google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
80-100 خطبه ها شرح ابن میثمخطبه ها شرح ابن میثم بحرانی(متن عربی)

خطبه 80 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام و هى من الخطب العجيبة و تسمّى الغرّاء.
اعلم أنّ في هذه الخطبة فصولا:

الفصل الأوّل قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ…
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ وَ دَنَا بِطَوْلِهِ- مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَ فَضْلٍ وَ كَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَ أَزْلٍ- أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ- وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلًا بَادِياً وَ أَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً- وَ أَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً ص عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ


اللغة

الحول: القوّة.

الطول: الفضل.

و المنحة: العطيّة.

و الأزل: الشدّة.

و النذر: النذارة.

المعنى

و قد أثنى على اللّه تعالى في هذا الفصل باعتبارات أربعة من نعوت جلاله:

الأوّل: كونه عليّا، و إذ ليس المراد به العلوّ المكانىّ لتقدّسه تعالى عن الجسميّة كما سبق فالمراد العلوّ المعقول له باعتبار كونه مبدء كلّ موجود و مرجعه فهو العلىّ المطلق الّذي لا أعلى منه في وجود و كمال رتبة و شرف كما سبق بيانه، و لمّا عرفت أنّ معنى الدنوّ إلى كلّ موجود صدر عن قدرته و قوّته لا جرم جعل للحوقه له مبدءا هو حوله.

الثاني: كونه دانيا بطوله. و لمّا عرفت أنّ معنى الدنوّ و القرب في حقّه تعالى ليس مكانيّا أيضا كان اعتبارا تحدثه عقولنا له من قرب إفاضة نعمه على قوابلها و قربه من أبصار البصائر في صورة نعمة نعمة منها و لذلك جعل طوله مبدءا لدنوّه.

الثالث: كونه مانح كلّ غنيمة و فضل. الرابع: كونه كاشف كلّ عظيمة و أزل. هما إشارة إلى كلّ نعمة صدرت عنه على قابلها فمبدءها جوده و رحمته سواء كانت وجوديّة كالصحّة و المال و العقل و غيرها أو عدميّة كدفع البأساء و الضرّاء، و إليه الإشارة بقوله وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ«» الآية، و قوله أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ«».
و قوله: أحمده. إلى قوله: نعمه.
و قوله: أحمده. إلى قوله: نعمه. تنبيه للسامعين على مبدء استحقاقه لاعتبار الحمد، و هو كرمه. قال بعض الفضلاء: الكريم هو الّذي إذا قدر عفا، و إذا وعد وفا، و إذا أعطى زاد على منتهى الرجاء و لم يبال كم أعطى و لا لمن أعطى، و إن رفع إلى غيره حاجة لا يرضى، و إذا جفى عاتب و ما استقصى، و لا يضيع من لاذبه و التجا و يغنيه عن الوسائل و الشفعاء. فمن اجتمعت له هذه الاعتبارات حقيقة من غير تكلّف فهو الكريم المطلق. و ليس ذلك إلّا اللّه تعالى. قلت: و الأجمع الأمنع في رسم هذا الاعتبار يعود إلى فيضان الخير عنه من غير بخل و منع و تعويق على كلّ من يقدر أن يقبله بقدر ما يقبله. و عواطف كرمه هى نعمه و آثاره الخيريّة الّتى تعود على عباده مرّة بعد اخرى، و سوابغ نعمه السابغة الّتى لا قصور فيها عن قبول قابلها.

و قوله: و أومن به أوّلا باديا.
و قوله: و أومن به أوّلا باديا. نصب أوّلا باديا على الحال، و أشار بهذين الوصفين إلى الجهة الّتى هى مبدء الإيمان إذ كان منه باعتبار كونه أوّلا هو مبدءا لجميع الموجودات، و كونه باديا هو كونه ظاهرا في العقل في جميع آثاره. فباعتبار ظهوره مع كونه مبدءا لكلّ موجود و أوّلا له يجب الايمان به و التصديق بإلهيّته.


و قوله: و أستهديه قريبا هاديا.
و قوله: و أستهديه قريبا هاديا. فاستهداؤه طلب الهداية منه، و قربه هو دنوّه بجوده من قابل فضله، و هدايته هبته الشعور لكلّ ذى إدراك بما هو أليق به ليطلبه دون ما ليس أليق به. و ظاهر أنّه باعتبار هذين الوصفين مبدء لطلب الهداية منه.

و قوله: و أستعينه قاهرا قادرا.
و قوله: و أستعينه قاهرا قادرا. استعانته طلب المئونة منه على ما ينبغي من طاعته و سلوك سبيله، و القاهر هو الّذي لا يجرى في ملكه بخلاف حكمه نفس، بل كل موجود مسخّر تحت حكمه و قدرته و حقير في قبضته، و القادر هو الّذي إذا شاء فعل و إذا لم يشأ لم يفعل و إن لم يلزم أنّه لا يشأ فلا يفعل كما سبق بيانه. و ظاهر أنّه باعتبار هذين الوصفين مبدء للاستعانة.

و قوله: و أتوكّل عليه كافيا ناصرا.
و قوله: و أتوكّل عليه كافيا ناصرا. التوكّل كما علمت يعود إلى اعتماد الإنسان فيما يرجو أو يخاف على غيره، و الكافي اعتبار كونه معطيا لكلّ قابل من خلقه ما يكفى استحقاقه من منفعة و دفع مضرّة، و الناصر هو اعتبار إعطائه النصر لعباده على أعدائهم بإفاضة هدايته و قوّته. و ظاهر أنّه تعالى باعتبار هذين الوصفين مبدء لتوكّل عباده عليه و إلقاء مقاليد امورهم إليه.

و قوله: و أشهد. إلى آخره.
تقرير للرسالة و تعيين لأغراضها و ذكر منها ثلاثة:

أحدها: إنفاذ أمره. و الضمائر الثلاثة للّه. و إنفاذ أمره إجراؤه لأحكامه على قلوب الخلق ليقرّوا بالعبودّية له.

الثاني: إنهاء عذره في أقواله و أفعاله. و قد سبق بيان وجه استعارة العذر. الثالث: تقديم نذره و هو التخويفات الواردة على ألسنة الرسل عليهم السّلام إلى الخلق قبل لقائه الجاذبة لهم إلى لزوم طاعته. و ظاهر كون الثلاثة أعراضا للبعثة.

الفصل الثاني: قوله: أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ضَرَبَ الْأَمْثَالَ- وَ وَقَّتَ لَكُمُ الْآجَالَ وَ أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ- وَ أَحَاطَ بِكُمُ الْإِحْصَاءَ وَ أَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ- وَ آثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ وَ الرِّفَدِ الرَّوَافِغِ- وَ أَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً- وَ وَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ وَ دَارِ عِبْرَةٍ- أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا وَ مُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا

المعنى

الرياش: اللباس الفاخر.

و قيل: الغنى بالمال.

و أرصد: أعدّ.

و الرفد: جمع رفده و هى العطيّة.

و الروافع: الواسعة الطيّبة

و هذا الفصل مشتمل على الوصيّة بتقوى اللّه و خشيته و الانجذاب إليه باعتبار امور:

الأول: ضرب الأمثال
و الأمثال الّتى ضربها اللّه لعباده في القرآن كثيرة منها: قوله تعالى كَمَثَلِ الَّذِي، اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إلى قوله يَرْجِعُونَ«» و الإشارة بهذا المثل إلى من كان قد طلب إظهار المعجزات من الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم فلمّا ظهرت لهم لم يقبلوها و رجعو إلى ظلمة جهلهم فهم صمّ عن سماع دواعى اللّه بآذان قلوبهم، بكم عن مناجات اللّه بأسرارهم، عمى عن مشاهدة أنوار اللّه بإبصار بصائرهم فهم لا يرجعون عن تماديهم في غيّهم و كفرهم. و منها: قوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ إلى قوله قامُوا و هو مثل شبّه فيه القرآن بالمطر نزل من السماء، و شبّه ما فى القرآن من الوعد و الوعيد بما في المطر من الرعد و البرق، و شبّه تباعد المنافقين عن الإصغاء إلى‏ القرآن و تغافلهم عن سماع الوعظ بمن يجعل أصابعه في آذانه خوف الصواعق، و قوله: يَكادُ الْبَرْقُ. إلى آخره. إشارة إلى من كان يرقّ قلبه بسماع الوعظ البالغ إذا قرعه و يميل إلى التوبة و يتجلّى عن قلبه بعض الظلمة فإذا رجعوا إلى قرنائهم أشاروا عليهم بالعود إلى دنياهم و بذلوا لهم الجهد في النصيحة و خوّفوهم بالعجز فتضعف قصودهم، و تظلم عليهم شبهات الباطل فتغطّى ما كان ظهر لهم من نور الحقّ. و كذلك باقى أمثال اللّه في كتابه الكريم.

الثاني: قوله: و وقّت لكم الآجال:
أى كتبها بقلم القضاء الإلهىّ في اللوح المحفوظ كلّ إلى إجل مسمّى ثمّ يرجع إليه فيحاسبه بإعلانه و إسراره. فبالحرّى أن يقتّته و يعمل للقائه.

الثالث: كونه قد ألبسهم الرياش.
و هو إظهار للمنّة عليهم كما قال يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى‏«» الآية. ليذكّروا أنواع نعمه فيستحيوا من مجاهرته بالمعصية.

الرابع: كونه قد أرفع لهم المعاش
أى أطاب معايشهم في الدنيا كما قال تعالى وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، و هو كالثالث.

الخامس: إحاطته بهم إحصاء
كقوله تعالى لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا أى أحاط بهم علمه. و إحصاء منصوب على المصدر من غير لفظ فعله، أو على التمييز. و ظاهر أنّ علم العصاة بأنّه لا يشذّ أحد منهم عن إحاطة علمه جاذب لهم إلى تقواه.

السادس: كونه قد أرصد لهم الجزاء.
كقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ«».

السابع: ايثارهم بالنعم السوابغ
و الرفد الروافع. كقوله تعالى وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً«».

الثامن: إنذارهم بالحجج البوالغ
و هى رسله و مواعظه و ساير ما جذب به عباده إلى‏ سلوك سبيله، و هو حجّة على عصاة أمره أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين.

التاسع: إحصاؤه لعددهم
كقوله تعالى وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً.

العاشر: توظيفه لهم المدد،
و هو كتوقيته لهم الآجال، و إنّما كرّر وصف الإحصاء و العدّ و هذين الوصفين أيضا لأنّ الوهم كثيرا ما ينكر إحاطته تعالى بالجزئيّات مع عدم تناهيها فيكون ذلك مشبّها على النفس توقيت الآجال لكلّ شخص شخص و يقدح في أمر المعاد العقوبات اللازمة لكلّ آحاد الخلق بحسب كلّ ذرّة من الأعمال الطالحة فكرّرهما طردا للوهم و كسرا لحكمه، و لأنّ ذكر توقيت الآجال من أشدّ الجواذب عن الدنيا إلى اللّه. و قوله: في قرار خبرة و دار عبرة: أى محلّ اختبار اللّه خلقه و محلّ عبرتهم: أى انتقال أذهانهم فيما تجرى فيها من آيات العبرة و آثار القدرة.
و الاستدلال بها على وحدانيّة مبدعها كما سبقت الإشارة إلى معنى الاختبار و الاعتبار و كذلك قوله: فأنتم فيها مختبرون و عليها محاسبون قد سبقت الإشارة إليه في قوله: ألا و إنّ الدنيا دار لا يسلم منها إلّا فيها. و في هذين القرينتين مع السجع المتوازى نوع من التجنيس بين خبرة و عبرة. و الاختلاف بالحرف الأوّل.


