نامه ۲۸ صبحی صالح
۲۸- و من کتاب له ( علیه السلام ) إلى معاویه جوابا قال الشریف و هو من محاسن الکتب
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِی کِتَابُکَ تَذْکُرُ فِیهِ اصْطِفَاءَ اللَّهِ مُحَمَّداً ( صلى الله علیه وآله )لِدِینِهِ وَ تَأْیِیدَهُ إِیَّاهُ لِمَنْ أَیَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ
فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْکَ عَجَباً إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَ نِعْمَتِهِ عَلَیْنَا فِی نَبِیِّنَا فَکُنْتَ فِی ذَلِکَ کَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ أَوْ دَاعِی مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ
وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِی الْإِسْلَامِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ فَذَکَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَکَ کُلُّهُ وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ یَلْحَقْکَ ثَلْمُهُ وَ مَا أَنْتَ وَ الْفَاضِلَ وَ الْمَفْضُولَ وَ السَّائِسَ وَ الْمَسُوسَ
وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ وَ التَّمْیِیزَ بَیْنَ الْمُهَاجِرِینَ الْأَوَّلِینَ وَ تَرْتِیبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِیفَ طَبَقَاتِهِمْ هَیْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَیْسَ مِنْهَا وَ طَفِقَ یَحْکُمُ فِیهَا مَنْ عَلَیْهِ الْحُکْمُ لَهَا
أَ لَا تَرْبَعُ أَیُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِکَ وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِکَ وَ تَتَأَخَّرُ حَیْثُ أَخَّرَکَ الْقَدَرُ فَمَا عَلَیْکَ غَلَبَهُ الْمَغْلُوبِ وَ لَا ظَفَرُ الظَّافِرِ وَ إِنَّکَ لَذَهَّابٌ فِی التِّیهِ رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ
أَ لَا تَرَى غَیْرَ مُخْبِرٍ لَکَ وَ لَکِنْ بِنِعْمَهِ اللَّهِ أُحَدِّثُ أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ وَ لِکُلٍّ فَضْلٌ
حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِیدُنَا قِیلَ سَیِّدُ الشُّهَدَاءِ وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلىاللهعلیهوآله )بِسَبْعِینَ تَکْبِیرَهً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَیْهِ
أَ وَ لَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَیْدِیهِمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لِکُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ قِیلَ الطَّیَّارُ فِی الْجَنَّهِ وَ ذُو الْجَنَاحَیْنِ
وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْکِیَهِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَکَرَ ذَاکِرٌ فَضَائِلَ جَمَّهً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِینَ وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِینَ فَدَعْ عَنْکَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِیَّهُ فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا
لَمْ یَمْنَعْنَا قَدِیمُ عِزِّنَا وَ لَا عَادِیُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِکَ أَنْ خَلَطْنَاکُمْ بِأَنْفُسِنَا فَنَکَحْنَا وَ أَنْکَحْنَا فِعْلَ الْأَکْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاکَ وَ أَنَّى یَکُونُ ذَلِکَ
وَ مِنَّا النَّبِیُّ وَ مِنْکُمُ الْمُکَذِّبُ وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْکُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ وَ مِنَّا سَیِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّهِ وَ مِنْکُمْ صِبْیَهُ النَّارِ وَ مِنَّا خَیْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ وَ مِنْکُمْ حَمَّالَهُ الْحَطَبِ فِی کَثِیرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَیْکُمْ
فَإِسْلَامُنَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِیَّتُنَا لَا تُدْفَعُ وَ کِتَابُ اللَّهِ یَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللَّهِ
وَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِینَفَنَحْنُ مَرَّهً أَوْلَى بِالْقَرَابَهِ وَ تَارَهً أَوْلَى بِالطَّاعَهِ
وَ لَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ یَوْمَ السَّقِیفَهِ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلىاللهعلیهوآله )فَلَجُوا عَلَیْهِمْ فَإِنْ یَکُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَکُمْ وَ إِنْ یَکُنْ بِغَیْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ
وَ زَعَمْتَ أَنِّی لِکُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَ عَلَى کُلِّهِمْ بَغَیْتُ فَإِنْ یَکُنْ ذَلِکَ کَذَلِکَ فَلَیْسَتِ الْجِنَایَهُ عَلَیْکَ فَیَکُونَ الْعُذْرُ إِلَیْکَوَ تِلْکَ شَکَاهٌ ظَاهِرٌ عَنْکَ عَارُهَا
وَ قُلْتَ إِنِّی کُنْتُ أُقَادُ کَمَا یُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَایِعَ
وَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ
وَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَهٍ فِی أَنْ یَکُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ یَکُنْ شَاکّاً فِی دِینِهِ وَ لَا مُرْتَاباً بِیَقِینِهِ وَ هَذِهِ حُجَّتِی إِلَى غَیْرِکَ قَصْدُهَا وَ لَکِنِّی أَطْلَقْتُ لَکَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِکْرِهَا
ثُمَّ ذَکَرْتَ مَا کَانَ مِنْ أَمْرِی وَ أَمْرِ عُثْمَانَ فَلَکَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِکَ مِنْهُ فَأَیُّنَا کَانَ أَعْدَى لَهُ وَ أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَکَفَّهُ أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَیْهِ حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَیْهِ
کَلَّا وَ اللَّهِ لَ قَدْ یَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِینَ مِنْکُمْ وَ الْقائِلِینَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَیْنا وَ لا یَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِیلًا.
وَ مَا کُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّی کُنْتُ أَنْقِمُ عَلَیْهِ أَحْدَاثاً فَإِنْ کَانَ الذَّنْبُ إِلَیْهِ إِرْشَادِی وَ هِدَایَتِی لَهُ فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ وَ قَدْ یَسْتَفِیدُ الظِّنَّهَ الْمُتَنَصِّحُ
وَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِیقِی إِلَّا بِاللَّهِ عَلَیْهِ تَوَکَّلْتُ وَ إِلَیْهِ أُنِیبُ
وَ ذَکَرْتَ أَنَّهُ لَیْسَ لِی وَ لِأَصْحَابِی عِنْدَکَ إِلَّا السَّیْفُ فَلَقَدْ أَضْحَکْتَ
بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ مَتَى أَلْفَیْتَ بَنِی عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الْأَعْدَاءِ نَاکِلِینَ وَ بِالسَّیْفِ مُخَوَّفِینَ فَلَبِّثْ قَلِیلًا یَلْحَقِ الْهَیْجَا حَمَلْ
فَسَیَطْلُبُکَ مَنْ تَطْلُبُ وَ یَقْرُبُ مِنْکَ مَا تَسْتَبْعِدُ
وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَکَ فِی جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ وَ التَّابِعِینَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ شَدِیدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ مُتَسَرْبِلِینَ سَرَابِیلَ الْمَوْتِ أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَیْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ
وَ قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّیَّهٌ بَدْرِیَّهٌ وَ سُیُوفٌ هَاشِمِیَّهٌ قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا فِی أَخِیکَ وَ خَالِکَ وَ جَدِّکَ وَ أَهْلِکَ وَ ما هِیَ مِنَ الظَّالِمِینَ بِبَعِیدٍ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج۱۹
[رسالة منفردة في لقاء الله تعالى]
بسم الله الرحمن الرحيم حمدا لك يا من شرف أولياءه بلقائه، و كرم أحباءه بالعكوف على فنائه سبحانك يا من انتجب أسرار أهله لرؤية جماله، و احتجب عن أبصار خليقته بحجاب جلاله، صل اللهم على مظهرك الأتم، و جامع الكلم و الحكم، المنزل عليه ما يهدي للتي هي أقوم، و آله خير الورى و أعلام الهدى و من اتبع هديهم من اولى النهى.
و بعد فيقول العبد الراجى لقاء ربه الكريم نجم الدين حسن بن عبد الله الطبري المدعو بحسن زاده الاملي بلغه الله و جميع المؤمنين إلى آمالهم، و رزقهم نعمة لقائه: يا أهل الوداد و السداد! و طالبى الهداية و الرشاد، يا إخوان الصفاء و خلان الوفاء، إلى متى و حتى متى جاز لنا الحرمان عن حرم الحب، و الخذلان في غيابة الجب؟ و ما لنا ألا نسير إلى نواحى القدس؟ و لا نطير إلى رياض الانس؟
أو ترون أنا خلقنا عبثا، أو تركنا سدى؟ نأكل و نتمتع كالأنعام السائمة، غافلين عن لقاء الله عز و جل إلى أن يدركنا الأجل، و يلهينا الأمل؟ كلا و حاشاكم عن هذا الظن و إن بعض الظن إثم و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدو و الآصال و لا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون.
خليلى نحن نيام في فراش الغفلة، و قد أدبرت العاجلة و أقبلت الاخرة إن هؤلاء يحبون العاجلة و يذرون ورائهم يوما ثقيلا، يوما عبوسا قمطريرا، يوما كان شره مستطيرا.
قد أتى يوم تبلى فيه السرائر، و ما زرع في الأول يحصد في الاخر، فانظروا بما أسلفتم في الأيام الخالية، و اقرءوا ألواح أنفسكم تخبركم عن غدكم و أمسكم و رمسكم.
و استمع ما ذا يقول برهان السالكين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين علي أمير المؤمنين: احذروا عباد الله الموت و نزوله، و خذوا له فإنه يدخل بأمر عظيم خير لا يكون معه شر أبدا، و شر لا يكون معه خير أبدا، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها، و من أقرب إلى النار من عاملها.
ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أى المنزلتين يصير إلى الجنة أم إلى النار؟ أعدو هو لله أم ولى له؟ فإن كان وليا فتحت له أبواب الجنة و شرع له طريقها، و نظر إلى ما أعد الله عز و جل لأوليائه فيها فرغ من كل شغل، و وضع عنه كل ثقل، و إن كان عدوا فتحت له أبواب النار و سهل له طريقها و نظر إلى ما أعد الله لأهلها و استقبل كل مكروه.
و اعلموا عباد الله أن ما بعد اليوم أشد و أدهى: نار قعرها بعيد، و حرها شديد، و عذابها جديد، و مقامعها حديد، و شرابها صديد، لا يفتر عذابها، و لا يموت ساكنها، دار ليس لله سبحانه فيها رحمة، و لا يسمع فيها دعوة.
فطوبى لمن انتبه عن النوم و تشمر الذيل لتدارك اليوم، ثم طوبى لمن راقب سره عما سوى الله و ما طالب إلا القرب منه و لقاءه و رضاه، فإنا امرنا ألا نعبد إلا إياه و لا نطلب إلا إياه، فوحد الله سبحانه بصدق السريرة حتى ترى بعين البصيرة أن لا هو إلا هو و لا إله إلا هو، فأينما تولوا فثم وجه الله، و هو الأول و الاخر و الظاهر و الباطن، و هو معكم أينما كنتم.
خليلي إني لأستحيي من نفسي فضلا عن غيرى بأن أقول: هذه رسالة عملتها يداي في لقاء الله تعالى، كيف لا و أنى لهذا المطرود عن صف النعال، بل المردود عن الباب أن يأتي فيه بكتاب؟ و هل هذا إلا الخروج عن الزى؟ و لا يخرج عنه إلا البذى.
قال أفلاطن الالهى: إن شاهق المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كل طائر و سرادق البصيرة أحجب من أن يحوم حوله كل سائر، (الفصل الرابع من شرح رسالة زينون الكبير اليونانى تلميذ ارسطاطاليس، للمعلم الثاني أبي نصر الفارابى ص 8 من طبع حيدرآباد الدكن).
و قال الشيخ الرئيس أبو علي سينا في آخر النمط التاسع من الإشارات في مقامات العارفين: جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد.
و قال أبو الفتح يحيى بن حبش بن أميرك الملقب شهاب الدين السهروردي الحكيم المقتول: الفكر في صورة قدسية يتلطف بها طالب الأريحية، و نواحى القدس دار لا يطأها القوم الجاهلون و حرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السماوات فوحد الله و أنت بتعظيمه ملان، و اذكره و أنت من ملابس الأكوان عريان، و لو كان في الوجود شمسان لا نطمست الأركان و أبى النظام أن يكون غير ما كان (نقلنا كلامه من تاريخ ابن خلكان) و قال العارف السنائى:
بار توحيد هر كسى نكشد | طعم توحيد هر خسي نچشد | |
و قال العارف الرومى:
ياد او اندر خور هر هوش نيست | حلقه او سخره هر گوش نيست | |
و بالجملة هذا المحروم بقصور باعه مقر، في إقراره مصر، و على نفسه بصير، و بأمره خبير، يفوه من شدة الخجل أخفى من الهمس، و يبوه من كثرة الوجل كعليل دان حلوله في الرمس و يقول:
جز تو ما را هواى ديگر نيست | جز لقاى تو هيچ در سر نيست | |
اين ره است و دگر دوم ره نيست | اين در است و دگر دوم در نيست | |
دلگشاتر ز محضر قدست | محضر هيچ نيك محضر نيست | |
جانفزاتر ز نفحه انست | نفحه مشك و عود و عنبر نيست | |
خوشتر از گفته تو گفتارى | بهتر از دفتر تو دفتر نيست | |
دفترى بيكرانه دريائى | كاندرو هر خسى شناور نيست | |
نرسد تا بسر گفتارت | دست جانى اگر مطهر نيست | |
بهر وصف صفات نيكويت | در همه دهر يك سخنور نيست | |
آنچه را گفتهاند و مىگويند | از هزاران يكى مقرر نيست | |
كرمك شب فروز بى پا را | قدرت وصف مهر خاور نيست | |
هر چه و هر كه را كه مىبينم | در حريم تو جز كه مضطر نيست | |
نبود ذرهاى كه در كارش | تحت فرمان تو مسخر نيست | |
آنچه از صنع تو پديد آمد | خير محض است و خردلى شر نيست | |
در همه نقش بو العجب كه بود | وين عجب نقطهاى مكرر نيست | |
يار و دلدار و شاهد و معشوق | هر چه گويند جز تو دلبر نيست | |
ره نيابد بسويت آنكه درو | تير عشقت نشسته تا پر نيست | |
بسرى شور عشقت ار نبود | بحقيقت دم است و آن سر نيست | |
دل كه از نور تو نديده فروغ | تيره جانى بود منور نيست | |
برضاى تو سالك صادق | هر چه پيش آيدش مكدر نيست | |
كانچه آمد مقدر است همان | و آنچه كو نامده مقدر نيست | |
سالك راه را ره آوردى | جز خموشى و فكر آخر نيست | |
عاشق تشنه وصالت را | خبر از هر چه هست يكسر نيست | |
بهر راز و نياز درگاهت | تن او را نياز بستر نيست | |
با تو محشور هم در امروز است | انتظارش بروز محشر نيست | |
آتشى كو فتاده در جانش | عين نار الله است و أخگر نيست | |
عاشقى كار شير مردانست | سخره كودكان معبر نيست | |
اوفتادن در آتش سوزان | جز كه در عهده سمندر نيست | |
آنچه عاشق كند تماشايش | اى برادر به ديده سر نيست | |
لذة خلوت شبانه او | در گل قند و شهد و شكر نيست | |
مزه باده حضورش در | چشمه سلسبيل و كوثر نيست | |
آنچه اندر حضور مىيابد | خامه در شرح او توانگر نيست | |
عوض گريه سحرگاهش | گر بگويد اميد باور نيست | |
لاجرم آن سعيد فرزانه | در پى تاج و تخت و افسر نيست | |
هست ايمان باللهش سدى | كه چنو صد سد سكندر نيست | |
بهتر از لا إله إلا الله | هيچ حصنى و برج و سنگر نيست | |
اندرين كشور بزرگ جهان | جز خداى بزرگ داور نيست | |
كشتى ممكنات عالم را | جز كه نام خداى لنگر نيست | |
آنچه پنهان و آشكار بود | جز كه مجلاى يار و مظهر نيست | |
نيست جز او زدار و من في الدار | نى كه همسنگ او و همسر نيست | |
قائل و قيل و قولى و قالا | جز كه اطوار قول مصدر نيست | |
زين مثل آنچه بايدش گفتن | گفتم و بيش ازين ميسر نيست | |
اى كه دورى ز گلشن عشاق | جانت از بوى خوش معطر نيست | |
اى كه غافل ز حال خويشتنى | گويمت چون تو كورى و كر نيست | |
گر بدى كردهاى ز خود ميدان | گنه مهر و ماه و أختر نيست | |
تو بهشت خودى و دوزخ خود | جز كه نفس تو مار و أژدر نيست | |
مسلم همدم هوا و هوس | مشركست و باسم كافر نيست | |
آن شكم پرور است حيوانى | گر چه نامش حمار و أستر نيست | |
اى كه خو كردهاى به نادانى | اين ره مردمان بافر نيست | |
آدمى را درين سراى سپنج | جز بدانش جمال و زيور نيست | |
علم آب حيات جان باشد | بهر تحصيل سيم يا زر نيست | |
رو پى مصطفى شوى بوذر | فيض حق وقف خاص بوذر نيست | |
تو در آ از حجاب نفسانى | تا كه بينى هر آنچه مبصر نيست | |
آخر اى دوستان بخود رحمى | كافرينش به لاف و تسخر نيست | |
حسن نجم آملي طبعش | چشمه حكمت است و ديگر نيست | |
ثم أقول: لا ريب أن الاقتحام في ذلك المشهد العظيم فوق شأن هذا المسكين الذي لم يذق حلاوة ذكر الله و لم يتنعم بنعمة المراقبة و الحضور و لم يخرج من سجن الدنيا الدنية و من ظلمة دار الغرور، إلى عالم النور و السرور، يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله، و لله در الشاعر قائلا:
خلق الله للحروب رجالا | و رجالا لقصعة و تريد | |
و لكن كما قيل: ألق في الدلاء دلوك نشير إلى عدة آيات و روايات و أدعية و أذكار و مطالب رشيقة أنيقة من كبار تنبيها للغافلين و أنا منهم، و تذكرة للمستبصرين، فنقول: قد بحثنا عن رؤيته تعالى في شرحنا على المختار الثامن من كتب أمير المؤمنين عليه السلام من النهج (ص 242- إلى 323 ج 17) لكن ذلك البحث كان طورا، و هذا البحث طور آخر، و إن كان أحدهما يعاضد الاخر، و قد أشرنا هنا لك إلى هذا المطلب الأسنى أعنى البحث عن لقاء الله أيضا إجمالا فإن شئت قلت إن هذا البحث مكمل ذلك.
اعلم أن القرآن الكريم قد نطق في مواضع كثيرة بلقائه تعالى فنأتي بها لأنها شفاء و رحمة للمؤمنين:
1- فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا (آخر الكهف).
2- قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها و هم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون (الأنعام: 32).
3- ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن و تفصيلا لكل شيء و هدى و رحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (الأنعام: 155).
4- إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها و الذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون (يونس: 8).
5- الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش و سخر الشمس و القمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (الرعد: 3).
6- من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت و هو السميع العليم (العنكبوت: 6).
7- أ و لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى و إن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (الروم: 9).
8- الذي أحسن كل شيء خلقه و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه و نفخ فيه من روحه و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون (الم السجدة: 8- 11).
9- سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط (آخر فصلت، حم السجدة).
10 و 11- إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها و الذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين و لو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون (يونس: 8- 12).
12- و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى
إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (يونس: 16).
13- و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا (الفرقان: 22).
14- قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (الكهف: 106).
15- و الذين كفروا بآيات الله و لقائه أولئك يئسوا من رحمتي و أولئك لهم عذاب أليم (العنكبوت: 24).
16- و استعينوا بالصبر و الصلاة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم و أنهم إليه راجعون (البقرة: 47).
17- قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين (البقرة: 250).
18- و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين- إلى قوله: و يا قوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجري إلا على الله و ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم و لكني أراكم قوما تجهلون (هود: 30).
19- يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا و سبحوه بكرة و أصيلا هو الذي يصلي عليكم و ملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور و كان بالمؤمنين رحيما تحيتهم يوم يلقونه سلام و أعد لهم أجرا كريما (الأحزاب: 45).
20- يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (الإنشقاق: 7).
21- رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (المؤمن، غافر: 18).
22- وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة (القيامة: 24).
23- و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك
من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين (الأنعام: 53).
24- و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم- الاية (الكهف: 29).
25- و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم و أقاموا الصلاة- الاية (الرعد: 23).
26 و 27- فآت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله- الاية، و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون (39 و 40 الروم).
28- فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب و تولى و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف، (آخر سورة الليل).
و اعلم أن غير واحد من المفسرين ذهبوا في تفسير لقاء الله إلى لقاء العبد ثواب أعماله أو عقابها و نحوهما، و هذا الرأى كأنما نشأ من توهم القوم اللقاء بمعنى الرؤية بالأبصار و لا يدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير، فلما فهموا من اللقاء هذا المعنى احتاجوا إلى تقدير الثواب أو العقاب، أو حمل اللقاء على معنى آخر يناسب ما توهموه، و لكن ما مالوا إليه و هم و ليس اللقاء إلا الرؤية القلبية كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في جواب حبر قال له: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال عليه السلام: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: و كيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، و قال علم الهدى في الغرر و الدرر (ص 150 ج 1): أتى أعرابى أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام فقال له: هل رأيت ربك حين عبدته، نحو الخبر المذكور إلى آخره.
و قد فسرنا هذا الحديث في شرحنا على المختار الثامن من باب الكتب من النهج و قد بينا هناك أن ما يتبادر إلى الأذهان من معنى الرؤية و نحوها هو الرؤية بالعين و ذلك للالف بالمحسوسات و الحشر معها، و أما السير إلى باطن هذه النشأة و السفر إليه و ادراك ما عبى في كلام الله المتعال و سفرائه و وجدانها من الدقائق و اللطائف فلا يتيسر إلا لواحد بعد واحد.
كما دريت أيضا أن الرؤية القلبية به تعالى هي الكشف الحضورى و شهوده تعالى للعبد على مقدار تقربه منه تعالى بقدم المعرفة و درج معارف العقل، فراجع إلى المجلد السابع عشر من ص 308، إلى 323.
قلوب العارفين لها عيون | ترى ما لا يراه الناظرونا | |
و قلت في قصيدتي التوحيدية:
آنچه عاشق كند تماشايش | اى برادر بديده سر نيست | |
و لا نعنى من اللقاء الرؤية بكنهه تعالى فإن معرفته بالاكتناه لا يتيسر لما سواه و ذلك لأن المعلول لا يرى علته إلا بمقدار سعة وجوده، و المعلول ظل علته و عكسها و الظل مرتبة ضعيفة من ذيه و لذا قالوا إن العلم بالعلة من العلم بالمعلوم علم بها من وجه يعنى أنه علم ناقص بالعلة بقدر ظرف المعلول سعة و ضيقا، لا يحيطون به علما و عنت الوجوه للحى القيوم.
و قد أفاد في ذلك فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندى رحمة الله عليه بقوله: إذا كانت العلة الاولى متصلة بنا لفيضه علينا و كنا غير متصلين به إلا من جهته فقد يمكن فينا ملاحظته على قدر ما يمكن للمفاض عليه أن يلاحظ المفيض فيجب أن لا ينسب قدر إحاطته بنا إلى قدر ملاحظتنا له لأنها أغزر و أوفر و أشد استغراقا. و نعم ما أفاد، لله دره، و لا يخفى على اولى النهى أن هذا الكلام سام بعيد الغور.
و ما أجاد قول المحقق العارف أفضل الدين الكاشي في المقام:
گفتم همه ملك حسن سرمايه تست | خورشيد فلك چو ذره در سايه تست | |
گفتا غلطى ز ما نشان نتوان يافت | از ما تو هر آنچه ديدهاى پايه تست | |
و تبصر مما قدمنا أنه ما من موجود إلا و هو علم الحق تعالى لأن علمه بما سواه حضوري إشراقي، لم يعزب عن علمه مثقال ذرة.
و أفاد العلامة الشيخ البهائى في شرح الحديث الثاني من كتابه الأربعين:
المراد بمعرفة الله تعالى الإطلاع على نعوته و صفاته الجلالية و الجمالية بقدر الطاقة البشرية، و أما الإطلاع على حقيقة الذات المقدسة فمما لا مطمع فيه للملائكة المقربين و الأنبياء المرسلين فضلا عن غيرهم، و كفى في ذلك قول سيد البشر صلى الله عليه و آله: ما عرفناك حق معرفتك، و في الحديث إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار و إن الملاء الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم.
فلا تلتفت إلى من يزعم أنه قد وصل إلى كنه الحقيقة المقدسة بل احث التراب في فيه فقد ضل و غوى و كذب و افترى فإن الأمر أرفع و أطهر من أن يتلوث بخواطر البشر، و كلما تصوره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ، و أقصى ما وصل إليه الفكر العميق فهو غاية مبلغه من التدقيق و ما أحسن ما قال:
آنچه پيش تو غير از آن ره نيست | غايت فهم تست الله نيست | |
بل الصفات التي تثبتها له سبحانه إنما هي على حسب أو هامنا و قدر أفهامنا فإنا نعتقد اتصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة و هو تعالى أرفع و أجل من جميع ما نصفه به.
و في كلام الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى حيث قال: كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم و لعل النمل الصغار تتوهم أن لله تعالى زبانيتين فإن ذلك كمالها، و تتوهم أن عدمهما نقصان لمن لا يتصف بهما و هكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به.
انتهى كلامه صلوات الله عليه و سلامه.
قال بعض المحققين- يعني به المولى الجلال الدواني-: هذا كلام دقيق رشيق أنيق صدر من مصدر التحقيق و مورد التدقيق، و السر في ذلك أن التكليف
إنما يتوقف على معرفة الله بحسب الوسع و الطاقة، و إنما كلفوا أن يعرفوه بالصفات التي ألفوها و شاهدوها فيهم مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم.
