خطبه 186 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( هَمَّام)

186 و من خطبة له ع

رُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ- كَانَ رَجُلًا عَابِداً فَقَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ- فَتَثَاقَلَ ع عَنْ جَوَابِهِ- ثُمَّ قَالَ يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَ أَحْسِنْ- فَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ- فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ- فَحَمِدَ اللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ص- ثُمَّ قَالَ ع- أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حَيْثُ خَلَقَهُمْ- غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ- لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ- وَ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ- وَ وَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ- فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ- مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ- غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ- وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ- نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ- كَالَّذِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ- لَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ- لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ- شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ-عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ- فَهُمْ وَ الْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ- وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ- قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ- وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ- صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً- تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ- أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا- وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا- أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ- تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا- يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ- فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً- وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ- وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ- أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ- وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ- فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ- مُفْتَرِشُونَ لِجَبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ- يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ- وَ أَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ- قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ- يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى- وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا- وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ- لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ- وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ- فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ- إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ- أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي- اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ- وَ اجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ

همام المذكور في هذه الخطبة- هو همام بن شريح بن يزيد بن مرة بن عمرو- بن جابر بن يحيى بن الأصهب بن كعب- بن الحارث بن سعد بن عمرو بن ذهل- بن مران بن صيفي بن سعد العشيرة- . و كان همام هذا من شيعة أمير المؤمنين ع و أوليائه- و كان ناسكا عابدا- قال له يا أمير المؤمنين- صف لي المتقين حتى أصير بوصفك إياهم كالناظر إليهم- . فتثاقل عن جوابه أي أبطأ- . فعزم عليه أي أقسم عليه- و تقول لمن يكرر عليك الطلب و السؤال- قد عزم علي أي أصر و قطع- و كذلك تقول في الأمر تريد فعله و تقطع عليه- عزمت عزما و عزمانا و عزيمة و عزيما- . فإن قلت- كيف جاز له ع أن يتثاقل عن جواب المسترشد- .

قلت يجوز أن يكون تثاقل عن جوابه- لأنه علم أن المصلحة في تأخير الجواب- و لعله كان حضر المجلس من لا يحب أن يجيب و هو حاضر- فلما انصرف أجاب- و لعله رأى أن تثاقله عن الجواب- يشد تشوق همام إلى سماعه فيكون أنجع في موعظته- و لعله كان من باب تأخير البيان إلى وقت الحاجة- لا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة- و لعله تثاقل عن الجواب- ليرتب المعاني التي خطرت له في ألفاظ مناسبة لها- ثم ينطق بها كما يفعله المتروي في الخطبة و القريض- . فإن قلت فما معنى إجابته له أولا بقوله- يا همام اتق الله و أحسن- ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ- و أي جواب في هذا عن سؤال همام- .

قلت كأنه لم ير في بادئ الحال- شرح صفات المتقين على التفصيل- فقال لهمام ماهية التقوى معلومة في الجملة- فاتق الله و أحسن- فإن الله قد وعد في كتابه أن يكون وليا- و ناصرا لأهل التقوى و الإحسان- و هذا كما يقول لك قائل- ما صفات الله الذي أعبده أنا و الناس- فتقول له لا عليك ألا تعرف صفاته مفصلة- بعد أن تعلم أنه خالق العالم- و أنه واحد لا شريك له- فلما أبى همام إلا الخوض فيما سأله على وجه التفصيل- قال له إن الله تعالى خلق الخلق حين خلقهم- و يروى حيث خلقهم و هو غني عن طاعتهم- لأنه ليس بجسم فيستضر بأمر أو ينتفع به- .

و قسم بين الخلق معايشهم كما قال سبحانه- نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا- . و في قوله وضعهم مواضعهم- معنى قوله وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ- لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا- فكأنه ع أخذ الألفاظ فألغاها و أتى بمعناها- . فلما فرغ من هذه المقدمة شرع في ذكر صفات المتقين- فقال إنهم أهل الفضائل ثم بين ما هذه الفضائل- فقال منطقهم الصواب- . فإن قلت أي فائدة في تقديم تلك المقدمة- و هي كون البارئ سبحانه غنيا لا تضره المعصية- و لا تنفعه الطاعة- . قلت لأنه لما تضمنت الخطبة مدح الله تعالى للمتقين- و ما أعده لهم من الثواب- و ذمه للعاصين و ما أعده لهم من العقاب العظيم- فربما يتوهم متوهم- أن الله تعالى ما رغب في الطاعةهذا الترغيب البالغ- و خوف من المعصية هذا التخويف البالغ- إلا و هو منتفع بالأولى مستضر بالثانية- فقدم ع تلك المقدمة نفيا لهذا الوهم

فصل في فضل الصمت و الاقتصاد في المنطق

و اعلم أن القول في خطر الكلام و فضل الصمت- و فضل الاقتصار في المنطق وسيع جدا- و قد ذكرنا منه طرفا فيما تقدم- و نذكر الآن منه طرفا آخر- .
قال النبي ص من صمت نجا
وقال أيضا الصمت حكم و قليل فاعله
وقال له ص بعض أصحابه- أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك- فقال قل آمنت بالله ثم استقم- قال فما أتقي فأومأ بيده إلى لسانه
وقال له ع عقبة بن عامر- يا رسول الله ما النجاة قال املك عليك لسانك- و ابك على خطيئتك و ليسعك بيتك
وروى سهل بن سعد الساعدي عنه ص من يتوكل لي بما بين لحييه و رجليه أتوكل له بالجنة
وقال من وقي شر قبقبه و ذبذبه و لقلقه فقد وقي
وروى سعيد بن جبير مرفوعا إذا أصبح ابن آدم- أصبحت الأعضاء كلها تشكواللسان- تقول أي بني آدم اتق الله فينا- فإنك إن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا- .

