52 و من خطبة له ع
و قد تقدم مختارها برواية- و نذكر ما نذكره هنا برواية أخرى لتغاير الروايتين- : أَلَا وَ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَ آذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ- وَ تَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا وَ أَدْبَرَتْ حَذَّاءَ- فَهِيَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا- وَ تَحْدُو بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا- وَ قَدْ أَمَرَّ فِيهَا مَا كَانَ حُلْواً- وَ كَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً- فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الْإِدَاوَةِ- أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ- لَوْ تَمَزَّزَهَا الصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ- فَأَزْمِعُوا عَبِادَ اللَّهِ- الرَّحِيلَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ- وَ لَا يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الْأَمَلُ- وَ لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الْأَمَدُ- فَوَاللَّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ- وَ دَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ- وَ جَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ- وَ خَرَجْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ- الْتِمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ عِنْدَهُ- أَوْ غُفْرَانِ سَيِّئَةٍ أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ- وَ حَفِظَتْهَا رُسُلُهُ لَكَانَ قَلِيلًا فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ- وَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ- وَ بِاللَّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ انْمِيَاثاً- وَ سَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً- ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا- مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ- وَ لَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ- أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظَامَ- وَ هُدَاهُ إِيَّاكُمْ لِلْإِيمَانِ
تصرمت انقطعت و فنيت- و آذنت بانقضاء أعلمت بذلك- آذنته بكذا أي أعلمته- و تنكر معروفها جهل منها ما كان معروفا- . و الحذاء السريعة الذهاب- و رحم حذاء مقطوعة غير موصولة- و من رواه جذاء بالجيم- أراد منقطعة الدر و الخير- . و تحفر بالفناء سكانها تعجلهم و تسوقهم- و أمر الشيء صار مرا- و كدر الماء بكسر الدال و يجوز كدر بضمها- و المصدر من الأول كدرا و من الثاني كدورة- . و السملة بفتح الميم البقية من الماء تبقى في الإناء- و المقلة بفتح الميم و تسكين القاف- حصاة القسم التي تلقى في الماء- ليعرف قدر ما يسقى كل واحد منهم- و ذلك عند قلة الماء في المفاوز قال-
قذفوا سيدهم في ورطة
قذفك المقلة وسط المعترك
و التمزز تمصص الشراب قليلا قليلا- و الصديان العطشان- . و لم ينقع لم يرو و هذا يمكن أن يكون لازما- و يمكن أن يكون متعديا- تقول نقع الرجل بالماء- أي روي و شفى غليله- ينقع و نقع الماء الصدى ينقع أي سكنه- . فأزمعوا الرحيل أي اعزموا عليه- يقال أزمعت الأمر- و لا يجوز أزمعت على الأمر- و أجازه الفراء. قوله المقدور على أهلها الزوال أي المكتوب قال-
و اعلم بأن ذا الجلال قد قدر
في الصحف الأولى الذي كان سطر
