليه السّلام مقيمين فيهم إلى زمن عيسى عليه السّلام مبيّنون لهم أمر دينهم، و جعلكم ملوكا أى جعل منكم أو فيكم، و قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون، و قيل: لما كانوا مملوكين فى أيدى القبط فأنقذهم و جعلهم مالكين لأنفسهم و امورهم سماهم ملوكا، و آتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين، من فلق البحر و تظليل الغمام و المنّ و السّلوى و غيرها مما أكرمهم اللّه تعالى به.

(و) قد (بلغت الكرامة من اللّه لهم ما) أى إلى مقدار (لم تذهب الامال إليه بهم) أى إلى ذلك المقدار، يعني بلغت كرامة اللّه لهم إلى غاية الغايات و فوق ما يأمله الاملون و يرجوه الراجون، حيث آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين.

و لذلك منّ اللّه عليهم في موضعين من سورة البقرة بقوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ و ذلك إنّ اللّه سبحانه فلق لهم البحر و أنجاهم من فرعون و أهلك عدوّهم و أورثهم ديارهم و أموالهم و أنزل عليهم التوراة فيها تبيان كلّ شي‏ء يحتاجون إليه و أعطاهم ما أعطاهم في التيه، و ذلك أنهم قالوا أخرجتنا من العمران و البنيان إلى مفازة لا ظلّ فيها و لا كنّ فأنزل اللّه عليهم غماما أبيض رقيقا ليس بغمام المطر أرقّ و أطيب و أبرد منه فأظلّهم و كان يسير معهم إذا ساروا، و يدوم عليهم من فوقهم إذا نزلوا، فذلك قوله تعالى وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ يعني في التيه تقيكم من حرّ الشمس.

و من جملة كرامته تعالى لهم أنّه جعل لهم عمودا من نور يضي‏ء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر، فقالوا: هذا الظلّ و النور قد حصل فأين الطعام فأنزل اللّه‏تعالى عليهم المنّ.
و اختلفوا فيه ففي تفسير الامام هو الترنجبين و به قال الضحاك، و قال مجاهد: هو شي‏ء كالصمغ كان يقع على الأشجار و طعمه كالشهد، و قال وهب: هو الخبز الرقاق، و قال السّدى: هو عسل كان يقع على الشجر من الليل فيأكلون منه، و قال عكرمة: هو شي‏ء أنزله عليهم مثل الربّ الغليظ.

و قال الزجاج: جملة المنّ ما يمنّ اللّه به ممّا لا تعب فيه و لا نصب فقالوا: يا موسى قتلنا هذا المنّ حلاوته فادع لنا ربّك يطعمنا اللحم فأنزل اللّه عليهم السّلوى.
و اختلفوا فيه أيضا ففي تفسير الامام هو السماني أطيب طير لحما يسترسل لهم فيصطا دونه، و قال ابن عباس و الاكثر: هو طاير يشبه السّماني، و قال أبو العالية و مقاتل: هو طير حمر و كانت السّماء تمطر عليهم ذلك، و قيل: كانت طيرا مثل فراخ الحمام طيّبا و سمينا قد تمعط ريشها و زغبها فكانت الريح تأتي بها إليهم فيصبحون و هو في معسكرهم.

و من جملة كراماته لهم أنهم عطشوا في التيه فقالوا يا موسى من أنزلنا الشراب، فاستسقى لهم موسى، فأوحى اللّه سبحانه أن اضرب بعصاك الحجر، قال ابن عبّاس: كان حجرا خفيفا مربعا مثل رأس الرّجل أمر أن يحمله فكان يضع في مخلاته، فاذا احتاجوا إلى الماء ألقاه و ضربه بعصاه فسقاهم، و كان يسقى كلّ يوم ستمائة ألف.
و منها أنهم قالوا لموسى: من أين لنا اللباس فجدّد اللّه لهم ثيابهم التي كانت عليهم حتّى لا تزيد على كرور الأيام و مرور الأعوام إلّا جدة و طراوة لا تخلق و لا تبلى، و قد مضى تفصيل التيه فى شرح الخطبة المأة و الخامسة و السّتين، هذا.

و لما أمر بالتدبر فى أحوال المؤمنين الماضين و تبدّل ذلّهم بالعزّ و خوفهم بالأمن و انتقالهم من عبوديّة الفراعنة إلى الملك و السلطنة، و بلوغهم من كرامة اللّه إلى ما لم تذهب إليه الامال، عقّبه بالأمر بالنظر في حالهم و التّنبيه على أنّ المستلزم لتلك الخيرات كلّها إنما كان هو الالفة و الاجتماع، و أنهم ما دامت كلمتهم متّفقة و قلوبهم مؤتلفة كان العزّ و السلطنة فيهم مستقرّة، و لمّا اختلفت الاراءو تشتّتت الأهواء عاد جميعهم إلى الشتات و عزّهم إلى البتات، فأبدلوا الذّل مكان العزّ، و الخوف مكان الأمن و صار مال أمرهم عبرا للمعتبرين و تذكرة للمتدبّرين و هو قوله: (فانظروا كيف كانوا) فى مبدء أمرهم بعد الخلاص من استرقاق الفراعنة (حيث كانت الأملاء) أى الجماعات و الأشراف (مجتمعة و الأهواء مؤتلفة و القلوب معتدلة) محفوظة من الميل إلى طرف الافراط أو التفريط (و الأيدى مترادفة) أى مترافدة متعاونة (و السّيوف متناصرة) نسبة التناصر إلى السّيوف من باب التوسّع و الاسناد إلى السبب (و البصائر نافذة) أى ماضية غير متردّدة فإنّ من نفذت بصيرته في أمر لا يبقى له تردّد فيه لعلمه به و تحققه إيّاه (و العزائم واحدة) أى الارادات الجازمة اللازمة على طلب الحقّ متفقة.

(ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين و ملوكا على رقاب العالمين) الاستفهام للتقرير بما بعد النفى و المقصود التنبيه على أنهم صاروا ملوكا و أربابا بسبب اتّصافهم بشئون الالفة، و ملازمتهم لمراسم المحبّة فأمر المخاطبين بالنظر في حالهم ليقتفوا آثارهم في الايتلاف و الاجتماع، فينالوا به الفوز العظيم، ثمّ أمرهم بالنظر الى مال أمرهم فقال: (فانظروا إلى ما صاروا إليه فى آخر امورهم) و احذروا أن تكونوا مثلهم فى النفاق و الافتراق فتقعوا فى مهواة الذّلة و مفازة الهلكة، فانهم (حين وقعت الفرقة و تشتّتت) أى تفرّقت (الالفة و اختلفت الكلمة و الأفئدة و تشعّبوا) أى صاروا شعوبا و قبائل حال كونهم (مختلفين و تفرّقوا متحاربين) و فى بعض النسخ متحزّبين أى اختلفوا أحزابا (قد خلع اللّه عنهم) بسبب التفرّق و الاختلاف (لباس كرامته) و عزّته (و سبلهم غضارة نعمته) أى طيّبها و لذّتها (و بقى قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين منكم) و محصّل ما ذكره عليه السّلام أنّهم خلعوا من لباس الكرامة و سلبوا من غضارة النعمة، و نزعوا من الملك و السلطنة بسبب افتراق الكلمة و اختلاف الاراء و تفرّقهم‏بالحرب و البغى و الفساد و سفك الدّماء فضربت«» عليهم الذّلة و المسكنة و باءوا بغضب من اللّه ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بايات اللّه و يقتلون النبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون.

و الى ذلك اشير فى قوله سبحانه فى سورة المائدة: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ قال الباقر عليه السّلام المسرفون هم الذين يستحلّون المحارم و يسفكون الدّماء.
و فى الجاثية وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.

و فى سورة الاسراء وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ. شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ. بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً.

قال البيضاوى: و قضينا إلى بني اسرائيل أوحينا إليهم وحيا مقتضيا في التوراة، لتفسدنّ في الأرض إفسادتين اولاهما مخالفة أحكام التوراة و قتل شعيا و قتل ارميا، و ثانيتهما قتل زكريّا و يحيى و قصد قتل عيسى عليه السّلام، فإذا جاء وعد عقاب أوليهما بعثنا عليكم عبادا لنا بخت النصر عامل لهراسف على بابل و جنوده، و قيل جالوت، و قيل سخاريب من أهل نينوى، أولى بأس شديد ذوى قوّة و بطش في الحرب شديد، فجاسوا تردّدوا لطلبكم، خلال الدّيار وسطها للقتل و الغارة، قتلوا كبارهم و سبوا صغارهم و حرّقوا التوراة و خربوا المساجد، ثمّ رددنا لكم الكرّة أى الدّولة و الغلبة عليهم على الذين بعثوا عليكم، و ذلك بأن ألقى اللّه في قلب بهمن بن اسفنديارلما ورث الملك من جدّه كشتاسف بن لهراسف شفقة عليهم، فردّ اسراءهم إلى الشام و ملك دانيال عليهم فاستولوا على من كان فيها من اتباع بخت نصر، أو بأن سلّط داود على جالوت فقتله و جعلناكم اكثر نفيرا، مما كنتم و النفير من ينفر مع الرّجل من قومه، و قيل: جمع نفروهم المجتمعون للذهاب، فاذا جاء وعد الاخرة، وعد العقوبة الاخرة ليسوءوا وجوهكم أى بعثناهم ليسوءوا وجوهكم ليجعلوها بادية آثار المساءة فيها، و ليتبّروا ليهلكوا ما علوا ما غلبوه و استولوا عليه أو مدّة علوّهم، تتبيرا و ذلك بأن سلّط اللّه عليهم الفرس مرّة اخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوايف اسمه جورز و قيل جردوس.

قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرا بينهم فوجد فيه دما يغلى، فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منّا فقال: ما صدقتموني فقتل عليه الوفا منهم فلم يهدأ الدّم، ثمّ قال: إن لم تصدّقوني ما تركت منكم أحدا، فقالوا: إنّه دم يحيى عليه السّلام، فقال: لمثل هذا ينتقم منكم ربّكم، ثمّ قال: يا يحيى قد علم ربّي و ربّك ما أصاب قومك من أجلك فاهدء باذن اللّه قبل أن لا ابقى أحدا منهم، فهدأ.

و فى البحار من قصص الأنبياء بالاسناد إلى الصّدوق باسناده إلى وهب بن منبه قال: كان بخت نصر منذ ملك يتوقّع فساد بني اسرائيل يعلم أنّه لا يطيقهم إلّا بمعصيتهم، فلم يزل يأتيه العيون بأخبارهم حتّى تغيّرت حالهم و فشت فيهم المعاصي و قتلوا أنبياءهم و ذلك قوله تعالى وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني بخت نصر و جنوده أقبلوا فنزلوا بساحتهم.

فلما رأوا ذلك فزعوا إلى ربّهم و تابوا و صابروا على الخير و أخذوا على أيدى سفهائهم و أنكروا المنكر و أظهروا المعروف فردّ اللّه لهم الكرّة على بخت نصر و انصرفوا بعد ما فتحوا المدينة، و كان سبب انصرافهم أنّ سهما وقع في جبين فرس بخت نصر فجمح به حتّى أخرجه من باب المدينة.

ثمّ إنّ بني اسرائيل تغيّروا فيما برحوا حتّى كرّ عليهم و ذلك قوله تعالى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ فأخبرهم ارميا أنّ بخت نصر يتهيّأ بالمسيرإليكم و قد غضب اللّه عليكم و أنّ اللّه تعالى جلّت عظمته يستتيبكم لصلاح آبائكم و يقول هل وجدتم أحدا عصاني فسعد بمعصيتي أم هل علمتم أحدا أطاعني فشقى بطاعتي و أمّا أحباركم و رهبانكم فاتّخذوا عبادى خولا يحكمون فيهم بغير كتابى حتّى انسوهم ذكرى، و أما ملوككم و امراؤكم فبطروا نعمتى فغرّتهم الحياة الدّنيا، و أمّا قرّاؤكم و فقهاؤكم فهم منقادون للملوك يبايعونهم على البدع و يطيعونهم فى معصيتى، و أما الأولاد فيخوضون مع الخائضين، و في كلّ ذلك البسهم العافية فلا بدلنّهم بالعزّ ذلّا و بالأمن خوفا إن دعوني لم اجبهم، و إن بكوا لم أرحمهم.

فلما بلّغهم ذلك نبيّهم كذّبوه و قالوا: و قد أعظمت الفرية على اللّه تزعم أنّ اللّه معطل مساجده من عبادته، فقيّدوه، و سجنوه.
فأمر بخت نصر و حاصرهم سبعة أشهر حتى اكلوا خلاهم و شربوا أبوالهم، ثمّ بطش بهم بطش الجبّارين بالقتل و الصّلب و الاحراق و جدع الانوف و نزع الألسن و الأنياب و وقف النساء.

فقيل له: إنّ لهم صاحبا كان يحذرهم بما أصابهم، فاتّهموه و سجنوه، فأمر بخت نصر فاخرج من السجن فقال له: أ كنت تحذر هؤلاء قال: نعم قال: و أنّى علمت ذلك قال: أرسلني اللّه به إليهم، قال: فكذّبوك و ضربوك قال: نعم، قال: لبئس القوم قوم ضربوا نبيّهم و كذّبوا رسالة ربّهم فهل لك أن تلحق بي فاكرمك و إن أحببت أن تقيم في بلادك امنتك قال ارميا: إنّي لم أزل في أمان اللّه منذ كنت لم أخرج منه و لو أنّ بني اسرائيل لم يخرجوا من أمانه لم يخافوك.
فأقام ارميا عليه السّلام مكانه بارض ايليا و هى حينئذ خراب و قد هدم بعضها فلما سمع به من بقي من بني اسرائيل اجتمعوا فقالوا عرفنا أنّك نبيّنا فانصح لنا، فأمرهم أن يقيموا معه، فقالوا: ننطلق إلى ملك مصر نستجير، فقال ارميا عليه السّلام: إن ذمّة اللّه أو في الذمم، فانطلقوا و تركوا ارميا، فقال لهم الملك: أنتم في ذمّتي.

فسمع ذلك بخت نصر فأرسل إلى ملك مصر ابعث بهم إلىّ مصفدين و إلّا آذنتك بالحرب، فلما سمع ارميا عليه السّلام بذلك أدركته الرّحمة لهم فتبادر إليهم لينقذهم، فورد عليهم و قال: إنّ اللّه تعالى جلّ ذكره أوحى إلىّ أنّي مظهر بخت نصر على هذا الملك و آية ذلك انه تعالى أرانى موضع سرير بخت نصر الذى يجلس عليه بعد ما يظفر بمصر، ثمّ عمد فدفن أربعة أحجار في ناحية من الأرض.

فصار إليهم بخت نصر فظفر بهم و أسرهم، فلما أراد أن يقسم الفى‏ء و يقتل الأسارى و يعتق منهم كان منهم ارميا فقال له بخت نصر: أراك مع أعدائى بعد ما عرضتك له من الكرامة، فقال ارميا عليه السّلام: إنّى جئتهم مخوفا اخبرهم خبرك، و قد وضعت لهم علامة تحت سريرك هذا و أنت بأرض بابل، ارفع سريرك فانّ تحت كلّ قائمة من قوائمه حجرا دفنته بيدى و هم ينظرون، فلما رفع بخت نصر سريره وجد مصداق ما قال، فقال لارميا: إنّى لأقتلنهم إذ كذّبوك و لم يصدّقوك، فقتلهم و لحق بأرض بابل.

الترجمة

پس بترسيد از خدا در عذاب دنيوى بغى، و عذاب اخروى سنگينى ظلم، و بدى عاقبت كبر، پس بدرستى كه اينها أسباب شكار بزرگ شيطان است، و حيله بزرگتر او كه ميجهد در قلبهاى مردان مثل جستن زهرهاى كشنده، پس عاجز نمى‏شود هرگز، و خطا نمى‏كند از مقتل أحدى، نه از اهل علم بجهت علم خود، و نه از فقير پوشيده در لباس فقر خود.

و از اينست نگاه داشتن خداوند بندگان مؤمنان خود را بوسيله نمازها و زكاتها وجد و جهد روزه گرفتن در أيامى كه فرض شده‏اند بجهت ساكن كردن اعضا و جوارح ايشان، و خاشع نمودن چشمهاى ايشان، و رام گردانيدن نفسهاى ايشان، و پست و متواضع فرمودن قلبهاى ايشان، و بيرون بردن تجبّر از ايشان براى آنكه در اين مذكوراتست از ماليدن رخسارهاى شريفه بخاك از جهت تواضع، و از چسباندن‏اعضاء كريمه بزمين از جهت حقارت، و از ملحق شدن شكمها بپشتها در روزه گرفتن از جهت ذلّت، علاوه به آن چه در زكاة است از صرف كردن ميوهاى زمين و غير آن بسوى درويشان و فقيران، نظر نمائيد بسوى آنچه در اين اعمال است از ذليل ساختن ظاهر شوندهاى فخر، و از نگاه داشتن از طلوع كنندهاى كبر.

و بتحقيق نظر كردم بنظر بصيرت پس نيافتم أحدى را از أهل عالم كه تعصّب كند براى چيزى از چيزها مگر بجهت علّتى كه حامل اشتباه كارى جاهلان شود و بجهت دليلى كه چسبد بعقلهاى سفيهان بغير از شما، پس بدرستى كه شما تعصّب مى ‏نمائيد بجهت چيزى كه شناخته نمى‏شود از براى آن هيچ سبب و علّتى.

أما شيطان ملعون پس تعصّب كرد و تكبّر نمود بجناب آدم عليه السّلام بجهت أصل خود كه آتش بود، و طعن كرد بر او در خلقت أو، پس گفت بادم عليه السّلام: من از آتش خلق شده‏ام و تو از گل آفريده شده، و أمّا توانگران از متنعّمان امّتها پس تعصّب كردند بجهت آثار وقوع نعمتها پس گفتند ما بيشتريم از حيثيّت أموال و أولاد و نيستيم ما عذاب شدگان.

