و من خطبة له عليه السلام
بِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمُ ذُرْوَةَ الْعَلْيَاءَ- وَ بِنَا انْفَجَرْتُمْ عَنِ السِّرَارِ- وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ- وَ كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ- رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ- مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ- وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الْمُغْتَرِّينَ- سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ- وَ بَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ- أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الْحَقِّ فِي جَوَادِّ الْمَضَلَّةِ- حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَ لَا دَلِيلَ- وَ تَحْتَفِرُونَ وَ لَا تُمِيهُونَ- الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ- عَزَبَ رَأْيُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي- مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ- لَمْ يُوجِسْ مُوسَى ع خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ- أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجُهَّالِ وَ دُوَلِ الضَّلَالِ- الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ- مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ أقول: روي أنّ هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السّلام بعد قتل طلحة و الزبير
اللغة
تسنّمتم أي ركبتم سنامها، و سنام كلّ شيء أعلاه، و السرار الليلة أو الليلتان يكون في آخر الشهر يستتر فيها القمر و يخفى، و الوقر الثقل في السمع، و فقهت الأمر فهمته، و الواعية الصارخة، و النبأ الصوت الخفيّ، و السمة العلامة، و سنن الحقّ وجهه و طريقه، و ماهت البئر خرج ماؤها، و غرب أى غاب، و أوجس هجس و أهسّ، و الظماء العطش،
المعنى
و اعلم أنّ هذه الخطبة من أفصح كلامه عليه السّلام و هي مع اشتمالها على كثرة المقاصد الواعظة المحرّكة للنفس في غاية و جازة اللفظ، ثمّ من عجيب فصاحتها و بلاغتها أنّ كلّ كلمة منها تصلح لأن تفيد على سبيل الاستقلال و هي على ما نذكره من حسن النظم و تركيب بعضها مع بعض. قوله بنا اهتديتم في الظلماء الضمير المجرور راجع إلى آل الرسول صلى اللّه عليه و آله و الخطاب لحاضري الوقت من قريش المخالفين له مع طلحة و الزبير و إن صدق في حقّ غيرهم، و المراد أنّا سبب هدايتكم بأنوار الدين و ما أنزل اللّه من الكتاب و الحكمة هدى للناس و بيّنات من الهدى و الفرقان حيث كنتم في ظلمات الجهل و تلك الهداية هي الدعوة إلى اللّه و تعليم الخلق كيفيّة السلوك إلى حضرة قدسه. و قوله تسنمّتم العلياء. أي بتلك الهداية و شرف الإسلام علا قدركم و شرّف ذكركم، و لمّا استعار وصف السنام للعلياء ملاحظة لشبهها بالناقة رشّح تلك الاستعارة بذكر التسنّم و هي ركوب السنام و كنّى به عن علوّهم.
قوله و بنا انفجرتم عن السرار. استعار لفظ السرار لما كانوا فيه من ليل الجهل في الجاهلية و خمول الذكر، و لفظ الانفجار عنه لخروجهم من ذلك إلى نور الإسلام و اشتهارهم في الناس و ذلك لتشبيهم بالفجر الطالع من ظلمة السرار في الضياء و الاشتهار، قوله وقر سمع لم يفقه الواعية كالتفات إلى الدعاء بالوقر على سمع لا يفقه صاحبه بواسطته علما و لا يستفيد من السماع به مقاصد الكتب الإلهيّة و كلام الأنبياء عليهم السّلام و الدعاة إلى اللّه، و حقّ لذلك السمع أن يكون أصمّ إذ كانت الفائدة منه المقصودة إلى الحكمة الإلهيّة اكتساب النفس من جهته ما يكون سببا لكمالها و قوّتها على الوصول إلى جناب اللّه و ساحل عزّته، فإذا كانت النفس معرضة عمّا يحصل من جهته من الفائدة و ربّما كانت مع ذلك متلقّية منه ما يؤدّيه من الشرور الجاذبة لها إلى الجهة السافلة فحقيق به أن يكون موقورا، و من روى وقر على ما لم يسمّ فاعله فالمراد و قره اللّه و هو كلام على سبيل التمثيل أورده في معرض التوبيخ لهم و التبكيت بالإعراض عن أوامر اللّه و طاعته، و كنّى بالواعية عن نفسه إذ صاح فيهم بالموعظة الحسنة و الحثّ على الألفة و أن لا يشقوا عصى الإسلام فلم يقلبوا، و وجه نظام هذه الكلمة مع ما قبلها أنّه لمّا أشار أوّلا إلى وجه شرفه عليهم و أنّه ممّن اكتسب عنه الشرف و الفضيلة و كان ذلك في مقابلة نفارهم و استكبارهم عن طاعته أردف ذلك بهذه الكلمة المستلزمة للدعاء عليهم كيف لم يفقهوا بيانه للوجوه الموجبة لاتّباعه و يقبلوه بعد أن سمعوه، و هذا كما يقول أحد العلماء لبعض تلاميذه المعاند له المدّعي لمثله فضيلته: إنّك بي اهتديت من الجهل و علا قدرك في الناس و أنا سبب لشرفك أفتكبّر علىّ وقر سمعك لم لا تفقه قولي و تقبّله، و قوله كيف يراعي النبأة من أصمّته.