و قد روي أن عمر رأى أبا بكر و هو يمد لسانه- فقال ما تصنع قال هذا الذي أوردني الموارد-إن رسول الله ص قال ليس شي‏ء في الجسد- إلا يشكو إلى الله تعالى اللسان على حدتهو سمع ابن مسعود يلبي على الصفا و يقول- يا لسان قل خيرا تغنم- أو اصمت تسلم من قبل أن تندم- فقيل له يا أبا عبد الرحمن أ هذا شي‏ء سمعته- أم تقوله من تلقاء نفسك- قال بلسمعت رسول الله ص يقول أكثر خطايا ابن آدم من لسانه
وروى الحسن مرفوعا رحم الله عبدا تكلم فغنم أو سكت فسلم
وقالت التلامذة لعيسى ع- دلنا على عمل ندخل به الجنة- قال لا تنطقوا أبدا قالوا لا نستطيع ذلك- قال فلا تنطقوا إلا بخير
وقال النبي ص إن الله عند لسان كل قائل- فاتقى الله امرؤ علم ما يقول
وكان يقول لا شي‏ء أحق بطول سجن من لسان
وكان يقال لسانك سبع إن أطلقته أكلك- . في حكمة آل داود- حقيق على العاقل أن يكون عارفا بزمانه- حافظا للسانه مقبلا على شانه- . و كان يقال- من علم أن كلامه من عمله أقل كلامه فيما لا ينفعه- . و قال محمد بن واسع حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار و الدرهم- .

اجتمع أربعة حكماء من الروم و الفرس و الهند و الصين- فقال أحدهم أنا أندم على ما قلت و لا أندم على ما لم أقل- و قال الآخر إذا تكلمت بالكلمة ملكتني و لم أملكها- و إذا لم أتكلم ملكتها و لم تملكني- و قال الآخر عجبت للمتكلم- إن رجعت عليه كلمته ضرته و إن لم ترجع لم تنفعه- و قال الرابع أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.

ذكر الآثار الواردة في آفات اللسان

و اعلم أن آفات اللسان كثيرة- فمنها الكلام فيما لا يعنيك- و هو أهون آفات اللسان و مع ذلك فهو عيب-قال النبي ص من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيهوروي أنه ع مر بشهيد يوم أحد- فقال أصحابه هنيئا له الجنة- قال و ما يدريكم لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه
وقال ابن عباس خمس هي أحسن و أنفع من حمر النعم- لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل لا آمن عليه الوزر- و لا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا- فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأساء- و لا تمار حليما و لا سفيها- فإن الحليم يقليك و السفيه يؤذيك- و اذكر أخاك إذا تغيب عنك- بما تحب أن يذكرك به- و أعفه عما تحب أن يعفيك عنه- و اعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان- مأخوذ بالجرائم- . و منها فضول الكلام و كثرته و ترك الاقتصار- و كان يقال فضول المنطق و زيادته نقص في العقل- و هما ضدان متنافيان كلما زاد أحدهما نقص الآخر- .

وقال عبد الله بن مسعود إياكم و فضول الكلام حسب امرئ ما بلغ به حاجتهو كان يقال من كثر كلامه كثر سقطه- . و قال الحسن فضول الكلام كفضول المال كلاهما مهلك- . و منها الخوض في الباطل و الحديث فيما لا يحل- كحديث النساء و مجالس الخمر و مقامات الفساق- و إليه الإشارة بقوله تعالى- وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ- . و منها المراء و الجدال-قال ع دع المراء و إن كنت محقاوقال مالك بن أنس المراء يقسي القلب و يورث الضغائن- .

و قال سفيان الثوري- لو خالفت أخي في رمانة فقال حلوة و قلت حامضة- لسعي بي إلى السلطان- . و كان يقال صاف من شئت ثم أغضبه بالجدال و المراء- فليرمينك بداهية تمنعك العيش- . و قيل لميمون بن مهران- ما لك لا تفارق أخا لك عن قلى- قال لأني لا أشاريه و لا أماريه- . و منها التقعر في الكلام بالتشدد و التكلف في الألفاظ-قال النبي ص‏أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجالس يوم القيامة- الثرثارون المتفيهقون المتشدقونوقال ع هلك المتنطعون… ثلاث مرات- و التنطع هو التعمق و الاستقصاء و قال عمر إن شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان- .