و لما كان الإنسان واجبا بغيره عالما قادرا مريدا حيا متكلما سميعا بصيرا كلف بأن يعتقد تلك الصفات في حقه تعالى مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إلى الإنسان بأن يعتقد أنه تعالى واجب لذاته لا بغيره، عالم بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات و هكذا في سائر الصفات، و لم يكلف باعتقاد صفة له تعالى لا يوجد فيه مثالها و مناسبها، و لو كلف به لما أمكنه تعقله بالحقيقة، و هذا أحد معانى قوله عليه السلام: من عرف نفسه فقد عرف ربه، انتهى كلامه.
و اعلم أن تلك المعرفة التي يمكن أن تصل إليها أفهام البشر لها مراتب متخالفة و درج متفاوتة، قال المحقق الطوسي طاب ثراه في بعض مصنفاته: إن مراتبها مثل مراتب معرفة النار مثلا فإن أدناها من سمع أن في الوجود شيئا يعدم كل شيء يلاقيه، و يظهر أثره في كل شيء يحاذيه، و أى شيء اخذ منه لم ينقص منه شيء و يسمى ذلك الموجود نارا، و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة المقلدين الذين صدقوا بالدين من غير وقوف على الحجة.
و أعلى منها مرتبة من وصل إليه دخان النار و علم أنه لا بد له من مؤثر فحكم بذات لها أثر هو الدخان، و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل النظر و الإستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع.
و أعلى منها مرتبة من أحس بحرارة النار بسبب مجاورتها و شاهد الموجودات بنورها و انتفع بذلك الأثر، و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى سبحانه معرفة المؤمنين الخلص الذين اطمأنت قلوبهم بالله و تيقنوا أن الله نور السموات و الأرض كما وصف به نفسه.
و أعلى منها مرتبة من احترق بالنار بكليته و تلاشى فيها بجملته، و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود و الفناء في الله و هي الدرجة العليا و المرتبة القصوى رزقنا الله الوصول إليها و الوقوف عليها بمنه و كرمه، انتهى
كلامه أعلى الله مقامه، هذا آخر ما أردنا من نقل ما أتى به العلامة الشيخ البهائى طاب ثراه في المقام.
و معنى قوله- ره-: «فإنا نعتقد اتصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة» أن العقل ينظر إلى الحياة و عدمها و هما نقيضان فيرى أن الحياة أشرف من الموت فيعتقد باتصافه سبحانه بها فيقول: إنه حى، و ينظر إلى العلم و نقيضه الجهل فيعتقد باتصافه تعالى بالأشرف منهما فيقول: انه عالم و هكذا.
و معنى كلام الدوانى: «و لم يكلف باعتقاد صفة له تعالى لم يوجد فيه مثالها و مناسبها» يعلم من كلامنا الاتي في أسماء الله المستأثرة إنشاء الله تعالى.
و بالجملة أن ما يفهم الناس في مقام خطابهم الله تعالى و ندائهم إياه هو ما يجده أهل المعرفة و يسمون ذلك الوجدان بالكشف و الشهود.
قال العلامة الشيخ البهائى قدس سره في الكشكول (ص 416 من طبع نجم الدولة): العارف من أشهده الله تعالى صفاته و أسماءه و أفعاله فالمعرفة حال تحدث عن شهود، و العالم من اطلعه الله على ذلك لا عن شهود بل عن يقين.
و من ذاق هذه الحلاوة و التذ بتلك اللذة و تنعم بتلك النعمة فقد فاز فوزا عظيما، و هذا الوجدان الشهودى الحضوري الحاصل لأهله يدرك و لا يوصف و هو طور وراء طور العقل يتوصل إليه بالمجاهدات الكشفية دون المناظرات العقلية.
و لا يقدر أهله أن يقرره لغيره على النحو الذي أدركه، و لا يعدله لذة و لا ابتهاج، و انظر إلى قول ولى الله المتعال الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي باسناده عن جميل بن دراج عنه عليه السلام قال:لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله تعالى ما مدوا أعينهم إلى ما متع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا و نعيمها و كانت دنياهم أقل عندهم مما يطئونه بأرجلهم، و لنعموا بمعرفة الله تعالى، و تلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله، إن معرفة الله انس من كل وحشة، و صاحب من كل وحدة و نور من كل ظلمة، و قوة من كل ضعف، و شفاء من كل سقم، قال: قد كان قبلكم قوم يقتلون و يحرقون و ينشرون بالمناشير، و تضيق عليم الأرض برحبها فما يردهم عما هم عليه شيء مما هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم و لا أذي مما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، فسلوا ربكم درجاتهم و اصبروا على نوائب دهركم، (باب ثواب العالم و المتعلم من المجلد الأول من الوافي ص 42).
ثم إن التوغل في عالم الطبيعة الذي هو عالم الكثرة و الشتات صار حجابا للمتوغلين فيه و لو خلصوا منه و أقبلوا إلى ما هو الحق الأصيل و عرفوا معنى التوحيد و الفناء فيه و صاروا موحدين على النهج الذي قال عز من قائل: هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن (الحديد: 4) بلا تنزيه محض و تشبيه باطل لارتفع الخلاف و النزاع بينهم، و لما شاجروا أهل المعرفة في ما يجدونه و يرونه قائلين: ما كنا نعبد ربا لم نره.كما أن من لم يقدر الجمع بين الجمع و التفرقة إذا سمع من الفائزين به ينكره كل الإنكار.
و إذا تفوه فان في التوحيد بقوله: ليس في الدار غيره ديار، أو ليس الدار و من في الدار إلا هو، أو أن الله كل الأشياء أو نحوها من العبارات تقول عليه من لم يدرك فهم كلامه بعض الأقاويل و لم يعلم أن سببه إنما هو تراكم عروق سبل الجهل المركب الناشئة من التقليدات الراسخة المانعة له عن ذلك الإدراك.
بل كثيرا ما نرى أصاغر لا يبالون بما يقولون إذا سمعوا من متأله أن الوجود واحد لا تعدد فيه و الوجود هو الله تعالى أسندوه إلى الكفر و الإلحاد و الزندقة و لم يعلموا أن نفي الوجود الحقيقى عن الأشياء ليس قولا بأن كل شيء هو الله و ليس قولا بالإتحاد و قد نقل طود العلم و التقى العارف المتأله المولى ميرزا جواد آقا الملكى التبريزى أعلى الله تعالى درجاته في كتابه القيم المعمول في لقاء الله تعالى حكاية بقوله:
حكى أن حكيما كان في أصبهان و كان من دأبه أنه إذا حضر وقت غذائه يرسل خادمه يشترى له و لمن كان عنده كائنا من كان غذاء يأكل معه، و اتفق في يوم أن جاءه واحد من طلاب البلد لحاجة وقت الغذاء، فقال الحكيم لخادمه:اشتر لنا غذاء نتغذى و ذهب الخادم و اشترى لهما غذاء و أحضره، قال الحكيم للفاضل: بسم الله، تعال، نتغذى، قال الشيخ: أنا لا أتغذي، قال: تغذيت؟ قال: لا، قال:لم لا تتغذي و أنت ما تغذيت بعد؟! قال: احتاط أن آكل من غذائكم، قال: ما وجه احتياطك؟ قال: سمعت أنك تقول بوحدة الوجود و هو كفر و لا يجوز لى أن آكل من طعامك معك لأنه ينجس من ملاقاتك، قال: ما فرضت أنت معنى وحدة الوجود و حكمت بكفر قائله؟ قال: من جهة أن القائل به قائل بأن الله كل الأشياء و جميع الموجودات هو الله، قال: أخطأت تعال تغذ لأنى قائل بوحدة الوجود و لا أقول بأن جميع الأشياء هو الله لأن من جملة الأشياء جنابك و أنا لا أشك في كونك بدرجة الحمار أو أخس منها فأين القول بإلهيتك؟! فلا احتياط و لا إشكال تعالى تغذ انتهى.
و قلت: قدر أى حكيم ناسكا جاهلا في يده سبحة يذكر الحكماء واحدا بعد واحد و يلعنهم فقال له: لما ذا تلعنهم و ما أوجب لعنهم؟ قال: لأنهم قائلون بوحدة واجب الوجود، فتبسم الحكيم ضاحكا من قوله فقال له: أنا أيضا قائل بوحدة واجب الوجود فاشتد الناسك غضبا فقال: اللهم العنه.
و اعلم أن البحث عن وحدة الوجود تارة يتوهم أن الوجود شخص واحد منحصر بفرد هو الواجب بالذات و ليس لمفهوم الوجود مصداق آخر، و غيره من الموجودات كالسماء و الأرض و النبات و الحيوان و النفس و العقل خيالات ذلك الفرد أى ليس سوى ذلك الفرد شيء و هذه الموجودات ليست أشياء اخرى غيره كماء البحر و أمواجه حيث إن تلك الأمواج المختلفة في الكبر و الصغر ليست إلا ماء البحر، إلا أن اختلاف الأمواج و كثرتها يوهم أنها موجودات بحيالها غير الماء فهذا التوهم مخالف لكثير من القواعد العقلية الحكمية الرصينة المباني، لأنه يوجب نفي علية الحق و معلولية الممكنات حقيقة و عدم افتقار الممكنات رأسا، بل يوجب نفيها أصلا، و بالجملة أن مفاسدها كثيرة عقلا و شرعا و لم يتفوه به أحد من الحكماء المتألهين و العرفاء الشامخين و نسبته إليهم اختلاق كبير و إفك عظيم.على أن الاثار المختلفة المتنوعة المشهورة من أنواع الموجودات حسا و عيانا ترد هذا الوهم و تبطله و تنادى بأعلى صوتها أنها مولود من فطانة بتراء.
قال صدر المتألهين في مبحث العلة و المعلول من الأسفار (الفصل 27 من المرحلة الرابعة في اثبات التكثر في الحقائق الإمكانية ص 190 ج 1 من الرحلى و ص 318 ج 2 من الطبع الجديد):
إن أكثر الناظرين في كلام العرفاء الالهيين حيث لم يصلوا إلى مقامهم و لم يحيطوا بكنه مرامهم ظنوا أنه يلزم من كلامهم في إثبات التوحيد الخاصى في حقيقة الوجود و الموجود بما هو موجود وحدة شخصية أن هويات الممكنات امور اعتبارية محضة و حقائقها أوهام و خيالات لا تحصل لها إلا بحسب الإعتبار حتى أن هؤلاء الناظرين في كلامهم من غير تحصيل مرامهم صرحوا بعدمية الذوات الكريمة القدسية و الأشخاص الشريفة الملكوتية كالعقل الأول و سائر الملائكة المقربين و ذوات الأنبياء و الأولياء و الأجرام العظيمة المتعددة المختلفة بحركاتها المتعددة المختلفة جهة و قدرا و آثارها المتفننة و بالجملة النظام المشاهد في هذا العالم المحسوس و العوالم التي فوق هذا العالم مع تخالف أشخاص كل منها نوعا و تشخصا و هوية و عددا و التضاد الواقع بين كثير من الحقائق أيضا.
ثم إن لكل منها آثارا مخصوصة و أحكاما خاصة و لا نعنى بالحقيقة إلا ما يكون مبدأ أثر خارجى و لا نعنى بالكثرة إلا ما يوجب تعدد الأحكام و الاثار فكيف يكون الممكن لا شيئا في الخارج و لا موجودا فيه.
و ما يتراءى من ظواهر كلمات الصوفية أن الممكنات امور اعتبارية أو انتزاعية عقلية ليس معناه ما يفهم منه الجمهور ممن ليس له قدم راسخ في فقه المعارف و أراد أن يتفطن بأغراضهم و مقاصدهم بمجرد مطالعة كتبهم كمن أراد أن يصير من جملة الشعراء بمجرد تتبع قوانين العروض من غير سليقة يحكم باستقامة الأوزان او اختلالها عن نهج الوحدة الإعتدالية.
فانك إن كنت ممن له أهلية التفطن بالحقائق العرفانية لأجل مناسبة ذاتية و استحقاق فطري يمكنك أن تتنبه مما أسلفناه من أن كل ممكن من الممكنات يكون ذا جهتين: جهة يكون بها موجودا واجبا لغيره من حيث هو موجود و واجب لغيره و هو بهذا الإعتبار يشارك جميع الموجودات في الوجود المطلق من غير تفاوت، و جهة اخرى بها يتعين هويتها الوجودية و هو اعتبار كونه في أى درجة من درجات الوجود قوة و ضعفا كمالا و نقصا فإن ممكنية الممكن إنما ينبعث من نزوله عن مرتبة الكمال الواجبي و القوة الغير المتناهية و القهر الأتم و الجلال الأرفع و باعتبار كل درجة من درجات القصور عن الوجود المطلق الذي لا يشوبه قصور و لا جهة عدمية و لا حيثية امكانية يحصل للوجود خصائص عقلية و تعينات ذهنية هي المسمات بالمهيات و الأعيان الثابتة فكل ممكن زوج تركيبى عند التحليل من جهة مطلق الوجود و من جهة كونه في مرتبة معينة من القصور، إلى آخر ما أفاد قدس سره.
و قال الحكيم السبزوارى رضوان الله عليه في بيانه: المغالطة نشأت من خلط الماهية بالهوية و اشتباه الماهية من حيث هي بالحقيقة و لم يعلموا أن الوجود عندهم أصل فكيف يكون الهوية و الحقيقة عندهم اعتباريا، أم كيف يكون الجهة النورانية من كل شيء التي هي وجه الله و ظهوره و قدرته و مشيته المبينة للفاعل لا للمفعول اعتباريا، تعالى ذيل جلاله عن علوق غبار الإعتبار، فمتى قال العرفاء الأخيار أولو الأيدى و الأبصار: إن الملك و الفلك و الإنسان و الحيوان و غيرها من المخلوقات اعتبارية، أرادوا شيئيات ماهياتها الغير المتأصلة عند أهل البرهان و عند أهل الذوق و الوجدان و أهل الإعتبار ذهب أوهامهم إلى ماهياتها الموجودة بما هي موجودة أو إلى وجوداتها حاشاهم عن ذلك بل هذا نظر عامي منزه ساحة عز الفضلاء عن ذلك.
نظير ذلك إذا قال: الإنسان مثلا وجوده و عدمه على السواء أو مسلوب ضرورتى الوجود و العدم أراد بشيئية ماهية الإنسان و نحوه أنها كذلك و ظن العامي الجاهل أنه أراد الانسان الموجود في حال الوجود أو بشرط الوجود و لم يعلم أنه في حال الوجود و بشرطه محفوف بالضرورتين و ليست النسبتان متساويتين و لا جائزتين إذ سلب الشيء عن نفسه محال و ثبوت الشيء لنفسه واجب، بل لو قيل: بأصالة الماهية فالماهية المنتسبة إلى حضرة الوجود أصلية عند هذا القائل لا الماهية من حيث هي فإنها اعتبارية عند الجميع، و قول الشيخ الشبسترى: تعينها امور اعتباريست، ينادى بما ذكرناه.
و بما حققناه علمت أن ما توهمه بعض من أن الوجود مع كونه عين الواجب و غير قابل للتجزى و الانقسام قد انبسط على هياكل الموجودات و ظهر فيها فلا يخل منه شيء من الأشياء بل هو حقيقتها و عينها و إنما امتازت و تعينت بتقيدات و تعينات و تشخصات اعتبارية، و يمثل ذلك بالبحر و ظهوره في صورة الأمواج المتكثرة مع أنه ليس هناك إلا حقيقة البحر فقط، ليس على ما ينبغي بل وهم، اللهم إلا أن يقال: إن مراده من قوله: و يمثل ذلك بالبحر و ظهوره في صورة الأمواج المتكثرة ليس محمولا على ظاهره بل المراد شدة افتقار ما سواه تعالى به فان الكل قائم به كالأمواج بالبحر مثلا، أو نحو هذا المعنى.
و تارة يعقل من الوحدة الدايرة في ألسنتهم الوحدة السنخية لا الوحدة الشخصية المذكورة بمعنى أن أعلى مرتبة الوجود كالأول تعالى متحد مع أدنى مرتبته و أضعف الموجودات كالجسم و الهيولى في سنخ أصل حقيقة الوجود و التفاوت و التمايز إنما في الشدة و الضعف و النقص و الكمال و عظم درجة الوجود و صغرها و تفاوت شئون الوجود من الحياة و العلم و القدرة و نحوها، و بالجملة أن ما به الامتياز عين ما به الإتفاق و أهل الحكمة يسمون هذا المعنى بالوحدة السنخية، و الاشتراك المعنوى في الوجود، و هذا رأى الفهلويين من الحكماء نظمه المتأله السبزواري قدس سره في غرر الفرائد بقوله:
الفهلويون الوجود عندهم | حقيقة ذات تشكك تعم | |
مراتبا غنى و فقرا تختلف | كالنور حيثما تقوي و ضعف | |
و هذا الرأى لا ينافي أمرا من الامور العقلية، و لا المباني الشرعية، بل ذهب أكثر المحققين إلى أن صدور المعلول من العلة إنما يصح على هذا المبنى، لأن الموجودات لو كانت حقائق متبائنة كما اسند إلى طائفة يستلزم مفاسد كثيرة منها عدم كون ما سوى الله تعالى آياته و علاماته لأن السنخية بين العلة و المعلول حكم عقلي لا يشوبه ريب، و ذلك لأن الشيء لا يصدر عنه ما يضاده و لا يثمر ما يباينه و إلا يلزم أن لا يكون وجود العلة حدا تاما لوجود معلولها، و لا وجود المعلول حدا ناقصا لوجود علته، كما يلزم أن لا يكون حينئذ العلم بالعلة مستلزما للعلم بالمعلول، و الكل كما ترى.
و أما هؤلاء الطائفة فظاهر الكلام الحكيم المتأله السبزواري قدس سره الشريف في الغرر هم المشاءون كلهم حيث قال: و الوجود عند طائفة مشائية من الحكماء حقائق تباينت، و الدائر في ألسنة كثير ممن عاصرناهم كذلك أيضا، و لكن صريح كلام ابن تركه في كتاب التمهيد في شرح رسالة قواعد التوحيد: أن مذهب المشاءين في هذه المسألة التشكيك، حيث قال في شرح كلام المصنف تركة:«ثم إن الوجود الحاصل للماهيات المختلفة و الطبايع المتخالفة- إلخ»: أقول: هذا دليل على بطلان القول بالتشكيك الذي هو مبنى قواعد المشاءين في هذه المسألة و عمدة عقائدهم. انتهى ما أردنا من نقل كلامه (ص 48 طبع ايران 1351).و لا يخفى عليك أن كلام ابن تركه يبائن كلام السبزوارى، و لا يبعد أن يقال: إن مراده من طائفة مشائية بعضهم و الله سبحانه أعلم.
و ثالثة يعقل من الوحدة الوحدة الشخصية غير الوجه الأول الباطل بل بمعنى أن الوجود واحد كثير، أي إنه مع كونه واحدا بالشخص كثير و تلك الكثرة و التعدد و اختلاف الأنواع و الاثار لا تنافي وحدته لأن الوحدة من غاية سعتها و إحاطتها بما سواها تشمل على جميع الكثرات الواقعية، و الوجود حقيقة واحدة و لها وحدة لا تقابل الكثرة و هي الوحدة الذاتية، و كثرة ظهوراتها و صورها لا تقدح في وحدة ذاتها.
و يعبرون عن هذا المعنى بالوحدة في عين الكثرة، و الكثرة في عين الوحدة، و يمثلونه بالنفس الناطقة الإنسانية لأن كل إنسان شخص واحد بالضرورة، قال عز من قائل: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه (الأحزاب: 4) و النفس الناطقة مع أنها واحدة بالشخص هي عين جميع قواها الظاهرة و الباطنة و تلك القوى مع كونها كثيرة هي عين النفس الناطقة الواحدة بالشخص.
فالنفس بالحقيقة هي العاقلة المتوهمة المتخيلة الحساسة المحركة المتحركة و غيرها و هي الأصل المحفوظ في القوى لا قوام لها إلا بها، قال المتأله السبزواري في بعض تعاليقه على كتابه غرر الفرائد: و الحق أن وجود النفس ذا مراتب و أنها الأصل المحفوظ فيها و أن كل فعل لأية قوة تنسب في الحقيقة فعلها بلا مجاز وجداني، و هذا ذوق أرباب العرفان، قال الشيخ العربي في فتوحاته:
النفس الناطقة هي العاقلة و المفكرة و المتخيلة و الحافظة و المصورة و المغذية و المنمية و الجاذبة و الدافعة و الهاضمة و الماسكة و السامعة و الباصرة و الطاعمة و المستنشقة و اللامسة و المدركة لهذه الامور، فاختلاف هذه القوى و اختلاف الأسماء ليست بشيء زائد عليها، بل هي عين كل صورة هذا كلامه.
فأنوار المراتب المسماة بالقوى كلها فانية في نور النفس الناطقة، و التنزيه الذي يراعيه الحكماء إنما هو لئلا يقف الأذهان في مراتب جسمها و جسمانيتها كأذهان الطباعية و العوام و هو يرجع إلى تنزيه مرتبة منها هي أعلى مراتبها و هي المسماة بذاتها، و البواقي اشراقاتها المتفاضلة، انتهى كلامه- قده.
قال صدر المتألهين قدس سره في الأسفار: إن النفس الإنسانية ليس لها مقام معلوم في الهوية و لا لها درجة معينة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعية و النفسية و العقلية التي كل له مقام معلوم، بل النفس الانسانية ذات مقامات و درجات متفاوتة، و لها نشئات سابقة و لاحقة، و لها في كل مقام عالم و صورة اخرى.
و بيان هذا القول المنيع الشريف يطلب من كتابه في المبدأ و المعاد حيث قال فيه (ص 282): الوحدة الشخصية في كل شيء ليست على وتيرة واحدة و درجة واحدة فإن الوحدة الشخصية في الجواهر المجردة حكمها غير الوحدة الشخصية في الجواهر المادية، فإن في الجسم الواحد الشخصي يستحيل أن يجتمع أوصاف متضادة و أغراض متقابلة من السواد و البياض و السعادة و الشقاوة و اللذة و الألم و العلو و السفل و الدنيا و الاخرة و ذلك لضيق حوصلة ذاته و قصر ردائه الوجودي عن الجمع بين الامور المتخالفة بخلاف وجود الجوهر النطقي من الإنسان فإنها مع وحدتها الشخصية جامعة للتجسم و التجرد و حاصرة للسعادة و الشقاوة فانها قد يكون في وقت واحد في أعلى عليين و ذلك عند تصور أمر قدسي، و قد يكون في أسفل سافلين و ذلك عند تصور أمر شهوي، و قد يكون ملكا مقربا باعتبار و شيطانا مريدا باعتبار.
و ذلك لأن إدراك كل شيء هو بأن ينال حقيقة ذلك الشيء المدرك بما هو مدرك بل بالاتحاد معه كما رآه طائفة من العرفاء و أكثر المشاءين و المحققون و صرح به الشيخ أبو نصر فى مواضع من كتبه، و الشيخ اعترف به في كتابه المسمى بالمبدإ و المعاد و في موضع من الشفاء حيث قال في الفصل السادس من المقالة التاسعة من الإلهيات بهذه العبارة:ثم كذلك حتى يستوفى في النفس هيئة الوجود كله فينقلب عالما معقولا مقبولا موازيا للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق و الخير المطلق و الجمال الحق و متحدة به و منتقشة بمثاله و هيئاته و منخرطة في سلكه و سائرة من جوهره.
و مما يؤيد ذلك أن المدرك بجمع الإدراكات و الفاعل بجميع الأفاعيل الواقعة من الإنسان هو نفسه الناطقة النازلة إلى مرتبة الحواس و الالات و الأعضاء و الصاعدة إلى مرتبة العقل المستفاد و العقل الفعال في آن واحد و ذلك لسعة وجودها و بسط جوهريتها و انتشار نورها في الأكناف و الأطراف بل يتطور ذاتها بالشئون و الأطوار و تجليها على الأعضاء و الأرواح، و تحليها بحلية الأجسام و الأشباح مع كونها من سنخ الأنوار و معدن الأسرار.
و من هذا الأصل تبين و تحقق ما ادعيناه من كون شيء واحد، تارة محتاجا في وجوده إلى عوارض مادية و لواحق جسمية و ذلك لضعف وجوده و نقص تجوهره، و تارة ينفرد بذاته و يتخلص بوجوده و ذلك لاستكمال ذاته و تقوى انيته و ما اشتهر بين متقدمى المشاءين أن شيئا واحدا لا يكون له إلا أحد نحوى الوجود الرابطي و الاستقلالي غير مبرهن عليه بل الحق خلافه، نعم لو اريد منه أن الوجود الواحد من جهة واحدة لا يكون ناعتيا و غير ناعتي لكان صحيحا. انتهى كلامه قدس سره.
و يعبرون عن الوحدة الجمعية التي في الحق سبحانه بالوحدة الحقة الحقيقية و التي في النفس بالوحدة الحقة الظلية، و من كان عين بصيرته مفتوحة يعرف من هذا سر قوله صلى الله عليه و آله: من عرف نفسه فقد عرف ربه، قال علم الهدى الشريف المرتضى رضوان الله عليه في المجلس التاسع عشر من أماليه غرر الفوائد و درر القلائد (274 ج 1):
روي أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و آله سألته متى يعرف الإنسان ربه؟ فقال: إذا عرف نفسه، و في ص 329 ج 2 منه روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه، قال العارف الرومي:
سايه يزدان بود بنده خدا | مرده اين عالم و زنده خدا | |
كيف مد الظل نقش أوليا است | كو دليل نور خورشيد خدا است | |
و تسمى هذه الكثرة بالكثرة النورية، و هي كلما كانت أوفر كانت في الوحدة أوغر، و قد اختار الخواجه لسان الغيب هذا المعنى في قوله:
زلف آشفته او موجب جمعيت ما است | چون چنين است پس آشفتهترش بايد كرد | |
و في قوله الاخر:
از خلاف آمد دوران بطلب كام كه من | كسب جمعيت از آن زلف پريشان كردم | |
و قد اختار صدر المتألهين المولى صدرا قدس سره الشريف هذا الوجه،و شنع على القسم الأول و أبطله في مبحث العلة و المعلول من الأسفار، كما دريت و هذا وجه وجيه شريف دقيق يوافقه البرهان و ذوق العرفان و الوجدان و لا ينافي أمرا.