الصيحة استعار لفظ النبأة لدعائه لهم و ندائه إلى سبيل الحقّ و الصيحة لخطاب اللّه و رسوله و هي استعارة على سبيل الكناية عن ضعف دعائه بالنسبة إلى قوّة دعاء اللّه و رسوله لهم، و تقرير ذلك أنّ الصوت الخفيّ لمّا كان لا يسمع عند الصوت القويّ إذ من شأن الحواس أن لا يدرك الأضعف مع وجود الأقوى المماثل في الكيفيّة لاشتغالها به و كان كلامه عليه السّلام أضعف في جذب الخلق و في قبولهم له من كلام اللّه و كلام رسوله و كلامهما مجرى الصوت القويّ في حقّهم، و كلامه مجرى الصوت الخفيّ بالنسبة إليه، و إسناد الإصمام إلى الصيحة من ترشيح الاستعارة و كنّى به عن بلوغ تكرار كلام اللّه على أسماعهم إلى حدّ أنّها محلّة و ملّت سماعه بحيث لا تسمع بعد ما هو في معناه خصوصا ما هو أضعف كما لا يسمع الصوت الخفيّ من أصمّته الصيحة، و قد وردت هذه الكلمة مورد الاعتذار لنفسه في عدم فائدة وعظه لهم، و الاعتذار لهم في ذلك أيضا على سبيل التهكّم و الذّم، وجه نظامها مع ما قبلها أنّه لمّا كان تقدير الكلمة الاولى و قرت أسماعكم كيف لا تقبلون قولي التفت عنه و قال كيف يسمع قولى من لم يسمع كلام اللّه و رسوله على كثرة تكراره على أسماعهم و قوّة اعتقادهم وجوب قبوله، و كيف يؤاخذون بسماعه و قد أصمّهم نداء اللّه.
قوله ربط جنان لم يفارقه الخفقان الخفقان دعاء للقلوب الخائفة الوجلة الّتي لا تزال تخفق من خشية اللّه و الإشفاق من عذابه بالثبات و السكينة و الاطمينان، و التقيّة ربط جنان نفسه، و من روى بضمّ الراء على ما لم يسمّ فاعله فالتقدير رابط اللّه جنانا كذلك، و هو جذب لهم إلى درجة الخائفين و تنبيه على ملاحظة نواهي اللّه فيفيئوا على طاعته، و وجه اتّصاله بما قبله أنّ ذكر الشريف و صاحب الفضيلة في معرض التوبيخ لمن يراد منه أن يسلك مسلكه و يكون بصفاته من أعظم الجواذب له إلى التشبّه به، و من أحسن الاستدراجات له فكأنّه قال و كيف يلتفت إلى قولي من لا يلتفت إلى كلام اللّه لله درّ الخائفين من اللّه المراعين لأوامره الوجلين من وعيده ما ضرّكم لو تشبّهتم فرجعتم إلى الحقّ و قمتم به قيام رجل واحد.
