و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
فَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا يَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ- الْأَوَّلُ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِي- وَ لَا آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِيَ
المعنى
أقول: تبارك: قيل: مشتقّ من البروك المستلزم للمقام في موضع واحد و الثبات فيه، و قيل: من البركة و هو الزيادة، و بالاعتبار الأوّل يكون إشارة إلى عظمته باعتبار دوام بقائه و استحقاقه قدم الوجود لذاته و بقاء وجوده لا عن استفتاح و لا إلى انقطاع، و بالاعتبار الثاني إشارة إلى فضله و إحسانه و لطفه و هدايته و وجوه الثناء عليه.
و قوله: الّذى لا يبلغه بعد الهمم و لا يناله حدس الفطن.
كقوله فى صدر الخطبة الاولى لا يدركه بعد الهمم و لا يناله غوص الفطن إلّا أنّه أبدل الغوص هنا بالحدس: و الحدس في اللغة الظنّ، و في اصطلاح العلماء لمّا كان الفكر عبارة عن حركة الذهن منتقلا من المطالب إلى المباديء ثمّ منها إلى المطالب كان الحدس عبارة عن جودة هذه الحركة إلى اقتناص الحدّ الأوسط من غير طلب و تجشّم كلفة، و هو مقول بحسب التشكيك، و هو بجميع اعتباراته و بأعلى رتبته قاصر عن تناول ذات الحقّ تعالى كما سبق.
و قوله: الأوّل. إلى آخره.
و قد مرّ تفسير أوّليّته و آخريّته غير مرّة. و باللّه التوفيق.
القسم الثاني
فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ- وَ أَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ- تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ- كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ- قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ- حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ ص- فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً- وَ أَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً- مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ- وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ- وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ- نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ- لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرٌ لَا يُنَالُ- فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى- سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ- وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ- وَ سُنَّتُهُ الرُّشْدُ وَ كَلَامُهُ الْفَصْلُ وَ حُكْمُهُ الْعَدْلُ- أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ هَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ وَ غَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ اعْمَلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْلَامٍ بَيِّنَةٍ- فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ- وَ أَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وَ فَرَاغٍ- وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ- وَ الْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ- وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ- وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ- وَ التَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ- وَ الْأَعْمَالُ مَقْبُولَةٌ
اللغة
أقول: النسخ: النقل. و أفضت: انتهت. و الارومة: الأصل. و الصدع: الشقّ. و عترة الرجل: نسله و رهطه الأدنون. و اسرته: قومه: و بسقت: طالت، و الزند: العود الأعلى يقدح به. و نهج: واضح.
المعنى
و قوله، و استودعهم. إلى قوله: خلف.
إشارة إلى الأنبياء عليهم السّلام القائمين بدين اللّه. و اعلم أنّ دين اللّه واحد بعثت جميع الأنبياء لتسليك الخلق إيّاه و له أصل و فروع فأصله الطريق إلى معرفته، و الاستكمال بها، و جماع مكارم الأخلاق، و نظام أمر الخلق في معاشهم و معادهم و هذه الامور هى المراه من الشرع و هو أصل لا يخالف فيه نبىّ نبيّا. فأمّا الاختلاف الواقعة في الشرائع فهى امور جزئيّة بحسب مصالح جزئيّة يتعلّق بوقت الرسول المعيّن و حال الخلق المرسل إليهم يوقع عليها ذلك الأصل، و تكون كالمشخّصات له و العوارض الّتى يختلف بها الطبيعة الواحدة النوعيّة. و أفضل مستودع استودعهم فيه حظائر قدسه و منازل ملائكته و هو خير مستقرّ أقرّهم فيه و محلّ كرامته فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ و تناسخ الأصلاب لهم إلى مطهّرات الأرحام نقلهم إليها نطفا، و كرائم الأصلاب: ما كرم منها و حقّ لأصلاب سمحت بمثلهم أن توصف بالكرم. و مطهّرات الأرحام: ما طهر منها و حقّ لما استعدّ منها الإنتاج مثل هذه الأمزجة و قبولها أن تكون طاهرة من كدر الفساد. و الشيعة يطهّرون اصول الأنبياء من طرف الآباء و الامّهات عن الشرك و نحوه قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكيّة. و يحتمل أن يريد بأفضل مستودع و خير مستقرّ في مبدئهم أصلاب الآباء و أرحام الامّهات و يكون قوله: تناسختهم تفسيرا له و بيانا.
و قوله: كلّما مضى منهم سلف قام بدين اللّه منهم خلف.
إشارة إلى ضرورة وجود الأنبياء عند الحاجة إليهم على التعاقب، و قد سبقت الإشارة إليه.
و قوله: حتّى أفضت كرامة اللّه إلى محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم. إلى قوله: امناءه.