و منها الفحش و السب و البذاء-قال النبي ص إياكم و الفحش- فإن الله لا يحب الفحش و لا يرضى الفحشوقال ع ليس المؤمن بالطعان- و لا باللعان و لا بالسباب و لا البذي‏ءوقال ع لو كان الفحش رجلا لكان رجل سوءو منها المزاح الخارج عن قانون الشريعة- و كان يقال من مزح استخف به- و كان يقال المزاح فحل لا ينتج إلا الشر- . و منها الوعد الكاذب- وقد قال النبي ص العدة دين و قد أثنى الله سبحانه على إسماعيل- فقال إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ- و قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ- .
و منها الكذب في القول و اليمين- و الأمر فيهما مشهور- . و منها الغيبة و قد تقدم القول فيها- .قوله ع و ملبسهم الاقتصاد- أي ليس بالثمين جدا و لا بالحقير جدا- كالخرق التي تؤخذ من على المزابل- و لكنه أمر بين أمرين- و كان ع يلبس الكرابيس و هو الخام الغليظ- و كذلك كان عمر رضي الله عنه- و كان رسول الله ص يلبس اللين تارة و الخشن أخرى- . قوله ع و مشيهم التواضع- تقديره و صفة مشيهم التواضع فحذف المضاف- و هذا مأخوذ من قوله تعالى- وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ- .

رأى محمد بن واسع ابنا له يمشي- و هو يتبختر و يميس في مشيته فصاح به فأقبل- فقال له ويلك لو عرفت نفسك لقصدت في مشيك- أما أمك فأمة ابتعتها بمائة درهم و أما أبوك فلا أكثر الله في الناس من أمثاله- . و الأصل في هذا الباب قوله تعالى- وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً- إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا- . و قوله غضوا أبصارهم- أي خفضوها و غمضوها- و غضضت طرفي عن كذا احتملت مكروهه- . و قوله وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم- أي لم يشغلوا سمعهم بشي‏ء غير العلوم النافعة- أي لم يشتغلوا بسماع شعر و لا غناء- و لا أحاديث أهل الدنيا- .

قوله نزلت أنفسهم منهم في البلاء- كالذي نزلت في الرخاء- يعني أنهم قد طابوا نفسا في البلاء و الشدة- كطيب أنفسهم بأحوالهم في الرخاء و النعمة- و ذلك لقلة مبالاتهم بشدائد الدنيا و مصائبها- و تقدير الكلام من جهة الإعراب- نزلت أنفسهم منهم في حال البلاء نزولا- كالنزول الذي نزلته منهم في حال الرخاء- فموضع كالذي نصب لأنه صفة مصدر محذوف- و الموصول قد حذف العائد إليه و هو الهاء في نزلته- كقولك ضربت الذي ضربت أي ضربت الذي ضربته- .

ثم قال ع إنهم من شدة شوقهم إلى الجنة- و من شدة خوفهم من النار- تكاد أرواحهم أن تفارق أجسادهم- لو لا أن الله تعالى ضرب لهم آجالا ينتهون إليها- . ثم ذكر أن الخالق لما عظم في أعينهم- استصغروا كل شي‏ء دونه- و صاروا لشدة يقينهم و مكاشفتهم- كمن رأى الجنة فهو يتنعم فيها- و كمن رأى النار و هو يعذب فيها- و لا ريب أن من يشاهد هاتين الحالتين- يكون على قدم عظيمة من العبادة و الخوف و الرجاء- و هذا مقام جليل- و مثلهقوله ع في حق نفسه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا- و الواو في و الجنة واو مع- و قد روي بالعطف بالرفع على أنه معطوف على هم- و الأول أحسن- .

ثم وصفهم بحزن القلوب و نحافة الأجسام- و عفة الأنفس و خفة الحوائج- و أن شرورهم مأمونة على الناس- و أنهم صبروا صبرا يسيرا أعقبهم نعيما طويلا- . ثم ابتدأهم فقال تجارة مربحة أي تجارتهم تجارة مربحة- فحذف المبتدأ- و روي تجارة مربحة بالنصب على أنه مصدر محذوف الفعل- . قوله أما الليل بالنصب على الظرفية- و روي أما الليل على الابتداء- . قوله تالين منصوب على أنه حال- إما من الضمير المرفوع بالفاعلية في صافون- أو من الضمير المجرور بالإضافة في أقدامهم- .