الفصل الثالث قوله: فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا…

فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا- يُونِقُ مَنْظَرُهَا وَ يُوبِقُ مَخْبَرُهَا- غُرُورٌ حَائِلٌ وَ ضَوْءٌ آفِلٌ وَ ظِلٌّ زَائِلٌ وَ سِنَادٌ مَائِلٌ- حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا وَ اطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا- قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا- وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وَ أَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ- قَائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ وَ وَحْشَةِ الْمَرْجِعِ- وَ مُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ وَ ثَوَابِ الْعَمَلِ- . وَ كَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ- لَا تُقْلِعُ‏ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً- وَ لَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالًا- وَ يَمْضُونَ أَرْسَالًا إِلَى غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وَ صَيُّورِ الْفَنَاءِ

اللغة

الرنق: الكدر.

و الردغ: الوحل و التراب المختلط بالماء.

و يونق: يعجب.

و يوبق: يهلك.

و غرور: خدعة مستغفلة للأذهان.

و الحائل: المنتقلة المحتولة.

و قمصت الدابّة: رفعت يديها و طرحتهما و عجنت برجليها.

و قنصت: صادت. و أقصدت: أصابت القصد.

و الأوهاق: جمع وهق بالفتح و هو الحبل.

و الضنك: الضيق.

و أقلع عن الشي‏ء: امتنع منه.

و الاخترام: الموت دون المدّة الطبيعيّة.

و ارعوى: كفّ و رجع و حذاحذ و فلان: فعل فعله.

و أرسال: جمع رسل بالفتح و هو القطيع من الغنم يتبع القطيع.

و صيّور الأمر: ما يرجع إليه منه.

المعنى

و مدار هذا الفصل على التنفير عن الدنيا بذكر معايبها و ما يؤول إليه، و ذكر لها أوصافا:

الأوّل: كونها رنق مشربها.
و هو كناية عن كدر لذّاتها بشوائب المصائب من الهموم و الأحزان و الأعراض و الأمراض.

الثاني: كونها ردغ مشرعها.
و مشرعها محلّ الشروع في تناولها و الورود في استعمالها، و كونه ردغا وصف للطريق المحسوس استعير له. و وجه المشابهة كون طريق الإنسان في استعمال الدنيا و التصرّف فيها ذات مزالق و مزالّ أقدام تهوى به إلى جهنّم لا يثبت فيها إلّا قدم عقل قد هجّر في ضبط قواه و قهر سطوة شياطينه كما أنّ الطريق ذات الوحل كذلك. و هو من لطائف إشاراته عليه السّلام.

الثالث: كونها يونق منظرها، و يوبق مخبرها.
و هو إشارة إلى إعجابها لذوى الغفلة بزينتها الحاضرة مع هلاكهم باختبارها و ذوقهم لحلاوتها و غرض الالتذاذ بها.

الرابع: كونها غرورا حائلا.
يروى بفتح الغين و ضمّها. و معنى الأوّل ذات غرور: أى تغرّ الخلق بزخارفها فيتوهّمون بقاءها ثمّ تنتقل عنهم و تحوّل، و من روى بالضمّ جعلها نفسها غرورا: و الغرور يطلق على ما يغترّ به حقيقة عرفيّة.

لخامس: كونها ضوء آفلا
استعار لفظ الضوء لما يظهر منها من الحسن في عيون الغافلين يقال على فلان ضوء: أى له منظر حسن، أو لما ظهر لهم من وجوه مسالكها فاهتدوا به إلى تحصيلها و مداخلها و مخارجها. و على التقديرين فهو ضوء آفل لا يدوم.
و لفظ الافول أيضا مستعار.

السادس: و ظلّ زائل.
استعار لفظ الظلّ لما يأوى إليه الإنسان من نعيمها فيستظلّ به من حرارة بؤسها. و ظاهر كونه زائلا.

السابع: كونه سنادا مايلا.
استعارة أيضا للفظ اسناد فيما يعتمد الغافلون عليه من قيناتها و خيراتها الّتى لا أصل لها و لا ثبات بل هى كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الارض مالها من قرار، و ذكر الميل ترشيح للاستعارة.

الثامن: كونها تغرّ الناس بضوئها
و ظلّها و بهجة منظرها إلى غايه أن يستأنس بها من كان بعقله نافرا عنها و يطمئنّ إليها من كان بمقتضى فطرته منكرا لها حتّى إذا كان ذلك منه طوعا لها فعلت به أفعال العدوّ الخدوع، و نسب إليها من الأفعال امورا: أحدها: قمصها بالأرجل. و استعار لفظ القمص لامتناعها على الإنسان حين حضور أجله كأنّها تدفعه برجليها مولّية عنه كما تفعل الدابّة، و رشّح بذكر الأجل. و إنّما جمع لاعتبار اليدين مع الرجلين، و ذكره بلفظ الرجلين لأنّ القمص إليها أنسب. الثاني: قنصها له بأحبلها. و هو كناية عن تمكّن حبائل محبّتها. و الهيئات الرديئة المكتسبة منها في عنق نفسه كناية بالمستعار. الثالث: كونها أقصدت له بأسهمها. و استعار لفظ الأسهم للأمراض و أسباب الموت، و إقصادها كناية عن إصابتها بالمستعار لأوصاف الرامى تنزيلا للدنيا منزلته. الرابع: كونها أعلقته حبال المنيّة. و حبالها استعارة لما تجذب به إلى الموت من ساير أسبابه أيضا، و كذلك لفظ القائد استعارة كنّى بها عن انسياق المريض في حبال مرضه الحاصل فيها إلى الامور المذكور من ضنك المضطجع و هو القبر و وحشة المرجع، و هو إشارة إلى ما تجده النفوس الجاهلة عند رجوعها من وحشة فراق ما كان محبوبا لها في الدنيا و ما كانت الفتنة من مال و أهل و ولد. و هى استعارات لأوصاف الصايد تنزيلا للدنيا منزلته. و معاينة المحلّ: أى مشاهدة الآخرة الّتى هى محلّ الجزاء. و ثواب العمل: أى جزاءه من خير أو شرّ.

و قوله: و كذلك الخلف. إلى آخره.
أى على الأحوال المذكورة للدنيا مضى الخلق يتبع خلفهم من سلف منهم لا المنيّة تقصر عن اخترام نفوسهم و لا الباقون منهم يرجعون عمّا هم عليه من ارتكاب الجرائم فيها و الغرور بها بل يقتدون بأمثالهم الماضين في ذلك و يمضون عليه اتّباعا إلى غاية مسيرهم بمطايا الأبدان و مصير أمرهم و هو الفناء و العرض على الملك الديّان. و قد راعى أيضا مع السجع التجنيس في قوله: يونق و يوبق، و نافرها و ناكرها، و قمصت و قنصت، و الاختلاف بحرف الوسط. و باللّه التوفيق.

الفصل الرابع: في الإشارة إلى ما يلحق الناس بعد الموت من أحوال القيامة تذكيرا لهم.

قوله: حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ- وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ وَ أَزِفَ النُّشُورُ- أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ وَ أَوْكَارِ الطُّيُورِ- وَ أَوْجِرَةِ السِّبَاعِ وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ- مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ رَعِيلًا صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً- يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي- عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ- قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً- وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً- وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ وَ عَظُمَ الشَّفَقُ وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ- لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ- وَ نَكَالِ الْعِقَابِ وَ نَوَالِ الثَّوَابِ

اللغة

تصرّمت: تقضّت.

و أزف: دنا.

و الضرائح: جمع ضريح. و هو الشقّ في‏ وسط القبر.

و أوكار الطيور: أعشاشها.

و أوجرة: جمع و جار و هو بيت السبع.

مهطعين: مقبلين.

و رعيلا: مجتمعين.

اللبوس: ما يلبس.

و الضرع: الخضوع و الانكسار.

و كاظمة: ساكنة.

و الهينمة: صوت خفىّ.

و ألجم العرق: بلغ الفم فصار كاللجام.

و الشفق: الإشفاق و هو الخوف.

و الزبرة: الانتهار.

و المقايضة: المعاوضة.

و النكال: تنويع العقوبة.

المعنى

و اعلم أنّه قد تطابقت ألسنة الأنبياء و الرسل عليهم السّلام على القول بالمعاد الجسمانىّ، و نطق به الكتاب العزيز كقوله تعالى يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ«» الاية و نحوه، و اتّفق المسلمون على القول به، و أمّا الحكماء فالمشهور من مذهبهم منع المعاد الجسمانىّ بناء على أنّ المعدوم لايعاد بعينه لامتناع عود أسبابه بأعيانها من الوقت و الدورة الفلكيّة المعينّة و غيرهما. و ربّما قال بعض حكماء الإسلام بجواز عود المثل و ربّما قلّد بعضهم ظاهر الشريعة في أمر المعاد الجسمانىّ و إثبات السعادة و الشقاوة البدنيّة مع الروحانيّة، و قال الرئيس أبو علىّ بن سينا في كتاب الشفاء ما هذه حكاية ألفاظه: «يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو المقبول من الشرع و لا سبيل إلى إثباته إلّا من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوّة و هو الّذي للبدن عند البعث و خيرات البدن و شروره معلومة لا تحتاج أن تعلم. و قد بسطت الشريعة الحقة الّتى أتانا بها سيّدنا و مولانا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم حال السعادة و الشقاوة اللتين بحسب البدن، و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس البرهانىّ، و قد صدّقه النبوّة و هو السعادة و الشقاوة البالغتان الثابتتان بالمقاييس اللتان للأنفس و إن كانت الأوهام منّا يقصر عن تصوّرها الآن لما توضح من العلل، و الحكماء الالهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك و إن اعطوها و لا يستعظمونها في جنبة هذه السعادة الّتى هى مقاربة الحقّ الأوّل» و اعلم أنّ الّذي ذكره عليه السّلام هنا صريح في إثبات المعاد الجسمانىّ و لواحقه.

فقوله: أخرجهم من ضرايح القبور و أوكار الطيور و أوجرة السباع و مطارح المهالك.
إشارة إلى جمعه لأجزاء أبدان الناس بعد تشذّ بها و تفرّقها فيخرج من كان قبرمن ضريح قبره و من كان اكيل طير أو سبع أو مقتولا في مطرح الهلاك من معركة الحرب أو غيرها أخرجه من ذلك المكان و جمع أجزاءه و ألّف بينها.
فإن قلت: إذا أكل إنسان إنسانا و اغتذى به فصارت أجزاء بدنه أجزاء بدن آكله فكيف يمكن إعادتهما لأنّ تلك الأجزاء في أيّ بدن منهما اعيدت لزم نقصان الآخر و بطلانه.
قلت: مذهب محقّقى المتكلّمين أنّ في كلّ بدن واحد أجزاء أصليّة باقية من أوّل العمر إلى آخره لا تتغيّر و لا تتبدّل، و أجزاء فضيلة فإذا اعيدا يوم القيامة فما كان أصليّا من الأجزاء لبدن المأكول فهو فضلىّ لبدن الآكل فيردّ إليه من غير أن ينقص من الأجزاء الأصليّة للآكل شي‏ء و لا عبرة بالفاضلة. و باقى الفصل غنىّ عن البيان، و قال بعض الفضلاء: إنّه ربّما احتملت هذه الألفاظ أن يسلّط عليها من التأويل ما يناسب مذهب القائلين بالمعاد الروحانىّ.