پس اگر لا بدّ شود از عصبيّت پس بايد كه شود عصبيّتها بجهت مكارم أخلاق و كارهاى پسنديده و امورات نيكو كه تفاخر مى‏كردند در آنها صاحبان مجدت و نجدت از خانواده‏هاى عربها و رئيسان قبيلها بخلقهاى مرغوبه، و عقلهاى بزرگ و مرتبه‏ هاى بلند، و اثرهاى پسنديده.

پس تعصّب نمائيد بخصلتهاى ستوده از محافظت حقّ همسايگى، و وفا نمودن بعهد و امان، و اطاعت نمودن نيكوكار، و مخالفت نمودن كبر، و فرا گرفتن فضل و باز ايستادن از بغى، و بزرگ شمردن كشتن ناحق، و انصاف كردن از براى خلق و فرو خوردن خشم نزد فوران غضب، و پرهيز كردن از فساد در زمين.

و بترسيد از چيزى كه نازل شد بامتها كه پيش از شما بودند از عقوبتها بسبب بدى فعلها و زشتى عملها، پس متذكّر باشيد در نيكى و بدى أحوال ايشان را، و حذر نمائيد از آنكه باشيد امثال ايشان، پس وقتى كه تفكر كرديد در تفاوت دو حالت‏ايشان يعنى حالت خوب و حالت بد ايشان.

پس لازم شويد هر كارى را كه لازم شد بسبب آن كار عزّت بحال ايشان و دور شد دشمنان بجهت آن كار از ايشان و ممدود شد رستگارى در آن كار بايشان، و منقاد شد نعمت از براى آن كار با ايشان، و وصل كرد ايشان يعنى حالت خوب و حالت بد ايشان.

پس لازم شويد هر كارى را كه لازم شد بسبب آن كار عزّت بحال ايشان و دور شد دشمنان بجهت آن كار از ايشان و ممدود شد رستگارى در آن كار بايشان، و منقاد شد نعمت از براى آن كار با ايشان، و وصل كرد كرامت و بزرگوارى بر آن كار ريسمان ايشان را كه عبارتست آن كار از اجتناب و پرهيز كردن از نفاق و افتراق و لازم شدن بايتلاف و اتّفاق، و ترغيب كردن بر آن، و وصيّت نمودن بان و اجتناب نمائيد از هركارى كه شكست مهره پشت ايشان را، و سست كرد قوت ايشان را از كينه جوئى قلبها بيكديگر، و دشمنى سينه‏ها، و پشت بيكديگر كردن نفسها، و خوار كردن دستها يكديگر را.

و تدبّر نمائيد در حال گذشتگان از مؤمنين كه پيش از شما بودند كه چگونه بودند در حال ابتلا و امتحان، آيا نبودند ايشان سنگين‏ترين خلق از حيثيّت بارهاى گران، و كوشش كننده‏ترين خلق از حيثيّت بلا، و تنگ‏ترين اهل دنيا از حيثيّت حال، اخذ كرد ايشان را فرعونيان بندگان و غلامان، پس عذاب كردند ايشان را به بدترين عذاب، و آشاميدند ايشان را جرعه‏هاى تلخ، پس بود هميشه حال ايشان در ذلّت هلاكت، و در قهر غلبه در حالتى كه نمى‏يافتند حيله و علاجى در امتناع از ظلم ايشان، و نه راهى بسوى دفع كردن بلاى ايشان.

تا آنكه چون ديد خداوند متعال كوشش در صبر از ايشان بر اذيّت در محبّت او، و متحمّل شدن مكروه را از خوف او، گردانيد براى ايشان از تنگيهاى بلا و محنت گشايش، پس بدل كرد بر ايشان عزّت را بجاى ذلّت، و أمنيت را بجاى خوف، پس گشتند پادشاهان و حاكمان و امامانى كه علمهاى هدايتند، و رسيد كرامت از جانب خدا براى ايشان بمقامى كه نمى‏برد آرزوها ايشان را بان مقام.

پس نظر نمائيد بديده اعتبار كه چگونه بودند ايشان وقتى كه بود جماعتها متّفق، و خواهشات موافق، و قلبها معتدل، و دستها يارى يكديگر كننده، و شمشيرها رو بنصرت يكديگر نهنده، و بصيرتها نافذ، و عزيمتها متّحد، آيا نبودند ايشان مالكهادر اطراف زمينها، و پادشاهان بر گردن عالميان.

پس نظر كنيد بسوى آنچه كه برگشتند بان در آخر كارهاى خودشان وقتى كه واقع شد پراكندگى، و پراكنده شد پيوستگى، و مختلف شد گفتار و قلوب، و منتشر شدند در حالتى كه مختلف بودند، و متفرّق گشتند در حالتى كه محارب يكديگر بودند، بر كند خداى تعالى از ايشان لباس كرامت خود را، و سلب نمود از ايشان لذّت نعمت خود را، و باقى ماند قصّه‏هاى خبرهاى ايشان در شما عبرتها از براى عبرت كنندگان از شما.

الفصل السادس

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل عليهم السّلام فما أشدّ اعتدال الأحوال، و أقرب اشتباه الأمثال، تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم و تفرّقهم ليالي كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم، يحتازونهم عن ريف الافاق، و بحر العراق، و خضرة الدّنيا إلى منابت الشّيح، و مها في الرّيح، و نكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر و وبر، أذلّ الامم دارا، و أجدبهم قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، و لا إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها. فالأحوال مضطربة، و الأيدي مختلفة، و الكثرة متفرّقة في بلاء أزل، و إطباق جهل، من بنات موؤودة، و أصنام معبودة، و أرحام مقطوعة، و غارات مشنونة.

فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملّته طاعتهم، و جمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النّعمة عليهم جناح كرامتها، و أسالت لهم جداول نعيمها، و التفّت الملّة بهم عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين، و عن خضرة عيشها فكهين، و قد تربّعت الامور بهم في ظلّ سلطان قاهر، و أوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب، و تعطّفت الامور عليهم في ذرى ملك ثابت، فهم حكّام على العالمين و ملوك في أطراف الأرضين، يملكون الامور على من كان يملكها عليهم، و يمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم، لا تغمز لهم قناة و لا تقرع لهم صفاة.

اللغة

(الأكاسرة) جمع كسرى بالكسر و الفتح لقب من ملك الفرس معرّب خسرو أى واسع الملك و يجمع على كياسرة و أكاسر أيضا و كلّها خلاف القياس و القياس كسرون و زان عيسون.
و (القياصرة) جمع قيصر لقب من ملك الرّوم و (الرّيف) بالكسر أرض فيها زرع و خصب و ما قارب الماء من أرض العرب أو حيث يكون به الخضر و المياه و الزّروع و (الشيّح) بالكسر نبت معروف يقال له بالفارسيّة درمنه و (هفت الريح) هفوا هبت و هفت به أى حركته و (عالة) جمع عائل مثل قادة و قائد و هو ذو العيلة أى الفقر قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا.

و (الدّبر) محرّكة الجرح في ظهر البعير من دبره القتب أى عقره و (الوبر) للبعير بمنزلة الصّوف للغنم و (وئد) بنته دفنها في التراب حيّة قال تعالى «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ و (شنّ الغارة) عليهم صبّها من كلّ وجه و (تفكّه به) تمتّع بأكله و الفاكهة التّمر و العنب و الثّمر كلّه، و في بعض النسخ فاكهين بدل فكهين أى ناعمين، و بها قرء قوله تعالى وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ و قال الاصمعى فاكهين مازحين و المفاكهة الممازحة.

(و تربّعت) الامور بهم اعتدلت من قولهم: رجل ربعة و امرأة ربعة أى معتدل و حذف الهاء في المذكر لغة و فتح الباء فيهما أيضا لغة و قال الشارح المعتزلي و غيره: تربّعت بمعنى أقامت من قولك ربع بالمكان أى أقام به (الذّرى) جمع ذروة بالضمّ و الكسر و هى أعلى الشي‏ء و (الغمز) العصر و الكبس باليد

قال الشاعر:

و كنت إذا غمزت قناة قوم
كسرت كعوبها أو تستقيما

و (القناة) الرّمح و (الصّفاة) الصّخرة و الحجر الأملس.

الاعراب

جملة يحتازونهم في محلّ النّصب على الحال من الأكاسرة و القياصرة و تحتمل الاستيناف البياني، و قوله: عالة مساكين، حال مترادفة، و قوله: اخوان دبر و وبر، بدل، و جملة: لا يأوون، حالية، و الفاء في قوله: فالأحوال مضطربة، فصيحة: و قوله: في بلاء أزل، متعلّق بمقدّر أى كائنون في بلاء أزل، فيكون خبرا لمبتدأ محذوف و يحتمل الحال لقوله متفرّقة و اضافة بلاء إلى الأزل معنويّة بمعنى من و كذا اضافة اطباق إلى الجهل هكذا قال الشّارح البحرانى و لا بأس به، و من في قوله: من بنات بيانيّة.

و قوله: في عوائد بركتها، قال الشّارح المعتزلي و البحراني: متعلّق بمحذوف‏و موضعه نصب على الحال أى جمعتهم الملّة كائنة في عوائد بركتها أقول: و يجوز تعلّقه بقوله و التفّت فيكون مفعولا بالواسطة.
و قوله: و عن خضرة عيشها قال الشّارح المعتزلي: عن متعلّقة بمحذوف تقديره، فأصبحوا فاكهين فكاهة صادرة عن خضرة عيشها أى خضرة عيش النّعمة سبب لصدور الفكاهة و المزاح عنه أقول: لا حاجة إلى تقدير المحذوف لجواز تعلّقها بقوله فاكهين و كونها بمعنى من النشوية أو بمعنى اللّام كما في قوله تعالى وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ.

