خطبه 61 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

وَ اتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ- وَ ابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ- وَ تَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ- وَ اسْتَعِدُّوا

لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ- وَ كُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا- وَ عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ

يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى- وَ مَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَ بَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ- إِلَّا الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ- وَ إِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ وَ

تَهْدِمُهَا السَّاعَةُ- لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ- وَ إِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ- اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ- وَ إِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ

بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ- لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ- فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا- مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً- فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ نَصَحَ

نَفْسَهُ وَ قَدَّمَ تَوْبَتَهُ وَ غَلَبَ شَهْوَتَهُ- فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ وَ أَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ- وَ الشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ

لِيَرْكَبَهَا- وَ يُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا- إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا- فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ

عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً- وَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ- نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ- أَنْ يَجْعَلَنَا وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ- وَ لَا تُقَصِّرُ

بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ- وَ لَا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَ لَا كَآبَةٌ

اللغة

أقول: المبادرة: المسارعة.

و السدى: المهمل.

و جدير بكذا: أى أولى به.

و حرّي: حقيق.

و التسويف: قول الإنسان سوف أفعل، و هو كناية عن التمادى في الأمر.

و البطر: تجاوز الحدّ في الفرح.

و الكآبة: الحزن.

المعنى

و حاصل هذه الموعظة التنفير من الدنيا و الترغيب في الآخرة و ما يكون وسيلة إلى نعيمها و الترهيب ممّا يكون سببا للشقاء فيها.

فقوله: فاتّقوا اللّه. إلى قوله: بأعمالكم.
فيه تنبيه على وجوب لزوم الأعمال الصالحة، و حثّ عليها بالأمر بمسابقة الآجال و على توقّع سرعة الأجل و إخطاره بالبال، و هو من الجواذب القويّة إلى اللّه تعالى.
و نسب المسابقة إلى الآجال ملاحظة لشبهها بالمراهن إذ كان لحوقها حائلا بينهم و بين‏ الأعمال الصالحة الشبيهة بما يسبق عليه من رهن.

فقوله: و ابتاعوا ما بقى. إلى قوله: عنكم.
 إشارة إلى لزوم الزهد في الدنيا، و التخلّى عن متاعها الفانى، و أن يشترى به ما يبقى من متاع الآخرة. و قد عرفت غير مرّة إطلاق لفظ البيع هنا. و قيّد المشترى بما يبقى، و الثمن بما يزول ليكون المشترى أحبّ إلى النفوس لبقائه.

و قوله: فترحّلوا فقد جدّ بكم.
أمر بالترحّل، و هو قطع منزل منزل من منازل السفر إلى اللّه تعالى في مراتب السلوك لطريقه، و نبّه على وجوب الترحّل بقوله: فقد جدّ بكم: أى في السير إلى آجالكم بقوّة و ذلك الجدّ يعود إلى سرعة توارد الأسباب الّتى تعدّ المزاج للفساد و تقرّبه إلى الآخرة ملاحظة لشبهها بسابق الإبل و نحوها.

و قوله: و استعدّوا للموت فقد أظلّكم.
 الاستعداد له هو باستكمال النفوس كما لها الّذي ينبغي حتّى لا يبقى للموت عندها كثير وقع بل يكون محبوبا لكونه وسيلة إلى المحبوب و هو لقاء اللّه و السعادة الباقية في حضرة الملأ الأعلى، و نبّه بقوله: فقد أظلّكم. على قربه. و استلزم ذلك تشبيهه بالسحاب و الطير فاستعير له وصف الإظلال.

و قوله: و كونوا قوما صيح بهم فانتبهوا.
 تنبيه لهم على الالتفات إلى منادى اللّه، و هو لسان الشريعة و الانتباه بندائه من مراقد الطبيعة.

و قوله: و علموا. إلى قوله: سدى.
تنبيه لهم على أنّ الدنيا ليست بدار لهم ليلتفتوا عن الركون إليها و يتوقّعوا الإخراج منها. ثمّ أمرهم بالاستبدال بها ليذكّروا أنّ هناك عوضا منها يجب أن يلتفت إليه و هو الدار الآخرة، و نبّه بقوله: فإنّ اللّه لم يخلقكم عبثا. إلى آخره على وجوب العمل لذلك البدل فإنّهم لم يخلقوا إلّا لأمر وراء ما هم فيه.

و قوله: ما بين أحدكم. إلى قوله: ينزل به.