فقوله: حتّى إذا تصرّمت الامور.
أى أحوال كلّ واحد من الخلق في الدنيا.
و قوله: و تقضّت الدهور.
. أى انقضت مدّة كلّ شخص منهم.
و قوله: و أزف النشور.
أى دنا انتشار كلّ واحد في عالم الآخرة من قبور الأبدان.
و قوله: أخرجهم من ضرائح القبور.
استعار لفظة القبور للأبدان و ضرايحها تشريح للاستعارة. و وجه المشابهة أنّ النفس تكون منغمسة في ظلمة البدن و كدر الحواسّ متوحّشة عن عالمها كما أنّ المقبور متوهّم لظلمة القبر و وحشة، منقطع عن الأهل و المال. و ضمير المخرج يعود إلى اللّه في صدر الخطبة.
و قوله: و أوكار الطيور.
فاعلم أنّ العارفين و أهل الحكمة كثيرا ما يستعيرون لفظ الطير و أوصافه للنفس‏ الناطقة و للملائكة كما أشار إليه سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله: حتّى إذا حمل الميّت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش، و يقول: يا أهلى و يا ولدي لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بى. و الرفرقة إنّما يكون لذي الجناح من الطير، و كما جاء في التنزيل الإلهىّ في وصف الملائكة الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ و كما أشار إليه أبو على في قصيدة أوّلها ألقى:
هبطت إليك من المكان الأرفع و رقاء ذات تعزّز و تمنّع‏ و أشار بالورقاء إلى النفس الناطقة، و كما أشار اليه في رسالته المسمّاة برسالة الطير بقوله: برزت طائفة تقنص فنصبوا الحبال و رتّبوا الشرك و هيّأوا الطعم، و تواروا في الحشيش و أنا فى سربة طير. و نحوه. و وجه المشابهة في هذه الاستعارة ما تشترك فيه النفس و الطير من سرعة التصرّف و الانتقال فالنفس بانتقال عقلىّ، و الطير بانتقال حسّى و إذا استعير لفظ الطير للنفس فبالحرىّ أن يستعار لفظ الوكر للبدن لما بينهما من المشاركة و هو كونهما مسكنا لا تسهل مفارقته.

و قوله و أوجرة السباع.
استعارة للأبدان أيضا. و السباع إشارة إلى النفوس المطيعة لقواها الغضبيّة الّتي شأنها محبّة الغلبة و الانتقام كما أنّ السبع كذلك.
و قوله: و مطارح المهالك.
إشارة إلى الأبدان أيضا فإنّها مطارح مهالك الغافلين الّذين اتّبعو الشهوات أعنى أبدانهم.
و قوله: سراعا إلى أمره.
نصب على الحال بقوله: أخرجهم، و كذلك ما بعده من المنصوبات. و أمره هو حكم قضائه الأزلىّ عليهم بالرجوع إليه و عودهم إلى مبدئهم و سرعتهم إليه إشارة إلى قرب وصولهم و هو في آن انقطاع علاقة النفس مع البدن و هو على غاية من السرعة.
و قوله: مهطعين إلى معاده.
إشارة إلى إقبال النفوس بوجوهها على محلّ عودها و ما أعدّ لها فيه من خير و شرّ.

و قوله: رعيلا.
إشارة إلى اجتماعهم في حكم اللّه و قبضته و محلّ الاستحقاق لثوابه و عقابه.
و قوله: صموتا
و قوله: صموتا إذ لا ألسنة لهم إذن ينطقون بها، و يحتمل أن يكون الصمت كناية عن خضوعهم و انقيادهم في ذلّ الحاجة و هيبة الجلال.
و قوله: قياما صفوفا.
فقيامهم استعارة لاستشعار النفوس هيبة اللّه لعظمته، و قيامها بتصوّر كماله على مساق العبوديّة و ذلّ الإمكان، و صفوفا استعاره لانتظامهم إذن في سلك علمه تعالى إذ الكلّ بالنسبة إلى علمه على سواء كما يستوي الصفّ المحسوس، و يحتمل أن يكون الصفّ استعارة لترتّبهم في القرب إلى اللّه تعالى متنازلين متصاعدين.
و قوله: ينفذهم البصر.
إشارة إلى علمه تعالى بهم.
و قوله: و يسمعهم الداعى.
فالداعى هو حكم القضاء عليهم بالعود، و إسماعهم: عموم ذلك الحكم لهم بحيث لا يمكن أن يخرج عنه منهم أحد.
و قوله: عليهم لبوس الاستكانة و ضرع الاستسلام و الذلّة.
إشارة إلى حالهم الّتى يخرجون من الأجداث عليها من ذلّ الإمكان و رقّ الحاجة و الخوف في قبضة اللّه و هو كقوله تعالى يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى‏ شَيْ‏ءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ«».
و قوله: قد ضلّت الحيل.
أى حيل الدنيا. فلا حيلة لهم في الخلاص ممّا هم فيه كما كانوا يخلصون بحيل الدنيا من بعض شرورها، و انقطع الأمل: أى أملهم فيها لامتناع عودهم إليها و انقطاع طمعهم في ذلك.

و قوله: و هوت الافئدة كاظمة.
أى سقطت النفوس في حضيض الذلّ و الفاقة إلى رضا اللّه و عفوه، و لفظ الكظم مستعار كما سبق.
و قوله: و خشعت الأصوات
هو كقول اللّه وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً و هو إشارة إلى سؤالهم بلسان حالهم عفو اللّه و رحمته على وجه الذلّة و الضعف و رقّ العبوديّة في ملاحظة جلال اللّه.
و قوله: و ألجم العرق و عظم الشفق.
استعار لفظ العرق و كنّى به عن غاية ما تجده النفس من كرب ألم الفراق و هيبة اللّه و عدم الانس بعد الموت إذ غاية الخائف التاعب أن يعرق و يشفق من نزول العقاب به.و نسبة الإلجام إلى العرق نسبة مجازيّة.
و قوله: و ارعدت الأسماع لزبرة الداعى.
إشارة إلى ما تجده النفس عند تيقّنها المفارقة. و استعار لفظ الزبرة لقهر حكم القضاء للأنفس على مرادها قهرا لا يتمكّن معه من الجواب بالامتناع، و فصل الخطاب هو إمضاء أحكام اللّه على نفوس عباده. عند الرجوع إليه بتوفية مالها، و استيفاء ما عليها. و مقايضة الجزاء: معاوضتها بما أتت به إمّا من الملكات الرديئة فبنكال العقاب‏ ، و إمّا من الملكات الفاضلة فبنوال الثواب، و هبة كلّ بقدر استعداده و قبوله. و اعلم أنّ العدول إلى المجازات و الاستعارات عن حقايق الألفاظ، و إلى التأويل عن الظواهر إنّما يجوز خصوصا في كلام اللّه و كلام رسوله و أولياءه إذا عضده دليل عقلىّ يمنع من إجراء الكلام على ظاهره. و لمّا اعترف القوم بجواز المعاد الجسمانىّ تقليدا للشريعة و لم يقم دليل عقلىّ يمنع منه لم يمكننا الجزم إذن بصحّة هذه التأويلات و أمثالها. و باللّه التوفيق و العصمة.


الفصل الخامس: في تنبيه الخلق على أوصاف حالهم المنافية لما هم عليه من التجبّر و الإعراض عمّا خلقوا لأجله لعلّهم يتذكّرون

بقوله: عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً- وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً وَ مُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً- وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً وَ مَدِينُونَ جَزَاءً وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً- قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ- وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ- وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ وَ رَوِيَّةِ الِارْتِيَادِ- وَ أَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ

اللغة

القسر: القهر و الجبر.

و الأجداث: القبور واحدة جدث.

و الرفات: القنات من العظم و نحوه.

و مدينون: مجزيّون.

و المستعتب: المسترضى.

و السدف: جمع سدفة و هى ظلمة الليل.

و الريب: الشبه و الشكوك.

و الارتياد: الطلب.

و ذكر من تلك الأوصاف ثلاثة عشر وصفا:
الأوّل
: كونهم مخلوقون اقتدارا
أى خلقهم ليس لذواتهم بل بقدرة قادر مستقلّة عن مشاركة الغير و ذلك مناف لعصيانهم له.
الثاني: كونهم مربوبون اقتسارا:
أى ليس ملك مالكهم لهم عن اختيار منهم حتّى يكون لهم الخيرة في معصيته و طاعته.
الثالث: كونهم مقبوضون احتضارا:
أى مستحضرون بالموت مقبوضون به إلى حضرة جلال اللّه.
الرابع:
كونهم من شأنهم أن يضمّنوا الأجداث.
الخامس:
من شأنهم أن يصيرو ارفاتا.
السادس:
من شأنهم أن يبعثوا أفرادا كما قال تعالى وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَرْداً«» إى مجرّدا عن استصحاب غيره معه من أهل و مال.
السابع: أنّهم مدينون أجزاء
و من شأنهم ذلك. و الجزاء مصدر نصب بغير فعله.
الثامن: أنّ من شأنهم أن يميّزوا حسابا:
أى يحصون عددا كقوله تعالى لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا«» و حسابا أيضا مصدر نصب عن غير فعله.
التاسع: كونهم قد امهلوا في طلب المخرج:
أى إنّما امهلوا في الدنيا لطلب خلاصهم و خروجهم من ظلمات الجهل و ورطات المعاصى إلى نور الحقّ و متّسع الجود.
العاشر: كونهم قد هدوا سبيل المنهج:
أى الهموا بأصل فطرتهم، و دلّوا بالأعلام الواضحة من الأنبياء و الشرائع على الطريق إلى حضرة قدس اللّه و الجنّة.
الحاد عشر: كونهم قد عمّروا مهل المستعتب.
لمّا كان من يطلب استعتابه و يقصد رجوعه عن غيّه يمهل و يدارى طويلا كانت مهلة اللّه سبحانه لخلقه مدّة أعمارهم ليرجعوا إلى طاعته و يعملوا صالحا تشبه ذلك فنزّلت منزلته. و مهل نصب على المصدر لأنّ التعمير إمهال.
الثاني عشر: كونهم قد كشفت عنهم سدف الريب:
أى أزال عن أبصار بصائرهم ظلم الشكوك و الشبهات و الجهالات بما وهبه لهم من العقول و أيّدهم من بعثة الرسل.
الثالث عشر: كونهم قد خلّوا لمضمار الجياد
أى تركوا في الدنيا ليضمروا أنفسهم بأزواد التقوى، و لمّا استعار لفظ المضمار رشّح بذكر الجياد. إذ شرف المضمار أن تحلّ به جياد الخيل. و فيه تنبيه لهم على أن يكونوا من جياد مضمارهم. و قد سبق وجه الاستعارة، و معنى التضمير في قوله: ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السباق. و كذلك خلّوا لرويّة الارتياد: أى ليتفكّروا في طلب ما يتخلّصون به إلى اللّه تعالى من ساير طاعاته، و كذلك ليتأنّوا أناة المقتبس للأنوار الإلهيّة الطالب للاستنارة بها في مدّة آجالهم و محلّ اضطرابهم في مهلتهم و تحصيلهم لما ينبغي لهم من الكمالات. و من ملك من عبيده هذه الحالات و أفاض عليهم ضروب هذه الإنعامات فكيف يليق بأحدهم أن‏ يجاهره بالعصيان أو يتجاسر أن يقابله بالكفران إنّ الإنسان لكفور مبين.