و رابعة يعقل معنى الوحدة على وجه أدق و ألطف من الوجوه المتقدمة و أعلى و أرفع منها، و الإخلاص في العبادة كما ندب إليه العقل و النقل مقدمة لحصول هذا المقام المنيع الأسنى، و سلم للارتقاء إلى هذا المنظر الرفيع الأعلى، و من راقب الإخلاص و الحضور يستعد للوصول إلى هذه الرتبة العظمى و الجنة العليا و فيها ما تشتهى الأنفس و تلذ الأعين فيرى ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و قد سلك إليه العرفاء الشامخون.
تقريره: أنه لا شبهة بوجود الكثرة و التعدد و اختلاف الأنواع و الأصناف و الأفراد، و الله جل جلاله في إيجاد الممكنات المختلفة و تكوينها، قد ظهر و تجلى بالحياة و القدرة، و العلم و الإرادة تجلى المتكلم الفصيح البليغ في كلامه، و ظهور عاكس كإنسان مثلا في مرائي متعددة مختلفة جنسا و لونا و شكلا وجهة و عظما و صغرا و غيرها من الصفا و الكدرة و لا ريب أن ما يرى من عكوسه المختلفة في أنحاء كثيرة في تلك المرائي ظهوره فيها لا وجوده فيها، و لا حلوله فيها، و لا اتحاده معها، و كذا الكلام في تجلى المتكلم في كلامه.
فإذا نظر شخص آخر في تلك المرائي و المظاهر يرى عكوس الأول المتعددة المختلفة فيها، كما يرى تلك المرائي أيضا، فمن وقع نظره على العكوس المتفاوتة بالمحال و المجالي من غير أن يجعلها عنوانات للعاكس فهو يزعمها أشياء مستقلة بذواتها، و قد غاب عن العاكس كما هو مذهب عامة الناس.
و من جعل نظره في العاكس فقط بحيث إن كله مشغول بكله، و من فرط العشق به لم يلتفت إلى غيره من الصور و المرائي، و لم يشاهد في تلك الكثرات و التعينات إلا إياه، أعني أصل الصور و صاحبها، فهذا وحدة الوجود في النظر و فناء في الصورة.
زهر رنگى كه خواهى جامه مى پوش | كه من آن قد رعنا مىشناسم | |
فالموحد الحقيقي إذا أسقط الإضافات و لم يشاهد أعيان الممكنات و الحقائق الوجودية الإمكانية و الجهات الكثيرة الخلقية، و لم ينظر إليها و لم ير فيها إلا تجليه تعالى و ظهور قدرته و صفاته الكمالية حيث لم تشغله تلك الخليقة عن الوجود الواجبي و لم تنسه عن لقاء الله عز و جل، و لم تذهله عن وجهه في كل شيء فهو فان في الله مرزوق عنده و لا يرى إلا إياه و لا يرزق التوحيد بهذا المعنى إلا الأوحدي من أهل الله، الفائز بنعمة لقائه العظمى.
لقد ظهرت فلا تخفى على أحد | إلا على أكمه لا يعرف القمرا | |
و الموحد في ذلك المشهد يرى ما سواه من الأرض و السماء و الغيب و الشهادة مرتبطا بعضها ببعض و لا يرى فصلا بينها كارتباط أجزاء بدن واحد بعضها ببعض، و بهذا المعنى قد جعل وحدة العالم دليلا على توحيده تبارك و تعالى، و إن كان كل شيء بحياله يدل على وحدانيته تعالى كما قرر في محله.
و في كل شيء له آية | تدل على أنه واحد | |
هر گياهى كه از زمين رويد | وحده لا شريك له گويد | |
و روى الصدوق في باب الرد على الثنوية و الزنادقة من التوحيد ص 254 باسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما الدليل على أن الله واحد؟ قال: اتصال التدبير و تمام الصنع، كما قال عز و جل: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
و إذا نال الموحد هذا المقام العظيم يجد سلطان الله تعالى على ما سواه و يرى أنه ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، و يقول: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار و يصل إلى سر قول إمام الموحدين أمير المؤمنين علي عليه السلام:«مع كل شيء لا بمقارنة و غير كل شيء لا بمزايلة».
قال القصيري في شرح الفص الإدريسي من فصوص الحكم: انظر أيها السالك طريق الحق ما ذا ترى من الوحدة و الكثرة جمعا و فرادى؟ فإن كنت ترى الوحدة فقط فأنت مع الحق وحده لارتفاع الإثنينية، و إن كنت ترى الكثرة فقط فأنت مع الخلق وحده، و إن كنت ترى الوحدة في الكثرة محتجبة، و الكثرة في الوحدة مستهلكة، فقد جمعت بين الكمالين و فزت بمقام الحسنيين. انتهى كلامه.
و بما قررنا علم سر قول كاشف الحقائق الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «و الله لقد تجلى الله عز و جل لخلقه في كلامه و لكن لا يبصرون» رواه عنه عليه السلام العارف الرباني مولانا عبد الرزاق القاساني في تأويلاته كما في آخر كشكول العلامة البهائي ص 625 من طبع نجم الدولة، و كذا الشيخ الأكبر محيى الدين في مقدمة تفسيره (ص 4 ج 1)، كذا رواه عنه عليه السلام أبو طالب محمد بن على الحارثي المكي في قوة القلوب (ص 100، ج 1 من طبع مصر 1381 ه) و قد روى قريبا منه ثقة الإسلام الكليني في روضة الكافي (271 من الطبع الرحلي) عن مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبة خطب بها في ذى قار حيث قال عليه السلام:فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه، و أتى بها الفيض المقدس في الوافي ص 22 م 14، و قد نقلناها في شرح المختار 229 من الخطب، فراجع إلى ص 19 من ج 15.
و بعد اللتيا و التي نقول: و لله المثل الأعلى، و التوحيد على الوجه الرابع أدق من التمثيل المذكور أعني مثل صور عاكس في المرايا، و نعم ما قاله الشيخ العارف محيى الدين العربي في الباب الثالث و الستين من كتاب الفتوحات المكية كما في الأسفار: إذا أدرك الإنسان صورته في المرآة يعلم قطعا أنه أدرك صورته بوجه و أنه ما أدرك صورته بوجه لما يراه في غاية الصغر لصغر جرم المرآة أو الكبر لعظمه و لا يقدر أن ينكر أنه رأى صورته و يعلم أنه ليس في المرآة صورته و لا هي بينه و بين المرآة فليس بصادق و لا كاذب في قوله رأى صورته و ما رأى صورته فما تلك الصورة المرئية، و أين محلها و ما شأنها فهي منتفية ثابتة موجودة معدومة معلومة مجهولة أظهر سبحانه هذه الحقيقة لعبده ضرب المثال ليعلم و يتحقق أنه إذا عجز و حار في درك حقيقة هذا و هو من العالم و لم يحصل علما بحقيقته فهو بخالقها إذن أعجز و أجهل و أشد حيرة. انتهى.
قال الغزالي في الإحياء في بيان الوجه الأخير من التوحيد: هو أن لا يرى في الموجود إلا واحدا و هو مشاهدة الصديقين و يسميه الصوفية الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا لا يرى نفسه أيضا بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه.
فإن قلت: كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحدا و هو يشاهد السماء و الأرض و سائر الأجسام المحسوسة و هي كثيرة؟
فاعلم أن هذا غاية علوم المكاشفات و أن الموجود الحقيقي واحد، و أن الكثرة فيه في حق من يفرق نظره، و الموحد لا يفرق نظر رؤية السماء و الأرض و سائر الموجودات بل يرى الكل في حكم الشيء الواحد، و أسرار علوم المكاشفات لا يسطر في كتاب، نعم ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن و هو أن الشيء قد يكون كثيرا بنوع مشاهدة و اعتبار، و يكون بنوع آخر من المشاهدة و الاعتبار واحدا كما أن الإنسان كثير إذا نظر إلى روحه و جسده و سائر أعضائه و هو باعتبار آخر و مشاهدة اخرى واحد إذ نقول إنه إنسان واحد فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد، و كم من شخص يشاهد إنسانا و لا يخطر بباله كثرة أجزائه و أعضائه و تفصيل روحه و جسده، و الفرق بينهما و هو في حالة الاستغراق و الاستهتار مستغرق واحد ليس فيه تفرق و كأنه في عين الجمع و الملتفت إلى الكثرة في تفرقة.
و كذلك كل ما في الوجود له اعتبارات و مشاهدات كثيرة مختلفة و هو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد و باعتبار آخر سواه كثير بعضه أشد كثرة من بعض.
و مثال الانسان و إن كان لا يطابق الغرض و لكن ينبه في الجملة على كشف الكثير و يستفيد معا من هذا الكلام بترك الإنكار و الجحود بمقام لم تبلغه و تؤمن به إيمان تصديق فيكون لك من حيث إنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب منه، و إن لم يكن ما آمنت به صفتك كما أنك إذا آمنت بالنبوة كان لك نصيب منه، و إن لم يكن بينا و هذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق سبحانه تارة يدوم و تارة يطرأ كالبرق الخاطف و هو أكثر و الدوام نادر عزيز جدا.
و قال في موضع آخر من الكتاب: و أما من قويت بصيرته و لم يضعف نيته فانه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله و لا يعرف غيره، و يعلم أنه ليس في الوجود إلا الله تعالى و أفعاله أثر من آثار قدرته فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة و إنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها، و من هذا حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا و يرى فيه الفاعل و يذهل عن الفعل من حيث إنه سماء و أرض و حيوان و شجر بل ينظر فيه من حيث إنه صنع فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه، فرأى فيه الشاعر و المصنف و رأى آثاره من حيث إنه آثاره لا من حيث إنه حبر و عفص و زاج مرقوم على بياض، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف و كل العالم تصنيف الله فمن نظر إليها من حيث إنها فعل الله و أحبها من حيث إنها فعل الله لم يكن ناظرا إلا في الله، و لا عارفا إلا بالله، و لا محبا إلا الله، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث إنه عبد الله فهذا الذي يقال إنه فنى في التوحيد، و إنه فنى في نفسه و إليه الإشارة بقول من قال: كنا بنا فغبنا عنا فبقينا بلا نحن، فهذه امور معلومة عند ذوى البصائر اشكلت لضعف الأفهام عن دركها، و قصور قدر العلماء بها عن إيضاحها و بيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام، أو باشتغالهم بأنفسهم و اعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يغنيهم. انتهى كلامه.
قلت: قد رأيت ليلة الاثنين الثالثة و العشرين من ربيع الأول من شهور السنة السابعة و الثمانين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة بعض مشايخى متع الله المسلمين بطول بقائه في منامي، قد ناولني رسالة في السير و السلوك إلى الله تبارك و تعالى، ثم قال لي: «التوحيد أن تنسى غير الله» و لما قصصت عليه الرؤيا، قال مد ظله العالي:
نشانى داده اندت از خرابات | كه التوحيد إسقاط الإضافات | |
و البيت من گلشن راز للشبستري قدس سره.
و خامسة يعني بالوحدة ما يفوه به من يبوح قائلا من عرف سر القدر فقد ألحد.
فبما قدمنا علمت أن المراد من وحدة الوجود ليس ما توهمه أوهام من لم يصل إلى مغزا مرامهم و سر كلامهم، و أن لقاء الله تعالى الحاصل لأهله ليس كما يتصوره الجهال الذين لم يجمعوا بين الجمع و التفرقة، و قد جاء حديث عن معدن الحقائق الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق صلوات الله تعالى عليه: «إن الجمع بلا تفرقة زندقة، و التفرقة بدون الجمع تعطيل، و الجمع بينهما توحيد».
و قال المولى الحكيم العارف المتأله ميرزا محمد رضا القمشي قدس سره في تعاليقه على تمهيد القواعد لابن تركه في شرح قواعد التوحيد لتركه في بيان الحديث:ذهبت طائفة من المتصوفة إلى أن الوجود حقيقة واحدة لا تكثر فيها و لا تشأن لها و ما يرى من الممكنات المكثرة امور موهومة باطلة الذوات كثانى ما يراه الأحول، و هذا زندقة و جحود و نفى له تعالى لأن نفى الممكنات يستلزم نفى فاعليته تعالى، و لما كان فاعليته تعالى نفس ذاته فنفى فاعليته يستلزم نفى ذاته و إليه أشار عليه السلام بقوله: إن الجمع بلا تفرقة زندقة.
و ذهبت طائفة اخرى منهم إلى أن الممكنات موجودة مكثرة و لا جاعل و لا فاعل لها خارجا عنها، و الوجود المطلق متحد بها بل هو عينها و هذا إبطال لها و تعطيل لها في وجودها فإنه حينئذ لا معطى لوجودها لأن المفروض أن لا واجب خارجا عنها و الشيء لا يعطى نفسها و لا يوصف الممكن بالوجوب الذاتي، و إليه أشار عليه السلام بقوله: و التفرقة بدون الجمع تعطيل، و يظهر من ذلك البيان أن كلا القولين يشتمل على التناقض لأن الجمع بلا تفرقة يستلزم نفى الجمع، و التفرقة بدون الجمع يستلزم نفى التفرقة. انتهى كلامه رفع مقامه.
و إن شئت تقرير ذلك المطلب الأسنى على اسلوب آخر أبين و أوضح مما تقدم، فاعلم أن ما يخبر عنه و يصدر عنه أثر هو الوجود لا غير و سواه ليس محض و عدم صرف و باطل بالذات و ما ليس بشيء ليس بشيء حتى يكون ذا أثر، و إذا تأملت في الأشياء الممكنة تجدها أن ظهورها بالوجود، و لولاه لم يكن لها ظهور فضلا عن أن يكون لها أثر فاذا تحقق الوجود في موطن يتبعه أثر لائق بذلك الموطن.
و تجد أن لها اعتبارين: أحدهما وجودها و الاخر حدودها فتصير وجودات مقيدة محدودة، فبالقيد و الحد تسمى بأسماء لفظية، فيقال: هذه أرض، و تلك شمس و ذلك قمر و فلك و ملك و هكذا، و تلك الحدود يعبر عنها في الكتب الحكمية بل في الجوامع الروائية بالماهية، و لما لم يكن للأول تعالى حد لم تعلم له ماهية، و في دعاء اليماني لإمام الموحدين علي أمير المؤمنين عليه السلام رواه السيد الأجل ابن طاوس عليه رحمة الملك القدوس، مسندا في مهج الدعوات (ص 105):
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم أنت الملك الحق الذي لا إله إلا أنت- إلى أن قال بعد سطور: لم تعن في قدرتك، و لم تشارك في إلهيتك، و لم تعلم لك مائية فتكون للأشياء المختلفة مجانسا، إلخ.
و في باب نفي الجسم و الصورة و التشبيه من ثاني البحار نقلا عن روضة الواعظين:روى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال له رجل: اين المعبود؟ فقال عليه السلام: لا يقال له أين لأنه أين الأينية، و لا يقال له كيف لأنه كيف الكيفية، و لا يقال له ما هو لأنه خلق الماهية- الحديث.
و الماهية و المائية بمعنى واحد و هي مشتقة عن ما هو، كما هو صريح رواية أمير المؤمنين عليه السلام، و كما صرح به المحقق الخواجه نصير الدين الطوسي قدس سره في أول الفصل الثاني من المقصد الأول من التجريد، و المتأله السبزواري في أول الفريدة الخامسة من غرر الفرائد، و تعبير الماهية بالمائية في كتب القدماء بل في الروايات كثيرة جدا، و قد كان فيلسوف العرب الكندي يعبرها في رسائله بالمائية، كما ترى في رسائله الفلسفية المطبوعة في مصر، و قد روى الشيخ الجليل الصدوق في باب تفسير قل هو الله أحد من كتاب التوحيد بإسناده عن وهب بن وهب القرشي قال: سمعت الصادق عليه السلام يقول: قدم وفد من أهل فلسطين على الباقر عليه السلام فسألوه عن مسائل فأجابهم، ثم سألوه عن الصمد، فقال: تفسيره فيه، الصمد خمسة أحرف: فالألف دليل على انيته، و هو قوله عز و جل شهد الله أنه لا إله إلا هو و ذلك تنبيه و إشارة إلى الغائب عن درك الحواس، و اللام دليل على إلهيته بأنه هو الله- إلى أن قال: لأن تفسير الإله هو الذي أله الخلق عن درك مائيته و كيفيته بحس أو وهم- إلى أن قال: فمتى تفكر العبد في مائية الباري و كيفيته أله فيه و تحير- إلخ، و الإنية مشتقة من الإن، كما قال الإمام عليه السلام من حسن صنيعته: و هو قوله عز و جل: شهد الله أنه لا إله إلا هو و التعبير عن تحقق الشيء و وجوده بالإنية و عن حدوده بالماهية أو المائية غير عزيز في ألسنة أهل الله.
و الماهيات بأسرها ظاهرة بالوجود فهي ليست نوري الذات بل بذاتها ليس محض و ظلمة و إنما أيسها و نورها بغيرها و هو الوجود، و لما لم يكن لله جل جلاله حد و نهاية فلا يتصور فيه ماهية تعالى عن أن يكون مجانسا لمخلوقاته و في الحديث: ربنا نورى الذات، حي الذات، قادر الذات، عالم الذات، من قال أنه قادر بقدرة، عالم بعلم، حي بحياة، فقد اتخذ مع الله آلهة اخرى و ليس على ولايتنا من شيء.
و في التوحيد عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول:إن الله نور لا ظلمة فيه، و علم لا جهل فيه، و حياة لا موت فيه.
و فيه بإسناده عن هشام بن سالم قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال لي:أتنعت الله؟ قلت: نعم، قال عليه السلام: هات، فقلت: هو السميع البصير، قال عليه السلام هذه صفة يشترك فيها المخلوقون، قلت: و كيف ننعته؟ فقال عليه السلام: هو نور لا ظلمة فيه، و حياة لا موت فيه، و علم لا جهل فيه، و حق لا باطل فيه، فخرجت من عنده و أنا أعلم الناس بالتوحيد.
و لما كان النور ظاهرا بذاته و مظهرا لغيره كما ترى الأنوار المحسوسة من نور القمر و الكواكب و ضياء الشمس و غيرها، و يطلق عليها النور من هذه الحيثية كما أن النور يطلق على العلم من حيث ظهوره للعالم، كذلك فقد جاء في الخبر عن سيد المرسلين صلى الله عليه و آله: العلم نور و ضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه كما في جامع الأسرار للسيد المتأله حيدر الاملي قدس سره (ص 513) و في خبر آخر عنه صلى الله عليه و آله: ليس العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه، كما في قرة العيون للفيض المقدس رضوان الله عليه (ص 220) و في الحديث الاتي عن عنوان البصري عن الإمام الصادق عليه السلام اطلق على شمس الوجود المضيئة لغيرها من ماهيات القوالب و الهياكل الإمكانية بل مخرجها من الليس إلى الايس اسم النور أيضا بل هو النور حقيقة و يستنير سائر الأنوار الحسية به لما دريت من أن ظهور كل شيء به، فالوجود ظاهر بذاته و مظهر لغيره من أشباح الماهيات و هياكلها، كما يرشدك إليه قوله عز و جل: الله نور السماوات و الأرض- الاية.
و قد روى الشيخ الجليل الصدوق في أول باب تفسير قول الله عز و جل:الله نور السماوات و الأرض إلى آخر الاية بإسناده عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عز و جل: الله نور السماوات و الأرض فقال: هاد لأهل السماء و هاد لأهل الأرض، قال: و في رواية البرقي: هدى من في السماوات و هدى من في الأرض.
و ذلك لأن كل من هدى إلى حقيقة فإنما هدى بنور الوجود و لولاه لكانت الظلمات غالبة فالنور أي الوجود هو الهادي فليس إلا، صدق ولي الله الأعظم في قوله حيث فسر النور بالهادي.
فان قلت: قد جاءت في عدة آيات و كثير من أدعية و روايات أنه تعالى مضل أيضا كقوله تعالى: من يشأ الله يضلله و من يشأ يجعله على صراط مستقيم (الأنعام: 40)، و قوله تعالى: فإن الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء (فاطر: 8) و نحوهما فكيف التوفيق؟
قلت: الإضلال: إخراج الغير عن الطريق من دواع نفسانية و أغراض شخصية من إعمال حقد و حسد و نحوهما حتى يحصل التشفى للمضل بإضلاله الغير، و لا يخفى عليك أن إسناد الاضلال إليه تعالى قبيح عقلا لعدم تجويز العقل إسناده إليه فليس الإضلال بمعناه الحقيقي مسندا إليه تعالى من غير التوسل بوسط.
فنقول: لا كلام أنه تعالى مضل، من يشإ الله يضلله، و لكن تحت هذا سر و يتضح لك بإيراد مثال و هو أن نقول: لو كان لك أولاد و لم تأمرهم بعمل و دستور لا يصح أن يقال: إن فلانا أطاع أباه، و فلانا عصاه، و أما إذا جعلت لهم دستورا يأمرهم بالخير قبله بعض و أبى بعض آخر، فحينئذ يقال للأول: المطيع، و للثاني: العاصي، ثم لما كان ذلك الدستور حاويا لما فيه صلاحهم و رشادهم، فأنت هاد للبعض الأول، و حيث إن الثاني ظلم نفسه و أعرض عن الدستور، فحينئذ يقال له: هو ضال و أنت مضل له، بمعنى أنه لو لم يكن جعل هذا الدستور لم يتميز الهداية من الضلالة، و لم يصح قبل تعيين الطريق، أن يقال: فلان اهتدى و فلان ضل، فبالحقيقة أن الثاني إنما ضل عن دستورك و طريقك فأنت مضل له بهذا المعنى الدقيق اللطيف.
فإذا فهمت المثال فهمت جواب السؤال و ذلك لأنه لو لا إرسال الرسل و إنزال الكتب لما يتميز الخبيث عن الطيب و لم يصح أن يقال: فلان هدى إلى الصراط المستقيم فأفلح، و فلان ضل فعصى و غوى، و حيث إن الدستور هو القرآن و هو الصراط و المعيار و الميزان و إن الله تعالى أنزله هداية للعباد فمن استكبر و أبى فقد ضل و ظلم نفسه، و بهذا المعنى يقال: إن الله أضله أو هو مضل و نحوهما، ألا ترى أن الإضلال يضاف إلى الظالمين و الخاسرين و الكافرين و نحوها، نحو قوله تعالى: و يضل الله الظالمين (إبراهيم: 27)، و قوله تعالى: و من يضلل فأولئك هم الخاسرون (الأعراف: 178) و قوله: كذلك يضل الله الكافرين و أمثالها، فتبصر و خذه و اغتنم.
قال القيصري في مقدمته على شرح الفصوص: و الوجود خير محض و كل ما هو خير فهو منه و به و قوامه بذاته لذاته، إذ لا يحتاج في تحققه إلى أمر خارج عن ذاته فهو القيوم الثابت بذاته و المثبت لغيره.
و ليس له ابتداء و إلا لكان محتاجا إلى علة موجودة لإمكانه حينئذ، و لا له انتهاء و إلا لكان معروضا للعدم فيوصف بضده أو الإنقلاب فهو أزلي و أبدي فهو الأول و الاخر و الظاهر و الباطن لرجوع كل ما ظهر في الشهادة أو بطن في الغيب إليه، و هو بكل شيء عليم لإحاطته بالأشياء بذاته و حصول العلم لكل عالم إنما هو بواسطته فهو أولى بذلك بل هو الذي يلزمه جميع الكمالات و به تقوم كل من الصفات كالحياة و العلم و الإرادة و القدرة و السمع و البصر و غير ذلك فهو الحي العليم المريد القادر السميع البصير بذاته لا بواسطة شيء آخر إذ به يلحق الأشياء كلها كمالاتها بل هو الذي يظهر بتجليه و تحوله في صورة مختلفة بصور تلك الكمالات فيصير تابعا للذوات لأنها أيضا وجودات خاصة مستهلكة في مرتبة أحديته ظاهرة في واحديته.
و هو حقيقة واحدة لا تكثر فيها و كثرة ظهوراتها و صورها لا يقدح في وحدة ذاتها و تعينها، و امتيازها بذاتها لا بتعين زائد عليها إذ ليس في الوجود ما يغايره ليشترك معه في شيء و يتميز عنه بشيء و ذلك لا ينافي ظهورها في مراتبها المتعينة بل هو أصل جميع التعينات الصفاتية و الأسمائية و المظاهر العلمية و العينية.
و لها وحدة لا يقابل الكثرة هي أصل الوحدة المقابلة لها و هي عين ذاتها الأحدية، و الوحدة الأسمائية المقابلة للكثرة التي هي ظل تلك الوحدة الأصلية الذاتية أيضا عينها من وجه.
و هو نور محض إذ به يدرك الأشياء كلها و لأنه ظاهر بذاته و مظهر لغيره و منور سماوات الغيوب و الأرواح و أرض الأجسام لأنها به توجد، و تتحقق و منبع جميع الأنوار الروحانية و الجسمانية، و حقيقته غير معلومة لما سواه، و ليست عبارة عن الكون و لا عن الحصول و التحقق و الثبوت، إن اريد بها المصدر
لأن كلا منها عرض حينئذ ضرورة، و إن اريد بها ما يراد بلفظ الوجود فلا نزاع كما أراد أهل الله بالكون وجود العالم، و حينئذ لا يكون شيء منها جوهرا و لا عرضا و لا معلوما بحسب حقيقته، و إن كان معلوما بحسب انيته، و التعريف اللفظي لا بد أن يكون بالأشهر ليفيد العلم و الوجود أشهر من الكون و غيره ضرورة.
