خطبه 125 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

125 و من كلام له ع في الخوارج- لما أنكروا تحكيم الرجال- و يذم فيه أصحابه في التحكيم

إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ- وَ إِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ هَذَا الْقُرْآنُ- إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ- لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ- وَ إِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ- وَ لَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ- إلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ- لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ- عَنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- وَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ- فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ- فَرَدُّهُ إِلَى اللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ- وَ رَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ- فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللَّهِ- فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ- وَ إِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ وَ أَوْلَاهُمْ بِهَا- وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ- لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ أَجَلًا فِي التَّحْكِيمِ- فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ- وَ يَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ- وَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ- أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ- وَ لَا تُؤْخَذَ بِأَكْظَامِهَا- فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِّ- وَ تَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَيِّ- إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ- مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ- وَ إِنْ نَقَصَهُ وَ كَرَثَهُ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ إِنْ جَرَّ إِلَيْهِ وَ زَادَهُ- فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ- وَ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ-اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى- عَنِ الْحَقِّ لَا يُبْصِرُونَهُ- وَ مُوزَعِينَ بِالْجَوْرِ لَا يَعْدِلُونَ عَنْهُ- جُفَاةٍ عَنِ الْكِتَابِ- نُكُبٍ عَنِ الطَّرِيقِ- مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا- وَ لَا زَوَافِرَ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا- لَبِئْسَ حُشَاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ- أُفٍّ لَكُمْ- لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً يَوْماً أُنَادِيكُمْ- وَ يَوْماً أُنَاجِيكُمْ- فَلَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ- وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاءِ دفتا المصحف جانباه اللذان يكنفانه- و كان الناس يعملونهما قديما من خشب- و يعملونهما الآن من جلد- يقول ع لا اعتراض علي في التحكيم- و قول الخوارج حكمت الرجال دعوى غير صحيحة- و إنما حكمت القرآن- و لكن القرآن لا ينطق بنفسه- و لا بد له ممن يترجم عنه- و الترجمان بفتح التاء و ضم الجيم- هو مفسر اللغة بلسان آخر- و يجوز ضم التاء لضمة الجيم- قال الراجز

كالترجمان لقي الأنباطا

ثم قال لما دعينا إلى تحكيم الكتاب- لم نكن القوم الذين قال الله تعالى في حقهم- وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ- إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ بل أجبنا إلى ذلك- و عملنا بقول الله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ- فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ- و قال معنى ذلك أن نحكم بالكتاب و السنة- فإذا عمل الناس بالحق في هذه الواقعة- و اطرحوا الهوى و العصبية- كنا أحق بتدبير الأمة- و بولاية الخلافة من المنازع لنا عليها-فإن قلت إنه ع لم يقل هكذا- و إنما قال إذا حكم بالصدق في كتاب الله- فنحن أولى به- و إذا حكم بالسنة فنحن أحق بها- . قلت إنه رفع نفسه ع- أن يصرح بذكر الخلافة فكني عنها- و قال نحن إذا حكم بالكتاب و السنة أولى بالكتاب و السنة- و يلزم من كونه أولى بالكتاب و السنة من جميع الناس- أن يكون أولى بالخلافة من جميع الناس- فدل على ما كنى عنه بالأمر المستلزم له- .

فإن قلت- إذا كان الرجال الذين يترجمون القرآن و يفسرونه- و قد كلفوا أن يحكموا في واقعة أهل العراق و أهل الشام- بما يدلهم القرآن عليه- يجوز أن يختلفوا في تفسير القرآن و تأويله- فيدعي صاحب أهل العراق- من تفسيره ما يستدل به على مراده- و يدعي وكيل أهل الشام ما يقابل ذلك و يناقضه- بطريق الشبهة التي تمسكوا بها من دم عثمان- و من كون الإجماع لم يحصل على بيعة أمير المؤمنين ع- احتاج الحكمان حينئذ- إلى أن يحكم بينهما حكمان آخران-

و القول فيهما كالقول في الأول إلى ما لا نهاية له- و إنما كان يكون التحكيم قاطعا للشغب- لو كان القرآن ينص بالصريح الذي لا تأويل فيه- إما على أمير المؤمنين ع- و إما على معاوية و لا نص صريح فيه- بل الذي فيه يحتمل التأويل و التجاذب- فما الذي يفيد التحكيم و الحال تعود لا محالة جذعة- قلت لو تأمل الحكمان الكتاب حق التأمل- لوجدا فيه النص الصريح- على صحة خلافة أمير المؤمنين ع- لأن فيه النص الصريح على أن الإجماع حجة- و معاوية لم يكن مخالفا في هذه المقدمة و لا أهل الشام- و إذا كان الإجماع حجة- فقد وقع الإجماع لما توفي رسول الله ص- على أن اختيار خمسة من صلحاء المسلمين لواحد منهم و بيعته- توجب لزوم طاعته و صحة خلافته- و قد بايع أمير المؤمنين عخمسة من صلحاء الصحابة بل خمسون- فوجب أن تصح خلافته- و إذا صحت خلافته نفذت أحكامه- و لم يجب عليه أن يقيد بعثمان- إلا أن حضر أولياؤه عنده- طائعين له مبايعين ملتزمين لأحكامه- ثم بعد ذلك يطلبون القصاص من أقوام بأعيانهم- يدعون عليهم دم المقتول- فقد ثبت أن الكتاب لو تؤمل حق التأمل- لكان الحق مع أهل العراق- و لم يكن لأهل الشام من الشبهة- ما يقدح في استنباطهم المذكور- .