الفصل السادس: في التنبيه على فضل موعظته و تذكيره و مدحها بالبلاغة و التعريض بعدم القلوب الحاملة لها، ثمّ الحثّ على التقوى


بقوله.
فَيَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَةً وَ مَوَاعِظَ شَافِيَةً- لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً وَ أَسْمَاعاً وَاعِيَةً- وَ آرَاءً عَازِمَةً وَ أَلْبَاباً حَازِمَةً- فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ وَ اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ- وَ وَجِلَ فَعَمِلَ وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ وَ أَيْقَنَ فَأَحْسَنَ وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ- وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ وَ أَجَابَ فَأَنَابَ وَ رَاجَعَ فَتَابَ- وَ اقْتَدَى فَاحْتَذَى وَ أُرِيَ فَرَأَى فَأَسْرَعَ طَالِباً وَ نَجَا هَارِباً- فَأَفَادَ ذَخِيرَةً وَ أَطَابَ سَرِيرَةً وَ عَمَّرَ مَعَاداً- وَ اسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَ وَجْهِ سَبِيلِهِ وَ حَالِ حَاجَتِهِ- وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ- وَ احْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ- وَ اسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ- وَ الْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ

المعنى

فقوله: فيا لها أمثالا صايبه و مواعظ شافية
أمثالا و مواعظ نصب على التمييز. و صواب الأمثلة: مطابقتها للممّثل به. و شفاء الموعظة: تأثيرها في القلوب إزالة مرض الجهل و الرذائل الخلقية و رجوع المتعّظ بها منيبا إلى ربّه.
و قوله: لو صادفت قلوبا زاكية و أسماعا واعية و آراء عازمة و ألبابا حازمة
فزكاء القلوب: استعدادها لقبول الهداية و قربها من ذلك. و وعى الأسماع: فهم القلوب عنها، و إنّما وصفها بالوعى لأنّها أيضا قابلة لقشور المعاني مؤديّة لها إلى قوّة الحسّ ثمّ الخيال، و عزم الآراء: توجيه الهمّة إلى ما ينبغي و الثبات على ذلك. و حزامة الألباب: جودة رأى العقول فيما يختاره. و ظاهر أن هذه الثلاثة هى أسباب نفع الموعظة.

و قوله: فاتّقوا اللّه. إلى قوله: مقامه
أمر بتقوى اللّه تقيّة كتقوى من استجمع جميع هذه الأوصاف.
أحدهما: تقيّة من سمع فخشع: أى تقيّة من استعدّ قلبه لسماع الموعظة فخشع عنها للّه.

الثاني: تقيّة من اقترف فاعترف: أى اكتسب الذنوب فاعترف بها و أناب إلى اللّه.

الثالث: تقيّة من وجل: أى خاف ربّه. فأقلقه خوفه فعمل: أى فالتجأ إلى الأعمال الصالحة لينجوا بها.

الرابع: تقيّة من حاذر: أى عقاب ربّه. فبادر إلى إطاعته.

الخامس: تقيّة من أيقن: أى بالموت و لقاء ربّه. فأحسن: أى فأحسن عمله و أخلص له.

السادس: تقيّة من عبّر: أى رمى بالعبر و ذكّر بها. فاعتبر: أى فجعلها سلّما يعبر فيها ذهنه إلى العلم بما ينبغي له.

السابع: و حذرّ: أى من سخط اللّه و عقابه. فازدجر: أى فرجع عن معصيته.

الثامن: تقيّة من أجاب: أى أجاب داعى اللّه. فأناب: أى رجع إليه بسرّه و امتثل أمره.

التاسع: تقيّة من راجع فكره و عقله فتاب: أى فاستعان به على شياطينه و قهر نفسه الأمّارة بالسوء. فتاب من متابعتها.

العاشر: تقيّة من اقتدى: أى بأنبياء اللّه و أوليائه و هديهم الّذى أتوابه: فاحتذى: أى حذاحذوهم فى جميع أحوالهم فطلب قصدهم و فعل فعلهم.

الحادى عشر: تقيّة من ارى: أى ارى الخلق فأظهرت بعين بصيرته طريق اللّه و سبيله. فرأى: أى فعرفها و أسرع طالبا لما يسلك له و ينتهى إليه و نجا فيها هاربا من ظلمات جهله و ثمراته فأفاد ذخيرة: أى فاستفاد سلوكه لها و طاعته لربّه في ذلك ذخيرة لمعاده، و أطاب بسلوكها سريرته عن نجاسات الدنيا و عمّر بما يكتسبه في سلوكها من الكمالات المستعدّة معاده.

و استظهر به زادا ليوم رحيله من دنياه و استعدّ به لوجه سبيله الّتى هو سالكها و مسافر فيها و لحال حاجته و لموطن فاقته. فإنّ كلّ مرتبة من الكمالات حصلت للإنسان فهى تعدّه لرتبة أعلى منها لو لم يحصّلها لظهرت له حاجته في الآخرة إلى أقل منها حيث لا يجد إليها سبيلا. و كذلك قوله: قدّم: أى ما استظهر به زادا أمامه: أى تلقاء وجهه الّتى هو مستقبلها و منته إليها لدار مقامه: أى الآخرة.

و قوله: فاتّقو اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له.
أى باعتبار ما خلقكم له. و لمّا كان ما خلقهم له إنّما هو عرفانه و الوصول إليه كان المعنى: اجعلوا تقواكم اللّه نظرا إلى تلك الجهة و الاعتبار لا للرياء و السمعة. و جهة منصوب على الظرف، و يحتمل أن يكون مفعولا به لفعل مقدّر: أى و اقصدوا بتقويكم جهه ما خلقكم.

و قوله: و احذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه.
أى اسلكوا في حذركم منه حقيقة تحذيره لكم من نفسه بما توعّد به. و ذلك الحذر إنّما يحصل بالبحث عن حقيقة المحذور منه. و السالكون إلى اللّه في تصوّر ذلك على مراتب متفاوتة.

و قوله: و استحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتنجّز لصدق ميعاده.

استحقاق ما وعد به اللّه تعالى من جزيل الثواب إنّما يحصل بالاستعداد له فهو أمر بالاستعداد له و الاستعداد يحتاج إلى أسباب فذكرها عليه السّلام في أمرين: أحدهما: التنجّز لصدق ميعاده. و التنجّز طلب إنجاز الوعد و قضائه و ذلك إنّما هو بالإقبال على طاعته كما قال تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ«» الآية، و نحوها. و الثاني: الحذر من أهوال معاده‏ز. و ذلك باجتناب مناهيه و الارتداع بزواجره و نواهيه منها.


الفصل السابع قوله: جعل لكم أسماعا…

قوله: جعل لكم أسماعا. اعلم أنّ في هذا الفصل فصلين:

الفصل الأوّل:

في تذكير عباد اللّه بضروب نعمته عليهم، و التنبيه على الغاية منها،ثمّ التذكّر بحال الماضين من الخلق و التنبيه على الاعتبار بهم. و هو في معرض الامتنان و ذلك قوله عليه السّلام: جَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا- وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا وَ أَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا- مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا- بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا وَ قُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا- فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ وَ حَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ- وَ قَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ- وَ خَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ- مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ- أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الْآمَالِ وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الْآجَالِ- لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ- وَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ- وَ أَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ- وَ أَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ- وَ أُزُوفِ الِانْتِقَالِ وَ عَلَزِ الْقَلَقِ وَ أَلَمِ الْمَضَضِ وَ غُصَصِ الْجَرَضِ- وَ تَلَفُّتِ الِاسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَ الْأَقْرِبَاءِ- وَ الْأَعِزَّةِ وَ الْقُرَنَاءِ فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ- أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً- وَ فِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ-وَ أَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ وَ عَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ- وَ مَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ وَ صَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا- وَ الْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا- وَ الْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا- مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا- وَ لَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَ الْآبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ الْأَقْرِبَاءَ- تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ وَ تَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ- فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا- سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا- وَ كَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا

اللغة

عناها: أهمّها:

و العشى: ظلمة تعرض للعين بالليل.

و الأشلاء: جمع شلو و هو العضو و هو أيضا القطعة من اللحم، و كنّى به عن الجسد.

و الحنو: الجانب.

و الأرفاق: المنافع، و يروى بأرماقها.

و الرمق: بقيّة الروح: و الخلاق: النصيب.

الخناق: بالكسر حبل يخنق به.

و الإرهاق: الإعجال.

و التشذّب: التفرّق.

و مهد الأمر. مخفّفا و مشدّدا: أى هيّأه.

و انف الأوان: أوّله.

و البضاضة: امتلاء البدن و قوّته.

و الهرم: الكبر.

و غضارة العيش: طيبه.

و آونة: جمع أوان كأزمنة جمع زمان و الزيال: المزايلة.

و أزف: قرب.

و العلزة: كالرعدة يأخذ المريض.

و الجرض: أن يتبلع ريقه على همّ و حزن.

و الحفدة: الأعوان.

و غودر: ترك.

و أنهكه: أخلقه و أبلاه.

و المعالم: الآثار.

و الشحب: البعير الهالك الناحل.

و النخرة: البالية.

و الأعباء: الأثقال.

و القدّة بكسر القاف و الدال المهملة: الطريقة، و روى بضمّ القاف و الذال المعجمة، و الأوّل أصحّ.
و لنرجع إلى معنى.

فقوله: جعل لكم. إلى قوله: بأرفاتها.

تذكير بنعمة اللّه تعالى بخلق الأبدان، و ما تشتمل عليه من المنافع. ففائدة الأسماع أن تعى ما خلقت لأجله، و فايدة الأبصار أن يدرك بها الإنسان عجايب مصنوعات اللّه تعالى فيحصل له منها عبرة. و لفظ العشا يحتمل أن يكون مستعارا لظلمة الجهل العارض لإبصار القلوب حتّى يكون التقدير لتجلو عشا قلوبها، و حينئذ فإدراك البصر المحصّل عبرة يحصل للقلب به جلاء لذلك العشا فصحّ إذن إسناد الجلاء إلى الأبصار، و يحتمل أن يكون مستعارا لعدم إدراكها ما تحصل منه العبرة إذ كانت فايدتها ذلك فإذا لم يحصل منها ذلك الإدراك كانت كمبصر أصابه العشا، و وجه المشابهة عدم الفائدة. و نسبة الجلاء إليها بوجود الإدراك المفيد عبرة عنها و هو استعارة أيضا. و عن ليست بزايدة لأنّ الجلاء يستدعى مجلوّا و مجلوّا عنه فذكر عليه السّلام المجلوّ و أقامه مقام المجلوّ عنه فكأنّه قال: لتجلو عن قواها عشاها. و أمّا فايدة البدن و أعضائه فقد أشرنا إليه قبل مفصّلا، و قوله: قائمة بأرفاقها: أى أنّ كلّ بدن قائم في الوجود بحسب ما عنى له من ضروب المنافع.