أي كتب و الوله العجال- النوق الوالهة الفاقدة أولادها الواحدة عجول- و الوله ذهاب العقل و فقد التمييز- و هديل الحمام صوت نوحه- و الجؤار صوت مرتفع- و المتبتل المنقطع عن الدنيا- و انماث القلب أي ذاب- . و قوله و لو لم تبقوا شيئا من جهدكم اعتراض في الكلام- . و أنعمه منصوب لأنه مفعول جزت- . و في هذا الكلام تلويح- و إشارة إلى مذهب البغداديين من أصحابنا- في أن الثواب على فعل الطاعة غير واجب- لأنه شكر النعمة فلا يقتضي وجوب ثواب آخر- و هو قوله ع لو انماثت قلوبكم انمياثا… إلى آخر الفصل- . و أصحابنا البصريون لا يذهبون إلى ذلك- بل يقولون إن الثواب واجب على الحكيم سبحانه- لأنه قد كلفنا ما يشق علينا- و تكليف المشاق كإنزال المشاق- فكما اقتضت الآلام و المشاق- النازلة بنا من جهته سبحانه أعواضا- مستحقه عليه تعالى عن إنزالها بنا- كذلك تقتضي التكليفات الشاقة ثوابا- مستحقا عليه تعالى عن إلزامه إيانا بها- قالوا فأما ما سلف من نعمه علينا فهو تفضل منه تعالى- و لا يجوز في الحكمة- أن يتفضل الحكيم على غيره بأمر من الأمور- ثم يلزمه أفعالا شاقة و يجعلها بإزاء ذلك التفضل- إلا إذا كان في تلك الأمور منافع عائدة على ذلك الحكيم- فكان ما سلف من المنافع جاريا مجرى الأجرة- كمن يدفع درهما إلى إنسان ليخيط له ثوبا- و البارئ تعالى منزه عن المنافع- و نعمه علينا منزهة- أن تجري مجرى الأجرة على تكليفنا المشاق- . و أيضا فقد يتساوى اثنان من الناس في النعم- المنعم بها عليهما و يختلفان في التكاليف-
فلو كان التكليف لأجل ما مضى من النعم- لوجب أن يقدر بحسبها- فإن قيل فعلى ما ذا يحمل كلام أمير المؤمنين ع- و فيه إشارة إلى مذهب البغداديين- . قيل إنه ع لم يصرح بمذهب البغداديين- و لكنه قال لو عبدتموه بأقصى ما ينتهي الجهد إليه- و ما وفيتم بشكر أنعمه و هذا حق غير مختلف فيه- لأن نعم البارئ تعالى لا تقوم العباد بشكرها- و إن بالغوا في عبادته و الخضوع له و الإخلاص في طاعته- و لا يقتضي صدق هذه القضية- و صحتها صحة مذهب البغداديين- في أن الثواب على الله تعالى غير واجب- لأن التكليف إنما كان باعتبار أنه شكر النعمة السالفة
ما قيل من الأشعار في ذم الدنيا
فأما ما قاله الناس في ذم الدنيا و غرورها- و حوادثها و خطوبها و تنكرها لأهلها- و الشكوى منها و العتاب لها و الموعظة بها- و تصرمها و تقلبها فكثير من ذلك قول بعضهم-
هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشي و فتكي
فلا يغرركم حسن ابتسامي
فقولي مضحك و الفعل مبك
و قال آخر-
تنح عن الدنيا و لا تطلبنها
و لا تخطبن قتالة من تناكح
فليس يفي مرجوها بمخوفها
و مكروهها إما تأملت راجح
لقد قال فيها القائلون فأكثروا
و عندي لها وصف لعمرك صالح
سلاف قصاراها ذعاف و مركب
شهي إذا استلذذته فهو جامح
و شخص جميل يعجب الناس حسنه
و لكن له أفعال سوء قبائح
و قال أبو الطيب-
أبدا تسترد ما تهب الدنيا
فيا ليت جودها كان بخلا
و هي معشوقه على الغدر لا تحفظ
عهدا و لا تتم وصلا
كل دمع يسيل منها عليها
و بفك اليدين عنها تخلى
شيم الغانيات فيها و لا أدري
لذا أنث اسمها الناس أم لا
و قال آخر-
إنما الدنيا عوار
و العواري مسترده
شدة بعد رخاء
و رخاء بعد شده
و قال محمد بن هانئ المغربي
و ما الناس إلا ظاعن فمودع
و ثاو قريح الجفن يبكي لراحل
فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى
و لا نحن إلا كالقرون الأوائل
نساق من الدنيا إلى غير دائم
و نبكي من الدنيا على غير طائل
فما عاجل نرجوه إلا كآجل
و لا آجل نخشاه إلا كعاجل