و الترتيل التبيين و الإيضاح- و هو ضد الإسراع و العجل- و يروى يرتلونه على أن الضمير يعود إلى القرآن- و الرواية الأولى يعود الضمير فيها إلى أجزاء القرآن- . قوله يحزنون به أنفسهم- أي يستجلبون لها الحزن به- و يستثيرون به دواء دائهم- إشارة إلى البكاء- فإنه دواء داء الحزين قال الشاعر-

فقلت لها إن البكاء لراحة
به يشتفي من ظن أن لا تلاقيا

 و قال آخر-

شجاك من ليلتك الطول
فالدمع من عينيك مسدول‏

و هو إذا أنت تأملته‏
حزن على الخدين محلول‏

 ثم ذكر أنهم إذا مروا بآية فيها ذكر الثواب مالوا إليها- و اطمأنوا بها طمعا في نيله- و تطلعت أنفسهم إليها شوقا أي اشرأبت- . و نصب أعينهم منصوب على الظرفية- و روي بالرفع على أنه خبر أن- و الظن هاهنا يمكن أن يكون على حقيقته- و يمكن أن يكون بمعنى العلم- كقوله تعالى أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ- و أصغى إلى الكلام مال إليه بسمعه- و زفير النار صوتها- . و قد جاء في فضل قراءة القرآن شي‏ء كثير-
روي عن النبي ص أنه قال من قرأ القرآن- ثم رأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي- فقد استصغر ما عظمه الله
وقال ص لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار
وقال أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن

وقال أهل القرآن أهل الله و خاصته
وقال إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد- قيل فما جلاؤها قال تلاوة القرآن و ذكر الموت
وقال ع إن الله سبحانه لأشد أذنا- إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته
وقال الحسن رحمه الله ما دون القرآن من غنى و لا بعد القرآن من فاقة- .

ثم ذكر ع صورة صلاتهم و ركوعهم- فقال حانون على أوساطهم- حنيت العود عطفته- يصف هيئة ركوعهم و انحنائهم في الصلاة- . مفترشون لجباههم باسطون لها على الأرض- . ثم ذكر الأعضاء السبعة- التي مباشرتها بالأرض فروض في الصلاة- و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و القدمان- . قوله ع يطلبون إلى الله أي يسألونه- يقال طلبت إليك في كذا أي سألتك- و الكلام على الحقيقة- مقدر فيه حال محذوفة يتعلق بها حرف الجر- أي يطلبون سائلين إلى الله في فكاك رقابهم- لأن طلب لا يتعدى بحرف الجر- .

ثم لما فرغ من ذكر الليل قال- و أما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء- هذه الصفات هي التي يطلع عليها الناظرون لهم نهارا- و تلك الصفات المتقدمة من وظائف الليل- . ثم ذكر ما هم عليه من الخوف- فقال ع إن خوفهم قد براهم بري‏القداح و هي السهام- واحدها قدح- فينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى و ما بهم من مرض- نظير هذا قول الشاعر-

و مخرق عنه القميص تخاله
بين البيوت من الحياء سقيما

حتى إذا رفع اللواء رأيته‏
تحت اللواء على الخميس زعيما

و يقال للمتقين لشدة خوفهم- كأنهم مرضى و لا مرض بهم- و تقول العرب للكرام من الناس القليلي المأكل و المشرب- رافضي اللباس الرفيع ذوي الأجسام النحيفة- مراض من غير مرض- و يقولون أيضا للمرأة ذات الطرف الغضيض الفاتر- ذات الكسل مريضة من غير مرض قال الشاعر-

ضعيفة كر الطرف تحسب أنها
حديثة عهد بالإفاقة من سقم‏

ذكر الخوف و ما ورد فيه من الآثار

و اعلم أن الخوف مقام جليل من مقامات العارفين- و هو أحد الأركان التي هي أصول هذا الفن- و هو التقوى التي حث الله تعالى عليها- و قال إن أكرم الناس عنده أشدهم خوفا له- و في هذه الآية وحدها كفاية- و إذا نظرت القرآن العزيز- وجدت أكثره ذكر المتقين و هم الخائفون-

وقال النبي ص من خاف الله خافه كل شي‏ء- و من خاف غير الله خوفه الله من كل شي‏ء
وقال ع أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا- و أحسنكم فيما أمر به و نهى عنه نظرا
و قال يحيى بن معاذ مسكين ابن آدم- لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة- .

و قال ذو النون المصري- ينبغي أن يكون الخوف أغلب من الرجاء- فإن الرجاء إذا غلب تشوش القلب- . و قيل لبعض الصالحين- من آمن الخلق غدا قال أشدهم خوفا اليوم- . و قيل للحسن يا أبا سعيد- كيف نصنع بمجالسة أقوام من أصحابك- يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير- فقال إنك و الله لأن تصحب قوما يخوفونك- حتى تدرك الأمن- خير لك من أن تصحب قوما يؤمنونك- حتى يدركك الخوف- .

و قيل للنبي ص في قوله تعالى- وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ- هم الذين يعصون و يخافون المعصية- قال لا بل الرجل يصوم و يتصدق- و يخاف ألا يقبل منه-وقال ص ما من قطرة أحب إلى الله تعالى- من قطرة دمع من خشية الله- أو قطرة دم أريقت في سبيل الله
وقال ع سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله- و ذكر منهم رجلا ذكر الله في خلوة ففاضت عيناه- .