و الوجود العام المنبسط على الأعيان في العلم ظل من أظلاله لتقيده بعمومه و كذلك الوجود الذهني و الوجود الخارجي ظلان لذلك الظل لتضاعف التقييد و إليه الإشارة بقوله تعالى: أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل و لو شاء لجعله ساكنا فهو الواجب الوجود الحق سبحانه و تعالى الثابت بذاته المثبت لغيره الموصوف بالأسماء الإلهية المنعوت بالنعوت الربانية المدعو بلسان الأنبياء و الأولياء الهادي خلقه إلى ذاته الداعي مظاهره بأنبيائه إلى عين جمعه و مرتبة الوهيته أخبر بلسانهم أنه بهويته مع كل شيء، و بحقيقته مع كل حى، و نبه أيضا أنه عين الأشياء، بقوله: هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شيء عليم فكونه عين الأشياء بظهوره في ملابس أسمائه و صفاته في عالمى العلم و العين و كونه غيرها باختفائه في ذاته و استعلائه بصفاته عما يوجب النقص و الشين و تنزهه عن الحصر و التعيين و تقدسه عن سمات الحدوث و التكوين.
و إيجاده للأشياء اختفاؤه فيها مع اظهاره إياها، و إعدامه لها في القيامة الكبرى ظهوره بوحدته و قهره إياها بازالة تعيناتها و سماتها و جعلها متلاشية، كما قال: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار هو كل شيء هالك إلا وجهه و في الصغرى تحوله من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، أو من صورة إلى صورة في عالم واحد، فالمهيات صور كمالاته و مظاهر أسمائه و صفاته ظهرت أولا في العلم ثم في العين بحسب حبه إظهار آياته و رفع أعلامه و راياته فتكثر بحسب الصور و هو على وحدته الحقيقية و كمالاته السرمدية و هو يدرك حقائق الأشياء بما يدرك حقيقة ذاته لا بأمر آخر كالعقل الأول و غيره لأن تلك الحقائق أيضا عين ذاته حقيقة و إن كانت غيرها تعينا.
و لا يدركه غيره كما قال: لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و لا يحيطون به علما و ما قدروا الله حق قدره* و يحذركم الله نفسه و الله رؤف بالعباد نبه عباده تعطفا منه و رحمة لئلا يضيعوا أعمارهم فيما لا يمكن حصوله.
و إذا علمت أن الوجود هو الحق علمت سر قوله: و هو معكم أين ما كنتم و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون و في أنفسكم أ فلا تبصرون و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله و قوله: الله نور السماوات و الأرض و الله بكل شيء محيط و كنت سمعه و بصره، و سر قوله عليه السلام: لو دليتم بحبل لهبط على الله و أمثال ذلك من الأسرار المنبهة للتوحيد بلسان الإشارة. انتهى ما أردنا من نقل كلام القيصري.
و لما كان حكم السنخية بين العلة و المعلول مما لا يتطرق إليه شك و شبهة فكل واحد مما سواه تعالى آية و علامة له و آية الشيء تحاكى عنه من وجه و لا تباينه من جميع الوجوه و نسبتها إليه كظل إلى ذيه، و لو لا حكم السنخية لما يصح كون الموجودات الافاقية و الأنفسية أعني ما سواه آيات له و تأمل في ألفاظ الاية و أخواتها المذكورة في القرآن الكريم ترشدك إلى الصواب.
قال تعالى: إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس و ما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة و تصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء و الأرض لآيات لقوم يعقلون (البقرة: 165).
و قال تعالى: إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب إلى آخر الايات الخمس (آل عمران: 00) قال في المجمع: و قد اشتهرت الرواية عن النبي صلى الله عليه و آله أنه لما نزلت هذه الايات قال: ويل لمن لاكها بين فكيه و لم يتأمل ما فيها.
و قد روى ثقة الإسلام الكليني قدس سره في كتاب فضل القرآن من اصول الكافي (ص 446 ج 2 من المعرب) بإسناده عن حفص بن غياث، عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السلام يقول: آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها.
و هذه اللفظة أعني الاية و أخواتها تنادى بأعلى صوتها أن الوجود أصل و أن ما سواه تعالى علامة و فيء له تعالى، و لو لا الوجود لما كان عن الأشياء عين و أثر، و لما كان الوجود نورا فما صدر عنه تعالى نور أيضا لحكم السنخية بين العلة و معلولها.
و في المجلد الأول من البحار نقلا عن كتاب علل الشرائع في سؤالات الشامي عن أمير المؤمنين عليه السلام عن أول ما خلق الله تبارك و تعالى؟ فقال عليه السلام:النور.
و في التاسع عشر من البحار ص 183 في دعاء عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و آله: اللهم إني أسئلك يا من احتجب بشعاع نوره عن نواظر خلقه.
ففيه دلالة على أنه لا حجاب مضروب بينه و بين خلقه إلا شدة ظهوره و قصور بصائرنا فضلا عن أبصارنا عن اكتناه نوره كما تقدم آنفا بيانه.
جمالك فى كل الحقائق سائر | و ليس له إلا جمالك ساتر | |
حجاب روى تو هم روى تست در همه حال | نهانى از همه عالم ز بس كه پيدائى | |
و هذا الدعاء معروف بدعاء احتجاب، نقله الشيخ العلامة البهائي قدس سره في الكشكول أيضا (ص 303 من طبع نجم الدولة) و رواه السيد الأجل ابن طاوس- ره- عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و آله في مهج الدعوات (ص 75).
و تأمل في حرز مولانا و إمامنا محمد بن علي الجواد عليهما السلام، رواه السيد الأجل ابن طاوس رفع الله تعالى درجاته في مهج الدعوات (ص 36) و في ذلك الحرز:و أسألك يا نور النهار و يا نور الليل و يا نور السماء و الأرض و نور النور و نورا يضيء به كل نور- إلى أن قال عليه السلام، و ملأ كل شيء نورك.
و في قوله عليه السلام: «ملأ» دقيقة و هي أن ذلك النور لم يترك مكانا لغيره حتى يوجد شيء مؤلف منه و من غيره بل كل شيء ليس إلا ذلك النور فقط
و حدودها أعدام ذهنية اعتبارية.
غيرتش غير در جهان نگذاشت | لا جرم عين جمله أشيا شد | |
و في دعاء إدريس عليه السلام نقله السيد الجليل المذكور قدس سره في المهج أيضا (ص 305): يا نور كل شيء و هداه أنت الذي فلق الظلمات نوره.
و في دعاء إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه (المهج ص 306): يا الله يا نور النور قد استضاء بنورك أهل سماواتك و أرضك.
و في دعاء لنبينا صلى الله عليه و آله: فيا نور النور و يا نور كل نور- إلخ، رواه السيد قدس سره في الاقبال (ص 126).
و في المهج أيضا (ص 88) و من ذلك دعاء آخر علمه جبرائيل عليه السلام النبي صلى الله عليه و آله أيضا: بسم الله الرحمن الرحيم يا نور السماوات و الأرض يا جمال السماوات و الأرض- إلخ.
و في دعاء السحر لإمامنا محمد بن علي الباقر عليه السلام: اللهم إني أسألك من نورك بأنوره و كل نورك نير اللهم إني أسئلك بنورك كله، و نحوها من الأذكار و الأدعية المأثورة عن حجج الله تعالى كثير جدا و إنما نقلنا طائفة منها ضياء و نورا للمستضيئين، و ليعلم أن المعارف كلها عند خزنة علم الله جل و علا.
از رهگذر خاك سر كوى شما بود | هر نافه كه در دست نسيم سحر افتاد | |
و ذلك النور الذي ملأ كل شيء هو وجهه تعالى كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام كل شيء هالك إلا وجهه و لله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثم وجه الله.
قال العارف المتأله السيد حيدر الاملي قدس سره في جامع الأسرار (ص 210):حكى أن جماعة من الرهبانيين و ردوا المدينة في عهد خلافة أبي بكر و دخلوا عليه و سألوه عن النبي و كتابه، فقال لهم أبو بكر: نعم جاء نبينا و معه كتاب، فقالوا له: و هل في كتابه وجه الله؟ قال: نعم، قالوا: و ما تفسيره؟ قال أبو بكر: هذا السؤال منهي عنه في ديننا، و ما فسره نبينا بشيء، فضحك الرهبانيون كلهم و قالوا:و الله ما كان نبيكم إلا كذابا و ما كان كتابكم إلا زورا و بهتانا.
و خرجوا من عنده فعرف بذلك سلمان فدعاهم إلى أمير المؤمنين عليه السلام و قال لهم: إن هذا خليفته الحقيقي و ابن عمه فاسألوه، فسألوا عن السؤال بعينه أمير المؤمنين عليه السلام فقال لهم: ما نقول جوابكم بالقول بل بالفعل فأمر باحضار شيء من الفحم و باشعاله فلما اشتعل و صار كله نارا، سأل عليه السلام الرهبان و قال:يا رهبان! ما وجه النار؟ فقال الرهبان هذا كله وجه النار، فقال عليه السلام: فهذا الوجود كله وجه الله، و قرأ فأينما تولوا فثم وجه الله كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون فأسلم الرهبانيون كلهم بذلك على يده و صاروا موحدين عارفين.
و قال- رضوان الله عليه-: و حكى أيضا أن حيتان البحر اجتمعوا يوما عند كبيرهم و قالوا له: يا فلان نحن عزمنا على التوجه إلى البحر الذي نحن به موجودون و بدونه معدومون فلا بد من أن تعلمنا جهته و تعرفنا طريقه حتى نتوجه إليه و نصل إلى حضرته لأنا بقينا مدة متطاولة نسمع به و ما نعرفه و لا نعرف مكانه و لا جهته.
فقال لهم كبيرهم: يا أصحابي و إخواني ليس هذا الكلام يليق بكم و لا بأمثالكم لأن البحر أعظم من أن يصل إليه أحد و هذا ليس بشغلكم و لا هو من مقامكم، فاسكتوا عنه و لا تتكلموا بعد ذلك بمثل هذا الكلام بل يكفيكم أنكم تعتقدون أنكم موجودون بوجوده و معدومون بدونه.
فقالوا له: هذا الكلام ما ينفعنا و لا هذا المنع يدفعنا، لا بد لنا من التوجه إليه و لا بد لك من إرشادنا إلى معرفته و دلالتنا إلى وجوده.
فلما عرف الكبير صورة الحال و أن المنع لا يفيد شرع لهم في البيان و قال:يا اخواني البحر الذي أنتم تطلبونه و تريدون التوجه إليه هو معكم و أنتم معه، و هو محيط بكم و أنتم محاطون به، و المحيط لا ينفك عن المحاط به، و البحر عبارة عن الذي أنتم فيه فأينما توجهتم في الجهات فهو البحر و ليس غير البحر عندكم شيء فالبحر معكم و أنتم مع البحر، و أنتم في البحر و البحر فيكم، و هو ليس بغائب عنكم، و لا أنتم بغائبين عنه، و هو أقرب إليكم من أنفسكم.
فحين سمعوا هذا الكلام منه قاموا كلهم إليه و قصدوه حتى يقتلوه، فقال لهم: لم تقتلوني و لأي ذنب أستحق هذا؟ فقالوا له: لأنك قلت البحر الذي نحن نطلبه هو الذي نحن فيه و الذي نحن فيه هو الماء فقط، و أين الماء من البحر فما أردت بهذا إلا إضلالنا عن طريقه وحيداننا عنه.
فقال كبيرهم: و الله ما كان كذلك و ما قلت إلا الحق و الواقع في نفس الأمر لأن البحر و الماء شيء واحد في الحقيقة و ليس بينهما مغايرة أصلا، فالماء اسم للبحر بحسب الحقيقة و الوجود، و البحر اسم له بحسب الكمالات و الخصوصيات و الانبساط و الانتشار على المظاهر كلها.
فعرف ذلك بعضهم و صار عارفا بالبحر و سكت عنه، و أنكر البعض الاخر و كفر بذلك و رجع عنه مطرودا محجوبا.و الذي حكيت عن لسان الحيتان لو حكيته عن لسان الأمواج لكان أيضا صحيحا و كلاهما جائز، و إذا تحقق هذا فكذلك شأن الخلق في طلب الحق فإنهم إذا اجتمعوا عند نبي أو إمام أو عارف و سألوا عن الحق، فقال هذا النبي أو الإمام أو العارف: إن الحق الذي تسألون عنه و تطلبونه هو معكم و أنتم معه، و هو محيط بكم و أنتم محاطون به، و المحيط لا ينفك عن المحاط، و هو معكم أينما كنتم، و هو أقرب إليكم من حبل وريدكم ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم و لا خمسة إلا هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا «و هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شيء عليم فأينما تولوا فثم وجه الله كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون و هو ليس بغائب عنكم و لا أنتم بغائبين عنه، أينما توجهتم فثم ذاته و وجهه و وجوده و هو مع كل شيء و هو عين كل شيء، بل هو كل شيء و كل شيء به قائم و بدونه زائل، و ليس لغيره وجود أصلا، لا ذهنا و لا خارجا، و هو الأول بذاته، و الاخر بكمالاته، الظاهر بصفاته، و الباطن بوجوده، و إنه للكل مكان، في كل حين و أوان، و مع كل إنس و جان.
فلما سمع الخلق ذلك قاموا إليه كلهم و قصدوه ليقتلوه، فقال لهم لم تقتلوني و لأي ذنب أستحق هذا؟.
فقالوا له: لأنك قلت الحق معكم و أنتم معه، و ليس في الوجود إلا هو، و ليس لغيره وجود لا ذهنا و لا خارجا، و نحن نعرف بالحقيقة أن هناك موجودات غيره من العقل و النفس و الأفلاك و الأجرام و الملك و الجن و غير ذلك، فما أنت إلا كافر ملحد زنديق، و ما أردت بذلك إلا إغواءنا و إضلالنا عن الحق و طريقه.
فقال لهم: لا و الله ما قلت لكم غير الحق و لا غير الواقع، و ما أردت بذلك إضلالكم و إغواءكم، بل قلت ما قال هو بنفسه، و أخبركم إياه على لسان نبيه، و إلا فأي شيء معنى قوله: سنريهم آياتنا في الآفاق- الاية، و معنى قوله:الله نور السماوات و الأرض- الاية، و معنى قوله: هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و لأي شيء قال: ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون؟، و لم قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم*؟ لأنه يعرف أن كل واحد ما يعرف ذلك و لا بقدر عليه، كما قال أيضا: إن في ذلك لآيات لأولي النهى* «و إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب «و إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.
فعرف ذلك بعضهم و قبل منه و صار عارفا موحدا، و أنكر ذلك بعضهم، و رجع عنه محجوبا مطرودا ملعونا نعوذ بالله منه و من أمثاله، هذا آخر الأمثلة المضروبة في هذا الباب، و الله أعلم بالصواب و إليه المرجع و الماب و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون، انتهى ما أردنا من نقل كلامه رحمة الله عليه في المقام.
و لما لم يكن للمهيات أصالة، و لم يكن لها أثر و ظهور إلا بنور الوجود، و لم يكن الوجود إلا ذاته سبحانه و شئونه و دريت أنه ملأ كل شيء و فتق ظلمات الماهيات نوره فأول ما يرى و يدرك و يعلم في دار الوجود هو الوجود ليس إلا فهو ظاهر بذاته لا يحتاج إلى معرف و دليل يدل عليه لأن ذلك الدليل إما وجود أو غيره و الوجود وجود، و الغير عدم و العدم لا شيء محض و ما ليس بشيء رأسا كيف يدل على ما هو شيء و موجود، نعم إن غير الوجود من ماهيات أشباح الموجودات الممكنة بأسرها يعرف به، و قد سئل نبينا صلى الله عليه و آله بما ذا عرفت ربك؟ قال صلى الله عليه و آله: بالله عرفت الأشياء، و قال مولانا علي أمير المؤمنين عليه السلام: اعرفوا الله بالله.
و روى ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: اسم الله غيره و كل شيء وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله- إلى أن قال عليه السلام: من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن حجابه و مثاله و صورته غيره و إنما هو واحد موحد فكيف يوحده من زعم أنه عرفه بغيره، و إنما عرف الله من عرفه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره ليس بين الخالق و المخلوق شيء- الحديث (حديث 4 من باب حدوث الأسماء من اصول الكافي ج 1 ص 88 من المعرب).
و في التوحيد (ص 494) عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:إني ناظرت قوما فقلت لهم: إن الله أجل و أكرم من أن يعرف بخلقه بل العباد يعرفون بالله، فقال عليه السلام: رحمك الله.
و في دعاء عرفة لسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام: كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، كما تقدم آنفا، و لا يخفى لطف كلامه عليه السلام «في وجوده» فإن لهذا الكلام شأنا من الشأن.
و مما يرشدك أيضا إلى أن ما سواه تعالى شئونه و مجالى ذاته و مظاهر أسمائه و صفاته كلمة فاطر، و فطر و أخواتهما في القرآن الكريم نحو قوله عز من قائل:أ في الله شك فاطر السماوات و الأرض (إبراهيم: 11) و قوله تعالى:
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا (الأنعام: 80) و كذا في عدة آيات اخر، لأن أصل الفطر الشق، يقال: تفطر الشجر بالورق و الورد إذا أظهرهما، كما في غرائب القرآن للنيسابوري.
قال الراغب: أصل الفطر: الشق طولا، يقال: فطر فلان كذا فطرا و أفطر هو فطورا و انفطر انفطارا، و فطرت الشاة حلبتها باصبعين، و فطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، و منه الفطرة، و فطر الله الخلق و هو ايجاده الشيء و إبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال، فقوله: فطرت الله التي فطر الناس عليها فإشارة منه تعالى إلى ما فطر، أي أبدع و ركز في الناس من معرفته تعالى، و فطره الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان و هو المشار إليه بقوله:
و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله و قال: الحمد لله فاطر السماوات و الأرض و قال: الذي فطرهن- و الذي فطرنا أي أبدعنا و أوجدنا، يصح أن يكون الإنفطار في قوله: السماء منفطر به إشارة إلى قبول ما أبدعها و أفاضه علينا منه. انتهى.
و كلمة فطر و مشتقاتها تنبئك أن ما سواه تعالى تفطر منه و كل واحد منهم على حياله مشتق منه و منشق عنه و صورة و آية له، و من دعاء سيد الساجدين عليه السلام في الصلاة على آدم عليه السلام، كما فى ملحقات الصحيفة: اللهم صل على آدم و آدم بديع فطرتك- إلخ.
و لما اتصف كل واحد منهم بالوجود، اتصف على قدر قابليته و سعته و ضيقه بالأسماء و الصفات اللازمة للوجود أيضا، و في أي موطن ظهر منك الوجود ظهر معه أتباعه من الأسماء و الصفات اللائقة به إلا الأسماء المستأثرة كالوجوب الذاتي فانها صفايا الملك الواحد القهار، أسماء مخزونة عنده تعالى لا يمكن لغيره أن يتصف به و لا يسع غيره أن يطلبها منه و يتعب نفسه لإدراكها.
و في حرز مولانا محمد بن علي الجواد عليه السلام: و بأسمائك المقدسات المكرمات المخزونات في علم الغيب عندك، رواه السيد الأجل ابن طاوس قدس سره في مهج الدعوات (ص 36).
و في أعمال ليلة عيد الفطر: أسألك بكل اسم في مخزون الغيب عندك، رواه السيد المذكور قدس سره في الإقبال (273).
و في دعاء مولانا و إمامنا موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام أتى به الشيخ الكفعمي نور الله مضجعه في البلد الأمين (ص 521): و بالاسم الذي حجبت عن خلقك فلم يخرج منك إلا إليك.
و في آخر دعاء مروي عن مولانا الحسين بن علي عليهما السلام الدعاء المعروف بدعاء الشاب المأخوذ بذنبه، رواه السيد الجليل ابن طاوس قدس سره في مهج الدعوات (ص 151): أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو أنزلته في شيء من كتبك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك. إلخ.
و في الدعاء الخمسين من الصحيفة السجادية: فأسألك اللهم بالمخزون من أسمائك.
و في رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين للعالم الرباني صدر الدين علي بن أحمد نظام الدين الحسيني المدعو بالسيد علي خان قدس سره (565): روى عن النبي صلى الله عليه و آله قال: إن لله تعالى أربعة آلاف اسم: ألف لا يعلمها إلا الله، و ألف لا يعلمها إلا الله و الملائكة، و ألف لا يعلمها إلا الله و الملائكة و النبيون، و أما الألف الرابع فالمؤمنون يعلمونه، فثلاثمائة في التوراة، و ثلاثمائة في الإنجيل، و ثلاثمائة في الزبور، و مائة في القرآن، تسعة و تسعون ظاهرة و واحد منها مكتوم من أحصاها دخل الجنة.
و روى ثقة الإسلام الكليني نور الله مضجعه في الحديث الأول من باب حدوث الأسماء من اصول الكافي (ص 87 ج 1 من المعرب) بإسناده عن إبراهيم ابن عمر، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك و تعالى خلق اسما بالحروف غير متصوت و باللفظ غير منطق و بالشخص غير مجسد و بالتشبيه غير موصوف و باللون غير مصبوغ منفى عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم مستتر غير مستور، فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الاخر فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها و حجب منها واحدا و هو الاسم المكنون المخزون- الحديث.
و رواه رئيس المحدثين الشيخ الصدوق رضوان الله عليه أيضا في باب أسماء الله تعالى، و الفرق بين معانيها و بين معانى أسماء المخلوقين من كتاب التوحيد ص 183 من طبع ايران 1321 ه.
و روى الكليني في الحديث الأول من باب ما أعطى الأئمة عليهم السلام من اسم الله الأعظم من اصول الكافي (ص 179 ج 1 من المعرب) بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن اسم الله الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا و إنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة العين، و نحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان و سبعون حرفا، و حرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
و في الحديث الثاني منه: و إن اسم الله الأعظم ثلاثة و سبعون حرفا اعطى محمد صلى الله عليه و آله اثنين و سبعين حرفا و حجب عنه حرف واحد.
و في الثالث منه: و عندنا منه اثنان و سبعون حرفا و حرف عند الله مستأثر به في علم الغيب.
و في الحديث السادس عشر من باب الدعاء للكرب و الهم و الحزن و الخوف من كتاب الدعاء من الكافي (ص 408 ج 2 من المعرب) عن أبي عبد الله عليه السلام:اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت في علم الغيب عندك- الحديث.
و الأخبار و الأدعية في ذلك كثيرة جدا، و للحكيم المتأله المولى الصالح المازندراني السروي قدس سره في شرح الأبواب المذكورة من الكافي، و كذا لاستاذنا العلامة ميرزا أبي الحسن الشعراني متع الله علماء المسلمين بطول بقائه معارف حقة إلهية في بيان تلك الأسرار الصادرة عن خزنة علم الله تعالى فعليك بطلبها في مظانها.
و بالجملة إن الوجود إذا ظهر أينما كان لا ينفك عنه توابعه النورية و صفاته العليا بحكم السنخية المستفاد من الفطر أيضا، و إنما التفاوت بحسب قرب الأشياء من مبدئها و بعدها عنها طولا فكلما كان أقرب كان سعة وجوده أكثر و آثاره الوجودية أشد و أوفر فتنتهى كلها إلى من واجب وجوده، و لا ينقطع جوده طرفة عين، و ليس ما سواه إلا فيضه القائم به و هو قيامه، فإذا جميع الصفات الكمالية ينتهى إليه أيضا و لا يتصور فوقه وجود و لا كمال، قال عز من قائل: أ و لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة و قال تعالى: إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم و قال جل و علا: كل يوم هو في شأن و قال جلت عظمته: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني و قال تبارك و تعالى: قل كل يعمل على شاكلته و قال تعالى: إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا و قال تعالى: و الله بكل شيء محيط و قال تعالى إن كل من في السماوات و الأرض إلا آتي الرحمن عبدا و قال تعالى: و عنت الوجوه للحي القيوم.
و مما يتفرع على هذه الدقيقة أنه ما من موجود إلا و له ملكوت ناطق بالحق بلسان يليق به، قال الله تعالى: و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم (الاسراء: 45) و قال تعالى: و النجم و الشجر يسجدان (الرحمن: 7).
و قال تبارك و تعالى: قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء (فصلت، حم السجدة: 22).
و قال تعالى: فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين (قصص 31).
و قال تعالى: و ورث سليمان داود و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير و أوتينا من كل شيء (النمل: 17).
و قال تعالى: و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها- إلخ» (النمل: 19».
و قال تعالى: و تفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد- إلى قوله: فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبإ بنبإ يقين- إلى آخر الايات» (النمل: 22).
و قال تعالى في سورة يس: اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، و غيرها من الايات القرآنية.
و أما الأخبار في تكلم الحيوانات بل الجمادات لحجج الله تعالى و أوليائه فكثيرة جدا.
قال العلامة البهائى قدس سره في أوائل المجلد الثاني من الكشكول: العالم بأجزائه حي ناطق و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم، لكن نطق البعض يسمع و يفهم ككلام الاثنين المتفقين في اللغة إذا سمع كل منهما كلام الاخر و فهمه، و نطق البعض يسمع و لا يفهم كالاثنين المختلفى اللغة و منه سماعنا أصوات الحيوانات و سماع الحيوانات أصواتنا، و منه ما لا يسمع و لا يفهم كغير ذلك، و هذا بالنسبة الى المحجوبين، و أما غيرهم فيسمعون كلام كل شيء.
و قال في آخر الكشكول (ص 625 من طبع نجم الدولة): روى العارف الرباني المولا عبد الرزاق القاساني في تأويلاته: أن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام خر مغشيا عليه في الصلاة فسئل عن ذلك فقال: ما زلت اردد الاية حتى سمعتها من المتكلم بها، ثم قال: نقل الفاضل الميبدي في شرح الديوان عن الشيخ السهروردي أنه قال بعد نقل هذه الحكاية عن الصادق عليه السلام: أن لسان الإمام في ذلك الوقت كان كشجرة موسى عند قول: إني أنا الله و هو مذكور في الإحياء في تلاوة القرآن. انتهى.
قال الشيخ العارف محيى الدين في أوائل الفص الهودي: و كل ما سوى الحق فهو دابة لأنه ذو روح و ما ثمة من يدب بنفسه و إنما يدب بغيره فهو يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم فانه لا يكون صراطا إلا بالمشى عليه.