إشارة إلى غاية سلسلة الأنبياء عليهم السّلام، و كنّى بكرامة اللّه عن النبوّة و استعار لفظ المعدن و المنبت و المغرس لطينة النبوّة و هى مادّته القريبة الّتى استعدّت لقبول مثله، و وجه الاستعارة أنّ تلك المادّة منشأ لمثله كما أنّ الأرض معدن الجواهر و مغرس الشجر الطيّب، و ظاهر أنّ أصلا سمح بمثله أفضل المعادن و أعزّ الاصول، و قيل: أراد بذلك مكّة- شرّفها اللّه تعالى- و قيل: بيته و قبيلته ثمّ ميّزه بما هو أخصّ و أشرف فقال: من الشجرة الّتى صدع منها أنبياءه فاستعار لفظ الشجرة لصنف الأنبياء، و كما أنّ الشجرة أشرف من طينتها كذلك صنف الأنبياء أشرف من قوابل صورهم، و وجه الاستعارة هو ما كنّى بالانصداع عنه من تفرّع أشخاص الأنبياء عن صنفهم كما يتفرّع أغصان الشجرة منها. و أمناءه: أى على رسالته.
و قوله: عترته خير العتر و اسرته خير الاسر.
بدء بالعترة لما عرفت أنّها أخصّ و أقرب من الاسرة، و مصداق أفضليّة عترته قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: سادة أهل المحشر سادة أهل الدنيا أنا و علىّ و حسن و حسين و حمزة و جعفر. و وجه أفضليّة اسرته قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه اصطفى من العرب معدا، و اصطفى من معد بنى النضر بن كنانه، و اصطفى هاشما من بنى النضر، و اصطفانى من بنى هاشم. و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: قال لى جبرئيل: يا محمّد قد طفت الأرض شرقا و غربا فلم أجد فيها أكرم منك و لا بيتا أكرم من بنى هاشم. و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الناس تبع لقريش برّهم لبرّهم و فاجرهم لفاجرهم.
و قوله: و شجرته خير الشجز.
قيل: أراد بالشجر في الموضعين إبراهيم عليه السّلام، و قيل: أراد هاشما و ولده بقرينة قوله: نبتت في حرم و أراد مكّة، و رشّح تلك الاستعارة بوصف الإنبات و البسق، و كنّى بالكرم الّذى فيه عن زكاء أصله و ما استلزم من الفضل، و كنّى بالفروع عن أهله صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ذريّته و ساير النجباء من بنى هاشم، و بوصفهم بالطول عن بلوغهم في الشرف و الفضل الغاية البعيدة، و هو ترشيح للاستعارة. و كذلك الثمر، و كنّى به عن العلوم و الأخلاق المتفرّعة عنه و عن أئمّة امّته، و بكونها لا تنال عن شرفها و غموض أسرارها: أى أنّها لشرفها و علوّها لا يمكن أن يطاول فيها، و أو لغموض أسرارها لا تصل الأذهان إليها.
و قوله: فهو إمام من اتّقى. إلى قوله: لمعه
استعار لفظ البصيرة و السراج و الشهاب و الزند له صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و وجه الاستعارة كونه سبب هداية الخلق كما أنّ هذه الامور الثلاثة كذلك و رشّح استعارة السراج بلمعان الضوء و الشهاب بسطوع النور و الزند ببروق اللمع، و يحتمل أن يكون وجه استعارة الزند هو كونه مثيرا لأنوار العلم و الهداية.
و قوله: سيرته القصد.
أى طريقته العدل و الاستواء على الصراط المستقيم و عدم الانحراف إلى أحد طرفى الإفراط و التفريط، و سنّته الرشد: أى سلوك طريق اللّه عن هدايته، و كلامه الفصل: أى الفاصل بين الحقّ و الباطل كقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ و حكمه العدل الواسط بين رذيلتى الظلم و الانظلام.
و قوله: أرسله على حين فترة من الرسل و هفوة من العمل.
أى زلّة عنه و غباوة من الامم: أى جهل منهم و عدم فطنة لما ينبغي، و قد سبق بيان الفترة.
و قوله: اعملوا رحمكم اللّه على أعلام بيّنة.
استعار لفظ الأعلام لأئمّة الدين و ما بأيديهم من مصابيح الهدى، و كنّى بكونها بيّنة عن وجودها و ظهورها بين الخلق.
و قوله: و الطريق نهج يدعو إلى دار السلام.
فالطريق: الشريعة. و نهجه: وضوحها في زمانه عليه السّلام و قرب العهد بالرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ظاهر كون الشريعة داعية إلى الجنّة. و إسناد الدعوة إلى الطريق مجاز إذ الداعى قيمّ الطريق و واضعها.
و قوله: و أنتم في دار مستعتب.
أى دار الدنيا الّتى يمكن أن يستعتبوا فيعتبوا: أى يطلبوا رضا اللّه بطاعته فرضى عنكم، و على مهل: أى إمهال و إنظار و فراغ من عوائق الموت و ما بعده.
و قوله: و الصحف منشورة. إلى آخره.
الواوات السبع للحال، و المراد صحائف الأعمال و أقلام الحفظة على الخلق أعمالهم.
و فايدة التذكير بهذه الامور التنبيه على وجوب العمل معها و تذكّر أضدادها ممّا لا يمكن معه العمل و لا ينفع الندم من الموت و طىّ الصحف و جفاف الأقلام و فساد الأبدان و خرس الألسنة و عدم سماع التوبة كما قال تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ«» و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحهى 394