و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية
فَإِنَّ الْبَغْيَ وَ الزُّورَ يُوتِغَانِ الْمَرْءَ فِي دِينِهِ وَ دُنْيَاهُ- وَ يُبْدِيَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ- وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَيْرُ مُدْرِكٍ مَا قُضِيَ فَوَاتُهُ- وَ قَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْراً بِغَيْرِ الْحَقِّ- فَتَأَلَّوْا عَلَى اللَّهِ فَأَكْذَبَهُمْ- فَاحْذَرْ يَوْماً يَغْتَبِطُ فِيهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ- وَ يَنْدَمُ مَنْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ قِيَادِهِ فَلَمْ يُجَاذِبْهُ- وَ قَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ- وَ لَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا وَ لَكِنَّا أَجَبْنَا الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ- وَ السَّلَامُ
أقول: هذا الفصل من كتاب له إليه بعد التحكيم و تمسّك معاوية بما حكم به الحكمان، و يحتمل أن يكون عند إجابته إلى التحكيم.
اللغة
و الوتغ بالتحريك: الهلاك. و أوتغ فلان دينه بالإثم: أهلكه و أفسده، و في نسخة الرضى- رحمه اللّه- يذيعان: أى يظهران. و الغبطة: السرور، و الغبطة: تمنّى مثل حال الغير.
المعنى
و صدّر الفصل بذكر الظلم و الكذب و التنفير عنهما بما يلزمهما من إهلاك دين المرء و دنياه، و يبديان خلله و عيبه لمن يعيبه. أمّا في دينه فلكونهما رذيلتين مضادّتين للعدل و العفّة و مجانبتين للإيمان و الدين، و أمّا في دنياه فلأنّ أعظم مطالب الدنيا للعقلاء الذكر الجميل و إنّما يحصل بظهور مكارم الأخلاق دون رذائلها، و أراد بما قضى فواته ما جعله معاوية شبهة له في محاربته و هو المطلب بدم عثمان و هو في قوّة صغرى ضمير احتجّ به على وجوب ترك المشاقّة، و تقدير كبراه: و كلّ من كان كذلك تعيّن عليه أن يترك ذلك الطلب. ثمّ أعلمه بحال من طلب أمرا باطلا و تأوّل على اللّه في ذلك. و الإشارة إلى أصحاب الجمل حيت كانوا طالبين للأمر و الملك فتأوّلوا على اللّه: أى على سلطان اللّه و هى الخلافة الحقّة فجعلوا لخروجهم و بغيهم عليها تأويلا و هو الطلب بدم عثمان، و نحوه من الشبه الباطلة. فأكذبهم اللّه بنصره عليهم و ردّ مقتضى شبههم. و الا كذاب كما يكون بالقول كذلك يكون بالفعل. و قال القطب الراوندىّ- رحمه اللّه- : معناه و قد طلب قوم أمر هذه الامّه فتأوّلو القرآن كقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ«» فسمّوا من نصبوه من الامراء أولى الأمر متحكّمين على اللّه فأكذبهم اللّه بكونهم ظالمين بغاة، و لا يكون الوالى من قبل اللّه كذلك. ثمّ حذّره يوم القيامة منبّها له على ما فيه من سرور الّذين حمدوا عاقبة أعمالهم بما حصلوا عليه من السعادة الباقية و اغتباط غيرهم لهم و تمنّى مثل مراتبهم، و ندم من أمكن الشيطان من قياده فصرفه كيف شاء و لم يجاذبه، و استعار لفظ التمكين من القياد لمطاوعة النفس الأمّارة. و غرض التحذير أن لا يكون كمن سبق من طالبى هذا الأمر بالتأويل على اللّه.
و قوله: و قد دعوتنا. إلى آخره. صورة سؤاله و الجواب عنه. و كونه ليس من أهله. إذ لم يكن صالحا للإمامة كما سبق بيانه مرارا، و حيث لم يكن أهلا لأن يجاب إلى الرضى بالتحكيم أعلمه بذلك و أنّه إنّما أجاب القرآن إلى حكمه، و ذلك في قوله تعالى في حقّ الزوجين وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها«» الآية فجعل عليه السّلام هذا أصلا و قاس عليه بالطريق الأولى حال الامّة عند وقوع الشقاق بينهم. و بعين ذلك احتجّ ابن عباس- رضي اللّه عنه- على الخوارج حيث أنكروا التحكيم فقالوا: كيف يجوز لعليّ أن يحكّم في دين اللّه الرجال. فقال لهم: إنّ ذلك ليس بأمر عليّ عليه السّلام و إنّما هو بأمر من اللّه تعالى في كتابه. إذ يقول في حقّ الزوجين «و إن خفتم» الآية أ فترون أنّه أمر تعالى بذلك في حقّ الرجل و امراته مراعاة لمصلحتهما و لا يأمر بذلك في حقّ الأمّة رعيا لمصلحتهم فرجع كثير منهم إلى قوله. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحهى 125