تعيين لما خلقوا له و وعدوا بالوصول إليه و أنّه لا حايل بينهم و بينه إلّا الموت. قال بعض الشارحين: و هذا الكلام ممّا يصلح متمسّكا للحكماء في تفسيرهم للجنّة و النار فإنّهم لمّا قالوا: إنّ الجنّة تعود إلى المعارف الإلهيّة و لوازمها، و النار تعود إلى حبّ الدنيا و الميل إلى مشتهياتها. و تمكّن الهيئات الرديئة في جوهر النفس و عشقها بعد المفارقة لما لا يتمكّن من العود إليه كمن نقل عن مجاورة معشوقه و الالتذاذ به إلى موضع ظلمانىّ شديد الظلمة مع عدم تمكّنه من العود إليه كما قال تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي«» الآية. و كان إدراك لذّة المعارفة التامّة، و إدراك ألم النار بالمعنى أمرا يتحقّق حال مفارقة هذا البدن. إذ كان الإنسان في عالم الشهادة في إدراكه لما حصل في نفسه و تمكّن من الهيئات كعضو مفلوج غطّى خدره على ألمه فإذا أزال الخدر أحسّ بالألم فكذلك النفس بعد الموت تدرك مالها من لذّة أو ألم كما هو لزوال الشواغل البدنيّة عنها.
قلت: و هذا الكلام أيضا ظاهر على مذهب المتكلّمين إذ جاء في الخبر أنّ العبد يكشف له الموت عمّا يستحقّه من جنّة أو نار ثمّ يؤجّل ذلك إلى قيام القيامة الكبرى.

و قوله: و إنّ غاية. إلى قوله: المدّة.
 كنّى بالغاية عن الأجل المعلوم للإنسان ثمّ نبّه على قصره و حقارته بأمرين: أحدهما: كونه تنقصه اللحظة: أى النظرة. و هو ظاهر فإنّ كلّ جزء من الزمان فرصة قد مضى من مدّة الإنسان منقص لها. الثاني: كونه تهدمها الساعة. كنّى بالساعة عن وقت الموت، و لا شكّ أنّ الآن الّذي تنقطع فيه علاقة النفس مع البدن غاية لأجل الإنسان. و غاية الشي‏ء هى ما يتعلّق عندها الشي‏ء فكنّى بالهدم عن ذلك الانقطاع و الانتهاء كناية بالمستعار. و ظاهر أنّ مدّة هذا شأنها في غاية القصر.

و قوله: و إنّ غائبا. إلى قوله: الأوبة
 أشار بالغائب إلى الإنسان إذ كانت الدنيا عالم غربته و محلّ سفره، و منزله الحقيقىّ‏ إنّما هو منشأه و ما إليه مرجعه، و إنّما سمّى الليل و النهار جديدان لتعاقبهما فليس أحدهما مختلفا للآخر. و استعار لفظ الحدو لما يستلزمانه من إعداد الإنسان لقرب أجله المشبه لصوت الحادى الّذي يحدو الإبل لسرعة سيرها و قربها من المنزل المقصود لها.
و ظاهر أنّ من كان الليل و النهار حادييه فهو في غاية سرعة الرجوع إلى مبدئه و وطنه الأصلى. و قال بعض الشارحين: أراد بالغائب الموت. و هو و إن كان محتملا إلا أنّه لا يطابقه لفظ الأوبة لأنّ الموت لم يكن جائيا أو ذاهبا حتّى يرجع.

و قوله: و إنّ قادما. إلى قوله: العدّة
 أشار بالقادم بالفوز أو الشقوة إلى الإنسان حين قدومه على ربّه بعد المفارقة فإنّه إمّا الفوز بالسعادة الباقية، أو الحصول على الخيبة و الشقوة. و نبّه بذكر القدوم على أنّ من هذا شأنه فالواجب عليه أن يستعدّ بأفضل عدّة ليصل بها إلى أحبهما لديه، و يتباعد بها عن أكرههما عنده.

و قوله: فتزوّدوا. إلى قوله: غدا
 فصّل نوع تفصيل أفضل العدّة و هو الزاد الّذي يحرز الإنسان به نفسه يوم القيامة من السقب في نار جهنّم و غليل حرّها، و أشار بذلك الزاد إلى تقوى اللّه و خشيته. و قد علمت حقيقة الخشية و الخوف و أنّه إنّما يحصل في الدنيا. و أمّا كونه من الدنيا فلأنّ الآثار الحاصلة للنفس من الحالات و الملكات كالخشية و الخوف و ساير ما يتزودّه و يستصحبه بعد المفارقة امور إنّما حصلت عن هذا البدن و استفيدت من الدنيا بواسطته. و المشابهة الّتى لأجلها استعار لفظ الزاد هنا هو ما يشترك فيه الزاد المحسوس و التقوى من سلامة المتزوّد بهما كلّ في طريقه فذاك في المنازل المحسوسة من عذاب الجوع و العطش المحسوسين، و هذا في المنازل المعقولة و مراتب السلوك و مراحل السفر إلي اللّه تعالى من عذاب الجوع المعقول.