قوله ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر و أتوسّمكم بحلية المغترّين. إشارة إلى أنّه عليه السّلام كان يعلم عاقبة أمرهم إمّا باطّلاع الرسول صلى اللّه عليه و آله على أنّهم بعد بيعتهم له يغدرون به، أو لأنّه كان يلوح له من حركاتهم و أحوالهم بحسب فراسته الصائبة فيهم كما أشار إليه بقوله و أتوسّمكم بحلية المغترّين، و ذلك لأنّه فهم أنّهم من أهل الغرّة و قبول الباطل عن أدنى شبهة بما لاح له من صفاتهم الدالّة على ذلك، و كان علمه بذلك منهم مستلزما لعلمه بغدرهم بعهده و نقضهم لبيعته فكان ينتظر ذلك منهم. قوله سترني عنكم جلباب الدين. وارد مورد الوعيد للقوم في قتالهم و مخالفتهم لأمره و المعنى أنّ الدين حال بيني و بينكم و سترني عن أعين بصائركم أن تعرفوني بما أقوي عليه من العنف بكم و الغلظة عليكم و سائر وجوه تقويمكم و ردعكم عن الباطل وراء ما وفّقني عليه الدين من الرفق و الشفقّة و شهب ذيل العفو عن الجرائم فكان الدين غطاء حال بينهم و بين معرفته فاستعار له لفظ الجلباب، و روى ستركم عنّي أي عصم الإسلام منّي دمائكم و اتّباع مدبركم و أن أجهز على جريحكم و غير ذلك ممّا يفعل من الأحكام في حقّ الكفّار و قوله و بصّرنيكم صدق النيّة أراد بصدق النيّة إخلاصه للّه تعالى و صفاء مرآة نفسه و أنّه بحسب ذلك افيض على بصر بصيرته نور معرفة أحوالهم و ما تؤول إليه عاقبة أمرهم كما قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: المؤمن ينظر بنور اللّه،
و قوله أقمت لكم على سنن الحقّ في جوادّ المضلّة تنبيه لهم على وجوب اقتفاء أثره و الرجوع إلى لزوم أشعّة أنواره في سلوك سبيل اللّه و إعلام لهم على سواء السبيل الحقّ و في الطريق الّتي هي مزالّ الأقدام ليردّهم عنها، و لنبيّن ذلك في المثل المشهور عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله روى أنّه قال: ضرب اللّه مثلا صراطا مستقيما و على جنبتي الصراط سور فيه أبواب مفتّحة و على تلك الأبواب ستور مرخاة و على رأس الصراط داع يقول: ادخلوا الصراط و لا تعرجوا، قال: فالصراط هو الإسلام و الستور حدود اللّه و الأبواب المفتّحة محارم اللّه و ذلك الداعي هو القرآن.
فنقول: لمّا كان عليّ عليه السّلام هو الواقف على أسرار الكتاب و المليّ بجوامع علمه و حكمته و المطّلع على اصول الدين و فروعه كان هو الناطق بالكتاب و الداعي به الواقف على رأس سبيل اللّه و المقيم عليها، و لمّا كان سبيل اللّه و صراطه المستقيم في غاية الوضوح و البيان له و كان مستبينا مالها من الحدود و المقدّمات مستجلبا لمزالّ الأقدام فيها و ما ينشأ عليها من الشكوك و الشبهات كان بحسب قوّته المدبرة لهذا العالم بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله هو الواقف على تلك الأبواب المفتّحة الّتي هي موارد الهلاك و أبواب جهنّم و جوادّ المضلّة و السائر لها بحدود اللّه و بيان نواهيه و التذكير بعظيم وعيده و القائد لأذهان السالكين للصراط عنها، و ذلك حيث يلتفت أذهانهم في ظلمات الجهل فلا تبصر دليلا هناك سواه و يطلبون ماء الحياة بالبحث و الفحص من أودية القلوب فلا يجدون بها ماء إلّا معه، و استعار لفظ الاحتفار للبحث من مظانّ العلم و لفظ الماء للعلم كما سبق بيان وجه المشابهة.