و قوله: و قلوب رائدة. إلى قوله: سترها عنكم.
إظهار لمنّة اللّه تعالى على عباده بخلقه لهم و هدايته لنفوسهم لارتياد أرزاقهم الّتى بها قوام حياتها الدنيا و تمكّنها من إصلاح معادها ثمّ باعتبار كونهم في مجلّلات نعمه و سوابغها. فمنها: ستره عليهم قبائح أعمالهم أن تظهر، و هو اجس خواطرهم بعضهم لبعض بحيث لو اطّلع كلّ على ماله في ضمير صاحبه من الغلّ و الحسد و تمنّى زوال نعمته لأفنى بعضهم بعضا و خرب نظام وجودهم. و موجبات مننه: نعمه الّتي يستوجب أن يمنّ بها. و من روى بفتح الجيم فالمراد بالمنن إذن النعم و موجبات ما سقط منها و افيض على العباد. و حواجز عافيته: ما منع منها عوامل الأمراض و المضارّ المندفعة بها، و إنّما ذكر ستر كميّة الأعمار في معرض المنّة لأنّه من النعم العظيمة على العبد إذ كان اطّلاع الإنسان على كميّة عمره ممّا يوجب اشتغال خاطره بخوفه من الموت من عمارة الأرض و يبطل بسببه نظام هذا العالم.

و قوله: و خلّف لكم عبرا.
وجه من منن اللّه تعالى على عباده فإنّ إبقائه أحوال الماضين و ما خلّفوه عبرة لللاحقين سبب عظيم لجذبهم عن دار الغرور و مهاوى الهلاك إلى سعادة الأبد. و مستمتع خلاقهم: ما استمتعوا به ممّا كان نصيبا لكلّ منهم في مدّة بقائه من متاع الدنيا. و مستفسح خناقهم: محلّ الفسحة لأعناقهم من ضيق حبائل الموت و أغلال الجحيم، و ذلك المستفسح هو مدّة حياتهم أيضا ثمّ أردف ذلك بوصف حال الماضين في غرورهم، و ذكر إعجال الموت لهم عن بلوغ آمالهم و تشذيبه لهم باخترامهم عنها و نبّه به علي وجوب تقصير الأمل و الاستعداد للموت و كذلك نبّهم بقوله: لم يمهدوا. إلى قوله: الاوان. على تقصير الماضين في إصلاح معادهم حيث أمكنهم ذلك في سلامة أبدانهم و أوّل زمانهم ليحصل لهم بذلك التذكّر نفرة عن حال السابقين و انزعاج عن الغرور إلى الاستعداد بالتقوى و الأعمال الصالحة، ثمّ استفهمهم عمّا ينتظر الشباب بشبابهم غير حوانى الهرم، و أهل الصحّة بصحّتهم غير الأسقام و المعمّرون بطول أعمارهم غير الفناء استفهاما على سبيل الإنكار لما ينتظرونه غير هذه الامور و تقريعا على ذلك الانتظار و تنفيرا عنه بذكر غاياته الّتي حصره فيها.
و أعلم أنّ ذلك ليس انتظارا حقيقيّا لكن لمّا كان المنتظر لأمر و المترقّب له تاركا في أحواله لما يعنيه من الاشتغال إلى غاية أن يصل إليه ما ينتظره، و كانت غاية الشباب أن يحنى ظهورهم الهرم. و غاية الصحيح أن يسقم، و غاية المعمّر أن يفنى أشبه تركهم للعمل و عبادة اللّه إلى غاياتهم المذكورة لانتظار لها. فاستعير له لفظ الانتظار. ثمّ كنّى عن شدّة حال المفارق في سكرات الموت بأوصاف تعرض له حينئذ كالرعدة و الغلق و الغمّ و الخوف و الغصص بالريق و التلفّت للاستغاثة بالأعوان و الأقرباء و الأعزّة. ثمّ نبّه بقوله: فهل دفعت الأقارب أو نفعت النواحب: أى البواكى. على أنّ ما يقع عند نزول الموت من تلك الأحوال لا ينفع في دفعه قريب و لا حبيب على طريق الاستفهام و الإنكار.

و قوله: قد غودر.
الجملة في محل النصب على الحال و العامل نفعت: أى لم ينفعه البكاء حال ما غودر في محلّ الأموات بالأوصاف الكريهة تنفيرا عن أحواله و جذبا إلى الخلاص من أهوالها بالعمل للّه و الإخلاص له. و رهينا: إى مقيما أو مرتهنا بذنوبه و موثوقا بها. مو نصبه على الحال، و كذلك وحيدا، و موضع قوله: قد هتكت، و باقى الأفعال المعطوفة عليه. و الهوام: الديدان المتولّدة من جيفة أو غيرها.

و قوله: و الأرواح مرتهنة بثقل أعبائها.
إشارة إلى اشتغال النفوس و انحطاطها إلى الجنبة السافلة بثقل ما حملته من الأوزار و اكتسبته من الهيئات الرديئة. و ما يتحقّق غيبة من الأنباء هناك هو الأخبار عن الأحوال اللاحقة بها بعد الموت من خير و شرّ فإنّها يتيقّن غيبتها عن أهل الدنيا، أو أنباء ما خلّفته من اللواحق الدنيويّة فإنّها يتيّقن بعد الموت غيبتها و انقطاعها عنها. و الاوّل أولى.
و قوله: لا تستزاد من صالح عملها و لا تستعتب من سىّ‏ء زللها.

و قوله: لا تستزاد من صالح عملها و لا تستعتب من سىّ‏ء زللها. أى لا يطلب منها زيادة من العمل الصالح و لا يقال من سىّ‏ء زللها و يرضى عنها كقوله تعالى وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ«» و ذلك لعدم آلة العمل و امتناع الرجوع إليه و عدم تمكّنها من نزع ما صار في عنقها من أطواق الهيئات البدنيّة كما قال تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ«».

و قوله: أو لستم آباء القوم و الأبناء و إخوانهم و الأقرباء.
أى أو ليس فيكم من هو أب لأحد اولئك أو ابن له أو أخوه أو قريبه، و هو تنبيه للسامعين على وجه العبرة فإنّه لمّا شرح حال الماضين في الموت و ما بعده نبّههم على أنّهم أمثالهم في كلّ تلك الأحوال ليرجعوا إلى تقوى اللّه الّذى هو سبب النجاة من تلك الأهوال.
و قوله: تحتذون أمثلتهم.
أى تقتدون بهم في أفعالهم و تسلكون مسالكهم في غرورهم و نحوه كما قال تعالى حكاية وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ«».
و قوله: فالقلوب قاسية عن حظّها.
أى لا استعداد لها تقبل به حظّها الّذى ينبغي لها طلبه لاهية عن رشدها غافلة عن طلب هدايتها سالكة في غير مضمارها. المضمار هاهنا: هو الشريعة و أوامر اللّه، و سلوكها لغيره: ارتكابها لمناهى اللّه، و رياضتها: هى الأعمال الصالحة الّتى هى طريق الجحيم.
و قوله: كأنّ المعنىّ سواها و كأنّ الرشد في إحراز دنياها.
مبالغة في ذكر إعراض القلوب و غفلتها عن المواعظ و إنّهما كها في تحصيل الدنيا إلى غاية أن اشبهت من لم يكن معيّنا بالخطاب بها، أو أنّ الرشد الّذى جذبت إليه إنّما هو تحصيل الدنيا و جمعها الّذى جذبت عنه و حذّرت منه.


الفصل الثاني:

في التذكير بأمر الصراط و التحذير من أهواله، و الحثّ على التقوى
و ذلك قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ- وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِهِ وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ- تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ- وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ- وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ- وَ أَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ- وَ تَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ- وَ سَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ- وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ- وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ- ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى وَ رَاحَةِ النُّعْمَى- فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَ آمَنِ يَوْمِهِ- وَ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً وَ قَدَّمَ زَادَ الْآجِلَةِ سَعِيداً- وَ بَادَرَ مِنْ وَجَلٍ وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ- وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ- وَ نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ- فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَ نَوَالًا وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا- وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً- وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَوَ احْتَجَّ بِمَا نَهَجَ- وَ حَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً- وَ نَفَثَ فِي الْآذَانِ نَجِيّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى وَ وَعَدَ فَمَنَّى- وَ زَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ- حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ وَ اسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ- أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ وَ اسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ

اللغة

أقول: المزلق: الموضع الّذى لا تثبت عليه قدم.

و الدحض: الزلق.

و التهجدّ: العبادة بالليل.

و الغرار: النوم القليل،

و أرجف: أسرع‏ه.

و المخالج: الامور المشغلة الجاذبة،

و أكمش: أمضى عزمه و مضى قدما لم يعرج.

المعنى

و اعلم أنّ الصراط الموعود به في القرآن الكريم حقّ يجب الإيمان به و إن اختلف الناس في حقيقته، و ظاهر الشريعة و الّذى عليه جمهور المسلمين و من أثبت المعاد الجسمانىّ يقتضى أنّه جسم في غاية الدقّة و الحدّة ممدود على جهنّم و هو طريق إلى الجنّة يجوزه من أخلص للّه. و من عصاه سلك عن جنبتيه أحد أبواب جهنّم، و أمّا الحكماء فقالوا بحقيّته. و ما يقال في حقّه: إنّه كالشعر في الدقّة فهو ظلم بل نسبة الشعرة إليه كنسبتها إلى الخطّ الهندسى الفاصل بين الظلّ و الشمس الّذى ليس من أحدهما فهو كذلك الخط الّذى لا عرض له أصلا، و حقيقته هو الوسط الحقيقىّ بين الأخلاق المتضادّة كالسخاوة بين التبذير و البخل، و الشجاعة بين التهوّر و الجبن، و الاقتصاد بين الإسراف و التقتير، و التواضع بين التكبّر و المهانة، و العفّة بين الشهوة و الخمود، و العدالة بين الظلم و الانظلام. فالأوساط بين هذه الأطراف المتضادّة هى الأخلاق المحمودة، و لكلّ واحد منها طرفا تفريط و إفراط هما مذمومان، و كلّ واحد منها هو غاية البعد بين طرفيه و ليس من طرف الزيادة و لا من طرف النقصان. قالوا: و تحقيق ذلك أنّ كمال الإنسان في التشبّه. بالملائكة و هم منفكّون عن هذه الأوصاف المتضادّة و ليس في إمكان الإنسان الانفكاك عنها بالكلّية فغايته التباعد عنها إلى الوسط تباعدا يشبه‏ الانفكاك عنها. فالسخّى كأنّه لا بخيل و لا مبذّر. فالصراط المستقيم هو الوسط الحقّ الّذى لا ميل له إلى أحد الجانبين و لا عرض له و هو أدقّ من الشعر. و لذلك قال تعالى وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ«» و روى عن الصادق عليه السّلام و قد سئل عن قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قال: يقول: أرشدنا للزوم الطريق المؤدّى إلى محبّتك و المبلّغ دينك و المانع من أن نتّبع أهوائنا فنعطب أو نأخذ بآرائنا فنهلك. و عن الحسن العسكرى عليه السّلام: الصراط صراطان: صراط في الدنيا، و صراط في الآخرة. فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلوّ و ارتفع عن التقصير و استقام فلم يعدل إلى شي‏ء من الباطل، و الصراط الآخر هو طريق المؤمنين إلى الجنّة لا يعدلون عن الجنّة إلى النار و لا إلى غير النار سوى الجنّة. و الناس في ذلك متفاوتون فمن استقام على هذا الصراط و تعوّد سلوكه مرّ على صراط الآخرة مستويا و دخل الجنّة آمنا. إذا عرفت ذلك فنقول: مزالق الصراط كناية عن المواضع الّتى هى مظانّ انحراف الإنسان عن الوسط بين الأطراف المذمومة، و تلك المواضع هى مظانّ الشهوات و الميول الطبيعيّة، و أهاويل زلله هى ما يستلزمه العبور إلى أحد طرفى الإفراط و التفريط من العذاب العظيم في الآخرة. و تارات أهواله تكرار ذلك تارة بعد اخرى.