المعنى

اعلم أنّه لمّا ذكر في الفصل السّابق محاسن الالفة و الاتّفاق و مفاسد الفرقة و الافتراق، و أمر بالتدبّر في أحوال الماضين و أنّ الفتهم في بداية حالهم أوجبتهم العزّة و الكرامة، و فرقتهم في آخر أمرهم سلبتهم غضارة النعمة فبقى قصص أخبارهم عبرا للمعتبرين من المخاطبين، اتبعه بهذا الفصل تفصيلا لما أجمله من قصص أخبارهم و تنبيها على جهة العبرة في تلك القصص فقال: (فاعتبروا بحال ولد إسماعيل) الذّبيح (و بني إسحاق) بن إبراهيم الخليل (و بني إسرائيل) يعقوب بن إسحاق سلام اللّه عليهم، و علّل وجوب الاعتبار بقوله: (فما أشدّ اعتدال الأحوال و أقرب اشتباه الأمثال) يعني أنّ أحوالكم أشدّ اعتدالا و تناسبا لأحوالهم و أنّ أمثالكم أي صفاتكم أكثر قربا و مشابهة لصفاتهم فاذا كانت الأحوال معتدلة متناسبة، و الصّفات متشابهة متماثلة وجب لكم الاعتبار بحالهم، و أشار إلى جهة العبرة فيهم بقوله: (تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم و تفرّقهم ليالي كانت الأكاسرة) أى ملوك الفرس (و القياصرة) أى ملوك الروم (أربابا لهم) أى مالكين لرقابهم، و كانت العرب تسمّى الملوك أربابا كما في قوله تعالى وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ.

و المراد من المربوبين كما ذكره الشارح المعتزلي: بنو إسماعيل، فالضميرفي أمرهم و تشتتهم و تفرّقهم راجع إليهم، و المراد من الأرباب بنو إسحاق و بنو إسرائيل لأنّ الأكاسرة من بني اسحاق، ذكره كثير من أهل العلم، و القياصرة من ولد اسحاق أيضا، لأنّ الرّوم بنو العيص بن اسحاق ثمّ قال الشارح: فان قلت: فبنو اسرائيل أىّ مدخل لهم ههنا.
قلت: لأنّ بني اسرائيل كانوا ملوكا بالشام حاربوا العرب من بني اسماعيل غير مرّة و طردوهم عن الشام و ألجئوهم إلى المقام ببادية الحجاز، و يصير تقدير الكلام فاعتبروا بحال ولد اسماعيل مع بني اسحاق و بني اسرائيل، و تخصيص ملوك بني اسحاق أى الأكاسرة و القياصرة بالذكر دون ملوك بني اسرائيل لأنّ العرب لم تكن تعرف ملوك ولد يعقوب حتّى يذكر أسمائهم في الخطبة، بخلاف ولد اسحاق فانهم كانوا يعرفون ملوكهم من بنى ساسان و بني الأصفر، هذا ملخّص ما قاله الشّارح هنا.

أقول: و هو مع أنّه غير خال عن التكلّف مخالف لظاهر كلامه عليه السّلام فانه كما ترى ظاهر فى كون الضمائر في أمرهم و تشتّتهم و تفرّقهم و لهم جميعا راجعة إلى بني اسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل جميعهم، و نصّ فى كون الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم مسلّطين عليهم، و لا حاجة إلى تجشّم الاستدلال فى انتهاء نسبهم إلى ولد إسحاق، فانّ تسلّطهم على العرب و اليهود و غيرهم و بعبارة اخرى على بنى إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل ملاء منه كتب التواريخ و السير، فلا وجه لتخصيص المقهورين بالعرب و القاهرين من الأكاسرة و القياصرة ببني إسحاق و بنى إسرائيل من ملوك الشام كما زعمه الشّارح.

فان قلت: الوجه في مصير الشّارح إلى هذه التكلّفات كلّها ما ذكره فى كلامه قبل ما حكينا عنه ملخّصا، من أنّه لا نعرف أحدا من بنى اسرائيل احتازتهم الأكاسرة و القياصرة عن ريف الافاق إلى البادية إلّا أن يقال يهود خيبر و النضير و بنى قريظة و بنى قيقاع، و هؤلاء نفر قليل لا يعتدّ بهم، مع أنّ فحوى الخطبة مانع من إرادتهم أيضا، لأنّهم لم يكونوا أهل دبر و وبر، و إنّما كانوا ذوى حصون و قلاع‏فهذا الوجه ألجأ الشّارح إلى تخصيصه المقهورين بالعرب خاصّة.

قلت: غرض أمير المؤمنين عليه السّلام من سوق كلامه حسبما عرفت سابقا و تعرفه أيضا أحكام لحوق الذّل على فرق الأنام بسبب التفرّق و اختلاف الكلام من أيّ فرقة كانت، و ذكر بني إسماعيل و إسحاق و إسرائيل من باب التمثيل و الاستطراد و مزيد التوضيح لهذا المرام، و من المعلوم أنّ الذلّ اللّاحق ببنى إسرائيل من أجل اختلاف الاراء أظهر و أجلى من الذلّ اللّاحق ببنى إسماعيل، فكون كلامه ذلك إشارة إلى مقهوريّة الفرقتين جميعا أثبت لهذا الغرض و أدخل فى التوضيح.

و ما قاله الشارح فى وجه تخصيص الأذلّاء المقهورين بالفرقة الثانية فقط من عدم المعرفة بمن يحتازه الأكاسرة و القياصرة إلى البادية من بنى إسرائيل.
ففيه أوّلا أنّه بعد ثبوت قوّة سلطنة الأكاسرة و القياصرة و استيلائهم على البلدان و كون هممهم مقصورة على فتح الأمصار و على القتل و النّهب في الأصقاع و الأقطار تارة بالعراق و توابعها، و أخرى بالشام و مضافاتها، فالعادة قاضية بانجلاء أهلها منها حتما، و هربهم منها إلى البوادى و المفاوز البعيدة حفظا للدّماء، و حذرا من النّهب و الاستيصال، فعدم المعرفة بأعيان المحتازين المشرّدين و عدم وجدانهم لا يدلّ على عدم الوجود بعد شهادة الاستقراء و قضاء العادة و إفادة ظاهر كلامه عليه السّلام له.

و ثانيا أنّ مفاد كلامه عليه السّلام كما ترى أنّ بني إسماعيل و إسحاق و إسرائيل كانوا مشرّدين عن عقر دارهم إلى البوادي بفعل الأكاسرة و القياصرة، يكفى في صدق هذا الكلام و صحّته كون المشرّدين من مجموع الفرق الثلاث و إن كان من بعضها قليلا كبنى إسرائيل على زعم الشّارح، و من البعض الاخر كثيرا كبنى إسماعيل، فلا حاجة على ذلك إلى تمحّل التكلّف أصلا.

و بعد هذا كلّه فلا بأس بأن نذكر طرفا ممّا وقع على بنى إسماعيل و بنى إسرائيل من القتل و الغارة فى دولة الأكاسرة و القياصرة بملاحظة اقتضاء المقام و مسيس الحاجة.

فأقول: أمّا بنو اسرائيل أعني العرب فقد قال في روضة الصّفا: إنّ شابور ذا الأكتاف بن هرمز بن نرسي بن بهرام من الأكاسرة لمّا بلغ سنّه ستّ عشر سنة انتخب من أصحابه من العجم أربعة آلاف من أنجادهم، فسار معهم إلى حدود فارس، و كان هناك جماعة من الأعراب أكثروا في تلك الحدود من القتل و النّهب و الفساد، فقتل منهم من وجد، و هرب الباقون، و لم يبق منهم في أطراف دجلة و الفرات عين و لا أثر، ثمّ سار إلى البحرين و قطيف و الحجر، فقتل من قبايل تميم و بكر بن وائل و عبد قيس و غيرها جمّا غفيرا.

فلمّا ملّ من القتل أمر بأن يثقب أكتاف من بقي من الأعراب و يدخل في ثقبها الحبال، فلقّب من ذلك بذي الأكتاف.
و لمّا قضى وطره من استيصال العرب توجّه إلى بلاد الرّوم و دخل قسطنطنية و جرى له مع قيصر قصّة مشهورة في الكتب مأثورة، و فوّض إليه قيصر بلدة نصيبين بين الشام و العراق فأوفد إليها اثني عشر ألفا من أهل اصبهان و فارس و ساير البلاد فتوطّنوا فيها، و لم يبق من العرب باقية في ملكه و ملك ساير الأكاسرة.

