و من كتاب له عليه السّلام إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ- مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ- فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً- فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ- فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ- وَ ابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ- رَاجِياً ثَوَابَهُ وَ مُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ- وَ اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلِيَّةٍ- لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا فِيهَا قَطُّ سَاعَةً- إِلَّا كَانَتْ فَرْغَتُهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ- وَ أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ الْحَقِّ شَيْءٌ أَبَداً- وَ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْكَ حِفْظُ نَفْسِكَ- وَ الِاحْتِسَابُ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِجُهْدِكَ- فَإِنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ- أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَصِلُ بِكَ وَ السَّلَامُ
أقول: في الفصل لطائف:
أحدها: أنّه نبّهه على وجوب ترك تنويع الأهوية و الإعراض عن اتّباع مختلفاتها
بما يستلزمه من المفسدة و هى الامتناع عن كثير من العدل، و وجه الاستلزام ظاهر لأنّ اتّباع الأهوية المختلفة يوجب الانحراف عن حاقّ الوسط في المطالب، و لمّا نبّهه على مفسدة الجور أمره ببسط العدل و التسوية بين الخلق في الحقّ. ثمّ نبّه على فضيلته بضمير صغراه قوله: فإنّه إلى قوله: العدل. و تقديرها: فإنّ العدل ليس في الجور عوض عنه، و تقدير الكبرى: و كلّ ما لم يكن في الجور عوض عنه فيجب لزومه و اتّباعه.
الثانية: لمّا كان اتّباع مختلف الأهوية ممّا ينكر مثله عند وقوعه في حقّه أو حقّ من يلزمه أمره
كالأذى اللاحق له مثلا أمره باجتنابه و أن لا يقع منه في غيره ما يكره وقوع مثله في حقّه. و العبارة وافية بهذا المعنى، و الغرض التنفير عنه.
الثالثة: أمره بعد ذلك أن يبذل نفسه فيما افترض اللّه عليه حالتي رجائه لثوابه و خوفه من عقابه
لكونهما داعى العمل.
الرابعة: نبّهه على أنّ الدنيا دار ابتلاء بالعمل
كما قال تعالى الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا«» و لمّا كان العمل الصالح فيها هو سبب الاستعداد للسعادة الباقية لا جرم كان الفراغ من العمل فيها تركا لسبب سعادة لا يحصل يوم القيامة إلّا به فكان من لوازم فرغته منه في الدنيا الحسرة على ثمرته يوم القيامة.
الخامسة: نبّهه على ضرورته إلى عمل الحقّ بأنّه لا يغنيه عنه شيء غيره
لأنّ كلّ ما عدا الحقّ باطل و الباطل سبب للفقر في الآخرة فلا يفيد غنى.
السادسة: نبّهه على أنّ من الحقوق الواجبة عليه حفظ نفسه:
أى من زلّة القدم عن الصراط المستقيم و الوقوع في سواء الجحيم، ثمّ الاحتساب على رعيّته بجهده و طاقته، و الأخذ على أيديهم في الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر. و قدّم حفظ النفس لأنّه الأهمّ، و نبّه على وجوب الأمرين بقوله: فإنّ الّذي إلى آخره و أراد أنّ الّذي يصل إلى نفسك من الكمالات و الثواب اللازم عنها في الآخرة بسبب لزومك للأمرين المذكورين أفضل ممّا يصل بعد لك و إحسانك إلى الخلق من النفع و دفع الضرر، و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحهى 197