إذا دان لك الخلق فقد دان لك الحق | و إن دان لك الحق فقد لا يتبع الخلق | |
فحقق قولنا فيه فقولي كله حق | فما في الكون موجود تراه ماله نطق | |
و ما خلق تراه العين إلا عينه حق | و لكن مودع فيه لهذا صوره حق | |
و قال القيصري في بيان قوله: فما في الكون موجود تراه ماله نطق: أي ليس في الوجود موجود تراه و تشاهده إلا و له روح مجرد ناطق بلسان يليق به، و قال تعالى: و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم و هذا اللسان ليس لسان الحال كما يزعم المحجوبون، قال الشيخ رضي الله عنه في آخر الباب الثاني عشر من الفتوحات: و قد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب أو يابس، و الشرائع و النبوات من هذا القبيل مشحونة و نحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف فقد رأينا الأحجار رؤية عين بلسان نطق تسمعه آذاننا منها و تخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله مما ليس يدركه كل إنسان، و إنما اختفى نطق بعض الموجودات لعدم الاعتدال الموجب لظهور ذلك الفعل فلا يسمعه كل أحد فبقى نطقه باطنا و المحجوب يزعم أنه لا نطق له و الكامل لكونه مرفوع الحجاب لشاهد روحانية كل شيء، و يدرك نطق كل حى باطنا و ظاهرا و الحمد لله أولا و آخرا.
و أفاد العارف المولى عبد الرزاق القاساني في المقام بقوله: إذا كان الحق هو المتجلي في كل موجود فلا موجود إلا هو ناطق بالحق لأنه لا يتجلى في مظهر إلا في صورة اسم من أسمائه، و كل اسم موصوف بجميع الأسماء لأنه لا يتجزى لكن المظاهر متفاوتة في الاعتدال و التسوية، فإذا كانت التسوية في غاية الاعتدال تجلي بجميع الأسماء، و إذا لم يكن و لم يخرج عن هذا الاعتدال الإنساني ظهر النطق و بطن سائر الأسماء و الكمالات و إذا انحط عن طور الاعتدال الإنساني بقي النطق في الباطن في الجميع حتى الجماد، فإن التي لم يظهر عليه من الأسماء الإلهية و الصفات كانت باطنة فيه لعدم قابلية المحل لظهوره فلا موجود إلا و له نطق ظاهرا أو باطنا، فمن كوشف ببواطن الوجود سمع كلام الكل حتى الحجر و المدر. انتهى.
و قال القيصري في الفصل الرابع من مقدماته على شرح الفصوص: و لا تظن أن مبدأ النطق الذي هو النفس الناطقة ليس للحيوان لينضم معه فيصير الحيوان به إنسانا مع أنه غير صالح للفصلية لكونه موجودا مستقلا في الخارج بل هذا المبدأ مع كل شيء حتى الجماد أيضا فإن لكل شيء نصيبا من عالم الملكوت و الجبروت و قد جاء ما يؤيد ذلك من معدن الرسالة المشاهد للأشياء بحقائقها صلوات الله عليه مثل تكلم الحيوانات و الجمادات معه، و قال تعالى: و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم و ظهور النطق لكل واحد بحسب العادة و السنة الإلهية موقوف على اعتدال المزاج الإنساني، و أما للكمل فلا لكونهم مطلعين على بواطن الأشياء مدركين لكلامها، و ما قال المتأخرون بأن المراد بالنطق هو إدراك الكليات لا التكلم مع كونه مخالفا لوضع اللغة لا يفيدهم لأنه موقوف على أن الناطقة المجردة للإنسان فقط، و لا دليل لهم على ذلك، و لا شعور لهم على أن الحيوانات، ليس لهم إدراك كلي و الجهل بالشيء لا ينافي وجوده، و امعان النظر فيما يصدر منها من العجائب يوجب أن يكون لها إدراكات كلية، و أيضا لا يمكن إدراك الجزئي بدون كليه إذ الجزئي هو الكلي مع التشخص، و الله الهادي.
و قال الحكيم المتأله المولى صدرا قدس سره في شرح الحديث الثالث من باب النسبة من كتاب التوحيد من اصول الكافي: عن عاصم بن حميد قال: قال سئل علي بن الحسين عليهما السلام عن التوحيد، فقال: إن الله عز و جل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى قل هو الله أحد و الايات من سورة الحديد- إلى قوله: و هو عليم بذات الصدور فمن رام وراء ذلك فقد هلك.
ثم اعلم أن كل واحدة من هذه الايات الستة المشار إليها في هذا الحديث متضمنة لباب عظيم من علم التوحيد و الإلهية محتوية على أمر حكيم من الأحكام الصمدية و الربوبية لو أمهل الزمان و ساعد الدهر الخوان لعارف رباني و حكيم إلهي أخذ علمه من مشكاة النبوة المحمدية على صادعها و آله أفضل الصلاة و التحية و اقتبس حكمته عن أحاديث أصحاب العصمة و الطهارة و التزكية سلام الله عليهم لكان من حقه و حقهما أن يكتب في تفسير كل منها ما يثخن به مجلدا كبيرا بل مجلدات كثيرة، و لكن سنذكر في كل آية منها ما هو كالشاهد لما ادعيناه و كالأنموذج لما شاهدناه فنقول: أما الاية الالى ففي الأخبار عن تسبيح كل ما في السماوات و ما في الأرض من الموجودات حتى الجماد و النبات و الأجساد و المواد و الأرض الموات و جثث الأموات لله تعالى، و معرفة هذا التسبيح الفطري و العرفان الكشفي الوجودي من غوامض العلوم و دقائق الأسرار التي عجزت عن إدراكها أذهان جمهور العلماء و أكثر الحكماء فضلا عن غيرهم و ليس عندهم في هذا الباب إلا مجرد التقليد، إيمانا بالغيب أو حمل التسبيح على ما فيها من الأدلة الدالة على وحدانية الله و تنزيهه (تنزهه- خ ل) عن صفات النقص من التجسم و التغير و التكثر.
و قال بعضهم: إن كلمة ما ههنا بمعنى من، و قيل: معناه كل ما يتأتى منه التسبيح، هذا تمام كلام الأعلام في هذا المقام، و لا يخفى عدم ملائمة كل من الوجهين الأخيرين، بل كل ما قيل من التأويل و التخصيص لكثير من الايات القرآنية و الأخبار النبوية الدالة على تسبيح المسمى بالجماد و النبات من الشجر و الحجر و الصخر و المدر فضلا عن المسمى بالحيوان و الطير و البشر.
منها قوله تعالى: أ لم تر أن الله يسجد له من في السماوات و من في الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب و كثير من الناس.
و منها قوله: أ و لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين و الشمائل سجدا لله و هم داخرون و كذا نظائرها من الايات الدالة على وقوع التسبيح من جميع الموجودات حقيقة.
و حكاية تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه و آله و سماعه و إسماعه مشهور، و في ألسنة الرواة مذكور، و ما روى أيضا عن ابن مسعود أنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه و آله بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله حجر و لا مدر إلا و يقول:السلام عليك يا رسول الله، و أمثاله كثيرة في الروايات دالة على أن هذا التسبيح و السجود و التسليم واقع على وجه التحقيق.
حتى أن كثيرا من المنتسبين إلى الكشف و العرفان، زعموا أن النبات بل الجماد فضلا عن الحيوان له نفس ناطقة كالإنسان، و ذلك أمر باطل و البراهين ناهضة على خلافه من لزوم التعطيل و المنع عما فطر الله طبيعة الشيء عليه و دوام القصر على أفراد النوع و الإبقاء له على القوة و الإمكان للشيء من غير أن يخرج إلى الفعلية و الوجدان إلى غير ذلك من المفاسد الشنيعة المصادمة للبرهان و الحكمة.
بل هذا تسبيح فطري و سجود ذاتي و عبادة فطرية نشأت عن تجل إلهي و انبساط نور وجودي على كافة الخلائق على تفاوت درجاتها و تفاضل مقاماتها في نيل الوجود و درك الشهود و مع هذا التفاوت و التفاضل في القرب و البعد و الشرف و الخسة فأفراد العالم كله كأجزاء شخص واحد تنال من روح الحياة و روح المعرفة ما ناله الكل دفعة واحدة فأنطقها الله الذي أنطق كل شيء فأحبته و خضعته و سجدت له بسجود الكل و سبحت له بتسبيحات هي تسبيح الكل كل قد علم صلاته و تسبيحه.
و الذي يمنع عن هذه العبادة الفطرية الأفكار الوهمية و التصرفات النفسانية لأكثر الانس الموجبة للخروج عن الفطرة الأصلية و استحقاقية العذاب كما في قوله تعالى: و كثير حق عليه العذاب.
و بالجملة تحقيق هذا التسبيح الفطري و إثبات هذه العبادة الذاتية مما يختص به الكاملون في الكشف و العرفان الراسخون في العلم و الإيقان، و أما سماع اللفظ أو إسماعه كما هو المروي عن النبي صلى الله عليه و آله و صحبه فكذلك من باب المعجزة الواقعة نفسه القدسية على إنشاء الأصوات و الأشكال على موازنة المعاني و الأحوال انتهى كلامه طيب الله رمسه في المقام.
و قلت: الظاهر من كلامه: حتى أن كثيرا من المنتسبين- إلخ- يوهم التناقض بينه و بين كلام القيصري المذكور آنفا حيث قال: «لأنه موقوف على أن الناطقة المجردة للإنسان فقط، و لا دليل لهم على ذلك» و لكن بعد التأمل الدقيق في كلامهما يظهر عدم التناقض بينهما و كلاهما يشيران إلى معنى واحد، و بيان عدم التنافي بينهما يعلم بما قدمنا من كلام المولى عبد الرزاق القاساني فإنك إذا أمعنت النظر فيه تدرى أن المولى صدرا و القيصري يسلكان ما سلكه القاساني و يفيدان ما أفاده و لا اختلاف و لا تفرقة بينهم، و قد أجاد العارف صاحب المثنوي بقوله نظما:
گر تو را از غيب چشمى باز شد | با تو ذرات جهان همراز شد | |
نطق خاك و نطق آب و نطق گل | هست محسوس حواس أهل دل | |
هر جمادى با تو مىگويد سخن | كو ترا آن گوش و چشم أى بو الحسن | |
گر نبودى واقف از حق جان باد | فرق كى كردى ميان قوم عاد | |
سنگ أحمد را سلامى مىكند | كوه يحيى را پيامى مىكند | |
جمله ذرات در عالم نهان | با تو مىگويند روزان و شبان | |
ما سميعيم و بصير و با هشيم | با شما نامحرمان ما خامشيم | |
از جمادى سوى جان جان شويد | غلغل أجزاى عالم بشنويد | |
فاش تسبيح جمادات آيدت | وسوسه تأويلها بزدايدت | |
چون ندارد جان تو قنديلها | بهر بينش كردهاى تأويلها | |
فإذا دريت أن ما سواه آية له و مشتق منه و منفطر منه، و أنه إن من شيء إلا أنه حاك عنه و مثال و صورة له و لله المثل الأعلى و أن الوجود لا ينفك عن آثاره النورية، علمت أن ما يخاطبنا الله جل جلاله بكتابه و كلامه و يدعونا إلى ما فيه خيرنا و سعادتنا كلقائه مثلا، فلا بد من أن يكون فطرتنا مناسبة و متشابهة له و لو بوجه و إلا لم يصح الخطاب و نزيدك في ذلك بيانا.
و نقول: قال محيى الدين في الفص الادمى من الفصوص: و لما كان استناده- أى استناد الحادث- إلى من ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم و صفة ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح للحادث، و إن كان واجب الوجود و لكن وجوده بغيره لا بنفسه.
و قال القيصري في شرحه: أى اقتضى هذا الاستناد أن يكون الحادث على صورة الواجب، أى يكون متصفا بصفاته، و جميع ما ينسب إليه من الكمالات ما عدا الوجوب الذاتي و إلا لزم انقلاب الممكن من حيث هو ممكن واجبا، و ذلك لأنه اتصف بالوجود و الأسماء و الصفات لازمة للوجود، فوجب أيضا اتصافه بلوازم الوجود و إلا لزم تخلف اللازم عن الملزوم، و لأن المعلول أثر العلة و الاثار بذاتها و صفاتها دلائل على صفات المؤثر و ذاته، و لا بد أن يكون في الدليل شيء من المدلول لذلك صار الدليل العقلي أيضا مشتملا على النتيجة، فإن إحدى مقدمتيه مشتملة على موضوع النتيجة، و الاخرى على محمولها، و الأوسط جامع بينهما، و لأن العلة الغائية من إيجاد الحادث عرفان الموجد كما قال تعالى: و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون و العبادة تستلزم معرفة المعبود و لو بوجه، مع أن ابن عباس رضي الله عنه فسرها هنا بالمعرفة و لا يعرف الشيء إلا بما فيه من غيره لذلك قال عليه السلام حين سئل بم عرفت الله: عرفت الأشياء بالله، أى عرفته به أولا ثم عرفت به غيره و لما كان وجوده من غيره صار أيضا وجوبه بغيره، و غير الإنسان من الموجودات، و إن كان متصفا بالوجود لكن لا صلاحية له بظهور جميع الكمالات فيه. انتهى.
و قال العارف الجامي في شرحه على الفصوص: قوله: «فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم و صفة» من اسم و صفة بيان لشيء، فحاصله أن يكون على صفته تعالى في كل اسم و صفة ينسب إليه تعالى يعنى كما أنه ينسب كل اسم و صفة إليه تعالى كذلك ينسب إلى الحادث فإنه بأحدية جمعه الأسمائي متجل و سار فيه و لذا قيل كل موجود متصف بصفات السبع الكمالية لكن ظهورها فيه بحسب استعداده و قابليته.
و قال بعض المحشيين على شرح القيصري: قوله: «لأنه اتصف بالوجود» يظهر من هذا أن ذات الواجب بصرافة ذاته لا يكون في الممكن و إلا يلزم أن يكون الممكن متصفا بالوجوب الذاتى أيضا بعين هذا الدليل بأن يقال ان الممكن متصف بالوجود الذي يكون واجبا لذاته و الوجوب لازم للواجب فوجب اتصاف الممكن بذلك اللازم أيضا، انتهى، يعني أن الممكن غير متصف بالوجود الصرف الواجب الوجود حتى يلزم انقلاب الممكن واجبا.
و أفاد بعض اساتيذنا و هو العالم المحقق النحرير محمد حسين ابن المولى عبد العظيم التونى الشهير بالفاضل التونى تغمده الله بغفرانه في تعليقته على قول القيصري المنقول آنفا «و لا يعرف الشيء إلا بما منه في غيره»:
لأنه لا يعرف الغائب إلا بالشاهد بمعنى أنه لا يمكن أن يعرف شيء إلا أن يكون له مثال في ذات العالم فاذا قيل لك كيف يكون الواجب تعالى عالما بذاته فالجواب كما أنك تعلم ذاتك فتفهم علمه تعالى بذاته، و إذا قيل كيف يعلم الواجب تعالى غيره فيقال كما تعلم أنت غيرك، و إذا قيل كيف يعلم الواجب تعالى بعلم واحد بسيط سائر المعلومات فيقال كما تعلم جواب مسائل دفعة بدون تفصيل ثم تنتقل بالتفصيل، و إذا قيل كيف علمه مبدء لوجود الأشياء فيقال كما يكون توهمك للسقوط عن الجدار مبدء للسقوط و إذا قيل كيف يعلم الأشياء كلها فيقال كما يعلم المنجم الخسوف أو الكسوف من العلم بأسبابها، و الحاصل أنك لا تقدر أن تفهم شيئا من الله تعالى إلا بالمقايسة إلى شيء من نفسك فإذا لم يكن لشيء نظير في نفسك فلا يمكنك العلم به كالوجوب الذاتي و الوجود بلا مهية و لما لم يكن لهما نظير في نفسك لم يمكنك العلم بهما فلا تتعب نفسك في العلم بهما و لذا قال تعالى و يحذركم الله نفسه و الله رؤف بالعباد انتهى كلامه رفع مقامه و له قدس سره تعليقات أنيقة على شرح الفصوص القيصري من بدو الكتاب إلى ختمه و قد طبع طائفة منها على مقدمات القيصري على شرح الفصوص.
فبما قدمنا علمت معنى قول ثامن الأئمة علي بن موسى الرضا عليه آلاف التحية و الثناء: «قد علم أولو الألباب أن ما هنالك لا يعلم إلا بما ههنا» و هذا الكلام الوجيز بعيد الغور جدا، ككلام جده باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي عليه السلام في الصورة الإنسانية: «و هي الشاهدة على كل غائب» كما في شرح الأسماء للمتأله السبزوارى ص 12 من الطبع الناصرى، كما علمت أن الإنسان متصف بحسب استعداده و قابليته بأوصاف وجودية تحاكى عن أصلها قال عز من قائل:و علم آدم الأسماء كلها و التفاوت بينها و بين الأصل كتفاوت مرحلتى الوجودين حيث ان وجود الإنسان كغيره فيض من وجوده تعالى و فيء له و قائم به و واجب به و فقير إليه و كذا صفاته المنطبعة في فطرته فطرت الله التي فطر الناس عليها.
و من بحثنا هذا تنتقل إلى أن دين الإسلام هو دين الفطرة ما ذا؟ و قد أفاد في ذلك استادنا العلامة الطباطبائى البارع في الحكمة الحقة جزاه الله تعالى عنا أفضل جزاء المعلمين و أدام أيام إفاضاته في الجزء السابع من تفسيره القيم:الميزان، في قوله تعالى: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا (الأنعام 79) بقوله:و في تخصيص فطر السموات و الأرض من بين صفاته تعالى الخاصة و كذا من بين الألفاظ الدالة على الخلقة كالبارى و الخالق و البديع إشارة إلى ما يؤثره إبراهيم عليه السلام من دين الفطرة و قد كرر وصف هذا الدين في القرآن الكريم بأنه دين إبراهيم الحنيف و دين الفطرة أى الدين الذي بنيت معارفه و شرائعه على خلقة الإنسان و نوع وجوده الذي لا يقبل التبدل و التغير فإن الدين هو الطريقة المسلوكة التي يقصد بها الوصول إلى السعادة الحقيقية و السعادة الحقيقية هي الغاية المطلوبة التي يطلبها الشيء حسب تركب وجوده و تجهزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا واقعيا، و حاشا أن يسعد الإنسان أو أى شيء آخر من الخليقة بأمر و لم يتهيأ بحسب خلقته له أو هيئ لخلافه كأن يسعد بترك التغذى أو النكاح أو ترك المعاشرة و الاجتماع و قد جهز بخلافها، أو يسعد بالطيران كالطير أو بالحياة في قعر البحار كالسمك و لم يجهز بما يوافقه.
فالدين الحق هو الذي يوافق بنواميسه الفطرة و حاشا ساحة الربوبية أن يهدى الإنسان أو أى مخلوق آخر مكلف بالدين- إن كان- إلى غاية سعيدة مسعدة و لا يوافق الخلقة أو لم يجهز بما يسلك به إليها فإنما الدين عند الله الإسلام و هو الخضوع لله بحسب ما يهدى إليه و يدل عليه صنعه و إيجاده، انتهى ما أفاد مد ظله العالى في المقام.
فتبصر بما قدمناه أن أصل المعرفة فطرى للأشياء و قال الله تعالى: و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله* و إنما ضل عنهم المعرفة بالمعرفة و البصيرة بالرؤية، و أن المعرفة و الرؤية القلبية ترجعان إلى أمر واحد و إنهما تثمران الايمان على البصيرة، و لا نعنى من اللقاء إلا المعرفة و الرؤية بهذا المعنى ففي التوحيد عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له: أخبرنى عن الله عز و جل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال عليه السلام: نعم و قد رأوه قبل يوم القيامة فقلت:
متى؟ قال عليه السلام: حين قال لهم: أ لست بربكم قالوا بلى، ثم سكت ساعة ثم قال و ان المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، أ لست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك فاحدث بهذا عنك؟ فقال عليه السلام: لا فانك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما نقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى عما يصفه المشبهون و الملحدون.
و في آخر باب نفي المكان و الزمان عنه تعالى من كتاب التوحيد أيضا ص 176 باسناده عن إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه دخل السوق فإذا هو برجل (فاذا هو مر برجل- خ د) موليه ظهره يقول: لا و الذي احتجب بالسبع قال الله يا أمير المؤمنين، قال أخطأت ثكلتك امك ان الله عز و جل ليس بينه و بين خلقه حجاب لأنه معهم أينما كانوا، قال: ما كفارة
ما قلت يا أمير المؤمنين؟ قال: أن تعلم أن الله معك حيث كنت قال: أطعم المساكين؟ قال: لا إنما حلفت بغير ربك.
و من سلك هذا المسلك فقد حيى بحياة طيبة و يدخل في ملك لا يبلي و جنة الخلد التي وعد المتقون، ففي التوحيد عن الحارث بن المغيرة النضرى قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز و جل: كل شيء هالك إلا وجهه قال: كل شيء هالك إلا من أخذ طريق الحق.
و اعلم أن الوجود مع وحدة حقيقتها و كثرة تشأنها، كل يوم هو شأن له مراتب طولية تختلف غنى و فقرا و سعة و ضيقا فتنتهى إلى ذات واجب الوجود الذي تلك الكثرات مجاليه و مظاهره و مراياه و الله تعالى من ورائهم محيط فله تعالى مرتبة متحققة مجردة عن المظاهر و المجالى غير متناهية في جميع الصفات النورية أشد و أقوى مما سواه وجودا، قال عز من قائل: أ و لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة (فصلت 16)، و لا يحيطون به علما لأن الدانى لا يسعه الإحاطة بالعالى المحيط به، كما أن النفس مع كونها في وحدتها كل القوى و كلها مجاليها و مظاهرها ليست هي بمجموع تلك القوى الظاهرة و الباطنة تعلقت بالبدن فحسب بل لها مرتبة فوقها أعلى و أشمخ منها رتبة و آثارا و هي جهتها المجردة التي تلى ربها، و إن كانت تلك القوى مراتبها النازلة، و المرتبة النازلة منها كالواهمة مثلا لا تحيط بالمرتبة العالية كالعاقلة المحيطة بها.
قال صدر المتألهين قدس سره في شرحه للهداية: و الصنف الثالث و هم الراسخون في العلم من الحكماء قائلون بأن العالم ليس عبارة عن الممكن الصرف و لا عن الوجود الحقيقى الصرف بل من حيث هو موجود بالوجود الحقيقى له اعتبار و من حيث إنه ينقسم إلى العقول و النفوس و غيرها له اعتبار آخر فالعالم زوج تركيبي من الممكن و السنخ الباقي الذي هو بذاته موجود و وجود فليس العالم عبارة عن الذوات المتعددة كما حسبه المحجوبون بل ذاته واحد و هو الحق الذي هو الوجود الحقيقى و لا وجود للممكنات إلا بارتباطها به لا بأن يفيض عليها وجودات مغايرة للوجود الحقيقى و برهان ذلك مذكور في كتابنا المسمى بالأسفار الأربعة.
و قال في مبحث العلة و المعلول من الأسفار: (ص 196 من الرحلى) تنبيه:
إن بعض الجهلة من المتصوفين المقلدين الذين لم يحصلوا طريق العلماء العرفاء و لم يبلغوا مقام العرفان توهموا لضعف عقولهم و وهن عقيدتهم و غلبة سلطان الوهم على نفوسهم أن لا تحقق بالفعل للذات الأحدية المنعوتة بألسنة العرفاء بمقام الأحدية و غيب الهوية و غيب الغيوب مجردة عن المظاهر و المجالى بل المتحقق هو عالم الصورة و قواها الروحانية و الحسية و الله هو الظاهر المجموع لا بدونه و هو حقيقة الإنسان الكبير و الكتاب المبين الذي هذا الإنسان الصغير أنموذج و نسخة مختصرة عنه، و ذلك القول كفر فضيح و زندقة صرفة لا يتفوه به من له أدنى مرتبة من العلم و نسبة هذا الأمر إلى أكابر الصوفية و رؤسائهم افتراء محض و افك عظيم يتحاشى عنها أسرارهم و ضمائرهم، و لا يبعد أن يكون سبب ظن الجهلة بهؤلاء الأكابر اطلاق الوجود تارة على ذات الحق و تارة على المطلق الشامل و تارة على المعنى العام العقلى فإنهم كثيرا ما يطلقون الوجود على المعنى الظلى الكونى فيحملونه على مراتب التعينات و الوجودات الخاصة فيجرى عليه أحكامها.
و بما تقدم من أن ما سواه تعالى مظاهر أسمائه و صفاته و مجالى إشراقات نور وجهه و مرايا ظل ذاته علمت معنى الإخلاص في التوحيد أعنى التوحيد الذاتى الذي ينطق به الموحدون و إمامهم علي أمير المؤمنين عليه السلام: أول الدين معرفته و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثناه و من ثناه فقد جزاه و من جزاه فقد جهله و من جهله فقد أشار إليه و من أشار إليه فقد حده و من حد فقد عده إلخ (الخطبة الاولى من نهج البلاغة).
و لا يخفى عليك أن كلامه عليه السلام يشير إلى التوحيد الذاتى و اخلاصه تمحيض حقيقة الأحدية عن شائبة الكثرة، قال العارف السيد حيدر الاملي في رسالة نقد النقود في معرفة الوجود (ص 636): و اذا تحقق هذا و ثبت أن الوجود المطلق موجود في الخارج و ليس لغيره وجود أصلا، و ثبت أن هذا الوجود المطلق هو الحق تعالى فاعلم أن مرادهم بالوجود من حيث هو الوجود، الوجود الصرف و الذات البحت الخالص بلا اعتبار شيء معه أصلا أعنى تصوره من حيث هو هو لا بشرط الشيء و لا بشرط اللا شيء أى مجردا عن جميع النسب و الإضافات و القيود و الاعتبارات.