و أمّا بنو اسرائيل فقد ظهر مقهوريّتهم ممّا ذكرنا في شرح الفصل المتقدّم و نزيد توضيحا بذكر ما أورده الطبرسي في تفسير الاية المتقدّمة هناك أعني قوله تعالى وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً.
قال الطبرسي: اختلف المفسّرون في القصّة عن هاتين الكرّتين اختلافا شديدا، قالوا: لمّا عتى بنو اسرائيل في المرّة الاولى سلّط اللّه عليهم ملك فارس و قيل: بخت نصر، و قيل: ملكا من ملوك بابل، فخرج إليهم و حاصرهم و فتح بيت المقدس و خرب المسجد و أحرق التوراة و ألقي الجيف في المسجد، و قتل على دم يحيى سبعين ألفا و سبي ذراريهم و أغار عليهم و أخرج أموالهم و سبي سبعين ألفا و ذهب بهم إلى بابل فبقوا في يده مأئة سنة يستعبدهم المجوس و أولادهم.

ثمّ تفضّل اللّه عليهم بالرّحمة فأمر ملكا من ملوك فارس عارفا باللّه سبحانه تعالى، فردّهم إلى بيت المقدس فأقاموا به مأئة سنة على الطريق المستقيم و الطاعةو العبادة.
ثمّ عادوا الى الفساد و المعاصي، فجاءهم ملك من ملوك الرّوم اسمه انطياحوس فخرّب بيت المقدس و سبا أهله، و قيل: غزاهم ملك الرّوميّة و سباهم عن حذيفة.

و قال محمّد بن إسحاق: كانت بنو اسرائيل يعصون اللّه تعالى و فيهم الأحداث و اللّه يتجاوز عنهم، و كان أوّل ما نزل بهم بسبب ذنوبهم أنّ اللّه تعالى بعث إليهم شعيا قبل مبعث زكريّا عليه السّلام، و شعيا هو الذى بشّر بعيسى و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و كان لبنى إسرائيل ملك كان شعيا يرشده و يسدّده، فمرض الملك، و جاء سنجاريب إلى بيت المقدس بستمائة ألف راية، فدعى اللّه سبحانه شعيا فبرء الملك و مات جمع سنجاريب و لم ينج منهم إلّا خمس نفر منهم سنجاريب فهرب و ارسلوا خلفه من يأخذه، ثمّ أمر سبحانه باطلاقه ليخبر قومه بما نزل بهم، فأطلقوه و هلك سنجاريب بعد ذلك بسبع سنين.

و استخلف بخت نصر ابن ابنه فلبث سبع عشر سنة و هلك ملك بني اسرائيل و مرج أمرهم و تنافسوا في الملك، فقتل بعضهم بعضها، فقام شعيا فيهم خطيبا و وعظهم بعظات بليغة و أمرهم و نهاهم فهمّوا بقتله، فهرب و دخل شجرة فقطعوا الشجرة بالمنشار فبعث اللّه اليهم ارميا من سبط هارون ثمّ خرج من بينهم لما رأى من أمرهم، و دخل بخت نصر و جنوده بيت المقدس و فعل ما فعل، ثمّ رجع إلى بابل بسبايا بني إسرائيل فكانت هذه الدّفعة الأولى.
و قيل أيضا: إنّ سبب ذلك كان قتل يحيى بن زكريّا، و ذلك إنّ ملك بني اسرائيل أراد أن يتزوّج بنت ابنته «امرأته خ» فنهاه يحيى عليه السّلام و بلغ أمّها فحقدت عليه و بعثته على قتله فقتله، و قيل إنّه لم يزل دم يحيى يغلى حتّى قتل بخت نصر منهم سبعين ألفا أو اثنين و سبعين ألفا حتّى سكن الدّم.

و ذكر الجميع أنّ يحيى بن زكريّا هو المقتول في الفساد الثاني، قال مقاتل: و كان بين الفساد الأوّل و الثاني مأتا سنة و عشر سنين.
و قيل إنما غزى بنى اسرائيل فى المرّة الاولى بخت نصر و في المرّة الثانيةملوك فارس و الرّوم و ذلك حين قتلوا يحيى فقتلوا منهم مأئة ألف و ثمانين ألفا و خرب بيت المقدس، فلم يزل بعد ذلك خرابا حتّى بناه عمر بن الخطاب، فلم يدخله بعد ذلك روميّ إلّا خائفا.

فقد ظهر بذلك تسلّط الأكاسرة و القياصرة على بني إسماعيل و إسرائيل بسبب اختلاف كلماتهم و تشتّتهم و فسادهم في الأرض و أنّهم كانوا يشرّدونهم عن بلادهم و أوطانهم فيظهر به معنى قوله عليه السّلام: (يحتازونهم) أى يبعدونهم (عن ريف الافاق) أى الأماكن المشتملة على المزارع و المراتع و المنتجع من بلاد الشام و أراضى العرب القريبة من الماء (و بحر العراق) و هو دجلة و الفرات (و خضرة الدّنيا إلى منابت الشيح) و هى أرض العرب الخالى من الماء و الكلاء (و مها فى الرّيح) أى المواضع الّتى تهفو فيها الرياح و تهبّ من الفيافى و الصّحارى (و نكد المعاش) أى ضيقه و قلّته (فتركوهم عالة) أى فقراء (مساكين إخوان دبر و وبر) أى معاشرين بجمال دبراء عجفاء عقراء، و هو إشارة إلى سوء الحال و ضيق المعاش، فانّ استعمال الجمل الأدبر و التعيّش بوبره علامة الضّر و المسكنة.
قال الشارح المعتزلي إنّهم أجدبوا حتّى أكلوا الدّم بالوبر و كانوا يسمّونه العلهز، انتهى.

و قد مضى في شرح الخطبة السّادسة و العشرين فصل واف فى ضيق حال العرب و سوء معاشهم قبل بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
(أذلّ الامم دارا) لعدم المعاقل و الحصون المنيعة و إن كان لبعضهم حصن فلم يكن بحيث يحصن من عدوّ ذى عدد و قوّة (و أجدبهم قرارا) أى مستقرّا لخلوّه من الزّرع و الثّمر و الخصب (لا ياؤون إلى جناح دعوة يعتصمون بها) أى لا يلتجئون و لا ينضّمون إلى من يحبّهم و يحضنهم إذا دعوه و استغاثوا به كما يحمى الطّاير فرخه بجناحه و يحضنه.
و وصف الدّعوة بوصف الاعتصام لأنّ من عادة العرب إذا هجم عليهم عدوّ لا يتمكّنون من مقاومته يستغيثون بساير القبايل و يستنجدونهم، فيعتصمون بالاستنجاد

و الدّعوة عن الشّر و المكروه قال الشّاعر:

ألا يا أمّ زنباغ أقيمى صدور
العيس نحو بنى تميم‏

هنالك لو دعوت أتاك منهم‏
فوارس مثل أرمية الحميم‏

(و لا إلى ظلّ الفة يعتمدون على عزّها) إضافة ظلّ إلى الفة من إضافة المشبّه به إلى المشبّه، و وجه الشبّه أنّ الظّل سبب الرّاحة و السّلامة من حرارة الشمس و الالفة سبب الرّاحة و السلامة من نار العدوّ، و وصف الالفة بالاعتماد لأنّ الالفة مستلزم للعزّ، فبا لاعتماد عليها يحصل العزّ اللّازم منها.

و لمّا بيّن مساوى حالاتهم من الفقر و الفاقة و الذلّة و ضيق المعاش و غيرها فرّع عليه قوله: (فالأحوال) أى أحوالهم (مضطربة و الأيدى مختلفة و الكثرة متفرّقة) كائنين (في بلاء أزل و أطباق جهل) أى في شدّة بلاء و طبقات من الجهل أى جهل متراكم بعضه فوق بعض قال الشارح البحراني: و في نسخة الرّضي و إطباق بكسر الهمزة فيكون المعني و جهل مطبق عليهم عام.

ثمّ فصل ما نشأ من هذا الجهل من القبايح و الفضايح بقوله (من بنات موؤودة) أى مدفونة حيّة فقد كانت العرب يئدون البنات و يرشد إليه قوله تعالى وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.
و قيل إنّه مختصّ بني تميم و استفاض منهم في جيرانهم، و قيل: بل كان ذلك أى الوئد في بني تميم و قيس أسد و هذيل و بكر بن وائل و يؤيّدة قوله وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ.

و اختلفوا في سبب الوئد فقيل: هو الفقر و الاملاق، قالوا: و ذلك إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا عليهم فقال، اللّهم اشدد وطأتك على مضروا جعل عليهم سنين كسنى يوسف، فاجدبوا سبع سنين حتّى أكلوا الوبر بالدّم فوأدوا البنات لفقرهم، و يدلّ على ذلك قوله سبحانه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ.

و قيل: بل الأنفة و لحوق العار بهم من أجلهنّ، و ذلك إنّ تميما منعت النعمان بن‏المنذر الخراج سنة من السّنين فوجّه إليهم أخاه الريّان بن المنذر فأغار عليهم و استاق النّعم و سبى الذّرارى، فوفدت بنو تميم الى النعمان و استعطفوه، فرقّ عليهم و أعاد عليهم السّبى و قال كلّ امرأة اختارت أباها ردّت عليه و إن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلّهنّ اخترن أباهنّ إلّا بنت قيس بن عاصم فانها اختارت من سباها، فنذر قيس بن عاصم المنقرى التميمى أن لا تولد له بنت إلّا وئدها، ثمّ اقتدى به كثير من بني تميم.