و قوله: فاتّقى عبد ربّه. إلى قوله شهوته
 أو امر وردت بلفظ الماضى خالية عن العطف و هى بلاغة تريك المعنى في أحسن صورة.
فالأمر بالتقوى تفسير للأمر بالزاد كما قال تعالى وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏» و الأمر بنصيحة النفس أمر بالنظر في مصالحها، و الشعور عليها أن تعمل ما هو الأولى بها من التمسّك بحدود اللّه و الوقوف عندها، و الأمر بتقديم التوبة و غلب الشهوة هو من جملة الأمر بالنصيحة كالتفسير له و من لوازم التقوى أردفه بهما، و أراد تقديم التوبة على الموت أو بالنسبة إلى كلّ وقت سيحضر.

و قوله: فإنّ أجله. إلى قوله: شقوة
 حثّ على امتثال أو امره السائقة إلى التوبة و غيرها، و تحذير من هجوم المنيّة على غفلة لما يستلزمه ذلك من شدّة الحسرة و طول الندم على التفريط، و ذلك أنّ ستر الأجل عن الإنسان موجب للغفلة عنه فإذا انضاف إلى ذلك خداع الأمل الناشى‏ء عن وساوس الشيطان في تزيينه المعصية و تسويفه التوبة مع كون موكّلا به و قرينا له كما قال سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من مولود إلّا و يولد معه قرين من الشيطان. كانت الغفلة أشدّ و النسيان أكدّ، و استعار لفظ الخداع لصورته من النفس الأمّارة بالسوء و هو قولها للإنسان مثلا: تمتّع من شبابك و اغتنم لذّة العيش ما دمت في مهلة و مستقبل من عمرك و ستلحق للتوبة، و نحو ذلك من الأضاليل فإنّ هذه الصورة خداع من الشيطان، و أمّا نسبة ذلك إلى الأمل فلأنّ الأمل هو عزم النفس على فعل تلك الامور و أمثالها في مستقبل الأوقات عن توهّم طول مدّة الحياة و اتّساعها لما تفعله فيها من معصية و توبة، و ذلك العزم من أسباب الانخداع للشيطان و غروره فلذلك نسب الخداع إلى الأمل مجازا، و جعل غاية ذلك الخداع هو أن تهجم على المخدوع منيّته حال ما هو في أشدّ غفلة عنها و اشتغال بما يؤمّله فيكون ذلك مستلزما لأعظم حسرة و أكبر ندامة على أن يكون عمره عليه حجّة شاهدا بلسان حاله على ما اكتسب فيه من الآثام فصار بعد أن كان وسيلة لسعادته سببا لشقاوته. و أغفل نصب على الحال. و حسرة على التميز للمتعجّب منه المدعوّ. و اللام في لها قيل: للاستغاثة. كأنّه قال: يا للحسرة على الغافلين ما أكثرك، و قيل: بل لام الجرّ فتحت لدخولها على الضمير و المنادى محذوف و تقديره يا قوم أدعوكم لها حسرة، و أن في موضع النصب بحذف الجارّ كأنّه قيل: فعلام يقع عليهم الحسرة فقال: على كون أعمارهم حجّة عليهم يوم القيامة.

و قوله: نسأل اللّه تعالى. إلى قوله: كأبة.
 خاتمة الخطبة، و سأل اللّه الخلاص عن امور ثلاثة: الأوّل: أن يخلّصه من شدّة الفرج بنعمة الدنيا فإنّ ذلك من لوازم محبّتها المستلزمة للهلاك الأبدىّ. الثاني: أن لا تقصر به غاية عن طاعة ربّه: أى لا يقصر عن غاية من غايات الطاعة يقال قصرت هذه الغاية بفلان إذا لم يبلغها. الثالث: أن لا تحلّ به بعد الموت ندامة و لا حزن و ذلك سؤال لحسم أسبابها و هو اتّباع الهوى في الدنيا و العدول عن طاعة اللّه. و باللّه العصمة.

شرح‏ نهج البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 162

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.