و معلوم أن كل شيء له اعتباران: اعتبار الذات من حيث هي هي، و اعتبارها من حيث الصفات أى وصفها بصفة ما أية صفة كانت، فهذا هو اعتبار الذات فقط أعنى اعتبار الذات بقطع النظر عن جميع الاعتبارات و الإضافات المخصوصة بالحضرة الأحدية و أن مرادهم بالمطلق هو الذات المطلقة المنزهة عن جميع هذه الاعتبارات، و ليس اطلاق لفظ المطلق على الوجود الصرف إلا من هذه الحيثية لا من جهة المطلق الذي هو بازاء المقيد، و لا من جهة الكلى الذي هو بازاء الجزئي، و لا من جهة العام الذي هو بازاء الخاص لأنه- أى الوجود الصرف- من حيث هو غنى عن إطلاق شيء عليه اسما كان أو صفة، سلبا كان أو ثبوتا، إطلاقا كان أو تقييدا، عاما كان أو خاصا، لأن كل واحد منها- اى من هذه الامور المتقابلة- يقتضى سلب الاخر، أو يقتضى التقيد و التعين فيه، و هو أعنى الوجود المطلق المحض منزه عن الكل حتى عن الإطلاق و عدم الإطلاق لأن الإطلاق تقييد يقيد الإطلاق، كما أن اللا إطلاق قيد بعدم الاطلاق و كذلك التعين و اللا تعين و غير ذلك من الصفات كالوجود و القدم و العلم و القدرة و أمثالها.
و عن هذا التنزيه النزيه و التقديس الشريف أخبر مولانا و إمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله: أول الدين معرفته- إلخ و الغرض
أن كل ذلك إشارة إلى إطلاقه و تجرده و تنزهه و تقدسه عن الكثرة الوجودية و الإعتبارية، لأن قوله عليه السلام و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه إشارة إلى الوجود المطلق المحض و الذات البحت الخالص الذي لا يمكن وصفه بشيء أصلا و لا يكون قابلا للإشارة أبدا كما أشار إليه عليه السلام في موضع آخر في قوله:الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة.
قلت: قوله عليه السلام: الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة، بعض حديث الحقيقة المخاطب به كميل بن زياد رضوان الله عليه سأله عليه السلام عن الحقيقة بقوله: ما الحقيقة؟ قال عليه السلام: مالك و الحقيقة؟! قال: أ و لست صاحب سرك؟
قال: بلى، و لكن يرشح عليك ما يطفح منى، قال: أو مثلك يخيب سائلا؟! قال: الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة، قال: زدنى فيه بيانا، قال:
محو الموهوم مع صحو المعلوم، قال: زدني فيه بيانا، قال: هتك الستر لغلبة السر قال: زدني فيه بيانا، قال: جذب الأحدية بصفة التوحيد، قال: زدني فيه بيانا قال: نور يشرق من صبح الأزل فتلوح على هياكل آثاره، قال: زدني فيه بيانا قال: أطف السراج فقد طلع الصبح.
نقله العارف المذكور في جامع الأسرار ص 170 و شرحه في عدة مواضع من ذلك الكتاب، و العلامة الشيخ البهائى في الكشكول و القاضى نور الله الشهيد نور الله مرقده في مجالس المؤمنين و العارف الشيخ عبد الرزاق اللاهجى في شرح گلشن راز، و الخوانسارى في روضات الجنات، و المحدث القمي في سفينة البحار و غيرهم من أساطين الحكمة و العرفان في صحفهم القيمة، و شرحه العلامة قطب الدين الشيرازى في رسالة معمولة في ذلك فقط، و شرحه أيضا بعض أساتيذنا بالنظم الفارسي و لقد أحسن و أجاد، ألا و هو العارف الربانى محيى الدين مهدى الالهى القمشئى أدام الله أيام إفاضاته.
و قال العارف الاملي المذكور في جامع الأسرار في تعريف التوحيد: اعلم أن حقيقة التوحيد أعظم من أن يعبر عنها بعبارة أو يؤمى إلى تعريفها بإشارة
فالعبارة في طريق معرفتها حجاب، و الإشارة على وجه إشراقها نقاب، لأنها يعنى حقيقة التوحيد منزهة عن أن تصل إلى كنهها العقول و الأفهام، مقدسة عن أن تظفر بمعرفتها الأفكار و الأوهام، شعر:
تجول عقول الخلق حول حمائها | و لم يدركوا من برقها غير لمعة | |
و إلى صعوبة إدراكها يعنى حقيقة التوحيد و شدة خفائها أشار مولانا و إمامنا أمير المؤمنين و يعسوب المسلمين سلطان الأولياء و الوصيين وارث علوم الأنبياء و المرسلين علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله: ما وحده من كيفه، و لا حقيقته أصاب من مثله، و لا إياه عنى من شبهه، و لا قصده من أشار إليه و توهمه.
تجول عقول الخلق حول حمائها | و لم يدركوا من برقها غير لمعة | |
و إلى صعوبة إدراكها يعنى حقيقة التوحيد و شدة خفائها أشار مولانا و إمامنا أمير المؤمنين و يعسوب المسلمين سلطان الأولياء و الوصيين وارث علوم الأنبياء و المرسلين علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله: ما وحده من كيفه، و لا حقيقته أصاب من مثله، و لا إياه عنى من شبهه، و لا قصده من أشار إليه و توهمه.
و في قوله: هو الأحد لا بتأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب و السميع لا بأداة، و البصير لا بتفريق آلة، و الشاهد لا بمماسة، و البائن لا بتراخى مسافة، و الظاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة، بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه، من وصفه فقد حده، و من حده فقد عده، و من عده فقد أبطل أزله، و من قال كيف فقد استوصفه، و من قال أين فقد حيزه، عالم إذ لا معلوم، و رب إذ لا مربوب و قادر إذ لا مقدور.
و في قوله: أول الدين معرفته- إلخ.
و كذلك الشيخ العارف الشبلى البغدادي رحمة الله عليه في قوله: من أجاب عن التوحيد بعبارة فهو ملحد، و من أشار إليه باشارة فهو زنديق، و من أومى إليه فهو عابد وثن، و من نطق فيه فهو غافل، و من سكت عنه فهو جاهل، و من وهم أنه إليه واصل فليس له حاصل، و من ظن أنه منه قريب فهو عنه بعيد، و من به تواجد فهو له فاقد، و كل ما ميزتموه بأوهامكم و أدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم.
و ليس مرادهم من هذه الإشارات الامتناع من حصوله، و لا اليأس من وصوله بل المراد منها إعلاء أعلام منزلته، و ارتفاع أركان درجته، و بيان أنه ليس
بقابل للإشارة و لا بمحل للعبارة، لأنه عبارة عن الوجود المطلق المحض و الذات الصرف البحت المسمى بالحق جل جلاله الذي لا يقبل الإشارة أصلا و رأسا و لا العبارة قولا و فعلا و ذلك لا يكون إلا عند فناء الطالب في المطلوب و الشاهد في المشهود و حين الاستغراق و الاستهلاك في المطلق المحيط و لا شك أنه لا يبقي مع ذلك لا الإشارة و لا المشير، و لا من الغير أثر في العقل و الضمير.
و إليه أشار الإمام عليه السلام بقوله أيضا: «الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة» اظهارا بأنه لا ينكشف الحق حقيقة على أحد إلا عند ارتفاع الكثرة مطلقا اسما كان أو صفة و لهذا قال سبحات الجلال بدون الجمال لأن الجمال مخصوص بالأسماء و الصفات التي هي منشأ الكثرة لا الجلال، انتهى ما أردنا من نقل كلام العارف السيد حيدر الاملي قدس سره الشريف في التوحيد الذاتي.
و الشيخ العارف المحقق أبو إسماعيل خواجه عبد الله بن إسماعيل الأنصارى الهروي قد ذكر في آخر كتابه الموسوم بمنازل السائرين بابا مفردا في التوحيد و قسمه على ثلاثة أوجه، و قد بذل الجهد في ذلك جدا، و لكنه موجز يحتاج إلى البيان و قد شرح ذلك الكتاب المولى العارف المحقق كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني يفضل ذلك الشرح على سائر الشروح كفضله على سائر الشراح، و ذلك الباب باب إلى ما كنا في صدده، و قد أشار الشارح المذكور إلى المتن بحرف الميم، و إلى الشرح بحرف الشين فنأتي بالباب على هديه و طريقته من غير تغيير وضعه و اسلوبه و هو مايلى:(م) باب التوحيد، قال الله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو.
(ش) إنما خص بعض الاية بالذكر لأن هذا محض التوحيد الجمعى و هو أن لا يكون معه شيء فلو ذكر و الملائكة و اولو العلم لكان نزولا عن الجميع إلى الفرق فيكون معه غيره فلا يبقي التوحيد المحض فهو الشاهد بنفسه لنفسه فلم يشهد أن لا إله إلا هو غيره فمن تحقق هذا بالذوق فقد شهد التوحيد بالحقيقة.
(م) التوحيد تنزيه الله عز و جل عن الحدث و إنما نطق العلماء بما نطقوا به و أشار المحققون بما أشاروا إليه في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد و ما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل.
(ش) قوله: التوحيد تنزيه الله عز و جل عن الحدث. مجمل يتناول تنزيه العقلاء من الحكماء و المسلمين، و تنزيه العرفاء الموحدين لأن جميع العقلاء و أهل الفكر يدعون تنزيه الله تعالى مع كونهم مقيدين لأن العقل لا يقول إلا بالتقييد و يثبتون الحدث و ينفونه عن الحق تعالى و ينزهونه عنه، و أما العرفاء المحققون فلا يثبتون الحدث أصلا و رأسا فإن شهود التوحيد ينفيه عن أصله ثم يثبته بعد نفيه بالحق بمعنى تجلى الحق مع الايات بوجوهه في الصور فيكون الحدوث عندهم ظهوره في الصور المختلفة بالتجليات المتعاقبة الغير المتكررة.
و مراد الشيخ قدس الله روحه هذا التنزيه و لا يهتدى العقل إلى طريق التوحيد الذي لا يكون فيه مع الحق سواه و لا يرى الحق عين الكل و لا يرى الحق عين الكل بحيث لا يكون في الوجود شيء غيره.
و إنما نطق العلماء بما نطقوا به و أشار المحققون إلى ما أشاروا إليه في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد أى ما نطقوا و ما أشاروا إلا لقصد تصحيح هذا المقام السنى لأنه المقصد الأقصى و الموقف الأعلى و ما دون ذلك من الأحوال و المقامات فكله مصحوب العلل لا صحة لها لبقاء الرسوم فيها و لو في الحضرة الواحدية و التجليات الأسمائية هذا ما ذهب إليه خاطرى.
و وجه آخر مبنى على أن «ما» في إنما نطق موصولة حقها أن تكتب مفصولة على معنى أن كل ما نطق به العلماء و أشار إليه المحققون لقصد تصحيح التوحيد و ما سواه من الأحوال و المقامات فكله مصحوب العلل لا يخلو منها يعنى أن التوحيد بالعلم لا يخلص عن العلل و كذا إثبات الأحوال و المقامات بطريق العلم و إشارات المحققين لا يخلو من العلل فإنها مواجيد ذوقية لا تندرج تحت العبارات و لا يحيط به الإشارات و لا تفى ببيانها الكلمات و العلل هى الجهالات.
(م) و التوحيد على ثلاثة وجوه: الوجه الأول توحيد العامة الذي يصح
بالشواهد، و الوجه الثاني توحيد الخاصة و هو الذي يثبت بالحقائق، و الوجه الثالث توحيد قائم بالقدم و هو توحيد خاصة الخاصة.
(ش) الشواهد هي الأكوان و المصنوعات التي يستدل بها على المكون الصانع و بالجملة الدلائل التي يستدل بها العلماء بالنظر و الفكر و براهين العقل فتوحيد العامة إنما يصح بالإستدلال مثل قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، و لكن ما فسدتا فليس فيهما آلهة غير الله و أمثال ذلك.
و أما توحيد الخاصة و هم المتوسطون فهو الذي يثبت بالحقائق المذكورة في القسم التاسع و هي المكاشفة و المشاهدة و المعاينة و الحياة و القبض و البسط و السكر و الصحو و الإتصال و الانفصال.
و أما توحيد خاصة الخاصة فهو التوحيد القائم بالقدم يعنى توحيد الحق لنفسه أزلا و أبدا كما قال: شهد الله أنه لا إله إلا هو، و قيامه بالقدم أزلية و امتناع قيامه بالحدث و إلا كان مثبتا للغير فلم يكن توحيدا و أهل هذا المقام هم المذكورون في الدرجة الثالثة من كل باب من أبواب أقسام النهايات.
(م) فأما التوحيد الأول فهو شهادة أن لا إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد، هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم و عليه نصبت القبلة، و به وجبت الذمة، و به حقنت الدماء و الأموال، و انفصلت دار الإسلام عن دار الكفر، و صحت به الملة العامة و إن لم يقوموا بحق الاستدلال بعد أن سلموا من الشبهة و الحيرة و الريبة بصدق شهادة صححها قبول القلب.
(ش) هذا ظاهر غنى عن الشرح و هو أصل التوحيد التقليدي الذي صحت به الملة للعامة بصدق شهادة صححها في الشرع قبول قلوبهم لها تقليدا و إن لم يقدروا على الاستدلال بعد أن لم تعتورهم الشبهة و الحيرة و الشك و سلمت قلوبهم من ذلك.
(م) هذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد، و الشواهد هي الرسالة و الصنائع.
(ش) أى الأخبار التي وردت بها الرسالة و المصنوعات المتقنة المحكمة الدالة بحسن صنعتها و إتقانها على وجود الصانع و علمه و حكمته و قدرته.
(م) يجب بالسمع و يوجد بتبصير الحق و ينمو على مشاهدة الشواهد.
(ش) أى يجب قبول هذا التوحيد بالأدلة السمعية و هي أخبار الكتاب و السنة التي يسمعها من النبي صلى الله عليه و آله كقوله: فاعلم أنه لا إله إلا الله. و قوله:و إلهكم إله واحد، و شهد الله، و سورة الإخلاص و أمثالها، و لا توجد حقيقته و حلاوته و إدراك معناه إلا بتبصير الحق إياه بنوره المقذوف في قلب المؤمن و يزيد و ينمو بالمواظبة على مشاهدة الشواهد بنظر الإعتبار و التفكر فيها و مطالعة حكمة صانعها في أحوالها.
(م) و أما التوحيد الثاني الذي يثبت بالحقائق فهو توحيد الخاصة و هو إسقاط الأسباب الظاهرة و الصعود عن منازعات العقول و عن التعلق بالشواهد و هو أن لا تشهد في التوحيد دليلا، و لا في التوكل سببا، و لا للنجاة وسيلة.
(ش) إسقاط الأسباب الظاهرة هو أن لا يعلق المسببات بالأسباب المعروفة بين الناس و لا يرى لها تأثيرا و لا لغير الحق فعلا، و يشهد بالحقيقة أن لا مؤثر إلا الله، و الصعود عن منازعات العقول هو الترقي إلى مقام الكشف و التخلص عن منازعات العقول أحكام الشرع لعماها عن حكمها، و احتجابها بقياساتها، و عن منازعات بعض العقول بعضا، و مجادلاتها في الأحكام لثبوت الأوهام إياها، و معارضاتها في المناظرات باتهامها في الأحكام (بإتمامها في الأحكام- خ ل) و تصفية الباطن عن المخالفات و المجادلات مجاوزا طور العقل إلى نور الكشف و عن التعلق بالشواهد أى الصعود عن طور الاستدلال و التمسك بالأدلة استغناء عنها بنور التجلي و العيان.
قوله: «و هو» إشارة إلى الصعود عن التعلق بالشواهد أى و ذلك الصعود أن لا تشهد في التوحيد دليلا فيكون التوحيد عندك أجلى من كل دليل فإن نور
الحق إنما لا يدرك لشدته و قوة نوريته كما قيل، شعر:
خفى لإفراط الظهور تعرضت | لإدراكه أبصار قوم أخافش | |
«و لا في التوكل سببا» أى و أن لا تشهد في التوكل سببا لقوة يقينك في أن لا مؤثر إلا الله و رؤيتك الأفعال كلها منه فيتلاشى الأسباب في المسبب في شهودك لشهودك التأثير منه دون السبب «و لا للنجاة وسيلة» أى و أن لا تشهد للنجاة من العذاب و العقوبة و الطرد وسيلة من الأعمال الصالحة و الحسنات.
(م) فتكون مشاهدا سبق الحق بحكمه و علمه و وضعه الأشياء مواضعها و تعليقه إياها بأحايينها، و إخفائه إياها في رسومها و تحقق معرفة العلل و تسلك سبيل إسقاط الحدث هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء و يصفو في علم الجمع و يجذب إلى توحيد أرباب الجمع.
(ش) أى فتكون أنت مشاهدا أن الحق سبق بحكمه على الأشياء بما هي عليه في الأزل فلا تكون إلا كما حكم به، و كذا سبق بعلمه و تقديره الأشياء على ما هي عليه، و حكمه تعالى على الأشياء تابع لعلمه فتكون الأشياء على مقتضى سابق علمه و قضائه، «و وضعه الأشياء مواضعها» أى و تكون مشاهدا لوضع الحق تعالى كل شيء في موضعه بتقديره و حكمته في الأزل، و كذا تشاهد «تعليقه إياها بأحايينها» فلا تقع إلا في الوقت الذي قدر وقوعها فيه، «و اخفائه إياها في رسومها» أى و تكون مشاهدا سبق الحق بإخفائه الأشياء في رسومها عن أعين المحجوبين فإنهم لا يرون أنها بفعل الحق و حكمه و تقديره في القضاء السابق جارية على مجراها فينسبونها إلى أسبابها و مقتضيات رسومها الخلقية و طبائعها و أوقاتها، فيجعلون لكل تغير حال من أحوالها سببا، و يحتجبون بها عن التصرف الالهى و التقدير الأزلى، و ذلك هو إخفاؤها في الرسوم.
قوله «و تحقق» عطف على «فتكون» أى فتكون مشاهدا و تحقق معرفة العلل و هي الوسائط و إسناد أحوالها إلى ما سوى الله تعالى من الأسباب و الرسوم الخلقية من الطبايع و اختيار الخلق و إرادتهم و قدرتهم و إلى حركات الأفلاك و أوضاع الكواكب و أمثالها، و كل ذلك علل يحتجب أهل العادات عن الله تعالى و توحيده.
و أما العرفاء الموحدون فهم يعرفون هذه العلل و يسقطون الحدث و يسلكون سبيل علم القدم بإسقاط الحدث فلا يرون إلا سابقة حكم الأزل فيكونون مع الحق في جريان الأحول و يشهدون تصريفاته للأشياء بفعله على مقتضى حكمه و تقديره و حكمته الأزلية و قدرته و إرادته الأولية فيشاهدون الحق و أسماءه و صفاته لا غير.
هذا توحيد الخاصة أى المتوسطين الذي يصح بعلم الفناء لا بنفس الفناء الاتي بعده فإن علم الفناء يحصل بالفناء في حضرة الصفات و الأسماء أى الحضرة الواحدية قبل الفناء في الذات الأحدية التي هي عين الجمع و يصفو بعلم الجمع لا بعين الجمع و اضمحلال الرسوم بل قبله عند فناء علمه في علم الحق و يجذب إلى توحيد أرباب الجمع الذي يأتي في قوله.
(م) و أما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الله لنفسه و استحقه بقدره و ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته، و أخرسهم من نعته و أعجزهم عن بثه.
(ش) اختصه الله لنفسه أى استأثره الله به ليس لغيره منه نصيب و لا فيه قدم لأنه إنما يتحقق بفناء الحق كلهم و بقاء الحق وحده فلا يمكن لغيره عنه عبارة و لا إليه إشارة و لا شيء من أحكام الخلق و أوصافهم يصل إليه لحصوله بفنائهم و استحقه بقدره أى لا يستحقه بمقدار كنهه و حقيقته إلا هو و لا يبلغه غيره و ما قدروا الله حق قدره، و ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته حال البقاء بعد الفناء في عين الجمع لأنهم حال الفناء قد استغرقوا فيه فانين عن أسرارهم غائبين عنها، و في حال البقاء ردوا إلى الخلق باقين به فعرفوا أن الحضرة الأحدية لا نعت لها و كل ما ينعت به فهو من الحضرة الواحدية فأخرسهم الله عن نعته لا بمعنى أنهم يعرفون نعته فمنعهم عن التكلم به بل لأنهم عرفوا أن حضرة النعوت تحت مقام الجمع فهو كقوله: شعر: على لا حب لا يهتدى بمناره، و كذا معنى قوله:«و أعجزهم عن بثه» أى عن إظهار ذلك اللائح و الإخبار به لأنه لا يقبل الإخبار عنه كما لا يقبل النعت.
(م) و الذي يشار به إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث و إثبات القدم، على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا باسقاطه.
(ش) «و الذي يشار به إليه» مبتداء، خبره «أنه إسقاط الحدث» أى و أحسن ما يشار به إلى هذا التوحيد و ألطفه هو هذا الكلام المرموز، مع أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا باسقاطه فان الحدث لم يزل ساقطا، و إن القدم لم يزل ثابتا، فما معنى إسقاط ذلك و إثبات هذا و من المسقط و المثبت و ما ثم إلا وجه الحق تعالى؟ فهذه علة و هؤلاء ظنوا أنهم قد حصلوا تعريفه و ليسوا في حاصل.
(م) هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء هذا الطريق و إن زخرفوا له نعوتا و فصلوه فصولا فإن ذلك التوحيد يزيده العبارة خفاء، و الصفة نفورا و البسط صعوبة.
(ش) «هذا» أى قولهم إسقاط الحدث و إثبات القدم قطب مدار الإشارة إلى هذا الطريق و أعظم الإشارات و أحكمها و هو مع ذلك معلول يجب إسقاطه في تصحيح هذا التوحيد و الباقي من المتن ظاهر.
(م) و إلى هذا التوحيد شخص أهل الرياضة و أرباب الأحوال و المعارف و له قصد أهل التعظيم و إياه عنى المتكلمون في عين الجمع، و عليه تصطلم الإشارات ثم لم ينطق عنه لسان و لم يشر إليه عبارة فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون، أو يتعاطاه حين، أو يقله سبب.
(ش) «و إلى هذا التوحيد شخص» أى ذهب «أهل الرياضة» السالكون «و عليه تصطلم الإشارات» أى تنقطع و تستأصل «فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون» أى مخلوق، لأنه لا يصح إلا بفناء الرسوم كلها و صفاء الأحدية عن الكثيرة العددية فلا مجال للإشارة فيه، «أو يتعاطاه حين» أى وراء ما يتداوله زمان لأنه في عين القدم فوق طور الزمان و الحدث، «أو يقله سبب» أى وراء ما يحمله سبب لأنه قائم بمسبب الأسباب وحده فكيف يحمله سبب؟ و كلامه ظاهر لا يحتاج إلى الشرح.
(م) و قد أجبت في سالف الزمان سائلا سألنى عن توحيد الصوفية بهذه القوافي الثلاث:
ما وحد الواحد من واحد | إذ كل من وحده جاحد | |
توحيد من ينطق عن نعته | عارية أبطلها الواحد | |
توحيده إياه توحيده | و نعت من ينعته لاحد | |
(ش) يعنى ما وحد الحق تعالى حق توحيده الذاتي أحد إذ كل من وحده أثبت فعله و رسمه بتوحيده فقد جحده باثبات الغير إذ لا توحيد إلا بفناء الرسوم و الاثار كلها «توحيد من ينطق من نعته عارية» إذ لا نعت في الحضرة الأحدية و لا نطق و لا رسم لشيء و النطق و النعت يقتضيان الرسم و كل ما يشم منه رائحة الوجود فهو للحق عارية عند الغير فيجب عليه ردها إلى مالكها حتى يصح التوحيد و يبقى الحق واحدا واحدا فلذلك أبطل الواحد الحقيقي تلك العارية التي هي ذلك التوحيد مع بقاء رسم الغير فإنه باطل في نفسه في الحضرة الأحدية «توحيده إياه توحيده» أى توحيد الحق ذاته بذاته هو توحيده الحقيقي «و نعت من ينعته لاحد» أى وصف الذي يصفه هو أنه مشرك جائز عن طريق الحق مائل عنه لأنه أثبت النعت و لا نعت ثمة و أثبت رسمه باثبات النعت و لا رسم لشيء في الحضرة الأحدية و لا أثر و إلا لم تكن أحدية، انتهى.
فإن قلت: إن ما استفيد مما تقدم في معنى التوحيد أنه تعالى أحد لا بتأويل عدد، كما صرح به الأمير عليه السلام في كلامه المذكور آنفا و قد قال سيد الساجدين و زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام في الدعاء الثامن و العشرين من الصحيفة السجادية و هو كان من دعائه عليه السلام متفزعا إلى الله عز و جل: «لك يا إلهى وحدانية العدد، و ملكة القدرة الصمد، و فضيلة الحول و القوة، و درجة العلو و الرفعة، و من سواك مرحوم في عمره، مغلوب على أمره، مقهور على شأنه، مختلف الحالات، متنقل في الصفات، فتعاليت عن الأشباه و الأضداد و تكبرت عن الأمثال و الأنداد، فسبحانك لا إله إلا أنت».
فكيف التوفيق بين قوله عليه السلام: لك يا إلهى وحدانية العدد، و بين ما مر من أن الله تعالى منزه عن الوحدة العددية؟.
قلت: قد أفاد العالم المحقق صدر الدين المعروف بالسيد علي خان رضوان الله عليه في شرحه ما أتلوه عليك أولا ثم أذكر ما عندى، قال رحمه الله تعالى:
تقديم المسند لإفادة قصر المسند إليه عليه، أى لك وحدانية العدد لا تتخطاك إلى غيرك، و وحدانية الشيء كونه واحدا لأن ياء النسب إن الحقت آخر الاسم و بعدها هاء التأنيت أفادت معنى المصدر كالالوهية و الربوبية و الألف و النون مزيدتان للمبالغة.
و العدد قيل: هو كثرة الاحاد و هي صورة تنطبع في نفس العاد من تكرار الاحاد، و على هذا فالواحد ليس عددا، و قيل: هو ما يقع جوابا لكم فيكون الواحد عددا.