قوله ع و يقول قد خولطوا أي أصابتهم جنة- . ثم قال و لقد خالطهم أمر عظيم- أي مازجهم خوف عظيم تولهوا لأجله فصاروا كالمجانين- . ثم ذكر أنهم لا يستكثرون في كثير من أعمالهم- و لا يرضيهم اجتهادهم و أنهم يتهمون أنفسهم- و ينسبونها إلى التقصير في العبادة- و إلى هذا نظر المتنبي فقال-

يستصغر الخطر الكبير لنفسه
و يظن دجلة ليس تكفي شاربا

قال و من أعمالهم مشفقون- أي مشفقون من عباداتهم ألا تقبل- و إلى هذا نظر أبو تمام فقال-

يتجنب الآثام ثم يخافها
فكأنما حسناته آثام‏

و مثل قوله أنا أعلم بنفسي من غيري- قوله ع لمن زكاه نفاقا- أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك- . و قوله اللهم لا تؤاخذني بما يقولون- إلى آخر الكلام مفرد مستقل بنفسه منقول عنه ع- أنه قال لقوم مر عليهم و هم مختلفون في أمره- فمنهم الحامد له و منهم الذام فقال اللهم لا تؤاخذني- الكلمات إلى آخرها-

و معناه اللهم‏إن كان ما ينسبه الذامون إلي- من الأفعال الموجبة الذم حقا- فلا تؤاخذني بذلك- و اغفر لي ما لا يعلمونه من أفعالي- و إن كان ما يقوله الحامدون حقا- فاجعلني أفضل مما يظنونه في: فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ- وَ حَزْماً فِي لِينٍ وَ إِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَ حِرْصاً فِي عِلْمٍ- وَ عِلْماً فِي حِلْمٍ وَ قَصْداً فِي غِنًى وَ خُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ- وَ تَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَ صَبْراً فِي شِدَّةٍ وَ طَلَباً فِي حَلَالٍ- وَ نَشَاطاً فِي هُدًى وَ تَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ- يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَ هُوَ عَلَى وَجَلٍ- يُمْسِي وَ هَمُّهُ الشُّكْرُ وَ يُصْبِحُ وَ هَمُّهُ الذِّكْرُ- يَبِيتُ حَذِراً وَ يُصْبِحُ فَرِحاً- حَذِراً لَمَّا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ- وَ فَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَ الرَّحْمَةِ- إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ- لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ- قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَ زَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى- يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ- تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ- قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ- حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ- الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَ الشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ- إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ- وَ إِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ-يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَ يُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ- وَ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ- لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ- مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ- فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَ فِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ- وَ فِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ- وَ لَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ- يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ- لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَ لَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ- وَ لَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَ لَا يُضَارُّ بِالْجَارِ- وَ لَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ- وَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ- إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَ إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ- وَ إِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ- نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ- أَتْعَبَ نَفْسَهُ لآِخِرَتِهِ وَ أَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ- بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَ نَزَاهَةٌ- وَ دُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَ رَحْمَةٌ- لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَ عَظَمَةٍ وَ لَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَ خَدِيعَةٍ- قَالَ فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا- فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ- ثُمَّ قَالَ هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا- فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- فَقَالَ ع وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ- وَ سَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا- فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ

هذه الألفاظ التي أولها قوة في دين- بعضها يتعلق حرف الجر فيه بالظاهر- فيكون موضعه نصبا بالمفعولية و بعضها يتعلق بمحذوف- فيكون موضعه نصبا أيضا على الصفة و نحن نفصلها- . فقوله قوة في دين حرف الجر هاهنا متعلق بالظاهر- و هو قوة تقول فلان قوي في كذا و على كذا- كما تقول مررت بكذا و بلغت إلى كذا- . و و حزما في لين هاهنا لا يتعلق حرف الجر بالظاهر- لأنه لا معنى له- أ لا ترى أنك لا تقول فلان حازم في اللين- لأن اللين ليس أمرا يحزم الإنسان فيه- و ليس كما تقول فلان حازم في رأيه أو في تدبيره- فوجب أن يكون حرف الجر متعلقا بمحذوف- تقديره و حزما كائنا في لين- . و كذلك قوله و إيمانا في يقين- حرف الجر متعلق بمحذوف أي كائنا في يقين أي مع يقين- . فإن قلت الإيمان هو اليقين فكيف قال و إيمانا في يقين- قلت الإيمان هو الاعتقاد مضافا إلى العمل- و اليقين هو سكون القلب فقط فأحدهما غير الآخر- .

قوله و حرصا في علم حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر- و في بمعنى على- كقوله تعالى لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ- . قوله و قصدا في غنى حرف الجر متعلق بمحذوف- أي هو مقتصد مع كونه غنيا- و ليس يجوز أن يكون متعلقا بالظاهر- لأنه لا معنى لقولك اقتصد في الغنى- إنما يقال اقتصد في النفقة- و ذلك الاقتصاد موصوف بأنه مقارن للغنى و مجامع له- .

قوله و خشوعا في عبادة- حرف الجر هاهنا يحتمل الأمرين معا- . قوله و تجملا في فاقة- حرف الجر هاهنا متعلق بمحذوف- و لا يصح تعلقه بالظاهر- لأنه إنما يقال فلان يتجمل في لباسه و مروءته- مع كونه ذا فاقة- و لا يقال يتجمل في الفاقة- على أن يكون التجمل متعديا إلى الفاقة- . قوله و صبرا في شدة حرف الجر هاهنا يحتمل الأمرين- . قوله و طلبا في حلال حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر- و في بمعنى اللام- . قوله و نشاطا في هدى حرف الجر هاهنا يحتمل الأمرين- .