قوله اليوم انطق لكم العجماء ذات البيان. كنّى بالعجماء ذات البيان على الحال الّتي يشاهدونها من العبر الواضحة و المثلات الّتي حلّت بقوم فسقوا أمر ربّهم و عمّا هو واضح من كمال فضله عليه السّلام بالنسبة إليهم و ما ينبغي لهم أن يعتبرون من حال الدين، و مقتضى أوامر اللّه الّتي يحثّهم على اتّباعها، فإنّ كلّ هذه الأحوال امور لانطق لها مقالي فشبّهها لذلك بالعجماء من الحيوان، و استعار لها لفظها و وصفها بكونها ذات البيان لأنّ لسانها الحال مخبر بمثل مقاله عليه السّلام ناطق بوجوب اتّباعه شاهد لهم، و دليل على ما ينبغي أن يفعلوه في كلّ باب و ذلك هو البيان فكأنّه عليه السّلام انطق العجماء إذ عبّر هو بلسان مقاله عنها ما كانت تقتضيه، و يشاهده من نظر إليها بعين بصيرته و هو كقولهم سل الأرض من شقّ أنهارك و أخرج ثمارك فإن لم تجبك لسانا إجابتك اعتبارا، و كقولهم قال الحائط للوتد، لم تشقّني قال سل من يدقّني، و قال بعضهم العجماء صفة لمحذوف تقديره الكلمات العجماء و أراد بها ما ذكر في هذه الخطبة من الرموز و شبّهها بالحيوان إذ لا نطق لها في الحقيقة و مع ذلك يستفيد الناظر فيها أعظم الفوائد فهي ذات بيان عند اعتبارها.
قوله غرب رأى امرىء تخلّف عنّي. إشارة إلى ذمّ من تخلّف عنه و حكم عليه بالسفه و عدم إصابة الرأي حال تخلّفه عنه و ذلك أنّ المتخلّف لمّا فكّر في أيّ الامور أنفع له إن يكون متابعيه أو المتخلّفين عنه ثمّ رأى أنّ التخلّف عنه أوفق له كان ذلك أسوء الآراء و أقبحها، فهو في الحقيقة كمن أقدم على ذلك بغير رأي يحضره أو لأنّ الرأى الحقّ كان غاربا عنه، و هو ذم في معرض التوبيخ للقوم على طريقة قولهم إيّاك أعني و اسمعي يا جارة.
قوله ما شككت في الحقّ مذ اريته. بيان لبعض أسباب وجوب اتّباعه و عدم التخلّف عنه، و اعلم أنّ التمدح بعد الشكّ ممّا أراه اللّه من الحقّ و ما أفاضه على نفسه القدسيّة من الكمال مستلزم للإخبار بكمال قوّته على استثبات الحقّ الّذي رآه و شدّة جلائه له بحيث لا يعرض له شبهة فيه، و الإماميّة تستدلّ بذلك على وجوب عصمته و طهارته عن الأرجاس الّتي منشأوها ضعف اليقين.
قوله لم يوجس موسى خيفة على نفسه أشفق من غلبة الجهّال و دول الضلّال. أشفق أفعل التفضيل منصوب على الصفة لخيفة لأنّ الإشفاق خوف، و التقدير و لم يوجس موسى إشفاقا على نفسه أشدّ من غلبة الجهّال، و المقصود التنبيه على أنّ الخوف الّذي يخافه عليه السّلام منهم ليس على مجرّد نفسه بل كان أشدّ خوفه من غلبة أهل الجهل على الدين و فتنة الخلق بهم و قيام دول الضلّال، فتعمى طريق الهدى و تنسدّ مسالك الحقّ كما خاف موسى عليه السّلام من غلبة جهّال السحرة حيث ألقوا حبالهم و عصيّهم «و قالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون» و قيل إنّ أشفق فعل ماض و المعنى أنّ خوف موسى عليه السّلام من السحرة لم يكن على نفسه، و إنّما خاف من غلبة الجهّال فكأنّه قال لكن أشفق و إنّما الشفق، و دول الضلّال كدولة فرعون و أتباعه الضالّين عن سبيل اللّه،
و قوله اليوم توافقنا على سبيل الحقّ و الباطل الموافقة مفاعلة من الطرفين و الخطاب لمقابليه في القتال، و المراد أنّي واقف على سبيل الحقّ و أنتم واقفون على سبيل الباطل داعون إليه و هو تنفير لهم عمّا هم عليه إلى ما هو عليه. قوله من وثق بماء لم يظمأ. مثل نبّه به على وجوب الثقة بما عنده أي إنّكم إن سكنتم إلى قولي و وثقتم به كنتم أقرب إلى اليقين و الهدى و أبعد عن الضلال و الردى كما أنّ الواثق بالماء في أداوته آمن من العطش و خوف الهلاك و بعيد عنهما بخلاف من لم يثق بذلك و كنّى بالماء عمّا اشتمل عليه من العلم بكيفيّة الهداية إلى اللّه فإنّه الماء الّذي لا ظمأ معه،
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحهى 276-270