ثم قال ع فأما ضربي للأجل في التحكيم- فإنما فعلته لأن الأناة و التثبت من الأمور المحمودة- أما الجاهل فيعلم فيه ما جهله- و أما العالم فيثبت فيه على ما علمه- فرجوت أن يصلح الله في ذلك الأجل- أمر هذه الأمة المفتونة- . و لا تؤخذ بأكظامها جمع كظم و هو مخرج النفس- يقول كرهت أن أعجل القوم عن التبين و الاهتداء- فيكون إرهاقي لهم و تركي للتنفيس عن خناقهم- و عدولي عن ضرب الأجل بيني- و بينهم أدعى إلى استفسادهم- و أحرى أن يركبوا غيهم و ضلالهم- و لا يقلعوا عن القبيح الصادر عنهم- . ثم قال أفضل الناس من آثر الحق و إن كرثه- أي اشتد عليه و بلغ منه المشقة- . و يجوز أكرثه بالألف على الباطل- و إن انتفع به و أورثه زيادة- . ثم قال فأين يتاه بكم- أي أين تذهبون في التيه يعني في الحيرة- و روي فأنى يتاه بكم- . و من أين أتيتم- أي كيف دخل عليكم الشيطان أو الشبهة- و من أي المداخل دخل اللبس عليكم- .

ثم أمرهم بالاستعداد للمسير إلى حرب أهل الشام- و ذكر أنهم موزعون بالجورأي ملهمون- قال تعالى رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ- أي ألهمني أوزعته بكذا و هو موزع به- و الاسم و المصدر جميعا الوزع بالفتح- و استوزعت إليه تعالى شكره فأوزعني- أي استلهمته فألهمني- . و لا يعدلون عنه لا يتركونه إلى غيره- و روي لا يعدلون به أي لا يعدلون بالجور شيئا آخر- أي لا يرضون إلا بالظلم و الجور- و لا يختارون عليهما غيرهما- .

قوله جفاة عن الكتاب- جمع جاف و هو النابي عن الشي‏ء- أي قد نبوا عن الكتاب لا يلائمهم و لا يناسبونه- تقول جفا السرج عن ظهر الفرس- إذا نبا و ارتفع و أجفيته أنا- و يجوز أن يريد أنهم أعراب جفاة- أي أجلاف لا أفهام لهم- . قوله نكب عن الطريق أي عادلون جمع ناكب- نكب ينكب عن السبيل بضم الكاف نكوبا- . قوله و ما أنتم بوثيقة أي بذي وثيقة- فحذف المضاف و الوثيقة الثقة- يقال قد أخذت في أمر فلان بالوثيقة- أي بالثقة و الثقة مصدر- . و الزوافر العشيرة و الأنصار- و يقال هم زافرتهم عند السلطان- للذين يقومون بأمره عنده- . و قوله يعتصم إليها أي بها- فأناب إلى مناب الباء كقول طرفة-

و إن يلتق الحي الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الرفيع المصمد

و حشاش النار ما تحش به أي توقد- قال الشاعر

أ في أن أحش الحرب فيمن يحشها
ألام و في ألا أقر المخازيا

و روي حشاش بالفتح كالشياع- و هو الحطب الذي يلقى في النار قبل الجزل- و روي حشاش بضم الحاء و تشديد الشين- جمع حاش و هو الموقد للنار- . قوله أف لكم من الألفاظ القرآنية- و فيها لغات أف بالكسر و بالضم و بالفتح- و أف منونا بالثلاث أيضا- و يقال أفا و تفا و هو إتباع له و أفة و تفة- و المعنى استقذار المعني بالتأفيف- . قوله لقد لقيت منكم برحا أي شدة- يقال لقيت منهم برحا بارحا أي شدة و أذى- قال الشاعر

أ جدك هذا عمرك الله كلما
دعاك الهوى برح لعينك بارح‏

و يروى ترحا أي حزنا- . ثم ذكر أنه يناديهم جهارا طورا- و يناجيهم سرا طورا- فلا يجدهم أحرارا عند ندائه- أي لا ينصرون و لا يجيبون- و لا يجدهم ثقاتا و ذوي أمانة عند المناجاة- أي لا يكتمون السر- . و النجاء المناجاة مصدر ناجيته نجاء- مثل ضاربته ضرابا و صارعته صراعا

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 8