و قوله: فاتّقو اللّه
عود إلى الأمر بتقوى اللّه تقيّة من استجمع أوصاف الايمان: أحدها: تقيّة من شغل التفكّر قلبه: أى في أمر معاده عن محبّة الدنيا و باطلها. الثاني: و أنصب الخوف بدنه: أى أتعبه و أنحله خوف اللّه تعالى و ما أعدّ للعصاة من الأهوال. الثالث: و أسهرت العبادة غرار نومه: أى لم تترك له نوما. الرابع: و اظمأ الرجاء هو اجر يومه: أى اظمأه رجاء ما أعدّ اللّه لأوليائه الأبرار عوضا من طيّبات هذه الدار. و ظمأه في جواهر يومه كناية عن كثرة صيامه في أشدّ أوقاته‏ حرارة، و إنّما جعل الهواجر مفعولا إقامة للظرف مقام المظروف، و هو من وجوه المجاز. الخامس: و ظلف الزهد شهواته. استعار لفظ الإطفاء للزهد و هو من أوصاف الماء و نسبته إلى النار نسبة الزهد إلى الشهوات فلاحظ الشبه بين الشهوات و النار في تأثيرهما المؤذى، و بين الزهد و الماء لما يستلزمانه من كون الإعراض عن الدنيا يستتبع قهر الشهوات و دفع مضارّها كما يفعله الماء بالنار. السادس: و أسرع [أرجف خ‏] الذكر إلى لسانه: أى لتعوّده إيّاه و إدمانه فيه. السابع: و قدّم الخوف لأمانه [لإبّانه خ‏]: أى خوف ربه. فعمل مخلصا له ليأمن عذابه. الثامن: و تنكّب المخالج: أى عدل عن الامور المشغلة إلى واضح سبيل اللّه. التاسع: و سلك أقصد المسالك: أى أولاها بالقصد إلى النهج الواضح و الطريق المطلوب للّه من خلقه، و هو سبيله المستقيم فإنّ للناس في سلوك سبيل اللّه مذاهب كثيرة و لكن أحبّها إليه أولاها بالقصد إلى طريقه‏ الموصل إليه. العاشر: و لم تفتله فاتلات الغرور: أى لم تهلكه غفلاته في لذّات الدنيا عن ربّه إذ لم يغفل عن طاعته. الحادى عشر: و لم تعم عليه مشتبهات الامور: أى لم تظلم في وجهه شبهة على حقّ فيسدّ عليه وجه تخليصه. الثاني عشر: ظافرا بفرحة البشرى: أى بشرى الملائكة يومئذ: بشريكم اليوم جنّات تجرى من تحتها الأنهار. الثالث عشر: و راحة النعمى، و الراحة في مشاقّ الدنيا و متاعبها بنعمى الآخرة.
و نعيم اللّه في الآخرة الجنّة. الرابع عشر: في أنعم نومه: أى في أطيب راحته، و أطلق لفظ النوم على الراحة في الجنّة مجازا إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه. الخامس عشر: و آمن يومه: أى آمن أوقاته، و أطلق لفظ اليوم على مطلق الوقت مجازا إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ. السادس عشر: قد عبر معبر العاجلة: أى الدنيا. حميدا: أى محمود الطريقة. 258 السابع عشر: و قدم ذات الآجلة سعيدا: أى عمله للآخرة فحصل على السعادة الأبديّة، و حميدا و سعيدا حالان. الثامن عشر: و بادر من وجل: أى إلى الأعمال الصالحة من وجل خوف اللّه. التاسع عشر: و أسرع في مهل. أى إلى طاعة ربّه أيّام مهلته، و هى حياته الدنيا. العشرون: و رغب في طلب: أى كان طلبه للّه عن رغبته له. الحادى و العشرون: و ذهب عن هرب: أى كان ذهابه عمّا يبعّد عن اللّه عن هرب من خوف اللّه. و في كلّ قرينتين من هذه العشرة السجع المتوازى. الثاني و العشرون: و راقب في يومه غده: أى توقّع في أيّام حياته هجوم آخرته. الثالث و العشرون: و نظر قدما أمامه: أى لم يلتفت في نظره عن قصد اللّه إلى غيره. ثمّ نبّه بقوله: فكفى بالجنّة ثوابا و نوالا. على وجوب السعى لها دون غيرها، ثمّ تكون النار و بالا و عقابا على وجوب الهرب منها دون غيرها، و كفى باللّه منتقما و نصيرا على وجوب الاقتصار على خشيته و الاستعانة به، و بقوله: و كفى بالكتاب حجيجا: أى محتجّا و خصيما على وجوب الانفعال عنه و ملاحظة شهادته في الآخرة على من لم يتّبعه. و نسب الاحتجاج و الخصام إلى الكتاب مجازا، و المنصوبات بكفى على التمييز.

و قوله: اوصيكم بتقوى اللّه.
عود إلى الحثّ على تقوى اللّه باعتبار امور ثلاثة: أحدها: إعذاره إلى الخلق بما أنذرهم به من العقوبات. الثاني: احتجاجه عليهم بما أوضحه بالدلائل و البيّنات. الثالث: تحذيره لهم إبليس و عداوته، و قد سبق معناه في الخطبة الاولى. و ذكر له أوصافا هى كونه نفذ في الصدور خفيّا. و الإشارة به إلى النفس الأمّارة بالسوء، و تجوّز بلفظ الصدور في القلوب إطلاقا لاسم المكان على المتمكّن، و كونه نفث في الآذان نجيّا. و هو إشارة إلى ما تلقيه شياطين الإنس بعضهم إلى بعض من زخرف القول و غروره. و قد سبق ذلك في الخطبة الاولى، و كونه أضلّ: أى جذب عن طريق الحقّ و أردى: أى فأرادهم في قرار الجحيم، و وعد و منّى: أى ببلوغ الآمال الكاذبة، و زيّن سيّئات الجرائم: أى‏ قبايح المعاصى، و هوّن موبقات العظائم: أى ما يهلك من عظيم الذنوب. و تهوينه لها بمثل تمنّيه التوبة و مساعدة العقل له بقوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و بمثل الاقتداء بالغير الّذي هو أولى بالعفّة مثلا أو أكثر قدرا في الدنيا، و ساير أوصاف الوساوس كما عرفت حقيقتها.

و قوله: حتّى إذا استدرج قرينته و استغلق رهينته
و قوله: حتّى إذا استدرج قرينته و استغلق رهينته فقرينته هى النفس الناطقة باعتبار موافقته و هى رهينته باعتبار إحاطة الذنوب بها من قبله كما يستغلق الرهن بما عليه من المال و لفظ الرهينة مستعار. و استدراجه لها تزيينه حالا بعد حال و تعويدها بطاعته.

و قوله: أنكر ما زيّن. إلى آخره.
إشارة إلى غايته من وسوسته و عود من النفس الأمّارة بالسوء إلى موافقتها لحكم العقل في قبح ما كانت أمرت به، و استعظام خطره و مساعدتها على التحذير منه بالامتناع من تحسينه بعد أن كانت تحثّ عليه و تزيّنه و تؤمن منه. و ذلك إمّا عند التوبة و قهر العقل لها أو عند معاينة المكروهات الجزئيّة من العقوبات و الآلام إمّا في الدنيا أو بعد المفارقة و الحصول في عذاب الجحيم بسبب الانهماك فيما كانت زيّنته من الباطل، و ذلك أنّ النفس إذا فارقت البدن حملت معها القوّة المتوهّمة فتدرك ما يلحقها من جزئيّات العقوبات كعذاب القبر و ما يتنوّع منه كما سبقت الإشارة إليه، و قد يتصوّر ذلك من شياطين الإنس في تزيينهم الجرائم، و أمّا من الشيطان الظاهر فظاهر.


الفصل الثامن و منها في صفة خلق الإنسان،
و في هذا الفصل فصلان.

الفصل الأوّل
قوله: أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَ شُغُفِ الْأَسْتَارِ- نُطْفَةً دِهَاقاً وَ عَلَقَةً مِحَاقاً- وَ جَنِيناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِيداً وَ يَافِعاً- ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً وَ لِسَاناً لَافِظاً وَ بَصَراً لَاحِظاً- لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً وَ يُقَصِّرَ مُزْدَجِراً- حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ وَ اسْتَوَى‏ مِثَالُهُ- نَفَرَ مُسْتَكْبِراً وَ خَبَطَ سَادِراً مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ- كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ- ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً وَ لَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً- فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً وَ عَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً- لَمْ يُفِدْ عِوَضاً وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً- دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ- فَظَلَّ سَادِراً وَ بَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الْآلَامِ- وَ طَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَ الْأَسْقَامِ بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ وَ وَالِدٍ شَفِيقٍ- وَ دَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً وَ لَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً- وَ الْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَ غَمْرَةٍ كَارِثَةٍ- وَ أَنَّةٍ مُوجِعَةٍ وَ جَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ وَ سَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ- ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً- ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ وَ نِضْوَ سَقَمٍ- تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ وَ حَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ- وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ- حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ وَ رَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ- أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ وَ عَثْرَةِ الِامْتِحَانِ- وَ أَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ- وَ تَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ وَ فَوْرَاتُ السَّعِيرِ- وَ سَوْرَاتُ الزَّفِيرِ لَا فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ- وَ لَا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ وَ لَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ وَ لَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ وَ لَا سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ- بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ وَ عَذَابِ السَّاعَاتِ- إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ‏

أقول: اعلم أنّ مدار هذا الفصل على وصف حال الإنسان من مبدء عمره بالنقصان و بيان نعم اللّه بترديده في أطوار الخلقة، و تبكيته بمقابلة نعمه بالكفر و الغفلة في متابعة الشيطان، و تذكيره بما يكون غايته من حياة الدنيا و هو الموت و ما يتبعه من أحوال الميّت بين أهله و أقاربه، و حالهم معه و ما يكون بعد الموت من العذاب في القبر و السؤال و الحساب و سائر ما ينّفر طبعه منه، و يوجب له الالتفات إلى إصلاح معاده و تذكير مبدئه لعلّه يتذكّر أو يخشى.

اللغة

و الشغف بالغين المعجمة: جمع شغاف بالفتح و هو غلاف القلب.

و الدفاق: المفرغة.

و المحاق: الناقصة.

و اليافع: الغلام المرتفع.

و السادر: اللاهى الّذي لا يهتمّ بشي‏ء و الماتح: الجاذب للدلو من البئر.