قوله و تحرجا عن طمع- حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر لا غير- . قوله يعمل الأعمال الصالحة و هو على وجل- قد تقدم مثله- . قوله يمسي و همه الشكر- هذه درجة عظيمة من درجات العارفين- و قد أثنى الله تعالى على الشكر و الشاكرين- في كتابه في مواضع كثيرة- نحو قوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ- فقرن الشكر بالذكر- . و قال تعالى- ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ- . و قال تعالى وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ- . و لعلو مرتبة الشكر طعن إبليس في بني آدم- فقال وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ- و قد صدقه الله تعالى في هذا القول فقال- وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ- .

و قال بعض أصحاب المعاني- قد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر و لم يستثن- فقال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ- . و استثنى في خمسة أمور- و هي الإغناء و الإجابة و الرزق و المغفرة و التوبة- . فقال فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ- . و قال بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ- . و قال يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ- . و قال وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ- .

و قال وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ- . و قال بعضهم كيف لا يكون الشكر مقاما جليلا- و هو خلق من أخلاق الربوبية- قال تعالى في صفة نفسه وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ- . و قد جعل الله تعالى مفتاح كلام أهل الجنة- فقال وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ- و جعله خاتمة كلامهم أيضا فقال- وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- .و قيل للنبي ص- قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر- فلم تقوم الليل و تتعب نفسك قال أ فلا أكون عبدا شكورا- .

قوله ع و يصبح و همه الذكر- هذه أيضا درجة كبيرة عظيمة من درجات العارفين- قال تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ- قال بعض العارفين لأصحابه- أنا أعلم متى يذكرني ربي ففزعوا منه- فقال إذا ذكرته ذكرني و تلا الآية فسكتوا- . و قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً- . و قال فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ- . و قال فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً- . و قال فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ- فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِكُمْ- . و قال الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِهِمْ- . و قال في ذم المنافقين- وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا- . و قال وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً- . و قال وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ- . 

وقال النبي ص ذاكر الله في الغافلين- كالشجرة الخضراء في وسط الهشيم
وقال ص من أحب أن يرتع في رياض الجنة- فليكثر من ذكر الله

وسئل ع أي الأعمال أفضل- قال أن تموت و لسانك رطب بذكر الله
وقال ص حكاية عن الله تعالى إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي- و إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه- و إذا تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا- و إذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا- و إذا مشى إلي هرولت إليه
وقال ص ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله تعالى- إلا حفت بهم الملائكة و غشيتهم الرحمة- و ذكرهم الله فيمن عنده– .

قوله ع يبيت حذرا و يصبح فرحا- حذرا لما حذر من الغفلة- و فرحا بما أصاب من الفضل و الرحمة- . و قد تقدم ذكر الخوف- . و قد عرض ع هاهنا بالرجاء المقابل للخوف- فإن فرح العارف بما أصاب من الفضل و الرحمة- يمكن أن يحمل على أنه فرح- بمجرد ما أصاب من فضل الله و رحمته- . و يمكن أن يحمل على أنه فرح- بما يرجوه من ثواب الله و نعيمه- لذا استدل على وصوله إليه و قوي ظنه بظفره به- بما عجل الله تعالى له من الفضل و الرحمة في الدنيا- و مقام الرجاء للعارفين مقام شريف- و هو في مقابلة مقام الخوف- و هو المقام الذي يوجد العارف فيه فرحا- قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ- وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً- يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ-.

 وقال النبي ص حكاية عن الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاءدخل ص على رجل من أصحابه و هو يجود بنفسه- فقال كيف تجدك- قال أجدني أخاف ذنوبي و أرجو رحمة ربي- فقال ص ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن- إلا أعطاه الله ما رجاه و أمنه مما خافه- . قوله ع إن استصعبت عليه نفسه- أي صارت صعبة غير منقادة- يقول إذا لم تطاوعه نفسه إلى ما هي كارهة له- لم يعطها مرادها فيما تحبه- .

قوله ع قرة عينه فيما لا يزول و زهادته فيما لا يبقى- يقال للفرح المسرور إنه لقرير العين- و قرت عينه تقر و المراد بردها- لأن دمعة السرور باردة و دمعة الحزن حارة- . و هذا الكلام يحتمل أمرين- أحدهما أن يعني بما لا يزول البارئ سبحانه- و هذا مقام شريف جدا أعظم من سائر المقامات- و هو حب العارف لله سبحانه و قد أنكره قوم- فقالوا لا معنى لمحبة البارئ إلا المواظبة على طاعته- و نحوه قول أصحابنا المتكلمين- إن محبة الله تعالى للعبد هي إرادته لثوابه- و محبة العبد للبارئ هي إرادته لطاعته- فليست المحبة عندهم شيئا زائدا على الإرادة- و لا يجوز أن تتعلق بذات الله سبحانه- لأن الإرادة لا تتعلق إلا بالحدوث- و خالفهم شيخنا أبو الحسن- فقال إن الإرادة يمكن أن تتعلق بالباقي- ذكر ذلك في الكلام في الأكوان في أول التصفح- فأما إثبات الحب في الجملة فقد نطق به القرآن-