و قال ابن المظفر المغربي
دنياك دار غرور
و نعمة مستعاره
و دار أكل و شرب
و مكسب و تجاره
و رأس مالك نفس
فخف عليها الخساره
و لا تبعها بأكل
و طيب عرف و شاره
فإن ملك سليمان
لا يفي بشراره
و قال أبو العتاهية
ألا إنما التقوى هي البر و الكرم
و حبك للدنيا هو الفقر و العدم
و ليس على عبد تقي غضاضة
إذا صحح التقوى و إن حاك أو حجم
و قال أيضا
تعلقت بآمال
طوال أي آمال
و أقبلت على الدنيا
ملحا أي إقبال
أيا هذا تجهز لفراق
الأهل و المال
فلا بد من الموت
على حال من الحال
و قال أيضا
سكن يبقى له سكن
ما بهذا يؤذن الزمن
نحن في دار يخبرنا
ببلاها ناطق لسن
دار سوء لم يدم فرح
لامرئ فيها و لا حزن
في سبيل الله أنفسنا
كلنا بالموت مرتهن
كل نفس عند موتتها
حظها من مالها الكفن
إن مال المرء ليس له
منه إلا ذكره الحسن
و قال أيضا
ألا إننا كلنا بائد
و أي بني آدم خالد
و بدؤهم كان من ربهم
و كل إلى ربه عائد
فوا عجبا كيف يعصي الإله
أم كيف يجحده الجاحد
و في كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
و قال الرضي الموسوي
يا آمن الأيام بادر صرفها
و اعلم بأن الطالبين حثاث
خذ من ثرائك ما استطعت فإنما
شركاؤك الأيام و الوراث
لم يقض حق المال إلا معشر
نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا
تحثو على عيب الغني يد الغنى
و الفقر عن عيب الفتى بحاث
المال مال المرء ما بلغت به
الشهوات أو دفعت به الأحداث
ما كان منه فاضلا عن قوته
فليعلمن بأنه ميراث
ما لي إلى الدنيا الدنية حاجة
فليجن ساحر كيدها النفاث
طلقتها ألفا لأحسم داءها
و طلاق من عزم الطلاق ثلاث
و ثباتها مرهوبة و عداتها
مكذوبة و حبالها أنكاث
أم المصائب لا تزال تروعنا
منها ذكور حوادث و إناث
إني لأعجب للذين تمسكوا
بحبائل الدنيا و هن رثاث
كنزوا الكنوز و اعقلوا شهواتهم
فالأرض تشبع و البطون غراث
أ تراهم لم يعلموا أن التقى
أزوادنا و ديارنا الأجداث
و قال آخر
هذه الدنيا إذا صرفت
وجهها لم تنفع الحيل
و إذا ما أقبلت لعم
بصرته كيف يفتعل
و إذا ما أدبرت لذكي
غاب عنه السهل و الجبل
فهي كالدولاب دائرة
ترتقي طورا و تستفل
في زمان صار ثعلبة
أسدا و استذاب الحمل
فالذنابى فيه ناصية
و النواصي خشع ذلل
فاصبري يا نفس و احتملي
إن نفس الحر تحتمل
و قال أبو الطيب
نعد المشرفية و العوالي
و تقتلنا المنون بلا قتال
و نرتبط السوابق مقربات
و ما ينجين من خبب الليالي
و من لم يعشق الدنيا قديما
و لكن لا سبيل إلى الوصال
نصيبك في حياتك من حبيب
نصيبك في منامك من خيال
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
و هان فما أبالي بالرزايا
لأني ما انتفعت بأن أبالي
يدفن بعضنا بعضا و يمشي
أواخرنا على هام الأوالي
و كم عين مقبلة النواحي
كحيل في الجنادل و الرمال
و مغض كان لا يغضي لخطب
و بال كان يفكر في الهزال
و قال أبو العتاهية في أرجوزته-
المشهورة في ذم الدنيا و فيها أنواع مختلفة من الحكمة-
ما زالت الدنيا لنا دار أذى
ممزوجة الصفو بألوان القذى
الخير و الشر بها أزواج
لذا نتاج و لذا نتاج
من لك بالمحض و ليس محض
يخبث بعض و يطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان
خير و شر و هما ضدان
و الخير و الشر إذا ما عدا
بينهما بون بعيد جدا
إنك لو تستنشق الشحيحا
وجدته أنتن شيء ريحا
حسبك مما تبتغيه القوت
ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا
من اتقى الله رجا و خافا
هي المقادير فلمني أو فذر
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
لكل ما يؤذي و إن قل ألم
ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله
و خير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضده الصلاح
و رب جد جره المزاح
من جعل النمام عينا هلكا
مبلغك الشر كباغيه لكا
إن الشباب و الفراغ و الجده
مفسدة للمرء أي مفسده
يغنيك عن كل قبيح تركه
قد يوهن الرأي الأصيل شكه
ما عيش من آفته بقاه
نغص عيشا ناعما فناه
يا رب من أسخطنا بجهده
قد سرنا الله بغير حمده
ما تطلع الشمس و لا تغيب
إلا لأمر شأنه عجيب
لكل شيء قدر و جوهر
و أوسط و أصغر و أكبر
و كل شيء لاحق بجوهره
أصغره متصل بأكبره
من لك بالمحض و كل ممتزج
وساوس في الصدر منك تعتلج
عجبت و استغرقني السكوت
حتى كأني حائر مبهوت
إذا قضى الله فكيف أصنع
و الصمت إن ضاق الكلام أوسع
و قال أيضا
كل على الدنيا له حرص
و الحادثات لنا بها قرص
و كان من واروه في جدث
لم يبد منه لناظر شخص
يهوى من الدنيا زيادتها
و زيادة الدنيا هي النقص
ليد المنية في تلطفها
عن ذخر كل نفيسة فحص
و قال أيضا
أبلغ الدهر في مواعظه بل
زاد فيهن لي من الإبلاغ
أي عيش يكون أطيب من عيش
كفاف قوت بقدر البلاغ
غصبتني الأيام أهلي و مالي
و شبابي و صحتي و فراغي
صاحب البغي ليس يسلم منه
و على نفسه بغي كل باغ
رب ذي نعمة تعرض منها
حائل بينه و بين المساغ
و قال ابن المعتز
حمدا لربي و ذما للزمان فما
أقل في هذه الدنيا مسراتي
كفت يدي أملى عن كل مطلب
و أغلقت بابها من دون حاجاتي
و له أيضا
أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا
فذما له لكن للخالق الشكرا
لقد حبب الموت البقاء الذي أرى
فيا حبذا مني لمن سكن القبرا
و سبحان ربي راضيا بقضائه
و كان اتقائي الشر يغري بي الشرا
و له
قل لدنياك قد تمكنت مني
فافعلي ما أردت أن تفعلي بي
و اخرقي كيف شئت خرق جهول
إن عندي لك اصطبار لبيب
و قال أبو العلاء المعري-
و الدهر إبرام و نقض و تفريق
و جمع و نهار و ليل
لو قال لي صاحبه سمه
ما جزت عن ناجية أو بديل
و قال آخر
و الدهر لا يبقى على حالة
لا بد أن يدبر أو يقبلا
و قال أبو الطيب
ما لي و للدنيا طلابي نجومها
و مسعاي منها في شدوق الأراقم
و قال آخر
لعمرك ما الأيام إلا معارة
فما اسطعت من معروفها فتزود
و قال آخر
لعمرك ما الأيام إلا كما ترى
رزية مال أو فراق حبيب
الوزير المهلبي
أ لا موت يباع فأشتريه
فهذا العيش ما لا خير فيه
أ لا رحم المهيمن نفس حر
تصدق بالممات على أخيه
و له
أشكو إلى الله أحداثا من الزمن
يبرينني مثل بري القدح بالسفن
لم يبق بالعيش لي إلا مرارته
إذا تذوقته و الحلو منه فني
لا تحسبن نعما سرتك صحبتها
إلا مفاتيح أبواب من الحزن
عبيد الله بن عبد الله بن طاهر-
ألا أيها الدهر الذي قد مللته
سألتك إلا ما سللت حياتي
فقد و جلال الله حببت جاهدا
إلي على كره الممات مماتي
و له
أ لم تر أن الدهر يهدم ما بنى
و يسلب ما أعطى و يفسد ما أسدى
فمن سره ألا يرى ما يسوءه
فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا
البحتري
كان الليالي أغريت حادثاتها
بحب الذي نأبى و بغض الذي نهوى
و من عرف الأيام لم ير خفضها
نعيما و لم يعدد مضرتها بلوى
أبو بكر الخوارزمي
ما أثقل الدهر على من ركبه
حدثني عنه لسان التجربه
لا تشكر الدهر لخير سببه
فإنه لم يتعمد بالهبه
و إنما أخطأ فيك مذهبه
كالسيل قد يسقي مكانا أخربه
و السم يستشفي به من شربه
و قال آخر
يسعى الفتى في صلاح العيش مجتهدا
و الدهر ما عاش في إفساده ساعى
آخر
يغر الفتى مر الليالي سليمة
و هن به عما قليل عواثر
آخر
إذا ما الدهر جر على أناس
كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
آخر
قل لمن أنكر حالا منكره
و رأى من دهره ما حيره
ليس بالمنكر ما أنكرته
كل من عاش رأى ما لم يره
ابن الرومي
سكن الزمان و تحت سكنته
دفع من الحركات و البطش
كالأفعوان تراه منبطحا
بالأرض ثم يثور للنهش
أبو الطيب
أنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان و إجمال
ذكر الفتى عمره الثاني و حاجته
ما قاته و فضول العيش أشغال
و قال آخر
جار الزمان علينا في تصرفه
و أي حر عليه الدهر لم يجر
عندي من الدهر ما لو أن أيسره
يلقى على الفلك الدوار لم يدر
آخر
هذا الزمان الذي كنا نحاذره
فيما يحدث كعب و ابن مسعود
إن دام هذا و لم تعقب له غير
لم يبك ميت و لم يفرح بمولود
آخر
يا زمانا ألبس
الأحرار ذلا و مهانه
لست عندي بزمان
إنما أنت زمانه
أ جنون ما نراه
منك يبدو أم مجانه
الرضي الموسوي-
تأبى الليالي أن تديما
بؤسا لخلق أو نعيما
و المرء بالإقبال يبلغ
وادعا خطرا جسيما
فإذا انقضى إقباله
رجع الشفيع له خصيما
و هو الزمان إذا نبا
سلب الذي أعطى قديما
كالريح ترجع عاصفا
من بعد ما بدأت نسيما
أبو عثمان الخالدي-
ألفت من حادثات الدهر أكبرها
فما أعادي على أحداثها الصغر
تزيدني قسوة الأيام طيب نثا
كأنني المسك بين الفهر و الحجر
السري الرفاء
تنكد هذا الدهر فيما يرومه
على أنه فيما نحاذره ندب
فسير الذي نرجوه سير مقيد
و سير الذي نخشى غوائله وثب
ابن الرومي
ألا إن في الدنيا عجائب جمة
و أعجبها ألا يشيب وليدها
إذا ذل في الدنيا الأعزاء و اكتست
أذلتها عزا و ساد مسودها
هناك فلا جادت سماء بصوبها
و لا أمرعت أرض و لا اخضر عودها
أرى الناس مخسوفا بهم غير أنهم
على الأرض لم يقلب عليهم صعيدها
و ما الخسف أن يلفى أسافل بلدة
أعاليها بل أن يسود عبيدها
السري الرفاء
لنا من الدهر خصم لا نطالبه
فما على الدهر لو كفت نوائبه
يرتد عنه جريحا من يسالمه
فكيف يسلم منه من يحاربه
و لو أمنت الذي تجنى أراقمه
علي هان الذي تجنى عقاربه
أبو فراس بن حمدان
تصفحت أحوال الزمان و لم يكن
إلى غير شاك للزمان وصول
أ كل خليل هكذا غير منصف
و كل زمان بالكرام بخيل
ابن الرومي
رأيت الدهر يرفع كل وغد
و يخفض كل ذي شيم شريفه
كمثل البحر يغرق فيه حي
و لا ينفك تطفو فيه جيفه
أو الميزان يخفض كل واف
و يرفع كل ذي زنة خفيفه
ابن نباتة
و أصغر عيب في زمانك أنه
به العلم جهل و العفاف فسوق
و كيف يسر الحر فيه بمطلب
و ما فيه شيء بالسرور حقيق
أبو العتاهية-
لتجذبني يد الدنيا بقوتها
إلى المنايا و إن نازعتها رسني
لله دنيا أناس دائبين لها
قد ارتعوا في غياض الغي و الفتن
كسائمات رواع تبتغي سمنا
و حتفها لو درت في ذلك السمن
و له أيضا-
أنساك محياك المماتا
فطلبت في الدنيا الثباتا
و قال يزيد بن مفرغ الحميري-
لا ذعرت السوام في فلق الصبح
مغيرا و لا دعيت يزيدا
يوم أعطى من المخافة ضيما
و المنايا يرصدنني أن أحيدا
و قال آخر-
لا تحسبيني يا أمامة
عاجزا دنسا ثيابه
إني إذا خفت الهوان
مشيع ذلل ركابه
مثله قول عنترة-
ذلل ركابي حيث شئت مشايعي
لبي و أحفزه برأي مبرم
و قال آخر-
أ خشية الموت در دركم
أعطيتم القوم فوق ما سألوا
إنا لعمر الإله نأبى الذي قالوا
و لما تقصف الأسل
نقبل ضيما و نحن نعرفه
ما دام منا بظهرها رجل
و قال آخر-
و رب يوم حبست النفس مكرهة
فيه لأكبت أعداء أحاشيها
آبى و آنف من أشياء آخذها
رث القوى و ضعيف القوم يعطيها
مثله للشداخ-
أبينا فلا نعطي مليكا ظلامة
و لا سوقة إلا الوشيج المقوما
تروم الخلد في دار التفاني
و كم قد رام قبلك ما تروم
لأمر ما تصرمت الليالي