و البدوات: الخطرات الّتى تبدو: أى تظهر للخاطر.

و دهمه بالكسر: أى غشيه.

و غبر شي‏ء: بقيّته و جماحه: سعيه في ركوب هواه.

و السادر ثانيا: المتحيّر.

و اللدم: ضرب الصدر. و كارثة: موجبة لشدّة الغمّ.

و الإبلاس: اليأس.

و الرجيع: من الإبل المردّد في الأسفار.

و النضو: الّذي قد هزلته. و حفدة الولدان: أعوانهم.

و الحشدة بفتح الحاء و الشين: المجتمون.

و التفجّع: التوجّع.

و في تفصيل هذا الفصل نكت:

الاولى:
أم للاستفهام. و هو استفهام في معرض التقريع للإنسان و أمره باعتبار حال نفسه، و دلالة خلقته على جزئيّات نعم اللّه عليه مع كفرانه لها. و كان أم معادلة لهمزة الاستفهام قبلها، و التقدير أليس فيما أظهره اللّه لكم من عجائب مصنوعاته عبرة أم هذا الإنسان و تقلّبه في أطوار خلقته و حالاته إلى يوم نشوره كقوله تعالى وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ و في بعض النسخ: أو هذا. و المعنى واحد.
اعلم أنّ في ملاحظة خلقة الإنسان و ما جمع فيها من لطائف الأسرار عبرة تامّة حتّى كان عالما مختصرا كما أو مأنا إليه قبل، و سيأتى.
الثانية:
قيل أوّل أحوال تكوّن الإنسان زبديّة المنىّ و انتفاخ يظهر فيه فينمو به، و أوّل ما يتكوّن فيه وعاء الروح بفعل الملك المصوّر ثمّ تحدث ريح من قبل الطبيعة فتثقب ثقبا أمام فوهات العروق بحيث إذا تخلّقت محسوسة صارت عروقا ثمّ يبسط النطفة في أقطارها و تحدث في الغشاء ثقبا موازية لثقب العروق الّتى في الرحم ينفتح عند الحيض، و يحصل لجميعها مجارى في الغشاء المذكور يؤدّى إلى مجرى واحد نافذ إلى عمق النطفة مؤدّيا إلى باطنه الدم في عرقين أو عرق و النفس في عرقين فإذا تخلّقت هذه المجارى امتصّت النطفة حينئذ الغذاء من فوهات تلك العروق، و نفذ في الصفاق دم يستحيل عن قريب إلى جوهر المنىّ و حدث لها خطوط لها مبادئ دمويّة، و نقطة اولى هى القلب ثمّ لا تزال الدمويّة تزداد في النطفة حتّى تصير علقة و تكون مثل الرغوة في الأكثر لستة أيّام، و ابتداء الخطوط الحمر و النقطة بعد ثلاثة أيّام اخرى ثمّ بعد ستّة أيّام و هو الخامس عشر من حين العلوق تنفذ الدمويّة في الجميع فتصير علقة، و بعد ذلك باثنى عشر يوما تصير لحما و تتميّز قطعة لحم المضغة و تميّز الأعضاء الرئيسة، و تمتدّ رطوبة النخاع ثمّ بعد تسعة أيّام ينفصل الرأس عن المنكبين و الأطراف عن الضلوع و البطن تميّزا يحسّ به في بعضهم و يخفى في بعض حتّى يحسّ به بعد أربعة أيّام اخرى تمام الأربعين فيصير جنينا، و قد يتمّ ذلك في ثلاثين يوما و قد يتمّ في خمس و أربعين يوما، و قيل: العدل في ذلك خمسة و ثلاثون يوما فيتحرّك في سبعين يوما، و يولد في مائتين و عشرة أيّام و ذلك سبعة أشهر، و إذا كان الأكثر لخمسة و أربعين يوما فتحرّك في تسعين يوما، و يولد في مائتين و سبعين يوما، و ذلك تسعة أشهر. فهذه إشارة إلى تنقّله في ظلمات الرحم بتدبير الملك المقتدر و واسطة الملك المصوّر، و لو كشف الغطاء لرأينا هذه التخطيط و التصوير يظهر عليه شيئا فشيئا مع أنّا لا نرى المصوّر و لا آلته. فسبحان المقتدر على ما يشاء.

الثالثة:
إنّما وصف العلقة بالمحاق لأنّها لم تفض عليها بعد صورة شخص الإنسان فهى بعد منمحقة.
الرابعة:
الولد ما دام يرضع فهو رضيع، و بعده وليد، فإذا ارتفع قيل: يافع. فإذا طرّشا ربه فهو غلام، فإذا أدرك فهو رجل، و للرجوليّة ثلاثة حدود: الشباب و هو إلى تمام النموّ، و بعده الكهولة، و بعدها الشيخوخة.
الخامسة:
ذكر الحفظ للقلب و اللفظ للسان و اللحظ للبصر بيان لفوايدها، ثمّ ذكرغاية تلك الفوايد و مقصودها، و هو أن يفهم الإنسان معتبرا أى يستنبط من شواهد آلاء اللّه دلايل وحدانيّته و ساير نعوت جلاله و يعبر فيها إلى استكمال الفضايل النفسانيّة و يقصر مزدجرا: أى يكفّ عمّا لا ينبغي من موبقات الأيّام و عن الخوض فيما لا يعنيه مزدجرا عنها.
السادسة:
قوله حتّى إذا قام اعتداله و استوى مثاله نفر مستكبرا إلى آخر الأوصاف. ربّما يعترض فيقال: إنّ كثيرا من الناس لا يكون بهذه الصفة و حينئذ لا تصدق عليهم هذه الأحكام. فجوابه: أنّ إشارته عليه السّلام إلى الإنسان المطلق الّذي هو في قوّة البعض لا الإنسان العامّ، و ذلك أنّ الأوصاف المذكورة إذا صدقت على المطلق فقد صدقت على بعض الناس، و ذلك البعض هم العصاة المرادون بهذه الأوصاف، و التوبيخ بها لهم، و فيه تنبيه للباقين على وجوب دوام شكر اللّه و البقاء على امتثال أوامره و نواهيه.
السابعة:
ماتحا في غرب هواه. لمّا استعار لفظ الغرب لهواه الّذى يملأ به صحايف أعماله من المآثم كما يملأ ذو الغرب غربه من الماء رشّح تلك الاستعارة بذكر المتح.
الثامنة:
المنصوبات العشرون: نطفة و علقة و جنينا و راضعا و وليدا و يافعا و معتبرا و مزدجرا و مستكبرا و سادرا و ماتحا و كادحا و غريرا و مبلسا و منقادا و سلسا و رجيع و صب و نضو سقم و نجيّا. كلّها أحوال، و العامل في كلّ حال ما يليه من الأفعال. و سعيا إمّا مفعول به و العامل كادحا أو مصدر استغنى عن ذكر فعله، و يسيرا صفة ظرف محذوف اقيمت مقامه: أى زمانا يسيرا، و روى أسيرا فعلى هذا يكون حالا، و جزعا و قلقا و تقيّه مفعول به، و استعار أسيرا للعاصى على الرواية الثانية، و وجه المشابهة أن صاحب الزلّة يقوده هواه إلى هوانه كما يقاد الأسير إلى ما يكره.
التاسعة:
لم يفد عوضا: أى لم يستفد في الدنيا عوضا ممّا يفوته منها في الآخرة، و العوض الّذى ضيّعه هو الكمالات الّتي خلق ليستفيدها و فرضت عليه من الطاعات و لم يقضها من العلوم و الأخلاق.
العاشرة:
الواو فى المر ء للحال و العامل لادمة. و الأنّة الموجعة أى لقلوب الواجدين عليه و الجذبة المكربة: أى جذب الملائكة للروح كما قال تعالى وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ«» الآية، و روى عن رسول اللّه‏ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك و ضبائر الريحان فينسلّ روحه كما تسلّ الشعرة من العجين و يقال: أيّتها النفس المطمئنّة ارجعى إلى ربّك راضية مرضيّة إلى روح اللّه و كرامته فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك و الريحان و طويت عليه الحريرة و بعث بها إلى علّيين، و إنّ الكافر إذا احتضر أمر اللّه الملائكة بمسح فيه جمرة فنزع روحه انتزاعا شديدا و يقال: ايّتها النفس الخبيثة ارجعى ساخطة مسخوطا عليك إلى هوان اللّه و عذابه فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة و كان لها نشيش، و يطوى عليها ذلك المسح، و يذهب بها إلى سجّين. و اعلم أنّ تلك الجذبة تعود إلى ما يجده الميّت حال النزع و هو عبارة عن ألم ينزل بنفس الروح يستغرق جميع أجزائه المنتشرة في أعماق البدن و ليس هو كسائر ما يجده الروح المختصّ ببعض الأعضاء كعضو شاكته شوكة و نحوه لاختصاص ذلك بموضع واحد فألم النزع يهجم على نفس الروح و يستغرق جميع أجزائه و هو المجذوب من كلّ عرق و عصب و جزء من الأجزاء و من أصل كلّ شعرة و بشرة. و لا تسئلنّ عن بدن يجذب منه كلّ عرق من عروقه، و قد يمثّل ذلك بشجرة شوك كانت داخل البدن ثمّ جذبت منه فهى الجذبة المكربة، و لمّا كان موت كلّ عضو من البدن عقيب الأمراض الّتي ربّما طالت تدريجا فتلك هى السوقة المتعبة.
الحادى عشر:
قوله: رجيع و صب و نضو سقم. استعار له وصفى الجمل فالرجيع باعتبار كونه قد ردّد في أطوار المرض و تواتر عليه كما يردّد الجمل في السفر مرّة بعد اخرى، و لفظ النضو باعتبار نحو له من الأسقام كما ينحل الأسفار الجمل.
الثانية عشر:
قوله: اقعد في حفرته نجيّا لبهتة السؤال. إلى آخره. أقول: القول بعذاب القبر و سؤال منكر و نكير حقّ روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لعمر: يابن الخطّاب كيف بك إذا أنت متّ فانطلق بك قومك فقاسوا لك ثلاثة أذرع في ذراع و شبر ثمّ رجعوا إليك فغسّلوك و كفنّوك ثمّ احتملوك حتّى يضعوك فيه ثمّ يهيلوا عليك التراب فيدفنوك فإذا انصرفوا عنك أتاك فتّانا القبر منكرا و نكيرا أصواتهما كالرعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف يجرّان أشعارهما و يحيثان‏ القبر بانيا بهما فيبلبلانك و يزلزلانك فيقولان لك: من ربّك و من نبيّك و ما دينك كيف بك عند ذاك يا عمر. فقال عمر: فيكون معى عقلى الآن قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم قال: فإذن أكفيهما. و في وصفهما عنه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّهما ملكان أسودان أرزقان أحدهما منكر و الآخر نكير. و اعلم أنّ الإيمان بما جاء من ذلك على ثلاث مراتب: أحدها: و هو الأظهر الأسلم أن يصدّق بأنّها موجودة و أنّ هناك ملكين على الصورة المحكيّة، و حيّات و عقارب تلدغ الميّت، و إن كنّا لا نشاهدها إذ لا تصلح هذه العين لمشاهدة الامور الملكوتيّة، و كلّ ما يتعلّق بالآخرة فهو من عالم الملكوت كما كانت الصحابة يؤمنون بنزول جبرئيل، و كان النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يشاهده و إن لم يكونوا يشاهدونه، و كما أنّ جبرئيل لا يشبه الناس فكذلك منكر و نكير و فعلهما و الحيّات و العقارب في القبر ليس من جنس حيّات عالمنا. فتدرك بمعنى آخر. المقام الثاني: أن يتذكّر ما قد يراه النايم من صورة شخص هايل يضربه أو يقتله أو حيّة تلدغه و قد يتألّم بذلك حتّى تراه في نومه يصيح و يعرق جبينه و ينزعج من مكانه كلّ ذلك يدرك من نفسه و يشاهده و يتأذّي به كما يتأذّى اليقظان و أنت ترى ظاهره ساكنا و لا ترى حوله شخصا و لا حيّة، و الحيّة موجودة في حقّه متخيّلة له و لا فرق بين أن يتخيّل عدوّا أوحيّة أو يشاهده. المقام الثالث: أن تعلم أنّ منكرا و نكيرا و ساير أحوال القبر غايته الايلام و المولم في حقّه ليس هو الشخص المشاهد و لا الحيّة بل ما حصل فيه من العذاب فالنفس العاصية إذا فارقت البدن حملت القوّة المتخيّلة معها و لم يتجرّد عن البدن منزّهة عن الهيئات البدنيّة و الأخلاق الرديئة المهلكة من الكبر و الرياء و الحسد و الحقد و الحرص و غيرها، و هى عند الموت عالمة بمفارقة البدن متوهّمة لنفسها الإنسان الّذى مات و على صورته كما كان في الرؤيا يتخيّل و يتوهّم بدنها مقبورة و يتخيّل الآلام الواصلة إليها عن كلّ خلق ردي‏ء على سبيل العقوبة الحسّيّة لها كما قرّرته الشريعة الصادقة، و انغرس في الأذهان عنها على صورة شخص منكر هائل الصورة يعنفه في السؤال و يبهته بسوء منظره و هول أصواته و يمتحنه فيتلجلج لسانه فيضربه و يعذّبه، و على مثال تنيّن يلدغه، و إن كانت النفس سعيدة تخيّلت اللذّات الحاصلة لها من كلّ خلق حسن و عمل صالح قدّمته في صورة ملائمة فوق ما كانت يعتقده ممّا كان وصف لها من صور أشخاص بهيّة يدخل عليهم و يتلقّاهم بالبشارة كمبشّر و بشير و ساير الملائكة الّذين يدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم و من فسحة القبر و الروح و الريحان و ساير ما وعد فيه. فهذا عذاب القبر و ثوابه و إليه الإشارة ب قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار. فإن قلت: لم جعل أوّل داخل على الإنسان في قبره سواء كان سعيدا أو شقيّا ملكين و لم يكن ثلاثة أو واحد مثلا.
قلت: قال بعض العلماء: إنّه لمّا كانت السعادة و الشقاوة الحاصلتين للنفس إنّما يحصل من جهة قوّتين نظريّة و عمليّة بهما جعل ما يكتسب عن كلّ واحدة منهما ملكا.
فإن كان المكتسب جهلا مركّبا و رذائل أخلاق فمنكر و نكير و إن كان علما و مكارم فمبشّر و بشير. و اللّه أعلم بأسرار شريعته.
و اعلم أنّك متى تصوّرت معنى ثواب القبر و عذابه في المقامات تصوّرت معنى ثواب الجنّة و عذاب النار.
الثالث عشر:
قوله لا فترة مزيحة و لا قوّة حاجزة. يجرى مجرى آيات الوعيد الناطقة بالتخليد، و هى مخصوصة بالكفّار الّذين لا مسكة لنفوسهم بعالم الملكوت و نحوه قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ«» و أمّا أنّه ليس لهم قوّة حاجزة فلأنّ القوّة الحاجزة بينهم و بين العذاب مفقودة في حقّهم و هى المسكة باللّه تعالى و محبّة الالتفات إلى عالم الغيب و الملأ الأعلى، و أمّا عدم الموتة الناجزة فلأنّ الإنسان غير قابل للفناء مرّة اخرى كما علم ذلك في موضعه و أمّا سلب السنة عنهم إشارة إلى شدّة آلامهم و ما يلقونه من أليم العذاب لما أنّ الألم الشديد يستلزم عدم النوم فلا سلوة إذن بين حالات سكرات العذاب، و إطلاق لفظ الموتات مجازفي شدّة العذاب إطلاقا فذى الغاية على ما يصلح غاية له و قد لاحظ في أكثر هذا الفصل السجع المتوازى و باللّه التوفيق.

