و من كلام له عليه السّلام
أَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ- وَ الشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَ التَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ- فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلَا يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ-
وَ لَا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ- فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ- وَ كُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ
اللغة
أقول: عزب: ذهب و بعد.
و أعذر: أظهر عذره.
و مسفرة: مشرقة.
المعنى
و أعلم أنّ قوله: أيّها الناس. إلى قوله: عند المحارم. تفسير للزهد
و قد رسمه بثلاثة لوازم له:
الأوّل: قصور الأمل. و لمّا علمت فيما سلف أنّ الزهد هو إعراض النفس عن متاع الدنيا و طيّباتها و قطع الالتفات إلى ما سوى اللّه تعالى ظهر أنّ ذلك الإعراض مستلزم لقصر الأمل في الدنيا إذ كان الآمل إنّما يتوجّه نحو مأمول، و المتلفت إلى اللّه من الدنيا كيف يتصوّر طول أمله لشيء منها.
الثاني: الشكر على النعمة. و ذلك أنّ العبد بقدر التفاته عن أعراض الدنيا يكون محبّته للّه و إقباله عليه و اعترافه الحقّ بالآية، و ذلك أنّ الشكر حال للقلب يثمرها العلم بالمشكور و هو في حقّ اللّه أن يعلم أنّه لا منعم سواه، و أنّ كلّ منعم يقال في العرف فهو واسطة مسخّرة من نعمته. و تلك الحال تثمر العمل بالجوارح.
الثالث: الورع و هو لزوم الأعمال الجميلة و الوقوف على حدود عن التوّرط في محارمه و هو ملكة تحت العفّه، و قد علمت أنّ الوقوف على التوّرط في المحارم و لزوم الأعمال الجميلة لازمة للالتفات عن محابّ الدنيا و لذّاتها المنهىّ عن الميل إليها. و هذا التفسير منه عليه السّلام مستلزم للأمر به.
و قوله: بعد ذلك: فإن عزب عنكم
إلى آخره يحتمل معنيين: أحدهما: و هو الظاهر أنّه إن بعد عليكم و شقّ استجماع هذه الامور الثلاثة فالزموا منها الورع و الشكر. و كأنّه رخّص لهم في طول الأمل، و ذلك أنّه قد يتصوّر طوله فيما ينبغي من عمارة الأرض لغرض الآخرة، و لأنّ قصر الأمل لا يصدر إلّا عن غلبة الخوف من اللّه تعالى على القلب و الإعراض بالكلّيّة عن الدنيا و ذلك في غاية الصعوبة فلذلك نبّه على لزوم الشكر و الورع و رخّص في طول الأمل، و فسّر الورع بالصبر إذ كان لازما للورع، و هما تحت ملكة العفّة، ثمّ شجّعهم بذكر الغلب عن مقاومة الهوى، و نبّهم بذكر النسيان على لزوم التذكّر. الثاني: يحتمل أن يكون لمّا فسّر الزهد باللوازم الثلاثة في معرض الأمر بلزومها قال بعدها: فإن صعب عليكم لزوم الشكر و الثناء للّه و لزوم الأعمال الجميلة فاعدلوا إلى امور أسهل منها. فرخّص لهم في طول الأمل لما ذكرناه، ثمّ في التذكّر لنعم اللّه بحيث لا ينسى بالكلّيّة و يلتفت عنها عوضا عن دوام الحمد و الثناء، ثمّ في الصبر عند المحارم و عند الانقهار لغلبة دواعى الشيطان عوضا من لزوم الأعمال الجميلة عندها فإنّ الصبر عند شرب الخمر مثلا عند حضورها أهون على الطبع من الصوم عن ساير المباحات حينئذ و لزوم ساير الأعمال الجميلة.
و قوله: فقد أعذر. إلى آخره.
تأكيد لما سبق من أمره بالزهد، و جذب إليه. و أشار بالحجج إلى الرسل لقوله تعالى
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ«» و لفظ الحجج مستعار، و وجه المشابهة أنّه لمّا كان ظهور الرسل قاطعا ألسنة حال الظالمين لأنفسهم في محفل القيامة عن أن يقولوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى«» أشبه الحجّة القاطعة فاستعير لفظها له، و بإسفارها و ظهورها إلى إشراق أنوار الدين عن نفوسهم الكاملة على نفوس الناقصين و هو استعارة أيضا، و أشار ببروز عذر الكتب إلى ظهورها أعذارا للّه إلى خلقه بتخويفهم و ترغيبهم و إرشادهم إلى طريق النجاة، و إسناد الأعذار إلى اللّه تعالى استعارة من الأقوال المخصوصة الّتي يبديها الإنسان عذرا لأفعال اللّه و أقواله الّتي عرّف خلقه فيها صلاحهم و أشعرهم فيها بلزوم العقاب لهم لو لم يلتفتوا إليها. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 226