قال سبحانه يُحِبُّهُمْ‏وَ يُحِبُّونَهُ- و قال أيضا وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ- و قال إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وفي الحديث أن النبي ص نظر إلى مصعب بن عمير مقبلا- و عليه إهاب كبش قد تمنطق به- فقال انظروا إلى الرجل الذي قد نور الله قلبه- لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام و الشراب- فدعاه حب الله و رسوله إلى ما ترونويقال إن عيسى ع مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم- و تغيرت ألوانهم- فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا الخوف من النار- قال حق على الله أن يؤمن من يخافه- ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين- فإذا هم أشد نحولا و تغيرا فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى- قالوا الشوق إلى الجنة فقال حق على الله أن يعطي من رجاه- ثم مر إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا- و على وجوههم مثل المرائي من النور- فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا حب الله عز و جل- فقال أنتم المقربون ثلاثا- . و قال بعض العارفين-

أحبك حبين حب الهوى
و حبا لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى‏
فشغلي بذكرك عمن سواكا

و أما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا

فلا الحمد من ذا و لا ذاك لي‏
و لكن لك الحمد في ذا و ذاكا

ليس يريد بكشف الحجب و الرؤية- ما يظنه الظاهريون من أنها الإبصار بالعين- بل المعرفة التامة- و ذلك لأن المعارف النظرية- يصح أن تصير ضرورية عند جمهور أصحابنا- فهذا أحد محملي الكلام- . و ثانيهما أن يريد بما لا يزول نعيم الجنة- و هذا أدون المقامين- لأن الخلص من العارفين يحبونه و يعشقونه سبحانه لذاته- لا خوفا من النار و لا شوقا إلى الجنة- و قد قال بعضهم- لست أرضى لنفسي أن أكون كأجير السوء- إن دفعت إليه الأجرة رضي و فرح- و إن منعها سخط و حزن إنما أحبه لذاته- . و قال بعض شعرائهم شعرا من جملته-

فهجره أعظم من ناره
و وصله أطيب من جنته‏

و قد جاء في كلام أمير المؤمنين ع من هذا الكثير- نحوقوله لم أعبده خوفا و لا طمعا- لكني وجدته أهلا للعبادة فعبدته- . قوله ع يمزج الحلم بالعلم- أي لا يحلم إلا عن علم بفضل الحلم ليس كما يحلم الجاهلون- . قوله و القول بالعمل أي لا يقتصر على القول- و مثل هذا قول الأحوص-

و أراك تفعل ما تقول و بعضهم
مذق اللسان يقول ما لا يفعل‏

 قوله ع تراه قريبا أمله- أي ليست نفسه متعلقة بما عظم من آمال الدنيا- و إنما قصارى أمره أن يؤمل القوت و الملبس- قليلا زلله أي خطؤه- . قوله منزورا أكله أي قليلا- و يحمد من الإنسان الأكل النزر- قال أعشى باهلة-

تكفيه حزة فلذ إن ألم بها
من الشواء و يكفي شربه الغمر

 و قال متمم بن نويرة

لقد كفن المنهال تحت ردائه
فتى غير مبطان العشيات أروعا

 قوله ع مكظوما غيظه- كظم الغيظ من الأخلاق الشريفة-قال زيد بن علي ع ما سرني بجرعة غيظ أتجرعها- و أصبر عليها حمر النعم
– . و جاء رجل إلى الربيع بن زياد الحارثي- فقال يا أبا عبد الرحمن إن فلانا يغتابك و ينال منك- فقال و الله لأغيظن من أمره بذلك- قال الرجل و من أمره قال الشيطان عدو الله- استغواه ليؤثمه و أراد أن يغضبني عليه فأكافئه- و الله لا أعطيه ما أحب من ذلك غفر الله لنا و له- . و جهل إنسان على عمر بن عبد العزيز- فقال أظنك أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان- فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا- انصرف عافاك الله- . وقال النبي ص الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسلوقال إنسان لرسول الله ص أوصني- فقال لا تغضب فأعاد عليه السؤال فقال لا تغضب- فقال زدني فقال لا أجد مزيدا- .

و من كلام بعض الحكماء لا يفي عز الغضب بذلة الاعتذار- .قوله إن كان في الغافلين- معناه أنه لا يزال ذاكر الله تعالى- سواء كان جالسا مع الغافلين أو مع الذاكرين- أما إذا كان مع الغافلين فإنه يذكر الله بقلبه- و أما إذا كان مع الذاكرين فإنه يذكر بقلبه و لسانه- . قوله ع- يعفو عمن ظلمه و يعطي من حرمه و يصل من قطعه- منكلام المسيح ع في الإنجيل أحبوا أعداءكم و صلوا قاطعيكم- و اعفوا عن ظالميكم و باركوا على لاعنيكم- لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء- الذي تشرق شمسه على الصالحين و الفجرة- و ينزل مطره على المطيعين و الأثمة- .