الفصل الثاني
قوله: عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا- وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا- أُمْهِلُوا طَوِيلًا وَ مُنِحُوا جَمِيلًا- وَ حُذِّرُوا أَلِيماً وَ وُعِدُوا جَسِيماً- احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ وَ الْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ- أُولِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ وَ الْعَافِيَةِ وَ الْمَتَاعِ- هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ- أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ أَمْ لَا- فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ- وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ- قِيدُ قَدِّهِ مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ- الْآنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ- فِي فَيْنَةِ الْإِرْشَادِ وَ رَاحَةِ الْأَجْسَادِ وَ بَاحَةِ الِاحْتِشَادِ- وَ مَهَلِ الْبَقِيَّةِ وَ أُنُفِ الْمَشِيَّةِ وَ إِنْظَارِ التَّوْبَةِ- وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ قَبْلَ الضَّنْكِ وَ الْمَضِيقِ- وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ- وَ إِخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ

اللغة
أقول: و رّطته في الأمر: خلّصته فيه.

و المناص: الملجأ.

و المحار: المرجع.

و أفك: صرف.

و قيد: قدّه مقدار قامته.

و المعفر: المترب.

و العفر: التراب.

و الفينة:الجبن.

و أنف الشي‏ء: أوّله.

و الحوبة: الحاجة و المسكنة.

و الضنك: الضيق.

و في هذا الفصل فوائد:
الاولى
: التنبيه و التقريع على كفران جملة من نعم اللّه، فمنها أن عمّرهم فنعموا، و علّمهم ففهموا، و أنظرهم و سلّمهم من الآفات و أمهلهم طويلا، و منحهم الجميل، و حذّرهم أليم العذاب، و وعدهم وعدا حسنا. و من كفرانهم لتلك النعمة أن اشتغلوا بلذّات الدنيا عن أوامره و لهوا عن الالتفات إليه و نسوا ما ذكّرهم به و دعاهم إليه.
الثانية: التحذير من الذنوب المورّطة في موارد الهلكة و أنواع العذاب ثمّ من العيوب المسخطة للّه و هى اكتساب رذائل الأخلاق.
الثالثة:
تنبيه اولى الأبصار و الأسماع و العافية و المتاع في الدنيا على أنّه لا مناص: أى من أمر اللّه، و لا خلاص: أى من عذابه لمن حصل فيه، و كذلك لا معاذ و لا ملاذ منه لمن استعدّ له. و لا فرار: أى من حكمه، و لا مرجع: أى بعد الموت. و إنّما خصّ اولى الأبصار و الأسماع و العافية لكونهم أهل التكاليف التامّة، و العقول داخلة في إشارته إمّا بالإبصار و الإسماع مجازا أو في العافية، و إنّما خصّ اولى المتاع لأنّ أهل الاستمتاع بالدنيا هم المجذوبون عنها من جهة اشتغالهم بمتاعها عن سلوك سبيل اللّه، و هل استفهام عن الامور المذكورة على سبيل الإنكار لها ثمّ استفهمهم عن وقت صرفهم، و عن مكان ذلك على سبيل التقريع لهم، ثمّ عمّا يعتذرون به بعد لقاء اللّه في ترك أو امره على سبيل الإنكار للأعذار أيضا. و أم معادلة لهل الاستفهاميّة.
الرابعة: التذكير بأمر القبر و تعفير الخدّ فيه ممّا هو منفور عنه طبعا و فيه تنبيه على وجوب الانتهاء عن الاستكثار من قينات الدنيا و جناتها لوجوب مفارقتها و أنّه لا نصيب للمجدّ في تحصيلها منها إلّا مقدار قامته و هو كناية عن قبره.
الخامسة: التنبيه على وقت العمل و الأحوال:
الّتي يمكنهم فيها. و كنّى ب الآن عن زمان الحياة الدنيا، و ب الخناق عمّا تؤخذ به أعناق النفوس إلى بارئها و هو الموت كناية بالمستعار، و وجه المشابهة كون كلّ واحد منهما مكروها يقاد به إلى مكروه و رشّح الاستعارة بذكر الإهمال، و كنّى به عن مدّة الإمهال في الحياة الدنيا و كذلك‏ أراد بإرسال الروح إهمالها، و يكون ذلك الإرسال في فينة الارتياد: أى في زمان ارتياد النفوس و طلبها لما تستعدّ به من الكمال للقاء اللّه، و روى الإرشاد: أى إرشاد النفوس إلى سبيل اللّه و جهة السعادة الأبديّة و كذلك مهل البقيّة: أى بقيّة الأعمار.
السادسة قوله: و انف المشيّة:
أى أوّل الإرادات للنفوس، و ذلك أنّه ينبغي أن يكون أوّل زمان الإنسان و أوائل ميول قلبه إلى طاعة اللّه و الانقياد لأوامره ليكون ما يرد على لوح نفسه من الكمالات المسعدة في الآخرة واردا على لوح صاف عن كدر الباطل و أنّه متى عكس ذلك فجعل أوائل ميوله و إرادته لمعاصى اللّه تسوّد وجه نفسه بملكات السوء فلم يكد يقبل بعد ذلك الاستضاءة بنور الحقّ فكان من الأخسرين أعمالا.
السابعة: إنظار التوبة
إمهال اللّه العصاة لأجلها و لمّا كان غرض العناية الإلهيّة سوق كلّ ناقص إلى كماله حسن أن يعبّر عن بقاء العاصى بأنّه إنظار للتوبة.
الثامنة: و انفساح الحوبة
اتّساع زمان العمل للحاجة في الآخرة. و الإضافة يكفى فيها أدنى ملابسة و ذلك أنّ كلّ حاجة فرضها الإنسان في الدنيا فقد لا يكون في محلّ الضرورة، و الضيق الكلّى منها و إن كانت في محلّ الضرورة لكنّها في مظنّة أن يرجى زوالها بخلاف الحاجة و الضرورة في الآخرة إلى صالح الأعمال فإنّها لا يمكن زوالها بعد المفارقة و لا متّسع للعمل إلّا في الدنيا و كان أهلها منها في أشدّ ضرورة و أضيق حال و أقبح صورة، و أشار بالضنك و الضيق إلى انحصار الإنسان في أغلال الهيئات البدنيّة و سجن جهنّم، و بالروع و الزهوق إلى الفزع الأكبر من أهوال الموت و ما بعده.
التاسعة: الغائب المنتظر
كناية عن الموت، و قدومه: هجومه، و لمّا استعار له لفظ الغائب مراعاة لشبهه بمسافر ينتظر رشّح تلك الاستعارة بلفظ القدوم.
العاشر: أخذة العزيز المقتدر
جذب الأرواح بحكم قدرة اللّه العزيز الّذى لا يلحقه إذلال قاهر، المقتدر الّذى لا امتناع له لقدرة قادر. و باللّه التوفيق.

                     شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی )، ج 2    ، صفحه‏ى 231
Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=