و اختلف في كيفيّة الوئد فقيل: كان الرّجل إذا ولدت له بنت فأراد بقاء حياتها ألبسها جبّة من صوف أو شعر لترعى له الابل و الغنم فى البادية، و إن أراد قتلها تركها حتّى إذا بلغت قامتها ستّة أشبار فيقول لامّها طيّبيها و زيّنيها حتّى أذهب بها إلى أقاربها، و قد حفر لها بئرا فى الصّحرا فيبلغ بها إلى البئر فيقول لها: انظرى فيها، ثمّ يدفعها من خلفها و يهيل عليها التراب حتّى يستوى البئر بالأرض.

و قيل: كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمتها في الحفرة، و إذا ولدت ابنا أمسكته.
و كانت صعصعة بن ناجية ممّن منع الوئد، فافتخر الفرزدق به فى قصيدته الّتي يهجو بها جريرا، و هو قوله:
و منّا الّذى أحيى الوئيد و غالب و عمرو و منا حاجب و الأقارع‏

و قد حكينا في ديباجة الشّرح، عن ابن أبى الدّنيا أنّه قال: لم يكن أحد من أشراف العرب بالبادية كان أحسن دينا من صعصعة، و هو الّذى أحيى ألف موؤودة و حمل على ألف فرس.

و روى الشّارح المعتزلي هنا قال: إنّ صعصعة لمّا وفد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: يا رسول اللّه إنّي كنت أعمل فى الجاهليية عملا صالحا فهل ينفعني ذلك اليوم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما عملت قال: أضللت ناقتين عشراوين فركبت جملا و مضيت فى بغائهما فرفع لى بيت جريد فقصدته فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتين فقال: ما نارهما قلت: ميسم بنى دارم قال: هما عندى و قد أحيى اللّه‏بهما قوما من أهلك من مضر، فجلست معه ليخرجهما إلىّ فاذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها: ما وضعت فان كان سقيا شاركنا في أموالنا و إن كان حائلا«» أوئدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت له: أ تبيعها قال: و هل تبيع العرب أولادها قلت: إنّما أشترى حياتها و لا أشترى رقّها، قال: فبكم قلت: احتكم، قال: بالنّاقتين و الجمل، قلت: ذاك لك على أن يبلغني الجمل و إيّاها، قال: قد بعتك، فاستنقذتها منه بالجمل و النّاقتين و آمنت بك يا رسول اللّه و قد صارت لى سنّة فى العرب أن اشترى كلّ موؤودة بناقتين عشراوين و جمل، فعندى إلى هذه الغاية ثمانون و مأتا موؤودة قد أنقذتهنّ، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ينفعك ذلك لأنّك لم تبتغ به وجه اللّه و إن تعمل فى إسلامك عملا صالحا تصب عليه.

(و أصنام معبودة) قد مضى فى شرح الفصل السّادس عشر من المختار الأوّل أنّ جمهور العرب كا بهما قوما من أهلك من مضر، فجلست معه ليخرجهما إلىّ فاذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها: ما وضعت فان كان سقيا شاركنا في أموالنا و إن كان حائلا«» أوئدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت له: أ تبيعها قال: و هل تبيع العرب أولادها قلت: إنّما أشترى حياتها و لا أشترى رقّها، قال: فبكم قلت: احتكم، قال: بالنّاقتين و الجمل، قلت: ذاك لك على أن يبلغني الجمل و إيّاها، قال: قد بعتك، فاستنقذتها منه بالجمل و النّاقتين و آمنت بك يا رسول اللّه و قد صارت لى سنّة فى العرب أن اشترى كلّ موؤودة بناقتين عشراوين و جمل، فعندى إلى هذه الغاية ثمانون و مأتا موؤودة قد أنقذتهنّ، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ينفعك ذلك لأنّك لم تبتغ به وجه اللّه و إن تعمل فى إسلامك عملا صالحا تصب عليه.

(و أصنام معبودة) قد مضى فى شرح الفصل السّادس عشر من المختار الأوّل أنّ جمهور العرب كانوا عند بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبدة أصنام، و مضى هناك تفصيل أصنامهم المعبودة و لا حاجة إلى الاعادة.

(و أرحام مقطوعة و غارات مشنونة) أى مصبوبة من كلّ جهة، فانّ القتل و الغارة و قطع الأرحام كانت من شعار العرب في الجاهلية و قد أشار إلى ذلك و إلى بعض ما تقدّم هنا من حالات العرب فى الفصل الأوّل من المختار السّادس و العشرين حيث قال عليه السّلام هناك: إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا للعالمين، و أمينا على التّنزيل، و أنتم معشر العرب على شرّ دين و في شرّ دار، بين حجارة خشن، و حيّات صمّ، تشربون الكدر، و تأكلون الجشب، و تسفكون دماءكم، و تقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، و الاثام بكم معصوبة.
و قد ألّف إبراهيم بن مسعود الثقفى كتابا سمّاه كتاب الغارات جمع فيه غارات العرب و حروبهم، و إن شئت ارشدك إلى اثنين من تلك الحروب و الغارات فانّهما أنموذج منها.

أحدهما ما كان بين الأوس و الخزرج من الحروب الّتى تطاولت مأئة و عشرين سنةإلى أن ألف اللّه بين قلوبهم بالاسلام.

و ثانيهما ما كان بين تغلب و بكر بن وابل أربعين سنة حتّى صار من أمثال العرب السّائرة أشأم من البسوس.
قيل: إنها امرأة كانت لها ناقة فرآها كليب ترعى فى حماه و قد كسرت بيض طائر كان قد أجاره، فرمي ضرعها بسهم فوثب جساس«» إلى كليب فقتله، فهاجت الحرب بين بكر و تغلب «تغلب و بكرظ» بن وابل أربعين سنة.

قال التفتّازاني: البسوس زارت اختها البهيلة و هى امّ جساس بجار لها من جرم زياد له ناقة و كليب قد حمى أرضا من العالية فلم يكن يرعاها إلّا إبل جساس لمصاهرة بينهما، فخرجت فى ابل جساس ناقة الجرمى ترعى فى حمى كليب فأنكرها كليب فرماها فاختلّ زرعها «ضرعها ظ» فولّت حتّى بركت بفناء صاحبها و زرعها «ضرعها ظ» تشخب دما و لبنا، و صاحت البسوس: و اذلّاه و اعزبتاه، فقال جساس ايّتها الحرّة اهدئى فو اللّه لأعقرنّ فحلا هو أعزّ على أهله منها، فلم يزل جساس يتوقّع عزّة كليب حتّى خرج و تباعد عن الحىّ فبلغ جساسا خروجه، فخرج على فرسه و اتّبعه فرمى صلبه حتّى وقف عليه، فقال كليب: يا عمرو أغثنى بشربة من ماء فاجهز عليه و نشب الشّر بين تغلب و بكر أربعين سنة.

و هذا أنموذج من شنّ الغارات فى العرب و قطع الأرحام أوردناه تبصرة لك و توضيحا لكلامه عليه السّلام هذا.
و لمّا ذكر ما كانت العرب عليه قبل بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الضّيم و الذّل و الفقر و الجهل، أردفه بالتّنبية على أعظم ما أنعم اللّه سبحانه به عليهم من بعث النّبى الكريم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم و تبديل سوء حالهم بحسن الحال ببركة هذه النعمة العظيمة فقال: (فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولا) كريما (فعقد) أى‏اللّه سبحانه أو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (بملّته طاعتهم) لأنّ طاعتهم قد كانت في الجاهليّة تابعة لأهوائهم الباطلة، متشتّتة بتشتّت الاراء المختلفة، فلذلك اتّخذوا لهم آلهة فأطاع كلّ منهم إلهه و صنمه فعقد الملّة طاعتهم للّه تعالى بعد الانتشار و عبادة الأصنام.

(و جمع على دعوته) أى الرّسول (الفتهم) بعد طول تضاغن القلوب و تشاحن الصّدور، و أشار إلى تفصيل مواقع نعم اللّه بقوله: (كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها) شبّه النعمة أى نعمة الاسلام الحاصلة بالبعثة فى انبساطها عليهم بالطاير الباسط لجناحه على فرخه على سبيل الاستعارة بالكناية و ذكر الجناح تخييل و النّشر ترشيح.

(و أسالت) أى أجرت (لهم جداول نعيمها) و الكلام في هذه القرينة مثله في سابقتها، فانّه عليه السّلام شبّه النعمة بالنّهر العظيم الّذي تسيل منه الجداول و الأنهار الصّغار إلى المحال القابلة و المواضع المحتاجة، فأثبت الجداول تخييلا و الاسالة ترشيحا، و وجه الشبّه أنّ جريان الجداول من النهر سبب لحياة الموات من الأرض و كذلك إفاضة أنواع النّعم و شئون الخيرات من نعمة الاسلام الّتي هي أعظم النعماء في الموادّ المستعدّة سبب لحياة القلوب الميّتة بموت الجهل و الضّلالة مضافة الى الثّمرات الدّنيويّة.

(و التقّت الملّة بهم عوائد بركتها) أى جمعتهم ملّة الاسلام بعد ما كانوا متفرّقين في منافعها و معروفاتها الحاصلة ببركتها، فكان تلك المنافع ظرفا لاجتماعهم حاوية لهم محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
(فأصبحوا) أى صاروا بحواية عوائدها لهم (في نعمتها غرقين) و التعبير به مبالغة في احاطة النعمة عليهم من جميع الجهات إحاطة الماء بالغرقى و الغائصين.

(و عن خضرة عيشها فكهين) أى اشربن فرحين بسعة المعاش و طيبه، أو ناعمين مازحين من خضرة العيش.
(و قد تربعت الامور بهم) أى اعتدلت امورهم و استقامت (في ظلّ سلطان قاهر) اى سلطان الاسلام الغالب على ساير الأديان (و آوتهم الحال) أى ضمّتهم حسن حالهم‏و أنزلتهم (الى كنف عزّ غالب) أى إلى جانبه و ناحيته أو كناية عن حرزه كما في قولك: أنت في كنف اللّه، أى حرزه و ستره (و تعطّفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت) أى أقبلت السعادات الدّنيويّة و الأخرويّة عليهم بعد إدبارها عنهم إقبال الشفيق العطوف على من يشفق و يتعطف عليه في أعالي السّلطنة الثّابتة المستقرّة.

(فهم حكّام على العالمين و ملوك فى أطراف الأرضين يملكون الامور) أى امور الملك و السلطنة (على من كان يملكها عليهم) من الكفرة الفجرة (و يمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم) من كفّار مكّة، و قريش و غيرهم من عبدة الأوثان (لا تغمز لهم قناة و لا تقرع لهم صفاة) إشارة إلى قوّتهم و عدم تمكّن الغير من قهرهم و غلبتهم.

قال الشارح المعتزلي: و يكنّي عن العزيز الّذى لا يضام فيقال: لا يغمز له قناة، أى هو صلب و القناة إذا لم تكن في يد الغامز كانت أبعد عن الحطم و الكسر، قال: و لا تقرع لهم صفاة مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزّته و قوّته.

تبصرة

لمّا كان أوّل هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّنا للاشارة إلى ملك الأكاسرة، و آخرها متضمّنا للاشارة إلى بعثة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اقتصاص حال أهل الجاهليّة في دولة الأكاسرة و أيّام الفترة و حين البعثة و بعدها أحببت أن أورد هنا رواية متضمّنة لهذا المرام، مبيّنا فيها أسماء الملوك مفصّلا من زمن عيسى إلى زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أسماء المبعوثين قبله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأنبياء و الرّسل عليهم السّلام لمزيد ارتباطها بالمقام فأقول: روى الصّدوق في كتاب اكمال الدّين عن أبيه و محمّد بن الحسن «رض» قالا: حدّثنا سعد بن عبد اللّه قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى عن العبّاس بن معروف عن عليّ بن مهزيار عن الحسن بن سعيد عن محمّد بن اسماعيل القرشي عمّن حدّثه عن إسماعيل بن أبي رافع عن أبيه أبي رافع قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ جبرئيل نزل عليّ بكتاب فيه خبر الملوك ملوك الأرض قبلي، و خبر من بعث قبلي من الأنبياءو الرّسل- و هو حديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة إليه- قال: لمّا ملك اشبح بن اشجان و كان يسمى الكيس و كان قد ملك مأتي و ستّا و ستّين سنة.

ففي سنة إحدى و خمسين من ملكه بعث اللّه عزّ و جل عيسى بن مريم عليه السّلام و استودعه النور و العلم و الحكم و جميع علوم الأنبياء قبله، و زاده الانجيل، و بعثه إلى بيت المقدس الى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه و حكمته و إلى الايمان باللّه و رسوله، فأبى أكثرهم إلّا طغيانا و كفرا، فلمّا لم يؤمنوا به دعا ربّه و عزم عليه، فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلّا طغيانا و كفرا، فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم و يرغبهم فيما عند اللّه ثلاثا و ثلاثين سنة حتّى طلبه اليهود و ادّعت أنّها عذّبته و دفنته في الأرض، و ادّعا بعضهم أنّهم قتلوه و صلبوه، و ما كان اللّه ليجعل لهم سلطانا عليه و إنّما شبّه لهم و ما قدروا على عذابه و دفنه و على قتله و صلبه لقوله عزّ و جلّ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ و لم يقدروا على قتله و صلبه لأنّهم لو قدروا على ذلك كان تكذيبا لقوله تعالى: و لكن رفعه اللّه اليه بعد أن توفّاه عليه السّلام.

فلمّا أراد أن يرفعه أوحى إليه أن استودع نور اللّه و حكمته و علم كتابه شمعون ابن حمّون الصّفا خليفة على المؤمنين، ففعل ذلك فلم يزل شمعون في قومه يقوم بأمر اللّه عزّ و جلّ و يهتدى بجميع مقال عيسى في قومه من بني إسرائيل و جاهد الكفّار، فمن أطاعه و آمن به فيما جاء به كان مؤمنا، و من جحده و عصاه كان كافرا حتّى استخلص ربّنا تبارك و تعالى و بعث في عباده نبيّا من الصّالحين و هو يحيى بن زكريّا عليه السّلام و قبض شمعون.
و ملك عند ذلك اردشير بن اشكان «زار كان خ ل» أربع عشرة سنة و عشرة أشهر، و في ثمان سنين من ملكه قتلت اليهود يحيى بن زكريا عليه السّلام.

و لمّا أراد اللّه سبحانه أن يقبضه أوحى إليه أن يجعل الوصيّة في ولد شمعون و يأمر الحواريّين و أصحاب عيسى عليه السّلام بالقيام معه ففعل ذلك.

و عندها ملك سابور بن أردشير ثلاثين سنة حتّى قتله اللّه و استودع علم اللّه و نوره و تفصيل حكمته في ذريّته يعقوب بن شمعون و معه الحواريّون من أصحاب عيسى عليه السّلام و عند ذلك ملك بخت نصر مأئة سنة و سبعا و ثمانين سنة، و قتل من اليهود سبعين ألف مقاتل على دم يحيى بن زكريّا و خرّب بيت المقدّس و تفرّقت اليهود في البلدان.

و في سبعة و أربعين سنة من ملكه بعث اللّه عزّ و جلّ العزيز نبيّا إلى أهل القرى الّتي أمات اللّه عزّ و جلّ أهلها ثمّ بعثهم له و كانوا عن قرى شتّى فهربوا فرقا من الموت فنزلوا في جوار عزيز و كانوا مؤمنين و كان عزير يختلف إليهم و يسمع كلامهم و إيمانهم و احبّهم على ذلك، و آخاهم عليه فغاب عنهم يوما واحدا ثمّ أتاهم فوجدهم صرعى موتى فحزن عليهم، و قال «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ وَ» تعجّبا منه حيث أصابهم قد ماتوا أجمعين في يوم واحد، فأماته اللّه عزّ و جلّ عند ذلك مأئة عام فلبث «و هى خ ل» فيهم مأئة سنة ثمّ بعثه اللّه و ايّاهم و كانوا مأئة ألف مقاتل ثمّ قتلهم اللّه أجمعين لم يفلت منهم أحد على يدي بخت نصر.

و ملك بعده مهروية بن بخت نصر ستّ عشر سنة و ستّ و عشرين يوما.
و أخذ عند ذلك دانيال و حفر له جبّا في الأرض و طرح فيه دانيال عليه السّلام و أصحابه و شيعته من المؤمنين فالقى عليهم النّيران، فلمّا رأى أنّ النّار ليست تقربهم و لا تحرقهم استودعهم الجبّ و فيه الأسد و السّباع و عذّبهم بكلّ لون من العذاب حتّى خلّصهم اللّه عزّ و جلّ منه و هم الذين ذكرهم اللّه في كتابه العزيز فقال عزّ و جلّ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ.

فلمّا أراد اللّه أن يقبض دانيال أمره أن يستودع نور اللّه و حكمته مكيخا بن دانيال ففعل.
و عند ذلك ملك هرمز ثلاثة و ستّين «ثلاثين خ ل» سنة و ثلاثة أشهر و أربعة أيّام.
و ملك بعده بهرام ستّة و عشرين سنة.

و ولّي أمر اللّه مكيخا بن دانيال و أصحابه المؤمنين و شيعته الصديقون غير أنّهم لا يستطيعون أن يظهروا الايمان في ذلك الزّمان و لا أن ينطقوا به.
و عند ذلك ملك بهرام بن بهرام سبع سنين، و في زمانه انقطعت الرّسل فكانت الفترة.
و ولّي الأمر مكيخا بن دانيال و أصحابه المؤمنين فلمّا أراد اللّه عزّ و جلّ أن يقبضه أوحى إليه في منامه أن استودع «يستودع» نور اللّه و حكمته ابنه انشو بن مكيخا و كانت الفترة بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعمائة و ثمانين سنة و أولياء اللّه يومئذ في الأرض ذرّية انشو بن مكيخا يرث ذلك منهم واحد بعد واحد ممّن يختاره الجبار عزّ و جل فعند ذلك ملك سابور بن هرمز اثنين و سبعين سنة، و هو أوّل من عقد التّاج و لبسه.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ انشو بن مكيخا.