و أمر ما تقلبت النجوم
تنام و لم تنم عنك المنايا
تنبه للمنية يا نئوم
إلى ديان يوم الدين نمضي
و عند الله تجتمع الخصوم
حسبنا الله وحده- و صلواته على خيرته من خلقه سيدنا محمد و آله الطاهرين- تم الجزء الثالث و يليه الجزء الرابع- و أوله في ذكر يوم النحر و صفة الأضحية
الجزء الرابع
تتمة الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم- الحمد لله الواحد العدل الحكيم- و صلى الله على رسوله الكريم
تتمة الخطبة الثانية و الخمسين
وَ مِنْهَا فِي ذِكْرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَ صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ: وَ مِنْ تَمَامِ الْأُضْحِيَّةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا وَ سَلَامَةُ عَيْنِهَا- فَإِذَا سَلِمَتِ الْأُذُنُ وَ الْعَيْنُ سَلِمَتِ الْأُضْحِيَّةُ وَ تَمَّتْ- وَ لَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَكِ قال الرضي رحمه الله- و المنسك هاهنا المذبح الأضحية ما يذبح يوم النحر- و ما يجري مجراه أيام التشريق من النعم- و استشراف أذنها انتصابها و ارتفاعها- أذن شرفاء أي منتصبة- . و العضباء المكسورة القرن- و التي تجر رجلها إلى المنسك كناية عن العرجاء- و يجوز المنسك بفتح السين و كسرها
اختلاف الفقهاء في حكم الأضحية
و اختلف الفقهاء في وجوب الأضحية- فقال أبو حنيفة هي واجبة على المقيمين من أهلالأمصار- و يعتبر في وجوبها النصاب- و به قال مالك و الثوري إلا أن مالكا لم يعتبر الإقامة- . و قال الشافعي الأضحية سنة مؤكدة- و به قال أبو يوسف و محمد و أحمد- . و اختلفوا في العمياء هل تجزئ أم لا- فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ- و كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل يقتضي ذلك- لأنه قال إذا سلمت العين سلمت الأضحية- فيقتضي أنه إذا لم تسلم العين لم تسلم الأضحية- و معنى انتفاء سلامة الأضحية انتفاء أجزائها- . و حكي عن بعض أهل الظاهر أنه قال تجزئ العمياء- .
و قال محمد بن النعمان- المعروف بالمفيد رضي الله تعالى عنه- أحد فقهاء الشيعة في كتابه المعروف بالمقنعة-إن الصادق ع سئل عن الرجل يهدي الهدي أو الأضحية- و هي سمينة فيصيبها مرض- أو تفقأ عينها أو تنكسر- فتبلغ يوم النحر و هي حية أ تجزئ عنه فقال نعم- .
فأما الأذن فقال أحمد لا يجوز التضحية بمقطوعة الأذن- و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي ذلك- و قال سائر الفقهاء تجزئ إلا أنه مكروه- . و أما العضباء- فأكثر الفقهاء على أنها تجزئ إلا أنه مكروه- و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي ذلك- و كذلك الحكم في الجلحاء- و هي التي لم يخلق لها قرن- و القصماء و هي التي انكسر غلاف قرنها- و الشرفاء و هي التي انثقبت أذنها من الكي- و الخرقاء و هي التي شقت أذنها طولا- . و قال مالك إن كانت العضباء يخرج من قرنها دم لم تجزئ- . و قال أحمد و النخعي لا تجوز التضحية بالعضباء- .
فأما العرجاء التي كنى عنها بقوله- تجر رجلها إلى المنسك- فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ- و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي أنها تجزئ- و قد نقل أصحاب الشافعي عنه في أحد قوليه- أن الأضحية إذا كانت مريضة مرضا يسيرا أجزأت- . و قال الماوردي من الشافعية- في كتابه المعروف بالحاوي- إن عجزت عن أن تجر رجلها خلقة أجزأت- و إن كان ذلك عن مرض لم تجزئ
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد)، ج 3 -4