و قد اختلف أقوال الأصحاب في معنى قوله عليه السلام: لك يا إلهى وحدانية العدد، لمنافاتها ظاهرا وجوب تنزيهه تعالى عن الوحدة العددية نقلا و عقلا.
أما النقل فمستفيض من أخبارهم عليهم السلام و منه قول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له: الواحد بلا تأويل عدد، و قوله في خطبة اخرى: واحد لا بعدد و دائم لا بأمد.
و منه ما رواه رئيس المحدثين في كتاب التوحيد أن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين أتقول ان الله واحد؟ فحمل الناس عليه و قالوا: يا أعرابى أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسيم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم
ثم قال: يا أعرابي إن القول بأن الله تعالى واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على الله عز و جل، و وجهان يثبتان فيه:
فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز لأن ما لا ثانى له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال ثالث ثلاثة؟.
و قول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه و جل ربنا عن ذلك و تعالى.
و أما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربنا، و قول القائل: إنه عز و جل أحدي المعنى يعنى به أنه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم كذلك ربنا عز و جل.
و أما العقل فلأن الوحدة العددية إنما تتقوم بتكررها الكثرة العددية و يصح بحسبها أن يقال إن المتصف بها أحد أعداد الوجود أو أحد آحاد الموجودات و عز جنابه سبحانه أن يكون كذلك، بل الوحدة العددية و الكثرة العددية التي هي في مقابلتها جميعا من صنع وحدته المحضة الحقيقية التي هي نفس ذاته القيومة و هي وحدة حقة صرفة وجوبية قائمة بالذات لا مقابل لها و من لوازمها نفي الكثرة كما أشار إليه أمير المؤمنين صلوات الله و سلامه عليه في الحديث المذكور آنفا أنه أحدى المعنى لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم.
إذا عرفت ذلك ظهر لك أن قوله عليه السلام: لك يا إلهى وحدانية العدد، ليس مرادا به الوحدة العددية بل لا بد له من معنى آخر يصح تخصيصه به تعالى و قصره عليه كما يقتضيه تقديم المسند على المسند إليه.
فقال بعضهم: المراد به نفي الوحدة العددية عنه تعالى لا إثباتها له، و هو غير ظاهر.
و قيل: معناه ان لك من جنس العدد صفة لوحدة و هو كونك واحدا لا شريك لك و لا ثانى لك في الربوبية.
و قيل: معناه إذا عددت الموجودات كنت أنت المتفرد بالوحدانية من بينها.
و قيل: اريد به أن لك وحدانية العدد بالخلق و الإيجاد لها فإن الوحدة العددية من صنعه و فيض وجوده وجوده و لا يخفى أنه بمعزل عن المقام.
و قال بعضهم: أراد بوحدانية العدد جهة وحدة الكثرات و أحدية جمعها لا إثبات الوحدة العددية له تعالى.
و قيل: معناه أنه لا كثرة فيك أى لا جزء لك و لا صفة لك يزيدان على ذلك و هو أنسب المعاني المذكورة بالمقام، و توضيح المراد أن قوله عليه السلام لك يا إلهى وحدانية العدد يفسره قوله عليه السلام: و من سواك مختلف الحالات متنقل في الصفات فإنه عليه السلام قابل كل فقرة من الفقرات الأربع المتضمنة للصفات التي قصرها عليه سبحانه بفقرة متضمنة لخلافها فمن سواه على الطريق اللف و النشر الذي يسميه أرباب البديع معكوس الترتيب و هو أن يذكر متعدد تفصيلا ثم تذكر أشياء على عدد ذلك كل واحد يرجع إلى واحد من المتقدم من غير تعيين ثقة بأن السامع يرد كل واحد إلى ما يليق به و يكون الأول من النشر للاخر من اللف و الثاني لما قبله و هكذا على الترتيب كعبارة الدعاء فإن قوله عليه السلام: مختلف الحالات متنقل في الصفات راجع إلى قوله: لك يا إلهي وحدانية العدد، و قوله: مقهور على شأنه راجع إلى قوله: و ملكة القدرة الصمد، و قوله: مغلوب على أمره راجع إلى قوله: و فضيلة الحول و القوة، قوله: مرحوم في عمره راجع إلى قوله: درجة العلو و الرفعة.
إذا علمت ذلك ظهر لك أن المراد بوحدانية العدد له تعالى معنى يخالف معنى اختلاف الحالات و التنقل في الصفات لغيره سبحانه فيكون المقصود إثبات وحدانية ما تعدد من صفاته و تكثر من جهاته و أن عددها و كثرتها في الاعتبارات و المفهومات لا يقتضى اختلافا في الجهات و الحيثيات و لا تركيبا من الأجزاء بل جميع نعوته و صفاته المتعددة موجودة بوجود ذاته، و حيثية ذاته بعينها حيثية علمه و قدرته و سائر صفاته الإيجابية فلا تعدد و لا تكثر فيها أصلا بل هي وحدانية العدد موجودة بوجود واحد بسيط من كل وجه إذ كل منها عين ذاته فلو تعددت لزم كون الذات الواحدة ذواتا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
و هذا معنى قولهم واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات فجميع صفاته الإيجابية عين ذاته من غير لزوم تكثر.
فإن قلت: كيف تكون صفاته عين ذاته و مفهوم الصفة غير مفهوم الذات؟
و أيضا فإن مفهوم كل صفة غير مفهوم صفة اخرى فكيف تتحد بالذات؟.
قلت: قد تكون المفهومات المتعددة موجودة بوجود واحد فالصفات بحسب المفهوم و إن كانت غير الذات و بعضها يغاير بعضها إلا أنها بحسب الوجود ليست أمرا وراء الذات أعنى أن ذاته الأحدية تعالى شأنه هي بعينها صفاته الذاتية بمعنى أن ذاته بذاته وجود و علم و قدرة و حياة و سمع و بصر، و هي أيضا موجود عالم قادر حى سميع بصير يترتب عليها آثار جميع الكمالات و يكون هو من حيث ذاته مبدء لها من غير افتقار إلى معان اخر قائمة به تسمى صفاتا تكون مصدرا للاثار لمنافاته الوحدة و الغناء الذاتيين و الإختصاص بالقدم فذاته صفاته و صفاته ذاته لا زائدة عليها كصفات غيره من المخلوقين فإن العلم مثلا في غيره سبحانه صفة زائدة على ذاته مغايرة للسمع فيه و فيه نفسه تعالى و هو بعينه سمعه و قس على ذلك سائر الصفات الثبوتية.
فتبين أن المراد بقصر وحدانية العدد عليه تعالى هذا المعنى المخالف لصفات من سواه و حالاته فانها كيفيات نفسانية انفعالية و حالات متغايرة و معان مختلفة له إذ كان يسمع بغير ما يبصر، و يبصر بغير ما يسمع إلى غير ذلك من صفاته المتعددة المتكثرة التي توجب اختلاف الحالات و التنقل في الصفات و بالجملة فمعنى قصر وحدانية العدد عليه سبحانه نفى التعدد و التكثر و الاختلاف عن الذات و الصفات على الاطلاق، و هذا المعنى مقصور عليه تعالى لا يتجاوزه إلى غيره، و الله أعلم بمقاصد أوليائه، و في المقام كلام طويل طويناه على عزه. انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: أولا إن حديث الأعرابي يوم الجمل قد نقله العلامة الشيخ بهاء الدين قدس سره أيضا في أوائل المجلد الثالث من الكشكول (ص 258 من طبع نجم الدولة) من كتاب أعلام الدين تأليف أبي محمد الحسن بن أبي الحسن الديلمي، عن مقداد بن شريح البرهاني، عن أبيه قال: قام رجل يوم الجمل إلى علي عليه السلام- إلخ، و ثانيا الحكم في اصول العقائد و المعيار فيها هو العقل فحسب فما حكم به العقل الناصع فهو المتبع فاذا ورد أمر من أهل بيت الوحى و خزنة أسرار الله فإن كان مما يدركه العقل، و إلا فإن عجز عن إدراكه فإما كان العجز من حيث إنه كلام عال سام لا تبلغه العقول بلا تلطيف سر و تدقيق فكر و نور علم فلا بد من الورود فيها من أبوابها، أو من حيث إن ظاهره ينافي حكم صريح العقل فلا بد من التأمل فيه حق التأمل لأن الكلام حينئذ ليس محمولا على ظاهره قطعا و ذلك للعلم القطعي بأن ما صدر عن أولياء الله تعالى لا سيما عن حججه و وسائط فيضه ليس ما ينافي حكم العقل واقعا بل منطقهم عقل ليس إلا، فما يحرى على الفاحص مغزا كلامهم، و المستفيد من مأدبة مرامهم أن يسأل الله تعالى فهم ما أفاضوه، و نيل ما أفادوه، فقد روى ثقة الإسلام الكليني في باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب من كتاب الحجة من اصول الكافي بإسناده عن جابر قال: قال أبو جعفر عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه و آله: إن حديث آل محمد صعب مستصعب لا يؤمن به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان، فما ورد عليكم من حديث آل محمد صلى الله عليه و آله فلانت له قلوبكم و عرفتموه فاقبلوه، و ما اشمأزت منه قلوبكم و أنكرتموه فردوه إلى الله و إلى الرسول و إلى العالم من آل محمد صلى الله عليه و آله و إنما الهالك أن يحدث أحدكم بشيء منه لا يحتمله فيقول: و الله ما كان هذا، و الله ما كان هذا و الإنكار هو الكفر (330 ج 1 من الكافي المشكول) و قريب منه ما قد أتى به السيد الرضي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في الخطبة 187 من النهج أولها: فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب.
فنقول: العقل حاكم على أنه تعالى ليس بواحد عددي أى شخصي لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد و الوحدة العددية معروضها هويات آحاد عالم الإمكان، على أنه قد تحقق في محله أن العدد لا يعرض المفارق العقلي لا بالذات و لا بالعرض و هو عارض للنفوس بواسطة البدن، بل الله تعالى واحد بالوحدة الحقة التي هي حق الوحدة إذ لا مهية له سوى الوجود البحت البسيط و الوجود هو الوحدة القائمة بذاتها و الوحدة هي الوجود.
فاعلم أن الوحدة هي ما يقال به لشيء ما واحد، و العدد هو الكمية المتألفة من الوحدات، كما في صدر المقالة السابعة من اصول أقليدس، فالوحدة ليست بعدد لأن العدد ما فيه انفصال لأنه كم و الكم يقبل الانقسام و الوحدة لا تقبله، و من جعلها عددا أراد بالعدد ما يدخل تحت العد، كما قال العلامة الخواجه الطوسي في الصدر المذكور: «و قد يقال لكل ما يقع في مراتب العد عدد فيقع اسم العدد على الواحد أيضا بهذا الاعتبار» فالنزاع لفظي، و قد يحد العدد بأنه نصف مجموع حاشيته كالأربعة مثلا حاشيتاها ثلاثة و خمسة و هى نصف مجموعها، فيخرج الواحد منه أيضا.
و الوحدة مبدء العدد المتقوم بها فالحق كما صرح به العلامة الشيخ البهائى في خلاصة الحساب أن الواحد ليس بعدد و إن تألفت منه الأعدد كما أن الجوهر الفرد عند مثبتيه ليس بجسم و إن تألفت منه الأجسام، مثلا أن العشرة متقومة بالواحد عشر مرات و ليست متقومة بخمسة و خمسة و لا بسته و أربعة و لا بسبعة و ثلاثة و لا بثمانية و اثنين لأن تركبها من الخمستين ليس بأولى من تركبها من الستة و الأربعة و غيرها من أنواع الأعداد التي تحتها و لهذا قال الفيلسوف المقدم ارسطاطاليس- كما في الخامس من ثالثة إلهيات الشفاء-: لا تحسبن أن ستة ثلاثة و ثلاثة بل هو ستة مرة واحدة.
و قال الشيخ في الفصل المذكور: و حد كل واحد من الأعداد إن أردت التحقيق هو أن يقال إنه عدد من اجتماع واحد و واحد و واحد و تذكر الاحاد كلها و ذلك لأنه لا يخلو إما أن يحدد العدد من غير أن يشار إلى تركيبه مما ركب منه بل بخاصية من خواصه فذلك يكون رسم ذلك العدد لا حده من جوهره، و إما أن يشار إلى تركيبه مما ركب منه، فإن اشير إلى تركيبه من عددين دون الاخر مثلا أن يجعل العشرة من تركيب خمسة و خمسة لم يكن ذلك أولى من تركيب ستة مع أربعة و ليس تعلق هويتها بأحدهما أولى من الاخر و هو بما هو عشرة مهية واحدة و محال أن تكون مهية واحدة و ما يدل على مهية من حيث هي واحدة حدود مختلفة فاذا كان كذلك فحده ليس بهذا و لا بذاك بل بما قلنا و يكون إذا كان ذلك كذلك فقد كان له التراكيب من خمسة و خمسة و من ستة و أربعة و من ثلاثة و سبعة لازما لذلك و تابعا فيكون هذه رسوما له.
فنقول: كما أن الوحدة مبدء العدد و ليست منه و تتألف منه الأعداد بكثرتها و لم تجد في مراتبها المختلفة بعد الفحص و التفتيش غير الوحدة و قد علمت أن مفاهيم الأعداد تتحقق بتكرر المفهوم الوحدة لا غير كذلك الوحدة الحقة التي هي حق الوحدة مبدء للحقائق و بتكرر تجلياته تتحقق الحقائق بلا تكثر في المتجلى، و كأن ما في زبور آل محمد صلى الله عليه و آله من أن له تعالى وحدانية العدد يشير إلى هذا السر المكنون و قد سلك أهل السر هذا المسلك الأقوم و الطريق الأوسط.
فقال السيد المحقق الداماد قدس الله روحه معناه: أن الوحدة العددية ظل لوحدة الحقة الصرفة القيومية، و قال مولانا محسن الفيض قدس سره:وحدانية العدد أى جهة وحدة الكثرات و أحدية جمعها لأن العددية منتفية عنه سبحانه تعالى البتة و إنما الثابت له معنى الوحدة ليس إلا الوحدة الحقيقية كما ثبت في محله عقلا و نقلا.
و قال صدر المتألهين قدس سره في الشواهد الربوبية: و من اللطائف أن العدد مع غاية تباينه عن الوحدة و كون كل مرتبة منه حقيقة برأسها موصوفة بخواص و لوازم لا توجدان في غيرها إذا فتشت في حاله و حال مراتبه المختلفة لم تجد فيها غير الوحدة.
و قال الحكيم المتأله السبزوارى رضوان الله عليه في الحاشية: فكل عدد من الأعداد التي من النسب الأربع فيه التباين مع الاخر ليس أجزاؤه إلا الواحد فالاثنان واحد و واحد، و الثلاثة واحد و واحد و واحد و هكذا فالواحد رسم بتكراره الأعداد المتباينة و لو في غاية التباين، و تكرار الشيء ليس إلا ظهوره ثانيا و ثالثا بالغا ما بلغ، و ظهورات الشيء ليست مكثرة له فاذا ظهر زيد في البيت مرة بعد اولى و كرة غب اخرى لم يتعدد تعددا شخصيا أو نوعيا، و هذا الواحد لا بشرط صار باللحاظات الكثيرة أعدادا متباينة لها أحكام و آثار متخالفة مما هي مشروحة في علم الحساب و علم الأعداد و غيرهما فمفهوم الواحد في مفاهيم الأعداد كحقيقة الوجود بالنسبة إلى أنحاء الوجودات و لعل هذا معنى قول سيد الساجدين علي بن الحسين عليهما السلام: يا الهى لك وحدانية العدد، أى لك وحدانية آيتها الوحدانية التي هي راسمة الأعداد و علة قوامها و عادها و مفنيها، انتهى.
و قد نقلنا بيان هؤلاء العظام من تعليقة الحكيم المتأله البارع الاخوند الهيدجى على الفريدة الثالثة من المقصد الأول من غرر الفرائد للمتأله السبزواري قدس سرهما.
و أنت تعلم أن كلامهم مبنى على ذلك السر المشار إليه و قد بسط القول فيه غير واحد من أجلة المتالهين منهم محيى الدين في الفص الإدريسي من كتاب فصوص الحكم، و منهم المولى صدرا في الفصل الرابع من المرحلة الخامسة من السفر الأول من الأسفار الأربعة، و منهم المولى محسن الفيض في عين اليقين.
و نأتي بكلام الأولين تتميما للفائدة و تكميلا لها قال أوسطهم: فصل في بعض الأحكام الوحدة و الكثرة، ان الوحدة ليست بعدد و إن تألف منها لأن العدد كم يقبل الانقسام و الوحدة لا يقبله و من جعل الوحدة من العدد أراد بالعدد ما يدخل في تحت العد فلا نزاع معه لأنه راجع إلى اللفظ بل هي مبدء للعدد لأن العدد لا يمكن تقومه إلا بالواحدة لا بما دون ذلك العدد من الأعداد فإن العشرة لو تقويت بغير الوحدات لزم الترجيح من غير مرجح فإن تقومها بخمسة و خمسة ليس أولى من تقومها بستة و أربعة، و لا من تقومها بسبعة و ثلاثة و التقوم بالجميع غير ممكن و إلا لزم تكرر أجزاء المهية المستلزم لاستغناء الشيء عما هو ذاتي له لأن كلا منها كان في تقومها فيستغنى به عما عداه، و إن أخذ تقويمها باعتبار القدر المشترك بين جميعها لا باعتبار الخصوصيات كان اعترافا بما هو المقصود إذ القدر المشترك بينها هو الوحدات.
و من الشواهد أنه يمكن تصور كل عدد بكنهه مع الغفلة عما دونه من الأعداد فلا يكون شيء منها داخلا في حقيقته فالمقوم لكل مرتبة من العدد ليس إلا الوحدة المتكررة فإذا انضم إلى الوحدة مثلها حصلت الاثنينية و هي نوع من العدد و إذا انضم إليها مثلاها حصلت الثلاثة و هكذا يحصل أنواع لا تتناهي بتزايد واحد واحد لا إلى نهاية إذا التزايد لا ينتهى إلى حد لا يزاد عليه فلا ينتهى الأنواع إلى نوع لا يكون فوقه نوع آخر.
و أما كون مراتب العدد متخالفة الحقائق كما هو عند الجمهور فلاختلافها باللوازم و الأوصاف من الصمم و المنطقية و التشارك و التباين و العادية و المعدودية و التجذير و المالية و التكعب و أشباهها، و اختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات.
و هذا مما يؤيد ما ذهبنا إليه في باب الوجود من أن الاختلاف بين حقائقها إنما نشأ من نفس وقوع كل حقيقة في مرتبة من المراتب فكما أن مجرد كون العدد واقعا في مرتبة بعد الاثنينية هو نفس حقيقة الثلاثة إذ يلزمها خواص لا توجد في غيره من المراتب قبلها أو بعدها فكذلك مجرد كون الوجود واقعا في مرتبة من مراتب الأكوان يلزمه معان لا توجد في غير الوجود الواقع في تلك المرتبة فالوحدة لا بشرط في مثالنا بازاء الوجود المطلق، و الوحدة المحضة المتقدمة على جميع المراتب العددية بازاء الوجود الواجبي الذي هو مبدأ كل وجود بلا واسطة و مع واسطة أيضا، و المحمولات الخاصة المنتزعة من نفس كل مرتبة من العدد بازاء المهيات المتحدة مع كل مرتبة من الوجود، و كما أن الاختلاف بين الأعداد بنفس ما به الاتفاق فكذلك التفاوت بين الوجودات بنفس هوياتها المتوافقة في سنخ الموجودية.
و على ما قررنا يمكن القول بالتخالف النوعي بين الأعداد نظرا إلى التخالف الواقع بين المعاني المنتزعة عن نفس ذواتها بذواتها و هي التي بازاء المهيات المتخالفة المنتزعة عن نفس الوجودات.
و يمكن القول بعدم تخالفها النوعي نظرا إلى أن التفاوت بين ذواتها ليس إلا بمجرد القلة و الكثرة في الوحدات و مجرد التفاوت بحسب قلة الأجزاء و كثرتها في شيء لا يوجب الاختلاف النوعي في أفراد ذلك الشيء، و أما كون اختلاف اللوازم دليلا على اختلاف الملزومات فالحق دلالته على القدر المشترك بين التخالف النوعي و التخالف بحسب القوة و الضعف و الكمال و النقص. انتهى كلامه رفع مقامه.
و أما ما أفاده في المقام أولهم في الفص الإدريسي، فلما كان كشف دقائقة على طالبيه مبتنيا على زيادة إيضاح فالحري بنا أن نأتي به مع شرح كاشف معضلات كتابه فصوص الحكم داود بن محمود القيصري مشيرا إلى المتن بحرف الميم و إلى الشرح بالشين، كما يلي:(م) فاختلطت الامور و ظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة.
(ش) أى فاختلطت الامور و اشتبهت بالتكثر الواقع فيها على المحجوب الغير المنفتح عين بصيرته و إن كانت ظاهرة راجعة إلى الواحد الحقيقي عند من رفعت الأستار عن عينه و انكشف الحق إليه بعينه، و الاختلاط بالتجليات المختلفة صار سببا لوجود الكثرة كما ظهرت الأعداد بظهور الواحد في المراتب المعلومة، و لما كان ظهور الواحد في المراتب المتعددة مثالا تاما لظهور الحق في مظاهره جعل هذا الكلام توطئة و شرع في تقرير العدد و ظهور الواحد فيه ليستدل المحجوب به على الكثرة الواقعة في الوجود المطلق مع عدم خروجه عن كونه واحدا حقيقيا و قال:(م) فأوجد الواحد العدد و فصل العدد الواحد.
(ش) أى أوجد الواحد بتكرره العدد إذ لو لم يتكرر الواحد لم يكن حصول العدد، و فصل العدد مراتب الواحد مثل الاثنين و الثلاثة و الأربعة و غير ذلك إلى ما لا يتناهى لأن كل مرتبة من مراتب الاحاد و العشرات و المات و الالوف ليس غير الواحد المتجلي بها لأن الاثنين مثلا ليس إلا واحدا و واحدا اجتمعا بالهيئة الوحدانية فحصل منها الاثنان فمادته هو الواحد المتكرر و صورته أيضا واحدة فليس فيه شيء سوى الواحد المتكرر فهو مرتبة من مراتبه و كذلك البواقي، فايجاد الواحد بتكراره العدد مثال لإيجاد الحق الخلق بظهوره في الصورة الكونية، و تفصيل العدد مراتب الواحد مثال لإظهار الأعيان أحكام الأسماء الإلهية و الصفات الربانية و الارتباط بين الواحد و العدد مثال للارتباط بين الحق و الخلق و كون الواحد نصف الاثنين و ثلث الثلاثة و ربع الأربعة و غير ذلك مثال للنسب اللازمة التي هي الصفات للحق.
(م) و ما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود فالمعدود منه عدم و منه وجود، فقد يعدم الشيء من حيث الحس و هو موجود من حيث العقل.
(ش) أى العدد لكونه كما منفصلا و عرضا غير قائم بنفسه لا بد أن يقع في معدود ما سواء كان ذلك المعدود موجودا في الحس أو معدوما فيه موجودا في العقل و ظهور العدد بالمعدود مثال لظهور الأعيان الثابتة في العلم بالموجودات و هي بعضها حسية و بعضها غيبية كما أن بعض المعدود في الحس و بعضه في العقل.
(م) فلا بد من عدد و معدود و لا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه.
(ش) أى إذا كان لا يظهر حكم العدد إلا بالمعدود، و لا يتبين مراتب الواحد إلا بالعدد فلا بد من عدد و معدود، و لما كان العدد ينشأ بتكرار الواحد فلا بد من واحد ينشئ ذلك العدد فينشأ، أى يظهر الواحد في مراتبه و مقاماته المختلفة بسبب ظهور العدد فالسبب هنا السبب القابلى، و لا بد من واحد ينشئ العدد فينشأ العدد بسبب ذلك الواحد فالسبب السبب الفاعلى و الأول أنسب.
(م) فإن كان كل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا و العشرة إلى أدنى و أكثر إلى غير نهاية ما هي مجموع و لا ينفك عنها اسم جمع الاحاد
فإن الإثنين حقيقة واحدة و الثلاثة حقيقة واحدة بالغا ما بلغت هذه المراتب.
(ش) و في بعض النسخ فإن لكل مرتبة من العدد حقيقة و الظاهر أنه تصرف ممن لا يعرف معناه و مقصوده رضي الله عنه أن كان كل مرتبة حقيقة واحدة أى إن عبرنا في كل مرتبة ما به يمتاز العدد المعين فيها من غيرها و هو ما به الاثنان اثنان و الثلاثة ثلاثة مثلا فما هي مجموع الاحاد فقط بل ينضم إليها أمر آخر يميزها عن غيرها و لا ينفك عنها اسم جمع الاحاد لأنه كالجنس لها فلا بد منها فإن الاثنين حقيقة واحدة ممتازة من الثلاثة و هي أيضا كذلك حقيقة واحدة متميزة عن الاخرى إلى ما لا نهاية له، فقوله: ما هي مجموع جواب الشرط و الجملة الإسمية إذا وقعت جواب الشرط يجوز حذف الفاء منه عند الكوفيين كقول الشاعر: من يفعل الحسنات الله يجزيها، و إن لم تعتبر الامور المتميزة بعضها عن بعضها و تأخذ القدر المشترك بين الكل الذي هو جمع الاحاد و تعتبره لا يبقى الامتياز بين كل منها كما نعتبر الجنس الذي بين النوعين كالإنسان و الفرس فيحكم عليهما بأنهما حيوان فكذلك يحكم في الإثنين و الثلاثة و الأربعة بأنها مجموع من الاحاد مع قطع النظر عما به يمتاز بعضه عن البعض الاخر و هو المراد بقوله:(م) و إن كانت واحدة فما عين واحدة منهن عين ما بقي.