و ملك بعد ذلك اردشير أخو سابور سنتين، و في زمانه بعث اللّه الفتية أصحاب الكهف و الرّقيم.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ في الأرض رسيحا «رشيحاء خ ل» بن انشوبن مكيخا.
و عند ذلك ملك سابور بن اردشير خمسين سنة.
و ولىّ امر اللّه يومئذ رسيحاء بن انشو.
و ملك بعده يزدجرد بن سابور احدى و عشرين سنة و خمسة أشهر و تسعة عشر يوما.
و ولّى أمر اللّه يومئذ في الأرض رسيحا عليه السّلام، و لما أراد اللّه عزّ و جل أن يقبض رسيحا أوحى اليه أن استودع علم اللّه و نوره و تفصيل حكمته نسطورس بن رسيحا.
فعند ذلك ملك بهرام جور ستّا و عشرين سنة و ثلاثة أشهر و ثمانية عشر يوما.
و ولّى أمر اللّه يومئذ نسطورس بن رسيحا.
و عند ذلك ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام سبعة و عشرين سنة.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ نسطورس بن رسيحا و أصحابه المؤمنين، فلمّا أراد اللّه‏عزّ و جلّ أن يقبضه أوحى اليه في منامه أن استودع نور اللّه و حكمته و كتبه مرعيدا.
و عند ذلك ملك فلاس بن فيروز أربع سنين.
و ولىّ أمر اللّه عزّ و جل مرعيدا.
و ملك بعده قباد بن فيروز ثلاثا و اربعين سنة.
و ملك بعده جاماسف اخو قباد ستّا و أربعين «خ ل ستين» سنة و ولىّ أمر اللّه يومئذ في الأرض مرعيدا.
و عند ذلك ملك كسرى«» بن قباد ستّا و أربعين سنة و ثمانية أشهر و ولىّ أمر اللّه يومئذ مرعيدا عليه السّلام و اصحابه و شيعته المؤمنين، فلمّا أراد اللّه عزّ و جل أن يقبض مرعيدا أوحى اليه في منامه ان استودع نور اللّه و حكمته بحيراء الرّاهب ففعل فعند ذلك ملك هرمز بن كسرى ثلاث و ثمانين سنة.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ بحيرا و أصحابه المؤمنون و شيعته الصدّيقون.
و عند ذلك ملك كسرى بن هرمز بن پرويز و ولىّ امر اللّه يومئذ بحيرا.

حتّى إذا طالت المدّة و انقطع الوحى و استخفّ بالنعم و استوجب الغير و درس الدّين و تركت الصلاة و اقتربت السّاعة و كثرت الفرق و صار النّاس في حيرة و ظلمة و أديان مختلفة و أمور متشتّتة و سبل ملتبسة و مضت تلك القرون كلّها و مضى صدر منها على منهاج نبيّها عليه السّلام و بدّل آخر نعمة اللّه كفرا و طاعته عدوانا فعند ذلك استخلص اللّه عزّ و جل لنبوّته و رسالته من الشجرة المشرفة الطيّبة و الجرثومة«» المتحيّزة «المتمرة خ ل»«» الّتى اصطفاها اللّه عزّ و جلّ في سابق علمه و نافذ قوله قبل ابتداء خلقه، و جعلها منتهى خيرته و غاية صفوته و معدن خاصيّته محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اختصّه بالنبوّة و اصطفاه بالرّسالة و أظهر بدينه الحق ليفصل بين عباد اللّه القضاء، و يعطي في الحقّ جزيل العطاء، و يحارب أعداء رب السّماء و جمع عند ذلك ربّنا تبارك و تعالى‏لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علم الماضين و زاده من عنده القرآن الحكيم بلسان عربىّ مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فيه خبر الماضين و علم الباقين.

بيان

ما في هذه الرّواية من كون الفترة بين عيسى و محمّد أربعمائة و ثمانين سنة مخالف لما في البحار من كتاب كمال الدّين بسنده عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسمائة عام منها مائتان و خمسون عاما ليس فيها نبيّ و لا عالم ظاهر، قلت: فما كانوا قال: كانوا متمسّكين بدين عيسى، قلت: فما كانوا قال: مؤمنين ثمّ قال عليه السّلام: و لا تكون الأرض إلّا و فيه عالم.

و فيه أيضا من الاحتجاج قال: سأل نافع مولى ابن عمر أبا جعفر عليه السّلام كم بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من سنة قال: اجيبك بقولك أم بقولى قال: أجبني بالقولين قال عليه السّلام: أمّا بقولي فخمسمائة سنة، و أمّا قولك فستّمأة سنة.

قال المحدّث العلّامة المجلسي بعد نقل هذه الأخبار: و المعوّل على هذين الخبرين، ثمّ قال: و يمكن تأويل الخبر المتقدّم بأن يقال: لم يحسب بعض زمان الفترة من أوّلها لقرب العهد بالدّين.
أقول: أمّا أنّ التعويل على ما تضمّنه الخبران من كون المدّة بينهما خمسمائة عام فلا غبار عليه لشهرته، و أمّا التّأويل الّذى ذكره في الخبر فليس بذلك البعد و لكن في خصوص هذه الفقرة منه إلّا أنّ السنين المشخّصة فيه لكلّ من السلاطين بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يزيد مجموعها على تسعمائة سنة و منافاته لكون المدّة بينهما خمسمائة سنة كما في الخبرين واضح و لا يمكن دفعه بالتّأويل المذكور، و الجمع بينهما محتاج إلى التأمل.

الترجمة

پس عبرت برداريد بحالت فرزندان جناب اسماعيل و پسران جناب إسحاق و فرزندان جناب يعقوب عليهم السّلام پس چه قدر سخت است معتدل شدن حالت شما با حالات ايشان، و چه نزديكست مشابهت صفات شما بصفتهاى ايشان، تدبّر نمائيد كار ايشان را در حال پراكندگى ايشان و متفرّق بودن ايشان در شبهائى كه بودند پادشاهان فارس و روم پادشاه ايشان، در حالتي كه دور مى‏كردند ايشان را از كشت زار آفاق و از درياى عراق كه شطّ و فراتست، و از سبزى دنيا يعنى بلاد معموره بسوى مواضع روئيدن درمنه«» و مكانهاى وزيدن باد و تنگى معاش.

پس گذاشتند پادشاهان ايشان را در حالتى كه فقرا و مساكين بودند برادران شتران مجروح صاحب كرك در حالتى كه ذليل‏ترين امّتها بودند از حيثيت خانه، و قحطترين ايشان بودند از حيثيّت منزل و مقرّ، نمى‏توانستند خودشان را بچسبانند و پناه برند بسوى جناح دعوتى كه طلب حفظ كنند با آن، و نه بسوى سايه الفتى كه اعتماد نمايند بر عزّت آن.
پس احوال ايشان پريشان بود و دستهاى ايشان مختلف، و جمعيت و كثرت ايشان متفرّق، در شدّت بلا و جهالت عام از دختران زنده در گور شده، و بتهاى عبادت كرده شده، و رحمهاى بريده شده، و غارتهاى ريخته شده از هر طرف.
پس نظر كنيد بمواقع نعمتهاى خداوند بر ايشان وقتى كه مبعوث فرمود بسوى ايشان پيغمبرى را يعنى محمّد مصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، پس منعقد ساخت با ملّت خود اطاعت ايشان را، و جمع فرمود با دعوت خود الفت ايشان را چگونه منتشر ساخت و فراخ گردانيد نعمتى كه بر ايشان بود بال كرامت خود را، و جارى ساخت بر ايشان نهرهاى ناز و نعمتهاى خود، و پيچيده شد ملّت بايشان يعنى جمع نمود دين اسلام ايشان را در منافع بركت خود.

پس گرديدند در نعمت ملت غرق شدگان، و از سبزى و طراوت عيش آن شادمان، بتحقيق كه مستقيم شد كارهاى ايشان در سايه سلطان غالب، و نازل كرد ايشان را حالت ايشان بسوى پناه عزّت قاهر، و مهربانى كردند كارها بر ايشان در بلنديهاى پادشاهى ثابت.

پس ايشان حاكمانند بر عالميان، و پادشاهانند در أطراف زمينها، مالك مى‏شوند در كارها بر كسانى كه مالك بودند در آن كارها بر ايشان، و امضا مى‏كنند و جارى مى ‏سازند حكمها را در اشخاصى كه امضاء مى‏ نمودند آن كارها را در ايشان فشرده نمى‏شود براى ايشان هيچ نيزه بجهت قوت ايشان، و كوبيده نمى‏شود مر ايشان را هيچ سنگى بجهت غايت قدرت و جرأت ايشان.

هذا آخر الجزء الحادى عشر من هذه الطبعة النفيسة القيمة، و قد تمّ تصحيحه و تهذيبه و ترتيبه بيد العبد- السيد ابراهيم الميانجى- عفى عنه و عن والديه، و ذلك في اليوم الثالث عشر من شهر رجب الاصبّ، يوم ميلاد الامام عليّ بن ابي طالب أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه و على آله الطاهرين سنة- 1382- و يليه انشاء اللّه الجزء الثاني عشر و أوله: «الفصل السابع» و الحمد للّه ربّ العالمين

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نمایش بیشتر

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

دکمه بازگشت به بالا
-+=