قوله ع بعيدا فحشه- ليس يعني به أنه قد يفحش تارة- و يترك الفحش تارات بل لا فحش له أصلا- فكنى عن العدم بالبعد لأنه قريب منه- . قوله لينا قوله العارف بسام طلق الوجه لين القول- و في صفات النبي ص ليس بفظ و لا صخاب- . قوله في الزلازل وقور- أي لا تحركه الخطوب الطارقة- و يقال إن علي بن الحسين ع كان يصلي- فوقعت عليه حية فلم يتحرك لها- ثم انسابت بين قدميه فما حرك إحداهما عن مكانه- و لا تغير لونه- .

قوله لا يحيف على من يبغض- هذا من الأخلاق الشريفة النبوية- و في كلام أبي بكر في صفات من يصلح للإمامة- إن رضي لم يدخله رضاه في باطل- و إن غضب لم يخرجه غضبه عن الحق- . قوله يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه- لأنه إن أنكر ثم شهد عليه فقد ثبت كذبه- و إن سكت ثم شهد عليه فقد أقام نفسه في مقام الريبة- .

قوله و لا ينابز بالألقاب- هذا من قوله تعالى وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ- . قوله و لا يضار بالجار-في الحديث المرفوع أوصاني ربي بالجار حتى ظننت أن يورثهقوله و لا يشمت بالمصائب- نظير قول الشاعر-

فلست تراه شامتا بمصيبة
و لا جزعا من طارق الحدثان‏

قوله إن صمت لم يغمه صمته- أي لا يحزن لفوات الكلام- لأنه يرى الصمت مغنما لا مغرما- . قوله و إن ضحك لم يعل صوته- هكذا كان ضحك رسول الله ص أكثره التبسم- و قد يفر أحيانا- و لم يكن من أهل القهقهة و الكركرة- . قوله و إن بغي عليه صبر- هذا من قول الله تعالى ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ- . قوله نفسه منه في عناء لأنه يتعبها بالعبادة- و الناس لا يلقون منه عنتا و لا أذى- فحالهم بالنسبة إليه خلاف حال نفسه بالنسبة إليه- . قوله فصعق همام أغمي عليه و مات- قال الله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ‏

ذكر بعض أحوال العارفين

و اعلم أن الوجد أمر شريف- قد اختلف الناس فيه فقالت الحكماء فيه أقوالا- و قالت الصوفية فيه أقوالا- أما الحكماء فقالوا الوجد هو حالة تحدث للنفس- عند انقطاع علائقها عن المحسوسات بغتة- إذا كان قد ورد عليها وارد مشوق- و قال بعضهم الوجد هو اتصال النفس بمبادئها المجردة- عند سماع ما يقتضي ذلك الاتصال- . و أما الصوفية فقد قال بعضهم- الوجد رفع الحجاب و مشاهدة المحبوب- و حضور الفهم و ملاحظة الغيب و محادثة السر- و هو فناؤك من حيث أنت أنت- و قال بعضهم الوجد سر الله عند العارفين- و مكاشفة من الحق توجب الفناء عن الحق- . و الأقوال فيه متقاربة في المعنى و إن اختلفت العبارة- و قد مات كثير من الناس بالوجد عند سماع وعظ- أو صفقة مطرب- و الأخبار في هذا الباب كثيرة جدا- و قد رأينا نحن في زماننا من مات بذلك فجأة- .

قوله كانت نفسه فيها أي مات- و نفث الشيطان على لسانك أي تكلم بلسانك- و أصله النفخ بالفم و هو أقل من التفل- و إنما نهى أمير المؤمنين القائل- فهلا أنت يا أمير المؤمنين- لأنه اعترض في غير موضع الاعتراض- و ذلك أنه لا يلزم من موت العامي عند وعظ العارف- أن يموت العارف عند وعظ نفسه- لأن انفعال العامي ذي الاستعداد التام للموت- عند سماع المواعظ البالغة- أتم من استعداد العارف عند سماع كلام‏نفسه- أو الفكر في كلام نفسه- لأن نفس العارف قوية جدا- و الآلة التي يحفر بها الطين قد لا يحفر بها الحجر- .

فإن قلت فإن جواب أمير المؤمنين ع للسائل غير هذا الجواب- قلت صدقت إنما أجابه من حيث يعلم هو و السامعون- و تصل أفهامهم إليه فخرج معه إلى حديث الآجال- و أنها أوقات مقدرة لا تتعداها- و ما كان يمكنه ع أن يذكر الفرق بين نفسه و نفوسهم- و لا كانت الحال تقتضيه فأجابه بجواب مسكت- و هو مع إسكاته الخصم حق- و عدل عن جواب يحصل منه اضطراب- و يقع فيه تشويش و هذا نهاية السداد و صحة القول

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 10

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.