(ش) و هذا الشق يدل على ما ذهبنا إليه من أن الأصح فإن كان كل مرتبة من العدد حقيقة أى و إن كانت المراتب كلها واحدة في كونها جمع الاحاد أو مجموعها فليس عين مرتبة واحدة من تلك المراتب عين ما بقي منها لأن كل مرتبة منها حقيقة برأسها موصوفة بخواص لا توجد في غيرها، و يجوز أن يكون ما بمعنى الذي أى و إن كانت المراتب كلها واحدة بحسب رجوعها إلى حقيقة واحدة هي جمع الاحاد فالذي عين واحدة من مراتب الاثنين و الثلاثة و غير ذلك عين ما بقي في كونه عبارة عن جمع الاحاد و هذا أنسب بقوله:(م) فالجمع يأخذها فيقول بها منها و يحكم بها عليها.
(ش) أي إذا كان لا ينفك عنها اسم جمع الاحاد فجمع الاحاد الذي هو كالجنس لتلك المراتب يأخذها و يجمعها و يتناولها و يصدق عليها صدق الجنس على أنواعه فنقول بتلك المراتب من تلك الحقيقة الجامعة إياها و يحكم بها عليها أى الجامع بين المراتب يحكم عليها بما يعطيه من الأحكام كما يحكم الحق على الأعيان بما يعطيه من الأحوال.(م) و قد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة فقد دخلها التركيب.
(ش) أى حصل في هذا القول و هو أن كان كل مرتبة حقيقة عشرون مرتبة أولها مرتبة الواحد المنشئ للعدد، ثم مرتبة الاثنين إلى التسعة فصار تسعة ثم مرتبة العشرة و العشرين إلى تسعين و هي تسعة اخرى فصار ثمانية عشر، ثم مرتبة المائة و الألف و على الباقي يدخل التركيب و ضمير دخلها يرجع إلى المراتب العشرين.
(م) فما تنفك ثبت عين ما هو منفى عندك لذاته.(ش) أى لا تزال ثبت في كل مرتبة من المراتب عين ما تنفيه في مرتبة اخرى كما ذكر من أن الواحد ليس من العدد باتفاق جمهور أهل الحساب مع أنه عين العدد إذ هو الذي بتكرره توجد الأعداد فيلزمه في كل مرتبة من مراتب العدد لوازم و خصوصيات متعددة و كذلك نقول لكل مرتبة أنها جمع الاحاد و نثبت أنها ليست غير مجموع الاحاد مع أنه منفى عندك بأنها ليست مجموع الاحاد فقط.
(م) و من عرف ما قررناه في الأعداد و أن نفيها عين ثبتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه و إن كان قد تميز الخلق من الخالق فالأمر الخالق المخلوق و الأمر المخلوق الخالق.
(ش) أي و من عرف أن العدد هو عبارة عن ظهور الواحد في مراتب متعددة و ليس من العدد بل هو مقومه و مظهره و العدد أيضا في الحقيقة ليس غيره، و أن نفي العددية من الواحد عين إثباتها له لأن الأعداد ليست إلا عين مجموع الاحاد مادة و صورة علم أن الحق المنزه عن نقائص الإمكان بل عن كمالات الأكوان هو بعينه الخلق المشبه، و إن كان قد تميز الخلق بإمكانه من الخالق فالأمر الخالق أي الشيء الذي هو الخالق هو المخلوق بعينه، لكن في مرتبة اخرى غير المرتبة الخالقية، و الأمر المخلوق هو الخالق بعينه لكن باعتبار ظهور الحق فيه.
و اعلم أن الاثنين مثلا ليس عبارة إلا عن ظهور الواحد مرتين مع الجمع بينهما، و الظاهر فرادى و مجموعا فيه ليس إلا الواحد فما به الاثنان اثنان و تغاير الواحد ليس إلا أمر متوهم لا حقيقة له كذلك شأن الحق مع الخلق فإنه هو الذي يظهر بصور البسائط ثم بصور المركبات فيظن المحجوب أنها مغايرة بحقائقها و ما يعلم أنها امور متوهمة و لا موجود إلا هو.
(م) كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة و هو العيون الكثيرة.
(ش) أى كل ذلك الوجود الخلقي صادر من الذات الواحدة الإلهية ثم أضرب عنه لأنه مشعر بالمغايرة فقال: بل ذلك الوجود الخلقي هو عين تلك العين الواحدة الظاهرة في مراتب متعددة و ذلك العين الواحدة التي هي الوجود المطلق هي العيون الكثيرة باعتبار المظاهر المتكثرة، كما قال:
(م) سبحان من أظهرنا سوته | سر سنا لاهوته الثاقب | |
ثم بدا في خلقه ظاهرا | في صورة الاكل و الشارب | |
فانظر ما ذا ترى.
(ش) أى انظر أيها السالك طريق الحق ما ذا ترى من الوحدة و الكثرة جمعا و فرادى؟ فإن كنت ترى الوحدة فقط فأنت مع الحق وحده لارتفاع الإثنينية، و إن كنت ترى الكثرة فقط فأنت مع الخلق وحده، و إن كنت ترى الوحدة في الكثرة محتجبة و الكثرة في الوحدة مستهلكة فقد جمعت بين الكمالين و فزت بمقام الحسنيين، هذا آخر ما أفاد هذا الفحل العارف المتأله في المقام.
فبما قدمنا ظهر لك سر كلام ولى الله الأعظم زين العابدين و سيد الساجدين علي بن الحسين عليهما السلام: لك يا إلهي وحدانية العدد، و كلام هؤلاء الأكابر سيما الأخير منهم تفصيل ذلك الكلام الموجز المفاض من صقع الملكوت و قد عرفه جده قدوة المتألهين و إمام العارفين و برهان السالكين علي أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «إنا لامراء الكلام، و فينا تنشبت عروقه و علينا تهدلت غصونه» (المختار 231 من خطب النهج)، و بقوله: «هم عيش العلم و موت الجهل إلخ» (المختار 237 من خطب النهج) فراجع إلى شرحنا عليهما في المجلدين الأول و الثاني من تكملة منهاج البراعة.
و حيث انجر البحث إلى التوحيد و ساقنا لقاء الله إليه فلنشر إلى نبذة مما أودع في سورة التوحيد أعنى سورة الإخلاص كي يستقر التوحيد على ما شاهده أهله في قلوب مستعديه، و يتضح معنى اللقاء المبحوث عنه أتم إيضاح لمبتغيه على أن هذه السورة نسبته تبارك و تعالى و وصفه، و الحبيب يشتاق ذكر حبيبه و يلتذ بوصفه كما يحب الخلوة معه، و الانس به، و آثاره من رسوله و كتابه و أوليائه.
ففي آخر الباب الحادى و العشرين من إرشاد القلوب للديلمي قدس سره في الذكر و المحافظة عليه: قال الصادق عليه السلام إن النبي صلى الله عليه و آله صلى على سعد بن معاذ و قال: لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك و فيهم جبرئيل يصلون عليه فقلت: يا جبرئيل بما استحق صلاتكم؟ قال: يقرأ قل هو الله أحد قائما و قاعدا و راكبا و ماشيا و ذاهبا و جائيا.
و قد انعقد الشيخ أبو جعفر الصدوق رضوان الله عليه بابا في كتاب التوحيد في تفسير سورة قل هو الله أحد و أتى من أئمة الدين بأحاديث قيمة فليراجع الطالب إليه و إلى شرح المقتبس من مشكاة الولاية القاضي السعيد القمي أعلى الله درجاته على ذلك الكتاب، و لكنا إنما نكتفي بنقل بعضها، و بما أفاده العارف المتأله الميرزا محمد رضا القمشئى قدس سره في تعليقته على شرح الفصوص للقيصرى، و الحكيم البارع المولى صدرا قدس سره في شرح اصول الكافي في تفسير سورة الإخلاص لأن نقل جميع تلك الأحاديث ينجر إلى الإطالة لكونها صعبا مستصعبا جدا لا بد من تفسيرها و كشف معضلاتها.
فأما ما قال القمشئى رضوان الله عليه في تعليقته على الفصل الأول من مقدمات القيصري على شرح الفصوص في الإشارة إلى نبذ مما في سورة التوحيد فهو مايلى:اعلم أن الوجود لما كان حيث ذاته حيث التحقق و الإنية فهو متحقق بنفس ذاته و لما كان واجبا بذاته و الواجب بالذات مهيته إنيته فليس فيه سوى حيث الوجود حيث، و لما لم يكن فيه سوى حيث الوجود حيث فلم يكن معه شيء فكان الله و لم يكن معه شيء و الان كما كان و هذا هو الذي يوهم أنه وجود بشرط لا و الأمر كذلك إلا أن كونه بشرط لا من لوازم ذاته و لا دخل في وجوب ذاته.
فإن قلت: فما معنى سريان تلك الحقيقة في الواجب و الممكن؟
أقول: معنى السريان الظهور فقد يكون ظاهرا بنفس ذاته لذاته و هذا سريانه في الواجب و قد يكون ظاهرا في ملابس الأسماء و الأعيان الثابتة في العلم، و قد يكون ظاهرا في ملابس أعيان الموجودات في الأعيان و الأذهان، و هذا السريان في الممكن و الكل شئونه الذاتية، فالوجود المأخوذ لا بشرط عين الوجود بشرط بحسب الهوية و الإختلاف في الاعتبار و إليه اشير في قوله تعالى: قل هو الله أحد فإن لفظة هو ضمير يشير إلى أنه لا اسم له، و لفظة الله اسم للذات بحسب الظهور الذاتي، و لفظة أحد قرينة دالة على أن اسم الله هناك للذات فإنه مشترك بينها و بين الذات الجامعة لجميع الصفات و في الظهور الذاتي لا نعت له و لا صفة بل الصفات منفية كما قال عليه السلام: و كمال التوحيد نفي الصفات عنه تعالى، أى الغيب المجهول هو الذات الظاهرة بالأحدية، و لما كان لفظة أحد قد يطلق لمعنى سلبى كما في هذا الموضع فإنه يسلب عنه جمع الأشياء بل الأسماء و الصفات أيضا فيوهم أنه خال عن الأشياء فاقد لها بل عن النعوت و الكمالات و هو تعالى بوحدته كل الأشياء و جميع النعوت و الكمالات فاستدرك بقوله تعالى: الله الصمد فان الصمد هو الواحد الجامع، ثم استدل عليه بأنه لم يلد و لم يولد أى لم يخرج عنه شيء و لم يخرج عن شيء ليكون ناقصا بخروج الشيء عنه أو بخروجه عن شيء فأحديته بسلب تعينات الأشياء عنه، و صمديته تثبت باندماج حقائقها فيه. انتهى كلامه.
قلت: ما أفاده قدس سره شريف متين جدا و تجد في تلك المعاني الدقيقة الفائضة من عرش التحقيق إشارات أنيقة من أئمة الدين صلوات الله عليهم أجمعين و من تأمل في الجوامع الروائية الإمامية رأى بالعيان أن أصل العرفان تنشبت عروقه فيهم، و تهدلت غصونه عليهم إلا أن الجهلة من المتصوفة و أشباه العرفاء و لا عرفاء إنما ردوا الناس عن الدين القهقرى، و ما سمعت من كلام هذا العارف الجليل في «هو» مأخوذ من خزنة العلم و عيب أسرار الله، فقد روى أبو جعفر الصدوق رضوان الله عليه في باب تفسير قل هو الله من كتابه التوحيد بإسناده عن أبي البختري وهب بن وهب القرشي، عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي الباقر عليهم السلام في قول الله تبارك و تعالى: قل هو الله أحد:
قال: «قل» أي أظهر ما أوحينا إليك و نبأناك به بتأليف الحروف التي قرأتها لك ليهتدى بها من ألقى السمع و هو شهيد، و «هو» اسم مكنى مشار إلى غائب فالهاء تنبيه على معنى ثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواس، كما أن قولك: هذا إشارة إلى الشاهد عند الحواس، و ذلك أن الكفار نبهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك، فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار فأشر أنت يا محمد إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه و ندركه و لا نأله فيه، فأنزل الله تبارك و تعالى: قل هو الله أحد فالهاء تثبيت للثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواس، و أنه تعالى عن ذلك، بل هو مدرك الأبصار و مبدع الحواس، حدثني أبي، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: رأيت الخضر عليه السلام في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علمني شيئا أنصر به على الأعداء، فقال: قل: يا هو يا من لا هو إلا هو، فلما أصبحت قصصتها على رسول الله صلى الله عليه و آله، فقال لي: يا علي علمت الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر و أن أمير المؤمنين عليه السلام قرأ قل هو الله أحد فلما فرغ قال: يا هو يا من لا هو إلا هو اغفر لي و انصرني على القوم الكافرين، و كان علي عليه السلام يقول ذلك يوم صفين و هو يطارد، فقال له عمار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟
قال: اسم الله الأعظم و عماد التوحيد لله لا إله إلا هو، ثم قرأ: شهد الله أنه لا إله إلا هو و آخر الحشر- ثم نزل فصلى أربع ركعات قبل الزوال.
بيان: قوله: و لا نأله فيه أى لا نتحير فيه من أله كفرح أى تحير، و قوله: حدثني أبي عن أبيه من تتمة الحديث و القائل هو الإمام محمد بن علي الباقر يقول حدثني أبي زين العابدين علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه أمير المؤمنين علي عليهم السلام، و قوله: قبل بدر بليلة، يعني قبل غزوة بدر بليلة.
و أما ما أفاده الحكيم المتأله مولى صدرا في تفسير السورة، فقال قدس سره في شرح الحديث الثالث من باب النسبة من كتاب التوحيد من اصول الكافي المذكور من قبل عن سيد الساجدين عليه السلام في سورة التوحيد و الايات من الحديد: أما سورة التوحيد، فلا يخفى لمن تدبر و تعمق فيها اشتمالها على غوامض علوم التوحيد و لطائف أسرار التقديس، فقد علمت نبذا من أسرارها العميقة مع أن المذكور يسير من كثير ما علمناه، نزر حقير في جنب ما ستر فيها من العلوم الأحدية و الأسرار الصمدية.
و اعلم أن كثرة الأسامي و الألقاب يدل على مزيد الفضيلة و الشرف، كما لا يخفى فأحدها سورة التفريد، و الثاني سورة التجريد، و ثالثها سورة التوحيد، و رابعها سورة الاخلاص، لأنه لم يذكر في هذه السورة الصفات السلبية التي هي صفات الجلال، و لأن من اعتقدها كان مخلصا في دين الله، و لأن غاية التنزيه و التفريد و التوحيد يستلزم غاية الدنو و القرب المستلزم للمحبة و الاخلاص في الدنيا.
و خامسها سورة النجاة لأنها تنجيك من التشبيه و الكفر في الدنيا، و عن النار في الاخرة، و سادسها سورة الولاية لأن من قرأها عارفا بأسرارها صار من أولياء الله، و سابعها سورة النسبة لما روى أنه ورد جوابا لسؤال من قال: انسب لنا ربك، ثامنها سورة المعرفة، و روى جابر رضى الله عنه: أن رجلا صلى فقرأ:قل هو الله أحد فقال النبي صلى الله عليه و آله: إن هذا عبد عرف ربه فسميت سورة المعرفة لذلك.
و تاسعها سورة الجمال لأن الجلال غير منفك عن الجمال كما أشرنا إليه، و لما روى أنه قال صلى الله عليه و آله: إن الله جميل يحب الجمال، سألوه عن ذلك فقال: أحد صمد لم يلد و لم يولد، و عاشرها سورة المقشقشة، يقال: قشقش يقشقش المريض برأ، فمن عرفها تبرأ من الشرك و النفاق لأن النفاق مرض كما في قلوبهم مرض، الحادى عشر المعوذة، روى أنه صلى الله عليه و آله دخل على عثمان بن مظعون يعوذه بها و باللتين بعدها، ثم قال: تعوذ بهن فما تعوذت بخير منها، و الثاني عشر سورة الصمد، و الثالث عشر سورة الأساس لما روى أنه قال: اسست السماوات السبع و الأرضون السبع على قل هو الله أحد، و مما يدل عليه أن القول بالثلاثة سبب لخراب السماوات و الأرض بدليل قوله تعالى: تكاد السماوات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا فوجب أن يكون التوحيد سببا لعمارة العالم و نظامه.
و الرابع عشر سورة المانعة لما روى أنها تمنع فتاني القبر و نفخات النيران و الخامس عشر سورة المحضرة لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرأت و السادس عشر سورة المنفرة لأن الشيطان ينفر عند قراءتها، السابع عشر البراءة لانها تبرىء من الشرك، و لما روى أنه صلى الله عليه و آله رأى رجلا يقرأها فقال: أما هذا فقد برىء من الشرك، الثامن عشر سورة المذكرة لأنها يذكر العبد خالص التوحيد التاسع عشر سورة النور لأن الله نور السموات و الأرض و السورة في بيان معرفته و معرفته النور، و نوره المعرفة، و لما روى أنه صلى الله عليه و آله قال: إن لكل شيء نورا و نور القرآن قل هو الله أحد، و نظيره أن نور الإنسان في أصغر أعضائه و هو الحدقة فصارت السورة للقرآن كالحدقة للإنسان.
العشرون سورة الأمان قال صلى الله عليه و آله: إذا قال العبد لا إله إلا الله دخل في حصنى و من دخل في حصنى أمن من عذابي، فهذه عشرون اسما من أسامى هذه السورة و لها فضائل كثيرة و معانى و نكات غير محصورة، و ما روى في فضل قراءتها و ثواب الصلاة المشتملة على عدد منها فلا يعد و لا يحصى.
فمن فضائلها أنها ثلث القرآن و ذكروا لذلك وجوها أجودها أن المقصود الأشرف من جميع الشرائع و العبادات معرفة ذات الله، و معرفة صفات الله و معرفة أفعاله و هذه السورة مشتملة على معرفة الذات فكانت معادلة لثلث القرآن.
و من فضائلها أيضا أن الدلائل و البراهين قائمة على أن أعظم درجات العبد و أجل سعاداته أن يكون قلبه مستنيرا بنور جلال الله و كبريائه و هو إنما يحصل بعرفان هذه السورة فكانت هذه السورة أفضل السور و أعظمها.
فإن قيل: صفات الله تعالى مذكور في سائر السور؟، قلنا: لكن لهذه السورة خصوصية و هي أنها مع و جازتها مشتملة على عظائم أسرار التوحيد فتبقى محفوظة في القلب معقولة للعقل فيكون ذكر جلال الله حاضرا بهذا السبب فلا جرم امتازت عن سائر السور.
و أما المعاني و النكات فمنها ما سبق، و منها وجوه اخرى كثيرة لو ذهبنا إلى تفسير هذه السورة مستقصى لخرجنا عما نحن بصدده من شرح الأحاديث و لكن نذكر أنموذجا ينبه على الكثير لمن هو أهله فنقول:قوله: هو الله أحد ثلاثة ألفاظ كل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات السالكين إليه تعالى: المقام الأول للمقربين و هم أعلى السائرين إلى الله تعالى فهؤلاء رأوا أن موجودية المهيات بالوجود و أن أصل حقيقة الوجود بذاته موجود و بنفسه واجب الوجود متعين الذات لا بتعين زائد فعلموا أن كل ذى مهية معلول محتاج و أنه تعالى نفس حقيقة الوجود و الوجوب و التعين فلهذا سمعوا كلمة هو علموا أنه الحق تعالى لأن غيره غير موجود بذاته و ما هو غير موجود بذاته فلا إشارة إليه بالذات.
و المقام الثاني مقام أصحاب اليمين و هؤلاء شاهدوا الحق موجودا و الخلق أيضا موجودا فحصلت كثرة في الموجودات فلا جرم لم يكن هو كافيا في الإشارة إلى الحق بل لا بد هناك من مميز يميز الحق عن الخلق فهؤلاء احتاجوا إلى أن يقرن لفظة الله بلفظة هو فقيل لأجله هو الله لأن الله هو الموجود الذي يفتقر إليه ما عداه و هو مستغن عن كل ما عداه فيكون أحدى الذات لا محالة إذ لو كان مركبا كان ممكنا محتاجا إلى غيره فلفظة الجلالة دال على الأحدية من غير اقتران إلى لفظ أحد به.
المقام الثالث مقام أصحاب الشمال و هو أدون المقامات و أخسها و هم الذين يجوزون كثرة في واجب الوجود أيضا كما في أصل الوجود فقورن لفظ أحد بكلمة الله ردا عليهم و ابطالا لمقالهم فقيل: قل هو الله أحد.
و ههنا بحث آخر أدق و أشرف و هو أنا نقول كل ماله مهية غير انيته فلا يكون هو هو لذاته و كلما يكون مهيته عين هويته و حقيقته نفس تعينه فلا اسم و لا حد له و لا يمكن شرحه إلا بلوازمه التي يكون بعضها إضافية و بعضها سلبية و الأكمل في التعريف ما يجمع ذينك النوعين جميعا و هو كون تلك الهوية إلها فإن الالهية يقتضى أن ينسب إليه غيره و لا ينسب هو إلى غيره، و المعنى الأول إضافي، و الثاني سلبى فلا جرم ذكر الله عقيب قوله هو.
ثم اعلم أن الذي لا سبب له و إن لم يكن تعريفه بالحد إلا أن البسيط الذي لا سبب له و هو مبدء الأشياء كلها على سلسلة الترتيب النازل من عنده طولا و عرضا فمن البين أن ما هو أقرب المجعولات إليه بل اللازم الأقرب المنبعث عن حاق الملزوم إذا وقع التعريف كان أشد تعريفا من غيره، و أقرب اللوازم له تعالى كونه واجب الوجود غنيا عما سواه و كونه مبدءا و مفتقرا إليه الجميع و مجموع هذا الأمرين هو معنى الالهية فلأجل ذلك وقع قوله الله عقيب هو شرحا و تعريفا له.
و لما ثبت مطلوب الهلية البسيطة بقوله هو الدال على أنه الهو المطلق الذي لا يتوقف هويته على غيره، و لأجل ذلك هو البرهان على وجود ذاته و ثبت مطلوب الهلية البسيطة بقوله فحصلت بمجموع الكلمتين معرفة الإنية المهية اريد أن يذكر عقيبهما ما هو كالصفات الجلالية و الجمالية فقوله تعالى: أحد مبالغة في الوحدة، و الوحدة التامة ما لا ينقسم و لا يتكثر بوجه من الوجوه أصلا لا بحسب العقل كالانقسام بالجنس و الفصل، و لا بحسب العين كالانقسام من المادة و الصورة و لا في الحس و لا في الوهم كالانقسام بالأعضاء و الأجزاء و كان الأكمل في الوحدة ما لا كثرة فيه تعالى أصلا فكان الله تعالى غاية في الوحدة، فقوله تعالى أحد دل على أنه واحد من جميع الوجوه و إنما قلنا أنه واحد كذلك لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن إلها لأن كل ما هو مركب فهو مفتقر إلى أجزائه و أجزاؤه غيره فيكون مفتقرا إلى غيره فلم يكن واجب الوجود و لا مبدء الكل ثم إن هذه الصفة و هي الأحدية التامة الخالصة عن شوب الكثرة كما توجب التنزه عن الجنس و الفصل و المادة و الصورة، و عن الجسمية و المقدارية و الأبعاض و الأعضاء و الألوان و سائر الكيفيات الحسية الانفعالية و كلما يوجب قوة أو استعدادا أو إمكانا لك يقتضى كل صفة كمالية من العلم التام و القدرة الكاملة و الحياة السرمدية و الإرادة التامة و الخير المحض و الجود المطلق فإن من أمعن النظر و تأمل تأملا كافيا يظهر له أن الأحدية التامة منبع الصفات الكمالية كلها، و لو لا مخافة الإطناب لبينت استلزامها لواحدة واحدة منها لكن اللبيب يدرك صحة ما ادعيناه.
و قوله تعالى الله الصمد قد مر أن الصمدية لها تفسيران أحدهما ما لا جوف له، و الثاني السيد فمعناه على الأول سلبي و هو إشارة إلى نفي المهية فإن كل ماله مهية كان له جوف و باطن و كان من جهة اعتبار مهية قابلا للعدم و كل ما لا جهة و لا اعتبار له إلا الوجود المحض فهو غير قابل للعدم فواجب الوجود من كل جهة هو الصمد الحق، و على التفسير الثاني يكون معنى إضافيا و هو كونه سيد الكل أى مبدأ الجميع فيكون من الصفات الإضافية.
و ههنا وجه آخر و هو أن الصمد في اللغة هو المصمت الذي لا جوف له و إذا استحال هذا في حقه تعالى فوجب حمله على الفرد المطلق أعنى الواحد المنزه عن المثل و النظير إما ابتداءا، أو بعد نقله إلى معنى الأحدية المستلزمة للواحدية كما مر فيكون الصمد إشارة إلى نفي الشريك كما الأحد إلى نفي الانقسام.
فانظر كيف عرف أولا هويته و إنيته، ثم عرف أنه تعالى خالق لهذا العالم، ثم عرف أن الامور التي لأجلها افتقر هذا العالم إلى الخالق كالتركيب و الإمكان و المهية و العموم و الاشتراك و الاحتياج لا بد أن يكون منفيا عنه تعالى لئلا يلزم الدور أو التسلسل.
ثم لما كان من عادة المحققين أن يذكروا أولا ما هو الأصل و القاعدة ثم يخرجون عليه المسائل فذكر أولا كونه موجودا إلها ثم توصل به إلى كونه صمدا ثم رتب عليه أحكاما ثلاثة أحدها أنه لم يلد لاستيجاب التوليد للتركيب لأنه عبارة عن انفصال بعض ناقص من أبعاضه ثم يترقي فيصير مساويا له في الذات و الحقيقة و من البين أن نقصان البعض يستلزم تركيب الكل، و ثانيها قوله: و لم يولد لاستلزامه للحدوث و النقصان و الافتقار إلى العلل من جهات شتى كالإعداد و الإحداث و الإبقاء و التربية و التكميل، و ثالثها قوله: و لم يكن له كفوا أحد و بيانه أنا لو فرضنا مكافيا له في رتبة الوجود فذلك المكافي لو كان ممكن الوجود كان محتاجا إليه متأخرا عنه في الوجود فكيف يكون مكافيا له؟ و إن كان واجب الوجود و قد علمت أن تعدده ينافي الأحدية و أنه يستلزم التركيب فهذا أنموذج من دقائق أسرار التوحيد تحويها هذه السورة، انتهى كلامه قدس سره الشريف.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی